المحرر موضوع: من الشروق الى السطوع حزب الدعوة وإشكاليات التأسيس والإنتشار والسلطة  (زيارة 5885 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Dr.Ali Almomen

  • عضو جديد
  • *
  • مشاركة: 1
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
من الشروق الى السطوع
حزب الدعوة وإشكاليات التأسيس والإنتشار  والسلطة

                                                                                                 د. علـي المؤمـن
                                                                             رئيس مركز دراسات المشرق العربي في لبنان

alialmomen644@hotmail.com                                                            

مراكمة الإشكاليات
حين برز إسم حزب الدعوة الإسلامية بعد عام 2003 كأحد أبرز الأحزاب الإسلامية الشيعية الايديولوجية الحاكمة في العراق؛ كثر الحديث عنه في الأوساط البحثية والصحفية والإعلامية؛ بصورة غير مسبوقة. وأحتفظ في مكتبتي وارشيفي بعشرات الكتب والدوريات والدراسات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والعربية التي درست تاريخه ومسيرته وسلوكه، وكان معظمها يعتمد في جانب كبير على ماكتبته عن الحزب في كتبي ودراساتي. ولكن وجود المصادر المتعارضة والمعلومات غير الصحيحة وغير الدقيقة الاخرى؛ جعل معظم ماكتب يثير إشكاليات وتساؤلات حول الحزب اكثر من كونه يقدم مقاربات حقيقية وإجابات.
وظلت غالبية الإشكاليات تدور حول تاريخ التأسيس والمؤسسين وطبيعة الإنتشار وعبور الحزب لحدود العراق باعتباره حزباً عالمياً، وعلاقته بالموضوع المذهبي والطائفي، أو مايعرف بالعبور على المذهبية، والتحولات في الفكر التنظيمي والسياسي للحزب، والإنشقاقات التي أدت الى تقسيم التنظيم والدعاة، وتنظيمات حزب الدعوة غير العراقية وأسباب انهيارها، وسلوك الدعوة والدعاة داخل العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وتحول الدعاة الى حاكمين.
وتزامن هذا مع إثارة الاحزاب والجماعات العراقية؛ سواء المنافسة داخل العملية السياسية في العراق الجديد، او المعارضة للعملية السياسية، لمعلومات دعائية عن حزب الدعوة؛ ساهمت في عملية رفع منسوب الإشكاليات وإثارة التساؤلات.
وساهمت أيضاً بعض مقولات الدعاة الأوائل ومذكراتهم؛ ممن انشقوا عن الحزب أو خرجوا على نظريته، ودخلوا في حالات عداء مع قيادات الحزب؛ في تراكم الحالة الضبابية على مسيرة الحزب؛ لأنها مقولات ـ في التقويم الأكاديمي ـ تتسم بالإسقاطات الشخصية غالباً.
فضلاً عن ان كثيراً من الدعاة؛ من خارج التنظيم وداخله؛ برزت لديهم أيضاً إشكاليات فكرية وسياسية؛ ترتبط بأداء حزب الدعوة بعد استلام السلطة، وعلاقة هذا الأداء بالفكر الروحي والتربوي والعقائدي والتنظيمي والسياسي للحزب، وهي إشكاليات يرون في صلبها تعارضاً بين هذا الأداء والسلوك من جهة، و نظرية حزب الدعوة وفلسفة وجوده من جهة أخرى.
ومن هنا؛ وجدت أن الأمانة العلمية والمسؤولية التاريخية تدفعاني للكتابة حول هذه الإشكاليات، ومحاولة تقديم مقاربات موضوعية حولها؛ زعماَ مني بأنني أكثر من لاحق هذه الإشكاليات ودرسها وتعمق فيها، واستطاع تفكيك معظمها؛ وهو عمل أعده تخصصياً، وقد خضت فيه منذ عام 1983؛ فكانت باكورة نتاجاتي مقالات نشرتها في العام نفسه، ثم دراسات نشرت في أواسط  الثمانينات ونهاياتها، ثم ثلاثة مؤلفات كبيرة؛ صدر الأول منها ( سنوات الجمر) عام 1993، وهو يعالج الفترة من 1957 وحتى 1986، والثاني ( سنوات الرماد)، ويعالج الفترة من 1987 وحتى 2002، والثالث ( سنوات الحصاد) ويعالج الفترة من 2003 وحتى 2006؛ اي ان المجلدات الثلاثة تدرس نصف قرن من تاريخ الحركة الإسلامية العراقية. مع الإشارة الى ان منهج الكتاب الاول ( سنوات الجمر) كان منهجاً توصيفياً تحليلياً، اما منهج الكتابين الثاني والثالث ( سنوات الرماد وسنوات الحصاد) فهو منهج مركب، اعتمدت فيه تركيباً من المنهج الوصفي التحليلي والمنهج المعياري والمنهج المقارن. ولعل هذا المنهج و نوعية المعلومات وطبيعة المادة والتحليل والتقويم؛ هي بالمجمل لاتزال تحول دون نشري للكتابين الاخيرين؛ بالرغم من انني انتهيت من الأول عام 2005، ومن تفييش الثاني عام 2009، ولاأزال اتابع اي مادة ومعلومة وتحليل له علاقة بالمرحلتين. ولكني سأرجئ نشرهما الى وقت يسمح فيه الواقع ويتحمل ماينشر. وقد ذكرت جزءاً من الأسباب في مقدمة الطبعة الرابعة من كتاب سنوات الجمر.
فضلاً عن ذلك، فان مراجعة كثير من الباحثين لي؛ عراقيين وغير عراقيين؛ ممن يريدون الكتابة عن حزب الدعوة خصوصاً، والحركة الإسلامية العراقية او مرحلة مابعد 2003 عوماً، كان دافعا آخر للمتابعة الدقيقة، الى مستوى المعلومات والمعطيات التفصيلية التي قد لاتنفع أحدا؛ سوى باحثين حفريين و صحفيين فضوليين أو دعاة بعدد أصابع اليد الواحدة. وقد قدر لي بحكم إقامتي في لبنان؛ أن أكون مرجعاً معلوماتياً وتحليلياً أساسياً لعدد من أطاريح الدكتوراه والماجستير حول الحركات الإسلامية وحزب الدعوة وبعض مؤسسيه وقادته ومرحلة العراق الجديد.
في هذه الدراسة أو الحلقات؛ سأقارب مجموعة من الإشكاليات الأساسية؛ أهمها:
1-    مراحل انبثاق فكرة حزب الدعوة، وتأسيسه، ومؤسسيه، ودعاته الاوائل، ولاسيما الفترة الممتدة حتى عام 1965، وخروج بعضهم من التنظيم و خروج آخرين على النظرية، ومساحات الإنتشار الجغرافي والتخصصي للحزب في سنواته الأولى، سواء داخل العراق أو خارجه، أو في أوساط الحوزات العلمية والجامعات.
