المحرر موضوع: السارد السياسي السيرة الذاتية نموذجاُ ... قراءة في مذكرات (وردا البيلاتي)  (زيارة 1385 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل يوخنا مرزا الخامس

  • عضو جديد
  • *
  • مشاركة: 1
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
السارد السياسي
السيرة الذاتية نموذجاُ ... قراءة في مذكرات (وردا البيلاتي)
د. يوخنا مرزا الخامس
للأدباء الأشوريين في العصر القديم والحديث دور بارز في الحياة الأدبية وقد لعبت أعمالهم الأدبية من (الشعر) و(قصة) , (رواية) و(مسرح) اهم  الأدوار في الحياة الإنسانية بعامة، ولم يقتصر إبداعهم على الفنون الأدبية ، بل تخطى ذلك إلى  الفنون الجميلة الأخرى مثل ( الموسيقى والغناء)، و ( الرسم والتشكيل) و ( النحت) وغيرها، وإن ضرب الأمثلة على ذلك يطول، وربما نغبن الكثير منهم. ولكن يمكن ان نذكر منهم (مار افرام) و(برديصان) و (مار شمعون برصباعي) و (خنا يشوع) و(مارجبرائيل قمصا) و(يوخنا الموصلي) و (الاب انستاس الكرملي) و والأخوين (كيوركيس وميخائيل عواد) و(نجيب المانع) و(وليلى القصراني) و(سنان أنطوان)، ودنيا ميخائيل) وغيرهم.
وما يؤسف لهُ أنً العدد الكبير  من أبناء شعبنا لا يعرف الأدباء الذين ينتمون إلى المكون المسيحي، ولا سيما في مدينة كركوك، فقد انتجت كركوك اعلاماً افذاذاً في الادب واللغة والسياسة والطب والهندسة، أما موضوعنا في الشعر والنثر( الابداع الأدبي) فكان لأدباء ومثقفي هذه المحافظة حصة الأسد، فضلاً عن ذلك فإنهم كانوا من الرواد في الساحة الأدبية، ولا سيما ريادتهم في (قصيدة والنثر)، ونذكر من أولئك الأدباء (سركون بولص) و( جان دمو)، و(الآب يوسف متي ) و ( وردا البيلاتي) و ( خاجيك كره بيت) و ( موشي بولص  موشي)،  هذه الكوكبة كان لها بصمة مهمة وعلامة بارزة في الأدب العربي ، فقامت على نتاجاتهم الدارسات والبحوث والرسائل الجامعية والاطاريح العلمية.
ومهما يكن من شيء فإننا لا نستطيع أن نوفي حقهم سواء بإحصائهم أم بذكرنا لنتاجهم، وسنقتصر هنا في هذه الدراسة جزئية واحدة منها هو أدب السير الذاتية لديهم، ولاسيما السيرة الذاتية التي كتبها بأخرة (وردا البيلاتي) وسماها (محطات في حياتي).  لكن قبل كل ذلك علينا أن نعرف ما هي (السيرة الذاتية) كفنّ من فنون الأدب وجنس من أجناسه المهمة، فنقول إنّ الأكاديمية البريطانية عرّفت (السيرة الذاتية) فقالت: ((عبارة عن ملخص لمراحل حياتية مرّ بها الشخص اكاديمياً ومهنياً)) وثمة تعريف أخر يوضح أن السيرة الذاتية: ((هي ما يكتبه الفرد عن نفسه عندما يشعر انّ في حياته ما يستحق التسجيل والنشر لأهميتها)) [التعريفان من الأنترنيت]

ولكن ثمة سؤال يجول في خاطرنا هو ما السبب في أن يبوح الإنسان بأسراره الخاصة والعامة إلى الأخر وما هي فائدتها، ويمكن لنا أن نقول إن السبب في ذلك هو:
 يحاول كاتب السيرة الذاتية الكشف عن اسراره الخاصة، وأهم محطات حياته، لتكون درساً من دروس الحياة والتاريخ.
