بستان الصمت
قريبا من رائحة الخمر وأيقونات الكحل المسكر, تحت سقف رسمت زخات المطر فيه المئات من الثقوب التي تنزف ألما وحسرة, بين جدران تتسلق بعضها بعضاً أملا في التصدي لهجمات العواصف الشديدة, قرب نافذة سوداء, تولد طفلة الحزن.. تبحث عن قلب.. عن جرح يشفي ما في قلبها من جرح.. تحاول كسر الطوق وإلغاء الكون والبدء من الصفر .. تخشى ان تسمي أباها "اباً " ذلك المتكئ على نصف منضدة ترقص عليها قارورة الخمر.كانت هذه الطفلة ضائعة في كومة من حطام رسم الزمن على بابها الموصد أشد الأحزان ,وتلك الحزينة لاتريد اكثر من اسم وقدمان, اسم تستطيع به ان تكون, وقدمان تسير بهما الى بستان الصمت, حيث تسكن امها.. تحت رخامة كبيرة.
لم تعرف أي اسم إلا ذلك الاسم الذي سمعته مرارا من امها قبل الرحيل, حين ودعتها قائلة لها " إلى اللقاء يا ابنتي أنا ذاهبة حيث المسيح ".
حينها وقفت مثل الصنم في ساحة الموت فهي عاجزة عن السير منذ الصغر.لكنها كثيرة الاحلام, حلمٌ يزورها صبح مساء, يطرق بابها فارسٌ من مطر, جواده من ريح, سيفه من جليد.. عبائته دونما لون, عيناه سوداوان مثل تلك النافذة الحقيرة... حلم جميع الالوان فيه سواء. يصرخ ذلك الفارس في اذنها.. اطلبي يا سيدتي ماتشائين... ودونما تفكير تقاطعه لتبدأ الحديث.
أريد اسما.. ايتها الريح, أريد اسما.. أيتها السماوات.. أريد اسما.. أدخل به الى بستان الصمت أزور به قبر امي.
أيها المختبئ في عبائته امنحني قدمين وخارطة أزور بها قلبي... أكسر فيه مرساة الخوف وأنسج منها أشرعة الحب... أيها المختبئ في عبائته قد اخبرتني أمي باني استطيع السير والسفر اذا امتلكت الحب... خذ كل ماتشاء... رغم اني لا املك شيء... بَلا... بَلا... هناك العشرات من قوارير الخمر الفارغة... أو خذ ذلك المعلق الذي تهزه الريح صبح مساء.. تلك الخشبتين اللتين طالما ركعت أمي أمامها بالبكاء.. ذلك المصلوب العاري الذي أحيانا يكسر أبي قدامه قارورة عشقه ويبدأ حينها بالبكاء.... خذ كل ماتشاء مع اني لا أملك شيئا...
يا ايها المختبئ في عباءته ضمني اليك, اغرس سيفك في قلبي واحملني إلى ذلك البستان.. أزور فيه بيت امي الجديد, اتعرف على صديقاتها وأقدم زهرة للصليب الذي يعلو منزلها. هذه وصية أمي أن أهدي الزهور للمصلوبين... للمتألمين.. للجياع.
فكم زهرة أهديتني.. كم زهرة بِتُ اطلبك, زهرةٌ لقدمي... وأخرى لجوعي... وأخرى لثوبي الذي رقعته الدموع... وأخرى لقوارير الخمر التي تمتصُ دم ابي.. واخرى... واخرى.. واخرى......
يا ايها المجبول من وهم وضباب امضي عني... اتركني مع صلباني مع ذكريات أمي, فقد حان المساء, وها هي صديقاتي النجمات تظهر الواحدة تل والاخرى لتمسح دموعي وتزيل عتمة الدار. اتركني فبيننا حديث طويل عن أمي. سوف تخبرني تلك النجمات عن الصلبان.. عن المسيح .. فأنا ابصر فيها نوراً وضياء, واشم منها رائحة الحب والكبرياء...
نجمتي الكبيرة تلك... ستحملني الى البستان حيث العشرات من اشجار الزيتون وآلاف الازهـــــــــار. إرحل يا فارس حلمي واتركني أبحر في سماواتي, فما حدثتني أمي عن الفرسان.. وإنما علمتني صلاة صغيرة" ابانا الذي في السماوات... ". دعني احفظ صلاتي, ارددها على نجماتي. وما علمتني امي الا اسما وحيد معلق فوق صليب.. فدعني أبحر في سماواتي أبحث فيها عن المسيح.
ميسر