زيارة البطريرك مار أيشايا شمعون الى العراق عام 1972.
لقد تنوعت الآراء في تحديد السبب الرئيسي الذي أدى الى هذه الزيارة،فالبعض أعتبرها زيارة رعوية دينية لتفقد أوضاع الكنيسة الآشورية وأبرشياتها في العراق،والبعض الآخر أعتبرها زيارة ذات أبعاد سياسية وقومية،وحصل أنقسام بين من يؤيد هذا الرأي من جانب،ومن يرفضه من الجانب الآخر،وسأكتب الآن حول هذا الموضوع كشاهد، وبقدر ما يتعلق الأمر بي،أي ما أكتبه لم يشمل برنامج الزيارة بأكملهِ وأنما جزءً منهُ،ربما هناك من ينتقدني لأثارة هذه المواضيع،ولكن هناك أيضآ من يدعو الى تسليط الضوء عليها ليكون شعبنا على بينة من حقائق التاريخ ،أنني هنا أسًردُ الحقائق للتاريخ فقط،وليس غير ذلك، للأستفادة من دروس الماضي وعبرهٌ.
قبل موعد الزيارة كنت في بغداد والتقيت مع الصديق المقدم شليمون بكو وأخبرني بأن البطريرك سيزور العراق قريبآ بدعوة من الحكومة العراقية،وطلب أن أشارك معهم في مراسيم الأستقبال،ولكن أعتذرت لعدم تيسر الوقت،حيث كنت ضابط في فق4،وحدتي العسكرية كانت في سنجار،وعائلتي في ناحية القوش،وكنت آنذاك في دورة تدريبية لمدة ثلاث أشهر في معسكر الغزلاني بالموصل،فقال أذن من الضروري جدآ أن تكون موجود معنا لدى وصولنا الى الموصل.
في تلك الأيام أستدعاني مطران القوش المرحوم مار أبلحد صنا الى المطرانية، عندما دَخَلتٌ غرفة الأستقبال،وجدت حوالي عشرة أشخاص من وجهاء القوش في القاعة،وبدأ المطران يتحدث عن الموضوع وهو ليس كعادته دائمآ،وقال تلقت بلدتنا القوش خمس بطاقات دعوة شرف من رئاسة الكنيسة الشرقية، لحضور مراسيم الأستقبال غدآ لبطريرك الآشوريين مار أيشايا شمعون في الموصل القادم من أميركا،ولكن تبلغنا من قبل مسؤول حزب البارت في المنطقة، بأنه ممنوع مشاركة المسيحين في هذه المناسبة ،ولقد أقيمت عدة سيطرات في الطريق لمنع المواطنين من الذهاب الى الموصل غدآ .
وهنا لا بدً من الأشارة الى النشاط الذي قام به الحزب الديمقراطي الكردستاني في تلك الفترة.المصدر ،
(كتاب الحركة التحررية الكوردية - مواقف وآراء - ص108 المؤلف علي سنجاري عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني ،مسؤول فرع الأول للحزب في محافظة دهوك - منطقة بهدينان )
لقد أرسلت قيادة الحزب قوة مسلحة متكونة من ما يقارب ثلاثون مقاتلآ معظمهم من الآشوريين ،بقيادة السيد كوركيس مالك جكو،ومعه مسؤول الفرع الأول لحزب البارت السيد علي سنجاري،قاموا بزيارة جميع القرى والبلدات المسيحية في منطقة الحكم الذاتي، وكذلك منطقة سهل نينوى،بناءً على طلب من المكتب السياسي،لتفقد أحوالهم وحَلً مشاكلهم من التجاوزات عليهم، حسب ما يدعي كوركيس مالك جكو الذي كان يمثل المسيحيين في الحركة الكوردية،وأن جميع شكاوا القرى المسيحية كانت تقدم له،وكان السيد كوركيس مقرب جدآ من الزعيم الكوردي المرحوم مصطفى البارزاني، وأثناء الزيارة تم التحقيق في كافة القضايا، ثم تم توزيع الأسلحة ( غدارة ) على بعض الحزبين منهم ،كما تم مساعدة البعض الآخر ماديآ،وعقدت عدة أجتماعات وندوات في تلك القرى وبحضور رجال الدين المسيحيين في المنطقة، ولاسيما في منطقة قضاء زاخو،كان يتحدث فيها السيد سنجاري عن (توصيات المغفور له مصطفى البارزاني ،بأن المسيحيين هم أخوة للأكراد وهم شركاء معنا في هذه الأرض منذ مئات السنين،ولا فرق بين الكردي والمسيحي أنهم متساوون في الحقوق والواجبات،ولا نقبل بالأعتداء عليهم مهما كان السبب )،ولكن أنتبهوا بأن هناك من يحاول خلق الفتنة بين المسيحيين والأكراد،وهؤلاء هم جهات معينة في الحكومة العراقية،من خلال دعوة رجل دين من أميركا لخلق الفتنة بيننا،بالرغم من وجود أتفاقية 11 آذار عام 1970 بيننا وبين الحكومة،وكان أيضآ السيد كوركيس مالك جكو يشاركه في الحديث ويطلب من الحاضرين أبداء رأيهم بصراحة، وعرض مشاكلهم دون خوف من أحد.
