الميثاق القومي الآشوري 1932
سابقة متقدمة للنظام الفدرالي في العراق
الدكتور: عوديشو ملكو آشيثا بعد ان اصبحت مسألة استخراج النفط العراقي تجارياً حقيقة واقعة, وبعد ان قزّمت بريطانيا قضية الآشوريين في العراق تدريجياً من وعود بإقامة دولة قومية آشورية في وطنهم العراق، الى مشروع الحكم الذاتي، وبعدها الى مشروع الاسكان الجماعي لهم في مناطق من لواء الموصل. ومن ثم الى محاولة اقناعهم بالقبول بحالة الإسكان المتفرق, ومنه الى النكبة القتل والطرد والتشتيت في سميل. في تلك الاثناء قدم الآشوريون وحتى الاكراد طلبات كثيرة الى اللجنة الدائمة في عصبة الامم معربين عن قلقهم الكبير حول المصير الذي ينتظرهم في عراق إذا تخلص من الانتداب البريطاني. وكانت النتيجة دائماً اهمال تلك الطلبات والاعتراضات حتى دون النظر اليها. وكرّد فعل آشوري على ذلك، قدم ضابط الارتباط الآشوري داود بيت مار شمعون، الى السيد براون القائد البريطاني لقوات الليفي، مذكرة موقعة من قبل جميع ضباط الليفي الآشوريين في العراق معلنين فيها استقالتهم الجماعية عن تشكيلات ذلك الجيش. مما جعل البريطانيين في وضع صعب فلجأوا الى البطريريك مار ايشاي مرّة اخرى طالبين تدخله الشخصي لسحب الاستقالات لقاء وعود جديدة للآشوريين. فكان لهم ما ارادوه، إذ عاد الضباط الآشوريين إلى وحداتهم العسكرية، إلا (250) شخصاً في معسكر هنيدي الذين كذبّوا وعود بريطانيا المستمرة للآشوريين.
بسبب تلك الاجواء المشحونة بالتوتر وخيبة الامل الكبيرة داخل البيت الآشوري، وقبل رفع الانتداب رسمياً تم عقد اجتماع موسع برئاسة مار شمعون ايشاي في سَرّْ – عمارية بتاريخ 16/6/1932. حضر ذلك الإجتماع جميع الزعماء الآشوريين الروحانيين والمدنيين دون استثناء. وبعد مداولات في اكثر من جلسة تم الاتفاق بالاجتماع، والقَسَم الغليظ وتلاوة الصلاة الربانية، ومن ثم التوقيع على ما صار يعرف في المصادر التاريخية بـ (الميثاق القومي الآشوري) والذي ضمّ تسعة مطاليب، كان من اهمها:-
1- الاعتراف بالآشوريين شعباً ساكناً بصورة دائمة في العراق، وليس اقلية عنصرية او طائفة دينية.
2- وجوب إعادة مقاطعة هكاري الى العراق ليسكنها الآشوريون اصحابها الشرعيين.
3- إذا كانت الفقرة (2) اعلاه صعبة التحقيق، فليكن البديل إيجاد موطن للآشوريين – لجميع الآشوريين في العراق وخارجه – في المناطق دهوك وزاخو وعمادية وعقرة من خلال اقامة لواء مصغر (sub – liwa) لهم. على ان يكون مركزه دهوك، ويديره متصرف عربي ويعاونه مستشار البريطاني.
4- الاعتراف الرسمي بالسلطات الدينية والدنيوية لمار شمعون.
5- ان يمثل الآشوريين نائب في البرلمان العراقي يختاره الآشوريون والبطريرك.
6- وجوب تدريس اللغة الآشورية الى جانب العربية في مناطق وجود الآشوريين (اللواء المصغر).
7- الدعم المادي للجنة إيجاد الاراضي المناسبة لإسكان الآشوريين وتسجيلها باسمائهم رسمياً. مع فتح مستشفى، وتعيين موظفين واداريين آشوريين في هذا اللواء المصغر بعد موافقة المتصرف والجهات الفنية على ذلك.
وذيّل القادة الآشوريون ذلك الميثاق (قائمة المطاليب) بالإعلان الصريح عن الولاء التام للملك فيصل والحكومة العراقية. مع عرض خدمة كحسن نيّة للملك والبلاد ووفق النقطتين التاليتين:-
أ- إنشاء قوة دفاعية آشورية لحماية مطارات القوة الجوية البريطانية، على ان لا تمارس مهامها في كل من الشعيبة والبصرة لاسباب صحية.
