المحرر موضوع: قطار المجتمعات الإصلاحي لا يقبل مرضى النفوس  (زيارة 62 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 430
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
قطار المجتمعات الإصلاحي لا يقبل مرضى النفوس
لويس إقليمس
بغداد، في 5 ايار 2024
هناك توجهاتٌ عديدة وكثيرة تحرص اليوم على بناء علاقات إيجابية وسط المجتمعات المضطربة، منها في عراقنا الجريح وعموم بلدان الشرق الأوسط المتأثرة لغاية اليوم بأفكار رجعية متخلفة تقف سببًا في تخلف بلدانها وتأخر شعوبها وتوقّف عجلة التغيير الإيجابي والتطور والتقدم في مسيرة حياتها واقتصادياتها وصناعتها وزراعتها. فالشعوب والأمم إنّما تتقدّم وتتطور عندما يكون الإنسانُ محورَ الحدث في الحياة والنشاط اليومي وليس الدين والمذهب الذي أجازه "الله" افتراضًا وليس قسرًا. "لا إكراهَ في الدين". فالدين والمذهب وأية أيديولوجيا أخرى  يفترضُ بقيامها على خدمة الإنسان والمجتمع وليس العكس.
نقول وبكل ثقة أنه فقط بالحكمة والعقل والروية إزاء أية محاولات يائسة مدسوسة ومسيّسة في أغلبها وتقوم على خلق قيم الشكّ والكراهية والفوقية بين الأديان وحتى بين المذاهب المختلفة وأتباعها  خاصة، تستطيع المجتمعات المتمدنة والمثقفة منها على وجه الخصوص خلقَ فرصٍ عديدة ومبتكرة لنشر قيم الاعتدال والمنطق والتعايش السليم في إيمان أتباعها ضدّ محاولات ومساعي غير حضارية لا تخلو من عجائب وغرائب وترّهات بل وخرافات غير متزنة وغير معقولة في التعبير والشرح والتعليم. كما أن أية مساعي سلبية إضافية أخرى من هذا النوع المكروه بالإيغال في الفهم السيّء والتأويل الناقص الخاطئ لنصوص دينية أو تفاسير سابقة لم تعد صالحة اليوم بسبب تقادمها وزوال موجباتها التاريخية والجغرافية، قد تفسد المساعي الإيجابية المقابلة لخلق مجتمعات معتدلة متوازنة العلاقات في إطار الفهم الجادّ والنقاش المتواصل الساعي وراء بناء عالمٍ يتسم بقيم العدالة والمساواة والإنسانية في احترام عقول البسطاء ضمن محور حقوق الآخرين ومن دون خسارة في الوعي الإنساني. هذا علاوةً على القبول والتمسّك بالمعقول في التعليم والتوجيه وتبسيط الحقائق من جانبِ متولّين مكلّفين بالوعظ والتعليم والتوعية، بل ممّن يُعدّون واجهاتٍ لمراجع وجهاتٍ دينية ومذهبية مهمتُها الأساسية التوعية وتقريب المخلوق من الخالق وليس الضحك على عقله واستصغار وعيه ومقامه وعلمه. فالبشر في عصرنا هذا قد بلغ منه الوعي والفكر والعقل ما يتيح له تكذيب ما يسمعُه من ترّهات وخرافات وأكاذيب في تقديس الأفراد وفي وصف مغالِط لبعض الرموز التي لها مكانتُها واحترامُها عند العامة. فهذه من دواعي تخلّف الأمم والشعوب.
هنا يصحّ السؤال وبلجاجة: لماذا تقدمت دول العالم وشعوبُها فيما بقيت شعوب المنطقة تراوحُ في مكانها بسبب تخلّفها وزيادة الجهل في صفوف أتباعها وتراجع كلّ شيء جميل فيها. وقد يكون العراق أكثر هذه الدول تراجعًا وتخلّفًا من مثيلاته العربية والإقليمية بعد السقوط المؤسساتي في بنيته السياسية والمجتمعية والوطنية بسبب انحسار هيبته وفقدان سيادته وخسارة حضارته وغياب سائر مقوّماته التي تشكّل أساسَ بنيانه الوطني العظيم منذ الأزل. وهناك مَن يضيف أنّ من أسباب التراجع الأخرى في المنطقة سيادة الفقه الأصولي والتمدّد الطائفي الذي مايزالُ يلقي بظلاله على مجمل العملية السياسية العرجاء منذ 2003 ولغاية الساعة. فالمساعي التي قامت وما تزالُ تقوم بها مؤخرًا أطرافٌ بنهجٍ طائفيّ واضح لتحويل العراق إلى دولة دينية "ثيوقراطية" كما أعربت بعض القيادات السياسية والمجتمعية مؤخرًا، لا تمتُّ بصلة إلى أسلوب بناء دولة بمقاسات وطنية ذات سيادة وتحترم مشاعر سائر المكوّنات الأخرى المتشاركة والمتعايشة منذ القدم.
