لمناسبة اربعينية المطران جاك اسحق
ذكرياتي مع التلميذ كامل و بيت الطقوس الاولى
رياض شاباما يزال المكان ماثلا امامي ، بيت يجاور عيادة الدكتورة سيرانوش الريحاني ، في زقاق متفرع من شارع نينوى العريق ، نتسلقه عبر درجات عريضة ، لطالما استمتعنا بالقفز فوقها ، قبل ان يفتح لنا الباب ، و نهبط الى حوش و اسع بغرف عدة ، تتوسطه حديقة صغيرة مسيجة ، ذات زهور كثيرة يتسيدها جمبد موصلي عبق يغريك بالتامل و المداعبه ، لكن لا : " الاقتراب ممكن ، اللمس عند الضرورة،، الشم مسموح ، القطف ممنوع بتاتا الا باشراف سيد البيت" ! فتلك هي تعليمات يوسف مار ايليا " خالي يوسب " الاسم الذي كان ابي يناديه به و نحن من بعده .
كهل ورع ، لطيف المعشر، يعتمر سيدارة لا ينزعها الا عند عودته بعد الظهر من الوظيفة " مالية متصرفية الموصل "، و ظلت تلازمه حتى بعد تقاعده و انتقاله الى السكن في بغداد ، غارق في كتب الدين و التاريخ و التراث و الخط " الكلداني و العربي " ، و هو يستخدم "سلايات "مهذبة و دواة و ادوات رافقته حتى اخر يوم من حياته . و كنا كبارا و صغارا نراقبه و نصغي اليه باحترام و حب شديدين ، حيث "يفرض" هيبته و ينشر وجوده الطمانينة في المكان .
شقيقتي باسمة تشارك انجيل و صبرية و عفيفة " الكبرى " احيانا ، و شقيقي باسم ينشغل مع سالم ، و انا و حازم نتكلم في الدراسة و الكتب و السينما ، و التهيئة لعيد الصليب " اذا ما صادف وجودنا في ايلول " حيث نشعل الاضواء و الشموع و نطلق الالعاب النارية ، و يحصل هذا كلما صادف وجودنا في بيت اتخذناه من بين بيوت عدة ، محطة و نحن في طريقنا الى القوش او العودة منها ، عندما كان و الدي يعمل في مستوصفات ارياف كويسنجق بناحية طقطق " اربيل" او قرية بارا الايزيدية في قضاء سنجار الموصلي .
و وسط صخبنا و ضجيجنا حينا ، و هدوئنا في احيان اكثر ، تشخص عيوننا صوب الباب دائما في انتظار شقيقهم السادس " كامل " تلميذ " السمينير " في نزلته الدورية من معهد مار يوحنا الحبيب القريب من المكان ، كي يحدثنا عن تعليمه و هو يعيش الطقوس الاولى ، و ليوزع علينا هداياه من صلبان و صور و ميداليات تمثل يسوع المسيح و امه مريم و القديسين ، و مفاجات اخرى ، مثل ان يطلب شرشفا ابيض و قراصات و منضدة مرتفعة ، تهرع والدته هيلانه مع والدتي جوري و " ببي " الفتاة الطيبة القيمة على البيت ، لتلبية طلباته ، ثم سرعان ما ان تطفا الاضواء ليعرض لنا سلايدات مدهشة عن القدس و بيت لحم و البحر الميت و لورد و فاطيما و الفاتيكان و غيرها .
هو يكبرني بتسع سنوات ، لكننا اصبحنا صديقين مقربين بمرور السنوات، و عندما كبرت و تقدمت في مراحل الدراسة و المطالعة ، بتنا نتحدث عن التاريخ و الجغرافيا و اللاهوت و الناسوت ، يشاركنا حازم و و الدي و والده اسحق كتو العصامي المحبوب " خياط الشال و شبوك و الازياء الرجالية الالقوشية و الكردية والايزيدية و التيارية _ الجبلية المعروفة في قرى و ارياف لواء الموصل الذي كان يضم اقضية عدة منها قضاء دهوك والعمادية و عقرة و عين سفني " الشيخان " مع بلدات و قصبات اخرى معروفة .
في هذا المحيط و تلك الاجواء،حيث ترتفع بكثرة ملحوظة ابراج كنائس و منارات جوامع . و تختلط الاجراس والتراتيل مع رفع الاذان و الصلوات و الادعية ، نشا كامل ، و بدأ طقوسه الاولى في الطريق الذي نذر له نفسه و بقية حياته .
