المحرر موضوع: آواه لو نطق البحر !  (زيارة 1405 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل هاشم عبود الموسوي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 84
    • مشاهدة الملف الشخصي
آواه لو نطق البحر !
« في: 13:15 10/09/2015 »


آواه لو نطق البحر  !

د.هاشم عبود الموسوي


هذه القصيدة كتبت عندما غرقت سفينة "تايتانك العراق" بسواحل أستراليا في عام 2000م .. وقد مات غرقا أكثر  من 500 مهاجر عراقي .. كان الغرب نائما لا يسمع ولا يرى مآسي الشعب العراقي  .. واليوم إستفاق فجأة ليبالغ في تعاطفه مع النازحين .. آواه .. ثم آواه من آلاعيب السياسة !
اليوم أعيد نشر هذه القصيدة والتي كتبتها آنذاك بعنوان "سفن الضياع" ، آملا من أجيالنا القادمة أن تتعرف على آلام ومعاناة آبائهم و أجدادهم .
هاشم

سُفن الضياع
بين بابل والعالم البعيد تمتد بحارٌ .. غرق فيها الكثيرون من المهاجرين العراقيين. وتايتانك العصر الجديد، حملت خمسمائة مهاجر غرقوا في خليج تيمور(*) .. لازال الناجون يؤرقهم سؤال.   
             د. هاشم عبود الموسوي.
 


أهي السنينٌ تذرعتْ
بهموّم أَسرى ضائعين
يتهامسون عن الرحيل
عن الذهاب إلى الخواء
وتجيبهم سُفن الضياع
في آخر الدنيا …..
هنالك في المدن اللقيطهْ
"العالمُ الماردُ لا يسمع
شكوى لحزين"
وعلى مشاجب غرفتي
علّقت أحزاني القديمة
كم كان يُتعبَني القرار
جرّبت في يأسي إحتضاري
ما كان يوسفُ واجداً
حَبلاً ليمنحه النجاة
فكيف يغتسل الغريق
بماء هذا البحر
ينسى أنه يوماً
تيمم بالدموع وبالدماء
كم هو البحر عميق؟
كم شهدنا …
من غريق .. وغريقْ؟
جثثٌ طافيةٌ وسط النهارْ
من دون قبرٍ أو مزار
هي ذي القصة نرويها
بأيام الشتاء
على الصغار
عن كل أسرار البحار
***   ***   ***
كان في الليل صلاة
وشهيقٌ ….
عكرّ الصمتِ
الموشح بالشجون
ولربما يوماً ستذكر جاكارتا(*)
بانّا قد مررنا من هنا
كم كان يُوهمنا غسق الدُجى
في آخر السكرات
يرسم للطريد
بيتاً واحلاماً سعيدةْ
والكوابيس القديمة …
عند مفترق الدروب
شبحاً مُريب
لو نام حراسُ السواحل
لا يروا سيل الدموع…
على الخدودْ
مثل عصفور أتينا هاربين
وتركنا القفص المفتوح
في وجه الرياح
مثل جُرحٍ لا يطيب
نحنُ أشباحٌ وظلٌ
من مئاتٍ يائسين
هو ذا زروق موتٍ لا يعودْ
ما كان للأرض حدودْ
ما كان للحزن حدود
الريحُ ترسم للسفن الطريق
وأنا نسيتْ.
بالأمسِ بوصلتي
بثياب نوميِ
وبدأنا رحلة الموت
وأغمضنا العيون
وحَلمنا أن تسامحنا الطفولةْ