2-    التحولات في فكر حزب الدعوة الفقهي والعقيدي والسياسي والتنظيمي، وعلاقة ذلك بفكر وأداء الشخصيات التي تسلمت قيادة الحزب، أو التي كانت الأكثر تأثيراً في مرحلة من المراحل، وهي: مرحلة السيد محمد باقر الصدر( التأصيل الفقهي والعقيدي لنظرية الشورى)، مرحلة السيد مرتضى العسكري ( الشد والجذب بين مبدإ قيادة علماء الدين وقيادة المثقفين)، مرحلة الثنائي عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي ( التحول من كون الدعوة قيادة في الأمة الى قيادة للأمة )، مرحلة محمد هادي السبيتي ( الإنفتاح المذهبي )، مرحلة الشيخ محمد مهدي الآصفي ( مرحلة تبني نظرية ولاية الفقية ومبايعة مصداقها )، مرحلة الدكتور ابراهيم الجعفري ( التشتت الفكري )، وأخيراً مرحلة السيد نوري المالكي ( ممارسة السلطة ).
3-    إنشقاقات حزب الدعوة، وعلاقة ذلك بمجموعة من العوامل؛ أهمها: طبيعة القيادة الجماعية ونوعية الهيكلية التنظيمية، وتأثير الفكر التربوي للدعوة على الدعاة، وأساليب صقل شخصياتهم كـ ( قادة للأمة) كما تقول الدعوة، وخلق حالة المسؤولية لديهم تجاه الدعوة. إضافة الى العامل الخارجي المهم، والذي برز بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
4-    الأداء الحكومي والسياسي والتنظيمي والثقافي لحزب الدعوة وسلوك أعضائه بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ومدى انسجام ذلك مع فلسفة وجود حزب الدعوة ونظريته الايديولوجية وفكره العقيدي و السياسي تحديداً. وهذه الإشكالية يطرحها الدعاة غالباً، سواء المنتظمين أو المنقطعين.
5-    إمكانيات التجديد في نظرية حزب الدعوة، والموائمة الموضوعية بين (( الحزب السياسي )) و(( الدعوة الإسلامية )) في المرحلة الحالية، أي بين حزب الدعوة كحزب سياسي، والدعوة الإسلامية كمنظومة عقائدية تبليغية؛ وذلك بسبب بروز إشكالية تقول إن (( الحزب )) نمى على حساب (( الدعوة )) بعد عام 2003، او إرتفاع منسوب ((الحزب )) وإنخفاض منسوب (( الدعوة )).
6-    إمكانيات استعادة حزب الدعوة لبعده التنظيمي العالمي، وإعادة بناء تنظيماته وأقاليمه ومناطقه غير العراقية داخل البلدان الاخرى، كما في مرحلة قبل عام 1984؛ سواء بأسماء أخرى أو بالإسم نفسه؛ مستفيداً من وجوده في السلطة ومن إمكاناته الجديدة الفاعلة؛ ليشكل ذلك سنداً متبادلاً لكل وجودات الحزب؛ وصولاً الى دخولها العمل السياسي العلني وحصولها على التراخيص الرسمية.
7-    علاقات حزب الدعوة؛ في جانبه النظري والتطبيقي، بالمنظومة الدينية الشيعية، وتحديداً المرجعية الدينية النجفية والحوزة النجفية ومبدإ ولاية الفقيه ومصداقه، لأن هذه العلاقات من أساسيات موقفه الفكري، ويترتب عليهما كثير من الإشكاليات، التي بدأت مع نشوء الحزب، وتحولت الى قضية القضايا بعد انتقال قيادة الدعوة ومعظم كوادرها وعملها المركزي الى ايران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية فيها. أي ان مبدأ العلاقة وتطبيقه بين الدعوة والمنظومة الدينية الشيعية؛ سيؤثر تأثيراً مباشراً في قوة حزب الدعوة وضعفه.
وقد أتطرق أيضاً الى إشكاليات ثانوية أو أجيب على تساؤلات ترد من بعض الباحثين؛ كما يحصل غالباً، بعد نشر الدراسة. وستكون المحصلة بإذن الله كتاباً تقويمياً لمسيرة حزب الدعوة الفكرية والسياسية؛ مكملاً للكتب الثلاثة، مع اختلاف في المنهج؛ لأن هذه الدراسة او الكتاب لن يؤرخ الى مراحل ويحللها؛ بل يقارب الإشكاليات التي رافقت حزب الدعوة ويفككها ويعالجها موضوعياً؛ منذ انبثاق فكرته (عام 1956)  وحتى مرحلة الفراغ من الكتاب ( عام 2012 تقريباً).
الدوافع الواقعية لانبثاق فكرة حزب الدعوة
      قبل أن تنبثق فكرة حزب الدعوة وتتحول الى نظرية بدائية، ثم تنظيم، ثم حزب واقعي؛ كانت مجرد فكرة في أواسط الخمسينات في رؤوس عدد من الشباب الإسلامي الشيعي الناشط؛ ممن هم في العشرينات من عمرهم أو دون ذلك. وكان وراء الفكرة مزيج من الدوافع العقلية والعاطفية التي تحفزها هموم الساحة الدينية العراقية ومنظوماتها وأساليب تفكيرها، والواقع الإجتماعي، وحالة القهر السياسي، والتمييز الطائفي، والتقهقر الميداني والثقافي لحالة الإصلاح الإسلامي، و وجود التنظيمات العلمانية الجماهيرية الفاعلة. وربما كان من أبرز حملة هذه الفكرة: السيد محمد مهدي الحكيم، والناشط الدعوي عبد الصاحب دخيل والمحامي السيد حسن شبر والشاعر محمد صادق القاموسي والسيد طالب الرفاعي والمهندس محمد صالح الاديب، وغيرهم.  وكان كل منهم يبحث عمن يشاركه الفكرة.
ومن هنا؛ فإن مجمل دوافع هؤلاء الشباب كان وراءها الشعور باللوعة والهم الكبيرين؛ بسبب التراجع الذي عاشه التيار الإسلامي الإصلاحي والتغييري في العراق؛ منذ منتصف العقد الثالث وحتى أواسط العقد السادس من القرن الماضي، والذي كان يقابله جو مشحون بالتيارات والأفكار الوضعية الوافدة، ووسط مهرجان من الحركات والأحزاب والتنظيمات العلمانية؛ والتي يبرز من بينها التيار الماركسي الذي يمثله الحزب الشيوعي، والتيار القومي الذي يعد حزب البعث أهم أركانه، ومايعرف بالتيار الوطني، الذي يعد الحزب الوطني أحد أهم قواه. وماتبقى فقد كانت أحزاب سلطة. وكان انكماش الإسلام الحركي؛ يمثل فرصة مهمة للتيارات العلمانية، ولاسيما الجماهيرية؛ بالإمساك بالساحة السياسية والإجتماعية؛ حتى في المدن التي تمثل قلاع دينية حضارية؛ كالنجف الأشرف.