ب- تشكيل فوج واحد من الآشوريين يلحق بالجيش العراقي.
وكان الكولونيل رونالد سيمثل ستافورد خير منْ علق على هذه الخاتمة للميثاق القومي الآشوري, بقوله "يبدو انهم (الآشوريين) مدركون تماماً بأن بقائهم في العراق هو نهائي وحتمي". والذي معناه رغبتهم الصادقة في الاندماج مع العراقيين ـ كافة العراقيين ـ لانهم عراقيون.
عند العودة الى بنود (مطاليب) هذا الميثاق، يلاحظ المرء ولاول وهلة نقطتين اساسيتين كانتا تجولان في عقل كل من صاغ ووقّع عليه.
الاولى: التأكيد على الخصوصية القومية الشاملة للآشوريين، ورفضهم لصفة الاقلية العنصرية او الطائفية. وكذلك على وحدتهم الاجتماعية والحضارية والثقافية رغم كونهم يقيمون ويعيشون في اكثر من بلاد في تلك المرحلة. ورغم تعدد مذاهبهم وفرقهم الدينية والمناطقية.
الثانية: انتمائهم الوطني المطلق الى العراق المعاصر، وليس الى اية بقعة او بلاد اخرى – رغم ايمانهم بأن اجزاء مهمة قد استقطعت من وطنهم (العراق المعاصر) كمنطقة هكاري مثلاً – ولذلك كانوا تواقين للعودة والسكن في هكاري. لكنهم وبسبب الظروف الدولية المعقدة فضلوا السكن في الاقضية: دهوك، زاخو، العمادية، عقرة في اللواء الثانوي, ضمن وحدة ادارية سموّها (المصغرة) نسبة الى لواء الموصل الذي كانت تلك الاقضية تابعة اليه. ولكونها (تلك الاقضية) ارض آشورية في الاصل، ولكون قسم كبير منهم يسكنها اصلاً ومنذ اجيال بعيدة في عمق التاريخ. كل هذا من جانب التكوين او التعريف القومي والوطني والحضاري الذي كان الآشوريون يشعرون به ويعيشونه ويعتبرونه من المسلمات.
اما من الجانب السياسي والاداري للآشوريين وفي تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ العراق الحديث، فإن ما جاء في الميثاق القومي الآشوري ملفت للنظر حقاً، ومهم لرسم الخارطة السياسية والاجتماعية لبلد متعدد الاثنيات كالعراق المعاصر. إذ نجد في نصّ الميثاق.
1- التركيز على الخصوصية الاجتماعية للآشوريين من خلال المطالبة بالاقرار الرسمي لسلطة دينية ودنيوية خاصة بهم ضمن تنوع متجانس. وللنهوض بهذه المهمة وانضاجها على ارض الواقع كان لا بدّ من تعين موظفين واداريين من الآشوريين الكفوئين بالإضافة الى اخوتهم من العراقيين الآخرين في المناطق المخصصة للآشوريين ادارياً (اللواء المصغر).
2- ضمان وحدة العراق وولائهم للسلطة المركزية، من خلال رغبتهم بل اصرارهم على وجود ومشاركة منْ يمثلهم في البرلمان العراقي الموحد.
3- مع التأكيد والمحافظة على خصوصيتهم القومية، طالب الآشوريون بتدريس العربية في جميع مدارس الآشورية لكي يتمكنوا من استيعاب الثقافة والمدنية العراقية الى جانب ثقافتهم ولغتهم وآدابهم الخاصة... الخ.
4- تنظيم طبيعة السكن وتملك الاراضي الزراعية والسكنية والمراعي بشكل قانوني، من خلال لجنة مختصة ومدعومة مالياً وادارياً من قبل السلطة المركزية في بغداد.
هذه كانت خلاصة وجوهر المطاليب الآشورية في العراق منذ منتصف عام 1932، والتي وحسب كل المفاهيم الدولية والانسانية المعاصرة لا تعد إلا كونها من المسلمات لكل مواطن ولكل مجموعة (اثنية حضارية) تعيش في دولة ذات سيادة وتحترم النواميس الدولية، وتهتم بأمن وسلامة شعبها, وبالنمو الطبيعي والصحي والاجتماعي لمكوناته على اختلاف تلك المكونات. هذا الميثاق او الوثيقة التي قال عنها عبد الغني الملاح بإنها " تتصف بالبساطة في المطاليب وقلة الخبرة السياسية" وقد صدق في ذلك, وصفه السيد عبد الرزاق الحسني ومقلدوه بأنه كان "خطير يؤدي الى تقسيم العراق".
