المحرر موضوع: لمناسبة وفاة اللاعب العراقي الأسطوري "عمو بابا"  (زيارة 1174 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Farouk Gewarges

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 618
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
لمناسبة وفاة اللاعب العراقي الأسطوري "عمو بابا"

صباح صادق/ صحفي ومحرر رياضي سابقا- كاليفورنيا

أخيرا .. انطفأت شمعة عراقية رياضية، اتقدت طويلا، وحققت للعراق انتصارات رائعة، أضيفت الى تاريخه العتيد، المتخم بالرجال الكبار. هذه الكلمات وضعتها بعد أن هزني خبر رحيل هذا الكائن الذي أعطى كل ما يملك من مؤهلات ومواهب وخبرات الى العراق راضيا مرضيا.
الى روح عمو بابا، التي تحلق فوق دجلة والفرات، وتأبى الرحيل!
عمو بابا .. لاعب الكرة .. يضرب الكرة .. وكل يوم يضرب كرة..
ويوماً .. ضرب الحب، وأطلقه عاليا في سماء العراق
ظل الحب هناك .. معلقا بين الأرض والسماء ..
ولم ينزل ..!
ظن الناس، انها الشمس .. وربما القمر ..
أو نجمة جديدة .. داخل نفسه
كرة لن تسقط أبدا .. تظل معلقة في السماء
كما تعلقت روح "عمو بابا" فوق دجلة والفرات ..
أصبح أهل العراق يرونها قوس قزح، لهب، شهب ..في سماء العراق
أصبحت حبا .. أصبحت نجمة!
ليس هنالك شك، بأن رياضة كرة القدم في العراق، هي الرياضة الجماهيرية الأولى دون منازع، يعشقها العراقيون حد الهوس والجنون، يلعبها الصغار والكبار في المدارس والجامعات، في الطرقات والشوارع والملاعب الشعبية المتربة. يضخ العراق سنويا حتى وهو في محنته العصيبة هذه، موجات جديدة من اللاعبين الهواة، وهم يغذون كرة القدم بالدماء الحارة النظرة التي هي سر ديمومته.
كرة القدم، رياضة نقلها المستعمرون الانكليز عند دخولهم العراق سنة 1917، محررين لا فاتحين، حسب قول قائدهم العسكري الجنرال "مود". بقيت كرة القدم لفترة، محصورة في نطاق ضيق، بين جنود وضباط الاحتلال الانكليزي وموظفيهم في شركات النفط والبنوك الانكليزية، كالبنك الشرقي التجاري، والبنك العثماني. كانت ساحات اللعب في قاعدة الحبانية العسكرية في الرمادي، والشعيبة في البصرة، وساحة الانكليز في بغداد صوب الرصافة، ولم تتنافس مع الانكليز آنذاك، كرويا، سوى الفرق الآشورية العراقية وفي مقدمتها فريق ال C.C  الآشوري الشهير.
من الأسماء الآشورية الخالدة التي يعرفها أهل العراق تماما، كما يعرفون نبوخذنصر وحمورابي وسرجون، هم اللاعب الآشوري الأسطوري عمو بابا ويورا ايشايا وتوما عبد الأحد وناصر جكو ودكلس عزيز وآرام كرم وزيا وأديسون ايشايا وألبرت خوشابا وكوركيس وشدراك وعمو يوسف وكلبرت سامي وعمو سمسم. هذه الأسماء، جاءت بجانب أسماء دافئة أخرى، أمثال جميل عباس وجليل شهاب وفلاح حسن وأحمد راضي.