في اعتقادي المتواضع، لا بدّ لمثل هذه الجماعات محدودة الفكر والرؤية والإيمان الهزيل غير المنتج التي يغيضُها ما تحظى به غيرُها من المجتمعات المجاورة والمتشاركة في الأرض والإنسانية والمتميزة عنها إنسانيًا وأخلاقيًا وحياتيًا نتيجةً للاهتمام الواسع لهذه الأخيرة والناجم عن الانفتاح الذي يتسمُ به أتباعُها من سعة صدر واستعداد لقبول كل وجهات النظر مهما اختلفت بين الأفراد والمجتمعات، أقول لا بدّ لهذه الجماعات الهزيلة التي تسيء التقديم والتأويل والتعليم والإرشاد الكفَّ عن استغلال أتباعها بترّهاتٍ وخرافات وقصص وحكايات خارجة عن المألوف والعقل والتصوّر. كما أنها مطالبة إنسانيًا وإيمانيًا وعقلانيًا بالدخول في قطار الإصلاح من أبوابه الواسعة، بدءً من الضرورة بإصلاح الذات والموقف عبر وسائل عرض أكثر قبولاً واتزانًا في تقديم موجبات الدين والمذهب للأتباع المغلوبين. فسطوة بعض الشيوخ وأرباب المنابر واستغلال هؤلاء لمواقعهم وعناوينهم في استعطاف العامة والسذّج في مسألة المذهب والدين لا يمكن أن تدوم إلى ما شاءت الأقدار. وهي مطالبةٌ اليوم أكثر من السابق، بالسعي الحثيث لتغيير المثلوم وتعديل المعوجّ وإعادة المكسور في أسلوب تفكيرها والحكم على الأشياء في ضوء ما نسمعُه ونقرأُه ونطّلعُ عليه من أحداثٍ وتحرّكات وتصريحات وحكايات على المنابر. وهذا يتطلب من جملة الإصلاح في الفكر والرؤية والنظرة السوية بكفّ بعض الرموز المشوشة والمدسوسة بتكرار تلك اللازِمَة المرفوضة إنسانيًا وأخلاقيًا عبر تكفيرها للمجتمعات واستهزائها بأصحاب المذاهب والأديان المختلفة عنها حينما تلصق بها أنواع الشتائم والتهم الجزافية. وهذا واضحٌ أيضًا في عمومه وعلى نطاق أوسع دوليًا ومناطقيًا في فكر بعض دعاة الدين والمذهب المطالبين بوجوب رفض مَن يختلفُ عنهم دينًا ومذهبًا وفكرًا وأيديولوجيةً وفي استباحة خصوصيات مَن يوصفون بالكفار وسبي نسائهم واحتلال أراضي بلدانهم بشتى الوسائل ومنها مضاعفة النسل فيها من أجل إحلال ما يدّعيه بعض المرضى نفسيًا لبلوغ دين "الحقّ" جزافًا في مواطنها بكثرة البشر وأعدادهم. فهذه من الوسائل الرخيصة في بلوغ الأرب المشوّهَ عبر استغلال الإعلام المريض والمنابر المشبوهة في دعم هذه الأشكال من الدعوات غير المجدية.