 إن السيرة الذاتية هي عبارة عن تراكم ثقافي إنساني، وعمل أدبي وقصصي مهم وضٍعً ليعًرف الآخرين بالسيرة الذاتية للكتّاب، والتي هي مسكوت عنها وسّر من أسرار أي شخص وبذا تتوسع الثقافة مِن خلال هذا التراكم الثقافي المهم.
تقدم السّيرة الذاتية تجربة إنسانية مهمة، فمن خلالها نتعّرف على الأماكن الجغرافية، واسرار سياسية مهمة يمكن أنّ تلعب دوراً مهماً في حياة الشعوب الآن وفي المستقبل.
تقدًم السيرة الذاتية أيضاً متعة ذاتية، فالإنسانية بطبيعته يحب معرفة أسرار الآخر سواء كان يعيش بمعيته وفي بلده أم شخصية عامة لها دور في الحياة الإنسانية من النواحي العلمية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها.
والحق أنً (السيرة الذاتية) نمت وترعرعت في أحضان التاريخ، فكانت تسجيلاً للأعمال والأحداث والحروب المتصلة بحياة الملوك والرسل والشعوب [فن السيرة د. إحسان عباس، ص9]. ويؤكد الفيلسوف الألماني (إشبنجار) على مٌضي ستين سنة على وفاة أحد العلماء من دون كتابة سيرته فإنه سيؤدي إلى عدم الاستطاعة من التميز بين كونه شخصية تاريخية حقيقية أم أسطورية [فن السيرة، إحسان عباس، ص7]
والسيرة الذاتية مٌرت بمراحل فبدأت بتدوين سير ذاتية للقديسين لتكون طريقاً ومنهاجاً أخلاقيا للناس، فكتبت الكنيسة السيرة الذاتية لمار بطرس ومار بولس وسائر تلميذ السيد المسيح والقديسين الأخرين، وايضاً السيرة الذاتية لمريم العذراء ام السيد المسيح.
والأهم من هذا في الإرث الديني(الانجيل) فهو عبارة عن سيرة ذاتية للسيد المسيح من يوم ولادته وحتى صلبه (له المجد)، والذي يعدّ هذا الكتاب منهاجاً عظيماً في العقيدة المسيحية.
ثُمّ بعد ذلك تطوّ هذا الفن وظهر على شكل اعترافات شخصية، وتحولات في أفكار سواء من الإلحاد إلى الإيمان أم بالعكس مثلاً، ومن تلك الاعترافات (اعترافات جان جاك روسو) و(اعترافات اوغسطينُس).
أنواع السّيرة الذاتية
وعلى الرغم مما ذكرنا مِن أنً السيرة الذاتية مّرت بمراحل تاريخية، إلا أنّها أيضاً تنقسم على اشكال وتنوعات مختلفة هي:
سيرة ذاتية تخييليه: وهي سيرة ذاتية لشخصية غير واقعية أو لعائلة لا وجود لها، يصنعها الرّوائي بأسلوب أدبي يرتكز فيها المؤلف على السّرد والخيال وهو نوع مِن أنواع (الميتا قاص) أو (ما بعد الرّواية) أو (ما بعد السرد)، وينتمي ه1ا النوع إلى روايات (ما بعد الحداثة). مثل رواية (الحرافيش) لنجيب محفوظ، وراوية (إحدى عشر دقيقة) لباولو كوهيلو، ورواية (شرف) لإليف شافك.
سيرة ذاتية واقعية: قد يلجأ كاتب السيرة الذاتية إلى كتابة سيرته الذاتية بشكل رسمي خالٍ مِن الجمالية والعاطفة، وقد تكون سيرة ذاتية لشخصٍ أخر، مثل السيرة للملوك والرٌسٌل، والقديسين، والناسك، والزهاد.
