عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - محمد السعدي

صفحات: [1]
1

أنا والأدب الروسي حكايات …!

مر الأدب الروسي بعدة مراحل تاريخية ، ممكن لنا تحديد مراحلها على حقبات تاريخية متسلسلة ، الفترة الروسية القديمة تبتدأ من القرن العاشر الى القرن السابع عشر ، والفترة الروسية الحديثة تبتدأ من القرن الثامن عشر الى عام ١٩١٧ بواقع ثورة أكتوبر . والفترة الروسية ” السوفيتية تبتدأ من عام ١٩١٧ الى ١٩٩١ إنهيار التجربة الاشتراكية . وبعد هذا التاريخ تبتدأ مرحلة جديدة من عام ١٩٩١ الى وقتنا الحاضر .

في مطلع عقد الثمانينات ، كنت طالباً في كلية الأداب جامعة بغداد في ذلك المبنى الأنيق والواسع والزاخر بالمعرفة والأدب والكتاب . يعزل بموقعه حي الوزيرية عن ساحة الميدان وباب المعظم . كانت بوابة مدخله تؤدي الى كلية التربية ومن ثم كلية الصيدلة وينتهي به الطريق الى بناية قديمة وعريقه بعدة طوابق سكناً داخلياً لطالبات الكليات ، طريق واسع وأنيق يتوسط الكليات الثلاث تشعر بهيبته منذ اللحظات الأولى التي تطأ قدماك به . في مبنى كلية الآداب تتلمذت على يد أساتذة كبار في الأدب والمعرفة الأستاذ ضياء نافع ، محمد يونس الساعدي ، حياة شرارة ، جليل كمال الدين ، ناشئة بهجت الكوتاني .

قراءاتي السابقة عن يوميات الأدب الروسي، ومن خلال دراستي للأدب الروسي في مطلع الثمانينيات في الآداب جامعة بغداد واطلاعي على حياة ومسيرة الكتاب الروس من شعراء وروائيين ونقاد وكتاب ورسامين. بدءاً من عصر القياصرة إلى فضاءات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى بقيادة مفجرها لينين، وحقبة حكم ستالين بقبضته الحديدية.

كان يرهقني في الأدباء الروس مصيرهم المحتوم إلى الموت انتحاراً أو بظروف غامضة في كلا الحقبتين من تاريخ روسيا وهم بعزّ عطائهم الإنساني ومعترك حياتهم الإبداعية. وبقيت لسنوات أتساؤل مع نفسي من خلال القراءة والمعرفة في مسيرة هذا السجل عن مصيرهم المستعجل إلى الموت.

هل أن قسوة الانظمة في قمع إبداعاتهم كانت سبباً في موتهم سراً أو إنتحارهم طوعاً ؟. وهل أن إبداعهم الإنساني في لحظات التجلي والقمة دفعهم إلى هذا المصير المفجع ؟. وهل أن مفهوم الموت في النتاج الإنساني والاخلاقي بحتمية الحياة قادتهم إلى الموت الزؤام ؟. هل هذه العوامل كافية وكفيلة تدفع شاعراً أو روائياً لم يتجاوز عمره العقد الثالث وفي قمة تألقه أن ينتحر أو يُقتل غيلة مثلما وقع مع الشعراء ألكساندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وفيدور دوستويفسكي إلى ماياكوفسكي وسيرغي يسينين.

الكساندر بوشكين. شاعر روسيا الأول وطنياً ووجدانياً ورمز من رموزها، نُفي مرتين من قبل قيصر روسيا نيكولاي الأول لنشاطه الثوري ضد أركان حكمه المتزمت من خلال نتاجاته الأدبية والإنسانية إلى أن رُتّبت له بدعة المبارزة السائدة آنذاك لينتهي ميتاً. ميخائيل ليرمنتوف نعاه بقصيدته ”موت شاعر ”هزت أركان روسيا من أقصاها إلى أقصاها، لينفيه القيصر إلى منطقة القوقاز. عُرف شاعراً وكاتباً مبدعاً في العديد من الروائع الأدبية التي جسد من خلالها إبداعات الإنسان ”بطل من هذا الزمان” كانت روايته الوحيدة ، لكن ملحمته الشعرية التي رثى بها شاعر روسيا الأول ألكساندر بوشكين بعد موته، هي من أدخلته عالم النجومية والعالمية والشهرة، ومن ثم أدّت إلى قتله أيضاً.

كما نال الآخرون من الحيف والتهميش والنفي بدءاً من إيفان تورجينيف إلى الناقد الديمقراطي فيساريون بيلينيسكي ومروراً بليف تولستوي ونيقولاي غوغول وأنطون تشيخوف ، أما فيودور دوستويفسكي فقد حُكم عليه بالإعدام لنشاطه الثوري ضد ممارسات وسياسة القيصر، وما زال سرّ موته المبكر لغزاً.

لم يكن حال الأدباء والشعراء والكتّاب الروس في ظل الوضع الجديد بقيام ثورة أكتوبر أحسن حالاً من الزمن الذي مضى، لقد مارس ستالين ونظامه سياسة الترهيب والترغيب بحقّ مبدعي روسيا وسلخهم من جلودهم الحقيقية وحولهم إلى مدّاحين وطبّالين لشخصه ونزقه ، وإن من عارضه أو صمت تلقى حتفه الأبدي ، ومن فضاءات ثورة أكتوبر ولدت منهجية تحزّب الفن الذي تلقفناه نحن أي بلدان الشرق وأحزابها الشيوعية. يقول أميل حبيبي :” نحن ربينا أجيالنا على مفاهيم ستالين. الشيوعيون جبلوا من طينه خاص”. وثمة من عاصر التجربة المرة واستنساخها على الوضع في العراق وسياسة البعث وصدام حول الابداع والمبدعين.

لقد ظل ستالين طيلة حقبة حكمه يعيش بهاجس الخوف من المبدعين الروس، فأغلب الذين ماتوا أو إنتحروا ظلت تدور حول قتلهم الشبهات . يقول سيرغي دوفلاتوف:” نلعن ستالين بلا إنتهاء نتيجة أعماله، ومع ذلك أريد أن أسأل من الذي كتب أكثر من أربعة ملايين تقرير ”.

الشاعرة المبدعة والكبيرة مارينا تسفيتايفا إنتحرت في ظروف غامضة بعد أن أعدم زوجها وإعتقلت أبنتها وأختها ، ولم يعُر انتحارها اهتماماً في الاوساط الحكومية ولا حتى الأدبية وظلت قصائدها ممنوعة إلى أواسط الخمسينيات بما تمتاز به من ثقافة وتمرد ورفض في المعاني.

كان ستالين يتابع بنفسه جميع النتاجات الأدبية والفكرية، ويحضر شخصياً المسرحيات والأمسيات الأدبية ممن تنال إقبالاً جماهيرياً في الأوساط الشعبية، وقد حضر وشاهد مسرحية ”أيام تورين” من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف عدة مرات على المسرح الأوبري في موسكو، وخرج بنتيجة مفادها أن هذه المسرحية ”سخرية من النظام الشيوعي وأن بولغاكوف ليس منا ” وبسبب ما تعرّض له هذه الروائي العبقري من سطوة سياط ستالين ورفاقه، مات بعد تعاطيه جرعة كبيرة من المورفين.

وعندما قرأ ستالين مسرحية ” في المخزن” للروائي أوليغ بلاتونوف كتب عنه قائلاً : كاتب موهوب ولكنه وغد ” ووصف المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا.

في عام 1934 أنشأ ستالين ” أتحاد الكتاب السوفييت”. وأختزل بهذه الخطوة كل المنتديات الأدبية، وبدأ العمل ضمن مفهوم الواقعية الاشتراكية والالتزام ببنودها وأن من يخرج على طاعتها يتعرض إلى العزلة والقتل .

كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس الاتحاد ومؤمناً بالاشتراكية وشديد الإخلاص للحزب الشيوعي ولستالين شخصياً. ويبرر ويدافع عن كل خطوات ستالين المؤذية تجاه رفاقه ومبدعي شعبه.

بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956 ورفع السرية عن الوثائق المطمورة بما سمي حينها ذوبان الجليد وحين أتضحت الحقائق المروعة عن جرائم ستالين وسياسته الدموية حزن حزناً عميقاً، وشعر بالألم والندم ، ولم يتحمل الضغط النفسي الشديد وبات دائم القلق معذب الضمير، ويتمنى الموت اليوم قبل الغد، فأطلق الرصاص على نفسه ليرتاح إلى الأبد من عذاب الضمير كما جاء في الرسالة الموجهة إلى اللجنة المركزية للحزب ، والتي كتبها قبل الانتحار.

بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 هاجر عدد كبير من خيرة مثقفي روسيا من مفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين خارج روسيا، أما من بقي منهم فقد تعرض إلى المضايقات والتهميش وتقيد إبداعهم بالترهيب والترغيب وتحزيب نتاجاتهم .

مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد أن رفضوا بالسماح له بالسفر إلى الخارج لتلقي العلاج. ولقد كتب البروفيسور ضياء نافع في يومياته عن روسيا والسوفييت يروي قصة عيشه مع اللاجئين الروس في باريس في منتصف الستينيات ، والذين غادروها بعد ثورة أكتوبر وتوقعاتهم بانهيار النظام الشيوعي في الوقت الذي تهاوى به الاتحاد السوفييتي.

أما فاجعة وسيناريو الشاعر سيرغي يسينين فهي جد مؤلمة ، حيث شنق نفسه في فندق في لينينغراد عام 1925 وهو في الثلاثين من العمر في عز عطائه وشبابه، وهو الشاعر الأكثر شعبية من حيث تداول شعره في روسيا بما تتضمنه قصائده من غزل وشجن ووجدانيات، عربياً قد يكون قريباً جداً إلى شاعرنا الكبير نزار قباني من حيث دغدغة مشاعر الأنوثة والرومانسية النسوية. وقد ترك في الغرفة التي شنق فيها نفسه قصيدة مكتوبة بالدم، لأنه لم يجد حبراً، فجرح معصمه وكتب قصيدته التي يقول فيها «ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت، وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش».

ولشعبيته الكبيرة في روسيا بعد إنتحاره فقد أجتاحت روسيا موجه كبيرة من الإنتحارات وسط الشباب والمثقفين، مما أثار هلع السلطات للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، وقد ترك بعد رحيله ثناء طيباً وكلاماً عميقاً من مبدعي روسيا. فقال عنه بوريس باسترناك: لم تلدُ الأرض الروسية من هو الأكثر وطنية وأفضل توقيتاً مما هو سيرغي يسينين.

أما مكسيم غوركي فقال عنه : «إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن خُلق من أجل الشعر حصراً».

أما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه : «إن يسينين لم ينظّم أشعاره ، بل لفظها من أعماقه».

وقال الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي : إن موته «مأساة أخرى في تاريخ روسيا مسّت الوجدان العالمي والإنساني»، حيث كتب قصيدته الشهيرة بعد انتحار يسينين يقول فيها : «في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت، أن تصوغ الحياة لهو أصعب بما لا يقاس»، بعدها أطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهدى إليه من مخابرات الكرملين.

وقال عنه الأديب الروسي فيكتور شكلوفسكي: «إن ذنب الشاعر ليس في أنه أطلق الرصاص على نفسه، بل أنه أطلقها في وقت غير مناسب».

مكسيم غوركي كاتب رائعة رواية الأم مات في ظروف غامضة، ويقال إنه قد جرى تسميمه وإن ستالين شخصياً كان ضالعاً في قتله ، لأن مكسيم كان مستاء وغاضباً مما يرى حوله من بؤس وظلم . وهناك العديد من الشعراء والأدباء تعرضوا إلى السجن والموت وهم في بداية شهرتهم الأدبية ، لكن مواقفهم الإنسانية والوطنية هي التي حتمّت موتهم السريع والمرعب. فالشاعر كلوييف مات تحت التعذيب ، أما الكاتبان المعروفان بيلنياك وإسحاق بابل فقد حُكم عليهما بالإعدام ونُفّذ فيهما الحكم سريعاً.

أمام هذه التراجيدية السوداء في تاريخ روسيا القيصرية والاشتراكية في التعاطي مع الأدب والأدباء والشعر والشعراء والحرية والإبداع، نقف عند قول فولتير: «إذا كان لي ابن، لديه ميل إلى الأدب، فأن العطف الأبوي يدفعني إلى أن ألوي عنقه». لقد مارس ستالين الإرهاب الفكري بحقّ مبدعي روسيا وقمع حرية التعبير، بل وقام بالتشهير بالمبدعين من الشعراء والروائيين ممن كانوا يكتبون بحرّية وإبداع خارج ما يسمى في حينها بالثورة الثقافية.

عندما حصل الشاعر بوريس باسترناك على جائزة نوبل للآداب ١٩٥٨ عن روايته ”دكتور زيفاكو” منعه الرئيس السوفيتي خروتشوف عن قبولها. وقد تعرض إلى حملة تشهيرية واسعة فأصيب بسرطان الرئة ومات عام١٩٦٠.

أما الشاعر جوزيف برودسكي فقد اعتقل بتهمة نشر أعماله في الخارج وتم إحتجازه بمستشفى للمجانيين ، وفي عام ١٩٧٢ طردته السلطات خارج البلد وانتزعت منه الجنسية السوفيتية، وهو شاعر مبدع يخط بقلم واضح نال جاهزة نوبل للاداب عام ١٩٨٧، وكان عمره٤٧ عاماً، أي أنه أصغر أديب حاصل على هذه الجاهزة الرفيعة.

في عام ١٩٦٨  حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايته  ”الدائرة الأولى” في الخارج، وصفته وسائل الإعلام السوفييتية بالخائن والعميل وعلى أثر حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام١٩٧٠، طرد من اتحاد الكتّاب السوفييت، وفي عام١٩٧٤ نزعت عنه الجنسية السوفييتية وطُرد إلى خارج البلاد.

إن أغلب الأنظمة السياسية في العالم لم تعُد تستوعب فكرة إبداع ونتاج مبدع لا يتعاطى مع مشاريعها السياسية ومصالحها . إن مفردة الديمقراطية كذبة ومؤسساتها حيلة من الحيل ضد توجهات المبدعيين الإنسانية والسياسية. في فرنسا مُنعت كتب كانت وفولتير لأنها كانت ضدّ توجهات النظام السياسي القائم في البلاد. وبعد أن استلم ستالين مقاليد الحكم والدولة والحزب والمبادئ، إثر موت رفيقه لينين عام ١٩٢٤، كانت الخطوة الأولى في برنامجه تصفية كل قادة الحزب وأعضاء المكتب السياسي بذريعة تطهير الحزب من العناصر المخربة. وينقل إنه بعد أن فاحت رائحة جريمة قتل رفاقه ، هم الرسام بيكاسو برسم صورة بشعة له ، فتعرض أي بيكاسو على أثر ذلك إلى العقوبة والتوبيخ من قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي.

أما في فضاءات الحضارة العربية والإسلامية وقتل علمائها ومبدعيها، فالحديث عنها مرعب ومخيف، بدءاً من الخوارزمي ومروراً ببشار بن برد، وأمرؤ القيس، وليس إنتهاء ببدر شاكر السياب الذي مات مهموماً ومعزولاً ومتروكاً، وعبد الأمير الحصيري الذي مات فقيراً رثاً في حانات بغداد.

بعد هذا العرض التراجيدي لمصير أدباء وشعراء روسيا وما لاقوه من قمع وإرهاب ومصادرة لإبداعهم الإنساني، قد يصفني بعض من المتفهمين على أنني معادٍ للفكر الماركسي. لكنني أعلن وبزهو تام عن إيماني الكامل بهذا الفكر الخلاق نهجاً وأخلاقاً وفكراً، وأن حبي له هو حافزي الأول والأخير في تعرية ونقد الأخطاء التي أدّت إلى تدمير هذه التجربة الخلاقة.
Mohammed Al Saadi

2
المنبر الحر / وقفة مع حسن أوبك !.
« في: 18:48 04/03/2024  »
وقفة مع حسن أوبك !.
في زيارتي الآخيرة الى بلدي العراق وديرتي قرية الهويدر ، حظيت بلقاء أهل وأصدقاء ورفاق وأحبة فارقتهم سنوات طويلة ، كان من بين هؤلاء الأحبة الشاعر والروائي إبراهيم البهرزي ، ذات مساء ندي ، وأنا جالس على أسرة مقهى دردي الأثيرة في قرية الهويدر مع الاصدقاء فراس الشيباني رئيس أتحاد أدباء وكتاب ديالى والباحث والاستاذ عبد الكريم الكفشي في زاوية تلك المقهى وفي متعة الحوار حول هموم الوطن وعطر الذكريات . أقترح علينا الاستاذ فراس الشيباني بزيارة الشاعر إبراهيم البهرزي في بيته بمدينة بهرز ، فقادنا بسيارته الى بيته ، وقد أستقبلنا برحابة صدر وشوق كعادته مرحباً بنا ، وعلى مجعات القهوة المرة دارت أحاديثنا المتنوعة حول الوطن والثقافة والسياسة بين الأمس واليوم في الموقف والمبدأ .

وبعد أن أرتشفنا فناجين قهوته المرة بادره الاستاذ فراس الشيباني بنشاط أتحاد الادباء القادم بأستضافتي للحديث عن تجربتي في الغربة والتجربة والكتابة . وقال له : نحن نرغب ستكون أنت يا إبراهيم في إدارة الامسية ، ورغم تردده في البدء برغبته في العزلة وتردده في حضور تلك اللقاءت وبعده عن تلك النشاطات ، لكنه أعرب عن تقديره لنا في حرارة هذا اللقاء بعد هذه السنوات الطويلة رحب بتلك الفكرة ، وكنا ممتنيين له ولموقفه في تقديره لحضورنا وهذه من شيمه الكبيرة . وكان خير لقاء وحضور ومحاور .

في نهاية اللقاء أهداني روايته الآخيرة ” حسن أوبك ” المنشورة عبر دار نشر درابين في العاصمة بغداد وفي صفحة واقع ٢٦٧ من القطع المتوسط وبغلاف معبر بدقة وأنيق عن أسم وأحداث وشخصيات الرواية ، والتي تدور أحداثها في العراق وحصراً في مدينة بعقوبة ، كما كان واضحاً من خلال تجسيد الشخصيات وبناؤها ولغة حواراتها وواقعية الزمان والمكان .
ومن الصفحات الأولى في الرواية تشدك وتشير لك الاحداث عن عمق المأساة التي مر بها شعبنا بعدة حقب تاريخية قريبتين الى المتابع والمشاهد والمرحلة ، حقبة نظام البعث وتعامله مع أبناء شعبه ، وتهاوي ذلك النظام بفعل الدبابة الامريكية والنتائج المدمرة من خلال شخصيات الرواية بين الموقف والتزلف والتذبذب في المواقف في التعامل مع الوضع الجديد على حساب المباديء وسنوات النضال .

تمكن إبراهيم البهرزي وبحرفية عالية وبعين سياسي راصد للاحداث بدقة وأمانة في تتبع مسيرة التطورات التي عصفت بالعراق وأهله من خلال عرض تطورات كل شخصية في العمل ومواقفها من الاحداث في الفترة السابقة ، فترة نظام البعث وما بعد رحيله في بناء درامي متصاعد على شتى الاصعدة السياسية والاجتماعية والفكرية والإخلاقية ومنظومة العلاقات بين تلك الشخصيات وتوجهاتها الفكرية والسياسية .

النموذج الساطع في مفصل التطورات التي حلت بالعراق جراء إحتلاله هو شخصية خليل الترزي وسرعة تنقلاته من حضن النظام الدافيء السابق الى حضن النظام السياسي الجديد والذي نصبه المحتل ومن خلال تشبثه السياسي الجديد بإنتمائه الشيوعي السابق وتسلسله عبر تلك المنظومة لكي يكون له شأن وموقع جديد متنكراً ماضيه التعيس وناكراً حقوق أم محمد وزوجة حسن أوبك السيدة سامية أخت البعثي المتغطرس الرفيق سامي والذي ينتهي به المشوار بقتله على يد الإحتلال بعد محاولته بنصب عبوة ناسفة لدبابات الامريكان ، وهو أخ الشيوعي سمير المطارد ، والذي يعيش في مملكة السويد ، وقصة عودته الى العراق بعد الإحتلال والتداعيات التي واجهته .

في بدايات قراءتي للرواية تشدك أحداثها لتسلسلها الزماني وبناؤها الدرامي ، إضافة الى الاسلوب والبناء واللغة الصافية والمعبرة عن تكوين أركان العمل وشخصياته ورؤاه المستقبلية بإعتباره شاعر وسياسي . أرتأيت أن أنشر هذا الانطباع الأول عن الرواية لغاية في نفسي لدراسة مستفيضة قادمة عن الشاعر والرواية والحدث !.
محمد السعدي
مالمو/ آذار ٢٠٢٤

3
من هزارستون الى خورنوزان !.الثالثة .

بعد عدة أيام من الهجوم على هزارستون فرض الجيش العراقي سيطرته الكاملة على المنطقة ومن ضمنها مقرنا والربايا الإيرانية ومقر حزب الباسوك بقيادة حاجي محمود ولم يعد لنا وجود يذكر هناك ، ونحن رفاق التنظيم المدني جرى توزيعنا على الافواج والمقرات ، وكان نصيبي مع الرفاق الشهيد أبو علي السماك ”عمر ” أبن مدينة الصويرة والدكتور صارم كاظم الجاسم ” ملكو ” أبن قرية بوشناوة في ريف مدينة بابل على ملاكات الفوج الخامس عشر في منطقة خورنوزان الواقع ضمن وادي عميق بين قطعين جبلين وممر ممشى بين مقر قيادة القاطع في منطقة ” كرجال ”والفوج التاسع في منطقة ” باني شهر ”. الفوج الخامس عشر ، كان موقعه مؤقتاً بعد أن أنسحب من مناطق تواجده دوكان وسهل شهرزور على أثر الاتفاق والتعاون العسكري بين الإتحاد الوطني الكردستاني ” أوك ” والنظام العراقي وتشكيلهم قوات مشتركة ضد مقاتلي الاحزاب العاملة في ساحة كردستان ، ولم يبقى لنا في تلك المناطق الا مفارز صغيرة ومختفية ومن أبناء المنطقة ، ولم يدوم  هذا العرس طويلاً رغم التنازلات الكبيرة التي قدمها حزب الإتحاد الوطني الكردستاني الى أجهزة السلطة العراقية في إستهدافه للشيوعيين والقوى الكردية الآخرى ، وكانت جريمة بشتاشان خير دليل على الخسة والغدر ، وصرح مام جلال في يومها تصريحاً خطيراً أن صدام حسين حكم وليس خصم .

يتكون الفوج الخامس عشر من عدة سرايا وآمره  الكادر العسكري المجرب ” حمه رشيد قرداغي ” كان مختفياً في قرى وأرياف شهرزور وقرداغ ودربندخان مع مفرزة صغيرة من المقاتلين فتولى شؤون إدارة الفوج المسؤول السياسي الدكتور أبو عادل والمسؤول الاداري أبو زاهر ، وكانت الخلافات والتكتلات داخل الفوج عامة بين الرفاق شعرنا بها من أول يوم وطأت قدمانا وادي موقع الفوج ومن تداعياته الارباك العام في الوضع السياسي والعسكري علاوة على رفاق الفوج خليط غير متجانس ، حيث رفاقنا الكرد ليس سهلة عليهم البقاء في المقرات فترة طويلة وهم أبناء المنطقة روحهم الحقيقية في المفارز والتجوال في القرى ، مما خلق هذا الملل تصادمات في الرؤى والمواقف وكثرة المماحكات .

يبدو ، وكما تبين لاحقاً وبوقت قريب لا يتعدى ثلاثة شهور ، أن نية السلطة في السيطرة على المنطقة بالكامل سلسلة جبل سورين الشريط الحدودي مع إيران ، وكانت الحكومة العراقية تعد لذلك منذ وقت ليس ببعيد ، وكنا نسمع من المستطرقين ومن المهربين ” الكرونجية ” ومن أهالي القرى ، لكننا لا نبالي لها ، ولهذا لم نضع حالات طواريء لها في مواجهتها أن وقعت !.

كان هناك تنسيق بين الفوج ١٥ للحزب الشيوعي العراقي وبين قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني فرع تنظيمات خانقين ” نوجة خانقين ” . وكان لهم مقر مجاور لنا بنفس وادي خورنوزان في الكمائن الليلية على قمة الجبل وضمن الدراسات العسكرية لو أراد الجيش أن يتقدم سوف يـأتي عبر تلك المنافذ ، لإنه سابقاً وقبل بدأ الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٠ ، كانت ربايا عسكرية للجيش العراقي ومحصنة بالمواضع والصخور والقتال والدفاع . تلك الربية العسكرية وضمن الاتفاق بين القوتين ، كانت من حصة مقاتلي الحزب الديمقراطي في نصب الكمين داخلها يومياً من الساعة العاشرة ليلاً الى السادسة صباحاً ، أما نحن كان موقعنا مكشوف في قمة الجبل وبين الصخور لايحميك شيئ أن وقع طارئاً ، وفي العلم العسكري موقع دفاع فاشل وهدف سهل للعدو . أما موقع الحزب الديمقراطي الكردستاني ” حدك ” موقع عسكري محصن ونظامي وهو القريب على منافذ تقدم الجيش العراقي والتصدي له ، أما موقعنا المكشوف يبعد تقريباً ألف متر وعلى مرتفع أعلى .

ذات ليلية قمرية مصحوبة بنسمات هواء منعشة تسلقنا أربعة رفاق الى قمة الجبل لنكمن في الراقم المتفق عليه أنا لطيف ، أبو زاهر ، الشهيد عمار من أهالي الدغارة مدينة الديوانية ، والشهيد قاسم من أهالي مدينة العمارة . في اللحظات الأولى التي تخندقنا بموقعنا أنتبهنا الى الربية العسكرية خالية من مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني وعللنا الأمر مع بعضنا ربما سيلتحقون متأخرين بعض الوقت ، لكنه الوقت طال ولا أحداً هناك .. بعد منتصف الليل الساعة الواحدة ليلاً وزع أبو زاهر وقت الحراسات طبعاً تضمنتها بعض التصنيفات السخرية بيننا عن تخلي مفرزة ” حدك ” في الالتحاق في الكمين بموقع مهم بمثابة بوابة الأمان لنا . 

في الساعة الواحدة ليلاً ثلاثة رفاق خلدنا الى النوم وأستلم الحراسة أبو زاهر وبعد ساعة سأكون أنا بعده ، لكني لم أتمكن من النوم بقيت أتأمل النجوم في السماء الصافية وشريط ذكريات الأهل والأحبة وتسربت الى هواجسي قشعريرة قلقة ربما إيذاناً بإطلاق الصواريخ في تلك اللحظات شكل عندي هذا الهاجس . الساعة الثانية ليلاً أستلمت الحراسة من أبو زاهر ، تجاوزت قليلاً عن الموقع المحدد مباشرة طرق سمعي مع نسمات الهوى حديث قريب وصدى أصوات ، وعندما تفحصت المكان جيداً ، نحن مطوقين من قوات الجيش وربية حلفائنا التي تركوه في تلك الليلة معسكر بها الجيش يسرح ويمرح، رجعت حالاً الى الموقع وبلغت أبو زاهر ، وقد رآى بأم عينيه نحن مطوقين من كل الجهات الا منفذ واحد ربما تركوه لنا لسهولة الانسحاب وتجنب القتال ، فأمر أبو زاهر بالانسحاب ، وكان هذا عين العقل ، لو طلقة واحدة طلقت لكان الضحايا جسيمة مئة رفيق كانوا نائمين في عمق الوادي فاستغلنا عتمة الليل وإنسحبنا بأتجاه الاراضي الإيرانية وتحصنا في مواقع بعيدة عن متناول قوات الجيش . ولم يتعرض لنا الجيش في تلك ا لساعات المتأخرة من الليل ، في الصباح الباكر كنا في عمق وادي طويل وعميق على الحدود الإيرانية . وفي صباح اليوم نفسه نزل الجيش بقوة كبيرة مسنودة بصواريخ المدفعية الى مقراتنا وتجولوا بها مع الصحافة التلفزيونية ونقلها تلفزيون بغداد بصوت معلق غليظ إنها أوكار العملاء والخونة ، مما حز وجع في قلوبنا بتشويه صفحات التاريخ ، نحن كنا مناضلين وحاملين مشروع وطني كبير لتخليص العراق من الحروب والدكتاتورية . المعلومات التي توثقت لنا فيما بعد أن الجيش بدأ بالتقدم من الساعة السابعة مساءاً وعلى ثلاثة محاور . ” سيد صادق ، خورمال ، حلبجة ”.

في اليوم الثاني شنت قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني ” حدك ” وفي محاولة فاشلة وبمعزل عن قوات الحزب الشيوعي ولاحتى إعلامنا من أجل أتخاذ الاحتياطات هجوماً كبيراً على الربية التي تركوه قبل يوم ولم ينجح هجومهم في أستردادها وبعد قتال طويل وعنيف راحت ضحايا كبيرة من الطرفين ، لكن صوت إذاعة الحزب الديمقراطي كانت حماسية في إذاعة البيانات بإحتلال الربية وإبادة قوات الجيش بها ، لكن الحقيقة الجيش لم يتزعزع من موقع الربية رغم شراسة القتال . وفي تلك الليلة تعرضنا الى وابل وحمم من الصواريخ طوال الليل حيث فتت الصخور وقلعت الاشجار ونحن متنخدقين في القطوع والمغارات الجبلية . في اليوم الثاني من الليل دخلنا إيران وحملتنا عدد من السيارات بإتجاه مدينة ”مريوان” نزولاً الى مدينة ”دزلي” ومنها شكلنا مجاميع نزولاً من الجيل الى موقع مقر قيادة القاطع في منطقة ”كرجال”. وفي اليوم الثاني عقد إجتماع موسع حضره أيضاً قيادة الفوج السابع ”هورمان” بقيادة الشهيد علي كلاشنكوف . وبعد حديث مختصر ومبطن من المرحوم أحمد باني خيلاني وجهت لنا نحن الاربعة رفاق ” المفرزة ” عقوبات حزبية وعسكرية ، ولم تعطى لنا فرصة بالحديث وعلى أقل تقدير تثبيت بعض الوقائع ، ولم يسمح الوقت لتنفيذ العقوبات حيث إجتاح الجيش المنطقة بالكامل ، وأنسحبنا مع قيادة القاطع عبر المدن الإيرانية الى مناطق ”شرباجيير” والجميع سكت وممن حاول ينتقد موقفنا بعدم الاشباك مع قوات الجيش لو وقعت سهواً لدفعنا ضحايا كبيرة .