أتذكرين حبيبتي
كيف ألتقينا مرّة
في شوق غابات النخيل
كم كان من خجلٍ
يداعب لهونا
اليوم يوخزني الضمير
ياغابة النخيل !!
لِمَ أصبحت حزينةْ
من كُل صوبٍ
تعبث الريح … بتلك الذكريات
لم يبقَ في الغابة جنٌ
وعفاريتٌ تشاكسْ
حاولتُ أن أسرقَ ..
من عينيك في يأسي ابتسامة
لكنها ظلّت حكاياتٌ قديمة
تنبتُ في عيون العابرين
والموج يصعد كالجبال
ولا مفر من المصير
ونحنُ من زمنٍ بعيدْ
أمواتُ في كلّ الأراضي والبحار
وطني يُوزع قاطنيه
يرمي بهم نحو الدوار
ها أنني أغمضُ عيناً واحدةْ
فأرى حلمين
في صحوي ونومي
وأرى بحرين
لا يُومئ فيها
مرفئ للتائهين
وطيورٌ
لا تخاف من الحصى
كيف للحالم أنْ يشهدَ صحواً
ثم غيماً ماطراً في ناظريه
إننى قطرة ماءٍ
وسط أمواج البحار
مذ تساوى الظلُّ والضوء بعيني
***   ***   ***
كيف قالوا أن لون الماء
من لون السماء
وبه تهدأ روحٌ
من عناء
كيف صار البحرُ
يُصلي راكبيه
غضباً، عصفاً، ونارْ
لم نكن نسمع قبلاً
عن سعيرٍ
حممٍ حمراءُ
تأتي مِ البحار
***    ***
يا الهي، كم هو البحرُ عميقْ
كم شهدنا مِن غريق
وغريقْ
أيَّ صُلحٍ
بين مجدافٍ يقاومُ
سيل موج هائجِ
لا يستكين
وبين أقدار البحار
هو ذا البحرُ عتياً
كل شيءٍ عاجزاً فيه
ليعطيك اليقين
***   ***
هي ذي المدنُ البعيدةُ
تطلع كالسراب
مُدن الرمل … وصحراء السماوهْ
صَعَدَت تطفو …
على سطح المياه
هذه بابلُ والكوفةُ
والقُدسُ، ونجدٌ وتهامهْ
ولنا في القلب، جُرحٌ ..
لا يطيب
وعلى بُعدٍ من الساحلِ
قد تظهر طيبةْ
ومتى تأتي ضفافٌ سرمديةْ
من بنى جسراً على دجلة
يبكي في المدينة
وتعود سامراء
ثكلاءٌ حزينةْ


