الاستاذ يوآرش هيدو
لقد أنجبت كنيسة المشرق الآشورية
العديد من البطاركة العظام الذين
خلد التاريخ ذكراهم لمواقفهم البطولية وتضحياتهم الجسيمة من أجل حماية رعيتهم والذود عن الكنيسة والايمان المسيحي ولم يبخلوا بالتضحية بحياتهم في سبيل ربهم وفاديهم. ويأتي في مقدمة هؤلاء البطاركة الخالدين مار شمعون برصباعي الذي يحتل مكانة سامقة في تاريخ كنيسة المشرق . وشمعون برصباعي تعني شمعون ابن الصباغين وهو لقب جاءَه من والديه اللذين كانا يصبغان الحرير باللون الارجواني لاستعمال الملوك .
في سنة( 329 ) انتخب مار شمعون
برصباعي بطريركاً لكنيسة المشرق خلفاً لمار فافا وكان ذلك في عهد شابور الثاني ملك بلاد فارس.
كان مار شمعون برصباعي من مدينة سوس وقد اتسم بالعفة والتقوى والقداسة.
عاشت الكنيسة الآشورية فترات من القلق وعدم الاستقرار تحت حكم الملوك الساسانيين وتعاقبت عليها موجات من الضيق والاضطهاد تتخللها فترات من الاستقرار والهدوء النسبيين وذلك طبقاً لأمزجة الملوك الذين تعاقبوا على العرش الفارسي .
فكان بعضهم يتحلى بالرفق والتسامح تجاه المسيحيين ، ومنهم من ينقلب عليهم مضطهداً تحت تأثير الكهنة المجوس . لكن الاضطهاد الأشد او الأعنف بدأ بعد اعتناق قسطنطين الكبير المسيحية وصدور مرسوم ميلانو ستة (313) . لقد اعتبر قسطنطين نفسه حامياً للمسيحيين في كل مكان وبعث برسالة الى ملك بلاد فارس شابور الثاني (ذو الاكتاف ) يدعوه فيها بالرفق برعاياه المسيحيين ومعاملتهم معاملة حسنة .
بدأت السلطات الرسمية في بلاد فارس ترتاب في اخلاص رعاياها المسيحيين من اتباع كنيسة المشرق الآشورية ظناً منها انهم متعاطفون مع اخوتهم في الدين وأنهم يؤيدون الامبراطورية الرومانية .
كانت الحروب بين الأمبرطوريتين مكلفة جداً . وقد ادت السياسة الخارجية التي أتبعها شابور الثاني إلى وقوع الدولة الفارسية في عجز مالي شديد. في سنة( 339) أمر شابور بأضطهاد المسيحيين وبمضاعفة الضرائب التي تفرض عليهم وكتب إلى موظفيه يأمرهم بأرغام مار شمعون برصباعي بجباية الضرائب من ابناء رعيته. ولم يكن بمقدور المسيحيين دفع تلك الضرائب الباهضة.
رفض مارشمعون برصباعي تنفيذ أمر الملك وكان جوابه : " لقد عهد إلي بمهمة إدارة شؤون رعيتي كرئيس للكنيسة وأن ما يطالبني به الملك من جباية الضرائب من المسيحيين ليس من شاني."
فلما بلغ هذا الجواب مسامع الملك شابور استشاط غضباً وكتب رسالة ثانية إلى الحكام يأمرهم فيها أن يبلغوا مار شمعون بأنه سيموت أن أبى تنفيذ أوامره.
إلا ان مار شمعون اصرٌ على موقفه الرافض لاوامر الملك .
كانت ساليق(سيلوقيا ) انذاك مقراً لكرسي بطريركية كنيسة المشرق الآشورية . وتنفيذاً لأوامر الملك أقتيد البطريرك مار شمعون برصباعي مكبل اليدين الى كرخ ليدان في مقاطعة الاهواز سنة( 341 ).
ودع البطريرك أبناء رعيته وباركهم بهذه الكلمات : "ليكن صليب الرب يسوع المسيح حارساً للمؤمنين .وعسى أن تحل بينكم محبة الإله الآب وتعزي قلوبكم وتثبت ايمانكم بالمسيح المخلص في العسر او اليسر ، في الحياة او الموت ، الآن وفي كل اوان وإلى الأبد."