وهذا لايعني إن الإنجازات الفردية وبعض الأعمال الجماعية المتواضعة كانت غائبة، إلاّ أن الذي كان غائباً هو العمل المنظم الشامل الذي يتبني عملية التغيير الشاملة في كيان الأمة؛ ولاسيما في الوسط الشيعي؛ إذ ان الحاجة إلى مثل هذا العمل كانت تبرز في أوساط المسلمين الشيعة على الخصوص؛ لأن المسلمين السنة سبقوهم إليه، فقد برزت في أوساطهم منذ نهاية العشرينات تنظيمات وتجمعات إسلامية كبيرة، كالأخوان المسلمين في مصر، وحزب التحرير في بلاد الشام، والجماعات الإسلامية في الهند وباكستان وتركيا وغيرها. ومن جانب آخر فإن الوجودات الشيعية الرائدة كجمعية النهضة الإسلامية وحزب النجف والجمعية الإسلامية الوطنية وغيرها؛ كانت تجمعات آنية تشكلت لأغراض محدودة وانتهت حال ارتفاع هذه الأغراض. أما الجماعات الإسلامية الشيعية التي تأسست في أوائل وأواسط الخمسينات؛ كحركة الشباب المسلم ومنظمة المسلمين العقائديين وغيرهما؛ فكانت هي الأخرى محدودة وذات إمكانات متواضعة تنسجم مع أهدافها، ولم تسمح لها ظروفها باستيعاب الساحة؛ وبالتالي لم تكن قادرة على القيام بمهمة إحداث تغيير شامل في الواقع الإسلامي الشيعي، لأسباب وظروف تتعلق بقيادة هذه الجماعات وخصوصيات يتميز بها العراق بشكل عام، ووضع الوسط الديني العراقي بشكل خاص.
هذا الهم الكبير الذي كان يحمله هؤلاء الشباب من علماء الدين والناشطين الإسلاميين المثقفين؛ دفعهم للتوصل الى مقاربة لعلاج للواقع؛ من خلال تبني أسلوب العمل التغييري المنظّم الشامل، بعد دراسة نظرية العمل السياسي في الإسلام، وتأريخ الأمة الإسلامية عموماً والعراق خصوصاً، وتجارب الشعوب وحركات المصلحين والوجودات الإسلامية السياسية السابقة.فكان الناتج بعد دراسة الفكرة؛ تأسيس حركة منظمة، تتحرك في المجالات كافة، وقد أسموها بـ (الدعوة الإسلامية)،  بعد مخاض عسير، استمر فترة طويلة.
وكانت الشخصية الأبرز التي ارتبط هذا التحرك الجديد ( حزب الدعوة الإسلامية) باسمها؛ هو الفقيه والمفكر الشاب السيد محمد باقر الصدر، الذي مثّل نموذجاً نادراً لعلماء الدين. أما السيد محمد مهدي الحكيم الى جانب مجموعة الحزب الجعفري: عبد الصاحب دخيل، محمد صادق القاموسي و حسن شبر، إضافة الى السيد طالب الرفاعي؛ فهم أصحاب فكرة انشاء الحزب الاسلامي الشيعي، والذي حمل اسم حزب الدعوة الإسلامية فيما بعد؛ إذ يقول السيد محمد مهدي الحكيم: أن فكرة تأسيس حزب اسلامي طرحت خلال عام 1956، واستمرت التحركات والاجتماعات التحضيرية أكثر من سنة، تباعدت فيها الأفكار وتقاربت، وتراجعت شخصيات وثبتت أخرى، وحتى تم في النهاية الاتفاق على شكل العمل وطبيعة تحرّكه. وكانت أول قضية طرحت على طاولة البحث (قبل التأسيس) هي مشروعية قيام الحكومة الإسلامية في (عصر الغيبة)، فكتب آية الله السيد محمد باقر الصدر( وهو الفقيه الوحيد بين المؤسسين) دراسة فقهية برهن فيها على شرعية قيام الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة، وكانت هذه الدراسة أول نشرة حزبية يتبناها " حزب الدعوة". ويضيف السيد محمد مهدي الحيكم: أنه عرض فكرة تأسيس الحزب في عام 1956 على السيد طالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل ومحمد صادق القاموسي؛ فكان الاربعة يعقدون الاجتماعات التداولية الأولى لفكرة لحزب، ثم اقترح السيد طالب الرفاعي مفاتحة السيد محمد باقر الصدر؛ فوافق على الفور حين فاتحه السيد مهدي، ثم اقترح السيد الصدر ضم السيد مرتضى العسكري للعمل (وكان يقيم في الكاظمية)، حيث فاتحه بذلك من خلال رسالة حملها إليه السيد مهدي الحكيم.
مقاربة تاريخ تأسيس حزب الدعوة الإسلامية وهويات المؤسسين
خلال الفترة من تموز/ يوليو وحتى أيلول/ سبتمبر 1957 عقد اكثر من إجتماع تأسيسي تحضيري في النجف الاشرف، معظمها في بيت السيد محمد باقر الصدر، وكان آخرها يعد الإجتماع التأسيسي التمهيدي الذي سبق الإجتماع التاسيسي النهائي في كربلاء. ففي تشرين الأول / أكتوبر عام 1957 (ربيع الأول 1377هـ) عقد الاجتماع التأسيسي النهائي في دار إقامة المرجع الديني الإمام السيد محسن الحكيم في كربلاء؛ بحضور ثمانية من الشخصيات، وهو الإجتماع الذي يعتبره غالبية مؤسسي (( الدعوة )) اجتماعاً تأسيسياً، فيما يعتبره مؤسسون آخرون اجتماعا تاسيسياً أخيراً. وبما إن اجتماع كربلاء قد تم فيه أداء القسم؛ فانه يعد من الناحية القانونية هو الإجتماع التأسيسي. ومن هنا فان كون بعض الشخصيات كانت من المؤسسين ومن الملتحقين بالتاسيس؛ مرده الى وجود إجتماعين، أحدهما في النجف الاشرف والثاني في كربلاء.