وعلى هامش الحدث وتداعياته ، في عام ٢٠٠٩ ألتقيت بالمرحوم قادر رشيد ”أبو شوان ” في العاصمة السويدية  وقد تناول حدث هزارستون في كتابه ”بشتاشان بين والألم والصمت” . والذي رواه حول الانسحاب والكمين والمفرزة لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد والأسماء التي مستند عليه في روايته لم يكونوا في المنطقة ولا حتى من منتسبي الفوج ، وأحدهم كان أسم وهمي . في يومها كان قادر رشيد في إيران ورويت له ما حدث بالتفاصيل المملة وبالوقائع خدمة للتجربة وأنصافاً للتاريخ .

محمد السعدي
آب٢٠٢٣


4
حدث في هزارستون مرة ثانية !.
محمد السعدي

بعد أن نشرت الوثيقة الأولى عن ما حدث في شكوت ”هزارستون” تلقيت عدة رسائل من رفاق مروا بهذا الموقع ومن متابعين للشأن السياسي العراقي ومن مهتمين بشغف للاطلاع على حيثيات وتفاصيل التجربة التي خاضها الشيوعيين العراقيين في ظرف عصيب من تاريخ العراق السياسي الحديث وما أعترتها من تحديات جسيمة وطرق مواجهتها ، مما أخذت قسم على نفسي وعهد تاريخي وأخلاقي في العودة لها ثانية والوقوف على تفاصيل آخرى . في مقرنا كانا معنا حمارين يتقاسما معنا التعب والخوف من صدى صوت الصواريخ العراقية عبر أجواء موقعنا لتدك رواقم الجيش الإيراني ، وكانت شبه يومية ولا يحددها زمان ووقت . بطبيعة الظرف والوقت وعسر الحياة تآلفنا مع الحمارين وكانا جزء مهم من يومياتنا المملة ، ولقد أطلقنا عليهن إسمين نكاية برجالات الدولة العراقية ” فيطو وصبحة ” !. شخصية فيطو هو المسؤول عن نادي الصيد العراقي آنذاك . وشخصية صبحة هي أم الدكتاتور صدام حسين . في نهايات أيام الانسحاب الآخير من موقع هزارستون على أثر الهجوم الكاسح على المنطقة كانا معنا ” فيطو وصبحة ”. وبقى معنا الى اللحظات الآخيرة من أنسحابنا من جبل سورين وعبورنا عبر المدن الإيرانية الى مناطق شرباجيير .

كنت حريص جداً مع الرفيق الذي سوف يرافقني في قطع أشجار البلوط في عمق الوادي صعوداً بإتجاه الاراضي الإيرانية ودقة تقطيعها وشدها وحملها على ظهور ” فيطو وصبحة ”. ربما بتأثير غير مباشر في التراجيديا السياسية ، ذات يوم كنت حاضراً في أمسية بموقع كرجال ألقاه علينا الرفيق المرحوم أحمد باني خيلاني في خريف عام ١٩٨٣. وكان عائد تواً الى قيادة القاطع بدلاً عن الرفيق المرحوم بهاء الدين نوري الذي عزل وشهر به لأصراره بنشر وثيقة تقيمية لسياسة الحزب للفترة الممتدة من ١٩٦٨الى ١٩٧٩ . وتحمل ما تحمل بسببها .

كنت معتقد ومتلهف سوف أسمع من المسؤول الجديد حول مستجدات المفاهيم الماركسية الجديدة قانون نقض النقيض أو وحدة وصراع الاضداد ، أو ما كانت تمنيه النفس في الحديث عن ظروف أسره وفكه وبيانهم المشؤوم مع الرفيق المرحوم كريم أحمد من إذاعة صوت الإتحاد الوطني الكردستاني بعد أحداث بشتاشان الدامية . ختم حديثه حول مزايا الشيوعي الجيد وهو من يستطيع أن يقود حيوان ” البغل ” والرفقه في مداراة الحمل على ظهره .

في شتاء قارص عام ١٩٨٤ . شهدت المنطقة عواصف ثلجية غزيرة سدت الطرق والمنافذ والتي كانت متاحة لنا للتحرك لعدة أيام ، لم يعد أمامنا الا الحركة داخل الشكوت متأبطين الاغطية السميكة للوقاية من شدة البرد ، ولقد أستمرت لأيام ، ولقد أضنانه الجوع والملل ، وفي هذا الأثناء ألتجأ إلينا ” كلب ” هارباً من الثلج والبرد ليحتمي في الاشكوت ، فقام أحد الرفاق لا أتذكره من كان ، بإطلاق النار عليه ، وأنا قمت بسلخه وتقطيعه ووضعه في إناء كبير ولعدة ساعات تحت نار مشتعلة ، وعندما ناديت على الرفاق بالقدوم والنهوض من النوم لإنه الطبخ أصبح جاهز ، لكن لا أحد تجرأ على مضغه لقساوة لحمه الشديدة مع جملة من التعليقات المريحة . 

ذات مرة أكتشفنا في قطع جبلي حاد خلية نحل ، والرواية تقول حسب بعض الرفاق من أبناء المنطقة عمرها عشرات السنيين ، وعندما أستطلعنا عبر الفتحة الضيقة رأينا كثافة العسل المتراكم داخل المغارة ، حيث بدأنا نضع الخطط تلو الخطط لاقتحامها ولصعوبة التمكن من السيطرة على المكان لابد من يحملك أو الاستعانة بسلم . قررنا أنا وعدنان اللبان ومناف الاعسم بتبني العملية ، فقمت بأنتزاع شبك المنخل الوحيد الذي نمتلكه في المقر ومن خلاله كنا نصفي الطحين من الديدان والحشرات قبل تحضيره للعجن والخبز  . ووضعت شبك المنخل على وجهي وغطت كل أعضاء جسمي بالوصل ” خرك ” وذهبنا الى المكان وحملني عدنان اللبان على كتفه وبدأت أوسع من كبر الفتحة بآله حديدية ، وعندما تمكنت من أن أمد يدي داخل الفتحة لا أتخيل عدد الزنابير التي هاجمتني ولم يعد يحميني لا شبك المنخل ولا الغطاء الذي أحتميت به ، وبقيت أيام أعاني من الألم والوجع والورم .

كنت وما زلت من محبي الطيور المدجنة ، كان والدي المرحوم من مربيها ، وأنا فطنت على ذلك في بيتنا الهويدراوي العتيق ، حتى هنا في السويد جنيتها لأكثر من مرة ، وكانت تمنحني طاقة من التأمل والسكينة لولا الملعونة السويدية جيراننا سعت من أجل حرماني من هذا التأمل حسب القوانين السويدية . وفي شوكت هزارستون ذات مرة كنت قي قرية ”شير مر” وفي أحد بيوت القرية وكان رب البيت من مالكي طيور ، وتفاجأ عندما طلبت منه أن أشتري زوج وحملتهن معي الى المقر ”شكوت هزارستون”. ورتبت لهن واحدة من المغارات وأصبحن جزء من يومياتنا رغم الهمس من بعض الرفاق في الانتقاد وعدم الرضا ، وذات عصرية كنا نتأمل سحر السماء وجمالية الغروب هجم الهر الكبير ”العتوي” عليهن ولولا أحد الرفاق الذي بادر بقوة السلاح من إبعاد الخطر عنهن ، وبعد هذه الواقعة أختفن ولم نراهن ، لكن أثارن جدل وسجال بين الرفاق وصلت بعضها الى الزعل .

في واحدة من السوابق الخطيرة في الحياة الحزبية الشيوعية بهذه الجملة واجهني الرفيق محمد جاسم اللبان ” أبو فلاح ” بعد أن ألتقاني ، وأنا أروي له الحكاية . يبدو ومن خلال التجربة البسيطة وهذه ليس محصورة بالشيوعيين فقط إنها الشخصية العراقية بشكل عام ، عندما يستلم ويتبوأ مسؤولية مهما يكون موقعها وتأثيرها ، يبدأ شخصية آخرى غير الذي تعرفه وعشت معه سنوات وتجمعنا رفقة ومصير مشترك وموت مؤجل . كان في الموقع رفيقنا الشهيد أبو أحمد ” بختيار عرب ” من أهالي مدينة الشعب بالعاصمة بغداد رفيق مضحي وشجاع وكادر متمرس في العمل الحزبي ودمث الاخلاق ونكران ذات ومبادر في دعم ومساعدة الجميع وجليس ممتع ، منذ سنوات لا يعرف أخبار عن زوجته وأولاده ، أو ربما يتجنب الاتصال بهم خوفاً عليهم من بطش النظام . الشهيد أبو أحمد أستلم مسؤولية الموقع فتحول الى إنسان آخر تماماً غير الذي نعرفه وتعودنا عليه من التسلط وحشر أنفه في الصغيرة والكبيرة في يوميات الرفاق حتى وصلت الأمور الى لغة الأمر والخلافات اليومية مع الرفاق الى حد المقاطعة فتكون رأي عام ضده أو على أقل تقدير من أجل بقاء صورته الجميلة في قلوبنا ، فوصلت الأمور الى حدود الكلوسة بيننا بالمطالبة بعقد إجتماع إستثنائي وأتفقنا جميعاً وبقرار حزبي سوف نعزله عن مهامه رغم خطورة الخطوة وتبعاتها علينا لانه خرق تنظيمي وحزبي كبير ، وبعد سجال كبير نجحنا بمهمتنا وعزله عن مهامه من خلال التصويت وبالاجماع الحزبي وتعرضنا جميعا الى التوبيخ الحزبي الغير معلن من قيادة القاطع بأعتبارها سابقة خطيرة في الحياة الحزبية وطلبوا ببرقية عاجلة من الرفيق الشهيد أبو أحمد الالتحاق الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال”. وكان وضعه النفسي منهار وبادر الرفاق بأرساله الى العاصمة طهران للراحة والاستجمام وللابتعاد عن حياة الجبل . وأنا كنت في عمر وتجربة بسيطة جداً مما تألمت كثيراً وأنتقدت نفسي وأعتذرت منه في ما بعد .

في فترة وجودي في كهف”هزارستون”وفترة عام كامل ، كانت مفعمة بالاحداث على المستوين الشخصي والسياسي ، في يوم ما من عام ١٩٨٥ أستلمنا برقية عاجلة من قيادة قاطع سليمانية وكركوك مفادها تقول ! أن النصيرين السابقين خضر عبد الرزاق ”سليم”وعبد الزهرة تيتو ”أكرم” في الطريق إليكما ونود أخباركم وهذا بمثابة قرار بعدم الترحاب بهما وأستقبالهم في المقر ، ومن المفيد جداً على الرفيق ”لطيف” هو أنا محمد السعدي أخذ الأمر بعين الاعتبار . النصيرين ”سليم”و”أكرم” كانا نصيرين ضمن قوات أنصار الحزب الشيوعي العراقي وتركا موقعهما النضالي وتوجها الى إيران ، وبعد أن عانوا من  ضنك العيش وصعوبة الحياة عادا الى الجبل ، وعندما وصلا الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال” لم يرحب بهما من الرفاق ، ومن خلال السؤال عني عرفوا موقع تواجدي وتوجهوا لي ، وهم أبناء قريتي ، ولقد ضربت بعرض الحائط برقية وقرار القاطع وأستقبلتهم في المقر بالاتفاق مع رفاقي في الموقع الا البعض من الرفاق كان متوجس . وقد أبلغنا قيادة القاطع مموهين على حقيقة الموقف إنهم مروا من هنا ، لكن الحقيقة قضوا يوماً معنا. وفي اليوم الثاني صباحاً توجهوا الى الحدود الإيرانية وسلموا نفسهم بأسماء آخرى باعتبارهم جنود هاربين من ويلات الحرب . 

بادر الشهيد أبن السماوة أبو سالار المعلم السابق والمناضل المعروف أبو صلاح من عمل لنا مزرعة جميلة في سفح مدخل الموقع ونسقها بجمالية مدهشة ، رغم معاناته اليومية بشحة السقي وقلة الماء ، كان أعتمادنا الرئيسي من الماء عبر عين ماء موقعها تتوسط الحدود العراقية الإيرانية وسحبنا خرطوم طويل صوب موقعنا ، ولكن مرات عديدة تتعرض الى القطع والتلف بسبب القصف الصاروخي العراقي على المنطقة مما نستعين بالحمارين فيطو وصبحة لاحضار المياه . وكانت معاناة حقيقية لنا . وبعد أن أجتاحت المنطقة بالكامل في سلسلة جبل سورين وكان لنا خمسة مواقع مهمة ولم يبقى مقراً واحداً لنا الا بعض المفارز المختفية والمتنقلة بظروف غاية في الصعوبة . في عام ١٩٨٥ أجتمعنا مرة أخرى في منطقة ” زيوه ” الفصيل المستقل في بهدينان خلف مدينة العمادية وفي غرفة منام واحدة مع الرفاق أبو سالار وأبو بشرى وأبو أحمد وأبو سرمد ، والذين زجوا الى الداخل في بداية عام ١٩٨٦ لمهام تنظيمية في الفرات الاوسط وإعتقلوا بعد فترة قليلة من وصولهم وغيبوا الى يومنا هذا وكل الاتهامات كانت تشير الى وشاية الكادر المتقدم في الحزب عدنان الطالقاني ” أبو هيمن ” وعندما عاد أبو هيمن من الداخل الى مواقعنا ورغم اللغط الكبير حوله ، لكن لم يتخذ أي إجراء ضده بقى يمرح ويسرح في الفصيل ، وقام الرفيق حميد مجيد موسى البياتي ”أبو داود ” عضو المكتب السياسي بزجه مرة أخرى الى الداخل ولم يعد ثانية لنا ، وحاليا مقييم في مملكة السويد ولم نسمع الى يومنا هذا أي تحقيق تم جراء هذا الكارثة الكبيرة بفقدان كوكبة لامعة من الشيوعيين الحقيقيين ، إنها طمست كغيرها من القضايا المهمة في تاريخ الحزب .
محمد السعدي
آب٢٠٢٣


5
المنبر الحر / حدث في هزارستون !.
« في: 08:51 03/08/2023  »
حدث في هزارستون !.

كهف هزارستون تعني بالكردية ألف عامود وفي واقع الحال عبارة عن مغارة تاريخية موغلة في القدم وحادة في سفح جبل سورين ، إنه كهف محشور بسلسلة من العواميد تحت مرأى العين المجردة ، في الصيف النوم تحت تلك العواميد تشعرك برشفة برد منعشة وفي الليل تخرج أسراب من خفافيش الليل في دورة كاملة حول المكان وفي النهار لاتشعر بها أطلاقاً تنام بصمت ، يقع هذا الكهف في سفح حاد ومحاط بالصخور ذات الرؤوس المدببة والجارحة وبوادي عميق في جبل سورين ، هذا الوادي ممراً للمهربين وملتقى القوافل في شراء وتبادل البضائع الإيرانية والعراقية بعيداً عن سيطرة الحكومتين ، وممشاً أمناً للجنود الهاربين من الجندية العراقية ومن لهيب نار الحرب على جبهات القتال . يبدأ مدخل ممشى الوادي بإتجاه المدن العراقية قرية ”شيرمر ” على الشارع العام بين قصبتي خورمال وسيد صادق . نحن مقاتلي الحزب الشيوعي العراقي في عبورنا الليلي من مناطق شهرزور بإتجاه مقرات الحزب في باني شهر ، وهزارستون ، ووادي كرجال ، وخورنوزان . نمر بقرية شيرمر ونقضي الليل في جامعها أو في أطرافها نقضي طول الليل سهرانيين تحت الاشجار أو داخل ” كرنفان ” كان متروكاً بأطراف القرية بأنتظار الصباح الباكر لنتسلق عبر الوادي صعوداً حاداً بإتجاه مقراتنا .

في ربيع عام ١٩٨٤ تم تنسيبي من مقر القاطع في منطقة كرجال الى موقع هزارستون حيث تنظيمات التنظيم المدني الجنوبية والفرات الاوسط والمنطقة الوسطى ، وكنت أنا أصلاً محسوب على التنظيم المدني لتنظيمات المنطقة الوسطى . موقع هزارستون معزول تماماً وبعيداً عن مقرات الحزب الأخرى أي يفصل بيننا مواقع للجيش الإيراني معززة بعناصر حزب الدعوة داخل الأراضي الوطنية العراقية . في تنقلاتنا اليومية بين جلب المواد الغذائية ونقل البريد الحزبي وقطع الاشجار لغرض الطبخ والتدفئة من البرد القارص ، كانوا يعترضوا طريقنا ببعض الاسئلة المعتادة لنا وكنا لم نخفي هويتنا نحن شيوعيين عراقيين معارضين لنظام صدام حسين ، لكننا نرفض إحتلال أرض بلدنا الوطنية ، مما كان هذا الموقف يثير حفيظة عناصر حزب الدعوة وعناصر التنظيمات الإسلامية الذين يقاتلون مع الجيش الإيراني ضد العراق . في هذا المكان شعرت برفقة وقرب مع رفاق غادرونا الى أعالي المجد في أستشهادهم البطولي .. المرحوم أبو ذكرى مدينة السماوة ، الشهيدة أم ذكرى مدينة النجف ، المرحوم أبو ناصر جديدة الشط ، الشهيد أبو أحمد مدينة بغداد ، الشهيد أبو بشرى مدينة السماوة ، الشهيد أبو سالار مدينة السماوة ، الشهيد أبو أحمد ناحية الدغارة ، الشهيد أبو سرمد ناحية الدغارة ، الشهيد يوسف عرب مدينة الكوت ، الشهيد أبو جلال مدينة الحي ، الشهيد أبو علي السماك مدينة الصويرة ، الشهيد أشتي مدينة كركوك ، الشهيد أبو جيفارا مدينة جلولاء ، الشهيد أبو غسان مدينة بعقوبة ، الشهيد أبو سهيل قرية الجيزاني ، الشهيد أبو قيس مدينة بعقوبة ، أبو جهاد مدينة السماوة . كوكبة لامعة من المناضلين الشيوعيين مروا بهذا المكان ، تقاسمنا العوز والحرمان ومشروع التطلعات الثورية . أنني مررت على الذين رحلوا لأحيي ذكراهم العطرة والسيرة الحسنة التي تركوها في نفسي برسم مسارات طريقي النضالي اللاحق .

في بدايات ربيع عام ١٩٨٥ كثافة الثلوج على قمم الجبال وسفوح التلال تقل بالذوبان عوضاً عنها زنابق الورود الصفراء والحمراء من بين شقوق الصخور إيذاناً بقدوم الربيع . ذات ليلة من هذا العام عقدنا أجتماعاً لدراسة الاوضاع في المنطقة ومناقشة الوضع السياسي خرجنا بتقييم وتقرير بإنه الوضع هاديء ولاشيء يدعو الى القلق والترقب . وقرر المجتمعون في الصباح الباكر بأنني سأحمل تقرير الاجتماع الى مقر قيادة القاطع في منطقة كرجال خلف قرى ” بيارا وطولا ” . كان آخر الحراس الليلين في الموقع الشهيد أبو علي السماك ” عمر ” ينادي على الجميع في النهوض ، رفاق أنهضوا هناك تقدم على المنطقة وقصف صاروخي كثيف على الرواقم الإيرانية من قبل قوات الجيش العراقي . نهضنا جميعاً وأخذنا أستعداد كامل لمواجهة الموقف ، وقد تبين من اللحظة الأولى أن القوات العراقية الخاصة بقيادة علي عربيد لقد أحكمت سيطرتها على المرتفعات الجبلية التي تقع في ظهر موقعنا وعبرت القوات العراقية مقرنا من الخلف بإتجاه التسلق نحو الرواقم الإيرانية تحت قصف مدفعي وصاروخي كثيف للتغطية على تقدم القوات العراقية ، تركنا موقعنا وحملنا معنا أشياءنا المهمة والخفيفة وتوزعنا على قمم الجبال والوديان بإتجاه مقرات حزب ” الباسوك ” حليفنا في جبهة جود ولم نجد أحداً من مقاتليه لقد أنسحبوا في بطن الليل لتلقيهم معلومات مسبقة عن تقدم الجيش العراقي ولم يبلغوننا ونحن في جبهة قتال واحدة ضد النظام العراقي ، أما التقرير الذي كنت أحمله في ”العليجه ” حقيبتي الشخصية بتقييم الاوضاع قبل عدة ساعات لقد مزقته بوصية من الرفاق . بعد عدة ساعات تمكنت قوات الجيش العراقي من إحتلال المنطقة بالكامل وسحق كامل للقوات الإيرانية الأ من أستطاع الهرب ، وكنا نرى بأم أعيننا القوات العراقية ترمي الجنود الإيرانيين وهم أحياء الى عمق الوادي ولا يكسر سكون الوادي آنذاك الا صوت الاستغاثة والتوسل وفي خضم هذا المشهد صادفنا ضباط إيرانيين تمكنوا أن ينجوا بجلودهم وطلبوا مني ناظوراً كنت أحمله ليروا مصير جنودهم . في ختام المشهد إنسحبنا الى موقع مقر الفوج التاسع في منطقة ” باني شهر ” وبعد تقييم سريع للموقف بعثناه الى قيادة مقر القاطع بقيادة أحمد باني خيلاني”أبو سرباز” إبراهيم الصوفي”أبو تارا” محمد النهر”أبو لينا” تلقينا جواباً سريعاً لا ينم عن دراية وتقييم جدي للاوضاع العسكرية والسياسية في المنطقة تقول البرقية ! أن أنسحابكم بهذه الطريقة وترك خلفكم أشياء ثمينة طبعاً الاشياء الثمينة ، كانت هي تسعة صواريخ بازوكا فاسدة يعد هزيمة كبيرة أمام أهالي القرى وجماهير الحزب وما عليكم الا العودة الى الموقع وسحب الصواريخ تحت جبهة حرب ساخنة ونية إجتياح كامل للمنطقة وهذا ما حدث بعد شهرين لم يعد لنا مقراً في المنطقة ونزوح كامل الى مناطق”شرباجيير” . عدنا أربعة رفاق الى موقعنا في هزارستون تحت عتمة الليل والقصف والتنوير والانتحار ، ولقد وجدنا قتلى جنود داخل مقرنا وحملنا معنا بعض الاشياء التي لم يلتفت لها الجنود العراقيين عندما دخلوا موقعنا  لنعيد بها وجه الحزب كما ذيلت تلك البرقية الا صواريخ البازوكا التي صادرها الجيش في نفس الليلة ، وكنا في مواجهة حقيقية مع الموت . تلك واحدة من التجارب المهمة في حياتنا كأنصار شيوعيين .
محمد السعدي
آب ٢٠٢٣

6
صورة الزعيم قاسم في ذاكرة الشيوعيين .
 قراءة نقدية .
لا يتجادل أثنيين سويين على وطنية الزعيم قاسم وعفة لسانه وقلبه ونظافة هندامه وبساطة روحه وشجاعته في مواجهة الموت في مبنى الصالحية ببغداد يوم ٩ شباط ١٩٦٣. لكن حتماً يتجادل أثنان على أداء قاسم الحكومي والوظيفي في إدارة مؤسسات الدولة وشؤون البلد ، وتخبطاته في القرارات ونزعته بإتجاه الدكتاتورية والارتجال وتشبثه بكرسيه . في صبيحة 14 تموز 1958 ثمة عسكر أنقضوا على ثكنات ومحميات النظام الملكي ومؤسساته ولولا التأييد الجماهيري والشعبي لبيان رقم واحد من إذاعة بغداد في مبنى الصالحية في شوارع بغداد والمدن الأخرى لبقى ذكرى هذا اليوم ضمن دائرة مغامرات الإنقلابات العسكرية . يوم دموي دشن به بإبادة العائلة المالكة في قصر الرحاب بعد أن خرجوا من فضاءات غرف نومهم رافعين رايات الاستسلام . أطلق النار عليهم من قبل الضابط عبد الستار العبوسي ، ولم ينجو منهم الا الأميرة بديعة أخت الامير عبد الإله وخالة الشاب المغدور الملك فيصل الثاني . تابعت بأهتمام طيلة السنوات التي مضت ما كتب حول الزعيم قاسم . فريق وهو المؤيد له . ذهب بعيداً عن حقيقة مجريات الاحداث ليجعل من قاسم قديساً ، ونفر آخر جعل منه دكتاتوراً مستبداً.

حتى ننصف الرجل والمرحلة والتاريخ في فترة حكمه التي لا تتجاوز الخمسة سنوات مرت بمخاضات عسيرة . أدت ببعضها الى إسقاطات مشوهة . في رأي أول تلك الاسقاطات كانت محكمة المهداوي تجربة فاشلة . عكست وجهاً سلبياً عن أهداف ثورة تموز . وفي بعض المرافعات أنقلبت سلباً على سمعة الثورة ورجالها وخدمة أعداء الثورة , بل ألبت الناس عليها . محاكمة سعيد القزاز وزير داخلية النظام الملكي نموذجاً . وهناك نماذج أخرى عديدة في ملفات المحكمة لا يقتدى بها بما حملته في جلساتها من تعابير وألفاظ تخدش الذوق العام .
كان عبد الكريم قاسم بقدر وطنيته سياسياً فاشل بأمتياز ، تذبذب مواقفه من عدة أحداث ووقائع ، كان يفترض أن تكون مواقفه متساوية وبمسافات واحدة تجاه تطورات الاحداث في البلد . الموقف من المقاومة الشعبية وشعاراتها المستفزة وتجوالها في الشوارع العامة بذريعة حماية صورة الزعيم ومنجزات الثورة . خطابه المشهود في كنيسة ” المار يوسف ”عام 1959 ضد الشيوعيين  . الموقف من حركة الشواف في الموصل وقطار السلام . محاكمة أياد سعيد ثابت بعد عفو رئاسي وعودته من المهجر على ضوء أحداث حركة مايس 1941 ورشيد عالي الكيلاني . أعدام الضباط الاحرار ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ،  الذي بدأ يبكي في يومها بمكتبه في وزارة الدفاع حسب شهود مرافقيه ، مطاردة وإعتقال وأغتيالات الشيوعيين على مرآى ومسمع من بصيرته من قبل جهازه الأمني والقوى المعادية لهم ، كل تلك الاحداث والتطورات تؤدي بنا الى دكتاتورية عسكرية في إدارة الحكم والتي كان يفترض أن تسلم الى حكم مدني أقصاه لمدة عامين بعد نجاح ثورة تموز . موقفه المتذبذب وسط التيارات والاحزاب السياسية . مرة يهادن ويغازل الشيوعيين على حساب البعثيين والقوميين . والشيوعيين كانوا أخلص الناس له ولحكمه دعنا من بعض الهفوات التي أرتكبت في حكمه . وفي الختام هادن البعثيين بالضد من الشيوعيين بل غض النظر عن تحركاتهم ونواياهم رغم تحذيره منهم ومن نواياهم , بالأخير أطاحوا به وبنظامه ودفع الثمن مئات الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين . في اللحظات الاخيرة من حياته وحكمه زاد توجسه في الخوف من الشيوعيين ، وفي باب وزارة الدفاع كان المشهد درامي تراجيدي أبناء الفقراء وساكيني بيوت الصفيح والشيوعيين يطالبوه بالسلاح للدفاع عنه وعن الثورة يتردد رغم أن زعاف الموت يقترب منه وينهي حياته بعد أن حصر نفسه في وزارة الدفاع وسلم نفسه ذليلا بعد ٢٤ ساعة من بدأ الإنقلاب ، كان خائفاً من الشيوعيين لينقلبوا ضده ويقفزوا الى دفة الحكم  وليس خوفاً من سفك الدماء ، فالدماء سالت منذ الصباح الباكر في شوارع بغداد .

من الملفات التي سارعت للاطاحه به وبحكمه . ملف دولة الكويت والتلويح به لاحقيتها لدولة العراق عام 1961. قانون رقم 188 لسنة 1959 للاحوال المدنية والمساواة في الأرث وحقوق المرأة مما أرعب الدوائر الرجعية والمتخلفة والحاقدة على منجزات الثورة وتقدمها . فتوة محسن الحكيم نموذجاً ” الشيوعية كفر وألحاد ” . مما أعطى مبرر فقهي وقانوني وأجتماعي في محاربة الشيوعية في العراق والتبرير في الممارسات الدموية ضدهم ، والدليل ما حدث في يوم 8 شباط عام 1963 في أرض العراق . وقد جرت محاولة فاشلة من مجلس الحكم الانتقالي بعد إحتلال العراق للاطاحة بالقانون وتم التصويت على الغائه ، لكن بريمر الحاكم المدني الامريكي في العراق أنقذه .

 ومن الملفات التي عجلت في إنهاء حياته وفترة حكمه قانون رقم 80 لعام 1961 حول تأميم النفط والتضيق على عمل الشركات الاحتكارية النفطية الامبريالية في العراق ، مما دفع دوائر تلك الشركات في دعم القوى المعادية له والاطاحة به ، علاوة على ذلك الملف الكردي والصراع الدائم والدائر بين الحكومة المركزية والملف الكردي . تاريخ العراق معقد وغائر من الصعوبة أن يكتب بواقعية وشفافية بعيداً عن الانتماءات الحزبية والطائفية والاثنية . منذ الدولة الاموية ومراحل الحكم التي أعقبتها على أرض العراق تاريخاً مغلوطاً بعيداً عن واقعية الاحداث ربما نقلت شذرات منه ، لكن هذا لايكفي في تدوين تاريخ كامل ، كان لزاماً علينا نحن الشيوعيين أن نقف بجد ونقد عل تداعيات تلك المرحلة بقراءات واقعية ومتأنية حتى على حساب نقد الذات وأستخلاص الدروس . فالبشر خطاؤون .. كما يقول فولتير .