إن عظمة هذا الآب الجليل تتجلى بوضوح في موقفه الشجاع وفي رده الجريء حين طلب منه أن يسجد للشمس ولو مرة واحدة ، وعند ذاك سيعفى عنه وعن رعيته.
وكان جواب مار شمعون : " إن الشمس التي تأمرني أن اسجد لها أظلمت عندما مات باريها على الصليب ."ورغم إلحاح الملك على البطريرك أن يطيع أمره ، إلا أن البطريرك رفض باباء وشمم الانصياع لأمره مفضلاً الموت كبطل على السجود للشمس.
نال مار شمعون برصباعي اكليل الشهادة مع عدد من الأساقفة وجمع غفير من الكهنة والشمامسة والعلمانيين يوم الجمعة العظيمة سنة(341). وكانت مدة رئاسته ثماني عشرة سنة.
لقد ضحى مار شمعون برصباعي بحياته من أجل أيمانه بربه ومخلصه واتماماً لواجبه كبطريرك نحو رعيته . وإثر استشهاد مار شمعون برصباعي ورفاقه ، تعرضت كنيسة المشرق الى اضطهاد غير مسبوق دام اربعين سنة عرف ب (الاضطهاد الاربعيني ) جرت خلاله ابشع الإعدامات و المذابح بحق آلاف المسيحيين اساقفة وكهنة ومؤمنين،و نهبت اموالهم وصودرت ممتلكاتهم فضلاً عن تدمير كنائسهم.
لقد كان ايمان مار شمعون برصباعي راسخاً لا يتزعزع ففضل الموت على الرضوخ لإرادة الملك الشرير شابور والسجود للشمس .
كما أن شعوره العالي بالمسؤولية تجاه رعيته جعله يرفض جباية الضرائب منهم . أن هذا البطريرك الشجاع الذي وقف أمام الجلادين كالطود الشامخ امام العواصف الهوجاء يستحق منا كل التعظيم وكل الإجلال.
وفيما نحن نستذكر استشهاد مار شمعون برصباعي لا يسعنا إلا أن نتذكر الشهيدة القديسة ( تاربو ) أخت البطريرك مارشمعون برصباعي . كانت تاربو راهبة تخدم الكنيسة بتفان في ساليق . وبعد استشهاد شقيقها
البطريرك قبض عليها بتهمة ممارسة السحر الأسود . كانت الملكة مصابة بمرض خطير .
وبدافع نيل حظوة لدى البلاط والتقرب إليه ، أوهم أشخاص حاقدون الملكة بأن تاربو هي التي سببت مرضها بممارسة السحر الاسود ضدها لتثأر بذلك لمقتل أخيها البطريرك.
أقتيدت تاربو مع راهبتين أخريين الى العاصمة الفارسية، وبعد مثولهن امام رئيس كهنة المجوس ، قرر تجريمهن . إلا أن الملك الفارسي شابور وعد بعدم قتلهن إذا ما سجدن للشمس .
إلا ان تاربو قابلت العرض بالرفض القاطع موضحة ان السجود للشمس يخالف تعاليم المسيحية التي تحظر عبادة الكواكب . كما صرحت بأنها لا تهاب الموت بل هي تائقة إليه لأنه سيقودها إلى أخيها الحبيب شمعون .
عند ذاك إصدر رئيس كهنة المجوس حكم الموت على تاربو ورفيقتيها . وقام الجلادون بقطع اجسادهن أرباً . وجيء بالملكة المريضة لتمر في وسط الأشلاء المقطعة للقديسات، اذ قيل لها انها ان فعلت ذلك شفيت من مرضها. وكان استشهاد القديسات الثلاث في الخامس من شهر أيار سنة (341).
المصادر :
________
1_ اخبار بطاركة كنيسة المشرق، من كتاب المجدل تأليف عمرو بن متى.
2_ الاستاذ زيا كانون، الحلقة المفقودة في تاريخ الآثوريين، شيكاگو ،1997.
3_ ادي شير، رئيس اساقفة سعرد الكلداني الآثوري، تاريخ كلدو وآثور ، الجزء (الثاني) ، بيروت 1913.
4_ مجلة (ܐܠܦ ܘ ܬܘ ) ، العدد الاول سنة 2000.
5_ نينابيگو ليفسكايا ،ثقافة السريان في القرون الوسطى ، ترجمة الدكتور خلف الجراد ، سوريا _ الحسكة ،1990 .