و الرواية الرسمية لحزب الدعوة والتي يثبتها محمد صالح الاديب و السيد حسن شبر (بالرغم من ان الأديب لم يحضر اجتماع النجف وحضر اجتماع كربلاء، بينما حضر شبر اجتماع النجف ولم يحضر اجتماع كربلاء)؛ فتعد اجتماع كربلاء تأسيسياً؛ لأن القيادة أدت فيه القسم؛ ولأن الحزب حدد يوم 17 ربيع الأول 1377هـ (12 تشرين الثاني 1957) تاريخاً لتأسيسه. ولكن هذا لايعني ان بعض المؤسسين الذين لم يحضروا اجتماع كربلاء هم ليسوا من المؤسسين؛ وهو حال السيد حسن شبر والدكتور جابر العطا دون غيرهما.
والحقيقة أن  التعدد في الروايات التي يذكرها مؤسسو الحزب ورواده وتشكيلته القيادية الأولى حول زمان ومكان تأسيس الحزب؛ يعود الى ان الإجتماعات التأسيسية استمرت من عام 1957 الى عام 1958، بل يعتقد بعضهم أن الاجتماعات التمهيدية والتأسيسية استمرت من عام 1956 وحتى عام 1959. إلا أن التاريخ الدقيق ـ وفقاً للمعطيات التي حصلت عليها من خلال مقابلاتي مع بعض مؤسسي الحزب وقادته واعضائه الاوائل؛ ولاسيما السيد حسن شبر والسيد محمد مهدي الحكيم وكثيرين غيرهما؛ هو أن الحزب تأسس في أواخر عام 1957، وان اجتماعي النجف الأشرف وكربلاء هما اجتماعان تأسيسيان، وإن من حضر أحدهما  يعد من المؤسسين.
والحقيقة؛ لم أجد تضارباً في رواية اي من المؤسسين أو الملتحقين بالتأسيس وأوائل الدعاة ( الذين كانوا في أجواء تاسيس الحزب وخطواته الاولى من 1956 وحتى 1959 )؛ لأن كل منهم ينظر الى مراحل التاسيس وخطوات العمل من زاويته وموقعه. ومن هنا تكون مهمة الباحث تفكيك هذه الإشكالية عبر تجميع الروايات وحصرها واستخلاص النتائج منها؛ وهو ماقمت به أكثر من مرة، ومنذ عام 1984؛ أي منذ البدء بتأليف كتاب سنوات الجمر.
        ونتيجة عملية البحث والتقصي هذه؛ تتلخص في ان حزب الدعوة تأسس رسمياً في تشرين الاول/ أكتوبر 1957، وان مدينة كربلاء كانت جغرافيا التاسيس الرسمي، وان مرحلة التأسيس استمرت طيلة عام 1957، وكانت جغرافيا هذه المرحلة هي مدينة النجف الاشرف، وان إسم ( الدعوة الإسلامية ) اطلق على الحزب في عام 1959، وان أصحاب الفكرة هم خمسة، أبرزهم السيد محمد مهدي الحكيم، فيما كان السيد محمد باقر الصدر محور عملية التاسيس، بينما كان عبد الصاحب دخيل الاكثر تاثيراً في البناء التنظيمي.
ومن هنا؛ يمكن التأكيد على ان المؤسسين العشرة لحزب الدعوة ( وفقاً لمعلومات ومعطيات عام 1957)، هم:
1-    السيد محمد باقر الصدر: عالم دين، 22 عاماً، مواليد الكاظمية عام 1935، وكان يدير الاجتماعات التحضيرية والتأسيسية، ويعد منظّر الحزب و الأبرز بين المؤسسين؛ باعتباره مجتهداً ومفكراً، ومحل ثقة علمية وفكرية وشخصية لدى المرجعيات الدينية والحوزة العلمية والوسط الثقافي الديني .
2-    السيد محمد مهدي الحكيم: عالم دين، 22 عاماً، مواليد النجف الاشرف عام 1935، وهو الأبرز ممن طرحوا فكرة الحزب، وكان محور المفاتحات التمهيدية مع المؤسسين، وتكمن أهميته المعنوبة والإجتماعية في كونه نجل المرجع الأعلى للشيعة الإمام السيد محسن الحكيم .
3-    السيد مرتضى العسكري: عالم دين، 43 عاماً، مواليد سامراء عام 1912، وهو اول من أدى القسم؛ باعتباره أكبر حضور اجتماع كربلاء سناً، وكان باحثاً إسلاميا معروفاً، و مؤثرا في الوسط العلمي والإجتماعي في بغداد حيث كان يقيم .
4-    السيد طالب الرفاعي: عالم دين، 29 عاما، مواليد الناصرية عام 1928، وكان متميزاً في وعيه الحركي؛ بسبب علاقاته بالأحزاب الإسلامية السابقة في تاسيسها؛ كجماعة الاخوان المسلمين.
5-    محمد صادق القاموسي: ناشط إسلامي وإداري و شاعر، 35 عاما، ولد في النجف الاشرف عام 1922،  وكانت أهميته تكمن في قربه من الشيخ محمد رضا المظفر وعمله معه، فضلا عن وعيه السياسي الذي يؤهله له عمره و خبرته في العمل التنظيمي الإسلامي؛ لاشتراكه في تاسيس الحزب الجعفري سابقا، وقد انسحب من حزب الدعوة وقيادته في وقت مبكر ( عام 1958).  
6-    عبد الصاحب دخيل: ناشط اسلامي وتاجر، 27 عاماً، مواليد النجف الاشرف عام 1930، وكان يمتلك خبرة في العمل التنظيمي الإسلامي؛ لأنه أسس مع آخرين الحزب الجعفري قبل عدة سنوات.
7-    محمد صالح الأديب: ناشط اسلامي ومهندس زراعي، 25 عاماً، مواليد كربلاء عام 1932، كانت له خبرة تنظيمية سابقة باعتباره من كوادر منظمة الشباب المسلم.
8-    السيد محمد باقر الحكيم: عالم دين، 18 عاماً، مواليد النجف الاشرف عام 1939، وهو أصغر المؤسسين سناً، وكان يمثل حلقة تاثير مهمة بين المرجعية العليا لأبيه الإمام الحكيم و أستاذه المقرب منه السيد محمد باقر الصدر.
9-    السيد حسن شبر: ناشط إسلامي ومحامي، 28 عاما، مواليد النجف الاشرف عام 1927، كان يتميز باختصاصه الأكاديمي في القانون، وخبرته السابقة في تاسيس الحزب الجعفري.
10-    الدكتور جابر العطا: ناشط اسلامي وطبيب، 29 عاما، مواليد النجف الاشرف عام 1928.
      مع الإشارة الى ان الثمانية الأوائل حضروا اجتماع كربلاء، والإثنان (التاسع والعاشر) حضرا اجتماعات النجف الاشرف التي سبقت إجتماع كربلاء؛ وكان عدم حضورهما الإجتماع الأخير بسبب السفر والعمل الطارىء.
