المحرر موضوع: فحص الضمير تحليل لا يحتاج الى دم  (زيارة 1564 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 220
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
فحص الضمير تحليل لا يحتاج الى دم

شمعون كوسا

ارى من المفيد ان اوضح كيفية وصولي  الى هذا الموضوع وهذا العنوان .
إنّ من اعتاد على خوض مواضيعَ مستقاةٍ من صلب الحياة اليومية أو التطرق الى أحاديث تتعلق بالعادات والقيم والمبادئ والأخلاق ، يبقى دائم التفكير في ما سيتناوله   في كل مرة ، لاسيما اذ كان قد اوشك على استنفاذ جعبته الهزيلة . وفي هذا السياق، تنتهز الأفكارُ الفرصةَ لتُداعب صاحبَها ، فتظهر كالبرق حينا ثمّ تختفي ، وتغريه في زاوية اخرى جارية ببُطء وعندما تراه قد همَّ لملاحقتها ،تعدو مسرعة وتختفي . في غمرة حالتي الفكرية هذه ، زاحمتني الكثير من الخواطر ، كانت تتردّد على شكل عبارات او كلمات او صور او حروف تنساب دون توقف ،   الكثير منها كانت صالحة ولكنها تضمحل بسرعة دون افساح المجال لتثبيتها . كانت تتدفق منحدرة من علوّ شاهق وبكميات هائلة ، فيصبح الامساك بها  أمرا صعبا .   قرّرتُ ان انزوي في غرفة ملاصقة لهذا السيل بغية التلصص ومراقبة ما سأشاهده عـلّني ألمح فيه اشارة . تركتُ شريط الافكار يدور  لمدة ثلاث دقائق  فلاحظتُ لقطات تتكر لحروف وضمائرَ كانت تدنو وتبتعد  ، فتأتي  الضمائر تارة متصلة وأخرى منفصلة وتليها ادوات وحروف أو أسماء مستترة . فقلت في نفسي هل هذه دعوة لكي اتناول قواعد اللغة العربية كموضوع ؟  أبعدتُ الفكرة قائلا : وهل هناك الان من يكتب في القواعد العربية ؟  ومن سيهتم للقواعد العربية لاسيما في ايامنا  حيث قد اعتاد  الكثيرون باستهلال جملهم بمبتدأ منصوب ، او بعضهم يستخدمون  صيغة الجمع ، في فعل يتقدّم الفاعل ، لان مثل هذا الفعل المتقدم لا يأتي إلا مفردا حتى اذا كان فاعله جمعاً ، او آخرون يجزمون فعل المضارع المعتلّ دون حذف حرف العلة ، وآخرون يتخبطون في صرف ما لا ينصرف ، والكثير الكثير من الاخطاء الاخرى التي يقع فيها بعضُ المسؤولين وحتى قسم من الكتّاب. رأيت بأن موضوعا كهذا سيكون طويلا ومملّاً ، فنبذتُ الفكرة واستأنفت استعراض الشريط الذي اعادني الى الضمائر من جديد  ، ولكنه اعقبها برسم واضح لسمّاعة فحص طبية كانت تحوم حول الكلمات وتحطّ  على العبارت والضمائر والحروف ، فاوقفتُ الشريط  حالا ، وقلت لقد وجدتها ، فان الضمائر وجهاز الفحص اشارات واضحة تقودني الى موضوع اسمه (فحص الضمير) . لعل مقدمتي هذ مضحكة ولكنه هذا ما حصل !!