سيرة ذاتية ممزوجة: وهي السيرة الذاتية التي تجمع بين الواقع والرّسمية والحقيقة مِن جهة والخيال والعاطفة من جهة أخرى أي يكون كاتب السيرة اديباً أو مثقفاً فيمزج فيها بين الواقع والخيال، وهذه من أنضج السّير الذاتية. ولعل أشهر من كتب على هذا الشكل إيزابيل الليندي في روايتها (باولا) و ( تولوستوي) في روايته ( البعث) واحمد أمين في كتابه ( حياتي ) و ( الأيام) لدكتور طه حسين. وتنتمي محطات (وردا البيلاتي) إلى هذا النوع كما سنفصل ذلك بعد قليل.
سيرة ذاتية أخلاقية واقعية: وهي ما يكتبه أحد الأدباء أو الفلاسفة أو المثقفين عن سيرة ذاتية لأحد الشخصيات التي غيرّت مجرى التاريخ، أو ما يكتبه هو عن نفسه، لتكون هذهِ السيّرة طريقاً ومنهاجاً أخلاقياً قويماً للناس بعامة، مثل (اعترافات) للقديس أوغسطينس وكتاب (حياة المسيح) لعباس محمود العقاد.
وبعد هذهِ التقدمة الممهدة عن السّيرة الذاتية ندخل في دراسة بنية الخطاب في مذكرات (وردا البيلاتي) والتي أسماها (محطات في حياتي) والصادرة عن مطبعة(آزادي) سنة 2017م وفي (298) صفحة تبدأ بمقولة لنقولاي أوستروفسكي: ((الحياة أعزّ شيء للإنسان، إنها توهب له مّرة واحدة فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على الّسّنين التي عاشها ))، وكلمة شكر والإهداء، و(36) محطة مِن حياة الأديب ( وردا البيلاتي)، ومذيلّة هذهِ المحطّات بملاحق عبارة عن لقاءات مع الأصدقاء وملحق الّصور الفتوغرافية.
وتبدأ السّيرة الذاتية هذهِ بشكل تعريفي مِن يوم سأل صاحب السيرة والده وهما يلعبان (النّرد) عن طفولة الأب وما يتذكر منها، وفجأة تحوّل هذا السؤال إلى وجودي وكوني يمتزج فيه الأم والحلم المتكسّر، هذا السؤال أٌعدّه البداية السياسية لكاتب المحطات هذهِ، والانطلاقة المهمة للتعرف على أنّ الإنسان يعيش في ظٌلٌمٍ وفاجعة، ولابد أن يتخلص من تلك الأيام والفواجع بصباح شمسه (ثورة) تطيح بالظلم والظالمين إلى غير رجعة، وتٌقيم الحقّ والعدل والمساواة.
نسمع يصف هذهِ الانطلاقة: ((يومئذِ وما أن بدأنا برمي أحجار النرد البيضاء الصغيرة، كعادتنا والدي وأنا، التباري في لعبة النرد المحببة لكلينا، حتى اقتحمت أفكار لم أكن أعرف مِن ايّ حدب جاءت، ولا أدري لماذا خطرت ببالي وسيطرت على عقلي .... سالتٌ والدي عن طفولته وماذا يتذكر منها!! فجأة امتقع لون وجهه وافترش الحزن والألم ملامحه البهية، ...... عند ذلك فقط أحسستٌ بثقل سؤالي .... ((يا بني.. إلى أيّ سفر تأخذني؟ ها قد مرت الأعوام الطويلة جارفة معها ويلات ومآسي شعبنا، وبالرغم من ذلك فما زالت كخنجر مسموم مغروس في خاصرة من عاصر وعاش تلك الاحداث البشعة)) [المحطات 5-6]
من هنا كانت البداية- كما قلنا- البداية من استفسار عابر، وفي عين الوقت البداية للبحث عن أدوات الخلاص من الظلم وبناء مجتمع لا ظلم ولا تمييز ولا طائفية فيه! وهكذا تستمرٌ بنية المحطات الأولى لتحكي تاريخ العائلة التي لا تنفصم عن تاريخ الأٌمة وتأسيسها من (التياري) ومروراً ب(بعقوبة) و( الحبانية)،وانتهاءً في (كركوك).