ويعد السيد محمد باقر الصدر أبرز المؤسسين العشرة، بل ان دوره في إدارة الإجماعات التأسيسية، وتدوينه أسس الحزب، وتسميته للحزب بالدعوة الإسلامية، و حصر إدارة الملف الفقهي للحزب به؛ أفرزه مؤسساً وقائداً للحزب.
       ومن خلال إخضاع هؤلاء المؤسسين العشرة لمعايير علم الإجتماع والإجتماع السياسي؛ يمكننا الوقوف على الملامح الشكلية والجوهرية التي تميز بها حزب الدعوة عند تاسيسه:
       اولاً: ان المؤسسين كانوا يمتلكون وعيا سياسيا وحساً حركياً؛ سابقا على تأسيس الحزب، وكونهم شخصيات عاملة وناشطة إسلامياً؛ مايجعلهم يتميزون عن اقرانهم، سواء في الحوزة العلمية او في الوسط الديني.  
     ثانياً: ان 50% منهم من علماء الدين، و50% منهم اصحاب مهن متنوعة: محامي، تاجر، مهندس، إداري وطبيب. وإذا أخذنا اجتماع كربلاء بنظر الإعتبارفقط ( بحضور الشخصيات الثمانية الاولى) فسنرى ان حصة علماء الدين هي 63% مقابل 37% لغير علماء الدين. وكانت القيادة الخماسية الاولى تتكون من 80 % علماء دين، و20% من غير علماء الدين. وبقيت معادلة هيمنة علماء الدين على القيادة ومفاصل العمل حتى انسحاب السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم، وتبعه انتقال القيادة من النجف الى بغداد عام 1961 واستلام السيد مرتضى العسكري زمامها، وكان أعضاؤها الآخرون من غير علماء الدين.
       ثالثاً: إن 60 % منهم من مواليد النجف الاشرف، ومن أسر نجفية معروفة، و 40% من المدن الاخرى ( 10% كربلاء، 10% الكاظمية، 10% سامراء، 10% الناصرية). إضافة الى ان 80% كانوا يقيمون في النجف الاشرف. كما كانت جميع الإجتماعات التمهيدية والتحضيرية تعقد في النجف الاشرف، عدا ماعرف بالإجتماع التاسيسي الذي عقد في كربلاء. ومن كل هذه المعطيات يمكن الوقوف على طبيعة النكهة الإجتماعية والثقافية النجفية التي ميزت حزب الدعوة؛ وبقيت مستمرة عدة سنوات حتى انتقال القيادة من النجف الى بغداد.
         رابعاً: إن 60% من المؤسسين لم يكن لديهم اي تجارب تنظيمية سابقة، و40% كانت لديهم تجارب في تنظيمات اسلامية شيعية. ولم يكن ايا منهم على علاقة تنظيمية بأي تنظيم اسلامي سني. وهناك عضو واحد فقط ( السيد طالب الرفاعي) كانت لديه علاقات مع جماعة الاخوان المسلمين، ولم يكن منتظماً فيها. ولكن بعد اتساع الحزب وصعود كوادر جديدة، أصبح في قيادة الدعوة؛ حين انتقلت الى بغداد؛ عضو سابق في حزب التحرير (محمد هادي السبيتي)، ثم صعد عضو سابق آخر في حزب التحرير الى القيادة عام 1963 ( الشيخ عارف البصري). اضافة الى ان المؤسسين والدعاة الأوائل؛ حين كانوا يدونون أدبيات الدعوة وأسسها وتقنياتها التنظيمية؛ كانوا يطلعون على كل التجارب الحركية الإسلامية وغير الإسلامية؛ الشيعية والسنية؛ كمنظمة الشباب المسلم ومنظمة العقائديين وجماعة الاخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة الاسلامية الباكستانية. وهذان الامران هما مرد الحديث عن تأثر حزب الدعوة بالفكر الحركي السني والتقنيات التنظيمية للجماعات الاسلامية السنية.
      خامساً: ان 50 % من المؤسسين ينتمون ـ وفقا لمعايير الإجتماع الديني ـ الى الطبقة الدينية الاولى، و40% الى الطبقة الدينية المتوسطة، و10% الى الطبقة البسيطة؛ مايعطي الدعوة موقعا اجتماعيا رفيعاً جداً في الطبقة الإجتماعية الدينية. كما ان جميع المؤسسين ينتمون اجتماعيا الى الطبقة المرفهة (العليا والمتوسطة)؛ وهو مايعني انتماء مؤسسيها الى طبقة النخب الدينية والإجتماعية والنخب المتعلمة تعليماً عالياً. وهذا أصبح لسنوات طويلة جزءاً من الطقوس التنظيمية للحزب؛ إذ ظل حزباً نخبوياً يتعاطى غالبا مع طبقة المتعلمين؛ وإن انفتح في نهاية السبعينات على الطبقات الاقل تعليماً.      
وكمحصلة نهائية؛ يمكن القول؛ ان الدعاة الأوائل، ومن بينهم المؤسسون والتشكيلة القيادية الأولى؛ ينتمون الى عدة بلدان إسلامية، وأبرزهم : السيد محمد باقر الصدر (عراقي)، السيد مرتضى العسكري ( عراقي من أصل إيراني)، السيد محمد مهدي الحكيم (عراقي)، محمد صالح الأديب (عراقي)، عبد الصاحب دخيل (عراقي)، محمد صادق القاموسي ( عراقي)، السيد طالب الرفاعي (عراقي)، السيد محمد باقر الحكيم (عراقي)، حسن شبر (عراقي)، الدكتور جابر العطا ( عراقي)، الشيخ مهدي السماوي (عراقي)، الشيخ محمد مهدي شمس الدين (لبناني)، السيد محمد حسين فضل الله (لبناني)، محمد هادي السبيتي (لبناني)، الشيخ عبد الهادي الفضلي (سعودي)، السيد محمد بحر العلوم (عراقي)، الشيخ عارف البصري (عراقي)، السيد فخر الدين العسكري ( عراقي من أصل إيراني)، السيد إبراهيم المراياتي (عراقي)، الدكتور داود العطار (عراقي)، السيد عدنان البكاء (عراقي). ثم انتظم في الحزب في السنوات القليلة اللاحقة شخصيات أخرى؛ كالسيد علي العلوي ( عراقي من أصل إيراني)، السيد محمد كاظم البجنوردي (ايراني)، السيد هاشم الموسوي (عراقي)، الشيخ محمد مهدي الآصفي ( عراقي من أصل إيراني)، الشيخ سهيل نجم (عراقي)، كاظم يوسف التميمي (عراقي)، السيد كاظم الحائري ( عراقي من أصل إيراني)، الشيخ مجيد الصيمري (عراقي)، السيد علاء الدين الحكيم ( عراقي)، السيد محمد حسين الحكيم ( عراقي)، السيد محمد محمد صادق الصدر (عراقي)، عبد الزهرة عثمان (عراقي)، الشيخ علي الكوراني (لبناني)، الشيخ محمد علي التسخيري ( عراقي من أصل ايراني)، السيد عارف الحسيني (باكستاني)، السيد علي النقوي (باكستاني)، الشيخ سليمان المدني (بحريني)، الشيخ عبد الامير الجمري (بحريني)، السيد عبد الله الغريفي ( بحريني)، الشيخ عيسى قاسم (بحريني)، السيد سامي البدري (عراقي)، حامد المؤمن ( عراقي)، عمران الطريحي (عراقي)، السيد علي الامين ( لبناني)، هادي شحتور (عراقي)، قاسم عبود ( عراقي)، حسين جلوخان (عراقي)، نوري طعمة (عراقي)، السيد عبد الرحيم الشوكي (عراقي)، مهدي عبد مهدي ( عراقي)، مهدي السبيتي ( لبناني)، الشيخ مفيد الفقيه (لبناني)، الشيخ حسن عبد الساتر( لبناني) السيد عبد المنعم الشوكي (عراقي)، السيد عبد الأمير علي خان (عراقي)، علي الاديب ( عراقي)، السيد عبد الكريم القزويني (عراقي)، الشيخ مهدي العطار ( عراقي من أصل إيراني)، الشيخ عفيف النابلسي ( لبناني)، السيد نور الدين الاشكوري ( عراقي من اصل إيراني)، السيد عباس الموسوي (لبناني)، الشيخ محمد يزبك (لبناني) والشيخ صبحي الطفيلي (لبناني).  