وامعاناً في مشروع البريطاني ـ العراقي حول تشتيت الآشوريين بعد ان دخل العراق عصبة الامم، اجتمع مجلس عصبة الامم في كانون الاول من 1932 للنظر في مشكلة الآشوريين مرّة اخرى، ودعا الى تأسيس منطقة يسكنها مجتمع متجانس من الآشوريين. واقرّ الجانب العراقي تلك الدعوة، ولكن على اساس – تأسيس تجمعات متجانسة اي بصيغة (الجمع) وليس بصيغة المجمّع الواحد – وكان هذا ما أثار حفيظة الآشوريين مجدداً، ودفع البطريرك مار شمعون ايشاي الى التصريح بكل حزن ومرارة: "ان تغير صيغة القرار من تجمع واحد كبير الى تجمعات عديدة صغيرة، يعني السماح للسلطة العراقية بتفتيت كتلة الآشوريين الكبيرة الموحدة وجعلها كتل صغيرة". ان تصريح البطريرك المعبر عن اسفه على عدم امكانية اسكان الآشوريين في تجمع واحد متجانس كان حصيلة المعاناة وترسبات الماضي الاليم لهذا الشعب. بالاضافة الى علمه اليقين بما تبيته بريطانيا ضد شعبه, وسوف تقدم على تنفيذه بواسطة الحكومة العراقية. إن لم يكن الامر كذلك؟ فكيف يعقل ان يعجز مجلس عصبة الامم عن اقناع العراق بقبول بقراره، وهو (العراق) الذي لم تمض على قبوله في الجمع الدولي اكثر من شهرين! إذ كان قد تم في 3/10/1932 رفع نظام الانتداب عن العراق ودخل عصبة الامم رسمياً بصفته دولة مستقلة ذات سيادة كاملة. دون الاهتمام بالقضية الآشورية في العراق من لدن بريطانيا الدولة المنتدبة لهذا البلد، ودون ابداء اي تفهم الجانب السياسي والاجتماعي من مشكلة الآشوريين، في عصبة الامم اثناء مناقشة رفع الانتداب.
وعلى ضوء ذلك شخصّ ار. سي. كمبرلاند مكمن المعاناة والمشكلة الآشورية في العراق، عندما قال " العنصر الرئيسي في المشكلة (الاسكان) يكمن في الشعور الغريزي بالمحافظة على انفسهم في تجمع متماسك متين. من الصعب إقناع تجمع عشرة او اثنتي عشر عائلة للعمل على تكوين انفسهم في قرية على مبعدة من القرى الآشورية الاخرى". وهذا بعينه كان الدافع الرئيسي وراء مطاليبهم وليس الانفصال او القضاء على الملكية في العراق او الاستحواذ على حقوق وممتلكات الآخرين، كما يحلو للبعض إتهام الآشوريين بمثل الامور التي لم تخطر ببالهم اصلاً.
بعد هذه الوقفة القصيرة عند (الميثاق القومي الآشوري) ومحتوياته ومدلولاته الداعية في محصلتها الى اقامة نوع من الفدرالية او الحكم الذاتي للآشوريين في مناطق وجودهم في العراق, كل ذلك قبل نكبة سميل باكثر من سنة. ومن اجل الوقوف على جوهر دعوة هذا الميثاق الى إقامة نوع من الفدرالية او الحكم الذاتي والانتقال من دولة موحدة شديدة المركزية الى دولة اتحادية يشارك فيها كل مكونات الشعب، اي "التحول من مجتمع فيه التنوع اللامتجانس الى مجتمع متجانس القوام". لا بد من تقديم تعريف عام ومقتضب لكل من الفدرالية والحكم الذاتي.
- الحكم الذاتي عبارة عن (صيغة متطورة من اللامركزية الادارية تقوم الدولة بموجبها بالاقرار ببعض السلطات التشريعية والادارية لقومية او جماعة دينية او لغوية معينة. ولكن تحت رقابة الدولة واشرافها).
