المحرر موضوع: بغداد شتاء 1986  (زيارة 1006 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Dia Dheyaa

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 94
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
بغداد شتاء 1986
« في: 21:08 08/05/2011 »
بغداد شتاء 1986

ضياء حميو
رصيٌف خَرِب يترامى على جوانب الطريق ،بضعة صبية يصبغون الأحذية الطينية للجنود.
ينهمر المطر الغض فجأة... ،كئيباً  وحلاً ،ليفتح مسامات جسد ما ..! ينزف عشقا قديما وحقلا لم يكتمل حصاده..!
ينهمر المطر على بزته العسكرية الكالحة اللون ،يرقب السيارات التي تذهب لساتر صوب الحدود، ينزف فيه وطن مؤلم.
أمراة في الخمسين ...تفترش رصيف  "كَراج النهضة"  الطيني ،طفل في العاشرة يركب زناجيل جزمات الجنود السوداء ،وآخر ينادي للشوربة:" شوربة عدس حلوة وحاره ،بيض بيض مقلي بالدهن الحر".
صبية حلوة تبيع الشاي للجنود تغمزهم ضاحكة ،يشربون اكثر من "استكان " ،يمازحونها كي تبتسم.
قد تكون آخر صبية يشاهدونها في حياتهم ،وابتسامتها هي الأخيرة ايضا.
سيدة تبيع "عباد الشمس" ...تقول  انها من بغداد..!
وآخر يكذبها: "بل هي من البصرة"...ويضيف انه رآها الاجازة السابقة في "كَراج العلاوي"
وأمضى الليلة معها بخمسة دنانير.
كلهم ينتظرون السيارت الذاهبة الى البصرة،  والبصرة تنتظر الجسد القادم من بغداد.
لم يهاجر البط هذا العام "لهور الحَمّار" ... فالقذائف الايرانية بنت اعشاشها واستوطنت المكان..!
من يدري ربما كان البط أذكى واكثر حظا بوطن حنون ورؤوف بمخلوقاته..!
يتراكض  جنود "كَراج النهضة" حول الباصات الذاهبة الى البصرة ،يستفزه منظر القطيع الذي يركض خلف باص سيوصله الى جبهة القتال حيث النهاية.
قبل قليل كان هو ايضا ضمن القطيع يركض..!
يجلس على الرصيف المتسخ بعد أن أعياه الحصول على مقعد الى الموت ...يحدث نفسه:" ما كان لي ان اشرب اكثر من نصف زجاجة".
كان بحاجة لان يستقل باصا ما... الى جبهات الموت في البصرة.
أراد أن يتصاعد الى البصرة ،أراد رصاصة يطلقها الآخر تكون وداعا اخيرا ،تدفئة ويبرد.
مرت ذكرى امرأة وسبعة ارقام لهاتف جيران العمر،ما اقسى السبعة ايام من الاجازة العسكرية
تذكّره ان الرابض في جوفه انسان ،انسان يعشق ويحلم ويقدر ان ينهي حصاد حقل في الرأس،يتحسس يده الخشنه ،ويتأكد من ان ساعته اليدوية تعمل رغم المطر، فيما عقاربها تشير الى منتصف الليل، أذنان صغيرتان  وأنف رطب  ،أرهف السمع وصار يسمع دقات قلبة التي نسيها..!
أخرج "عدم التعرض"... اليوم.. هو الاخير في الاجازة  أن لم يلتحق  سيدخل الهروب...وسيمسكون به ويعدموه وسيطالبون امه بثمن الرصاصات.
"ما أباس ان يقتلوني ويمنعوا اهلي من البكاء ويطلبوا ثمن الرصاصات ،ما أسعد "البط" وأذكاه بقراره الحكيم".