وتستمر بنية ( المحطات) هذهِ لتبين عوامل التوجِّه السياسي ل( وردا البيلاتي) فحادثة( حركة الشواف) سنة 1959م، و(الخبر الحزين) بالفاجعة التي أحلّت بأبناء عشيرة ( البيلاتي) في إحدى القٌرى الاشورية في كردستان العراق، نقول كٌول هذه الأحداث شاركت مجتمعةٍ لتبلور الوعي السّياسي ل (وردا) وهذا الذي حدث فعلاً، فيقول في محطة ( الوعي السياسي): (( في العطلة الصيفية كنت أعمل وصديقي (خوشابا صليوا) عند خالي الذي كان خبيراً في نصب وتصليح التدفئة والتبريد بورشته في كركوك، من بين جدران ذلك المكان كسبتٌ أولى بذرات الوعي السياسي.... يوم ذلك كان محل خالي يعجّ بأصدقائه الذين كثيراً ما كانوا يخوضون في أحاديث سياسية لم أكن أفهم منها شيئاً. وما كانوا يجتمعون هناك حتى يطلبوا مني الذهاب لشراء جريدة (اتحاد الشعب).)) [المحطات، ص32].
 وتبدأ بعد مرحلة الاستماع مرحلة القراءة يقول (وردا) ((.... فكان اول كتاب قراته رواية (الأم) لمكسيم غوركي. ولأني لم أكن أفهم منها الكثير فكنت أضطرٌّ لإعادة الصفحة ورّتين أو ثلاث مًرات أحياناً، على أمل أن أفهم المقصود)) [المحطات ص33]
ثٌمّ بعد ذلك تأتي مرحلة الانتماء الى حزب الشٌيوعي، يقول: ((معظم أوقاتي كنتٌ أقضيها في بيت صديقي أبرم، وكلّما اجتمعنا بأخيه، بدور الحديث عن الأمور السّياسية، التي لم نكن ندرك منه شيئاً، ومنه سمعتٌ لأوّل مرًة مصطلحات غريبة مثلاً (حكومة قاسم فرديّة أو دكتاتورية)!! بعد فترة من الزّمن اقترح علينا يوخنا الانضمام إلى الشبيبة الديمقراطية وحلقاتها الموجودة في مدارسنا.... ساهم الأٌستاذ (شمعون صليوة) في إغناء وًعْي السّياسي، كان أسلوب حديثه يتميز بالقوة والتأثير.... ومِن خلال كلامه توضّح لي ما الفرق بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، وما معنى الاستعمار والحكومة والوطنية....)) [المحطات، ص33))
ومن هنا بدأت رحلة النضال والعذبات والفراق، والحب، والاغتراب بنوعيه النّفسي والواقعي حتّى أستقر المقام ب (وردا) في مملكة (الدنمارك).