قد يقول البعض : ما لهذا الاخ يقودنا في دهاليز روحية مخصصة لطقوسها ورجالاتها ؟ اليست هذه العملية من واجبات رجال الدين او الرهبان ؟ جوابي هو كلا ، لانه اذا كان هذا الفحص بالنسبة لرجال الدين واجباً ، وإن كان الكثيرين منهم يهملونه !! ، فانه مفيد جدا ، بل ضروري لكل شخص في حياته. الانسان بحاجة الى إعادة نفسه في خلوة يستعرض فيها خلاصة حياته اليومية ويضع افكاره وافعاله واقواله ونواياه في كفة ميزان دقيق جدا ، فيقوم بعملية الوزن والقياس وهو واثق تماما بمعيار الضمير ،  معيار لا تتحرك اوزانه قيد شعرة ، بالرغم من محاولات التلاعب بها او تغييرها بغية غسل بعض الاعمال وتبرير النوايا . فحص الضمير عملية تساعد الانسان في التصالح مع نفسه واصلاحها وتقويم علاقته مع الاخرين .
الضمير مرتبط بالعقل، فهذا يكشف وينير ، والثاني يُصدر حكمه وينطق به بصوت عالٍ. الضمير يضع الانسان امام الحقيقة التي لا تقبل التغيير ، انه صوت الطبيعة الذي ينطلق كالسهم ولا يخطئ ابدا . هناك الكثير من الاقاويل حول هذا الموضوع مثلَ : فلان قد مات ضميره أو فقده ، وذاك قد وسّع حدود ضميره  أو قام بتخديره او تنويمه او قتله ، انها كلها اقاويل صادرة عن اشخاص لا يعرفون بان الضمير لا يغادر الا بصحبة الروح  .
  ان عملية فحص الضمير هي كالدخول في موضع رسمي او محراب .  على من يعتزم دخول هذا الفحص ،  نزع سلاحه ، والسلاح هنا هو التخلي عن القيود التي فرضها على ضميره . يجب ان يحرّر نفسه ويتجرد تماما من مآربه الشخصية ويحرص على انارة مشاعله كي لا تبقى هناك بقعة مظلمة . كما على كل  من يدخل هذا الفحص التمنطق بالصدق والابتعاد عن محاولات ايجاد  المبررات او الظروف المخففة . لاإن ما ينطق به الضمير ليس غسر كلمة الحق ، فالشخص الصادق المتجرد هو الذي يقبل بما يمليه الضمير ، اما المتشبث بمواقفه ومصالحه سيرفضه ، ولكن صوت الضمير سيبقى مدوّيا في رأسه  ليل نهار . سيقوم الاناني الرافض لصوت الضمير  بالضغط عليه وكبته ، ولكن هذا لن يغير شيئا ولن يُبعد عنه الشعور بندم  شديد لانه كذب ، لانه خان ، لانه سرق ، لانه اعتدى ، لانه وشى ،  لانه جرح بلسانه وبيديه او ارتكب جريمة ، اعمال مهما كانت درجة سرّيتها فانها لا تخفى عن الضمير ، وانه الرافض هذا سوف لن يجد الراحة الا بعد الاستجابة لحكم  الضمير .  كما انه للضمير قوة هائلة ، فهو بمثابة آلة الدكّ الضخمة التي عندما تبدأ عملها بقوة لا تتوقف، فيتحول  نهار المرء الى ليل في لوم لا يتوقف وفي دويّ لا ينقطع الا بقبول الحكم.
من جهة اخرى ، فحص الضمير عملية تُلزِم صاحبَها ، لانها استعراض شفاف لكافة التصرفات ولا سيما المعوجّة منها ، والتي تقتضي ايجاد حلول لتقويمها ، وهذا يتطلب جهودا وتضحيات . والضمير لا يجامل ولا يتنازل ، ولا يملّ من اعادة أوامره لمئات المرات . الضمير هو الحَكم العادل ، وعدالته تكمن بانه لا يعرف غير الحقيقة ويضع الشخص امام هذه الحقيقة . ولاجل هذا نسمع الكثيرين يحلّفون الاخرين بضميرهم في موضوع اختلفوا عليه .
يبقى الضمير صوتا صارخا ، يؤنّب صاحبه مهما تهرّب واختفى وحاول اسكاته. اني اوجز هنا فحوى قصيدة رائعة للكاتب فكتور هيجو الذي تناول موضوع الضمير . انه يصف حالة قابيل ابن آدم الذي قتل اخاه هابيل وهرب من وخز الضمير ، فابتعد عن موقع الجريمة مع افراد عائلته . عندما وصل في رحلة هروبه قرب جبل شاهق توقف عند سفحه وتمدد هناك معتقدا بانه ابتعد بما فيه الكفاية من موقع جريمته فلا يخاف من وخز الضمير ، واذا به يبصر عينا كبيرة معلقة شاخصة اليه . ترك سفح الجبل وركب البحار متجها نحو الحدود  ، ولكنه عند خروجه  الى اليابسة وجلوسه عند نقطة الحدود ، ابصر العين الواسعة نفسها تحملق فيه . طلب من اولاده ان يقيموا له خيمة عالية جدا تخفيه عن الانظار، غير انه بعد ولوجها ، وجد نفسه ازاء العين نفسها تقصفه بنظرات تأنيبها الحادة . ترك المكان وبعد شهر واحد من السير الحثيث باتجاه معاكس آخر  ، توقف في ارض قاحلة وطلب من ابنائه انشاء مدينة محصنه مع قلعة عالية  . دخل قابيل قلعته الحصينة بنفس مطمئنة ،  غير ان  المقام لم يطل به كثيرا عندما ابصر نفس العين التي كانت تقول سأكون وراءك اينما ذهبت. رحل من هناك وغيّر الموقع وتحول الى مواقع كثيرة اخرى ، الى ان طلب من اولاده في النهاية  ان يُنزلوه تحت الارض ، فحفروا له قبرا وادخلوه فيه وغطوه بصورة محكمة ،  عندما جلس  هابيل في حفرته معتقدا بانه قد نجا من ضميره ومن العين الكبيرة التي لم تكفّ عن النظر اليه ، ظهرت له نفس العين ترمقه بنظرات حادة وهو في باطن الارض .
هذا هو الضمير الذي لا سبيل لاسكاته أوكبته أوتنويمه او محوه ، فالاجدر بالمرء ان ينقاد له  ويتجاوب معه في فحص دوري  يوفر له الراحة الحقيقية ، لان راحة الانسان في راحة الضمير.





متصل سامي ديشو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 942
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الاخ شمعون كوسا المحترم

مقالة رائعة، هادفة وذات مغزى عميق للضمائر الحية. نعم، راحة الانسان في راحة ضميره. مهما تكن الأفعال، ومهما تكن النوايا، فالضمير هو الذي يقودك ويرشدك وينبّهك الى ما هو الصحيح.

لقد أبدعت كل الإبداع في مقالتك هذه، كما في مقالاتك السابقة. تقبّل تحياتي.....

سامي ديشو - سدني/استراليا

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 220
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
اخي سامي

اشكر لمداخلتك الرقيق ، اشكر شعورك وحس ظنك ، بارك الله بك