تحسس محفظة النقود التي افرغها الليلة في البار ،لم يبق سوى دفتر لأرقام تلفونات جنود لم  ولن يعودوا...!.
رقم واحد محفوظ بلب القلب لهاتف جيران العمر،سبعة أرقام كالجمر.
"ما اعظم الكأس الرابعة من "العرق"،حين يتخدر اللسان ويغدو طعمها مالؤفا ووديعا ، اكثر رأفة بمليون مرة  من هذه الوطن المر يلسعني مابين الشهقة والشهقة ".
كأس توصله  للحلم الاول لبيت منزوي خلف عمارة كبيرة، ودعه  من  بعيد  قبل ان يمضي للبار ظهر يوم الاجازة الأخير.
عب الكأس الخامسة ،تلك التي تروضه دوما ...كي يسير ضمن القطيع..!
لكن المطر المفاجئ اضاع السكرة ،وايقظ فيه أحساسه بالزمن  اليابس..!.
"يا الهي ماذا افعل بالبصرة؟! ستتسع المستنقعات  طينية مالحة ...وسيهجمون يوم غد او بعده" 
يلحظ صبية الشاي وقد غمزها جندي إنفلتت شرائط جزمته ،تبتسم وتناوله "استكان" الشاي ،ياخذه مستكينا  ويجلس قربها.
العمال المصريون ...تلك الطيبة والذلة .كم تمنى لو كان أحدهم..!
"...شوربة شوربة كويسة وحارة "
" ان لم احصل على رصاصتي الاخيرة من الآخر..! فسيان الامر على من اصوب طلقتي يوم غد.!!".
قرر ان يصوب طلقته على نفسة خلسة في المعركة ،ينتهي كل شيء دفعة واحدة ولن يفكر "بقناع الغاز" ثانية..!.
على الاقل سيترك لامه سيارة  " تيوتا كرونا " ،هدية عائلة الشهيد  من السيد الرئيس..!!
فكر في هذا الامر كثيرا ..افضل مليون مرة من ان  يموت غريقا او مطمورا في الملح ولايجدوا جثته، ويدونوه مفقودا أو اسيرا ،وتظل امه تنتظر وهمَ عودته .
صار يرتجف الان فالمطر غزير ،لطالما احب المطر في "تشرين" تلك الايام ،اما الليلة فقد ضيع منه سكرته.
اقترب من صبية الشاي ،فابتسمت له ودفعت له بعلبة سمن فارغة ليجلس عليها ،ناولته الشاي ،قال "لم يعد لديه نقود" ..! أومأت برأسها " لاعليك "،احس بالخجل ودفء انساني ،ارتشف الشاي واطرق رأسه ممتنا لها،قالت :" مطر " ،قال :" نعم ..مطر " وتمتم بكلمات لم تفهم منها شيء واكتفت بالابتسام ، فيما هو منشغل بالبحث في أحد جيوب بزته العسكرية  :". فاليكن مايكون لقد ايقظني"..!أخرج ورقة اجازة مزورة احتفظ بها للطواريء عبأها بتاريخ يوم غد ووضعها في جيبه ،نهض ملتفتا الى الصبية وهي تقول له " ترجع  بالسلامة خوية " ،نزع الساعة ووضعها بكفها ،ردت باصرار وهي تحاول ان تعيد الساعة له  " لا لا ليس ثمن الشاي" دفع يدها برفق قائلا: " ليس الشاي بل المطر "..!
 وخلال ثوان كانت تراه يغادر  "كَراج النهضة" بعيدا عن قطيع الجنود صوب الطرف الآخر من بغداد.

بغداد 1987
هامش
ظل " كَراج النهضة " احد مواقف السيارات التي يودع فيها الجنود الحياة بحدها الادنى صوب جبهات الموت التي استمرت ثمان سنوات.
عدم التعرض ـ هو ورقة الاجازة العسكرية لسبعة ايام ،بعض الاحيان في اوقات الهجوم تتأخر اشهرا وحين تأتي فهي فرصة الحياة وتأجيل الموت لايام معدودة.