وكلّ مًن يقرأ هذِه المحطات فإنّه سيتنبّه إلى أنّها ذات سمات نصّية لغويّة يمكن أن نجعلها:
العاطفة الجياشة: من بين سطور هذهِ (المحطات) لابدّ أن يقف كٌلّ قارئ لها ولا سيّما المحلل عند الكثير مِن العواطف الحزن/ الفرح/ الغضب / الألم/ الفراق/ التيه/ التفاؤل / اليأس/ الإصرار/ النضال / الحب وغيرها كثير، ومن تلك المشاعر العاطفية المليئة بالحزن الممزوجة بالفاجعة والألم ما رواه (الأب) لكتاب هذهِ المحطات (وردا) عند استشهاد (الجد) و (العم) يقول وردا على لسان والده: (( لا اعلم كم كان عمري حينما استٌشهد أبي وأخي! لكن هذهِ الحادثة تقف شاخصة أمام عيني كلما تذكرتٌ الماضي، يومئذٍ كنتٌ فتىّ غضاً لم أكن أفهم أو أعرف لما كٌلّ هذهِ القسوة والظّلم .... أخذ والدي يروي ما حدث وكأنها أحداث حلم مفزع جثم على صدره وقيّد حركته، وبالرّغم من الٌّرعب الذي ظل ملامحه واصل كلامه ((أتًعلم يابنّي أني حينما أتذكّر طفولتي، مباشرة تتجسد أمامي جثتا والدي وأخي اللذين وجدتهما ممدّدين بجانب إحدى أشجار قريتنا، ومباشرة تقفز إلى ذهني صورة أمي وهي جاثية أمام أخي تقص ضفائره الذهبية الطويلة لتحتفظ بها .... أصابني الذّهول عندما سمعتٌ كلماتها المفجعة)) [المحطات/ ص7].
مشاعر حقيقية مؤلمة وقاسية أيضاً في التعبير وأستطاع (وردا) بهذا الوصف التأثير في مشاعر القارئ تأثيرا كبيراً، ويصف لقاء الزوجة والابنة بعد فراق طال لسنوات، فيقول: ((... فأخذت أدور حول نفسي وأنا أنتظرهم احتشدت مجموعة مِن رفيقاتنا ورفاقنا أمام الباب الرئيس للمخيم [في ماردين] لمساندتي لم يكن أي منهم يصدق أن زوجتي جاءت لزيارتي في هذه الظروف! من بعيد لاحت لي زوجتي وهي تمسك بكفّ ميسون الصغيرة، تعلّق قلبي بهما وحلّت الحقيقة محل الوهم، للحظات خطر ببالي تجاوز كلّ العادات والتقاليد وأخٌذٌ حبيبتي في احضاني لأمطرها بالقٌبل، لكني اكتفيت بقبلات على وجنتها)) [المحطات/ص 236]. ونجد أن صاحب المحطات (وردا) لا يبوح بمشاعره بطريقة اكثر شاعرية مثيرة وهذا ناتج عن أفكار الرجل الشرقي، وقد أجاب (وردا) بنفسه عن هذا السؤال في موطن أخر فقال في وصف لقاء حبيبته في قبرص: ((أندم لأننا لم نسبح معاً في البحر، فقد كانت حياة العزلة التي عشتها بين الوديان والجبال والفلاحين قد أثرت عليّ كثيراً كما أنّ العقيلة الإقطاعية المتخلفة التي سيطرت علي أرفض أو اسمح لخطيبتي أن تلبس ملابس السّباحة)) [المحطات/ص 145]. وهذا أراه السبب الحقيقي في عدم إظهار المشاعر كلها بالنص.
النقدية وديمقراطية النّزعة: عندما نقرأ هذهِ المذكرات فإننا نقف خصيصة مهمّة فيها وهي ديمقراطية التعّبير، وبدون خوف في وصف الأشخاص وتقييمهم، والأهم مِن ذلك هو وصفه للتطبيقات الماركسية في بلدان أوربا الشّرقية ولا سيّما ( بلغاريا)، وكيف أنّ النظرية اختلفت تماماً عن التطبيقات، فيصف النظام الماركسي في بلغاريا بعد أن يرى بنفسه معاناة الشعب البُلغاري، ولا سّيما الأقليات: (( ... عُدتُ إلى الدراسة، لكن ثمًة شيئاً انكسر في داخلي، ما جدوى الدّراسة النظرية، ونحن لا نطبّقها؟ هل نحن ناضلنا من أجل خلق نظام شمولي دكتاتوري يضطهد أبناء شعبه لأنهم أقلية.....)) [المحطات/ص 253].