- لقد عني العديد من فقهاء القانون وعلماء السياسة بتعريف وتحديد مفاهيم وخصائص مصطلح الفدرالية ( Federalism). وان ملخص ما توصلوا اليه هو: انه يقوم على اساس التوفيق بين تطلعات كل من الجماعات المتحدة والتي تريد البقاء سيدة لنفسها في قضاياها الخاصة مع إعتماد سياسة مشتركة حول المسائل الكبرى المتعلقة بوضع الدولة ووجودها وسلامة اراضيها ووحدتها التي لا تقبل التجزءة، وكذلك وحدة شعبها، كل ذلك على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهناك العشرات من التعريفات للفدرالية او الدولة الفدرالية، لكننا سنقتصر على ذكر اثنين منها، وهما: تعريف العلامة (Jillinek) عندما قال في الدولة الفدرالية: "هي دولة سيدة تتألف من عدة دول غير سيدة، وتنبثق سلطتها عن الدول التي تتركب منها، والتي تترابط فيما بينها بصورة تجعل منها وحدة سياسية". اما التعريف الثاني: فهو للدكتور محمد الهماوندي عندما قال، بأن الدولة الفيدرالية " تتكون من مجموعة من الدول او الولايات، تخضع بمقتضى الدستور الاتحادي لحكومة عليا واحدة هي الحكومة الفدرالية والتي تمارس في النظام المرسوم لها اختصاصاتها على الحكومات الدول الاعضاء في هذا الاتحاد". ومن اجل اقامة فدرالية ما او حكم ذاتي لمجموعة بشرية داخل دولة اتحادية لا بدّ وان يتوفر:
اولاً: بقعة جغرافية محددة تكون من الاتساع بحيث يسمح بإدارتها بصورة مستقلة.
ثانيا: يجب ان تكون تلك المساحة (البقعة) كافية لاشباع الحاجات الغذائية لسكانها (الاستقلال الاقتصادي).
ثالثاً: نوع من الاستقلال السياسي (وهذا ما كان ينقص الآشوريين وكانوا يطالبون به ولكن بأبسط صوره الممكنة).
ومن اهم اوجه التشابه بين النظام الفدرالي والحكم الذاتي الداخلي خصوصاً عندما يكونان على صورهما المبسطة هي:
1- النظامان يشكلان وسيلة ناجحة لحل مشكلة عدم التكامل في الدول المتعددة القوميات والاديان واللغات والثقافات والاصول الحضارية.
2- ان النظامين لا يتحققان إلا بدستور يشرّع لهذا الغرض ويستمدان شرعيتهما من ذلك الدستور.
3- اهم العناصر التي يقوم عليها النظامين هي: الاستقلال الذاتي، اي إيجاد مؤسسات دستورية في الاقليم الفدرالي او الولاية (البقعة) المتمتعة بادارة شؤونها ذاتياً.
4- وكلا النظامين يقوم على اساس اللامركزية الادارية، إذ يكون للاقليم الفدرالي ونظام الحكم الذاتي حكومة ذاتية تستمد سلطاتها من شعب الاقليم او منطقة الحكم الذاتي – ولهذه الحكومة هيئات دستورية وتشريعية وتنفيذية وقضائية داخل حدود الاقليم او منطقة الحكم الذاتي.
ومع كل هذا هناك فرق جوهري بين النظامين (الفدرالي والحكم الذاتي)، وهو: ان الاقليم الفدرالي يتمتع باللامركزية السياسية. اما الحكم الذاتي الداخلي فهو يدخل ضمن حالة اللامركزية الادارية المتطورة منها احياناً. وهذا الاخير كان ما طالب به الآشوريون في ميثاقهم الشهير. ليس لانه لقى الاهتمام والدراسة من لدن الجهات المعنية الثلاث (حكومة بغداد, سلطة الانتداب البريطاني, مجلس عصبة الامم). وليس لانه ـ وان كان قد جاء من جهة مهملة وغير مرغوب بها في العراق آنذاك ـ يتضمن فكرة ومنهج متطور لحل الكثير من مشاكل العراق الداخلية. لو كان قد تم اعتماده بجدية بعد تطويره ودراسته بثقة ودقة. بل ان شهرته جاءت عندما جعلته سلطات بغداد (العراقية البرطانية) حجة قائمة للتخلص من الآشوريين من خلال نكبة مؤلمة انزلت بهم. وبذلك دشنت اول مقبرة جماعية في العراق من جثث ضحاياهم. وسجلت اول ابادة جماعية لصالح العراق المعاصر بسبب ارتكابه المجزرة بحقهم, كل ذلك في مثل هذه الايام من عام 1933.
والآن وبعد مضي احدى وثمانون سنة على هذا الميثاق ما زال ساسة العراق في بغداد غير مستعدين للاقرار بأصالة الشعب والأمة الآشورية في العراق. اذ أعلن مسؤول عراقي في مؤتمر للامم المتحدة حول دراسة احوال الشعوب الاصيلة في العالم, والمنعقد قبل بضع اشهر من هذا العام (2013): "بأن لا وجود لشعب آشوري اصيل في العراق لان جميع العراقيين اصلاء"!!.