كما إن رموز التيار الشيرازي في كربلاء؛ كالسيد محمد الشيرازي ( عراقي من أصل إيراني) والسيد حسن الشيرازي ( عراقي من أصل ايراني) والسيد مرتضى القزويني ( عراقي من أصل ايراني)؛ دخلوا في حزب الدعوة أيضا لفترة قصيرة خلال عام 1958؛ أي في زمان مرجعية الإمام السيد مهدي الشيرازي في كربلاء، وقبل إعلان السيد محمد الشيرازي عن اجتهاده وطرح مرجعيته؛ إلا انهم انسحبوا من الحزب؛ لأسباب ترتبط بنظرة رموز هذا التيار لدورهم؛ والإعتراض على إناطة مسؤولية تنظيم كربلاء الى شخص غير معمم ( محمد صالح الاديب).
وهو ماينطبق أيضا على التيار الخالصي؛ حيث كان رمزه الشيخ مهدي الخالصي الذي تزعم التيار بعد وفاة والده الشيخ محمد الخالصي وغيره؛ أعضاء في الدعوة في مطلع ستينات القرن الماضي.
وهناك شخصيات ظلت طيلة حياتها تعمل في أجواء الدعوة وتحتضن الدعاة وتنظيماتهم؛ ولكنها لم تنتظم في الحزب؛ كالشيخ محمد باقر الناصري والسيد قاسم شبر والشيخ حسين البشيري والسيد جواد شبر وأحمد امين وكثير غيرهم.
وهناك شخصيات أخرى من الكويت و السعودية؛ لايقل عمرها في حزب الدعوة أو أهميتها عن هذه الشخصيات الوارد ذكرها هنا؛ الا ان الواقع السياسي لهذين البلدين يجعل أسماءها تبقى طي الكتمان؛ بالرغم من ان معظمها ترك الحزب وتنظيماته.
عقائدية حزب الدعوة وعالميته
     لقد كانت هناك ركيزتان أساسيتان لنظرية حزب الدعوة الإسلامية وفلسفة وجوده:
   الأولى : العقائدية؛ فقد تاسس حزب الدعوة وفقاً لغايات عقائدية، وعلى أساس نظرية فقهية؛ فهو حزب مهمته الدعوة للإسلام، وبناء الكتلة الإسلامية العقائدية المغيرة للمجتمع، والتي تقوم بتعميق البعد العبادي والروحي والتربوي والثقافي والسياسي للجماهير؛ وصولاً الى قدرته على استلام السلطة في بلد من البلدان وتأسيس الدولة الإسلامية. وقد جاء في إحدى نشرات الحزب الداخلية التي دونها السيد محمد باقرالصدر: ((إن اسم الدعوة الإسلامية هو الاسم الطبيعي لعلمنا، والتعبير الشرعي عن واجبنا في دعوة الناس الى الإسلام. ولا مانع أن نعبّر عن أنفسنا بالحزب والحركة والتنظيم، ونحن دعاة الى الإسلام، وأنصار الله، وأنصار الإسلام، ونحن حركة في المجنمع وتنظيم في العمل. وفي كل الحالات نحن دعاة الى الإسلام، وعملنا دعوة الإسلام. وسبب اختيارنا له يعود الى مشروعيته أولاً، وفائدته ثانياً)).
      الثانية: العالمية؛ فقد أكدت أدبيات الدعوة على إن المرحلة الرابعة من مراحل حركة الدعوة هي حاكمية الإسلام، اي تاسيس الدولة الأسلامية في أحد الأقاليم، ومنها يقوم الحزب بالإنطلاق الى بناء الدولة الإسلامية الكبرى التي تضم الجغرافيا الإسلامية دون حدود.
كما إن انتماء مؤسسي الدعوة واعضائها الأوائل الى عدة بلدان إسلامية؛ يؤكد طبيعة تحرك الدعوة ومساحتها؛ إذ انهم كانوا يطرحون "الدعوة" باعتبارها حركة اسلامية عالمية؛ انسجاما مع عالمية الاسلام، وشانها شان الحركات الاسلامية الكبرى، او الحركات الايديولوجية العربية والعالمية، وليست حركة عراقية محضة؛ وإن كان العراق يمثل محور هذه الحركة وركيزتها؛ وكأن حزب الدعوة بذلك  يريد تكريس العراق قاعدة ومحوراً للتحرك التنظيمي الاسلامي الشيعي، في مقابل الحركة السلفية التي ترتكز الى مرجعية العربية السعودية، وجماعة الاخوان المسلمين التي ترتكز الى محورية مصر. وبذلك فان هذا البعد العالمي للدعوة مثّل اضافة نوعية للعراق؛ الذي أصبح مركزا للأطراف التنظيمية الشيعية في المنطقة، حيث تأسس لحزب الدعوة ابتداء من منتصف الستينات فروعا قوية في معظم البلدان التي يتواجد فيها الشيعة، وهي ظاهرة جديدة بالكامل لم يعرفها التاريخ الشيعي من قبل.  