بشهادة الجميع، كان المدرب العراقي عمو بابا، من أكثر المدربين في تاريخ العراق نجاحا، وحصد انتصارات دولية كثيرة لبلاده، لا مجال لذكرها. رغم ذلك، ومما يحز في النفس، فان هذه الشمعة الرياضية التي أنارت الدرب للأجيال الرياضية "لاعبا واداريا ومدربا" طوال العقود الخمسة الماضية، كانت بين أكثر المدربين تعرضا للعقوبات (والبهدلة) والتهكم والحسد، من الوسط الرياضي الموبوء بالجهلة، لكن عمو بابا، فضل نار وطنه على جنة الأجنبي، لهذا رفض هذا المدرب كل العروض المالية الخيالية المغرية لتدريب فرق الإمارات وأبو ظبي والكويت، رفضها بكل شهامة وإباء، مفضلا تدريب فرق بلاده التي أحبها وأفنى حياته في سبيلها.
في اللحظة الأخيرة، وكما يحدث في كل مرة تقريبا، وبعد أن صار حظ الفريق العراقي في تصفيات كأس العالم والتي أقيمت قبل سنوات عديدة في قطر، أصبحت في مهب الريح، وذلك بسبب فشل المدرب المتعنتر عدنان درجال في قيادة سفينة العراق الرياضية في الدوحة، بعد أن أنهك الفريق بتدريبات اللياقة البدنية الزائدة، حيث كثرت حالات التمزق العضلي والإجهاد، علاوة على استعماله الكلمات النابية مع اللاعبين وتهديده بالعقوبات في حالة الخسارة. لقد ألقى في قلوبهم الخوف والرعب، فتدهورت معنوياتهم، وأثر في نفوسهم، فكان ذلك سببا في خسارة العراق المبكرة أمام أضعف الفرق وهي كوريا الشمالية 3-2 لصالح كوريا.
تحمل عمو بابا كعادته عبء المسؤولية الكبيرة وسافر الى الدوحة بالسيارة وهو مصاب بأزمة قلبية حادة، وقبِل التحدي الكبير، وخاطب أفراد المنتخب بكلمته المحببة (أبنائي)، وبالفعل تمكن من التعادل مع السعودية، بعد أن أحرز أحمد راضي أسرع هدف في الدورة في الدقيقة الأولى من المباراة، ولولا سوء التحكيم لخرج العراق منتصرا على السعودية، ثم تعادل مع بطل المجموعة، اليابان، لكنه كان يحتاج الفوز على اليابان لينتقل الى أمريكا.
عمو بابا، لاعب كروي أسطوري، حفر أبهامه في صلب المجتمع العراقي طيلة العقود الخمسة الماضية (لاعبا ومدربا). قال فيه شيخ المحررين الرياضيين المصري، عندما أحرز هدفا قاتلا في مرمى الفريق المصري وهو بين سبعة لاعبين من الدفاع، من حركة W ، قال: انه أعظم لاعب عراقي وعربي، ولو كان في الفريق العراقي لاعبا آخر بمهارته، لحقق فوزا على مصر عام 1957، وذلك عندما لعب الفريق المصري بقيادة اللاعب الشهير حنفي مع الفريق العراقي في ملعب الكشافة.
في محاضرة ألقاها الأستاذ ثامر محسن عن عمو بابا، في كلية التربية الرياضية في بغداد في سبعينات القرن الماضي، قال، بأن عمو بابا مدرسة كاملة في كرة القدم، ضمن المدرسة الانكليزية، كما قال: انه أعظم لاعب كرة قدم أنجبه العراق على مر العصور ودون منازع، على الرغم من وجود لاعبين مثل ناصر حنا جكو الملقب بساحر الكرة العراقية، وجميل عباس ويورا وجليل شهاب وفلاح حسن وآخرين.
توزع اللاعبون الآشوريون في الأربعينات والخمسينات، وكانوا قوة كروية ضاربة، توزعوا في العراق وفي بغداد خصوصا، وصارت الفرق الكروية تتسابق لأحتوائهم، لقاء راتب محدود بسيط آنذاك، وكان لفريق القوة الجوية العتيد حصة الأسد، لقد كان في هذا الفريق، يورا ايشايا وعمو بابا وغيرهم، وذلك بفضل رعاية وتشجيع قائد القوة الجوية آنذاك المرحوم كاظم عبادي (طيار الملك الخاص)، الذي له قول مشهور: (المنتخب العراقي، اذا ما بيه جم نصراني، ما ينفع)، لقد منح عمو بابا حينها رتبة نائب ضابط بارادة ملكية.