الملفت في الأمر في السنوات الآخيرة من عمر إحتلال العراق يتباهى الشيوعيين العراقيين بصور الزعيم قاسم بعيدأ عن الوقائع الموضوعية في فترة حكمه وموقفه السلبي والمدمىر من الحزب الشيوعي العراقي وملاكاته في التضييق على نشاطاتهم بل في مطاردتهم ، إذ لم يسمح لهم بنشاط سياسي واضح من خلال منحهم رخصة عمل ضمن شرعية قانون الاحزاب ، وعندما قدموا طلب للحصول على أجازة رفضها بذريعة وجود حزب شيوعي يعمل ضمن قانون الاحزاب والتي منحها الى داود الصائغ فغير الطلب بأسم جريدة أتحاد الشعب الجريدة المركزية للشيوعيين أيضاً رفض طلبهم . وعلى أثر هذا الرفض طلب الشهيد سلام عادل بلقاء به وهو المعارض الى سياسته وتخبطاته مع الشهيد جمال الحيدري ومجموعة من العسكريين ، وعندما خرج من اللقاء كان متذمراً ووصفه بالطاغي والجاهل في قراءة تداعيات الشارع العراقي . وعندما توسعت الدائرة بين أوساط الشيوعيين بالضد من سياسته هنا تدخل السوفييت في الحذر من أي خطوة بإتجاه أزاحته ، في يومها أخرجوا جورج تلو ، الذي كان يرقد في مصحات موسكو وحملوه رسالة شديدة اللهجة الى قيادة الحزب الشيوعي الحذر في النية بأي خطوة ، وكما سموها بالمغامرة إتجاه قاسم وحكمه . لماذا يتباكا الشيوعيين عليه وعلى فترة حكمه إذن ؟. 

خاض الشهيد سلام عادل صراعاً حزبياً وسياساً مع رفاقه من أجل تحيدهم بالموقف من سياسة قاسم ومعارضتها مما عرضته تلك المواقف الى أبعاده وبأمر سوفيتي الى خارج البلد وبعيداً عن الفعل الثوري عام ١٩٥٩ بحجة التأهيل الدراسي ، وعندما عاد في نهاية عام ١٩٦٢ وبقرار سوفيتي أيضاً . وجد تطورات الأحداث في العراق ” قاب قوسين أو أدنى ” من الشيوعيين في الخطورة ضدهم حيث العناصر القومية والبعثيين محتلين مواقع مهمة وحساسة في الدولة بدعم مباشر من الزعيم ومطاردة وابعاد الشيوعيين ورميهم في السجون والمعتقلات ، وعندما أنقلبوا البعثيين عليه في يوم ٨ شباط عام ١٩٦٣ وجدوا مئات من الشيوعيين في السجون والمعتقلات مما وفر لهم وقتاً في إنهاء حياتهم . وحسب شهادات مرافقه الشخصي ”جاسم العزاوي ” أثناء مرافقته في جولاته على الافواج والكتائب يطالب قادتها البعثيين والقوميين في تطهير الجيش من العناصر الشيوعية ، وهنا سؤال يطرح نفسه بألحاح ، ما هو موقف الشيوعيين العسكر من تسلكات الزعيم تجاه رفاقهم وهم القريبين من دائرته الضيقة . مثالاً .. طه الشيخ أحمد ، جلال الاوقاتي ، وصفي طاهر ، فاضل عباس المهداوي ، ماجد محمد أمين ؟؟. درس تاريخي مهم في المشهد السياسي العراقي الحديث بحاجة شديدة الى قراءة جديدة ومراجعة نقدية جريئه .
في قراءة شخصية متأخرة حول صبيحة ٨ شباط عام ١٩٦٣ وبيان الحزب الشيوعي العراقي الداعي الى سحق المؤامرة الرجعية ومن متطلبات العمل السياسي  يفترض التأني بما ستؤول إليه الامور وعلى أساسها تتخذ المواقف في حدث مثل هذا ، والذي أعطى للبعثيين والقوميين صبغة شرعية في أصدار بيانهم المرقم ١٣ بإبادة الشيوعيين ، لكن هذا لاينفي نوايا البعثيين في إستهداف الشيوعيين والقوى الديمقراطية . كما أثبتت الوقائع في ذلك اليوم المشؤوم بأبادة الشيوعيين وأصدقائهم ولم ينجو أحداً من مخالبهم ، لقد دمروا البلاد والعباد ، وأستشهد زعيم الشيوعيين سلام عادل ، عندما إعتقل يوم ١٩ شباط ومات تحت التعذيب يوم ٢٣ من نفس الشهر عام ١٩٦٣ . وبعد عشرة سنوات من القتل والدم عاد الشيوعيين ليصافحوا أيادي البعثيين الملطخة بدم رفاقهم تحت يافطة ” جبهة وطنية وقومية تقدمية ”

محمد السعدي
مالمو/ تموز ٢٠٢٣


7
أضواء ومواقف عن حياة الضابط الشيوعي خزعل السعدي .



أحياءا لذكرى أستشهاده البطولي , ومقاومته الوطنية .

في يوم ٢٦ مايس ٢٠٠٩ ، تكون قد مضت ٤٦ عاما على إعدام الضابط الشيوعي خزعل السعدي , احد تنظيمات الضباط الاحرار ، وقادة ثورة تموز ١٩٥٨ . على يد إنقلابي ومجرمي ٨ شباط ١٩٦٣ ، الذين إغتالوا الثورة وأبنائها في صبيحة ذلك اليوم الاسود من تاريخ العراق السياسي ، ليدفعوا العراقيين الى مصير مجهول ونفق مظلم والى يومنا هذا ، دفع شعبنا العراقي الثمن غالي من معاناة وتأمر وأخيراً الاحتلال ، وهنا المشهد يعاد على نبوءة ماركس – التاريخ يعاد مرة آخرى على شكل مهزلة . في ٨ شباط تأمر البعثيين مع بقايا اقطاع وقوى رجعية ، و بتحالف أمريكي ” إمبريالي ” مشبوه للاجهاز على ثورة تموز ومنجزاتها ورجالها  .
كما صرح به أحد قادة الانقلاب والبعثيين علي صالح السعدي ، نحن جئنا الى السلطة على متن القطار الامريكي ، واليوم وبعد كل التجارب المريرة من عمر تلك الفترة الزمنية من قتل ودماء وحروب ، في فاركونات ذلك القطار الامريكي .
تخترق الدبابة الامريكية ” همر ” حدودنا الوطنية عبر بوابة الكويت وعلى متنها قادة العراق الجدد ، أذناب المحتلين وبراثن التخلف .
في إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ ، نصبت إذاعة لهذا الغرض موجهة من أرض الكويت أيضا لتدلي بها الانقلابين على أسماء وعناوين الشيوعين وقادة ثورة تموز ، لا ازيد عما قاله الملك حسين بعد سبعة أشهر من الانقلاب ، الى الكاتب والصحفي محمد
حسنين هيكل في مقابلة صحفية أجراها معه في باريس ونشرها فيما بعد في صحيفة الاهرام
القاهرية عدد ٢٧ ايلول من العام١٩٦٣ ، يقول الملك حسين رداً على سؤال لهيكل :
(( أقول لك ما جرى في العراق في ٨ اشباط قد حظى بدعم الاستخبارات الامريكية .
ولايعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر ولكني أعرف الحقيقة لقد عقدت
إجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الامريكية , وعقدت أهمها في الكويت .
هل تعرف ان محطة سرية تبث من الكويت الى العراق كانت تزود يوم 8 اشباط رجال
الانقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من اعتقالهم واعدامهم .. )) ؟؟
واليوم يتحالف الاسلام السياسي و شيوعيي الاحتلال وبقايا من قوميين ، ليدنسوا أرض الرافدين ، العراق الآية الاولى ، مع غربان الجيش الامريكي في إحتلال بلدهم العراق ليحطموا تاريخه ، وينهوا معالمه ، ولينتهكوا حرماته ، وليدفعوه مرة آخرى الى ذلك النفق المظلم والمخيف ، وشعبنا يدفع الثمن ، وهو الضحية سياسة تلك التأمر الامبريالي والصفوي .
سأقدم رؤيتان حول الشهيد والمناضل خزعل السعدي ، بانضمامه الى حركة الضباط الاحرار بوقت مبكر ، والتشكيل الاول تحت مسميات مختلفة وأنتماءات متلونة وعقائد متصارعة ، لكن الدافع الرئيسي الذي ينضون تحت لوائه هو الوطن وتحريره من الاستعمار البريطاني وأذنابه ، والآخرى دوره في صبيحة ثورة تموز ، وموقفه الثوري من تداعيات أرتداد الثورة عن مضامينها الوطنية والقومية ، وموقفه المعلن من تدهور مسارات الثورة  وأصطدامه بالعقل اليميني التقليدي الشيوعي في دعوته الى أستلام السلطة من الزعيم عبد الكريم قاسم بعد مراهنته على القوى الرجعية ، ومطاردته للشيوعيين ، أجبرته على التخفي وزجه في السجن ، الى حين ظهوره في يوم 8 شباط في مدينة الكاظمية ليقود المقاومة ويصنع قنابلها ، ويوجها الى أوكار التأمر .
عام 1927 وفي عائلة متوسطة الحال اقتصاديا ً، ولد الشهيد خزعل علي السعدي وسط بساتين قرية الهويدر بمحافظة ديالى ، وفي مقتبل شبابه وتطلعه ، وقعت في العراق أوائل الأربعينات ظروف وأحداث مهمة ، وكون الجيش صار محط أنظار العوائل والشبيبة ، وفي ظروف أندلاع آوار الحرب على الجبهات العالمية ، فكر الشاب خزعل السعدي الانخراط في هذا السلك ،  فدخل الاعدادية العسكرية عام 1940 وتخرج منها عام 1942 ليبدأ حياته العملية ضابطاً في الجيش العراقي . هنا بدأت تتبلور جوانب الوعي الفكري والسياسي للضابط الشاب خزعل السعدي لتشكل خلاصة مسيرة أكثر من عقدين لنشوء أولى الحلقات الماركسية ، وفي وقت ترسخت فيه أيضا أركان الحزب الشيوعي العراقي وانطلاقاته لقيادة الكثير من النضالات الجماهيرية الواسعة ،  كوثبة كانون الثاني 1948 ، وانتفاضتي 1952 و 1954 و ثم انتفاضة .
عام 1956 التي عززت الوعي القومي الى جانب الطبقي والوطني ، ومن البديهي التذكير بان واقعة إعدام يوسف سلمان يوسف ( فهد ) عام 1949 مؤسس الحزب الشيوعي العراقي ، أحدثت هزة عميقة التأثير في الواقع العراقي وأبناء ذلك الجيل المملوء بالأمل والعزم والتطلع لصناعة حياة أفضل ، واليوم وبعد مضي هذه السنين يتحالف الحزب الشيوعي الرسمي مع المحتليين البريطانيين الذين أعدموا فهد مؤسس الحزب ، وقد ساهم الشهيد خزعل في تأسيس أحد أبرز تشكيلات الضباط الاحرار ( جماعة القسم ) والتي ضمت إضافة اليه الضباط التاليه أسمائهم : طه الدوري ، وخليل ابراهيم العلي،  واحمد محسن العلي ، وقاد التنظيم في البداية طه الدوري ومن ثم أصبح المسؤول عنه حسن النقيب على حد قول الراحل ثابت حبيب العاني في مقالات سابقة . وتميز الشهيد خزعل ، كما قال السيد النقيب بالفعالية والحماس في النضال الوطني وتخليص البلد من الحكم الملكي التابع  للمصالح البريطانية . وأصبح الشهيد أمر كتيبة المثنى الرابعة في ابي غريب ، أبو الكتيبة الحمراء بهكذا عرف بين أوساط الناس ومحبيه ، ولاهمية موقع الكتيبة التي كانت بأمرته ، وقربها من بغداد ، وسيطرتها على مرسلات ابي غريب ، تدخل دائما في الحسابات قبل الثورة وبعدها بأي عمل حاسم لمصلحة الثورة ، فكانت رأس حربة للثورة . لقد أثبت فجر الرابع عشر من تموز جدية الشهيد وقدرته على لعب دوره المطلوب ، ورغم التعتيم على الموعد بعد أن تأجل لعدة مرات بسبب الظروف اللوجستية الغير ملائمة لتحركات القطعات العسكرية ، كان الموعد 21 حزيران من نفس العام ، وانيط لسرية خزعل السعدي دوراً أساسيا في الخطة للاستيلاء على المراكز المهمة في بغداد.


والموعد الذي قرر عليه أخيراً ، 14 تموز 1958، فقد كان للشهيد خزعل السعدي منذ ساعات الفجر الاولى من أوائل الذين حضروا الى قلب بغداد بصحبة دبابتين ليضمن نجاح الثورة وأذاعة بيانها الاول تحت حراسته . يقول جرجيس فتح الله في كتابه ( العراق في عهد قاسم ) ص501 – وعن لسان الضابط الشيوعي إبراهيم الجبوري ( في الرابع عشر من تموز قمنا بواجباتنا حسب الاتفاق وخرجنا مع ثماني دبابات دون عتاد . وعندما وصلنا الى الاذاعة وجدنا دبابتين بقيادة خزعل السعدي وهو من تنظيمنا أيضا، وعندما رأى عبد السلام عارف الدبابات صرخ وهو يبكي لقد انتصرت الثورة)
وكان للحزب الشيوعي دور في تبليغ خزعل السعدي بيوم الثورة .
بقيت كتيبة المثنى للدبابات بأمرة خزعل السعدي ، محط حقد المعادين للثورة ، ولهذا تحولت الى رأس حربة معادية للثورة ومسيرتها الديمقراطية ، بل هي التي أجهزت على الثورة ورجالها من محيطها وقلبها تحركت القوة المعادية ، بعد أن أقدم الزعيم عبد الكريم قاسم على جملة تنقلات بين الضباط وأمراء الوحدات العسكرية ، كان الشهيد خزعل حصة الزعيم الاولى وتبديله بالضباط القوميين والبعثين ، ومن خلال متابعتي لهذا الملف تحديداً ، وشخصية عبد الكريم قاسم زعيم وطني بامتياز ، ونظيف القلب واللسان  لايجادل عليه أثنان ، لكن للآسف الشديد كل الباحثين لهذا الملف لم ينصفوا التاريخ ، حيث وقعت جملة أحدات في الايام الاولى من الثورة من أقرب حليف للزعيم هم الشوعيين من خلال المليشيات الشعبية وشعاراتها وأستهتارها في شوارع المدن العراقية ، ومارافق من تسلكات غير أنسانية وغير لائقة في بعضها تخدش أساسيات الناس في العلاقات والتقاليد ومعادية لديمقراطية الثورة ونهجها الوطني في أحداث حركة عبد الوهاب الشواف في الموصل 1959 ، وأحداث أخرى لايتحمل موضوعي تحميلها ، أجبرت الزعيم ان يلقي خطاباً في كنيسة ماريوسف ، يستاء به من سلوكية الشيوعيين ، ورافقها جملة تغيرات ، أطاحت به وبثورته وبحلفائه ، وفي هذا الاطار والحملة أحال عبد الكريم قاسم عدداً كبيراً من الضباط والقادة الى التقاعد ، وكان من أبرزهم شاكر الخطيب أمر قاعدة الحبانية ، وسلمان حصان الى جانب الشهيد خزعل السعدي ورفيقه خليل العلي . وكان الزعيم قد أرسل المقدم خالد مكي الهاشمي البعثي  ليتسلم أمر كتيبة الدبابات بدلاً من الشهيد خزعل السعدي وفي كتاب للزوبعي عن ثورة تموز - جاء في رسالة الرائد خالد حسن فريد ( أرسل عبد الكريم قاسم بطلبي في تموز 1959 لبلغني بأمر تعييني وكيلاً لأمر كتيبة دبابات المثنى بدلاً من المقدم خزعل السعدي وقال لي .....  أن الكتيبة أصبحت شيوعية فأطلب منك ان تدفعها خارج خط الشيوعيين وأستدرك الزعيم قائلا : ليست شيوعية ولكنها خارج خط الثورة وعليك أن تلتحق فورا وتسيطر عليها .)ص107
بهذه التراجدية السياسية جرد الشهيد خزعل من موقعه الحاسم وكان لعاب قوى معادية يسيل للخلاص منه والحصول على الموقع الحساس الذي كان بأمرته ، ليقضوا على الثورة ومنجزاتها وقادتها وفعلا ما تم .
 يقول السيد هاني الفكيكي :
في كتابه أوكار الهزيمة ... ( بدأ التركيز على كتيبة الدبابات الرابعة في أبي غريب وعلى القوة الجوية خاصة قاعدة الحبانية القريبة منها . بدأ التركيز على الكتيبة الرابعة بعد التغيير الذي جرى من قبل عبد الكريم قاسم ، بعد أن أبدل خزعل السعدي الشيوعي بخالد مكي الهاشمي وخالد حسن فريد ) . وتحولت الكتيبة فعلاً الى رأس حربة لضرب الثورة فيما بعد حيث كانت تبعد 20 كيلو متر فقط عن بغداد وهي أقرب موقع عسكري مؤثر من مرسلات أبو غريب . ويقول الفكيكي في نفس الكتاب أن حزب البعث أستطاع حشد عدد لابأس به من الضباط وضباط الصف  الأمر الذي أثار حفيضة الحزب الشيوعي الذي أصدر بيانا في 3-1 -1963 حذر فيه عبد الكريم قاسم من ان الكتيبة تحولت الى وكر للمتأمرين ) ص220 . وفي هذا الوقت ، لم تتوقف أستخبارات الزعيم عن ملاحقة الضباط الوطنيين والشيوعيين وكان في مقدمتهم خزعل السعدي ، الذي قرر وبعد محاولة إعتقاله مجدداً عام 1962 ، الاختفاء والتواري عن الانظار  .
لقد زجوا به في الايام الاولى من الثورة في سجن رقم واحد ( معسكر الرشيد ) ، لمدة عام مع مجموعة من المناضلين ، الذين وقفوا ضد إنحراف مسار الثورة . يقول الشاعر كاظم السماوي ، والذي كان في نفس السجن ، كنت أسمع صوته مجلجلاً وهو يتحدى جلاديه عندما كان يخرجوه الى حمام المعتقل المجاور لزنزانتي ، وفي ليلة صعود كاكارين الى القمر والفضاء  أراد الشهيد خزعل أن يبلغني بهذا النبأ الرائع حينها ، فرفع صوته ليخترق جدران الزنزانة ويصل الى مسمعي ، ومرة أخرى أرسل لي بيد أحد الجنود منشوراً حزبياً سرعان ما قرأته وطويته وحملته معي الى الحمام ، وفبعد محاولة إغتيال الزعيم الفاشلة في شارع الرشيد ، أطلق سراح مجموعة من الضباط ، وكان الشهيد خزعل بينهم . فكان للشهيد الوعي المبكر والتحذير بأن قادة الثورة وعلى وجه التحديد الزعيمين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف  وبممارساتهما الهوجاء والتي لاتنم عن أي درايات بعالم السياسة ودهاليزها أنها تصل أحياناً الى السذاجة والتفرد الأعمى في إتخاذ القرارات بالضد من مصالح الشعب والجماهير أدت بهما الى طريق المتاهات وقتل شعلة الثورة ،  ومن هنا ، ومن هذا الخطر يمكن عزو مواقفه في دعوته المبكرة لازاحة الزعيم وأخذ زمام المبادرة لاعادة الثورة الى مسارها الحقيقي . واصل الشهيد خزعل السعدي وبنفس ثوري عمله لاقناع الحزب الشيوعي باعطائه الضوء الاخضر للتحرك وقطع الطريق على القوى المعادية ، وتقدم مع عدد من الضباط الشيوعيين بارسال مذكرة الى قيادة الحزب الشيوعي محذرين فيها من المخاطر الجدية لأن عبد الكريم قاسم لم يعد قادراً على قيادة الثورة والسير بها نحو تحقيق أهدافها ، وطالبوا في مذكرتهم .... بأن يسمح لهم بالذهاب الى وزارة الدفاع واجبار عبد الكريم على التخلي عن مناصبه لتفويت الفرصة على قوى الردة والتأمر ، ولكن كان رأي الاغلبية في قيادة الحزب ضد هذا التوجه . وقع المذكرة الموجه الى قيادة الحزب ، خزعل السعدي ، فاضل البياتي ، إبراهيم الجبوري ، سلمان حصان ، شاكر الخطيب ، عبد الكريم كاظم ، وخليل ابراهيم العلي ، والذين حضروا في إجتماع المكتب السياسي ودرسوا فحوى المذكرة هم : سلام عادل ، زكي خيري ، عامر عبدالله ، محمد حسين ابو العيس ، جورج تلو ، عزيز محمد ، عبد السلام الناصري ، والمرشح عزيز الشيخ . وعقد الاجتماع في حزيران 1961 وقد رفض المجتمعون أي تحرك ضد الحكم وتوجهوا بنقد شديد الى اللجنة العسكرية التي قيل أنها تستهين بقوى الجماهير ، وأكد المجتمعون أن السلطة ما تزال وطنية وحذروا من المغامرة ، بهذا الموقف السلبي والغير مسؤول ضاع العراق ، بدأ خزعل السعدي مع بعض من رفاقه يدعو بالسر والعلن الى العمل على إزاحة عبد الكريم قاسم من الحكم واعادة الوجه الاصلي للثورة ، وقد أجبرته هذه المواقف مع الشهيد خليل ابراهيم العلي أمر كتيبة الدبابات الثانية في أبي غريب بالذهاب الى مقر جريدة الحزب العلنية ( اتحاد الشعب ) بملابسهما العسكرية والاجتماع بقياديين في الحزب ، متخطين مراجعهما الحزبية ، في محاولة يائسة لاقناع الحزب بضرورة التحرك لاسقاط قاسم وحكمه ، مما ترتب على هذا الموقف المطاردة مرة آخرى والاختفاء مجدداً ، وقبيل إعتقاله ، قيم الشهيد سلام عادل هذا التراجع ( ان الانقلاب في 8 شباط قد بدأ فكريا ًوسياسيا ًواقتصاديا ًمنذ اواسط العام 1959 حينما تصرف قاسم بما يشبه الاستسلام للقوى السوداء التي أخذت تسترجع المواقع واحداً بعد الآخر في الجيش والدولة وفي الحياة الاقتصادية والمجتمع ، لكن المؤرخ التاريخي حنا بطاطا يوعزه الى موقف السوفيت وتحذيره للحزب من أي موقف قد يزعج قاسم ، فكيف يطرح مشروع أستلام سلطة ؟. وكانت التبعية وتقليدهم حتى بالمنام . في صبيحة إنقلاب يوم 8 شباط ظهر الشهيد خزعل السعدي في مدينة الكاظمية منذ ساعاته الاولى ، وبادر مباشرة بتشكيل فرق المقاومة الشعبية وميزها بعلامة وضعت على الاذرع تلخص بعنوان ( م – ش ) كما بدأ يصنع بنفسه قنابل المولوتوف ونظم الهجوم على مديرية الشرطة والقائممقامية وشرطة النجدة وأمانة العاصمة . وأتخذ من المساجد مواقع للقاء مع المفارز وتوجيه البيانات والنداءات . وعمل على تسليح مفارز المقاومة بالأسلحة الخفيفة من البنادق التي تمت السيطرة عليها من المواقع المحررة ، وشاركت أيضاً المرأة بشكل باسل في المقاومة  شدة المقاومة هذه ، أرعبت الانقلابيين وقوات حرسهم الذي سمي قومياً ، فتوجهت أرتال من الدبابات والمدرعات من اللواء الثامن بأمرة داود الجنابي وبمعية كتائب آخرى للانقلابيين ، ودارت معارك طاحنة هناك الى اليوم الحادي عشر من شباط . أنتهكت بها أعراض الناس والمقاوميين من خلال الاساليب الدموية في تصفية معاقل المقاوميين ، ووقع بيد الانقلابيين عضو المكتب السياسي هادي هاشم الاعظمي أبن المدينة وضعف في التعذيب وسبب في إعتقال الآخرين . أما الشهيد البطل خزعل السعدي أختفى في أزقة المدينة بين بيوت الناس ، ولم يعرف مصيره الا من خلال أعلان رسمي في الصحف العراقية يوم 26 مايس نبأ إعدامه مع نخبة من الضباط خزعل السعدي ، فاضل البياتي وآخرين بسبب مقاومتهم للانقلابيين . وتحدث بل أكد العديد من الشهود والباحثين في تلك المرحلة من عمر العراق على شجاعة الشهيد خزعل في مواجهته للانقلابيين في التعذيب . وقتل تحت التعذيب ولم تسلم جثته الى أهله رغم كل المراجعات من أفراد عائلته . عاش بطلاً ومات بطلاً بهذ الموقف الوطني الشجاع ، وهو المختلف مع الحزب ومع سياسة الزعيم الدكتاتورية ودعم الحزب لها ، وقاوم في الدفاع عن مباديء الحزب الوطنية ومسيرة الثورة والمباديء التي جاءت من أجلها . ألم تكن هذه التجارب المرة والغنية دروسا لنا بما يمر به العراق حاليا من احتلال وطائفية ؟.

الشيوعيين .. ومقاومة الكاظمية .

في فجر يوم الجمعة 8 شباط 1963, عندما أعلن الإنقلابيين عبر مرسلات أذاعة أبي غريب عن بيانهم الأنقلابي الأول ضد الجمهورية العراقية وزعيمها عبد الكريم قاسم . أدرك الشيوعيين في اللحظات الأولى من الانقلاب هما المستهدفين وخاصة بعد أن تأكد إغتيال الطيار الشيوعي جلال الاوقاتي أمام بيته في الكرادة مما أزاح الغبار عن الأنوار . فسارعا الشهيد حسين أحمد الرضي ( سلام عادل ) بأجتماع ببعض أعضاء اللجنة المركزية منبهاً أن الانقلاب لم يستهدف قاسم وحده وأنما نحن الشيوعيين وباعتباره زعيم حزب الشيوعيين العراقيين وضمن مسؤوليته التاريخية حرر بيان يدعوا به الشيوعيين وجماهير الشعب الى النزول الى الشوارع ومقاومة الإنقلابيين ووزع البيان في شوارع بغداد وألصق على جدران البيوت والمحلات . وأتصل بكامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي وبمحمد حديد رئيس حزب الوطني التقدمي لحثهما على المشاركة مع جماهير الشعب في التصدي للإنقلابيين لكنهم ترددوا بسبب ضعف الامكانيات والضعف في الملاكات والأدوات لتلك الخطوة الحرجة من تاريخ العراق .
وعاد الشهيد سلام عادل الاتصال بالزعيم عبد الكريم قاسم وأعلن موقفه الرسمي كحزب شيوعي بالوقوف والدفاع عن ثورة تموز ومنجزاتها ضد محاولات الإنقلابيين وطالبه بتسليم السلاح الى الجماهير الزاحفة الى بوابة وزارة الدفاع من الاحياء والمناطق الفقيرة وبيوت الصفيح ( الثورة وحي الاكراد والكريعات والشاكرية والشعلة ). ورغم محاولات الشهيد سلام عادل المتكررة منبهاً من الخطر المحدق القادم ، لكنه أمتنع عن تسليمهم السلاح وأكتفى بوعود مستقبلية للشوعيين بعد دحر نوايا الإنقلابيين وتأسفه عن ما بدر سابقاً من لدن زعامته في التضيق على الشيوعيين وتحجيم دورهم من خلال نزع سلاح المقاومة الشعبية وسلسلة من الاعتقالات شملت خيرة كوادره وملاكاته ، بل ذهب الى أبعد من ذلك منح أجازة حزب شيوعي صوري ( داوود الصائغ ) ورفض منح إجازة للحزب الشيوعي العراقي الذي تقدم بقائمة 360 ألف توقيع تطالب بمنحه الاجازة ، مما وسع الهفوة وقربه من القوميين والبعثيين ، وفي تقديرات شخصية وضمن الأطلاعات البسيطة السبب في تردد الزعيم قاسم بتوزيع السلاح على الجماهير المحتشدة أمام وزارة الدفاع هو خوفه من نيات الشيوعيين في الوثوب الى الحكم وأخذ كرسي السلطة وليس سفكاً للدماء … كما يروى ، بعد أن تحسس بلذة السلطة وسحر الكرسي وطيلة عمر ثورة 14تموز ، كانوا قادة الحزب الشيوعي ولائهم للزعيم قاسم أكثر من ولائهم للحزب مما أصابهم العمى مما كان يجري من أحاكة المؤامرة تلو المؤامرة لحين أنقضوا على الثورة والزعيم والحزب .
في مدينة الكاظمية .. وقعت ملحمة تاريخية حيث نزلوا الى الشوارع وقادوا الجماهير كل من هادي هاشم الاعظمي عضو سكرتارية الحزب الشيوعي ، الذي أنهار فيما بعد . وقاد الحرس القومي الى بيت سلام عادل ،  وهو المشهود له في صلابته بسجون النظام الملكي . وخزعل السعدي المقدم المتقاعد وعضو المكتب العسكري للحزب الشيوعي العراقي والذي أعتقل يوم 11 آذار وأعلن عن أستشهاده يوم 26 آيار وأعلن في الصحف الرسمية مع رفيقه فاضل البياتي . وحمدي أيوب العاني عضو لجنة منطقة بغداد الذي أعتقل بعد المقاومة وهو الذي أدلى على بيت هادي هاشم الاعظمي . وعدنان جلمران الذي هو أيضاً تعاون مع الانقلابيين . في البدء أتخذ قادة المقاومة من مبنى الاعدادية المركزية تجمعاً عاماً لهم ومنه تحركت الجماهير الغاضبة بقيادة الشيوعيين نحو مركز الشرطة وشرطة النجدة وقائمقامية الكاظمية وأحتلوها وسيطروا على أسلحتها وسلموها الى الجماهير وأحكموا سيطرتهم عل المدينة ومداخلها الرئيسية لمدة ثلاثة أيام متصلة بلياليها ، ولكن بعد أعدام الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه في مبنى الصالحية يوم 9شباط . توجهت قواتهم وبتركيز كبير في الهجوم على المقاوميين في مدينة الكاظمية وأصدروا بيانهم السيء الصيت ( رقم 13) الى إبادة الشيوعيين في العراق ، وبعد ثلاثة أيام من المعارك نفذ أسلحة الشيوعيين المقاوميين ، لكن عدة وذخيرة الانقلابيين وتحشيداتهم الكبيرة ضعفت مواقع المقاوميين بعد أن تبدد أملهم بوصول تعزيزات لهم . أستباح المدينة أرتال من القوميين والبعثيين وعاثوا بها قتلاً وتدميراً .
بسبب من طابعها السياسي والتاريخي ,كانت مدينة الكاظمية حكراً للشيوعيين ، ولوجود كوادر يعتمد عليها في هذه المدينة أنتقل أليها عدد من الكوادر القيادية للحزب الشيوعي ومنهم هادي هاشم الاعظمي وحمدي أيوب العاني وخزعل السعدي والذي بادر مباشرة بتشكيل فرق المقاومة الشعبية وميزها بعلامة وضعت على الأذرع تلخص العنوان ( م . ش ) . كما بدأ يصنع بنفسه قنابل المولوتوف ونظم الهجوم على مديرية الشرطة والقائمقامية وشرطة النجدة وأمانة العاصمة . وأتخذ من المساجد مواقع للقاء مع المفارز وتوجيه البيانات والنداءات . وعمل على تسليح مفارز المقاومة بالأسلحة الخفيفة من البنادق التي تمت السيطرة عليها من المواقع المحررة . الى جانب السكاكين والأسلاك الحديدية ، بل وحتى العصي . وشاركت المرأة بشكل باسل في المقاومة ، ويذكر من أبرزهن بنات الجرجفجي وزهرة الوردي التي صعدت الى منارة جامع الدروازة لتخطب وتحشد وتحفز الجماهير على المقاومة . وحسب مختلف الروايات فإن معركة تحرير مركز الشرطة دامت أربع ساعات . وقتل فيها ثلاثة من عناصر الشرطة وجرح أربعون . لهذا كافأ الانقلابيون آمر المركز المدعو حمد محمود أمين ، فرقوه الى رتبة عميد وعينوه بعدئذ مديراً عاماً للشرطة ( مذكرات طالب شبيب ص 45 ) .
أرتعبت قيادات الإنقلابيين وقوات حرسهم الذي سمي قومياً من شدة المقاومة وأصدائها في عموم البلاد خاصة وانه كانت هناك بذور مقاومة في مناطق أخرى من بغداد كالأكواخ والشاكرية والكريعات والشواكة وعكد الاكراد . لذلك ركزوا قواهم وحشدوا أفضل أسلحتهم للقضاء على المقاومة الباسلة في الكاظمية . ففي فجر التاسع من شباط توجه رتل من دبابات ومدرعات اللواء الثامن بقيادة داود الجنابي بمعية الكتيبتين الأولى والثانية . الى ساحة عبد المحسن الكاظمي وكانت الساحة حسب وصف ( طالب شبيب ) . خالية من البشر ، وقد أخذ الدخان يتصاعد من أبنيتها وبشكل خاص من مركز الشرطة الذي أحرق المقاومون كل مكوناته بعد أن أخذوا ما هو مفيد لهم لإدامة المقاومة .
يقول طالب شبيب في مذكراته .. بعد أن شكلنا قوة ضغط كبيرة على مراكز المقاوميين الشيوعيين بالقصف الناري الشديد . أضطر الشيوعيين وبينهم خزعل السعدي الى التحصن في أعدادية الكاظمية وفي مراكز الشرطة وواصلوا المقاومة متحدين أنذارات قوات الانقلابيين ودعوتهم عبر مكبرات الصوت الى الإستسلام . ويضيف السيد ( طالب شبيب ) .( أثبتت التحقيقات فيما بعد أن عدداً من المقاومين أنسحبوا الى حيث يأمنون لكن الاكثرية دخلوا في مواجهة غير متكافئة كان مسرحها المدرسة الإعدادية ومركز الشرطة ومصلحة نقل الركاب ، وتقابل المتقاتلون أحياناً وجهاً لوجه … لتنتهي المعركة بمقتل أكثر من عشرة شيوعيين عند ( تانكي ) الماء ، وسقط عدد من قوات الانقلاب قتلى وجرحى ومن بينهم الملازم ثابت الآلوسي ) .
وسقط عدد من الشيوعيين وهم يقاومون الانقلابيين ، عبد الأمير الحايك , أبراهيم الحكاك , ناظم الجودي , علي عبدالله , محمد الوردي , كما قتل رئيس نقابة المعلمين في مدخل مركز الباغات لاطلاق النار عليه . كما جرح في المعركة الشهيد البطل سعيد متروك وأعدم عند سياج أعدادية الشعب في منطقة المحيط . ما زالت معركة الشيوعي في مدينة الكاظمية علامة فارقة في تاريخه السياسي بحاجة الى فصول من الدراسات والشهادات والتقييمات . طيلة عمر الثورة ، كان للشيوعيين فرصة كبيرة في أستلام السلطة وتفويتها على أعدائه وأعداء الشعب ، لكن تأكد ومما لايقبل الدحض لم تكن للحزب خطة أصلاً بهذا الاتجاه ويرجع العامل ذو الوزن الاكبر الى موقف السوفيت في دعمهم لسياسة قاسم ضمن مصالحهم الستراتيجية في الوقوف ضد أي تحرك قد يزعج الزعيم رغم الارتداد والنكوص في سياسة الزعيم تجاه الشيوعيين على حساب تقرب القوميين والبعثيين له ، وهذا الأمر ليس محصوراً على وضع العراق ، بل لعموم أنظمة المنطقة والعالم ، كانوا القادة الشيوعيين السوفيت يراهنوا على الاحزاب البرجوازية بموضوعة التحول الارأسمالي صوب الاشتركية أكثر من قناعاتهم بقدرة الاحزاب الشيوعية في التحولات الاشتراكية . أحد قادة أنقلاب 8 شباط عبد الغني الراوي ذكر في مذكراته حول حجم الشيوعيين وتأثيرهم على الشارع ( لو بصق الشيوعيين علينا لأغرقونا ) . والغريب في الأمر كثر هم قادة الحزب وضباطه جلسوا في بيوتهم ينتظرون عصابات الانقلاب ليسوقوهم الى مسالخ الاعتقال ومن ثم ينحروهم .