وقد إصبحت الشخصيات التي أسست الدعوة والتي انتمت اليه فيما بعد؛ أصبحت بمرور الزمن؛ النخبة الإسلامية الشيعية العربية التي قادت الواقع الإسلامي الشيعي في البلدان العربية؛ بالرغم من ان الكثير من هذه الشخصيات قد ترك العمل التنظيمي والحزبي، ولكنه يبقى في النتيجة خريج مدرسة الدعوة؛ والتي أصبحت فيما بعد تمثل التيارالمنظم في مدرسة السيد محمد باقر الصدر. فعلى سبيل المثال إذا أخذنا المرجعيات الدينية، فسنجد ان اربعة من مراجع الدين كانو اعضاء في حزب الدعوة: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد محمد صادق الصدر، السيد محمد حسين فضل الله والسيد كاظم الحائري. كما إن عشرات الفقهاء والمجتهدين واساتذة البحث الخارج في الحوزات العلمية؛ كانو أعضاء في الدعوة.
ثم إذا أخذنا العراق ولبنان والبحرين كنماذج جغرافية؛ سنجد إن معظم قادة الحركات الاسلامية وكوادرها والناشطين الاسلاميين كانوا من الدعاة. ففي العراق نرى ان معظم القادة السياسيين الإسلاميين الشيعة بعد سقوط نظام صدام عام 2003 ؛ كانو أعضاء في حزب الدعوة؛ فالإسلاميين الأربعة الذين تعاقبوا على رئاسة مجلس الحكم؛ ثلاثة منهم كانوا اعضاء في الدعوة: الدكتور ابراهيم الجعفري، السيد محمد بحر العلوم والسيد عزالدين سليم. وكذا الشخصية السياسية الإسلامية الأبرز بعد السقوط؛ اي السيد محمد باقر الحكيم؛ كان من الدعاة الأوائل. ثم تعاقب على حكم العراق اثنين من الدعاة: الدكتور ابراهيم الجعفري والسيد نوري المالكي. وهكذا عشرات الوزراء ومئات النواب وكبار المسؤولين.
اما في لبنان؛ فيكفي أن معظم مؤسسي حزب الله، و جميع الأمناء العامين الذي تعاقبوا على قيادة الحزب: الشيخ صبحي الطفيلي، السيد عباس الموسوي والسيد حسن نصر الله؛ كانو اعضاء في حزب الدعوة ، فضلا عن القائد العسكري لحزب الله السيد عماد مغنية، و رئيس شورى حزب الله الشيح محمد يزبك، و نائب الامين العام الشيخ نعيم قاسم، ورئيس المجلس السياسي السيد ابراهيم امين السيد ، ورئيس كتلة حزب الله في البرلمان السيد محمد رعد، ومعظم وزراء الحزب الذين دخلوا الوزرات المتعاقبة، وكثير من أعضاء المجلس السياسي وأعضاء البرلمان، و كثير من القادة الامنيين والعسكريين. وبعيداً عن حزب الله؛ فان كثيراً من قيادات حركة امل السابقة ( قبل تشكيل حزب الله) كانو أعضاء في الدعوة. أما الشخصيتان الدينيتان والفكريتان الأبرز بعد السيد موسى الصدر؛ فكانا ـ قبل إعتزالهما التنظيم ـ من قيادات حزب الدعوة: رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله؛ بالرغم من انهما متعارضين في مجمل المواقف داخل الساحة اللبنانية، وانتهت علاقتهما بالقطيعة الكاملة منذ اواخر الثمانينات. بل حتى الشخصيات المعارضة التي برزت ضد مايعرف بـ (الثنائية) التي حكمت الواقع الشيعي اللبناني ( حركة امل وحزب الله)؛ فقد كانوا أعضاء في الدعوة؛ كالشيخ صبحي الطفيلي والسيد علي الامين وغيرهما.
وحين نصل الى البحرين؛ سنجد الأمر يتكرر نفسه؛ ابتداء من مؤسس تنظيم الدعوة في البحرين الشيخ سليمان المدني رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية، ومعظم أعضاء البرلمان من الاسلاميين الشيعة في السبعينات، ثم بعض الوزراء؛ وصولاً الى معظم قادة وأعضاء المجلس العلمائي، وكثير من مؤسسي حركة الوفاق وقادتها وكوادرها، وكثير من الحركات والجمعيات الأخرى في داخل البحرين وخارجها.
انتشار حزب الدعوة
لقد مارس حزب الدعوة نشاطه (التنظيمي السري) بشكل واسع بعد انقلاب 14 تموز 1958، حين فسحت حكومة قاسم المجال أمام العمل العام؛ الثقافي والإجتماعي والحزبي والسياسي، وانتشرت موجات الإلحاد والأفكار الوضعية؛ فكانت الحاجة لمكافحة هذه الموجات والتيارات من قبل الحركة الإسلامية، والسعي لبناء المجتمع عقائدياً تمهيداً لإقامة الحكومة الإسلامية، تأخذ شكلاً آخر.
ولم يأت تأسيس (الدعوة) كرد فعل على مجريات الأحداث والوضع الذي أفرزه انقلاب 14 تموز / يوليو، أو المد الشيوعي، أو ليكون حزباً في مقابل الأحزاب الأخرى، بل اعتبر مؤسسوه أنه ضرورة بعيدة المدى، فوضعوا له أهدافاً أساسية بعيداً عن الأجواء الانفعالية والمؤثرات الآنية.
في المرحلة التغييرية الفكرية التي بدأت بعد الخطوات التأسيسية الأولى، انطلق حزب الدعوة الإسلامية يشق طريقه وسط ضغط التيارات المختلفة والظروف الصعبة، إضافة الى استهجان وعدم رضى بعض اتجاهات التيار الديني التقليدي، والترقب الحذر للآخرين. وانبرى الأعضاء الأوائل يوسعون صفوفهم وينشرون تنظيمهم، فوجدوا أرضية خصبة في أواسط علماء الدين وطلبة الحوزات العلمية في النجف الأشرف وغيرها، وطلبة الجامعات والمعاهد (الرسمية) في بغداد والبصرة والموصل وغيرها. وحظي هذا التحرك الجديد بالدعم من قبل المرجعية الدينية العليا المتمثلة بالإمام السيد محسن الحكيم، وكبار المجتهدين كآية الله الشيخ مرتضى آل ياسين وآية الله السيد إسماعيل الصدر وآية الله الشيخ محمد أمين زين الدين.
أما آية الله الشيخ محمد رضا المظفر؛ الفقيه الإصلاحي الذي رحل ( عام 1958) تزامناً مع مرحلة ظهور حزب الدعوة؛ فإن مدرسته الإصلاحية ساهمت بشكل كبير في تسهيل انتشار الدعوة وتنميتها؛ لأن الدعوة وجدت قاعدة جاهزة من أبناء هذه المدرسة؛ اعتمدت عليهم في تحركها. حتى ان كلية الفقه في النجف الأشرف التي أسسها الشيخ المظفر؛ كانت بؤرة لعمل الدعوة ولتخريج الدعاة الجاهزين للتحرك.
