المحرر موضوع: لا تبهركم هذه الأوهام..  (زيارة 2610 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كمال لازار بطرس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 160
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
لا تبهركم هذه الأوهام..
« في: 16:35 15/10/2019 »
                       
                           
 من سخريات القدر، أنّك عندما تزور معرضاً للكتاب، فأول ما يثير انتباهك، أنّك تلاحظ تجمهر الزوار أمام أحد الأجنحة بازدحام ملحوظ، فتقودك قدماك ( لا إرادياً ) إلى حيث الموقع، وهناك تصاب بالذهول، عندما ترى سلسلة لا تنتهي من الكتب البلهاء التي تعالج موضوع صنع الإنسان، و صنع أفكاره، وعواطفه، وعلاقاته، وإلى ما هنالك من أمور أخرى على صلة بحياته الخاصة..
 وتنخرط هذه الكتب في نظام واحد، إذ يبدأ عنوان كل منها بكلمة ( كيف )، يليها فعل الصناعة..
 وقد ترجم أصحاب دكاكين المنشورات إلى اللغة العربية معظم هذه البلاهات، انتفاعاً بسذاجة القراء واستخفافاً بأفكارهم وعقولهم..
 في آخر زيارة لي لأحد هذه المعارض قبل بضعة أشهر، رصدت عيني نماذج كثيرة من هذه الكتب، هذه عناوين بعضها:
 كيف تصنع الأصدقاء؟
 كيف تصنع الشهرة ؟
 كيف تنجح في المجتمع؟
 كيف تنجح في الحب؟
 كيف تصبح مليونيراً؟
 إلى آخر هذه الأهوال والتفاهات، التي هدفها زرع الوهم في نفوس المشترين..
 الشيء الأكثر غرابة شاهدته في ذلك المعرض، هو منظر رجل أشيب ذي لحية بيضاء وجبهة علياء، واقف هناك يتصفح في أحد هذه الكتب، فقلت في سري: يا ترى، إلى ماذا يتطلع هذا الشيخ الجليل؟، وكم بَقِيَ له من العمر حتى يصنع نفسه ويرسم مستقبله ؟!
 هذا المشهد عاد بذاكرتي إلى الوراء، إلى ماضي الزمان، فتذكرت شخصاً، كان مدمناً على قراءة هذه الكتب، التي لا تنفع ولا تشفع، وإذا عثر على واحد منها بعد عناء طويل، وجد في قلبه من السرور والسعادة ما لا يكاد يوصف..
 أذكر مرة اقتنى واحداً من هذه الكتب، يحمل عنوان ( كيف تصنع الأصدقاء ).. قرأه مراراً و تكراراً، وأخذ يطبقه حرفياً في علاقاته اليومية مع الناس، وكانت النتيجة التي حصل عليها في النهاية أنْ أصبح موضوع تندّر واشمئزاز معاشريه، وصورة من صور التصنّع القاتل في حركاته، في تصرفاته، في كلامه، حتى في طريقة مشيته، إلى درجة يصعب عليك التقدير، إنْ كان حقّاً يمشي أم يرقص ( الفالس )، وفي النهاية خسر جميع أصدقائه، وكانوا كثيرين، قبل أن يتعلم كيف يصنع الأصدقاء، وقبل أن يتعلم هذه الصناعة البالية..
 ولما يَئِسَ صاحبنا من ( صناعة ) الأصدقاء، تركها وبدأ ( صناعة ) أخرى هي ( صناعة ) العشق، فاقتنى كتاب ( كيف تصبح معشوقاً )، ثم كتاب ( كيف تنجح في الحب )، وقرأ الكتابين بنهم المتعطشين إلى المال الحرام، وطبّق ما ورد فيهما على علاقاته مع النساء، وكان قبل ذلك على علاقة حب مع واحدة من بنات حواء، فتاة مستورة على قدر كبير من الجمال و الدلال، قدمها أفهم من رقبة مؤلف هذه الكتب .. فلم يمضِ شهران على مباشرته هذه الصناعة، حتى شعرت الفتاة بالصدمة من جراء تصرفاته المريبة، فهجرته، حتى من دون أنْ تكلف نفسها أنْ تخبره بانتهاء العلاقة بينهما، احتقاراً منها لما ظهر عليه من بشاعة التصنّع وصقيع النفاق، وهو ( يصنع ) نفسه في الشهرين الأخيرين بناءً على توجيهات وإرشادات كتب (السايكولوجي) البلهاء..
ولَئِنْ كان صعباً عليه تحمل الفشل الذي لازمه في حياته، وبسبب عجزه الكامل عن تشخيص الخلل و مواجهته، فقد أصيب بحالة من الإحباط الشديد، نتج عنه تراجع حاد في صحته على نحوٍ كاد يودي بحياته، لولا التدخل السريع من قبل أهله وانقاذه..
 وتلك نتيجة طبيعية، بل حتمية، لأنه أراد يوماً أن يكون استثنائياً من دون سائر البشر، أبهرته عناوين كتب مضللة لمؤلفين عرفوا كيف يقودون الناس كالخرفان، كالعميان .. كتب تافهة، تروّج للأوهام، سلبت عقله، فأخذ ما في ثنايا سطورها محمل الجد، لترسم له مسار حياته، وتحدد له تصرفاته، حتى انتهى به الأمر إلى هذا الوضع المأساوي.. فكل شيء ما لم يكن طبيعياً كان رد فعله كارثياً.