في حياتي تاريخ لا ينسى
لا تفارقني ذكرى يوم الثامن والعشرين من أيلول 1987 من كل سنة لتاريخ العائلة التي فُجِعت وانقلب هدوءها وسعادتها إلى كارثة، حيث استولى عليها الحزن والألم، وعمّ الأسى والبكاء بين أبناء البلدة كلها عندما بث ونـُشر خبر استشهاد ناشر ، ومَن في القوش لا يعرف ناشر ؟! رجالها كانوا أم نساءها أو شيوخها وحتى أطفالها ، وحتى الذي وقعت عليه نظرة واحدة لا يمكن أن ينساه لـيتأسف على شبابه ورقة قلبه وكرمه وبشهامته وبرجولته التي أبداها عندما كان جنديا في صنف الدروع ومرابطا في سيطرة بروشكي وتدخله في عمل الجهات الأمنية المسؤولة في السيطرة من اجل مساعدة أبناء بلدته الهاربين والملتحقين بالأفواج الخفيفة الكردية والى المسيحيين التابعين لقرى وبلدات الواقعة شمال دهوك، وكانت جملته المشهورة لمنتسبي السيطرة : ــ إن كل سورايا يمر من هنا هو قريب لي وواجب مساعدته ــ ولم يرق هذا للمجرمين عديمي الرحمة والإنسانية وبسببها انتهز احد الضباط الحاقدين إحدى الفرص وتم نقله إلى قاطع البصرة .
كان قبل نقله بأسبوعين قد وضع نيشان الخطوبة على الأخت ناهدة خوشو ، مستعدا ليوم البوراخ ( الزواج ) في إجازته القادمة التي لم تأتي وجاء بجثمانه الطاهر ظهر يوم 29 / 9 نائما في النعش لا يسمع نداء وصراخ خطيبته له ، ولا على صوت الهلاهل لشقيقاته ولأخواته من نساء المحلة الممتزجة بحركات رقص لأجساد مذبوحة، وحتى طيور الحمام تركت عشها الذي كان قد بناه لها على سطح الدار، هاجت وارتفعت في السماء تضرب بريش أجنحتها لتطلق اصواتا كانت تسعده لعله يراها ويسمعها ، لكي ينهض ليقدم لها بيديه الحنونة حفنة من الحنطة ، ولعلها كانت تحلّـق مع روحه الطاهرة سابحة في السماء فوق رؤوسنا تودعه بطريقتها .
ولا يمكن نسيان صورة الوالد الذي احتبست في صدره الحسرة من هول الفاجعة التي صدمته فشلّته وكبتت أحاسيسه كي تنطلق وتخفف عنه ثقل المصيبة ، وهو مذهولا من ما يحدث له ويشاهد حوله من انهيار لتلك الآمال التي كان قد بنا عليها بعدما رزق بابنه البكر وتحققت أمنيته بـلقب أبو ناشر ، حيث كان يطلق عليه حتى قبل زواجه.
وما يفطر قلب الحجر ويقطر دما، منظر الوالدة وهي تنتحب وتضرب على رأسها وتخدش وجهها الأخضر الذي حولته إلى ركام أصفر تسيل الدماء فيه وهي تلعن حياتها القادمة الخالية من وجود ابنها ونور عينها الذي بدأ يضعف ويتلاشى بريقه كما حوّل الحدث جمال شعرها الربيعي إلى خريفي تساقطت عليه الثلوج قبل موسمها.
وإخوتي الصغار سيبا ونشوان وباسل المندهشون من الذي يجري حولهم غير مستوعبين لمراسيم الحدث ، هل هم في عرس حقيقي لأخيهم ، حيث كل الأقارب حضروا من بغداد ليشاركوا حفل الزفاف مع صلوات الوداع من الآباء الكهنة والشمامسة الحاضرين . وتهافت الجميع لحمل العريس مع نبرات الهلاهل الحزينة للعروسة تحت أمطار الدموع إلى مثواه الأخير بدل القفص الذهبي الذي بقى خاليا ، وخطيبته انتظرت سنوات طوال لعله يعود ويأخذ بيدها ليدخلا فيه ، لكن دون جدوى ، وان الذي ذهب لن يعود لأنه لا يمكنه العودة إلى الوراء، ونحن الباقون نبقى نحمل الذكريات إلى أن نلتحق في نفس الطريق الذي لا عودة فيه .
زاهـر دودا
القوش 28 / 9 / 2013