في فترات و جودنا في الموصل ،حيث سكنا بيتا مجاورا لهم احدى السنين و خلال زياراته الينا وحيدا او مع زملائه و اهله عندما صرنا في القوش ، كان قد قطع مراحل جديدة في خدمته الكنسية ، و لما صرنا جميعا في بغداد التي اجتذبت الكثير من العائلات ، سكنوا لفترة في بيت عمتي شكرية حيث توطدت صداقتي مع ثائر ابنها و شقيقه حازم ، بينما صار شقيقي عماد المصور المعروف بحكم مهنته الاقرب اليه و اوفرنا حظا في لقائه ، هو الذي صور سيامته المطرانية و رافقه الى اربيل عندما تولى شؤون ابرشيتها . بينما استمرت الصلة بين العائلتين رغم ان الصحافة اخذتني بعيدا عن اشياء و واجبات كثيرة ، لكن والدته كانت تقص علي كلما التقينا و بفرح كيف انها تقرا "مقالاتي" المقصود تحقيقاتي " ل " خالي يوسب " و زوجته المحبوبة رفقة ، فيستمعان اليها بزهو و اهتمام . و كنت في كثير من الاحيان و بحكم عملي لسنوات طويلة في مجلة" الاذاعة والتلفزيون" استقصي اخبار الكاهن ثم الاسقف جاك من ابن عمهم نوئيل كتو الذي كان مسؤولا في حسابات المؤسسة العامة للاذاعة و التلفزيون ، اذ يجمعنا مبنى مشترك هو العمارة التي شغلتها وكالة الانباء العراقية لسنوات عدة في الصالحية .
و قبل ذلك كان المطران جاك قد درس في روما حيث حصل على الدكتوراه في العلوم الشرقية _ قسم الليتورجيا عام 1970، و في العراق و الموصل و بغداد غالبا ، تولى مناصب كنسية و كهنوتية و تدريسية عدة بامكان الراغب في معرفتها الاطلاع عليها بمراجعة سيرة حياته ، كما عرف باهتمامه بالامور الطقسية و الحانها ، و له العديد من الاصدارات من بينها الكتب و الدوريات و المجلات ، فقد ساهم في انطلاق مجلة " الفكر المسيحي " و صاحب امتياز مجلة " بين النهرين " و رئيس تحريرها و كذلك مجلة " نجم المشرق ".
" اهلا زميلي العزيز " سمعتها منه عندما التقيته ذات ظهيرة في استعلامات احدى دور النشر في بغداد لا تحضرني اللحظة للاسف ، و هو يتابع شؤونه الصحفية ، تعانقنا و تبادلنا حديثا قصيرا ، عرضت عليه المساعدة و حاولت استبقاءه على الغداء لكنه اعتذر ، كان كاهنا و معاونا بطريريكيا للشؤون الثقافية يومذاك ، ثم لم اره عبر سنوات الا بضع مرات ، لكن علاقات عائلتينا ظلت قائمة عبر اهله جميعا و حسب مجريات الحياة ، كانوا يزورون والدي في فترة مرضه الاخيرة وخصوصا ابن شيقته الكبرى عفيفة الدكتور الشاب المتمكن سعد يونس جنو و ابن شقيق الطبيب المعروف في بغداد و البصرة نافع جنو .
الان اشعر حقا بفداحة خسارتنا لذلك النجم الذي انطفا ، لكن نوره و اصداء تلك الطقوس تبقى مشعة بيننا و في كنائسنا ، له الراحة الابدية و لروحه السكينة والسلام و ايضا لارواح الراحلين الذين ورد ذكرهم في سطوري هذه ، و الصحة و طول العمر للاحياء منهم .
وداعا "كامل " ، سيبقى اسمك و روحك و اثارك حية تتناقلها الاجيال .
الصور الارشيفية من فيس بوك الاستاذ جوزيف بهني . و قد اقتبست ايضا اضاءات عن الجد الراحل .
يوسف القس ايليا هومو
شماس و خطاط ، ولد في القوش يوم 8 _ 6 _1893 . تعلم الخط السرياني على والده . تفنن في الخط الاسطرنگيلي و ادخل عليه النقوش النباتية ، ساعد والده في ترميم المخطوطات القديمة .
ترك لنا اربع مخطوطات (ذُكِر منها) الرهبانية 778 لسنة 1912و كان تلميذا ، و 736 لسنة 1913 .
له كتابات جدارية جميلة في كنيسة دير الربان هرمزد و هيكل مريم العذراء في القوش و في غرفة والده و على ضريح والده .
وضع مذكرات باللغة العربية و منها نسخة خطيةبحوزة حفيده المطران جاك اسحق كتو . رحل من هذا العالم يوم 3_11_1975 .