8
سجون .. إغتراب .. نضال .

محمد السعدي

قراءة في محطات حياته …
هذا عنوان الكتاب الذي أهدانياه الدكتور خليل عبد العزيز المثقف والسياسي والمناضل ، والذي ولج طريق السياسة منذ نعومة أظافره ، حيث واكب الحياة السياسية العراقية في مدينته ” الموصل ” . منذ بدايات أرهاصاتها السياسية الاولى في الصراع التاريخي بين القوميين والشيوعيين والتي تفجرت بحركة الشواف  عام ١٩٥٩ . عندما كان خليل عبد العزيز شاباً في بداية منعطفه السياسي متصدراً مشاريع اليسار والحزب الشيوعي العراقي ليحمل لوائه في الدفاع عن أهدافه ومنجزات ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨. كانت تلك البداية في الانطلاق لتستمر مسيرة طويلة وحافلة من النضال والصعاب والغربة والموقف والتحدي بين شتى بلدان عديدة تقاذفته مناحي الحياة لتجمعه برؤساء دول وقادة أحزاب وسياسيين . بلغ من العمر عتياً ، لكنه غزير الابداع والانتاج والذاكرة ومازال يضحي بوقته الثمين في العاصمة السويدية ” ستوكهولم ” يرفد الثقافة الوطنية بنشاط يومي وفعال في الدفاع عن وجه العراق الناصع وتاريخ الشيوعيين الوطني .
عن دار ” سطور ” للنشر والتوزيع في العاصمة بغداد صدر كتابه في طبعته الأولى عام ٢٠١٨. عن ٣٢٤  صفحة من حجم الورق الكبير ، والذي ضم بين جنباته تاريخ حافل بالاحداث منذ مطلع الخمسينيات الى يومنا هذا ، محطات تستحق الذكر والقراءة والدراسة لاستخلاص المواقف والتحديات لمواجهة أزمات الواقع الحالي .

جاء في مقدمة كتابه ” محطات من حياتي ” بخط قلم صديقه ورفيقه كاظم حبيب ” سيرة ذاتية ديناميكية بين الموصل ، بغداد ، موسكو ، عدن ، ستوكهولم . لكل واحدة من تلك المدن ، كان للدكتور خليل محطات نضالية ومواقف أنسانية تركت أثرها الواضح في معطيات تلك المدن وسيرة أحداثها من خلال دوره وموقعه في قلب الحدث حاملاً فكره وأيمانه بنصرة الانسان ودوره في بناء صرحاً أنسانياً يليق بآدمية الانسان على الارض .


الكتاب ” محطات من حياتي ” . كل فصل فيه يحتاج الى كتاب مستقل بما يحمل من أحداث أرتبطت وأنطلقت من أرض العراق ليجوب العالم بها ومؤمناً بحتمية التاريخ في صراع الارادات والمواقف والافكار .
قرأت الكتاب بتمعن وحرص شديدين حرصاً مني على سبر أغوار التاريخ المنسي أحداث ومواقف تلقفناه كأي تلاميذ أبتدائية في مقتبل مشوارنا السياسي ولضعف قدراتنا الفكرية في التحليل والقراءة لنبني رؤى عليها بشدة بساطتها لم يرحمنا الزمن بعمق معانيها . إرادة الدكتور خليل عبد العزيز في فك مفاصلها العقدية من خلال كتابه الذي جاء تتويجاً لمسيرة نضالية قاسية كان أحد مناضليها المهميين في تجسيد تلك المعاني النضالية وروايتها بلغة صادقة وجريئة في تعاقب أحداثها ، وهذا ما يميز منجزه الفكري والسياسي في صفحات كتابه محطات من حياتي .

وقفت متأملاً بعد أن أنهيت صفحات كتابه الثمين من أي باب سوف أدخل عتبة بابه ؟. وأي موضوعه سوف أختارها في شهادته التاريخية عن حقبات مهمة في تاريخنا العراقي ؟. والتي شدتني حقاً في تتبع تفاصيلها برؤية وطنية بعيداً عن أجندات لقد أخرتنا زمناً طويلا ًفي بداية مشوارنا النضالي وحددت أطر التحليل والتجديد والفهم الواقعي برؤية نقدية من منظور ماركسي لينيني حول حركة المجتمع ومستقبله .

تعرض خليل عبد العزيز الى الملاحقة والاعتقال والحكم عليه بعد أحداث الشواف في مدينة الموصل ، دارت به الدنيا وتقاذفته السجون من سجن بعقوبة المركزي وأنتهت بأبعاده الى مدينة ” بدرة ” الحدودية التابعة للواء الكوت ، كان في طليعة المقاومين لحركة الشواف في الموصل بإعتباره أبن المدينة وعضو في الحزب الشيوعي العراقي ومن المتمسكين بأهداف ثورة تموز ومنجزاتها ، ومن المساهمين في تأسيس أتحاد الطلبة العراقي العام 1952 في مدينة الموصل .
قضى ردحاً من الزمن الطويل في الاتحاد السوفيتي ، وبات من الوجوه البارزة والمألوفة في معهد الاستشراق ومن خلال فضاءات تلك المعهد تعرف وأطلع على شخصيات وأحداث مهمة في العلاقات الدولية ومن خلال تلك العلاقات تسنى له أن يحدد ويتخذ مواقف بما يمليه عليه إنتمائه الوطني ، وهذا الكم الهائل من الرؤى والمواقف والتجارب في كتابه تجرك الى أحداث مشوقة ومهمة في رسم سياسات العالم .
فصول الكتاب المتعاقبة زمنياً في الحدث والمكان والتاريخ دعنا إنها مشوقة ولكنها لا تخلوا من المتعة ولهفة المتابعة وسرد للتاريخ ، بتنا اليوم وبما يمر به بلدنا العراق والمنطقة من ويلات وأرباك في الشأن الوطني والانتماء القومي ففصول الكتاب وأحداثه التوثيقية تقربك من عمق وخفايا تلك الاحداث .
توقفت عند كل فصل من تلك الفصول ، وبتقديري كانت مهمة جداً لانها تدخل ضمن العلاقات الدولية ومصالحها الخاصة وغلبتها على القييم والمباديء والانتماءات المشتركة .
واحد من تلك المداخل ، والذي يبدأ بوصول البعثي ورجل المخابرات ” فاضل البراك ” الى معقل الشيوعية وهو من المعادين لها فكراً وممارسة ، وأصبح نائب الملحق العسكري في السفارة العراقية ومسؤول محطة المخابرات العراقية في موسكو ، قدم أطروحته حول حركة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١ والتي تدخل ضمن الدراسات القومية وفي الوقت الذي يعتمد ضمن نهج وسياسة المعهد هو الاهتمام وأعطاء الاولوية للدراسات الماركسية اللينينية ، والشيوعيين أولى بمقاعدها .
يتضمن كتاب ” محطات من حياتي ” للدكتور خليل عبد العزيز مداخيل عدة ومهمة وغير مطروقة سابقاً في أسرار وبروتوكولات في العلاقات الدولية ونمط تحديدها من أحمد حسن البكر الى ملك حسين الى محمد سياد بري الى حافط الاسد الى عبد الفتاح إسماعيل ، وأنتهاءاً بجمال عبد الناصر ، ووجهة السياسة السوفيتية في التعامل مع وجهات نظر ونمط حكم ورؤية هؤلاء الرؤساء مع حركات شعوبهم وعلاقاتهم بقوى المعارضة الشيوعية في بلدانهم . عكس الدكتور خليل في متون كتابه تلك الوقائع بإعتباره شاهد وباحث وسياسي وأعلامي .
خصص الدكتور خليل في كتابه فصل كامل ومهم للقاريء العربي من وجهة نظر سياسية ” يسارية ” .
السياسة السوفيتية وعلاقتها بالاحزاب الشيوعية العربية ، والتي مازالت الى يومنا هذا تتصدر المشهد السياسي العربي ” الشيوعي ” في تداعياته المتشظية في اللوم والنقد وعدم الرضا تجاه مصير أحزاب وشعوب وحركات وأحداث .
البلاشفة في ثورتهم التاريخية ٦ أكتوبر ١٩١٧ بقيادة زعيمهم فلاديمير إيليتش لينين ، أستلهم الدروس الأولى في تطبيقاتها على أرض الواقع بدكتاتورية البروليتاريا وسلطة العمال في البناء الاشتراكي من تعاليم كارل ماركس ورفيقه فردريك أنجلس ، لكن بعد موت لينين العام 1924 ترك فراغاً كبيراً في قيادة دفة الحزب وفي عملية بناء النظام الاشتراكي بصعود قيادات متهورة بأمكانيات محدودة ومحصورة في النظرية والتطبيق والممارسة . ستالين وصحبه وخطابهم الايديولوجي الجديد الذي يتقاطع تماماً مع خطوات الزعيم الشيوعي لينين ، والذين تمسكوا بخطواته في بدايات مسيرة الثورة وعملية البناء تمت أزاحتهم من قيادات الحزب الشيوعي السوفيتي ، بوخارين ، زينوفيف ، كامينيف ، تروتسكي ، وتعرضوا الى سلسلة إنتهاكات أدت بهم الى الموت ، سلسلة عمليات تطهير كاملة شملت أهم قيادات الحزب الشيوعي ، ولم تنتهي الا بسقوط النظام الشيوعي والذي أعتبر زلزالاً هز العالم ، مثلما أعتبر الامريكي اليساري ( جون ريد ) في كتابه حول يوميات ثورة أكتوبر ” عشرة أيام هزت العالم ” قبل سبعة عقود مضت .
وقال عنه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر : من الخارج قلاع محصنة ومن الداخل خاوية . والعالم كله شاهد الإنهيار المروع لأنظمة البلدان الاشتراكية .

تضمن الكتاب حوارات صحفية أجراها الصحفي فرات المحسن مع مؤلف الكتاب الدكتور خليل عبد العزيز ومن أهمها حول علاقة السوفييت بالاحزاب الشيوعية العربية ، حيث إنها يصفها علاقات بين تابع ومتبوع من خلال موظف حكومي وحزبي صغير يشغل مكاناً متواضعاً في جهاز المخابرات يدعى ” نيجكين ” يقبل الهدايا ويطالب بالرشاوي من قادة تلك الاحزاب لتمشية معاملة لقاء مسؤول أو مكاناً في منتجع على شواطيء البحر الأسود . يذكر عبد العزيز في كتابه عندما وصل الى موسكو إلتقاه الشهيد سلام عادل ونبه بعدم قبوله الذهاب الى تلك المنتجعات لو عرض عليه من خلال يومياته التي قضاه في تلك المنتجعات والأساليب المتبعة والمعمول بها والهدف من ورائها ، تعامل القادة الشيوعيين السوفييت مع ملفات الاحزاب الشيوعية العربية بالضد من إرادة جماهير هذه الاحزاب بالتنسيق مع قادتها في إجهاض أي مشروع ثوري يؤدي الى ثورة وطنية من خلال أستلام السلطة في بلدانهم أي كان هناك إذعان وخضوع كامل لوصايا اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي السوفيتي من خلال ممثل لجنة العلاقات الخارجية الرفيق ” بوناماريوف ” والذي كان يصغى بشكل طوعي الى معلومات ” يفغيني بريماكوف ” الذي بدوره يقدم معلومات سيئة وصورة غير واضحة عن سياسات ومواقف الاحزاب الشيوعية العربية ومحاولات لوي ذراع لسياسة الاحزاب الشيوعية العربية التي لا تتماشى مع وصايا القادة السوفييت وخير مثال الحزب الشيوعي السوداني أيام عبد الخالق محجوب الذي كان يعارض علناً السياسة السوفيتية مما مورست عليه ضغوطات كبيرة وحصار سياسي وفكري لتحيده عن مواقفه ، بل تعدى الأمر الى أبعد من ذلك بمنعه من حضور أجتماعات الاحزاب الشيوعية العربية لمواقفه الصريحة والعلنية في إنتقاد السياسة السوفيتية تجاه شعوب المنطقة وأحزابها الوطنية ، في الوقت الي كان مدير معهد الاستشراق ” غفوروف ” له رأي آخر تجاه السياسة السوفيتية أكثر واقعية وتطلعاً مشرقاً لنضالات تلك الاحزاب نحو الحرية والاشتراكية كما أكد الدكتور خليل عبد العزيز في كتابه ” محطات من حياتي ” .
مارس الشيوعيين السوفييت ضغوطات كبيرة على قيادة الحزب الشيوعي المصري للانضمام الى مشروع الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة جمال عبد الناصر الذي أسسه بتوجيهات من السوفييت بعد مشروع السد العالي ، بل ذهب السوفييت الى أكثر من ذلك بمطالبتهم للحزب الشيوعي المصري بحل تنظيماته وألغاء كيانه السياسي والتخلي عن مشروع الثورة والسلطة ، ولم يستطيع ذلك الحزب العريق في مقاومة الضغوطات السوفيتية بسبب ضعف أمكانياته على المستوى العام ، فاندحر مستسلماً صاغياً ، أزاء أدعاء عبد الناصر السياسي نحو بناء نظام أشتراكي عربي وبدعم سوفيتي واضح ، وفي الوقت الذي كانت السجون المصرية تغص بالشيوعيين المصريين والتقدميين .
موضوعة التطور اللارأسمالي والانتقال الى السلطة سلمياً وتسويقها أيدلوجيا منذ نهاية الخمسينيات لأطفاء شعلة الثورة بين صفوف الشيوعيين في العالم ، أعتمدها السوفييت في علاقاتهم الخارجية تجاه الدول النامية  على حساب مصلحة ومصير القوى اليسارية والديمقراطية في ذلك البلاد . وكان نيكيتا خروشوف الرئيس السوفيتي هو من دافع عنها بعد طرحها كمشروع المنظر سوسولوف .

العراق والحزب الشيوعي العراقي من أكبر ضحايا السياسة السوفيتية في تضييع فرصته التاريخية في أخذ السلطة من مجموعة من العسكر المتهورين الزعيم عبد الكريم قاسم ورهطه . وفي فترة حكم الزعيم قاسم طالب عزيز محمد بحل التنظيم الحزبي داخل الجيش العراقي وأثنى عليه عامر عبدالله لعدم أزعاج الزعيم وتبديد خوفه من تطلع الشيوعيين الى السلطة وتماشياً مع الموقف السوفيتي تجاه العراق .
وعلى غرار ما حدث في مصر . أراد السوفييت أن يعيدوا التجربة السيئة في العراق ، فبعد إنقلاب عبد السلام عارف على سلطة البعثيين في ١٨ تشرين الثاني العام ١٩٦٣ والاعلان عن الاتحاد الاشتراكي العربي ، ضغط السوفييت على قادة الحزب الشيوعي العراقي بأتجاه حل تنظيمات الحزب والانصهار في بوتقة الاتحاد الاشتراكي العربي ، هنا برز وتكون خط ” آب ” في تبني هذه السياسة بالتناغم مع موقف السياسة السوفييتية حول رؤيتها بمصير الاحزاب الشيوعية العربية ، والشك بقدراتها على تعبئة الجماهير وقيادتها نحو البناء الاشتراكي .

وقد أقر خط آب في إجتماع اللجنة المركزية عام ١٩٦٤ المنعقد في العاصمة ” براغ ” بالاغلبية فقط أعترض عزيز الحاج عليه وتحفظ أراخاجادور على التصويت ، وخط آب هو أمتداد للنهج الستاليني اليميني وتعزيز للسياسة السوفيتية باتجاه تهميش دور الحزب الشيوعي العراقي في قدرته على تعبئة الجماهير وقيادته على العمل الثوري في البناء الاشتراكي من خلال مفهوم التطور اللارأسمالي والذي أعتمده الحزب الشيوعي في سياسته العامة في مؤتمره الثالث العام ١٩٧٦ المنعقد في بغداد تحت شعار ” من أجل ترسيخ وتعميق المسيرة الثورية وتوجه العراق صوب الاشتراكية ” . وفي إجتماع اللجنة المركزية المنعقد في بغداد نيسان العام١٩٦٥ أثير نقاشاً حاداً حول خط آب وتداعياته السلبية بين الناس وجماهير الحزب فتم رفضه بالكامل من قبل المجتمعين ورميت كل قراراته السابقه في سلة المهملات ، وأنتهجوا سياسة جديدة وصدروا بياناً ضد حكومة عبد السلام عارف ودعوا الى إسقاطه . وحاول عزيز محمد بعد عودته من موسكو بأعتماد سياسة خط آب بصيغة التطور اللارأسمالي ، وفي الأخير نجح بعقد جبهة وطنية وقومية مع البعثيين في تموز عام١٩٧٣ .
الدكتور خليل عبد العزيز في كتابه سلط الضوء على أحداث مهمة مقتطعة أو مجزء من التاريخ فعادها الى مكانها المفترض من خلال تجربته النضالية والإعلامية والسياسية .


9
المنبر الحر / الصدق لسان الحق .
« في: 18:59 13/12/2022  »
الصدق لسان الحق .

توخياً للحقيقة وأنصافاً للتاريخ سأدلوا بدلوي ، وأنا أواجه القدر المحتم في نهاية كل أنسان ، وقد بلغت عتياً من العمر سواء على مستوى العمر أو التجربة ، في البدء أود أن أعرف القراء والمتابعين للشأن السياسي العراقي : من أنا ؟. أنا علي خزعل الكرادي من عائلة الكرادي البعقوبية . تعرضت سوية مع عائلتي الى البطش والحرمان والإعتقال وأستشهاد أخي كريم ، كعائلة شيوعية . تعرضت الى الإعتقال في أقبية الامن عام ١٩٨١ ما يقارب عام كامل أثر وشاية من أحد الرفاق بتهمة تنظيم شيوعي مع ثمة شبيبة من أهالي مدينة بعقوبة ، وطيلة فترة الإعتقال وما تعرضت له من أنتهاك وتعذيب لم أبوح بسراً أو أدلي أعترافاً على أحداً وبشهادة الجميع ، وهما كثر وما زالوا يتنفسون هواء الحياة وبأستطاعة الجميع أن يدلوا عن جوهر موقفي ، وكنت آخر المعتقلين والمعترفين عليهم ، وبموقفي الثابت سدت منافذ الملف بأعترافات وإعتقالات جديدة . أنتهت فترة إعتقالنا بعفو رئاسي وبحضور أولياء أمورنا وبتربع فاضل البراك مدير الامن العامة آنذاك منصة اللقاء ليلقي علينا وعلى أولياء أمورنا حجة الوطنية والعمالة ، وصكوك المواطن الصالح .

في شهادتي هذه ومن خلال متابعتي لنشريات صديقي ورفيقي في النضال محمد السعدي ” أبو بيدر” حول كتابيه ” سجين الشعبة الخامسة ”وبيني وبين نفسي ” اللذان أهدانياهما مشكوراً باعتباري كنت جزء من تفاصيل الحدث ، ومما أثارني في توثيق تلك الحدث ما لاحظته من ردود أفعال حول تفاصيل الكتابين والتي تجاوزت من البعض القفز على الحقائق وتقاذفته سمعة الاشاعة ، فتوجبت عليه الأمانة التوضيح والرد.

في صيف عام ١٩٨٧ ألتحقت بفصائل الانصار الشيوعيين في مناطق كرميان ، والتي تواً شهدت أنفراجاً سياسياً وعسكرياً بعد طول أحتراب مع صديق اليوم وعدو الأمس الاتحاد الوطني الكردستاني ”أوك” . وبعد فترة زمنية لا أستطيع حصرها في التجوال والمفارز والنقاشات ، والتي يبدو لي أزعجت البعض عندما كشفت عن حقائقها وجزء من ملابسات الاعتقال واللغط حول البعض وجوهر مواقفهم مما شكل عند البعض نزعة في عزلي عن اللقاءات والحوارات المهمة . في خضم تلك التطورات والتجربة المتواضعة وصل من بغداد ” محمد السعدي ” وكان في مهمة حزبية ، وبحكم علاقة قديمة تمتد لسنوات طويلة في مدينتنا بعقوبة رحب بي بفرح وأمتنان ، وأنا لم أتجرأ في خوض تفاصيل مهمته وعملة الحزبي ، لكني كنت أشاهده في لقاءات طويلة ومستمرة في السير بين تلال القرى وفي بيوتها ودرابينها مع المسؤول الاول في التنظيم طه صفوك ” أبو ناصر ” من العشرة المبشرة في الجنة ومن أرهاصات المؤتمر الرابع للشيوعيين العراقيين عام ١٩٨٥ . وفي أوقات كثيرة وخلال الاستراحات واللقاءات في القرى الكرميانية . أرى محمد السعدي ”لطيف” حاملاً أوراق وقلم وكتاب ويكتب وهو بمظهر أنيق ومرتب وممتليء بالحيوية والنشاط والاعتزاز بالنفس ، وما شاهدته بنفسي كيف كان يتعامل بكبرياء مع بعض الرفاق ، وفي حينها حدثت نفسي ربما يشعر بالزهو في صعوده ونزوله من بغداد الى الجبل في زمن قوة النظام الخارقة . وعندما حانت الفرصة وسألته ؟. قال : هؤلاء مدعيين فقط لايستحقون الاهتمام ، وهم أول من هاجموه عندما ترك مواقع النضال بأتهامات مزيفة وباطلة ، وربما عبرت على السذج . بعد فترة زمنية بلغت ضمن مفرزة أنصارية بأتجاه مقر القاطع في مناطق ” قرداغ ” . وتفاجأت كانوا ضمن المفرزة هو أنا ومحمد السعدي ”لطيف”وطه صفوك ”أبو ناصر” . وصلنا في ليلةً كان القمر فيها مضيئاً الى مقر القاطع ، وكانوا مسؤوليه ”أحمد باني خيلاني ” ومحمد النهر ” والشهيد جوهر . وثمة رفاق من الكادر المدني ” المرحوم سامي الجبوري ” وسلام العكيلي” والشهيد صباح أبو النور . وأنني ألتقيهم للمرة الاولى ، أما محمد السعدي وبحكم عمله السابق وفترة وجوده وعمله في الجبل هناك ود ورفقة وإهتمام به واضحة للعيان . هنا أتسأل وبغرابة عن حجم التلفيقات التي طالت محمد السعدي بعد تركه الجبل وفي الوقت الذي كان يحظى بالاهتمام والتقدير العاليين من الرفاق قبل لحظات من تركه الموقع وتسليمه السلاح وعناق التوديع مع الرفاق ، لو صحت تلك التلفيقات والاشاعات لماذا تركوه أن يخرج وسلاحه معه الى آخر لحظات التوديع ، ولم آراه إلا معتزاً بمواقفه ويتحدى الجميع وفخوراً بسيرته النضالية ؟. في الايام الاخيرة  بدأت علاقتي تقترب من محمد السعدي في التشاور والآراء حيث وجدته صاغياً ومستمعاً جداً لآراء وأفكار الآخرين . بعد فترة من مكوثي وهي ليس فترة طويلة بلغت مرة أخرى سوف أعود مع مفرزة ذاهبة الى مناطق ” كرميان ” ودعت الرفاق ، وكان من ضمنهم لطيف ”محمد السعدي” . وأنقطعت أخبارنا الا بحدود تبليغ السلام والسؤال عن أحوال بعضنا عبر رفاق المفارز .

بعد شهور من تواجدي في مناطق ”كرميان” بلغت أيضاً بمفرزة الى مناطق قرداغ وفرحت سوف ألتقي ثانية بالرفاق هناك ، وكان من ضمنهم محمد السعدي ، لكن عند وصولي وبعد فترة أكتشفت هناك خلافات بين محمد السعدي وقيادة التنظيم من خلال حرارة اللقاءات اليومية بين غرف وسطوح مقر القاطع ، وبحكم علاقتي القديمة مع ”محمد السعدي” عرفت منه ولأول مرة هو بأتجاه القطيعة ، لكنه هذا لايظهر للآخرين والقاعدة مزدحمة بالمقاتلين وحركة مفارز ورفاق ربما بحكم علاقة محمد السعدي بالرفاق وخصوصاً كوادر التنظيم المدني ، هنا تعمقت علاقتي أكثر بالرفيق محمد السعدي ، وبدأ يبوح لي ببعض المواقف والاسرار منتقداً عدة تسلكات يعتبرها غريبة على الشيوعيين ، وإدعاء البعض بالعمل الحزبي في الداخل وتنظيمات الداخل حسب وصف محمد السعدي لهم ” لاعلاقة لهم بالداخل وتنظيماته مجرد دعاة ”، لكنه علاقته كانت في أوجها مع المرحوم ”أبو ناصر” ود وحديث يومي . في نهاية عام ١٩٨٧ فاجأني الصديق محمد السعدي ، إنه سوف يترك التنظيم والحزب والكفاح المسلح مع أقرب مفرزة متوجهه بالقرب من الحدود الإيرانية ، وهو مازال يحمل سلاحه بيده ومتمسك بآرائه الصريحة ومعتداً بمواقفه ، وفي تلك اللحظة أنا الذي طلبت منه وبمحض أرادتي أن أرافقه لعدم قناعتي الكاملة في البقاء في الجبل ، وطلبت منه أن يبلغ التنظيم وتحديداً ”أبو ناصر” عن نيتي ، لكن للأسف أستغلت ضد الرفيق ”لطيف”بذريعة هو من ألبني على ترك مواقع النضال ، وللتاريخ أعلن كان القرار بمحض أرادتي لعدم قناعتي بتفاصيل التجربة ، وحاول التنظيم أن يوجه الى ” لطيف ” توبيخ لخرقه التنظيم الحزبي في إبلاغه لي سوف يترك الجبل ، كان يفترض منه وحسب أعتقادهم أن يكون الأمر سراً ويترك الجبل سراً ، لكن هذا ما حدث . 

