في إطار مشاركته في مؤتمر
مسيحيو الشرق الأوسط وربيع العرب 2
المطران يوسف توما من أجل وضع خريطة طريق للمستقبل: يجب الحفاظ على الفسيفساء الديني في الشرق الأوسط.
أسماء كثيرة تتردد اليوم: مسيحيون، كاثوليك، أرثوذكس، شيعة، سنة، حوثيون، علويون، يزيديون، لكن عندما نسأل الناس ماذا تمثل حقا سنرى أن الواقع يختلف تماما. وسنكتشف أننا لا نعرف الكثير. صحيح، على مستوى البحث الأكاديمي، يجري اكتشاف هذا العالم وهذه البقايا "الأحفورية" التي بقيت نائمة. لكن قبل أن يتم أي اكتشاف مفيد عنها، سقط عليهم "الربيع العربي" كضربة قاضية.
من هم مسيحيو الشرق الأوسط؟
ما هي مؤسساتهم "الكنسيّة"؟
أي علاقة لهم مع النقد التاريخي، وهل هم "نصارى" القرآن الكريم؟ أسئلة كثيرة!
إن كثيرا من الجماعات المسيحية من العصور القديمة في الشرق الأوسط، بقيت على الهامش لا يكاد يربطها أي علاقات مع جيرانها، المسلمين خصوصا، بل حتى في ما بين المسيحيين أنفسهم، عن تجاهل أو ترهل، حتى جاء الإعصار، إعصار الربيع العربي.
مع ذلك المسيحية ولدت هنا. لكن المسيحيين الشرقيين ضلوا يعانون، خلال تاريخهم، منذ تركة الحروب الصليبية أو الإمبريالية الغربية والاستعمار.
مع ذلك أيضا، المسيحيون في الشرق جزء من هوية المنطقة، يشاركون في تعريفها.
كان المفكرون المسيحيون معنيون جدا في إحياء اللغة العربية منذ القرن 18، وكانت اللغة العربية لغة مسيحية قبل أن تصبح لغة الإسلام. ولدت خلافات بين مجامع القرون الأولى، بعدد الخصوصيات الثقافية بينهم، فخلقت انشقاقات بين الطوائف المسيحية: بين النساطرة، الملكيين، الموارنة والأقباط ... وكلها لديها أماكن منفصلة للعبادة وتقاليد ولغات ولهجات مختلفة وفروق دقيقة دارت حول مفهومين أساسيين: الله والإنسان، والتقائهم أو تباعدهم في كريستولوجيات (نظريات عن المسيح)، لم تبق حكرا على المتخصصين بل نزلت إلى الشارع ودخلت البيوت وقسّمتها وأضعفتها.
عبر القرون اللاحقة كان كل من هذه الكنائس يحاول أن يتميّز عن الآخر كي يثبت هويته، فالهوية مشكلتنا الأزلية، ثم تنقسم هذه الكنائس مرة بعد أخرى، بين أولئك الذين يريدون الحفاظ على استقلاليتها وبين التي تسعى نحو الاتصال مع روما والغرب، فالكلدان هم في الواقع نساطرة، والنساطرة يُعرَفون أيضا باسم الآشوريين، والسريان الشرقيون هم اليعاقبة أو السريان الأرثوذكس... وصار الاعتراف بالبابا تقليعة أو نزعة أكثر مما هو لاهوتا، أو لمجرد طلب الحماية من دول الغرب التي صار لها عصا السبق منذ اكتشاف العالم الجديد، ومنذ عصر النهضة. ومن الصعب أن نتصوّر أن يكون هناك شيء آخر سوى كنائس وكاتدرائيات من هذه المجتمعات الشرقية، فهذه فقط كتبت التاريخ والتاريخ لا يرى سواها متناسين الطب والصيدلة والعلوم والشؤون الأخرى.
