وداعا يا اختي نبيل يونس دمان فاجأنا نبأ دخول اختي الحبيبة صبيحة، مرحلة الخطر يوم السبت المصادف 20/6، وفي اليوم التالي توقف قلبها عن الخفقان والى الابد، من ارض اليونان الغارقة في ديونها، وتردي اوضاعها الاقتصادية، بما فيها مستشفياتها، نظن انها لم ترع العناية اللازمة، وقد دفعنا ثمناً غاليا في ذلك. كانت اختي على وشك الطيران الى ارض المهجر في اميركا، التي تضم آلافاً مؤلفة من امثالها، الذين انقطعت بهم السبل، وباتت اوضاع العراق سيئة ومجهولة المصير. كان طموحها ان تصل الى شاطئ الاستقرار حيث ابنائها واحفادها، وكان الجميع هنا في انتظارها بعد فراق طويل، وبالنسبة لي فقد فارقت اهلي مكرها عام 1982، وفي عام 2002 وصلت الى دهوك، فتسنى لي رؤية اختي صبيحة التي جاءت مع ابنها سامح من بغداد، فعشنا اياماً قليلة لا تعوض مع باقي افراد الأسرة، لتعود الى بغداد، وتشاء سوء الأقدار ان يفارق زوجها جرجيس حنا ابونا الحياة، اثر مرض عضال عام 2005، فآثرت الهجرة وترك الوطن الى حيث ابنائها الذين سبقوها الى اليونان.
حمل جثمانها الطاهر من أثينا الى بلدة االقوش- نينوى، وفي ظل ظروف معروفة تعيشها المنطقة، شاركنا نحن اخوتها واخواتها في مرافقتها، حتى ووريت الثرى، فاصبح جسدها جزءا من تراب البلدة الطاهر، الذي ولدت فيه عام 1956، وبذلك اصبح قبرها، امام اشراقة الشمس كل صباح، من " برگارة" ودير الربان هرمزد، ومغيبها من " بي سينا" وبهندوايا، تنعشه تيارات الهواء التي تهب من الشرق والغرب.
إن لم تستطع اختي العودة الى القوش في الحياة، فقد عادت اليها في الممات، وقد صعدت روحها الى جنات الخلد والنعيم، لسيرتها الحسنة ونفسها الطيبة، وكل الخصال الجيدة كانت كامنة فيها، بشهادة من جاورها في السكن، ومن عرفها من مختلف الاديان والاقوام، خصوصاً في بغداد، التي أقامت فيها منذ يوم زواجها عام 1972.
بكت لرحيل امها كرجية عام 2013، ثم بكاها اليوم والدها البالغ من العمر 87 عاماً ، بكاها في حرقة ومرارة، وكان باستمرار يتذكرها، ان لم اقل يفضلها على باقي اخواتها، اللائي بكين بحرقة فراقها كل من: سعاد، فريال، وداد، كفاح، واناهيد، بكاها اخوانها واولادهم الذين لم يروها ابدا، وهم يرددون: كيف لم نتعرف على عمتنا كل هذه السنين الطوال؟ انها الأقدار التي فرقتنا عن بعضنا مسافات طويلة بين القارات، وعقود من الزمان في سفر التاريخ، وقد حلت اللعنة على شعبنا الرافديني، سليل المجد والاقتدار والحكمة.
مهما كتبنا ومهما قلنا، لماذا؟ وكيف؟ نصل الى علامات استفهام شتى، والجواب كصمت احجار قبرها. الموت كريه ويأتي في غير أوانه، تعددت اسبابه، لكنه خاتم حياة، لكل مخلوق على وجه الارض، ولن يبقى ما يذكر الانسان به، سوى سيرته واعماله، هكذا عرفت اختي التي اذوب قهرا في فراقها، وأملي في اولادها: سامر، سرمد، جوني، سامح، سومر، ان يشقوا طريقهم الصعب في الحياة، وليتجاوزوا هذا المصاب الجلل، ولينشأوا بيوتاً من وحي افكارها، تربيتها، وصفاتها.
اتذكر كما تتذكر اختي الأصغر سعاد، عندما ولدت صبيحة في بيتنا القديم بمحلة اودو، انشغلنا في الفترة اللاحقة ببناء بيوتنا الحالية في محلة التحتاني لتكتمل عام 1958، تطلب عمل الجميع المضني ليتقدم البناء، خصوصاً والدتي المرحومة كرجية اودو، وزوجة عمي المرحومة ودي هومو، وهن ينقلن الماء من عين محلة سينا، عبر السوق القديم، كانت صبيحة تترك طويلاً على كرسيها، الذي صنعه والدي النجار، فيما تجاورها اختها الأصغر فريال في مهدها( درگشته).
في صيف عام 1963 اضطربت اوضاع القوش كثيراً،مما اضطرنا الى ىتركها مشياً على الاقدام، الى قرية حتارة الأيزيدية، ثم الى بغداد، وبقي في البيت عمي كامل ووالدي وجدتي شمي كولا، التي طلبت من والدتي ان تترك صبيحة معها، وهكذا بقيت عدة اشهر محرومة، كنا في مراسلاتنا نسأل عن صبيحة، وحتى بعد رجوعنا الى بلدتنا ومدارسنا، اصبح اسمها رمزاً للسؤال عن اوضاع المنطقة، كان لا يجسر احد في بغداد ان يسأل عن الاوضاع في القوش والمنطقة، لان السلطة تعترض هكذا رسائل، وتوقع العجب باصحابها، لذلك كان يكتب من بغداد السؤال: كيف احوال صبيحة؟ فنفهم على الفور انهم يسألون عن القوش، وكما هو معلوم انذاك، لا وسائل اتصال حديثة كالتلفون مثلاً.
وداعا اختي المسافرة صبيحة يونس دمان، ليكن الله والسماء والابرار راضين عنك، لتكن نفسك راضية للمصير الذي تجنح اليه، وجسدك يرتوي مع الارض من امطار القوش وثلوجها، بلغي سلامنا الى امي التي احتفت بوصولك اليها، قولي لها اننا بخير، لا يعوزنا سوى ان تطمئن انفسكم في العلى، وترتاح اجسادكم في التراب، وتهيئون لنا اماكن دافئة بقربكم، في آخر مطاف حياتنا، من ارض الشقاء، حيث تشح الأفراح وتكثر الأتراح، أرض تعطي القليل لتأخذ الكثير.
على يميني اختي الراحلة في أرادن بتاريخ 9-9- 2002
nabeeldamman@hotmail.com
California 7-7- 2015