وعندما حانت وقت تحرك المفرزة وفي الدقائق الآخيرة . سلم ”لطيف”سلاحه والامانات التي بحوزته وودع بحزن الرفاق جميعاً ، وكنت معه ، وبدون أية ريبة وشكوك في ذلك الصباح تركنا الموقع مع مفرزة شيوعية تتكون من عشرة رفاق ، وكان في الموقع الشهيد ”عمر أحمد إسماعيل” أحد قياديه منظمة الصدى وزميل الدراسة في الآداب مع محمد السعدي حسب ما روى لي ، فسلم له رسالة وبحكم علاقته بأهل محمد السعدي أن يصلها الى أهله للأطمئنان إنه مازال على قيد الحياة وتحسباً سوف تنقطع الاخبار في حالة دخول الاراضي الإيرانية . هذا ما عشته بالقرب من تلك التجربة بكل أمانه ، لكن الذي صعقني حقاً ، وفعلاً الذي دعاني أعيد النظر في قناعاتي وبالشخوص هو السيناريوهات التي حكيت عن تلك الرحلة لاتنم عن أي مصداقية ولا عاقبة ضمير ، بعد أن تركنا الموقع والتجربة فقط أرادوا لتشويه تاريخ وسمعة مناضلين طبعاً هذه لاتخلوا من مواقف شخصية وتجارب فشل وأنتقام. رافقنا المفرزة التي أنطلقت من مقر القاطع في ”جبل قرداغ ” وبعد ثلاثة ليالي من المخاطر وصلنا الى قرية ”قزلر” وهنا تفارقنا مع الرفاق ، وبلغنا الرفيق سردار أخو الشهيد ياسين مسؤول المفرزة بالتبليغ الحزبي أن ندبر حالنا ، وهذا حدنا معكم ، وحاول محمد السعدي معه أن نرافقهم الى مقر الحزب الحدودي في منطقة ” دولا كوكه ” لكنه أعتذر بتأسف وقال : هذا قرار حزبي وليس بيدي شيء ؟.  يومها تحملنا أنا ولطيف ظروف في غاية الصعوبة ، كادت أن تؤدي بحياتنا من كمائن وخطورة الربايا العراقية المنتشرة على القمم الجبلية ، ونحن عزل وبدون أي قطعة سلاح ندافع بها عن نفسنا وعواصف ثلجية مجنونة . وفي نهاية المطاف وصلنا الى موقع رفاقنا ” شيوعيون عراقيون”في سلسلة جبال مناطق”سركلو وبركلوا” الشهيد سامي حركات ورفاقه وتقاسمنا معهم برد الشتاء والخبز اليابس . في ختام رسالتي هذه والتي أضعها أمام كل من يهمه معرفة الحقيقة .. أعيد السؤال وأكرر : لو كان محمد السعدي بهذا التناول الذي أشاعوه حوله . لماذا تركوه أن يخرج من كردستان ولنا فيها سجون ومعتقلات تعذيب ؟؟.  هذه شهادتي للتاريخ.

علي خزعل الكرادي


10
معركة سلفادور الليندي
ليس غريباً لكل من قرأ وسوف يقرأ المشهد المأساوي ، الذي أدى  الى نهاية تراجيدية بنهاية حياة وموت الزعيمين في بلدين بعيدين ومختلفين العراق وتشيلي عبد الكريم قاسم وسلفادور الليندي ، الأ أن القائد اليساري الليندي أنهى حياته بعد أن خر صريعاً على عتبة باب قصره بآخر رصاصات من بندقية كلاشينكوف كان قد أهداها له رئيس كوبا فيديل كاسترو . المشهد قريب بين الأثنين كلاهما خدعا من قبل حاشيتهم وأقرب القادة الى قصورهم وحياتهم الخاصة والعامة أو ربما جهلهم بألاعيب السياسة ودهاليزها هو الذي قادهم الى الموت النهائي رغم حبهم لأوطانهم ونظافة ضمائرهم ، لكن هذا لايعينهم ببناء أوطانهم وسعادة شعوبهم
وصل الليندي الى قصره عبر الانتخابات الديمقراطية ممثلاً عن اليسار والديمقراطية ، ويعتبر أول رئيس دولة من عام ١٩٧٠ حتى عام ١٩٧٣ في أمريكيا اللاتينية في القصر الرئاسي ” لامونيدا” ذي خلفية سياسية ماركسية منذ إنتحاره في الإنقلاب العسكري الذي أطاح بحكمه والذي خططت له ونفذته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بقيادة الجنرال أوجستينو بينوشيه رفيقه في السلطة والقرار ، والذي يعتبر من أقرب معاونيه ومنحه عدة أوسمة ونياشين لدوره في الأمن الوطني والاخلاص له ، لكنه تخلى عنه وصحبه في شدة الأزمة ، بل أنقلبوا عليه وعلى نظامه في زمن حرج ، حيث أصطفوا مع قاتليه من قوى معادية لمصالح الشعب ونوايا تدخل خارجي ومما دعا الآخرين أن يعتقدوا سبب إنتحاره هو من هول الأزمة واليأس والمأساة الى لحظة تجلي الوعي في الخيانة الوطنية ، عندما وجد نفسه معزولاً ووحيداً يواجه مصيره . في أول الساعات عندما بدأت الطائرات الحربية تدك  وترمي حمم قنابلها على القصر الرئاسي تخلى عنه قادته ومريدية رغم بياناته المتكررة من إذاعة سرية تدعو الشعب والقوات المسلحة الى فض الحصار على القصر الرئاسي والمقاومة لكنهم تركوه وحيداً ليتلقى مصيره النهائي ، وهذه التراجيديا السياسية قريبة في أحداثها على تاريخ العراق السياسي الحديث ومقتل الزعيم قاسم في جمعة ٨ شباط ١٩٦٣. عندما حصر نفسه الزعيم في وزارة الدفاع تحت وابل قنابل الإنقلابيين  وتخلى عنه كل مقربيه جاسم العزاوي حميد حصونه وآخرين كثر ، ولم تنقذه بياناته التي سربها عبر حراسه الى مبنى الأذاعة في الصالحية وبعضها سلمت الى أيادي الإنقلابيين ، مما أدى به المصير أن يسلم نفسه يائساً بائساً الى الإنقلابيين وهو الأدرى بمصيره المحتوم ، فقاده قدره الى الموت تحت رحمة وعودهم الخائبة ودهشة محبييه ورفاقه . ليسدل الستار على حقبة سياسية مهمة في العراق ، كانت في ظله بناء وأعمار وأفاق وطموحات ورغد للفقراء في العيش ، لكنها مغلفة بقالب سياسي مضطرب بالخوف والأنفجار لنزعته العسكرية في إدارة شؤون البلاد والعباد .


ولد سلفادور الليندي في تشيلي يوم  ٢٦ يونيو ١٩٠٨  وأستشهد في ١١ أيلول ١٩٧٣ وهو طبيب وسياسي   وذي عقلية يسارية وطنية ومن أصول إسبانية . وكان آخر بيان بثه الى أبناء شعبه قبل إنتحاره .
أعلن أني لن أتنازل ، اني مستعد أن أقدم حياتي دفاعاً عن السلطة التي أئتمنتني الشغيلة عليها، إن هروبي سيكون أقذر من خيانة هؤلاء الجنود الذين خانوا وطنهم…عاشت تشيلي ، يحيا الشعب ، يحيا العمال ، هذه هي كلماتي الأخيرة، وأنا واثق من أن تضحيتي هذه لن تكون عبثية . وستكون العقاب المعنوي للخونة والمتأمرين .

كان من أهم رجالات سلفادور الليندي ورفيقه في النضال والذي جمعهم الفكر الماركسي وفرقهم الموت الشاعر الشيوعي بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل للاداب والذي مات بعد ١٢ يوماً من إنتحار رفيقه سلفادور الليندي وما زالت التكهنات متناقضة حول موته . وما أميط اللثام حوله بعد حفنة سنيين ، إنه مات في أحدى المستشفيات بحقنة سامة ، عندما كان راقداً تحت جرعات أوجاع سرطان البروستات في ظل الفوضى التي عمت في البلاد .
وقد شهدت الحياة السياسية ورموزها في العالم طبيعة العلاقة بين الحاكم السياسي والمثقف وتأثيراتها على صورة البلد ، مثلما عرف بدور العلاقة على طبيعة النظام وأسس أركانه بين مفجر ثورة أكتوبر لينين وأبن الثورة الأديب مكسيم غوركي .
وفي تجارب التاريخ صور عديدة عن العلاقة بين الزعيم أي رجل السلطة والمثقف رغم تناقضات فصولها وتركيبة أهدافها فرجل فرنسا القوي العسكري ورمزها شارل ديغول وبعد أن توج فرنسا بالنصر وهزيمة المحتلين الألمان ودخوله قصر ” الشانزليزيه ” أعطى للمفكر والروائي الفرنسي ” أندريه مالرو ” منصب وزيراً للثقافة ومستشاراً ثقافياً له تعبيراً عن وجه فرنسا الجديد بعد دحرها للإحتلال النازي الالماني .
أيضاً أراد وتمنى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد مفاوضات ” أوسلو ” أن يقلد الرئيس ديغول في خطوته بالعلاقة بين الرئيس والمثقف فتمنى أن يكلف الشاعر محمود درويش بمهمة وزارة الثقافة أو مستشاراً ثقافياً له . فكان رد الشاعر درويش سريعاً .. لا أنت ديغول ولا أنا أندريه مالرو .. ولا فلسطين باريس ولا باريس فلسطين

11
مأساة الكتاب الروس .
تحت هذا العنوان قرأت مقالاً للاستاذ جودت هوشيار ، المقيم في الاتحاد السوفيتي في حقبة ستينيات القرن الماضي فأعتمدت على مقاله في إستقصاء جوانب مهمة في سطور هذا المقال ، ونشط من قراءاتي السابقة عن يوميات الادب الروسي ، ومن خلال دراستي للادب الروسي في مطلع الثمانينيات في الآداب جامعة بغداد وأطلاعي على حياة ومسيرة الكتاب الروس من شعراء وروائيين ونقاد وكتاب ورساميين . بدءاً من عصر القياصرة الى فضاءات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى بقيادة مفجرها لينين وحقبة حكم ستالين بقبضته الحديدية .
مصير الادباء الروس كان يرهقني في مصيرهم المحتوم الى الموت إنتحاراً أو بظروف غامضة في كلا الحقبتين من تاريخ روسيا وهم بعز عمرهم الانساني والابداعي ومعتركهم الحياتي .
بقيت لسنوات أتسأل مع نفسي من خلال القراءة والمعرفة في مسيرة هذا السجل الانساني والابداعي من تاريخ أدباء روسيا ومصيرهم المستعجل الى الموت .
هل قسوة الانظمة في قمع أبداعاتهم سبباً في موتهم سراً أو إنتحارهم طوعاً ؟. وهل إبداعهم الانساني في لحظات التجلي والقمة دفعهم الى المصير المفجع ؟. وهل مفهوم الموت في النتاج الانساني والاخلاقي بحتمية الحياة قادتهم الى الموت الزكام ؟ . هل هذه العوامل كافية وكفيلة تدعي شاعراً أو روائياً لم يتجاوز عمره العقد الثالث وبقمة تألقه أن ينتحر أو يقتل جبرأً مثلما  وقع مع الشعراء ألكساندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وفيدور دوستوفسكي الى مايكوفسكي وسيرغي يسينين .
الكساندر بوشكين .. شاعر روسيا الاول وطنياً ووجدانياً ورمزها ، نفي مرتين من قبل قيصر روسيا نيكولاي الاول لنشاطه الثوري ضد أركان حكمه المتزمت من خلال نتاجاته الادبية والانسانية الا أن رتبت له بدعة المبارزة السائده آنذاك لينتهي ميتاً . ميخائيل ليرمنتوف نعاه بقصيدته ” موت شاعر ” .. سقط الشاعر .. عبدا للشرف ..سقط .. وكان مفتريء عليه بأفتراءات خبيثة . مما هزت أركان روسيا من أقصاه الى أقصاه ، لينفيه القيصر الى منطقة القوقاز . عرف شاعراً وكاتباً مبدعاً بالعديد من الروائع الادبية والذي جسد من خلالها إبداعات الانسان ” بطل من هذا الزمان ”روايته الوحيدة  ، لكن في ملحمته الشعرية التي أرثى بها شاعر روسيا الاول الكساندر بوشكين بعد موته ، هي من أدخلته عالم النجومية والعالمية والشهرة ومن ثم أدت الى قتله أيضاً.

ونال الآخرين من الحيف والتهميش والنفي بدءاً من إيفان توركنيف الى الناقد الديمقراطي بيلينيسكي ومروراً ب ليو تولستوي ونيقلاي غوغول وأنطوان تشيخوف ، أما فيودور دوستويفسكي فقد حكم عليه بالاعدام لنشاطه الثوري ضد ممارسات وسياسة القيصر ولا زال سر موته المبكر لغزاً .
لم يكن حال الادباء والشعراء والكتاب الروس في ظل الوضع الجديد بقيام ثورة أكتوبر أحسن حال من الزمن الذي مضى ، لقد مارس ستالين ونظامه سياسة الترهيب والترغيب بحق مبدعي روسيا وسلخهم من جلودهم الحقيقية وحولهم الى مداحين وطبالين لشخصه ونزقه ومن عارضه أو صمت تلقى حتفه الابدي ومن فضاءات ثورة أكتوبر ولدت منهجية تحزب الفن ونحن تلقفناه أي بلدان الشرق وأحزابها الشيوعية . يقول أميل حبيبي : نحن ربينا أجيالنا على مفاهيم ستالين . الشيوعيين جبلوا من طينه خاصة. وثمة من عاصر التجربة المرة وأستنساخها على الوضع في العراق وسياسة البعث وصدام حول الابداع والمبدعيين . ظل ستالين طيلة حقبة حكمه يعيش بهاجس الخوف من المبدعين الروس ، فاغلب الذين ماتوا أو إنتحروا الشبهات تدور حوله في قتلهم . يقول سيرغي دوخلاتوف: نلعن ستالين بلا إنتهاء نتيجة أعماله ، ومع ذلك أريد أسأل من الذي كتب أكثر من أربعة ملايين تقرير له .
الشاعرة المبدعة والكبيرة مارينا تسفيتايفا إنتحرت في ظروف غامضة ولم يعر إنتحارها أهتماماً في الاوساط الحكومية ولا حتى الادبية وظلت قصائدها ممنوعة الى أواسط الخمسينيات بما تمتاز من ثقافة وتمرد ورفض وثمالة في المعاني .
كان ستالين يتابع بنفسه جميع النتاجات الادبية والفكرية ، ويحضر شخصياً المسرحيات والامسيات الادبية ممن تنال أقبالاً جماهيرياً في الاوساط الشعبية ، وقد حضر وشاهد مسرحية ” أيام تورين ” من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف عدة مرات على المسرح الاوبري في موسكو ، وخرج بنتيجة مفادها أن هذه المسرحية سخرية من النظام الشيوعي وبولغاكوف ليس منا ، وما تعرض له هذه الروائي العبقري من سوط ستالين ورفاقه ، فمات بعد تعاطيه جرعة كبيرة من المورفين .
وعندما قرأ ستالين مسرحية ” في المخزن ” للروائي أوليغ بلاتونوف كتب عنه قائلاً ” كاتب موهوب ولكنه وغد ” ووصف المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا .
في عام ١٩٣٤ أنشأ ستالين ” إتحاد الكتاب السوفييت ” . وأختزل بهذه الخطوة كل المنتديات الادبية ، وبدأ العمل ضمن مفهوم الواقعية الاشتراكية والالتزام ببنودها ومن يخرج على طاعتها يتعرض الى العزلة والقتل .
كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس الاتحاد ومؤمناً بالاشتراكية وشديد الاخلاص للحزب الشيوعي ولستالين شخصيا . ويبرر ويدافع عن كل خطوات ستالين المؤذية تجاه رفاقه ومبدعيه شعبه .
بعد المؤتمر العشرين للحزب في عام ١٩٥٦ حين أتضحت الحقائق المروعة عن جرائم ستالين وسياسته الدموية حزن حزنا عميقاً ، وشعر بالألم والندم ، ولم يتحمل الضغط النفسي الشديد وبات دائم القلق معذب الضمير ، ويتمنى الموت اليوم قبل الغد ، فاطلق الرصاص على نفسه ليرتاح الى الابد من عذاب الضمير كما جاء في الرسالة الموجهة الى اللجنة المركزية للحزب ، والتي كتبها قبل الانتحار .
بعد ثورة أكتوبر ١٩١٧ هاجر عدد كبير من خيرة مثقفي روسيا من مفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين خارج روسيا ، أما من بقى منهم لقد تعرض الى المضايقات والتهميش وتقيد أبداعهم بالترهيب والترغيب وتحزيب نتاجاتهم  .
مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد أن رفضوا بالسماح له بالسفر الى الخارج لتلقي العلاج . يروي البروفيسور ضياء نافع في يومياته اليومية عن روسيا والسوفييت وعيشه مع اللاجئين الروس في باريس في منتصف الستينيات ، والذين غادروها بعد ثورة أكتوبر وتوقعاتهم بأنهيار النظام الشيوعي في الوقت الذي تهاوى به الاتحاد السوفيتي .
أما فاجعة وسيناريو الشاعر سيرغي يسينين مؤلمة ، حيث شنق نفسه في فندق في لينينغراد عام١٩٢٥ وهو في الثلاثين من العمر في عز عطائه وشبابه وهو الشاعر الاكثر شعبية في تداول شعره في روسيا بما تتضمنه قصائده من غزل وشجن ووجدانيات ، عربيا يكون قريباً جدا الى شاعرنا الكبير نزار قباني من دغدغة أنوثة ومشاعر ورومانسية المرأة . وترك في الغرفة التي شنق فيها نفسه قصيدة مكتوبة بالدم ، لانه لم يجد حبرا فجرح معصمه وكتب قصيدته التي يقول فيها ” ليس جديدا في هذه الحياة أن نموت ” وليس جديدأ بالتأكيد أن نعيش .
ولشعبيته الكبيرة في روسيا بعد إنتحاره أجتاحت روسيا موجه كبيرة من الانتحارات وسط الشباب والمثقفين مما أثار هلع السلطات في الحد من هذه الظاهرة الخطيرة ، وقد قيل عنه بعد رحيله من مبدعي روسيا ثراءاً طيبا وكلاما عميقا .
فقال عنه بوريس باسترناك : لم تلد الارض الروسية من هو الاكثر وطنية وأفضل توقيتا مما هو سيرغي يسينين .
أما مكسيم غوركي فقال عنه : أن يسينين ما هو بالانسان قدر ما هو كائن خلق من أجل الشعر حصراً.
أما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه : أن يسينين لم ينظم أشعاره بل لفظها من أعماقه .
أما الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي ” مأساة آخرى في تاريخ روسيا مست الوجدان العالمي والانساني ، حيث كتب قصيدته الشهيرة بعد إنتحار يسينين يقول فيها : في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت ، أن تصوغ الحياة أصعب بما لا يقاس ، بعدها أطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهداة اليه من مخابرات الكرملين .
وقال عنه الاديب الروسي فيكتور شكلوفسكي : أن ذنب الشاعر ليس في أنه أطلق الرصاص على نفسه ، بل أنه أطلقها في وقت غير مناسب .
مكسيم غوركي ورائعة رواية الام ” مات في ظروف غامضة ويقال أنه جرى تسميمه وأن ستالين شخصيا كان ضالع في قتله ، لانه مكسيم كان مستاءاً وغاضباً مما يرى حوله من بؤس وظلم . وهناك العديد من الشعراء والادباء تعرضوا الى السجن والموت وهم في بداية شهرتهم الادبية لكن مواقفهم الانسانية والوطنية هي التي حتمت موتهم السريع والمرعب .
فالشاعر كلوييف مات تحت التعذيب ” أما الكاتبان المعروفان بيلنياك وأسحاق بابل فقد حكم عليهما بالاعدام ونفذ فيهما الحكم سريعا ، أمام هذه التراجدية السوداء في تاريخ روسيا القيصرية والاشتراكية في التعاطي مع الادب والادباء والشعر والشعراء والحرية والابداع نقف عند قول فولتير ” إذا كان لي أبن ، لديه ميل الى الادب ، فان العطف الابوي يدفعني الى أن ألوي عنقه. مارس ستالين الارهاب الفكري بحق مبدعي روسيا وقمع حرية التعبير بل والتشهير بالمبدعين من الشعراء والروائين ممن يبدع ويكتب بحرية وأبداع خارج ما يسمى في حينها الثورة الثقافية .
عندما منح الشاعر بوريس باسترناك على جائزة نوبل للاداب منعه الرئيس السوفيتي خروتشوف قبولها عام ١٩٥٨ عن روايته ” دكتور زيفاكو ”. وتعرض الى حملة تشهرية واسعة فاصيب بسرطان الرئة ومات عام١٩٦٠ .
أما الشاعر جزويف برودسكي فقد إعتقل بتهمة نشر أعماله في الخارج وتم إحتجازه بمستشفى للمجانيين  وفي عام١٩٧٢ طردته السلطات خارج البلد وأنتزعت منه الجنسية السوفيتية ، وهو شاعر مبدع يخط بقلم واضح نال جاهزة نوبل للاداب عام١٩٨٧ ، وكان عمره٤٧ عاما أي أصغر أديب حاصل على هذه الجاهزة الرفيعة .
في عام ١٩٦٨ حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايته ” الدائرة الاولى ” في الخارج ، وصفته وسائل الاعلام السوفيتية ب الخائن والعميل ، وعلى أثر حصوله على جائزة نوبل للأداب في عام ١٩٧٠ ، طرد من إتحاد الكتاب السوفييت ، وفي عام١٩٧٤ نزعت عنه الجنسية السوفيتية وطرد الى خارج البلاد .
أغلب الانظمة السياسية في العالم لم تعد تستوعب فكرة إبداع ونتاج مبدعين لا يتعاطى مع مشاريعه السياسية . ومفردة الديمقراطية كذبة ومؤسساتها حيلة من الحيل ضد توجهات المبدعين الانسانية والسياسية . في فرنسا منعت كتب كانت وفولتير لانها ضد توجهات النظام السياسي القائم في البلاد . وبعد أن أستلم ستالين مقاليد الحكم والدولة والحزب والمباديء أثر موت رفيقه لينين عام ١٩٢٤ ، كانت الخطوة الأولى في برنامجه تصفية كل قادة الحزب وأعضاء المكتب السياسي بذريعة تطهير الحزب من العناصر المخربة . وينقل بعد أن فاحت رائحته بقتل رفاقه ، هم الرسام ” بيكاسو ” برسم صورة بشعة له ، فتعرض الفنان بيكاسو على أثر ذلك الى العقوبة والتوبيخ من قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي .
أما في فضاءات الحضارة العربية والاسلامية وقتل علمائها ومبدعيها الحديث عنها مرعب ومخيف ، بدءاً من الخوارزمي ومرورا ببشار أبن برد ، وأمرؤ القيس ، وبدر شاكر السياب مات مهموما ومعزولا ومتروكا ، وعبد الامير الحصيري مات منغصاً رثاً في حانات بغداد ، ولي عودة بفصل عن أنجازات تلك الامة في قتل وتهميش مبدعيها .
بعد هذا العرض التراجيدي لمصير أدباء وشعراء روسيا وما لاقوه من قمع وأرهاب ومصادرة أبداعهم الانساني والوطني ، قد يصفني بعضأ من السطحين أنني معادي الى الفكر الماركسي . فانني إعلن وبزهو تام إيماني الكامل بهذا الفكر الخلاق نهجاً وأخلاقاً وفكراً ، وحبي له هو حافزي الاول والاخير في تعرية ونقد الاخطاء التي أدت الى تدمير هذه التجربة الخلاقة ودروسا للمستقبل .



12

مواضيع ذات صلة بإنسان ومناضل .. صدى الشيخ عطا والحزب الشيوعي العراقي .


   


في صيف عام 1981 ، دعاني الى بيتهم بمدينة كفري الصديق والرفيق آشتي شيخ عطا أحد الكوادر الفعالة في منظمة ” الصدى ” لتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي ، ومن مؤسسيها ، وكنت أحد أعضائها ، وصلت الى المدينة في ظهيرة قائضة الحرارة ، دلفت في لحظتها الى داخل سوق المدينة قاصداً مكان عمل الشهيد عمر أحمد إسماعيل ( شيروان ) في محل ” الكماليات ” بيع الملابس والعطور . بعد ساعات من الحديث حول أفاق الدراسة وهموم السياسة ، تدحرجت بين أزقة المدينة الملتهبة ، وكان ظني أن عيون الرقيب تلاحقني وعلى عتبة الباب رآني من بين شبكة فتحات باب البيت العليا ، وأستقبلني بأبتسامه هادئه ، وكأنه يعرفني منذ زمن طويل ، كانت المرة الأولى التي  ألتقيه ، وأنتابني شعور بالأطمئنان وكأني أعرفه منذ زمن عميق ، فضلا أن ذاكرتي تختزن عنه تفاصيل مهمة وأحاديث طويله تطمأن النفس عبر ولده آشتي .

شخصية لايتصنع التكلفة وبعيداً عن الرسميات يدخل القلب بأول لمسة شغافه ، وفي اللحظة الأولى طبعت شخصيته في مخيلتي أباً ومناضلاً ورفيقاً ، وذو خلق رفيع وسيره حسنه ، دمث الاخلاق وحسن التعامل وأبن بار لمرحلة العراق السياسية وكيفية التعامل معها بعيداً عن الطفوليه والمغالاة . هو ….
الشيخ عطا الله جمال محمد علي الطالباني . تذكر سيرته الذاتية ، إنه ولد عام ١٩٢٥ في قرية زرداو التابعة لقضاء كفري . يعرف في الاوساط السياسية والمخيلة الشعبية ” شيخ عطا الطالباني ” . وهو الابن الوسط بين الأخوين مكرم الطالباني الوزير الشيوعي في فترة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ، حيث ولد عام١٩٢٣ . وإحسان الطالباني مواليد ١٩٢٧ .


رحل الى السماء الشيخ عطا الطالباني في يوم ٤ آيار عام٢٠٠٠ في مدينة السليمانية على أثر تعرضه لنزف في الدماغ وتوارى ثرى جسده بمقبرة ” مامه ياره ” في مدينة سليمانية ، وقد سبقته بسنوات رفيقة عمره أم كوران أثر عملية إغتيال قذره نفذت تحت ستار الليل ، وتركوا من حطام هذه الدنيا ثريات صالحة وأولاد بطاقات خلاقه . الدكتوره جوان ، الدكتور كوران ، الدكتور سوران ، الدكتور سيوان ، الدكتوره شيلان ، ورفيقي آشتي . توطدت علاقتي بالشيخ عطا ، وكان يشغل مدير بلدية كفري حينها من خلال نشاطي في منظمة ” الصدى ” والذي أرتبطت بها تنظمياً في نهايات السبعينيات في العاصمة بغداد ، وظل أرتباطي المباشر بالرفيق آشتي ، وهو أحد أبناء الشيخ عطا وهو المؤسس الرئيسي مع رفاقه محمد دانا جلال المفتي ، والذي رحل الى الآخره قبل عامين ، والشهيد صارم حسن الزهاوي وهو من طلاب جامعة البصرة جاء الى بغداد وأختفى بها وبعد سنة من تأسيس منظمة الصدى والتي تأسست في نهايات عام ١٩٧٨ وبدايات عام ١٩٧٩ ، أنتقل الى الجنوب والفرات الاوسط بهدف توسيع الركائز والقواعد الحزبية ، إلا إنه إعتقل في العام 1981 ، ولم يبوح بأي سر من أسرار التنظيم ، فتمت تصفيته داخل أقبية الأجهزة الامنية ، والى اليوم لا داله على مصيره .