***   ***
لم يكن في البحر حلمٌ
غير ما يمتد
مِنَ أيامنا الأولى
عبوساً قمطريرا
ربما ننسى بأنّ الناسَ
والأشجار، والنخلَ
بيوتَ الطين تجتر الأماني
ولها طعمٌ ورائحةٌ
ودفقٌ للحياةْ
ونسينا في هياج البحر
والزورقُ لايدري ..
إلى أين يسير
لم نعد نذكر فيه الذكريات
غابة المرجان
في عمق البحار
ليتها تقبل مني
ما تبقى من عظام
وبها تكتب اسماً للعراق
ربما يقرأ غواصٌ
حروفاً عربية
فيرى أبناء سومر
قد بنوا
في كل يابسةٍ
وبّحر من بحار الله
رمزاً للعراق
شعب المرجان لا تطفو …
بهذا البحر …
تدعو راكبيه
يستريحون لبرهة ..
عند واحهْ …
منْ عذابات الضمير
بين صحوٍ مُمطرٍ
وغيومٍ مقفرهْ
يابسٌ مُبتل
مشنوقٌ على دفة زورق
كيف لي أفتح عيني
كي أرى حسم القرار
صرتُ أهذي
قبل أنْ يُغمى عليْ
هي ذي فاتنتي …
في البُعدِ ألمحها بعيده
لم تعد تلبس ثوباً زاهياً
غير ألوانِ من الحزن القديم
ربما نأتي إلى ساحل برٍ
أو جزيرةْ
في ظلام الليل نرسو
أُغمضُ العينين في ملح البحار
وأظلُّ تمثالاً من الشمع …
له عينان ميتتان
لا تتوهجان في ضوء النهار
هذا إكتضاضٌ
بالجروح وبالنواح
ولا يشابهه إكتضاض
كيف للزورق أن يطفو
بهذا الحزن والوجع الثقيل
وتهزني صرخات أمي كالمخاض
ليتها تُرجعني لرحمها
كي لا ارى .. ماذا جرى
ليتني يوماً أعود
فلا أرى نفس الزمان
وليس من صوتٍ
كصوت الموج
يُنبئُ بالنذور
لا أرى إني
أمرَّ بموكب النصر
على بوابة إطربيلٍ(*)
ألثم رملها
وأروح أسأل جاري
الميت مثلي
عن رفاقي
هل أتوا يوماً
إلى بيتي وعادوا يقرأون
وصيتي
"لا تحرقوا كُتبي
فأني قد أعود
هو ذا الليل كصحراء رهيبة
ليسَ من قطرةِ ماءٍ
في العروق
لِمَ لا يغالبنا نُعاسْ
فنموت غرقى آمنين
عندما ننزل للبحر..
وقوفاً خاشعين
رقصة الدرويش طالت
كم تمنينا من الأمواج
أن يلسعنا نحلٌ
فنصحوا سالمين
وسمعنا أن في البحر
ضحايا من عصور
بعضهم اغريقُ أو رومان
أو عرب الجزيرةْ
قد أتوا مشياً
إلى هذي السواحل
ربما فيه عراقيون
جابوا الأرضَ من عهدٍ قديم
كان إبراهيمُ جوالاً
وتعرفه اليوابسُ والبحار
حبله السري في أرض العراق
ينشرُ الحُب .. وفي أيديه
سعفات نخيل
عاشقاً يشتم من عبقٍ أصيل
كلما دار دوار
كان دوماً في رحيل
غير أن الموج كالخيل عصوفاً
لا يكف عن الصهيل
جارفاً كل الأماني
ساحقاً حلم المجاديف
وأوهام الرجال
كان في الدُنيا
وداعٌ ورحيلْ
كان في الأرض نبيٌ
هاربٌ من تابعيه
فاستجاب البحرُ وإنشقَّ
ليحمي الهاربين
ليتها المعجزة الكبرى تُعاد
أي حُزنِ بالمهاجر
قد أتى
من أرض سومر
***   ****
وقرأنا ما حفظنا
من تعاويذ ونجوى
وحسبنا عمرنا الباقي
وكم يبقى من الغارق
في يأسٍ طويل
إنني أيقنت أن الموت…
آتٍ لا محالْ
محض صُدفهْ
أن يعيش المرءُ
ما بين الذئاب
كم بقينا في المخاض؟
غيبة الصوفي طالت
يحسبُ الساعات أياماً
وأحياناً سنين
وقضى الأمرُ
فيا ربي أعناّ
في مقادير الأمور
بصراخ وعويلٍ وثبور
غرق الزورقُ فينا
يالهي
هو ذا الزورق يهوي
بمئات الهاربين
هي ذي آلافُ ..
ألواحٍ تعوم على المياهْ
بالأمس كانت مركباً
يحمل أحلام المئات الهاربين
ياربي
 إني لم أرَ من قبل
أكداساً من الأحياء والموتى
يؤدون الصلاة
ويعومون على سطح المياه
كم شهدنا من غريقٍ
وغريقٍ وغريقْ
ها هي الألواح بالموتى تطوف
أنه دودٌ على عودٍ
ويغرقُ من ينام
ياربي كم حاولت قبلاً..
أن أنام
والآن أخشى
أن يُباغتني المنام
ياليتنا في الأرض مُتنا
ما تركنا خلفنا حزن القبور
ما ظل من حلمٍ
يكحل عين أمي بالرجوع
في ذلك البلد المودع أهله
ليهاجروا نحو الضياع
في بلادٍ مسهّا أول برقٍ
عند ميلاد الخليقة
في بلادٍ … تولد النجماتُ
في خيمتها، ثم تموت
وينام القمرُ الناعسُ فيها
فوق هامات النخيل
ياله من شجر …

يُصغي بصمتٍ للسحاب
هل نثرنا ما حملنا من تُراب
في مياهٍ مالحة
هوذاً طلاقٌ
بين من يبقى على قيد الحياة
وبين مَيْتٍ غارقٍ
في بحر تيمور البعيد
تباً لأمواج البحار
وكيف تبتلع العذارى
والرجال الحالمين
وذاك طفلٌ
حبله السري
مربوطاً برحمٍ ميتٍ
يا رحمة اللهِ
على الوالد والمولود
في موج البحار
هو ذا كتاب الله يطفو
رُبما آخر ما ملكت يداه
مؤمن بالآخرة
ولقاء الله في يوم المثول
حلّت الآن بنا معجزةٌ
يأتنا طير السنونو
باحثاً عن بعض من علِقوا
بأوهام الحياةْ
ليدلهم في الصُبح
أنّ ضفاف هذا البحر ..
ما عادت بعيدةْ
ما كان للبحر القرار
أوعز الله بأن
يلفضنا حوتٌ
على رمل الشواطئ
***   ****
بالتهاني زفّ موتي هاربون
لضفاف العالم الواسع
أخبار البحار
غير إنا لم نزلْ ….
نسأل لا نلقى الجواب
هل عاد منا واحدٌ
يروي بأيام الشتاء على الصغار
أسرار أهوالٍ
وأهوالٍ تبايعها البحار