الرجل المريض
عندما يهرب المواطنون من بلدهم باتجاه البلدان الاخرى طالبين الامان لانفسهم وابنائهم، عندما يلتجاء المواطنين ببلدان اجنبية لكي يعيشوا بالمستوى الانساني اللائق، عندما يحتمي المواطنين ببلد اخر من جور حكامهم وابناء حكامهم، عندما تكون الثقة معدومة بين المواطنين وسلطات بلادهم، وثقة المواطنيين في قضاء بلدهم وكل الاجهزة الامنية معدومة والشكوك تحيط بكل المسؤولين وتعيش في بلدهم طبقة محدودوة العدد ولكنها تمتلك كل شئ برغم انها تدعي الاشتراكية وتؤمن بالحرية وتقول انها ديمقاطية وتطبق الشريعة السماوية، وبقية الشعب تحت خط الفقر، عندما يكون مطلوبا من المواطن اداء واجب اظهار الطاعة ونفاق المسؤولين ليل نهار، عندها يحق لنا ان نقول ان الدولة لم تعد حاجة ضرورية، بل عالة على كاهل الشعب، وليت الاستعمار يعود لعل وعسى ينصف الشعب من ظالميه وحراس سجنه الكبير المسمي الوطن.
لا اعتقد ان الوصف اعلاه بغريب على من يقراء هذه الكلمات، فهذا الوصف وحسب علمي ينطبق على اغلب الدول العربية وحكوماتها وشعوبها.
ولكن وصف حالة البلدان ليس موقفا، بل هو وصف حيادي او محاولة لرسم صورة بالكلمات، ان الموقف الصحيح هو ادراك الاسباب التي ادت الى هذه النتيجة الكئيبة واللامعقولة، فليس بخاف ان هذه البلدان تمتلك ثروات هائلة كان يجب ان تكون سبب لبناء قاعدة اقتصادية وعلمية متطورة ومجتمع مرفه خالي من الفقر ودخل معقول يجعل الانسان يعيش بغير عوز الذي يلازم غالبية السكان.
لعل اهم مؤثر يقود نحو التطور هو الفكر، والفكر لكي يكون مؤثرا يجب ان يكون حرا ولكي ينتج جديدا فيجب ان ينتقد القديم او يفكك القديم ويحاول تحليله الى عناصره واستخراج ما يعيق او لا يلائم والتطورات التي سارتها الانسانية، وهنا نجد ان الفكر في هذه البلدان محاط بالف تابو وتابو، فاغلب الامور مقدسة ولا يمكن مساسها، ولان الدين تحول الى حاضنة كل الامور والممارسات الثقافية والاجتماعية والسياسية فكل شئ تقريبا محدد في الدين والخروج عنه هو الخروج عن المقدس، فكيف بنقده وتحليله للاتيان بالبديل الملائم للعصر والمتوافق مع ما نراه من الحالة الحضارية التي يعيشها العالم الان.
برغم من ان اليابان وكوريا الشمالية والصين والهند تمتلك موروثا حضاريا كبيرا، وتمتلك اديانا كبرى يقدر عدد معتنقيها بمئات الملايين، الا ان هذه الدول لم تقطع صلتها بماضيها ولكنها تمكنت من مصالحة هذا الماضي مع العصر وعلومه وادواته النقدية، اي ان هذه الدول اخذت بالوسائل التي رأت انها المسبب للتطور ومنها الانفتاح الفكري والحريات الفردية، ولذا نرى ان هذه الدول تواكب الغرب في تقدمه وتطوره في شتى مجالات الحياة والمأمول ان تأخذ الصين موقعها في هذا الاصطفاف الى جانب الدول التي تحترم الانسان وحقوقه ولكنها لظروفها من ناحية تعدد الاثنيات والفقر والارث الدكتاتوري الطويل ولموقعها الفريد في قلب اسيا تمنح الفرصة النادرة لكي يكون تطورها في مجالات الحريات بوتيرة تساعدها على هظم شعبها الحريات هذه.