هذهِ صدمة لكن جابهها الكاتب بكل جرأة وديمقراطية على أنه مؤمن بأنّ الأفكار الماركسية أفكارّ نضاليّة وآمال الناس، قال (( وعيت إلى جملة من الأُور التي زادت من حبّي للحزب الشّيوعي، كونه [حزباً أممّياً] يُمثل مصالح وحقوق جميع القوميات دون تمييز، كما أنه لا يفرق بين مختلف مكونات الشعب...)) [المحطات/ص53] إذن من أهم سمات محطات ( وردا البيلاتي) هي ( العواطف الجياشة) و ( النزعة الديمقراطية) وسرد الحوادث بكلّ حريّة ونقديّة؛ لذا فإن هذهِ المذكرات الأخذ بها وبكلّ اطمئنان في دراسة الحوادث التاريخية التي مرّ بها العراق بخاصة مثل حادثة قصف مدينة ( حلبجة) بالكيمياوي، والحوادث السياسية التي أودت بالنظام الاشتراكي الماركسي في بداية عقد التسعينات مِن القرن الماضي في ( بلغاريا).
ونحن نتحدّث عن مصداقية هذهِ المذكرات، لابدّ أن نسأل ما القيمة العلميّة والفوائد المعرفيّة والجمالية التي قدّمتها لنا؟ ونجيب عن هذا السؤال فنقول: إنّ الفوائد مِن هذهِ المذكرات كبيرة ويمكن تقسيمها قسمين قيمة ثقافية عامة، وقيمة أدبية جمالية، وهذا تفصيل ذلك:
القيمة الثقافية: المعلومات الثقافية التي يقدمها لنا (وردا)من خلال محطاته لهي الحدث الأبرز في كل ما كتبه، فتارةً يقدمّ معلومة عن (هكاري) في التياري، ومعلومات أخرى عن عادات المجتمعات التي عاش فيها متنقلاً بين كركوك، وبغداد، وكردستان العراق، وتركيا، وسوريا، وقبرص، وبلغاريا، واليمن الجنوبي، وأستراليا، والدنمارك. وغيرها كثير. نسمع (وردا البيلاتي) على لسان والده عن العادات الاجتماعية الأشورية في هكاري: (( لقد كانت الأفراح تسود بلدتنا سّيما في حفلات الزّواج حيث كان يطول العُرس لأيام قد تصل إلى خمسة أيام واحياناً أكثر، فحينما يمرُّ موكب العُرس من امام الدار يُستقبل بالإطلاقات النّارية، وفي أحد الأيام وقد صادف غياب الرّجال عن بيوتهم، وعندما شعرت نساء القرية بقدوم العُرس من منطقة أخرى، وسمعن صوت الطبول، وهي تقرع أنغام الفرح حتّى بادرت النساء بأخذ بنادق أزواجهنّ ليستقبلن موكب العُرس بإطلاقات ناريّة دلالة لوجود الرّجال في الدّار)). [المحطات/ص10]. وتًحدث على لسان والده عن التعليم في هكاري فقال: ((أمّا التّعليم في هكاري فلم نكن قد عرفناه إلى أن وصلتنا الإرساليات التّبشيرية من كنيسة روما الكاثوليكية، والكنيسة الإنكليزية .... وقد لعب المبشرون دوراً في التأثير على وعي الناس من خلال الخدمات التي اجتهدوا في تقديمها...)) [المحطات/ ص 10ـ11].
وثمّة معلومات (تاريخية) عاصرها سواء في احداث (الأنفال) أم (الضربة الكيمياوية في حلبجة)، وكلها بأسلوب جماليّ صادق، نقرأ وصفه حال النّاس وهم يفرّون من القمع في أيام ((الأنفال)): (( طوابير من الكتل البشريّة تجاهد في صعود المرتفعات الجبلية، رأيت بأمّ عيني وسمعتُ بأذني  كيف أن البعض من كبار السّنّ يطلبون مِن أولادهم تركهم لمصيرهم لأنهم لم يُعد بمكانهم مواصلة الطريقّ وكيف كان الأطفال الرُضع يموتون وهم في صناديق خشبية تحملها البغال، وكيف حمل بعض الشّباب أباءهم على  ظهورهم لمواصلة الطريق.... في أحد منعطفات الطريق وعند جذع شجرة رأيت امرأة حامل تحتضن الشّجرة وهي تصرخ طالبة النجدة فقد أزفت لحظة ولادة طفلها....)). [المحطات/ص 211].