وفي حديث شخصي . ذكر لي رفيقه آشتي حول شخصه وسجاياه . قال : كان قائداً ميدانياً صارماً ومبدئياً وشجاعاً بمعنى الكلمة .. وفي معظم لقاؤتنا ، كان يكرر دوماً اذا تم إعتقالي لاتخافوا سوف لن أنهار وأعترف عليكم تحت التعذيب تحت وطأة هؤلاء السفلة ، ولكن أمنيتي منكم أن تستمروا بعدي وبدوني ، ويؤكد آشتي إنه كلام ألهمني حينها ، وكانت لي وللرفيق المرحوم محمد دانا قوة كامنة وخارقه ، ومحفزة لنا دوماً ”

في طيلة سنواتي الثلاثة في الجامعة وبحكم مسؤولية آشتي عن أرتباطي وشبكة علاقاتي ، كانت لقاءاتي مستمرة مع الشيخ عطا ، وكان بمثابة مرجع حزبي وسياسي وأمني حول نشاطات منظمة ” الصدى ” وكان يتمتع بحنكة سياسية وتفكير ميداني وعقل واقعي يسبق خطط وآلية عمل البعثيين في تعاملهم مع قوى المعارضة . في صدى حركة الانصار وعمليات الثوار في الجبل الى القصبات والمدن العراقية وسعير جبهات الحرب مع إيران ، أدت الى موجه من التململ بين أوساط الشيوعيين المقطوعي الصلة منذ الهجمة الشرسة نهاية عام  ١٩٧٨ وفرط عقد الجبهة مع البعثيين ، رأت قيادة منظمة الصدى وكوادرها في مواكبة تلك التطورات وضخ دماء جديدة الى حركة الانصار من أجل توسيع قاعدتها ، توليت أنا شخصياً بالتحرك على بعض العناصر ومفاتحتها بالالتحاق الى الجبل مع الثوار الشيوعيين ، وقد تمكنت خلال فترة زمنية أن أرفد بعض الشيوعيين في الالتحاق بفصائل الانصار عبر قواعد ومحطات منظمة ”الصدى” وأخص بالذكر . خضر عبد الرزاق مقيم في السويد ، عبد الزهرة العامري مقيم في المانيا ، طالب عبود جميل أستشهد بآخر أنفال حكومي عام ١٩٨٨ ، وحيد عبد الرحمن دبش مقيم في السويد ، فهد عبد الجبار عبود ” محمد عه رب ” أستشهد عام ١٩٨٤ في منطقة ” باني شهر ” في قاطع سليمانية بخطأ تكنيكي ، عندما أنفجرت عليه الرمانة اليدويه التي يحملها في حزامه حول خصره ، ومن خلال نشاطي هذا ، توطدت علاقاتي بالشيخ عطا من خلال ترددي الدائم على بيتهم ، وكنت أحياناً أقضي ليالي في مشتمل بيتهم الاثير ، وطعم مذاق الباميا من يد أم كوران ، وفي الهزيع الاخير من الليل كنا نقضي وقتاً ممتعاً تحت قمرية العنب في حديقة بيتهم ومرات مع بعض صحبه ورفاقه ، ويلقي عليه ما كتبه في دفتره المتواضع من خواطر وشجون حول حياة كوكب الشرق أم كلثوم وسجل أغانيها الطويل . قله الذين هم صادفوني في مسيرة حياتي السياسية يحملون عقلاً متواضعاً في التعامل مع الواقع ، كان أحدهم هو الراحل الشيخ عطا ، وفي المرة قبل الاخيرة ، عندما حانت ساعة الالتحاق مجبراً على ترك الأهل والمدينة والرفاق والجامعة صيف عام ١٩٨٣ ، وصلت الى بيتهم ، وكنت مهلكاً لتداعيات الموقف ، وفي اللحظة التي شاهدني بها على عتبة باب بيتهم قال لي ” هو أنت العربي الذي يبحثون عنك وحولك تحوم الاعترافات ”

بتجربته الطويلة في العمل السياسي المعارض تنعكس على تقبلك الحالة في مواجهة المستجدات ، وكأنه أمراً عادياً في المواجهة في أساليب النضال . في نفس اليوم نقلني مع عائلته في سيارته من مدينة كفري الى مدينة كركوك الى منطقة ” تكية الطالبانيين ” وهناك ألتقيت بآشتي ، ودارت بيننا حوارات طويلة وأفاق عمل في المستقبل ، وبعد أيام وصلت الى قواعد الانصار في قرى شهرزور قرية ” أحمد برنو ” وبادر الشيخ عطا في حمل حاله وأمانة سلامتي الى أهلي حاملاً بعض أشيائي ليطمنهم على وصولي بسلام عبر أبنة عمي ساهرة مجيد . بعد أربعة سنوات ونيف ألتقيته اللقاء الاخير في بيتهم أيضاً بمدينة ” كفري ” بعد أن نجوت بأعجوبة من قصة الاعتقال ونتونة زنزانتي رقم ثلاثة في الشعبة الخامسة ، هذه المرة طالت أيامي في بيتهم تعدت الى أسابيع وفي بعض أماسيها كنا نقضي وقتاً في مزرعته باطراف مدينة كفري مع رفيقه كريم كومنست ، تلك المزرعة التي تعرف بمزرعة الشيوعيين ، كانت محطة أستراحه وأختفاء للمناضلين والمقاتلين بها أستشهد عمر احمد إسماعيل ” شيروان ” عام ١٩٨٨ عندما حوصر داخل المزرعة من الجاش ومفارز الاستخبارات ، عمر كان أول إنتماء شيوعي له عبر منظمة الصدى .

رويت له في تلك الايام تفاصيل المشهد وظروف إعتقالي وأساليب التعذيب القذرة وطرق مواجهتها في التمسك بالثوابت المبدئية بعدم ألحاق الاذى بالآخرين ، وأن تكون حياً وشاهداً على مرحلة تاريخية صعبة ومعقدة في حياة العراقيين ، كان يصغي لي بأنتباه حول أدق التفاصيل مع أشادة كبيرة بموقفي على أقل تقدير في الحفاظ على حياتي وحياة الآخرين ، وهو الذي مؤمن بالواقعية السياسية في التعامل اليومي مع أساليب النظام الدموية في تسقيط الشيوعيين والطرق الناجعة في مواجهتها . يقول لينين ” الثوري من يراوغ شرطيه ” .

في سنوات لاحقه من النضال وتجربة المهجر ، وبغض النظر عن كل مالحق بالشوعيين العراقيين من تصفيات وسجون وتسقيط وكوارث على يد زمر البعثيين وأجهزتهم القمعية . كان هناك أستعداد كامل عند قيادة الحزب الشيوعي في الحوار مع النظام والعودة الى مواقع الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وبشروطهم الى حد أيام قليلة من عمر النظام قبل سقوطه على يد الامريكان ، وأن كانت هناك أعتراضات من قبل بعض المسؤولين الشيوعيين تعود لارتباطات ومصالح خاصة ليس الا …” وفي العام ١٩٨٩ كادت أن تصل الى نهاية فصولها . لو أطلق سراح ” البيان المحبوس ” على حد وصف الراحل آراخاجادور له ، عندما حمله الراحل عبد الرزاق الصافي من براغ الى دمشق يحمل صيغة إعلان حول المفاوضات واللقاءات التي شهدتها العاصمة براغ بين قوى المعارضه بشقيها العربي والكردي والنظام عبر الوسيط الشيوعي مكرم الطالباني .

الشيخ عطا الطالباني يحمل سجل نضالي طويل ومهم وفي فترة تاريخية بحاجه الى توثيقها من خلال الوقوف على أهم محطات حياته النضالية وتحديداً من تاريخ فرط عقد الجبهة مع البعثيين نهاية عام ١٩٧٨ الى حين رحيله عام ٢٠٠٠ ، عقدين من النضال والمواجهة الحقيقية مع أساليب النظام في عقر داره ، وكنت شاهداً على تلك المرحلة التاريخية من النضال من خلال نشاطي وعملي الحزبي في منظمة الصدى منذ مطلع الثمانينات في ظروف غاية في الصعوبة وحافات الموت .

حدثني في سنوات لاحقه زميلي في الآداب/ قسم اللغة الانكليزية دارا أحمد ، والذي يقيم حالياً في السويد وكان يحمل الرقم١٤ في أول دوره لانتخابات مجلس نواب في أقليم كردستان عام ١٩٩٢ عن قائمة الشيوعيين . وفي سلسلة أحاديث شخصية يذكر لي عام١٩٨٠ وصلني أبلاغ عبر التنظيم في الوقت الذي كنت به أقود خط حزبي خيطي خاص بي، أن أتصل بك لأجل أنضمامك الى التنظيم .. فتفاجأت لاني حسب علمي أنك داخل التنظيم حسب الخطوط الموزعة لاساليب التنظيم وتحوطاً للطواريء المحتملة . ترددت في الحديث معك لعدة تحوطات وتخوفات لاننا في مربع دراسي واحد وفي حالة اللقاءات المتكررة ربما يلفت النظر لعناصر أجهزة النظام داخل الحرم الجامعي .

في قراءتي الاخيرة لكتاب ” صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره ٌ للبريفسور طارق يوسف إسماعيل وفي عرضه لتاريخ الشيوعيين ونضالاتهم التاريخية لم أجد أشاره واحدة لمنظمة ” الصدى .. ودورها النضالي في مرحلة هي الاصعب في تاريخ العراق السياسي ، وكان لها ثقلها الثقيل في الشارع وأضابير أجهزة النظام والتي قلبت حساباتهم في وهمهم للقضاء على الشيوعيين . الركائز الأولى لمنظمة ” الصدى ” أنطلقت في بغداد ” كليات المستنصرية وبغداد والتكنلوجيا ” وكذلك في كركوك وكفري والسليمانية وأربيل والبصرة وبعض القرى في مناطق كرميان . وبادر آشتي الاتصال بالحزب عام ١٩٨٠عن طريق فخر الدين نجم الدين الطالباني ” مام صالح ” الذي كان سكرتير محلية كركوك ، وقد وثق مام صالح في أوراقه لاحقاً في إبلاغ قيادة الحزب برسالة آشتي حول تنظيم منظمة ” الصدى ” وقد سنحت لي فرصة شخصياً باللقاء بمام صالح في العام ١٩٨٣ في منطقة هزارستون بجبل سورين مع الرفاق نوري أبو صباح ومام فتاح ، ونقلت لهم صورة واقعية عن آلية عمل منظمة الصدى وأتساع رقعة تنظيمها في عموم العراق ، حيث ألتحق بها أعداد كبيرة من الشيوعيين مقطوعي الصلة بعد أن فرطت عقد الجبهة مع البعثيين ، وفقدوا بوصلة الاتصال بالحزب بعد أن تركت قيادته العراق بإتجاه المهجر .

وفي أول خطوة عملية وجريئة ، أقدمت عليها منظمة الصدى للاعلان عن تشكيلها وزعت بيان باسم الحزب الشيوعي العراقي ، لكن دون علم قيادة الحزب لعدم وجود أي أتصال ، حيث تم أستنساخ بخط اليد٥٠٠ نسخة في بغداد وتم توزيعها داخل جامعة بغداد والمستنصرية والتكنلوجيا ، وعدد من أعداديات الثورة وشارع فلسطين وعلى باصات مصلحة نقل الركاب وعدد من المحلات ، وقبل توزيع البيان تم عرضه عبر آشتي على الدكتور مكرم الطالباني وأستحسن مضمونه ، وهذا يعتبر أول نشاط شارك به معظم التنظيم . وقد قام أعضاء التنظيم حملة تبرع من الناس المتعاطفين مع الحزب والمحسوبين على ملاكه وخلال ثلاثة شهور جمعنا٧٧٥ دينار عراقي . كانا الشيخ عطا وأخيه مكرم عون لنا في العمل ربما أستثمرنا علاقاتهم الواسعة مع رجالات الدولة بتمريرهم لنا بعض أفكار السلطة وخطط تحركها ضد الشيوعيين وتسريب لنا قوائم الاعتقالات ممن في نية السلطة في إعتقالهم ، وكانت علاقة الشيخ عطا مع البعثي القيادي رشيد الطعان ، والذي كان مدرجاً ضمن لعبة الورق الامريكية بحدود مناطق كفري ، وكلر . وجلولاء ، والمقدادية ، في الصد عن ملاحقة الشيوعيين والعلم المسبق بنية السلطات في قائمة إعتقالات جديدة مما نجا أكثر من رفيق ناشط من الاعتقال وأختفى عن عيون الرقيب والبعض ألتحق بالجبل .


13
بغداد تتهيأ .. لمجزرة رفاقية ؟.
 مرور أربعون عاماً على مجزرة قاعة الخلد .
في العام 1979 كنت طالباً في مرحلة الخامس الأدبي في إعدادية بعقوبة المركزية ، كانت الملاحقات السياسية ” الأمنية ” في أوج ضرامتها بطشاً بالشيوعيين العراقيين وأصدقائهم في عموم العراق . في يومها شاعت الاخبار في بغداد وعموم المحافظات العراقية بنبأ وقوع مؤامرة أبطالها قادة ميامين في حزب البعث ضد رفاقهم في الفكر والمصير . أنتشرت كسرعة البرق ، وكالنار في الهشيم وباتت حديث يومي في البيوت العراقية مع سيل من التسريبات المبالغ بها والسيناريوهات المحتملة . وقد مضى عليها دهراً من الزمن على مستوى الحدث والصدى ، ومازالت قاعة الخلد في بغداد تشكل مفترقاً تاريخياً في الحدث السياسي العراقي ، كل الذين أباحوا بوقع الحدث وآماطوا اللثام عن تفاصيل ذلك اليوم في تلك القاعة والتي شهدت تلك الكوميديا السوداء ، وهي القاعة التي عدت خصيصاً للعروض المسرحية والمهرجانات السياسية ، لكن خلدها النائب والذي أصبح رئيساً للبلاد بمجزرة الدم ، والذين نجوا وهم قلة من مسرحية المؤامرة المزعومة لم يكشفوا عن التفاصيل الحقيقية والدوافع وراء ذلك الاجتماع والتصفيات بحق رفاق الآمس .

الرئيس الجديد والنائب السابق للأب القائد ، الاب الذي تنازل عن مقاليد السلطه لنائبه في مشهد تلفزيوني بائس كسعف النخيل الذي سقط بعد أن يبس . الرئيس الجديد صدام حسين يتابع شخصياً المشاهد والأدوار قبل العرض المسرحي من خلال أشرافه المباشر والسريع على التأليف وألاخراج . العراقيين يتناقلون أخبار العرض المسرحي ” إنها مؤامرة ” بتعاطف مبالغ به مع الرئيس الجديد ودموعه التي ذرفت بغزارة من على مسرح قاعة الخلد مع سيل من الهتافات من قبل المدعوون ” المذنبون ” للعرض المسرحي بعد أن أنتابتهم نوبة الخوف من ألصاق التهمة بهم . المشهد الدراماتيكي في إعترافات الشمري المثيرة للجدل والسخرية تشكل نقطة تحول في مسيرة حزب البعث نحو السقوط التدريجي .

بعد تسجيل العرض المسرحي ومونتاجه تم توزيعه على منظمات الحزب في محافظات وقرى العراق لمشاهدة فصوله الكاملة وتسريب فصوله الى الشارع وأشاعته بين الناس ، نحن العراقيين ميالين جداً الى تصديق الاشاعة ونشرها وصعوبة تكذيبها ضمن البناء النفسي للشخصية العراقية ، لقد تسنى لي حين ذلك بالاطلاع على تفاصيل العرض بعد حين ، كان عملاً فاشلاً كاخراج وتأليف وممثلين وحتى الكومبارس الذي مثله علي حسن المجيد حول دور عبد الخالق السامرائي في الإيحاء للرفاق ” المتآمرين ” عبر زنزانته المعزول بها عن العالم الخارجي منذ ستة أعوام ، والذي يعد من مفكري الحزب ولزهده ونزاهته ، والذي أطلق عليه الملا من قبل رفاقه ، في ليلة وضحاها تحول عتاة قادة حزب البعث من مناضلين الى متأمرين ، وقالت التجارب أن العمل السياسي في العراق يؤدي بك في النهاية الى الموت ، ومن خلال تاريخ العراق كل الذين حكموه قتلوا من خلفاء وأمراء وملوك ورؤساء .
محمد عايش ، محمد محجوب ، غانم عبد الجليل ، عدنان الحمداني ، محيي عبد الحسين المشهدي ، مرتضى الحديثي ، وليد سيرت ، ماجد عبد الستار السامرائي ، إسماعيل النجار ، والعشرات بعضهم نجا بأعجوبة وظل صامتاً الى يوم رحيل البعث 2003 .
 
الرئيس الراحل حافظ الأسد طلب من عدنان الحمداني بعدم العودة الى العراق ، وكان حينها في دمشق يتابع الأعلان حول مشروع الميثاق القومي بين العراق وسوريا . قال له الغيوم متلبدة في سماء بغداد وخوفي عليك كبير رفيق عدنان ستكون أحد الضحايا رد عليه بثقة متناهية حول إنجاز المشروع القومي وسأكون رئيس وزراء العراق القادم في عهد الرئيس الجديد . أما محمد عايش الذي أعتقلت زوجته في اليوم الذي أعتقل به وبقيت في حاكمية المخابرات لمدة سبعة سنوات ، وكانت تعتقد أنها إعتقلت بوشاية من زوجها الذي أعدم بنفس يوم إعتقاله ، وعندما قرروا إطلاق سراحها ألتقى بها مدير الحاكمية ، وكانت تدعي على زوجها بغضب بالموت فتفاجأت عندما أبلغها المدير أن زوجها أعدم بنفس اليوم الي إعتقلت به بتهمة الخيانة والعمالة للنظام السوري . الرفاق الذين بلغ عددهم خمسة وخمسون شخصاً قيادياً جرجروا الى مبنى حاكمية المخابرات بتهمة التأمر جلهم لم يسبق له الدراية الا في داخل قاعة الخلد من خلال بساطيل الحماية وأحتكاكها في الأرض والبشر والدور البائس الذي إجبر عليه محيي عبد الحسين الشمري ” المشهدي ” وممن أستدعى من سفارات النظام لآمر هام في القدوم الى بغداد ولم يعد .


مبنى حاكمية المخابرات الواقعة في منطقة شارع 52 في بغداد كانت سابقاً معبداً للبهائيين الذين هجروا من العراق في منتصف الستينيات ليختاره النائب أن يكون معتقلاً سياسياً بعد أن حولوا خريطة المبنى الى زنازين أنفرادية عرضها تسعين سم وطولها متر واحد لاتتسع الا لشخص واحد أشبه بالتوابيت .
مرحلة مهمة في تاريخ العراق السياسي لم توثق الى الآن شهودها أغلبهم رحلوا . تابعت بأهتمام مذكرات برزان التكريتي بعد أن نشرها موقع أمريكي عثر عليها في صندوق حديد بعد إحتلال العراق وإعتقال برزان الذي كان المشرف الأول على تلك التصفيات الجسدية لرفاق الحزب ولكنه لم يمر عليها ولا بجانبه فقط ركز في مذكراته حول شجرة الدر ” زوجته ” وزواج أبنته سجى من عدي صدام حسين وقصة هجرها .
في يوم الثامن من آب وفي الساعة الثامنة مساءاً وبأمر من مجلس قيادة الثورة ” صدام حسين ” بتشكيل محكمة حزبية لمحاكمة الرفاق المتأمرين تعقد جلستها الاولى فاتخذوا من قاعة صغيرة في نهاية مبنى الحاكمية قاعة للمحاكمة وضعت فيها عدة طاولات متلاصقة مع بعضها بعضاً . جلس خلفها رئيس المحكمة المفترضة نعيم حداد عضو القيادتين القطرية والقومية ، والى يمينه حسن العامري وتايه عبد الكريم عضوا القيادة القطرية ، وسعدون شاكر وحكمت العزاوي وعبدالله فاضل وسعدون غيدان . وفي زاوية مخفية من القاعة وضع كرسي مميز أتخذه برزان التكريتي محطة أستراحة ، للجلوس عليه عندما يشعر بالارهاق من التجوال بين غرف التحقيق
في صبيحة ذلك اليوم من آب العام 1979 ، كان جو بغداد قائض والرطوبة مرتفعة ، جاؤوا بلمذنبين أو المتأمرين على شكل رتل طويل يتقدمهم عبد الخالق السامرائي متحدياً صورة المحكمة ، ويجرجر قدميه بثقل خلفه محمد عايش من وطأة التعذيب الذي لاقاه في الامس من رفاق الأمس .
خمسة وخمسون رفيقاً قيادياً بعرض مسرحي تراجيدي أدوارهم مجهولة وأقوالهم مخنوقة أمام هيئة صورة المحكمة ، وفي سؤالها الاول الى المذنبون . هل لديكم شيء إضافته عن ما قلتوه في التحقيق ؟. إي تحقيق لم يجري معنا أي تحقيق . كانت كل المؤشرات تشير الى تصفيتهم جسدياً على وجه السرعة الممكنة . هنا همس عبد الخالق السامرائي قائلاً .. أمنيتي كانت أن أعدم في اليوم الذي أتهمتوني بمؤامرة ناظم كزار العام ١٩٧٣ مع أطلاق أبتسامة خافته إن مؤامراتكم سوف لن تنتهي وهذه هي البداية والنهاية لكم . وتفوه محمد عايش بكلام مسموع ” أي أمة هذه تقدم مناضليها ، قرابين لمقدم رئيس مزور ”.

نعيم حداد في سنواته الأخيرة يعيش بعوز مدقع في منطقة صناعية بائسة في سوريا قريبة من الحدود اللبنانية وهو يكاد فقد بصره بعد أن ترك العراق بعد إحتلاله ٢٠٠٣ . زاره أحد المهتميين بالشأن العراقي وعرض عليه مبلغ للمساعدة ، لكنه رفضها ، وأيضا رجل أعمال عراقي عرض عليه مبلغ كبير مقابل الأدلاء بشهادته حول تفاصيل مجزرة قاعة الخلد ، لكنه رفض بتاتاً .
ماجرى في قاعة الخلد من الرئيس الجديد في قتل رفاقه حسب إعترافات الباحثين في تاريخ السياسة هي قريبة الى مجزرة القلعة في زمن محمد علي باشا في قتل مماليك عصره ، وبعض فصولها قريبة على ما كان ينتهجه ستالين تجاه قتل رفاقه ، وأحد القادة الشيوعيين العراقيين يقربها على ماجرى في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي عام ١٩٨٥ في خيمة أرموش السفلى ، حيث النصف ألغى النصف الآخر .
يروي المذنب مرتضى الحديثي سفير العراق في إسبانيا الى بقية المعتقلين معه في زنزانة الحاكمية ، أستدعيت الى بغداد لآمر هام ، فلبيت الدعوة حالاً وبدون تردد رغم كل التحذيرات التي وصلتني وأيضا وصلني تلكس من الرئيس السوفييتي بريجنيف شخصياً بعبارات محددة ”  لاتذهب الى بغداد ” توجه الى موسكو ضيفاً عزيزاً ، الكي جي بي السوفيتية ، لديها علم بالتصفيات التي ستجري في البلاد ، لم أعر الموضوع أهتماماً ، وإن أقلقني حقاً ، وبعد نصف ساعة من وصولي العاصمة بغداد صباح الأول من آب ، كنت في مكتب السيد الرئيس النائب قبل أيام وبات رئيساً ، بادرني السيد الرئيس عن عدم فعالية طاقم السفارة العراقية في أسبانيا في فضح خيوط المؤامرة وكان حجة السفير لم تكن لنا معلومات كاملة وتوجيهات ضمن هذا التحديد . لقد أنفعل غاضباً عندما أجبته ، أني محتار جداً بدوافع محمد عايش للتأمر على الحزب ، ومحتار أيضاً بكيفية إتصال المتآمرين بعبد الخالق السامرائي ، وهو في سجنه الانفرادي ، إذ سألني عمن أخبرني أنه في سجن أنفرادي ، وأجاب هو من عنده ، لابد وأن يكون الخونة المتآمرين هم من أخبروك بذلك ، ولابد أن يكون لك أتصال بهم ، حاولت أن أجيب ، أوضح له الحقيقة ، لكنه لم يعطيني فرصة ، بعدها ضغط على زر الجرس الذي أمامه ، وأمر المقدم ، وشخص آخر دخل معه بكلمة واحدة ” خذوه ” فأصبحت بعد نصف ساعة مسجوناً في بناية لا أعرفها من قبل ، قريباً من الجندي المجهول .
حكم عليه خمسة عشر عاماً من قبل المحكمة بقيادة نعيم حداد ، لكنه قتل بطريقة مأساوية بعد شهور في الزنزانة .
يعتبر مرتضى الحديثي مهندس مفاوضات النفط العراقي وتأميمه العام ١٩٧٢ وأيضا هو من وضع صيغة الحكم الذاتي مع الاكراد في قيادته للمفاوضات العام١٩٧٠ ، وكان مساهماً فعالاً في المفاوضات مع الشيوعيين حول قيام الجبهة الوطنية العام ١٩٧٣ .
نطق رئيس المحكمة باسم عبد الخالق السامرائي ، ومن بعده محيي عبد الحسين المشهدي حكماً بالاعدام ، فسمعه فاضل العبيدي ، الواقف الى جواره في صف المذنبين يقول ؛ هذه كلمة الشرف التي أعطيتموني إياها ، وسكت . أثنان وعشرون مذنباً، أولهم عبد الخالق وآخرهم غانم عبد الجليل صدرت بحقهم عقوبة الاعدام .

أمضى القادمون من جميع المحافظات العراقية الى بغداد ، ممثلين عن قيادات فروع حزبهم ، ليلتهم في فنادق خصصت لهم ، حسب الدرجات الحزبية ، بينها فندقي بغداد وأطلس ، ليساهموا في مجزرة الدم بقتل رفاقهم وتلطخ أياديهم بعار التاريخ . آخر تبليغ لهم قبل النوم ، هو التجمع في بهو الفندق الذي هم فيه بالساعة الخامسة والنصف صباحاً ، وفي تمام السادسة ، يكونون أمام بناية القيادة القطرية للحزب .
كان يوم الثامن من آب ، حاراً منذ الساعات الأولى لحلوله ، حضر الرفاق في الموعد المحدد ، لايعلمون لماذا حضروا في هذا الوقت المبكر بالذات ، يسأل بعضهم الآخر ، لماذا حضروا ، وماهو المطلوب منهم . بعضهم كان قلقاً لأن رفاق لهم حضروا الى قاعة الخلد قبل أيام ، ولم يعودوا منها ، فأصيبوا بوباء القلق الذي لايشفى .
أطل علي حسن المجيد ، بسيارة رئاسية سوداء نوع ” مرسيدس ” أقترب من جمهور المجتمعين ، أعطى أوامره الصارمة بضرورة الصعود الى السيارات المخصصة لنقلهم الى مكان محدد . لم يذكر أسم المكان المحدد ، تدخل في تفاصيل توزيع الرفاق مجاميع من عشرة أشخاص ، على كل سيارة . لدى السائق تعليمات بالمكان الذي أليه ذاهبون . المهمة التي تؤدوها اليوم تاريخية ، ستبقى ماثلة في سجل خدمة جليلة .
تحرك رتل السيارات بقيادة المجيد ، وصل المثابة المطلوبة ، ساحة الرمي الخاصة بالفوج الثاني لواء الحرس الجمهوري . ألتفت الرفاق بعضهم الى بعض ، لايعرفون الخطوة الآتية حتى الآن .
نصف ساعة مضت وهم مازالوا يقفون في أماكنهم ، ينتظرون في هذه الساحة ، التي شهدت الرمي على الأف الاهداف الوهمية ، الا هذه المرة فالأهداف ليست وهمية ، أنها من بين قادتهم ، كانوا حتى وقت قريب مسجلين كبار دولة ، وكادر حزبها الوحيد والأوحد . يمر الوقت ببطء شديد ، وعند إنتهاء النصف الأول من ساعة الانتظار ، أمتلأت الساحة بأعقاب السكائر . وصلت في الدقيقة الثالثة من النصف الثاني لها سيارتان رئاسيتان ، ترجل من الأولى رئيس الجهاز ” برزان التكريتي ” ومن الثانية ولدا الرئيس الجديد للعراق ” عدي وقصي ” كان وصولهم إيذاناً بالشروع في إكمال المهمة . أثنان وعشرون شخصاً وقفوا في رهط عريض من صف واحد ، عصبت أعينهم ، وكممت أفواههم ، وقيدت أيديهم الى الخلف .
رفاق هؤلاء الواقفين أمامكم خانوا الحزب ، تأمروا عليه ، حكموا بالإعدام من قبل المحكمة التي شكلتها قيادتكم الحكيمة يستحقون الموت ، ويستحقون أن تكون أماتتهم على أيديكم رفاق ، ليبقى الحزب أكبر من الجميع ، هذا ما قاله العريف علي حسن المجيد قبل بدأ التنفيذ المطلوب للمهمة . وزعت البنادق على الرفاق ، أنا لدي بندقيتي الخاصة ، ولا أريد بندقيتكم قالها عدي الأبن البكر للرئيس بصيغة آمر ، الضابط نعم سيدي ، آمرك سيدي قال في رده على أوامر أبن الرئيس . أشر عدي الى سائقه أن يجلب له بندقية الصيد الغالية الثمن من سيارته وكذلك بندقية القنص الامريكية لاخيه قصي . وطلب عدي أن تكون حصته محمد عايش أما قصي فحصته الملا عبد الخالق السامرائي ليبدا بالتنفيذ تحت هتافات باسم الرئيس الجديد . أراد وليد محمود سيرت فك الشريط اللاصق من على فمه مما لفت أنتباه الجميع ، فالتفت علي حسن المجيد الى برزان التكريتي ، سائلاً عن أمر هذا وليد ، قد يكون لديه قولاً يهم الحزب ، في صحوة ما قبل الموت ، لا أعتقد هذه ، أجاب رئيس الجهاز ، وأكمل القول من أن وليداً معروف بوقاحته ، وأن مجرد رفع الشريط عن فمه ، سيسمعنا كلام لا يصح سماعه أمام هذا الجمع من الرفاق ، ثم أن لدي توجيه من قبل السيد الرئيس بسد الأفواه ، لكي لاينطقوا الشهادة ويموتوا كفرة لخيانتهم الحزب والثورة .

المصادر …..
1 . رواية ( حفل رئاسي ) ل سعد العبيدي
2 . شهادات خاصة ( للتاريخ ) للدكتور حميد عبدالله ( أحسان وفيق السامرائي ، ضرغام عبدالله الدباغ ، سليم الامامي ، وليد السامرائي ، تايه عبد الكريم ، محمد السباهي ، فايز الخفاجي ).
3 . لقاءات تلفزيونية مع الدكتور عبد الحسين شعبان .
4 . كتابات للباحث شامل عبد القادر .
5 . برنامج أحمد منصور ( شاهد على العصر ) مع حامد الجبوري .
6 . حوار محمد دبدب مع جريدة الزمان .
تضاريس الخوف والموت .

14
جمر وندى .. في عراق مضطرب ”منى سعيد.

جمر وندى .. عنوان كتاب سيرة ذاتية وصلني من كاتبتها السياسية والصحافية منى سعيد متمنية لي في إهدائها بقراءتها والوقوف عند أحداثها ، كما سبق لي أن تابعت القراءات والآراء التي كتبت حولها ، مما أستوقفتني مضامينها وأحداثها وماحصل حولها من قراءة متأنية للوضع السياسي العراقي آنذاك في نهاية السبعينات ومما تعرض له العراق من أحداث متسارعة بإتجاه التدهور والضياع وما ذاق به الشيوعيين العراقيين من مطاردات وإعتقالات وتغييب بعد أن فرط عقد تحالفهم مع البعثيين . ماقدمه الباحث الدكتور عبد الحميد برتو ، والناقد والأديب حسب الله يحيي ، والشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي ، والدكتورة سلوى زكو ، والروائية بثينة الناصري ، والشاعر وديع شامخ . والكاتب كريم كطافة ، والباحثة السورية الدكتورة خولة حديد ، وأبنة الكاتبة الفنانة يمام سامي تلك الأسماء المهمة واللامعه في عالم الكتابة والإبداع والنقد رصدت أحداث وتفاصيل تلك اليوميات من حياة امرأة عراقية تخطت كل الصعاب وحملت آلام أوجاعها لتثبت لنفسها أولاً ، وللمجتمع قدرتها على مواصلة الحياة رغم تغييب زوجها الشيوعي سامي العتابي وتركها مع طفلة لم يتجاوز عمرها العامين في وضع سياسي مكهرب وخطير .


