الكنيسة والسياسة والقومية
عندما تختلط المهام
[/b]
الأب بشار متي وردة
أستاذ الأخلاق في كلية بابل
يتسأل كثيرون اليوم: هل يحق للكنيسة أن تُقحِم نفسها في جدالات ونقاشات تتعلق بالسياسة والقومية؟ بالطبع سيكون الجواب: لا ليس من حق الكنيسة ذلك ولا يتوقع مؤمنيها أن تُنصِبَ نفسها مرجعية في شؤون السياسة والاقتصاد والقومية فذلك يُناقض جوهر رسالتها.
فرسالة الكنيسة شاملة وليس لها حدود جغرافية تُحدد نشاطها "إذهبوا وبشروا كل الأمم ... (متى 28:19). لقد كُلفت بأن تشهد لبشارة يسوع في جميع الأمم، وما بين حضارات وثقافات مُنفتحة وفاتحة أبوابها للجميع دون استثناء، مُقيمة عظيماً ثقافة وحضارة الجميع. إنجيل يسوع المسيح خبر سار يفتح آفاقاً واسعة أمام الإنسان، ويسنده في إنفتاحه على الآخر فلا يخاف اختلافه، بل يُحاوره لينتعش اللقاء، فينضج الإنسان في إحساسه بمسؤولياته والتزاماته تجاه الآخر، الخليقة والأجيال القادمة. الكنيسة تعمل إنطلاقاً من ثوابت لا تتغيّر بتغيّر الظروف والمكان، لأن الإنسان يبقى مُحترماً في كرامته، وتلتزم الكنيسة بالدفاع عنها بعيداً عن أية مصالح سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية.
فيما يُؤخذ على جدالات ونقاشات السياسة والاقتصاد مرونة عالية في تغيّر ما تدعي أنها من الثوابت، فحلفاء اليوم قد يكونوا أعداء الغد، وهذه ظاهرة طبيعية جداً. ناهيك عن أن نقاشات القومية تميل إلى التحديد والحصر حتى وإن إدعت أن العالم قرية صغيرة، فهو كذلك ولكن إنطلاقاً من أرض وزمان مُعرّفة، وهو ما يتعارض وتوجهات الكنيسة. فأنا كاهن للجميع دون استثناء، وأتقاسم التأمل في كلمة الله وعيش بشارة يسوع مع كل مؤمن دون تمييز عرقي أو طائفي أو قومي. رعيتي تستقبل الجميع وأنشطتها موجهة لكل مَن يُريد اللقاء بيسوع المسيح مُخلصاً. إني أقف أمام رعيتي مُمثلاً لا نفسي وجماعتي وشعبي وأمتي، بل كنيسة يسوع المسيح كلها. ويوم يتحسس المؤمن لأي نبرة قومية أو طائفية أكون ممن مَن يُشاركون في صلب يسوع من جديد ورفعه بعيداً عن هذا وذاك.
ولكن كيف انتهت بنا الأيام لتكون الكنيسة منبراً لتصريحات سياسية وقومية التوجه؟ مَن يتحمل مسؤولية ما يحدث الآن؟ وما هو ثمن ذلك؟ ومَن سيدفع الثمنَ؟
واقع شعبنا واقع فريد من نوعه، فلسنوات طويلة تعاملت الدولة بشكل قاسٍ مع الأنشطة السياسية التي لا تخضع لسيطرتها المُباشرة فمنعت أي نشاط سياسي وحاربته دون هوادة. وأجبرت الكنيسة على أن تلعب دوراً لم يكن ضمن نطاق مسؤولياتها: أن تكون مُحامية حقوق المسيحيين ومارست ذلك وفق الحدود التي رسمتها لها الدولة. رغم ثُقل المسؤولية وجسامة هذا العمل إلا أننا لا نُنكر أن بعض رجالات "تونسوا" لمثل هذا الدور وراح البعض يُعلن الولاء المُطلق للدولة وأجهزتها ويُدافع عن سياساتها، حتى أنهم البعض منهم عُرّف بالدولة.