ما يحدث لدينا هو تغييب الفكر النقدي، وهذا التغييب هو لصالح الفئات الحاكمة والمتحالفة مع الاصوليات الدينية والتي قد لاتمارس الارهاب بشكله المعروف الا انها تمارس ارهابا اقوى من خلال غلق كل ابواب التي يمكن لنا الولوج منها الى التقدم والتطور بحجة مخالفتها للمعلوم من الدين.
لقد وصل هذا التحالف في بعض البلدان الى حد ان الدولة تنازلت عن صلاحياتها الدستورية لكي تمارسها المؤسسات الدينية، فالمحاكم الشرعية هي التي تخصم في كل القضايا التي تحدث في الكثير من الدول، ولا يخفي ان هذه المحاكم تستند في احكامها على الشريعة الاسلامية التي لم يجري تحديث فيها منذ اكثر من االف سنة، حتى لو اقرينا انه يحق الاجتهاد في بعض المذاهب الا ان هذا الاجتهاد يظل في الاطار الواحد المحدد بالخوف من الكفر ان تم الخروج منه. ويمكننا الاتيان بامثلة كثيرة تثبت هذا التوجه ليس لدى الدول التي تعتبر القرأن دستورها بل للدول التي تمتلك دستورا مقرا من قبل الشعب.
ان تغييب الفكر النقدي والتحالف الغير المعلن بين الفئة الحاكمة والاصولية الدينية، خنق المجتمع وجفف منابع الابداع لديه، وهذا هو المراد فلكي تحكم وتطاع فما عليك الا ان تزيد في جرعة تجهيل الشعب ونشر الخرافة والتعلق بالاخرة وتمتلك عصى غليظة يفكر الف مرة كل من يريد الخروج من الدوائر التي تحيطه والقيود التي تكبله.
ما حدث بعد ان تمكن هذا التحالف الخبيث من السيطرة والاستشراء، هو انقلاب الدوائر فبعد ان تم ضخ كم هائل من التلقين الديني الغيبي وتم السيطرة على المجتمع باسلمته واقناعه بانه الحل الوحيد لازماته التي لا تنهتي، تحول المجتمع الى حالة فريدة تخالف كل ماهو معتاد، فصار مجتمعا يرفض الحريات الفردية لانها مقرونة بنظره بالانحلال الخلقي وترك الايمان واعتناق الالحاد ان صح التعبير، وهذه هي الحالة المثلى للفئات الحاكمة لتسويق نفسها، فانها تقول وبملء الفم وبكل صراحة للدول التي تضعط باتجاه ادخال تعديلات قانونية لبنية الدولة البوليسية القمعية تتوافق مع المعايير الانسانية، ان تحقيق ذلك يعني استلام الاسلامويين السلطة، اي تخويف الدول بان البديل عنهم هو كارثة على الدول الضاغطة، لانهم انفسهم يسوقون الاسلام كحالة عدائية لا تتعايش مع احد.
لقد تم سد كل الافق للتغيير في هذه الدول ولم يبقى امام القوى التي تمكنت من ان تحصن نفسها من المد السلفي الاصول بهروبها الى المنافي، الا الاستعانة بقوى دولية لكي تساعدها في مهمتها، فالوطن عندما يتحول الى مزرعة مملوكة لفئة او لعائلة معينة لن يبقى له ذاك الاوج او القدسية التي حاولون اشاعتها في الاعلام والتي تكذبها يوميا العشرات من التصرفات والممارسات الدالة ان الجكام مسعدون للتنازل عن الكثير الكثير من اجل استمرار بقائهم على كرسي الحكم.
وهذا ما نراه جليا في مصر والعراق وسوريا وفلسطين، ولاجل استمرار الفئات الحاكمة يتم التضحية بمجتمعات وبلدان كاملة ويصح فينا القول بحق ان هذه البلدان هي الرجل المريض لهذا العصر الذي ينتظر الكل الاعلان الرسمي بوفاته، او بالطلب الجماعي من كل القوى الفاعلة في هذه البلدان انها لا تزال قاصرة عن ادارة مثل هذه المؤسسة المسماة الدولة ولذا فتطلب انتدابا يعلمها هذه الادارة عسى ولعل.[/b]