ويصف أيضاً الأحداث التي عاصرت انقلاب الحاكم في (صوفيا) وسقوط النظام الماركسي فيها فيقول:
((بين ليلة وضحاها انقلب نظام الحكم في بلغاريا مِن النظام الشمولي إلى نظام ديمقراطي، لقد كان بالفعل انقلاب على حكومة الرئيس (تيودور جيكوف) في ذلك اليوم الخريفي من عام 1989م، خرجت الجماهير بتظاهرة حاشدة وكبيرة رافقها هجوم عفوي على مقّر اللجنة المركزية، واشتعلت النار في غرفة البناية، فدًوّى صوت الانفجار التي غطّت سحب دخانه السّماء. [المحطات/ص254].
تُعدّ مثل هكذا معلومات تأريخية بمثابة (الشاهد على الحدث) الذي عاش فوصف كما حدث الأمر في حينه، وزيادة على ذلك فإنّ (وردا البيلاتي) يقدم معلومات تاريخية قديمة أيضا، فمثلاً عندما يصف كركوك يقول: (( المدينة التاريخية (أريخا) التي يقدّر عمرها مِن خمسين قرناً، تلك المدينة التي تناوبت عليها الإمبراطوريات البابلية والأشورية والساسانية، وبعد حقبة دخلها العثمانيون....))
[المحطات/ ص19]، ثمّ يبدأ بسرد أهم أحداث هذهِ المدينة، ومثل هذا يعمل الكاتب في محطاته توثيق تاريخ (بعقوبة) [ينظر المحطات/ص15].
وكذلك لا ينسى (وردا البيلاتي) وصف المناطق والدول والتضاريس التي مرَّ بها أو التي عاش فيها، فمن ذلك: ((قعر جبل مامند الشَّاق، عند نهاية حائطه العالي، وادٍ تغطيه غابات مِن أشجار البلوط، في بقعة وعرة محصنة لا تبعد إلاَّ مسافة عن الفروشكا، هناك أسّس الحزب أولى قواعده العسكرية الانصارية)) [المحطات/ص 73].
وأيضا يذكر قرية (آشوت) التيارية في تركيا فيقول: ((عند الدخول على قرية خانكي التركية التي لا تبعد عن قرية أشوت الأشورية سوى عشر دقائق والتي أحتُلت من قبل الجيش العثماني أبان الحرب العالمية الأولى، فاستوطنتها عشائر القشورية الكورديّة، إلاّ أنها بقيت محتفظة باسمها إلى يومنا هذا ....)) [المحطات/ ص215].
ومعلومات كثيرة ومهمة يسردها (وردا) بين دفاي كتابه هذا، لو ذكرناها لاحتجنا إلى تحليل يفوق عدد صفحات مذكراتهِ هذهِ.
القيمة الأدبية: أحسبني لن أضيف على النصوص التي ذكرتها في دراستي هذهِ كونها أدبية كلها في المقام الأول ولعلّي أذكر خصوصية متميزة واحدة هنا استدلالاته لمحطاتهِ ال (36) في كتابه هذا، فإنّ لاستهلالات (وردا) جمالية وجذابة تأخذ بالقارئ رغماً عنه بالتواصل مع كل محطة من محطات هذا الكتاب. وبداية نذكرأنَّ (أرسطو) يعرّف الاستهلال فيقول: هو بدء الكلام، وفتح السبيل إلى ما يتلو [الخطابة لأرسطو/ص 235] ويقول (باسكال) عن الاستهلال أيضاً: ((إن اخر شيء تجده عندما تؤلف كتاباً هو أن تعرف الشيء الذي يجب وضعه في البداية)) [الاستهلال/ص9] إذن الاستهلال مهم في توجيه النص الأدبي.