تقول منى سعيد في مطلع سيرتها الذاتية ” لئلا يداهمني النسيان وينخرني العدم . نفضت سجادة أيامي ، لملمت أطرافها ، ناسجة ما تهرأ منها ، نفخت رماد تفصيلات خمدت جمراتها ولم تزل توخزني ، تلسعني بلظى حرقة مستعرة لا تنطفيء ، أتصالح معها أحيانا ، أرسم بظلال الكلمات زهور بساتين ، وطرائف حكايا ، وأقطف منها فاكهة الذكرى . إذ يصبح التذكر بلسما حين تحل النكبات وتتربع الرزايا ، وتستعين بيتا من قصيدة الشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي . فتذكر ” سعيت لنشر غسيل الماضي على حبل الذكرى ، بعدما طلقت العالم الصاخب بالثلاث ”.


شخصياً وطول مدة بقائي في المهجر والتي امتدت لأربعة عقود تابعت بحرص الإصدارات العراقية المتعلقة بالوضع السياسي العراقي المتأزم على الدوام برؤية وقراءة واقعيتين ربما بدافع معايشتي لتلك الاوضاع ولأني كنت جزءاً من حالة عامة في البلد ، فضلا عن رغبة مني للإطلاع على تفاصيل وحياة العراقيين المكتوية بوضع إستثنائي بإمتياز وأنا البعيد بعيداً عن أي تواصل وأتصال مع الأهل والرفاق ، وعلى الرغم من صيغ تلك الأعمال الآدبية وبنائها الدرامي البعيد عن المباشرة ، ونقلها صوراً واقعية عن تداعيات الأحداث ورؤى الناس من قلب الاحداث كوقائع وشخصيات وأسماء ، لكني وجدت في رواية السيرة الذاتية لمنى سعيد أمراً مختلفاً تماماً من حيث الحرفية والواقعية والصدق والوجدانية في رسم الاحداث وتناولها . إذ تعد شهادة تاريخية عن مرحلة سياسية مهمة عصيبة مر بها العراقيين وتحديداً الشيوعيين في مواجهة أزمتهم مع أساليب البعث في التسقيط السياسي .

ما يهمني من تلك القراءة  نقطتين مهمتين وردتا في السيرة بجرأة متناهية . ما تعرض له الشيوعيون أثناء أزمة العلاقة مع البعثيين وما واجهوه من إنتهاك سياسي وأجتماعي وأخلاقي وعبر التعامل مع قرار ٢٠٠ سيء الصيت الى جانب إثاره النفسية والاجتماعية على حياة الرفاق ، وهذا ما كان واضحاً بجلاء في ذكريات السيرة ” جمر وندى ” . فضلا عن كيفية إستيعابه والتعامل معه وفق مقتضيات البلد وشراسة أساليب النظام . وأسجل هنا للكاتبة وقفة مميزة في جرأتها عند تناول تلك التفاصيل وبالأسماء الصريحة في المكان والزمان المحددين .
والنقطة الاخرى الأكثر أهمية في السيرة تتعلق بالصدق والأمانة وجلد الذات والبوح في المعاناة والعوز والجوع والتعامل مع الواقع بغير رتوش أو تسطير بطولات فارغة بل تحملت ونقلت تسجيلاً يومياً ما كان يحدث في عراق نظام صدام حسين ، مما يؤشر سابقة ونقطة تسجل لها في الشجاعة والجرأة .

يشدك البناء الدرامي للرواية لمواصلة القراءة فتتكشف في كل صفحة تطورات جديدة يجمعها الجمر والندى تعيد لذاكرتك زمنا مضى كنت جزءاً منه حين أنتميت للمشروع السياسي ” الشيوعي ” نفسه ، المراد تغييبه والقضاء عليه آنذاك ، تلاحظ عند تتبع الأحداث سهولة اللغة في بناء لغوي سلس مع سرد للأحداث بأنسيابية رقراقة تجهز على القاريء وتزجه بتفصيلاتها حتى ختام السيرة الموجعة .

منذ عام ٢٠٠٣ عند رحيل النظام الشمولي وسقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الامريكي وبالتعاون مع الإيرانيين غاب عن المشهد الثقافي وكتابة السير الذاتية واقعيتها في المباشرة والمكاشفة عن ماجرى وحدث طيلة تلك الحقبة التاريخية من حكم البعث ، أعني هنا الأدباء والمثقفين والكتاب الذين لم يجرؤا على كشف الحقائق وتوثيقها عبر كتابة سيرهم الذاتية ، لكن رواية ” جمر وندى ” للكاتبة العراقية منى سعيد أشرت عبر فضح سيرتها الذاتية وولوجها صلب الأحداث وقصها بأمانة وصدق ما جرى لها وللشهيد زوجها بأعتبارهما شيوعيان عملا في جريدة الحزب المركزية ” طريق الشعب ” وما تعرضا لهما ، ولرفاقهما وأهليهما بعد ما فسدت العلاقة بين الحزبين ” البعثي والشيوعي ” من مضايقات ومطاردات وأنتهاكات سياسية وإنسانية وأخلاقية هددت مصائر حياتهما مقابل التعهد والتوقيع على قرار البراءة٢٠٠ سيء الصيت . وضعت منى سعيد في رواية سيرتها الحقائق على المحك وسردت ماتعرض له الشيوعيون العراقيون وأفصحت عن مواقفهم بمواجهة اساليب السلطة القذرة . كما لم يصبح الشيوعي في حل من سطوة تلك الأساليب حتى وأن وقع على ذلك القرار ، وحال الكاتبة كغيرها من آلاف الشيوعيين ممن حرم عليهم العمل السياسي عدا تنظيمات السلطة . وهذا ما حدث لمنى سعيد وزوجها الشهيد سامي العتابي رغم توقيعهما على القرار ، فتعرضا الى الاستدعاء لمرات عديدة من قبل الأجهزة القمعية أنتهت بالتالي الى تغييب الزوج في أقبية التعذيب . أعتمد البعثيون عند بدء الهجمة أسلوب الاعتقال السريع بهدف التسقيط السياسي ثم أخلاء سبيل المعتقل ضمن خطة وضعت بهدف إحلال الانهيار الكامل بين صفوف إفراد الحزب الشيوعي ، كما ورد لاحقاً في الوثائق والشهادات التي عثر عليها بعد سقوط النظام ، ثم تغير ذلك الاسلوب بعد فترة قصيرة ، فعمدت السلطة الى أعتقال وتغييب الشيوعيين تماماً خصوصاً المناضلين الذين تمسكوا بمواقفهم البطولية بمواجهة أشد وأشرس وسائل التعذيب وحتى القتل . كما رصدته منى سعيد في روايتها . ومثلما عايشناه نحن عبر تعرضنا لتلك الأساليب في الأيام الأولى من الهجمة .

توقفت عند أكثر من رفيق وزميل ممن تعاون مع البعثيين وأصبح وكيلا سريا في التجسس وكتابة التقارير على رفاقه ، وما أكثرهم كانوا بحكم جملة ظروف قاهرة خارجة عن طاقة الأنسان في التحمل والاستيعاب ، وبعد رحيل البعث نفضوا عنهم غبار تلك السنين وعادوا الى صفوف الحزب العلنية مرة أخرى .
وتمضي منى سعيد في سردها لأحداث ووقائع مهمة مر بها العراقيين من نهايات السبعينيات حتى إحتلال العراق وسقوط النظام ٢٠٠٣ . عاكسة في سردها حياة وتفاصيل مسكوت عنها بما فيها من أوجاع وخفايا وعقد سياسية وإجتماعية وثقافية ونفسية في المشهد السياسي العراقي .



15
لاتلمسوا ساكن الغيوم هذا .
في تجربة ستالين الطويلة في الحكم السوفيتي ، والتي تفردت بقبضته الحديدية ضد معارضي أفكاره وسياسته ونهجه المتسلط بالتطهير لخيرة مثقفي وسياسي الاتحاد السوفيتي وممن يحملون آراء ووجهات نظر مختلفة تجاه سياسة البلد وطرق بناء الشيوعية ، أعداد كبيرة شملوا بسياسة التطهير الحزبي والفكري والثقافي . كان بوريس باسترناك الشاعر والكاتب والرسام ضمن لائحة المغضوب عليهم في معارضتهم للسياسة الستالينية وأدواتها في تحقيق بناء المجتمع ، مع ثمة أسماء على مكتب ستالين المتهميين ضد ثورة أكتوبر وسياسة البلد . فعلق على أسم بوريس باسترناك .
” لاتلمسوا ساكن الغيوم هذا ” .
ولد بوريس باسترناك ٢٩ يناير عام١٨٩٠ في موسكو لأب يهودياً فتحول فيما بعد الى الكنيسة الارثوذكسية ،  وكان والده رساماً وأستاذاً فنياً متميزاً ، وأمه روزا كوفمان عازفة بيانو شهيرة .
أعطت تلك البيئة لبوريس باسترناك في نشأته الأولى الاهتمام بمواضيع الثقافة والفن ، مما حددت مساراته منذ البدايه . كانت علاقة والده بالكاتب الشهير ” ليو تولستوي ” وزيارته المتكررة الى بيتهم وخصها في الاحاديث الادبية . تركت أثرها الواضح على أهتمامات ” باسترناك ” الواسعة . ففتحت له مجالاً للسؤال والقراءة والتخصص . في الحرب العالمية الأولى عمل في مختبر للكيمياء مما منحته مساحة في البناء الدرامي لروايته الوحيدة ” دكتور زيفاكو ” والتي تعتبر أشهر ما كتبت من عمل ملحمي نثري في القرن العشرين ، والذي منح على أساسها جائزة نوبل للاداب عام ١٩٥٨ والذي رفضها لعدة أسباب ، بعد ان إستهدف من زملائه في إتحاد الكتاب السوفييت السلطوي وشنوا عليه حملة كبيرة طالبوا ستالين بعريضة طويلة بطرده من الاتحاد السوفيتي . فذهب بنفسه الى دائرة البريد وحرر خطاباً مقتضباً بقلم الرصاص الى الاكاديمية السويدية يرفض بها الجائزة عام ١٩٦٠ مات بمرض سرطان المعدة ومشى خلفه في توديعه الآخير قلة من أصدقائه ومتابعيه . كان حلمه كبير بالبلاشفة وثورتهم وحلم التغير المنشود في بناء الانسان والمجتمع مثله مثل ماياكوفسكي والذي إنتحر في عز عطائه وشبابه تمرداً على يوميات الواقع ويأسه من أفق التجربة .

باسترناك سرعان ما تبدد وشعر بالاحباط واليأس وترك كتابة الشعر للثورة ومنجزاتها وتطلعاتها العالمية . وتفرغ لترجمة الشعر العالمي الى الروسية . فبدأ بترجمة شكسبير ” هاملت .. الملك لير ” . منذ كتاباته الأولى تأثر بالشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف وبكتابته للشعر في البناء اللغوي . درس في بداية حياته علم الفلسفة ، لكن سرعان ما تركها متجهاً الى الادب والشعر ، لكنها أثرت به لاحقاً في إنجازاته الادبية من شعر ورواية . كتب روايته الوحيدة ” دكتور زيفاكو ” والتي تعتبر ملحمة رومانسية وقيمة فنية وأدبية ترصد الحدث بعين مثقف واعي حول الثورة البلشفية وحلمها المنشود في تحقيق حلم الانسان ، إنها تجمع بين فن الرواية والسيرة الذاتية ، إنها قصة متعددة الطبقات بدءاً بالعام ١٩٠٣، وإثر موت والدة يوري جيفاكو . أما والده وهو صناعي غني ، فقد إنتحر جراء التأثير المحبط الذي مارسه محاميه ” كوماروفسكي ” . تعامل مع شخصيات الرواية من خلال حياة عائلة روسية واكبت يوميات ثورة أكتوبر وتطلعاتهم بأهدافها من خلال حياة المجتمع والحرب والثورة والحب والعلاقات العائلية ، بسبب أنتقادها للثورة البلشفية لم تتجرأ أي دار نشر روسية على طبعها ، مما أضطره أخيراً الى تهريب مسودتها الى إيطاليا وطبعها هناك عام ١٩٥٧ في أوج رتابة أيام الحرب الباردة . حظيت بدعم كبير من أدباء العالم والمؤسسات الثقافية ، بينما تعرضت في داخل روسيا الى الانتقاد والتشويه من قبل الادباء والشعراء السوفييت ، وطالب إتحاد الادباء السوفييت الرئيس ستالين بطرده من البلاد . صدور الرواية وأحداثها باتت محوراً للصراع السوفيتي الامريكي ، وقد قيل لاحقاً ، وهذا ضمن التكهنات أن المخابرات الامريكية هي التي ضغطت على الاكاديمية السويدية بمنح جائزة نوبل للاداب ” ل بوريس باسترناك ” ، وهي وراء ترجمة الرواية الى أربعين لغة عالمية تدخل ضمن سباق الحرب الباردة وتعرية النظام الشيوعي وتجربته . بعد موته بخمسة أعوام تحولت الرواية الى فيلم سينمائي طويل أخراج المخرج البريطاني العالمي ” ديفيد لين ” وأدى دور الدكتور زيفاكو الممثل المصري عمر الشريف ومثل دور زوجته ( جير الدين تشابلن ) أبنة الفنان الكوميدي الشهير تشارلي تشابلن وألف الموسيقى الموسيقار الفرنسي ” موريس جار ”، وحصل الفيلم على خمسة جوائز أوسكار ، ويعد ثامن فيلم عالمي على مستوى شباك التذاكر . كنت أطمح ضمن دراستي الجامعية في الادب الروسي في جامعة بغداد أن أتخصص بحياة ومنجزات الشاعر والروائي والرسام ” بوريس باسترناك ” بما يحمله من رؤيه نقدية وقراءة متأنية وشجاعة للحدث .



16

مهدي أبن بركة صورة المناضل الأممي .

   

ثمة قراءات لسلسة من الشخصيات في الصندوق الاسود لحاسوبي ، لقد كتبت في زمن بعيد في يومها، واليوم أضعها في حضرة  القراء والمتابعين . في صندوقي الاسود ٢٥٠ شخصية بمختلف الألوان والاشكال والاتجاهات بين اليمين واليسار من فهد وسلام عادل الى ناظم كزار وبيريا الحارس الشخصي للرئيس ستالين والذي سقاه السم فقتله والى وحيدة خليل ورابعة العدوية ووووووووو . وأود التنويه الى أمر هام ، ومنذ فترة ليس بالقليلة . قطعت عهداً على نفسي في مجال الكتابة والنشر ، عندما أحاور الشخصيات وأستحضرها ، وأتناول أحداث أي كانت هي ، معتمداً على المعرفة والقراءة والصورة وفي أحيان كثيرة التجربة ، وهي الغالبة .

صورة المناضل مهدي أبن بركة .


قد يسأل البعض ؟. أو تستغرقه دهشة الفضول ، وهذا طبيعي جداً في عالمنا ، ما الهدف من الكتابة عن شخصية ظلت محيرة ومنسية ومجهولة للبعض في وسطنا العربي ، وغير معنية بالأهتمام في تسليط الضوء عن دوره الرؤيوي والمهم في المعترك السياسي العربي والأفريقي .
في مراحل متقدمة . قرأت عنه نتفاً في بعض الادبيات والمواقع بها أشارات مهمة عن دوره كقائد يساري في البناء الثوري للمجتمعات العربية / الأفريقية . في الأيام الآخيرة من نهاية هذا العام 2019 . نشرت جريدة الزمان البغدادية ثلاثة حلقات في تقديري مهمة وجديرة بالقراءة للدكتور عبد الحسين شعبان حول شخصية محورية وتاريخية الدكتور نوري عبد الرزاق في أستعراض تاريخي لأهم محطات حياته السياسية والادوار الكبيرة لقادة وثوار ومناضلين ، كان من بينهم المغدور مهدي أبن بركه ، وقد حفزني مانشره الدكتور شعبان سابقاً أن أعرج على الشخصية العربية المهمة ، وأعني به المهدي أبن بركه ، وفي تعريف العالم بدوره الكبير في التحرر والحرية .


المهدي أبن بركة … ولد في الرباط ” المغرب ” العام١٩٢٠ لأبوين مغربين . ويعتبر من ألمع السياسيين المغاربة فكراً ونهجاً بأتجاه الفكر الاشتراكي وحركة اليسار العالمية ، منذ بداياته الأولى ، أولى أهتماماً كبيراً بتجارب الشعوب وحركات التحرر والبؤر الثورية . ويعتبر أكبر معارض أشتراكي للملك الحسن الثاني . عرف كأصغر سياسي في بلاده المغرب من خلال التوقيع على وثيقة قدمت الى الملك محمد الخامس في العام١٩٤٤ تدعو الحكومة والملك الى أستقلال المغرب من الهيمنة الفرنسية وعودة العائلة الشرعية للحكم بعد خلعها عن دفة الحكم رغم معارضته الشديدة لطبيعة أداء المملكة المغربية لإدارة الحكم ، لكن هناك أولويات في السياسة والنضال هو الوطن ، وكان في حينها عمره لايتجاوز٢٤ عاماً . نحن العراقيين لنا تجربة ربما مماثلة لهذا المواقف النضالية التاريخية في العام ١٩٤١ حركة رشيد عالي الكيلاني ومعركة ” سن الذبان ” عندما طالب الشهيد يوسف سلمان يوسف ( فهد ) رفاقه الشيوعيين عبر قضبان السجن بمقاومة المحتلين رغم معارضته الشديدة لنظام الحكم الملكي في البلد وما يتعرض له الشيوعيين من قمع وملاحقات .

إعتقل أبن بركة على أثر تلك الوثيقة وتأثيرها على حركة الشارع المغربي في التوق الى الحرية والاستقلال لمدة زمنية في السجون المغربية ، وبتأثير حركة الاحتجاج في الشارع المغربي أطلق سراحه وعاود نشاطه الوطني والقومي من جديد ليتزعم قيادة حزب الاستقلال المغربي وهو أكبر حزب في المغرب ، وفي مواكبته لحركات التحرر وقوى اليسار العالمي . أرتبط بعلاقات نضالية متميزة مع قادة عالميين وشخصيات مؤثرة في حركة التاريخ .جيفارا ، أحمد أبن بله ، جمال عبد الناصر . أرادوا هؤلاء بعقد مؤتمر للقارات الثلاثة أفريقيا ، أسيا ، أمريكيا اللاتينية مما أثار حنق الامريكان وغضبهم ومحاولتهم في أفشاله ومن جهة السوفييت لم برحبوا به لوجهات نظره المعارضة لسياستهم . المؤتمر الذي كانوا ينوون عقده بالعاصمة هافانا سنة ١٩٦٦ ، وكان هدفه خلق تكتل سياسي دولي أكبر حجماً وأستقطاباً وأكثر فاعلية من تنظيم دول عدم الانحياز ، وذلك بهدف التصدي لإخطبوط الامبريالية داخل دول القارات الثلاث ، والعمل على تحريرها من هيمنته المقيته ، وهو ما أثار حفيظة زعيمة الامبريالية العالمية الولايات المتحدة ، وبذلك أصبح هدفاً مطلوباً . في العام ١٩٦٥ في زيارته الثانية القائد البوليفاري أرنستو تشي غيفارا الى الجزائر بدعوة لدعم شعوب إفريقيا وأسيا ألقى خطاباً تاريخياً مهماً وجه نقداً لاذعاً الى مواقف السياسية السوفيتية بعد أن عاد من لقاء مع الرئيسي السوفيتي ليونيد بريجينيف وطلب منه أن يمنح لثوار العالم الأسلحة مجاناً من أجل مقاومة الأمبريالية ولم يلقي تجاوباً من الرئيس السوفيتي مما حمل في خطابه اللوم على تلك السياسة .

وفي خضم تلك التداعيات والصراعات الدولية وأحتواء بلدان الغير والسيطرة عليها . أتضببت فكرة عقد المؤتمر للقارات الثلاثة ، حيث أختطف المهدي أبن بركة من مطعم ” ليب .. Libe ” في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية في باريس ، في يوم ٢٩ أكتوبر ١٩٦٥، أثناء موعد له مع مخرج فرنسي حول إعداد سيناريو لفلمه حول ” حركات التحرر ” وكان للمخرج يد في ترتيب إختطافه ، ولم يتم هذا اللقاء وعند خروجه من بوابة المطعم والمشي في الشارع الرئيسي أستوقفته سيارة شرطة بها شرطيان وقاداه الى فيلا بأطراف باريس بالاتفاق مع المخابرات المغربية ، كما كشفا بعد ذلك أمام ملفات التحقيق ، ومن ذالك التاريخ وما زالت التكهنات تحيط حول مصيره ، والذي لم يكشف عنه الى الآن رغم كل مناشدات عائلته وصحبة ومنظمات حقوقية وحركات تحرر . وأطيح ببن بله في إنقلاب قاده الهواري بو مدين في ١٩ يونيو ” حزيران ” ١٩٦٥ . وأختفى جيفارا بعد أن توجه الى الكونغو العام ١٩٦٥، وإستشهاده البطولي في أحراش بوليفيا على يد جنود الجيش البوليفي بعد أن أوشى عن تحركاته ومكانه راعي أغنام بوليفي العام ١٩٦٧.

شهدت مملكة المغرب في العام ١٩٦٥غليان سياسي وشعبي ضد الملك وحكمه في إدارة ملفات ومطالب الشارع المغربي مما أزدادت شعبية المعارض اليساري المهدي أبن بركة ، والذي يتنقل في عواصم أوربا بجواز جزائري ويدعو في نضاله الى تغير النظام الملكي ، مما أثار حنق السلطات المغربية ، أدت الى تغيبه في أطار التعاون مع المخابرات الإسرائلية في العاصمة باريس ، وتشير بعض الدلائل بعد خطفه الى فيلا في أطراف مدينة باريس أشرف على تعذيبه وقتله وزير الداخلية المغربي ” محمد أوفقير ” والجنرال أحمد الدليمي ” مدير المخابرات المغربية ، اللذان قتلا في ظروف غامضة في المغرب لطمس معالم الجريمة ، وفجرت طريقة قتله في إسرائيل أزمة بين أركان الحرب . وتعتبر مسألة الأختفاء القسري للمهدي أبن بركه إحدى الجرائم السياسية الكبرى في القرن العشرين . وقد شهد العراق في هذا القرن غياب وأخفاء قسري  لشخصيات مهمة وعلى عدة مستويات للدكتور صفاء الحافظ ، والدكتور صباح الدرة ، وعايدة ياسين ، ودارا توفيق في مطلع الثمانينات في بغداد ، وأختفاء ناصر السعيد في العاصمة بيروت في فترة مقاربة .


وفي فترات تاريخية متعاقبة شهدت العاصمة باريس سلسلة إغتيالات سياسية لناشطين ضد أنظمتهم وعلماء ورجال أقتصاد بنشاط محموم من المخابرات الاسرائيلية  ، كما وقع مع العالم الفيزيائي المصري ” يحي المشد ” المساهم في وضع اللبنات الاولى لولادة المشروع النووي العراقي بالتنسيق مع حكومة الرئيس الراحل جاك شيراك ، حيت تم إغتياله في غرفته في أحد فنادق باريس عبر فتاة بائعة الهوى ” مومس ” وتعرضت فيما بعد الى دهس بسيارة في أحد شوارع باريس ليتم تغيبها وطمس أثار الجريمة وتداعياتها القانونية .

في ١٤ تموز ١٩٥٨ وقع إنقلاب عسكري في العراق وبتأيد وإسناد جماهيري وشعبي كبير مما سرعان ما صنف بثورة ضد النظام الملكي ، في يومها طلب المهدي أبن بركة مقابلة الملك محمد الخامس الذي أستقبله وطلب منه أن يعترف المغرب بالنظام الجمهوري في العراق ، فقال له الملك محمد الخامس هل تطلب مني أن أعترف بالذي أطاح بنظام ملكي وأنا ملك ، فأجابه المهدي بقوله : أنت لست أي ملك ، بل أنت ملك التحرير الذي لايشبهه أي ملك ، فالملكية المغربية كانت عبر التاريخ رمزاً للجهاد ومدرسة للوطنية ، عكس ملكيات المشرق العربي التي صنعها الاستعمار الانكليزي . وكان أن صدر في نفس اليوم بيان الاعتراف بالنظام العراقي الجديد ، وزار محمد الخامس فيما بعد العراق وأستقبله الزعيم عبد الكريم قاسم .

وفي تطورات الحياة السياسية في المغرب ، أصبح أبن بركة عضواً برلمانياً الى جانب زعماء سياسيين مغاربة ، إلا إنه لم يمارس مهنته كبرلماني ، فأختار العيش في المنفى ، وكانت محطته العاصمة باريس ، بعد أن شعر بأن القوى الرجعية كثفت من تحركاتها ضده وضد توجهاته ، إذ سرعان ما أتهم بتدبير الانقلاب على النظام الملكي ، فيما عرف بمؤامرة ١٩٦٣ التي وقعت فيها محاكمة العديد من العناصر الوطنية ، وصدر في حقه غيابياً حكم بالإعدام ، الذي أجبره الى الإقامة في المنفى ، وظل يواصل من هناك نشاطه السياسي ومعارضته للنظام ، وخلال تلك الفترة كتب بيانه السياسي والإيديولوجي ، على غرار البيان الشيوعي لكارل ماركس ١٨٤٨ ، وأطلق عليه أسم ” الاختيار الثوري ” وهو البيان الذي وضع فيه تصوره لمغرب تقدمي أشتراكي ، وتكون فيه وسائل الأنتاج ملكاً للدولة وحدها ، ولكنه أخفق ولم يتحقق شيء يذكر على الصعيد العملي في بيئة مثل البيئة المغربية الإسلامية المثقلة بالتقاليد والاعراف .


17
ماياكوفسكي .. لا تتهموا أحداً في موتي .

ثمة قراءات لسلسة من الشخصيات في الصندوق الاسود لحاسوبي ، لقد كتبت في زمن بعيد في يومها، واليوم أضعها في حضرة  القراء والمتابعين . في صندوقي الاسود ٢٥٠ شخصية بمختلف الألوان والاشكال والاتجاهات بين اليمين واليسار من فهد وسلام عادل الى ناظم كزار وبيريا الحارس الشخصي للرئيس ستالين والذي سقاه السم فقتله والى وحيدة خليل ورابعة العدوية ووووووووو . وأود التنويه الى أمر هام ، ومنذ فترة ليس بالقليلة . قطعت عهداً على نفسي في مجال الكتابة والنشر ، عندما أحاور الشخصيات وأستحضرها ، وأتناول أحداث أي كانت هي ، معتمداً على المعرفة والقراءة والصورة وفي أحيان كثيرة التجربة ، وهي الغالبة  .

ماياكوفسكي .. لاتتهموا أحداً في موتي .


   


فلاديمير ماياكوفسكي شاعر وكاتب روسي من أب تتري وأم أوكرانية ، أبوه كان يعمل حارساً على الغابات والمزارع أما أمه أبنة العسكري تهوي الادب والرسم والشعر والمسرح . ولد عام١٨٩٣ في بلدة بغدادى في جورجيا ، وهي البلدة التي سميت فيما بعد بأسمه . في عام١٩٠٦ أنتقل مع أمه وأختيه الى موسكو بعد وفاة والده . طرد من على مقاعد الدراسة لصعوبة ضيق العيش وعدم تدبر مصاريف تعلمه بعد أن أصبح بلا معين  وهو شاباً يافعاً.
ألتحق فيما بعد بكلية الفنون في موسكو ، وهناك تعرف على الفكر الماركسي ، ومنذ بدايته شارك في نشاطات حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي ( الجناح البلشفي )، وبالرغم من صغر سنه ، كان مناضلاً نشيطاً دفعته ظروف حياته الصعبة والمأساوية الى الإيمان بالافكار التقدمية كمنفذ للخلاص من الاوضاع المتردية ومن سطوة حكومة القياصرة . كان يشار له بالبنان ومن شعراء الثورة وأبنها البار والمدافع عن بريقها الثوري ، لم يفوت فرصة في جولاته الى العواصم الاوربية مستغلاً أماسيه ومحاضراته وجلساته الخاصة لا يبخل في الدفاع عن الثورة والحزب والادب الروسي . أرتبط بأكثر من علاقة حب عاطفية ( عشك ) بنساء مشهورات في باريس ( تتيانا ياكوفلوفا ) من أصل روسي ، وله قصص أيضاً بنساء في برلين ، لكنهن حالن دون مشروع زواج مما زاد من نقمته على الأنظمة البرجوازية والرأسمالية ونمط العلاقات السائدة فيها.