والآن نعود الى موضوعنا في المطرانية، قرر المطران تلبية الدعوة وحضور هذه المناسبة مهما ترتب عليها من نتائج،بعد مناقشة الموضوع مع الحاضرين،تقرر أن يحضر ثلاث أشخاص فقط لهذه المناسبة،وهم المطران عبد الأحد، والمختار زورا حيدو، وأنا ،المطران يذهب الى الموصل عن طريق الشيخان،والمختار ذهب مع أبنه صاحب لوري قلاب ينقل الحصو والرمل من نهر دجلة الساعة الرابعة صباحآ ،وأنا أرتديت ألزي العسكري لألتحق بوحدتي في معسكر الغزلاني، ولم يستطيعون منعي من ذلك، وأتفقنا على أن يكون اللقاء الساعة التاسعة صباحآ في المطرانية بالموصل،ومن هناك ذهبنا الى الكنيسة الآشورية في محلة الدواسة،ثم التحقنا بالموكب الذي كان يضم محافظ الموصل ورؤساء الدوائر وبعض أعضاء فرع لحزب البعث ..ألخ.
وسارَ الموكب بأتجاه طريق بغداد الى مسافة قريبة من الحضر ثم توقف هناك،تأخر موكب البطريرك أكثر من نصف ساعة،أتصل المحافظ مع المسؤول الحكومي الذي يرافق الموكب، يسأله عن سبب التأخير المفاجئ،فقال أن أهالي تكريت وشيوخها قطعوا الطريق وطلبوا من البطريرك زيارة الكنيسة الخضراء في تكريت،وذهب البطريرك الى الكنيسة وصلى فيها ،ثم واصل الموكب طريقه الى الموصل وسارَ الجميع الى كنيسة العذراء مريم في الدواسة.
القي البطريرك خطابه باللغة الآشورية،وتم ترجمته الى العربية،وكان أيضآ بعض روؤساء العشائر الكردية (المستشارين) قد حضروا الى الكنيسة، بالأضافة الى جمع غفير من المؤمنين الآشوريين،وفي المساء حضر البطريرك دعوة عشاء أقامها له السيد رئيس هومي (أبو سركون) من أرادن في داره في محلة الدواسة،وفي تلك الأثناء دار حديث بيني وبين السيد شليمون بكو حول برنامج الزيارة وأبعادها ...ألخ ،وفي اليوم التالي،أبدى البطريرك رغبته الشديدة لزيارة محافظة دهوك ( نوهدرا )والقرى الآشورية التابعة لها ،أتصل محافظ الموصل مع محافظ دهوك هاشم عقراوي وأخبره برغبة البطريرك زيارة المحافظة، ولكن الأخير رفض الطلب، وقال نحن لا نضمن سلامته وأذا جاءَ أنتم تتحملون المسؤولية،ولهذا لم تتم الزيارة.
قبل موعد سفر البطريرك الى أميركا،سافرت الى بغداد للقاء السيد شليمون بكو بصفته سكرتير البطريرك،لمتابعة بعض الأمور التي تحدثنا عنها أثناء لقائنا في الموصل،وفي تلك الأيام حصل اللقاء الأخير بين البطريرك والحكومة،وحضر اللقاء الرئيس أحمد حسن البكر،وصدام حسين،وسعدون غيدان(مسؤول مكتب شؤون الشمال)والسيد وزير الدفاع،من الجانب الآخر حضر البطريرك ومعه المطران زكا عيواص فقط (مطران السريان الأرثذوكس)ليقوم بالترجمة الحرفية بين الطرفين،وحسب ما يقول المطران زكا حول الأجتماع،وأنا قابلته شخصيآ،
< لقد كانت خارطة كبيرة ومجسمة للمنطقة الشمالية معلقة على الحائط في قاعة الأجتماع،وبدأ وزير الدفاع بشرح مفصل عن جغرافية المنطقة والقرى الآشورية الموجودة فيها ...ألخ،وفي النهاية طلبوا من البطريرك أن يساهم مع الآخرين من روؤساء العشائر الكوردية في خلق الأمن والأستقرار في تلك المناطق،والحكومة تقدم له كل الأمكانيات المتاحة ...ألخ،وبعد أستتباب الأمن والأستقرار ،ستمنح الحكومة الحقوق القومية للآشوريين المتمثلة بالأدارة الذاتية في بعض المناطق من محافظة دهوك ومحافظة نينوى -سهل نينوى >،وجرى نقاش طويل حول هذا الموضوع بين الطرفين،وفي النهاية رفض البطريرك طلبهم، وقال أنا لست رئيس عشيرة،أنا رجل دين، رئيس الكنيسة الآشورية في العراق والعالم،وأضاف قائلآ .. سيد الرئيس والأخوة الحاضرين، من خلال تجاربنا المريرة ومآساتنا الطويلة، لم يبقَ لنا ثقة بأحد أي كان ومهما كان،لقد غدروا بنا الأتراك العثمانيين عدة مرات،ثم الفرس الأيرانيين،ثم الأكراد في أيران، وأخيرآ الحكومة العراقية في مذابح سميل التي عشتها وكنت أحدً ضحايا تلك النكبة،كذلك خيانة بريطانيا العظمى لنا ,وتنصلها من الوعود التي قطعتها معنا،وأخيرآ قال،أعطونا حقوقنا وبرعاية دولية، ونحن نبذل قصارا جهدنا في سبيل أيجاد الأمن والأستقرار في المنطقة،فقالوا له كيف.. ؟ هل تحارب البارزاني ..ألخ،قال لماذا تضعون هذا الشرط علينا،يمكن لي أن أتفاهم وأتفق مع البارزاني حول أستتباب الأمن في المنطقة،ثم قال أعطونا الحقوق وأتركونا وشأننا..ألخ ،وأخيرآ لم يتم الأتفاق بينهم وأنتهى الأجتماع،هذا كل ما تتطلب ذكره وبأختصار شديد.
لقد كانت غايتنا من سردً هذه المعلومات لكي نوضح للقارئ الكريم بعض الحقائق،وأن نرفع الأشكال الذي قام في هذا الصدد.
داود برنو