على ما أعتقد، انه في سنة 1954، قرر الآشوريون جمع لاعبيهم الكبار المنتشرين بين الفرق العسكرية والمدنية، لتأسيس فريق كروي آشوري واحد ينضوي تحت راية النادي الآشوري. تحقق الحلم، وتشكل الفريق، مع احتفاظ بعض اللاعبين لأماكنهم في فرقهم السابقة طلبا للرزق، فكانت أسمائهم تملأ سماء العراق والدول العربية وآسيا، لقد فاز الفريق الآشوري على جميع الفرق الموجودة آنذاك، بضمنها المنتخب الوطني العراقي. سافر الفريق الآشوري العتيد الى طهران ليلاعب نادي تاج الايراني، بطل أندية طهران لكرة القدم آنذاك، فدمره في عقر داره عندما أودع في شباكه خمسة أهداف نظيفة، أثارت الجمهور الايراني الغاضب الذي هاج وكاد أن يطبق على اللاعبين الآشوريين، لولا الحماية المكثفة له. كما تغلب أيضا على فريق شاهين الايراني، وعندما عاد الى العراق، كافأه رئيس أركان الجيش محمد رفيق عارف على هذا الفوز المشرف الذي عجز المنتخب الوطني العراقي عن تحقيقه.
بعد حين، صدر أمر من السلطات العليا بحل الفريق الآشوري، لأن وجوده القوي، وعدم قدرة المنتخب من الفوز عليه، أخذ يشكل استفزازا لمشاعر الجمهور الرياضي!؟
الذي يعاني من آلام الغربة وقساوتها، وحده يعرف لماذا تختلط في أحلامنا الوردية الجميلة، ذكريات عن العراق الذي يقيم في داخلنا. المغترب المتألم، وحده يعرف لماذا تختلط الأسماء والأشياء العراقية الأليفة مع بعضها بمزيج عجيب!
يورا الى جانب جميل عباس، وناصر جكو الى جانب فلاح حسن وعلي كاظم، دكلس عزيز الى جانب أحمد راضي وراضي شنيشل. المغترب المتألم وحده يعرف لماذا تتشابك ملوية سامراء بناقوس كنيسة العذراء مريم، ومنارة سوق الغزل بأسد بابل والثور المجنح التاريخيين، لماذا تتعانق المدرسة المستنصرية بملحمة كلكامش والجنائن المعلقة، ولماذا تتحد ساحة الانكليز وملعب الأرمن الكروي بملعب الشعب الدولي وملعب الكشافة الذي رقص عليه الآشوريون والعرب، فصنعوا سوية تراث العراق الرياضي الحديث. لماذا يتناغم اللحن الجميل لناظم نعيم ومنير وجميل بشير وسعيد شابو بصوت حسين نعمة وناظم الغزالي وصديقة الملاية وحضيري أبو عزيز وفاضل عواد وسليمة مراد ومائدة نزهت.. لماذا تختلط أصوات روفائيل بطي ويوسف بك غنيمة وكوركيس عواد والكرملي وعمانوئيل كمنو وروفائيل بابو أسحق بالجادرجي كامل، ومحمد مهدي الجواهري والسياب، والرصافي والزهاوي وحسين مردان .. لماذا يكمل الخابور والزاب، دجلة والفرات، وأهوار المنتفك والخورة وشط العرب .. لماذا يكتمل العراق ويزدهي بالعرب والكرد والآشوريين.
أيها الأحبة: صدقوني، لا تكتمل صورة العراق ولا تزدهي الاّ بقوس قزح العراقيين جميعاً. بألوانهم وأجناسهم وأديانهم وشعوبهم وقومياتهم، شعب سمكه الحضاري خمسون قرنا من العطاء والثقافة والحضارة الانسانية المثمرة. فهل تحتاج هذه الفسيفساء الجميلة الزاهية لبرهان أكبر من هذا؟