أنظمة لا دينية تحترم الإنسان

ممّا لا شكَّ فيه، أنَّ المجتمعات السليمة المنفتحة والمتمدنة من طبيعتها أن تحترم حرية الفرد وحقوق الكائن البشري أيًا كان شكلُه ولونُه ودينُه ومذهبُه وأصلُه. وهذا ما تظهر عليه المجتمعات الغربية، والمسيحية أكثر من غيرها بفعل غياب أو ابتعاد الدور الحكومي لهذه البلدان المتقدمة طبعًا التي لا  تأبه لمسألة الدين وممارسته ولا تتخذ منه دستورًا لشعوبها، باعتباره مسألةً شخصية بين الخالق وخليقته، بين الرب ومخلوقه. وبعكسها المجتمعات المريضة التي تتسمُ بقصور واضح في فهم وإدراك هذه الحرية وتلك الحقوق بالاستناد المتزمّت إلى فقه معيّن أو نصوص دينية مكتوبة وأخرى منقولة غير مسندة أو تفاسير وتأويلات عقيمة مضى عليها الزمن وأصبحت من الماضي، كانت ملائمة في ذلك الزمن وهي لم تعد كذلك اليوم. بل زيد عليها الكثير ممّا لا يمكن تصديقُه أو قبولُه أو تفسيرُه لكونه خارج المعقول في أبسط تقديمه للعامة. أقول هذا من دون تخصيص ولا تمييز ولا اتهام. فالمسألة واضحة وضوح الشمس. فهذه في الغالب الأعمّ، تحتاج اليوم إلى إعادة نظر ومراجعة حقيقية لتنقيتها من شوائب عصرها المنقضي بكلّ قصوره ونقاط ضعفه وأيضًا من جهة إصدارها وصدورها ونقلها وجمعها وتوقيتها بمسبباتها وشروطها بالكف عن الانزلاق وراء شكل هذه الترّهات التي تُروى في المجالس والمحافل الخاصة والعامة وعلى المنابر بوعيٍ او بدونه. وهذا بديهيٌ عندما يُرادُ للمجتمعات أن تتطور وتتقدم وتزدهر. فما كان سائدًا بالأمس ومقبولاً قبل قرونٍ من الزمن قد لا يتفق ويتوافق مع حاجات البشر وتطور فكر إنسان اليوم وعقله ونضجه في عصرنا هذا. وما كان محرَّمًا بالأمس قد يتيحُه الزمن الراهن لأجل حاجة الإنسان واحتياجاته الروحية والمادية. وعكسُه قائمٌ أيضًا وممكن القبول.
إنّ الجميع مدعوون اليوم لركوب القطار السليم المعاصر بسلام وأمان وطمأنينة من دون تهريش بمحركاته الصالحة والمنتِجة، ومن غير طعن سلبيّ بقباطينه المعتدلين والإصلاحيين من خلال إلقاء اللوم وأشكال الشكوك والاتهامات على حاملي شعلة مثل هذا التطور الإيجابي الساعي لتغيير الصورة النمطية السالبة في بعض بلدان المنطقة. وهذه تُعدّ من علامات العودة إلى واقع الوسطية والاعتدال الفكري التي توجب تطوّر وتقدم شعوبها وازدهارها في مجتمعاتٍ كانت لغاية الأمس القريب ترقد صاغرة ساكتةً بين براثن التشدّد والتخلف بكلّ قساوته لغاية بروز روّاد الإصلاح الإيجابي الذين اتخذوا  القرار الشجاع بتغيير نمطية الرؤية الجامدة لواقع الحياة في مجتمعاتهم المنغلقة لقرونٍ وأجيالٍ. فقد فتحت هذه الرؤية الإيجابية الجديدة بقيادة زعامات عربية وإسلامية شابة منفتحة الذهن والفكر مستنيرين بما يبرزُه علماء وفلاسفة الإصلاح الرائد الجادّ والمتزن في وعيه وفكره وعقله، كلَّ المجالات والفرص من أجل نهضةٍ إصلاحية حقيقية في مجتمعاتها. وهذا ما دفع مشايخ شبابية تحديثية وأطرافٍ مستنيرة مثقفة ومتقدمة في الفكر والرؤية المجتمعية لإعادة النظر في فهم وتفسير وتقويم شكل تفاسير النصوص الدينية التي عفا عليها الزمن عبر تكوين رؤية جديدة منقحة تأوينية عن الأحكام والأحاديث المنقولة عبر الزمن كي تتطابق وتتسايرَ مع أسلوب الحياة المعاصرة وفقًا للمعطيات العالمية التي تسعى جميعًا لبناء الإنسان وتلبية حاجاته ومساعدة متطلبات حياته التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد آخر من دون الخروج عن جوهر الدين وأساسياته وليس قشوره، وبما يتطابقُ وحاجة الإنسان للأخلاق الرفيعة المتأصلة والآداب العامة. ومَن يفوته القطار الإصلاحي المعاصر، هو الخاسر الأكبر من اللعبة، وطنيًةً كانت أم إقليمية أم عالمية.