ومن هنا فان مدرسة حزب الدعوة الإسلامية في التغيير والإصلاح؛ يمكن ان نجد جذورها في أفكار وتوجهات زعماء حركة الإصلاح الإسلامي المعاصر في العراق في العقود الستة الاولى من القرن العشرين الميلادي؛ كالسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ محمد رضا المظفر والسيد محسن الحكيم وغيرهم. إضافة الى تأثر بعض رموز الدعوة بالفكر الحركي والنهضوي لشخصيات اسلامية سنية؛ كالشيخ حسن البنا وسيد قطب والشيخ محمد تقي النبهاني ومالك بن نبي.  
لقد بدأ تاريخ الدعوة في فجر أحد أيام عام 1956، وانطلق في ضحى احد ايام عام 1957، و اخذ يدون اولى مراحله في ظهيرة عام 1958، وكانت هذه السنوات الثلاث عي مرحلة البزوغ والشروق. وفي عقدي الستينات والسبعينات؛ كانت مرحلة السطوع، واستمرت في لبنان حتى عام 1982، حيث كان غروب حزب الدعوة اللبناني، وفي ايران في العام نفسه، وفي الكويت حتى عام 1983، وفي البحرين حتى عام 1984، وفي باقي دول الخليج ( السعودية، عمان والإمارات) في اواسط الثمانينات، وفي باكستان أواخر الثمانينات، وفي افغانستان في عامي 1988 ثم 2003. لقد غربت تنظيمات حزب الدعوة في هذه البلدان وهي في أوج سطوعها، وبظاهرة لامثيل لها في أحزاب العالم الجماهيرية؛ سوى ماجرى على حزب الرفاه (بقيادة السيد نجم الدين أربكان) بقرار القيادة العسكرية في تركيا.
ولم يبق من اقاليم حزب الدعوة سوى إقليم العراق؛ الذي تمكن بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003؛ من إعادة بناء نفسه ولملمة خطوطه داخل العراق، بعد عودة قيادات الحزب وكوادره من المنافي، والظهور كأبرز الأحزاب الحاكمة.
وإذا أردنا أن نكشف من خلال معيار حجم التنظير الفكري والفعل التنظيمي؛ عن أهم الشخصيات القيادية التي كانت اكثر تأثيراً في مسيرة حزب الدعوة؛ فيمكن أن نصنفها مرحلياً على النحو التالي:
1-    المرحلة التأسيسية ومابعدها ( 1957- 1961): السيد محمد باقر الصدر ثم عبد الصاحب دخيل ثم السيد مهدي الحكيم.
2-    المرحلة الثانية ( 1961- 1963 ): عبد الصاحب دخيل ثم السيد مرتضى العسكري ( بالرغم من أن العسكري كان رسميا هو مسؤول اللجنة القيادية).
3-    المرحلة الثالثة ( 1963-1971 ): عبد الصاحب دخيل ثم محمد هادي السبيتي (ترك السيد مرتضى العسكري مسؤولية اللجنة القيادية عام 1963، ولكنه بقي في الحزب).
4-    المرحلة الرابعة ( 1971- 1974 ): محمد هادي السبيتي ثم الشيخ عارف البصري ( قتل عبد الصاحب دخيل بين أواخر عام 1971 وعام 1972 في معتقلات نظام البعث العراقي، وهجر محمد هادي السبيتي العراق في عام 1971 الى لبنان).
5-    المرحلة الخامسة ( 1974- 1979): محمد هادي السبيتي (أعدم الشيخ عارف البصري على يد نظام البعث العراقي عام 1974، فأصبحت القيادة حينها موزعة بين لبنان والكويت).
6-    المرحلة السادسة ( 1979 – 1989): الشيخ محمد مهدي الآصفي ( بالرغم من أن هذه المرحلة شهدت تذويب واقع القيادات الفردية والعمل بمبدإ القيادة الجماعية المنتخبة. وفي هذه المرحلة ولأول مرة في تاريخ الحزب؛ تقيم معظم قيادات الدعوة في بلد واحد؛ هو ايران)
7-    المرحلة السابعة ( 1989 – 2002 ): تشتت مركزية القيادة ( في هذه المرحلة أخذ نجم الشيخ محمد مهدي الآصفي يأفل بالتدريج، مقابل صعود نجم الدكتور إبراهيم الأشيقر ( الجعفري) وعلي الأديب؛ فأصبح هذا الثلاثي أبرز شخصيات الدعوة حتى تجميد الآصفي نفسه في قيادة حزب الدعوة عام 1997. ثم أفرزت المرحلة اللاحقة بروز الثلاثي: الدكتورابراهيم الجعفري ثم علي الاديب ثم نوري المالكي).
8-    المرحلة التاسعة ( 2002 – 2007 ): الدكتور ابراهيم الجعفري ( وهي المرة الاولى التي تجتمع فيها قيادة حزب الدعوة في بلد واحد؛ هو العراق. وفيها يتسلم ممثل حزب الدعوة والقيادي الأبرز فيه ابراهيم الجعفري منصب رئيس مجلس الحكم الانتقالي ثم نيابة رئاسة الجمهورية ثم رئاسة الوزراء).
9-   المرحلة العاشرة ( 2007- ... ): نوري المالكي ( وهي المرة الاولى التي يتم فيها انتخاب قيادة الحزب في مؤتمر علني، ويستحدث فيه منصب الامين العام. وإثر انتخاب رئيس وزراء العراق نوري المالكي أميناً عاماً للحزب؛ انسحب ابراهيم الجعفري من الدعوة وأسس حركة مستقلة ).            
ولابد أن نشير هنا الى أن مرحلة الإنشقاق الأهم في تاريخ حزب الدعوة عام 1981؛ عزلت محمد هادي السبيتي والشيخ علي الكوراني عن القيادة؛ واللذين كانا من أبرز المنظرين لفكر حزب الدعوة، وأفرزت السيد هاشم الموسوي كأهم منظر لفكر الحزب؛ إذ بقي في موقعه هذا حتى عام 1999، وهو عام الإنشقاق الكبير الثاني في الحزب؛ والذي تاسس إثره حزب الدعوة ـ تنظيم العراق؛ وانتخب السيد هاشم الموسوي فيما بعد اميناً عاماً له.
لقد استطاع حزب الدعوة بعد تأسيس العراق الجديد عام 2003؛ من الظهور كأحد الاحزاب الرئيسة الحاكمة؛ بل أهمها؛ ولكن هل هذا يعني إن حزب الدعوة في العراق لايزال يعيش مرحلة السطوع؟! للإجابة على هذا السؤال حلقة أخرى وحديث آخر..