جميع الذين زاروا الشرق الأوسط، تعجبوا من التديّن العميق دائما لدى هذه المجتمعات الهشّة، لكن هذا التدين لم يحمِها لا من التقسيم ولا من البقاء متخلفة عن الركب، ولا من التهميش، بحيث لم تواجه
الأغلبية الساحقة من الإسلام، الذي لم يسلم هو الآخر من أضغاث الأحلام وأوهام الهويات المريضة. الصورة الأولى التي تأتينا اليوم بأن في الكنيسة الشرقية يوجد كثير من الجمال! جمال فنون وشعر ولغة وطقوس، وأبنية عبادة صار التمسك بها آخر ما تبقى لهم إزاء حاضر مرّ ومستقبل مقلقل غامض.
كان لفترة طويلة، لمسيحيي الشرق مشاركة مع المسلمين وكوّنوا تراثا مشتركا. هذا هو سر التداخل بين الهويات واللغات وتعبير عن الإيمان بالإله الواحد الأحد. كثير من العادات الشعبية توارثتها الأجيال حتى بلا أن تعرف لماذا، لكنها تستشف في مناطق عديدة، حين تضع العجانة إشارة مربعة + تذكر بالصليب على العجين كي يختمر، وأمور أخرى أصبحت تراثا مشتركا. أما وضع الذمي فلم يفرض دائما على كل مناطق المسيحيين ولم يتم حشرهم في معازل. ولم تكن الكنائس دائما مخفية، أو بلا أجراس، وقام العديد من المدارس والكنائس في المنطقة.
إن ما حدث من تدمير لمراقد وقعت تحت حكم الدولة الاسلامية في الصيف الماضي يعكس رغبة بإلغاء هذه الحساسية الدينية المشتركة التي تجمع الكل وهي لدى الجميع بغض النظر عن فروقات المعتقدات.
هكذا، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل هوية هذه المنطقة التي شكلتها جميع هذه الثقافات، والأديان، واللغات، ونحن الذين نبحث، في هذه اللحظة، على هذه الثروة، نراها بالهجرة تنساب كالرمل بين أيدينا، ولا يمكننا سوى أن نبكي على مدى المعاناة التي عانى ويعاني منها مسيحيو الشرق منذ 1914 – 2014 إلى جانب باقي الأقليات الدينية الأخرى. اليوم في الشرق الأوسط كل هؤلاء الذين صاروا ضحايا السياسات وغُيّب تاريخهم ودورهم في أوهام جاءتنا من بعيد في الزمان والمكان.
هذا ما يحدث اليوم، من أشكال التهديد الخطير على قيمة وكرامة الشخص البشري في مجتمعاتنا.
أما المستقبل!!!
للمستقبل، نقترح العمل على غرس عميق لقيم شركتنا على أساس القانون الطبيعي والإنساني المشترك. سواء في الإطار الاجتماعي والاقتصادي أو في إطار السياسة، والسعي لتعزيز الفكر الإنساني عن طريق نشر الدراسات، وضمان تشكيلات الشركة على احترام الإنسان وإطلاق حملات توعية والدفاع عن حقوق الانسان، بالشراكة مع جمعيات ومنظمات أخرى تعنى بهذا الشأن.
أملا أن تؤثر هذه العوامل أيضا على مواقف واضعي السياسات، والإكثار من المؤتمرات ووضع العديد من الشخصيات وصنّاع السياسة العامة أمام بعضهم البعض. والتأثير في وسائل الإعلام ومناهج المدارس خصوصا وتنقيتها من كل تحريض أو ازدراء أو انتقاص من الآخر.
هذا إلى جانب ضرورة تأسيس لجنة علمية من مساهمين في الموارد والخبرات بهدف إضفاء طابع رسمي على الالتزام بكرامة الشخص البشري.
الدكتور المطران يوسف توما
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان - العراق
دكتوراه في اللاهوت من جامعة ستراسبورغ – فرنسا
ماستر في علم الأجناس البشرية من جامعة نانتير – باريس، فرنسا
عمان الأردن 22 - 23 نوفمبر 2014