وللاستهلال وظيفتان وهما:
جلب انتباه القارئ أو السّامع أو الشّاهد وشدّه إلى الموضوع.
التّلميح بأيسر القول عّما يحتويه النّصَّ.
[الاستهلال/ ص22ـ23]
وقد أجاد (وردا) في توظيف النقطتين المذكورتين آنفا، فعندما يصف أمراً مشؤوما فإنَّ الاستهلال يكون كذلك فترى بنية استهلال الخوف واضحة وهو يصف أحداث عام (1963م) في كركوك والمجازر التي حدثت فيها، فيقول(( استرجاع لتلك اللحظات الرّهيبة من فجر ليلة باردة ما زال يشعرني بالخوف والرّهبة. كانت شمس الفجر قد كست جدران البيت، والشوارع بحمرتها الأرجوانية حركة غامضة....)) [محطات/ ص35]، هذهِ الاستهلالية نشمُّ منها رائحة الدّم والخوف مِن خلال الألفاظ (ليلة باردة، خوف، الرهبة، الحمرة، الغموض، ....) واكنّنا نجد بنية استهلالية انضمام (وردا) إلى الحزب الشّيوعي تختلف فبعد أن رأيناها في النص السَّابق رهيبة نجد الاستهلالية هنا جديّة وتعبّر عن واقع تحديد مسار حياة الرّجل، يقول: ((هناك صدفة عجيبة توقعك في شراكها، فتحفر أخاديد عميقة في كيانك، فمهما يمّر الزّمن عليها، لكنّه لا يستطيع محوها أو ردمها. لم يكن الانضمام للحزب الشيوعي أمراً سهلاً أو عادياً...)) [المحطات/ص53] ونرى الكاتب يستهلّ محطة (الإذاعة) وهي محطة شائقة، واهم محطة في الكتاب فيستهلُ قصة (الإذاعة) فيقول: ((تعود الصور والأحداث الماضية وتتوالى على ذهني تباعاً، لم أفقدها رغم ضجيج الحياة وزحمته، وما زلت أمسك بخيوط الحكاية حتّى الأن ....)). [المحطات/ص91]
وكأننا نعرف أنَّ الكاتب يريد أن يسرد علينا قصّة أثّرت فيه ولم ينسَ منها شيئاً لذلك كانت استهلالية متطابقة وموضوع قصة الإذاعة.
وهكذا نجد أنَّ استهلالات هذهِ المحطات هي الحدث الأدبي الأبرز، وكانت متوافقة وعّبرت عن مضمون كل محطة من محطات حياة (وردا البيلاتي).
وأقول أخيراً إنَّ هذهِ السّيرة الذاتية تجمع بين الواقع والخيال وتمثل عملاً أدبيّاً يستحق القراءة والتأمل، ونقتطف بأخرة وصف (وردا البيلاتي) للشعب العراقي فيقول: ((هذا الشعب الذي كسر ظهر الويلات بالأفراح حتماً يستحق الحياة))
[المحطات/ص 225].
المصادر
الاستهلال، فن البدايات في النصّ الأدبي/ تأليف /ياسين النصير/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد 1993م
الخطابة/لأرسطو/ ترجمة: د.عبدالرحمن بدوي/ وزارة الثقافة والإعلام العراقية / بغداد 1980م.
فن السّيرة/تأليف/ د. إحسان عباس/ط2/ دار الثقافة ـبيروتـ لبنان (د ــ ت).
محطات في حياتي/ تأليف: وردا البيلاتي/ مطبعة أزادي/ 2017م.
مواقع مختلفة على شبكة الأنترنيت.