اختلفت الظروف وتغير نظام الحكم وهي ظاهرة طبيعية في السياسة والاقتصاد. وكان الأجدر بالكنيسة أن تُعلن إنسحابها من هذا المجال سريعا وتهتم بشكل مُركز بالرعية وشؤونها ومشاكل مُتراكمة شكلت حملاً ثقيلاً على الكنيسة، وتتأسف في ذات الوقت على الدور الذي أُجبرت على أن تلعبه سابقاً وعلى الأخطاء التي رافقت ذلك. وكان حرياً بسياسينا المسيحيين أن لا يطرقوا أبواب الكنيسة طالبين دعماً لتوجهاتهم وقضاياهم المُتشعبة، وتصديقاً لطُروحاتهم الفتية في خطوة لنيل ثقة رجال الدين ومن ثمة أصوات الناخبين وهي هدفهم الأول والأخير بالطبع، رغم أن أصوات الناخبين هي حق طبيعي للساسة وتشرعه القوانين، ولكن يجب أن لا يكون على حساب بشارة الكنيسة ورسالتها.
لقد سقطت الكنيسة في فخ السياسيين الذين أرادوا منها أن تُقدمهم للمؤمنين عوض أن يُقدموا هم أنفسهم من خلال سيرتهم النضالية وبرنامجهم الحزبي وتطلعاتهم السياسية للدفاع عن حقوق الشعب وقضاياه. لقد اكتشف بعض الساسة أن الكنيسة هي أقرب طريق لأصوات الناخبين وللكرسي النيابي، فراح يقترب من رجالاتها في مسعى منه لنيل ثقتهم، وبالتالي تأيدهم له. واتفق ذلك بالطبع مع تكاسل وتنكر الكنيسة في مواجهة تحديات الواقع الغامض والمُتشعِب لمؤمنيها فراحت تواصل اللعبة القديمة.
والحال أن الكنيسة هي التي ستدفع الثمن. لأنها بدأت تفقد ثقة المؤمن الذي بدأ يتعرّف على هيئة جديدة للكنيسة من خلال تصريحات سياسية نارية وخُطبٍ قومية، عوض أن يسمع بشارة يسوع له في واقعه. خُطب يتوقَع المؤمن أن يسمعها من ساسة ومُحللين اقتصاديين وخُبراء في التاريخ والشؤون القومية. ولن يتألم كثيراً أو يتفاجأ إذا ما تغيّرت غداً أو تساقطت مثلما تتساقط كل الشعارات السابقة. كيف للمؤمن أن يثق برسالة الكنيسة وهي تُلتزم الظاهرة السياسية والتي كثيراً ما تُرخص الإنسان وتجعله رقماً في حساباتها عوض أن يكون كرامة وحياة تُصان وتُحترم.
نتوقع من الكنيسة اليوم أن تُعلن إنسحابها مُبكراً، وتترك الساحة السياسية والجدالات القومية للمُختصين في هذا المجال. ننتظر من الكنيسة أن تُشجع سُبل الحوار البناء ما بين أبنائها، وتُعينهم في اللقاء رغم الاختلاف، فلا تلتزم طرفاً على حساب آخر، ولا نريدها محسوبة على هذا التجمع أو ذاك التوجه، إلا لبشارة ربنا يسوع الذي تحدى صريحاً توجهات رؤساء وشيوخ الشعب اليهودي ليدعو جميع الأمم للقاء الله الآب.
وندعو الساسة والمُختصين في شؤون القومية أن يتعاملوا بصدق مع الكنيسة ولا يستغلوا نطاق عملها ليُقحموا "أجندتهم". لهم أن يستفيدوا من وثائق الكنيسة وأدبياتها، على أن لا تكون الدليل المُطلق في أراء وبحوث ما زال البحث متواصلاً فيها. فلا ننسى أن كل أدبيات الكنيسة جاءت إنطلاقا من نظرة إيمانية مسيحية حددت الطرح والبحث والنقاش والاستنتاجات. لهم الحق أيضاً في أن يسألوا الكنيسة العون في فتح أبواب الحوار للوصول إلى رؤية مُشتركة على أن لا تتبنى الكنيسة هذه العملية إجمالاً، بل تُنشط وتحث وتُشجع. فلن يكون بيننا مَن يمتلك الحقيقة كلها، بل ترانا نسعى جاهدين لتلمس الطريق إليها. وربنا يُبارك مساعي الجميع.