في مطلع شبابه ، كانت الاحداث اليومية السائده في العالم وتحديداً في روسيا القيصرية نهضة فكرية وتململ ثوري تجاه أنظمة قمعية متسلطة على رقاب الناس وفي قمع حريتهم ، من هنا جاء تحسسه مبكراً بالاشياء والتطورات مما زج بنفسه في صلب تلك الاحداث داعياً الى التغير نحو الافضل ، فهذا لا يتقاطع مع نهج حزبه البلشفي فتعرض الى المطاردة والسجن . عبر عن تلك التوجهات والتطلعات من خلال منافذ الشعر ودعا الى تجديده على أسس الشعر الروسي العريق ، ومن قصائده قبل ثورة أكتوبر١٩١٧ ” غيمه في سروال ” وتعد من أهم قصائده فخرج بها عن المألوف فحطم بها الوزن والقافية مستفزاً مشاعر الناس ومحرضاً لها ضد القوانيين والاسس التي تكبل الحريات والابداع ، في وحي تلك القصيدة تنبأ بوقوع الثورة عام 1916 لكنها تأخرت الى ١٩١٧ لتكن أول ثورة أشتراكية حلم الكادحين من عمال وفلاحين ومثقفين ثوريين وثوار ، ولتكن منعطفاً حاسماً في العالم كله وأمل شعوبها في الانعتاق نحو غداً أفضل . ولتبدأ مرحلة جديدة في البلاد وفي حياة ماياكوفسكي الابداعية والاجتماعية وليعلن على الملأ : إنها ثورتي . ثورة العمال والفلاحين والمسحوقين بقيادة العظيم لينين ، ومن نشاطاته المبكرة شارك في تهريب ثلاثة عشر سجينة سياسية من سجن ” نوفنسكايا ” وحكم عليه قرابة عام كامل .
إنتمائه الصادق والثوري وضعه في أصطدام دائم داخل الحزب مع المتسللين والنفعيين الذين تبوأوا مراكز مهمة وقيادية في الحزب والدولة بعيداً عن تطلعات وأحاسيس الجماهير ، وهو صغيراً شعر بالفروقات الطبقية في حياته والاغتراب من خلال حياة أقرانه من أبناء الموظفين الروس وأصحاب السلطة والجاه والمميزات التي تمنح لهم على حساب التفوق والابداع ، تلك الاوضاع الملتبسة والبعيدة عن الانصاف والعدالة وظروف بيئته عجلت من إنتمائه الثوري للحلقات الماركسية من خلال الاطلاع على بياناتهم السرية والعلنية ، وكان الدور لاخته ” لودميلا ” الطالبة في جامعة موسكو تأتي بكل إجازة مع حزمة من البيانات والمنشورات لاخيها ماياكوفسكي . إختير للعمل لنشاطه المبكر في مطبعة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ” البلاشفة ” ففي واحدة من الحملات البوليسية في مداهمة مقرات الحزب البلشفي وأوكاره . إعتقل مع مجموعة من رفاقه وهو الأصغر بينهم عمراً وأنتماء حزبي فأودعوه في السجن وهو صغيراً مما أشفع له لاحقاً بعدم سجنه لمدة طويلة . وكانت لوالدته أيضاً دور ليس قليل في الاسراع من تجنبه من فترة السجن الطويل ، في السجن تعرف على ” بايرون / شكسبير ” وقرأ أشعارهم وأستقرأ أرائهم الادبية والسياسية . وقرأ للادب الروسي بوشكين ، ليرمنتوف ، دستوفيسكي .
في ١٤ نيسان عام١٩٣٠ . بعد أن حوصر من كل الجهات كمبدع وفنان  ومنع من السفر خارج الاراضي السوفيتية . أطلق النار على قلبه من مسدس كان بحوزته ، وعثروا بعد موته على أقصوصة ورق كتب عليها ” لا تتهموا أحداً في موتي ” وأرجوا أن لاتنموا ، فالراحل لم يكن يطيق ذلك ” .




18
صراع الرفاق الدموي في اليمن السعيد ” عدن ”


ثمة قراءات لسلسة من الشخصيات في الصندوق الاسود لحاسوبي ، لقد كتبت في زمن بعيد في يومها، واليوم أضعها في حضرة  القراء والمتابعين . في صندوقي الاسود ٢٥٠ شخصية بمختلف الألوان والاشكال والاتجاهات بين اليمين واليسار من فهد وسلام عادل الى ناظم كزار وبيريا الحارس الشخصي للرئيس ستالين والذي سقاه السم فقتله والى وحيدة خليل ورابعة العدوية ووووووووو . وأود التنويه الى أمر هام ، ومنذ فترة ليس بالقليلة . قطعت عهداً على نفسي في مجال الكتابة والنشر ، عندما أحاور الشخصيات وأستحضرها ، وأتناول أحداث أي كانت هي ، معتمداً على المعرفة والقراءة والصورة وفي أحيان كثيرة التجربة ، وهي الغالبة .



   
صراع الرفاق الدموي في اليمن السعيد ” عدن ” .


 

كثر ممن عاشوا على أرض جمهورية اليمن الديمقراطية وسط شعبها وبين ناسها من شيوعيين وحركات تحرر وقوى يسار وعلى وجه التحديد العراقيين والفلسطينيين ، وكانت لهم حضوة كبيرة من الأهتمام والامتيازات والمواقع ، وشغلوا مراكز مهمة في جسم الدولة اليمنية إنطلاقاً من الفهم الماركسي حول التضامن الأممي وضمانة حرية الشعوب ، لكنهم قله نادرة وتكاد تكون معدومة ممن كتب عن تلك التجربة وممارساتها وهيكل بنائها ولا من وثق الحدث الدامي بين رفاق الحزب الواحد والتجربة الواحدة والتاريخ المشترك من النضال والمقاومة .

دموية ذلك اليوم حدث في ١٣ كانون الثاني العام ١٩٨٦ ، وفي الساعة الحادية عشر وخمسة عشر دقيقة  أطلقت الرصاصة الأول في داخل مبنى اللجنة المركزية في منطقة ” التواهي ” من قبل الحرس الخاص لعلي ناصر محمد ضد رفاقه ،  لم تكن المفاجئة للمتابعين ولا للرفاق اليمنيين ولا لأصدقائهم المقربين من المناضلين ، كانت كل السيناريوهات مفتوحة للقتال والتصفية والثأر ، والتي أحتدمت بمفترق طريق لاعودة به بعد عودة القيادي الشيوعي عبد الفتاح إسماعيل من موسكو والثأر له من قبل رفاقه ومريديه ضد خط سياسة علي ناصر محمد القابض على دفة الحكم في اليمن بعدة سنوات وعلى أثر إبعاد رفيق النضال عبد الفتاح إسماعيل ورفاقه الى الاتحاد السوفيتي العام١٩٨٠ أي كانت بمثابة عملية نفي وإقصاء وتهميش ، قد تكون قريبة تلك التجربة من فصولها بما حدث في العراق في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم عندما نفي سكرتير حزب الشيوعيين العراقيين الشهيد سلام عادل وبعض المؤيدين لخط سياسته الى العاصمة موسكو عندما تقاطعت رؤاه السياسية مع رفاقه حول سياسة الزعيم عبد الكريم قاسم وإدارته لنظام الحكم الساذجة ، فتغلب حوار الدم وكان هو السائد الذي ختم فصول المشهد السياسي للتجربتين اليمنية والعراقية وفي زمنيين مختلفين . كانت ميزة عبد الفتاح إسماعيل عن رفاقه هو عمقه الفكري في الادب الماركسي وأطلاعه على كنوزه الى إنه كان يلقي محاضرات ودروس في المدرسة الحزبية للدارسين في موسكو حول الماركسية اللينينية وقوانينها الديالكتيكية وتطبيقاتها العملية في مسيرة حياة الشعوب ، ولم يكن للرفاق السوفييت رأياً بعودته وهم الأدرى بطبيعة الصراع الرفاقي ومخاطره على التجربة الفتية . وفي أبان عودته إنعقد المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي اليمني في أكتوبر١٩٨٥وتم إنتخاب الرفيق عبد الفتاح إسماعيل لقيادة الحزب وفي عضوية المكتب السياسي وحسب راوي عراقي قريب من وقع الحدث ، عندما أذيعت في قاعة المؤتمر نتائج التصويت من قبل الرئيس علي ناصر محمد أسم عبد الفتاح إسماعيل حرارة التصفيق هزت أركان القاعة وهتافات الحاضرين في قاعة المؤتمر لم تعطي للرئيس علي ناصر محمد برهة من الوقت أن يدلو بالأسماء التي تليه والتي فازت بالتصويت من بعده ، من هنا بدأ التوجس مرة آخرى والعودة الى صراعات السنوات الماضية وجدلية الانتقام الرفاقي والتمسك بكرسي القرار والجاه ، كانوا يعتقدون ” معارضيه ” أن غيابه أو أبعاده خمسة سنوات خارج البلد كفيله بتغيب دوره وحصر تأثيره بين أوساط رفاق الحزب الواحد ، لكن ليس كل مايعتقد ممكن أن يتحقق على أرض الواقع ، وبعد المؤتمر بدأت خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة أحاديث ليس مسرة عن أعتماد نتاهج الإنتخابات في التشكيلة الجديدة ، أي بمثابة ألغائها وعدم الأعتراف بها ومهما كان الثمن ومجرى الدم الذي سيسيل في شوارع العاصمة عدن ، وقد روى رفاق شيوعيين عراقيين قريبيين من الحدث ، عن لقاء جمع جورج حاوي وفخري كريم وبحضور علي عنتر المحسوب على خط عبد الفتاح إسماعيل الذي هدد قائلاً ” لو أبعد عبد الفتاح إسماعيل من سكرتارية الحزب سوف أقتلهم وأقتل نفسي أي أنتحر ” .

في العام ١٩٦٧ تمكن اليمنيين الجنوبيين في نضالهم ومقاومتهم البطولية من تحرير اليمن من آخر ثكنات الإحتلال البريطاني وتأسيس أسس نظام جديد في البناء والديمقراطية تأثرا بالتطورات العالمية في نهضة جديدة من التحرر والمقاومة واليسار ، وقد لعبت الجبهة القومية للتحرير دوراً نضالياً كبيراً في تحرير اليمن الجنوبي من خلال التعبئة الوطنية للشعب في التحرر الوطني بعد إحتلال بريطاني طال١٢٠ عاماً لأرض اليمن ، وكانوا أغلب المنتسبين وأعضاء الجبهة القومية هم ينحدرون من القرى والأرياف خارج العاصمة عدن ومن أهم أنصارها وأعضائها ” علي سالم البيض ، حيدر أبو بكر العطاس ”  فكانت للإنتماءات القبلية والعشائرية والمحسوبية دور كبير في ضياع التجربة ، والتي تعتبر الدولة الماركسية الوحيدة في العالم بدين رسمي هو الاسلام ، ولم تكن بعيدة أحداث فيتنام وما سطروه من بطولات وطرد المحتل الامريكي وثورة الطلاب في العاصمة باريس ومواقف الاتحاد السوفيتي في دعم تطلعات تلك الشعوب تركت ظلالها على تطلعات شعوب العالم ، ومن ذلك التاريخ حلم اليمنيين في أسس نظام ثوري عادل في البلد ، لكن الخلافات الأيديولوجية والتي لم تخلوا من دوافع شخصية وقبلية ومذهبية وبتأثيرات أقليمية ودولية ضاعت التجربة ومات الرفاق . وتعتبر الجبهة القومية للتحرير وجهتها الرئيسية الفكر الماركسي في مساندة الأنظمة الاشتراكية حول العالم لمقاومة  الاستعمار والاحتلالات ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني في أرجاع أرضه المغتصبة . ينقل عن الدارسين بأوضاع اليمن أن من النقاط الأساسية للخلافات بين القيادة اليمنية وعبد الفتاح إسماعيل مرده هو أصل الآخير ينحدر من اليمن الشمالي ” مذهب الأثني عشر الشيعي ” ما يسمون اليوم ” الحوثيين ” . وتحت هذا السياق والفهم فهو غير محبوب للطرف الآخر . إذن ” كان هناك صراع مخفي من نوع آخر سبق الأنتماءات الحزبية والعقيدة ورغم تحلي عبد الفتاح بالثقافة والفكر وقدرة التحليل والقيادة وتجاوز المذاهب .


في يوم ١٣ كانون الثاني العام ١٩٨٦ في ذلك الصباح الندي المرتقب والموحش بالخوف في العاصمة عدن وفي مبنى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني طوت آخر صفحات الصراع السياسي بين الرفاق بالدم وضياع التجربة وممن قتل داخل المبنى علي عنتر وعلي شايع هادي وصالح مصلح الذي يعتبر وسيط بين الطرفين ونجا من المذبحة عبد الفتاح إسماعيل وعلي سالم البيض بخروجهم على ظهر دبابتين بأتجاه منطقة التواهي الساعة الثانية بعد الظهر بعد وصول سرب من المدرعات من منطقة ” البوريقه ”تحمل صور علي ناصر محمد بمثابة جواز عبور الى مبنى اللجنة المركزية وفض القتال ، وقد تعرضت الدبابة التي كان على ظهرها عبد الفتاح إسماعيل الى عدة صواريخ مما أدى الى تهشيمها ، وهنا ضاعت الحقيقة بمصير عبد الفتاح إسماعيل وغيابه أي طريقة تصفيته هناك عدة سيناريوهات مطروحه ، حتى بعد أن هدأت الاوضاع شيع بتابوت من قبل رفاقه ومحبيه بدون جثة لانه لم يعثر على جثته ولاحتى على عظم واحد من جسده الهزيل ، الذي هلكته ألاعيب السياسة ومكرها . أما مهمة ودور رجال الرئيس علي ناصر محمد وتحديداً حراسه الشخصين هم من بادر بأطلاق الرصاص على رفاقهم داخل مبنى المكتب السياسي لتزهق مئات من الرفاق أرواحهم ، وفي البداية كانت النهاية كما روي ، عندما دخل حراسه قاعة الإجتماع في بناية اللجنة المركزية ، كانوا جميع الرفاق حاضرين الا علي ناصر محمد فوضع أحد حراسه ترمز الشاي أمام كرسيه الفارغ ، وعندما سألوا عنه المجتمعون قالوا لهم هو في الطريق وفي هذه اللحظة من الدهشة وبطريقة مفاجئة تدل على تبييت الفرصة ودموية المشهد فتحوا حراسه النار على المجتمعين ، وفي لحظتها تطايرت دماء الرفاق وتلطخت جدران القاعة بطشاره . وبدأت حرب شوارع ضروسه وإنتقامات وتصفيات قبلية وأيديولوجية طالت لمدة شهر كامل بعد أن ولى علي ناصر محمد بأتجاه اليمن الشمالي واضعاً على واحدة من يديه لفاف أبيض على إنه مصاب في المعركة ، ولكن الحقيقة هو لم يكن قريباً على دخانها ولا حتى على رائحة بارودها . في الختام هرب مع مئات من رفاقه ومقاتليه وأستقبلوا من حكومة علي صالح السعدي في صنعاء بالاحضان والاهتمام والرعاية وتركوا أرض اليمن تئن من ويلات الصراعات والحرب ولاشيء يلفت الى فداحة الاوضاع الا نظر العسس المدججين بروح الثأر والانتقام . إنها تجربة خيبت آمال الملايين من الداعين الى الحرية والبناء والسلم الاهلي .

ومازال علي ناصر محمد حيياً الى يومنا هذا متنقلاً بين عدة عواصم عربية ، لكن الحقيقة مازالت غائبة عن ثمة تفاصيل مهمة في ضياع التجربة وقتل الرفاق من خلال كتابات وشهادات بعيدة عن الشخصنة والذاتية ، والأمر أيضاً ينطبق على علي سالم البيض وجميع الرفاق الذين نجو من تلك التصفيات لأجل تقييم مسارات تلك التجربة الفريدة في موقعها الجغرافي والبيئي ، وبعد سنوات طويلة من تلك التجربة الفاشلة على أرض اليمن السعيد حول مصير عبد الفتاح إسماعيل نقل عن أهله ومحبيه في تلقيهم مكالمات هاتفية بصوت عبد الفتاح نفسه بعد عشرة أيام من الواقعة ، لكن ما شيع في حينها أن عبد الفتاح إسماعيل مات في يومها وهو على ظهر الدبابة التي خرجت به تحت جنح الليل من مبنى اللجنة المركزية مكان المواجهة الرفاقية وحوار الدم على أثر قصف قوات البحرية للدبابة التي تحمله ، وقد رآها بعد حين بعض العراقيين في الأيام التوالي من الاحداث وكانت محترقه بالكامل وعبارة عن هيكل حديد منصهر ، وعلى ضوء تلك التطورات التي عصفت بالتجربة اليمنية الفتية وما قدمته من مجالات دعم شتى للحلفاء والاصدقاء على أراضيها ، لكن هناك ثمة تداعيات تفرض حالها على المشهد هو الموقف المعلن من تلك الاحداث وتطوراتها قبل الأحداث وأثنائها وبعدها من العراقيين والفلسطينيين والسوفييت ؟.
لقد أكد أكثر من طرف معني بأحداث اليمن ، إن هناك أتفاق مسبق جرى بين علي ناصر محمد والسوفييت في إبعاد عبد الفتاح إسماعيل الى موسكو ، رغم توجس السوفييت وعدم أرتياحهم من إدارة علي ناصر محمد لإدارة العملية السياسية في البلد . وعندما وصل عبد الفتاح إسماعيل الى موسكو في مطلع الثمانينات . كان يتساؤل بأندهاش عن الغرض والسبب الذي جاؤوا بي الى هنا ؟. وقد حدثني الدكتور خليل عبد العزيز عندما ألتقاه في العاصمة موسكو أراد أن يعرف منه السبب في مجيئه الى هنا ولم يلتقيه أي مسؤول سوفيتي رفيع المستوى . ظل السوفييت على هذا الخط من السياسة والتي تثير الريبة والتساؤل تجاه الشعوب المناضلة والداعية الى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاحزاب الشيوعية والبلدان . وقد حان الوقت لكشف مواقفهم هذه أي بحاجة الى التوقف والدراسة في معرفة بواطن تفكيرهم حول تلك الصراعات . فالمواقف المعلنة والمخفية للسوفييت تجاه أصدقائهم من الشعوب والبلدان لم تكن أيجابية وتأتي دوماً متناسقة مع مصالحهم على حساب إرادة وتطلعات الجماهير والتي هي ضمن سياستهم وأنسجاماً مع عقائدهم .



19
ثمة قراءات لسلسة من الشخصيات في الصندوق الاسود لحاسوبي ، لقد كتبت في زمن بعيد ، واليوم أضعها في حضرة  القراء والمتابعين . في الصندوق الأسود ٢٥٠ شخصية بمختلف الألوان والاشكال والاتجاهات بين اليمين واليسار من فهد وسلام عادل الى ناظم كزار وبيريا الحارس الشخصي للرئيس ستالين والذي سقاه السم فقتله والى وحيدة خليل ورابعة العدوية ووووووووو .

صورة البروفيسور ضياء نافع.


أولاً .. لابد أن أعلن على الملأ وعن هواجسي بالقول .. أن الكتابة لهامة سومرية عراقية بقدر الأستاذ ضياء نافع وهو يتنفس برئة الادب ( الروسي ) والعالمي ، وندعوا من الرب أن يمده بالعمر الطويل ، فكانت هي الأصعب مما تخيلت وما دار في خلدي من أفكار وآراء ، الأفكار كثيرة والذكريات مزدحمة ولم تفارقني منذ يوم اللقاء الأول العام ١٩٨٠ في الآداب / جامعة بغداد ، والتي الى يومنا هذا تدافع بعضها بعضاً في زحمة ذكريات إيامي ، وكأن الواحدة تقول للآخرى وتزاحمها ، أنا الأولى والأحق منك بأن أذكر وأكون في الصدارة ، فما يمكنك أن  تقول وتفعل أمام هذا الرجل المليان والكبير والمتواضع . اليوم .. المرة الثانية الذي أسمع صوته عبر أثير التلفون بالصوت ولكن ليس الصوت المسكون في ذاكرتي قبل أربعة عقود ، لقد ترك الزمن لوعاته عليه ، ومنذ أن تفارقنا في العام ١٩٨٣ عندما كنت طالباً في أروقة الآداب / جامعة بغداد وهو إستاذي ومعلمي الأول حول أساسيات الآدب الروسي من ” كيف سيقنا الفولاذ إلى المدرعة بوتمكين ، وبعد إحتلال العراق وعن طريق مواقع التواصل الاجتماعي والله يطول عمرك ياسيد مارك على هذه الألتفاتة الإنسانية الكبيرة . تجرأت وكتبت له رسالة مقتضبة ومترددة ربما للسنوات الطويلة من العزلة والبعد والظروف الصعبة قد ألقت بظلالها على الذاكرة والنسيان ، فقلت له في مطلعها إستاذ ضياء ، أنا محمد من قرية الهويدر أحد طلابك هل تذكرني ؟. ففاجأني بجوابه إي نعم أعرف ولقد قرأت كتابك ” سجين الشعبة الخامسة ” وتضمنت رسالته لي بالقول : وأعتزازي بك كبير وبمواقفك وأنت من الطلاب النجباء ، هذه السرعة في التلقي والأستذكار لقد قضت على هاجس ترددي وتركت في نفسي لوعة وحنين ورضا على النفس الى سنوات مضت من زمن عصي لكنه كان مشرق وفيه أمل كبير بالغد الأحسن والأجمل .


ومنذ اليوم الأول ، الذي عرفته في أروقة الآداب وهو لايعطيك فرصة أن تفكر بالقرب منه أمام دماثة خلقه وثقافته وعلمه الواسع وتواضعه الإنساني حيث تقع أسيراً بلا قيد إمام عطائه الثر . في العام ١٩٨٢ في الأجتياح الاسرائيلي للبنان ، دخل الأستاذ ضياء الى القاعة متأبطاً حزمة من الاوراق متحمساً ومتوتراً تاركاً مادة الحصة التدريسية جانباً ومتناولاً موضوعاً آخراً بيننا ، خطورة الأجتياح على عاصمة بلد عربي ” بيروت ” وتداعياته على ضمانة السلم الأجتماعي ومصير قضايانا الوطنية ، مما حرك وهيج مشاعرنا الوطنية تجاه هذا الإعتداء الصهيوني . أو على أقل تقدير لفت أنتباهنا نحن الطلبة على قضايا مصيرية وماوقع من ظلم وتعدي على بلد عربي شقيق .

تجربتي كطالب مع إستاذ ضياء نافع إمتدت لثلاثة سنوات فقط في أروقة الآداب ، لكنها كانت مليئة بصخب الإنعطافات ، في وضع العراق الصعب آنذاك . أشتعلت الحرب بين الجارتين اللدودتين العراق وإيران ، كانت دروس الدكتور ضياء حافلة بالاهتمام والانتباه على ما يلقيه علينا من صورة مشرقة لأدباء روسيا وفي الوقوف عند مأثرهم الادبية والوطنية وتحديهم لاساليب سلطة القيصر في قمع حرية الكلمة والإبداع ، وكأنها كانت دروس لنا في النضال والوطنية من خلال عكسه لصور مشرقه من تاريخ الآدب الروسي رغم تسلط نظام القياصرة على قمع الحريات ومنابع الابداع ، كنا كطلبة لم نشعر يوماً بفواصل بيننا وبين إستاذ ضياء ، كان يتعامل معنا كأصدقاء في تبادل وجهات النظر حول هموم الدرس والحصص ، لقد مضى أربعة عقود على تلك الايام وكأنها البارحة وكلما وقع نظري على مقالاً لاستاذ ضياء والذي مازال ينضح أدباً ونتاجاً وثقافةً رغم تقادم العمر والصدمة التي تلقاه بفقدان من أعز على قلبه أبنه الوحيد نوار في عز شبابه وعطائه ونزولاً عند عطاءات وذكريات وقدسية نوار . أصبحت اليوم لنوار جائزة سنوية تمنح بأسمه للمبدعين والمفكرين والمترجمين في كل عام ، وأيضا دار نشر نوار تخليداً له ولثراه الطيبة . لايمر يوم الا ويتحفنا إستاذ ضياء بمقال وواقعة أو درس حول فطاحل الآدب الروسي ونتاجاتهم الادبية وعمق الشخصيات ومشاكساتها في البناء الدرامي . دوستوفيسكي .. تولستوي .. تشيخوف .. تورغنييف .. غوغول .. بوشكين .. ليرمنتوف .. والناقد الديمقراطي بيلينسكي وآخرون .

ضياء نافع يشغل حالياً عضو في إتحاد أدباء روسيا وهو العربي الثاني بهذا التشريف لنتاجه وعطاءاته الثرة في مجال النشر والابداع ، وقد نال قبله عضوية إتحاد الادباء الروس الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى . أتابع يومياً منشورات دكتور ضياء عبر عدة منصات ومواقع ألكترونية وناصيات التواصل الاجتماعي ولموقع بيدر ميديا حصتها في نشرها ، والملاحظ عدد المارين والمتابعين لكتاباته يزداد يوماً بعد يوم لفرادتها في الاختيارات وجمالية اللغة وشفافية المعنى من أرشيف وشخصيات وأحداث واكبها ضياء نافع منذ مطلع الخمسينيات في مجمل مسيرته الاكاديمية والآدبية والعملية عندما أصبح مسؤول قسم اللغات في كلية الآداب / جامعة بغداد ، والتي أقترنت فترته بأنجازات كبيرة على مستوى التطور والإبداع في أساليب الدراسة وحتى تركت ظلالها على العلاقات السوفيتية العراقية من خلال دعم مشاريع ثقافية في التعاون مع السفارة السوفيتية في بغداد .

أتطلع وبرغبة شديدة أن ألتقيه بعد طول تلك السنين العابقة بالذكريات والمواقف والأحداث ، وقد وجهنا له عدة دعوات في مناسبات عديدة من أجل الاحتفاء به وتكريمه والوقوف عند أهم أنجازاته ومشاريعه الادبية في محل أقامته في العاصمة موسكو منذ عدة سنوات مع زوجته الروسية والتي تحن للعراق بفيض وصوره المشرقة عاشت سنوات طويله فيه وتطبعت على عاداته وتكلمت لغته وأحبت تاريخه وتجنست جنسيته وهي فخورة بهذا التقليد والعيش في هذا البلد العراق ، ولم يذهب عن بالنا أيضاً هي إستاذة جامعية ساهمت في نشر الثقافة والآدب ، كما ساهمت الأستاذة سعاد محمد خضر المصرية الأصل وزوجة اليساري المرحوم صلاح خالص في البناء الثقافي والأكاديمي . واللبنانية الأصل الاستاذة المرحومة حياة شرارة أبنة الأديب والمثقف محمد شرارة وزوجة طبيب الكسور والعظام المشهور المرحوم محمد صالح سمسيم ( أبو مها ) ، الذي أعتقل في أحدى المرات العام ١٩٨٢ بعد أن أجرى خمسة عمليات جراحية لجنود الحرب العراقية / الإيرانية في مستشفى الرشيد العسكري في بغداد . حياة شرارة هي معلمتي وزميلة الأستاذ ضياء نافع لسنوات طويلة في قسم اللغة الروسية في جامعة بغداد وقد ساهما معاً بشكل واضح ومؤثر في دعم الابداع والآدب ونشر الثقافة الوطنية في العراق من خلال تعاونهم المشترك في الترجمة والنشر والمعرفة ، ولم أكن بعيداً عن تلك الأجواء بحكم قربي منها طالباً في الآداب مما تركت بصماتها على مسيرة حياتي وأختياراتي الاحقة ومواقفي ، كنت أحمل نضدات من مجلة الثقافة للمرحوم صلاح خالص وزوجته سعاد محمد خضر في عودتي الى قريتي الهويدر وأيصالها الى بعض متابعيها وكتابها في المدينة .

تقضي عائلة إستاذ ضياء سنوياً عدة شهور في جمهورية الجبل الأسود مونتينيغرو ” صيربيا ” بالقرب من فلذة كبدهم أبنهم نوار ، والذي توارى ثراه هناك على أرضها ، عندما كان يعمل طبيباً فيها قبل رحيله الأبدي . فسلام على قبره . ومن تلك الايام عندما كنت طالباً في الآداب لم تحتفظ ذاكرتي ولو مرة واحدة على طريقة إستاذ ضياء في التدريس وألقاء المحاضرات ، لكنه كان دائماً واقفاً ويضرع الفسحة الضيقة ذهاباً وجيئةً بين رحلات الطلبة والسبورة وبيديه الطباشير لكتابة أسم أديب أو رواية أو قصيدة شعرية عكس بعض الأساتذه والذين كانوا يفضلون الجلوس على منصة التدريس المخصصة لهم مما يفضي الى تسرب الخمول وسط الطلبة وضعف تركيزهم على حصة الدرس ، بينما طريقة إستاذ ضياء كانت تشدنا الى الدرس والمعرفة بفعالية وحب .
وفي الصورة اتوسط الإستاذيين ضياء نافع والمرحوم محمد يونس الساعدي في أروقة الآداب عام 1982 .



20

ثمة قراءات لسلسة من الشخصيات في الصندوق الاسود لحاسوبي ، لقد كتبت في زمن بعيد ، واليوم أضعها في حضرة  القراء والمتابعين . في الصندوق الأسود ٢٥٠ شخصية بمختلف الألوان والاشكال والاتجاهات بين اليمين واليسار من فهد وسلام عادل الى ناظم كزار وبيريا الحارس الشخصي للرئيس ستالين والذي سقاه السم فقتله والى وحيدة خليل ورابعة العدوية ووووووووو .
الريف .. الشاعر سيرغي يسينين
قربه عدد من النقاد والمتابعين ومتذوقي الادب والشعر بالشاعر العربي الكبير نزار قباني لشعره ورهافته حول المرأة والحب والغزل والحرية والجمال ، ولتمرده على القييم البالية لتقييد حرية المرأة وإبداعها .
ولد يوم ٣ أكتوبر العام ١٨٩٥ في بلدة ريفية ” قسطنطينوفو ” تقع على ضفة نهر ” أوكا ” في ناحية ” ريازان ” وسط روسيا ، وأنتحر يوم٢٨ ديسمبر العام ١٩٢٥في فندق ” إنغليتير ” وفي أحد غرفه عثر عليه متدلياً بحزام حقيبة على عمود للتدفئة الكهربائية ، الهوتيل الذي هدم لاحقاً عام ١٩٨٧ في العاصمة القيصرية ” بطرسبورغ ” . والذي شهد مشهداً تراجيدياً بإنتحار شاعر جميل وشفاف ورقيق عن عمر ناهز ثلاثون عاماً في قمة فتوته وأبداعه وعطائه ، ويعتبر من ألمع شعراء روسيا ، لكن هناك من يعتقد إنه قد قتل في زحمة الصراعات السياسية آنذاك ، حيث التحولات السياسية الكبرى على أرض روسيا تمخضت عنها ثورة أكتوبر العظمى ، والذي كان من الداعيين لها ومؤيديها لكن سرعان لم يجد لنفسه مكاناً فيها ، ولم يرى فرقاً بينها وبين سلطة القياصرة ، وهذه تركت تداعياتها السلبية على مجمل حياته ، عندما إنتحر . كتب بدمه إلى صديقه الشاعر ماياكوفسكي ” وداعاً صديقي لاتحزن ، ولا تقلب حاجبيك فليس جديداً في هذه الحياة أن نموت ، وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش ” . كانت حبيبته مريضة أثناء إنتحاره ، لذلك لم تستطع أن تحضر جنازته ، لكنها ذهبت إلى قبره في اليوم التالي حينما قدرت ، وأطلقت على نفسها الرصاص أمام قبر حبيبها ، في هذه الاثناء كتب الشاعر ماياكوفسكي مؤنباً يسينين على خيار الانتحار قائلاً : ليس من الصعب أن نموت ، بل أن نصنع الحياة أصعب بكثير . وبعد مرور خمس سنوات إنتحر ماياكوفسكي نفسه ، وكتب في رسالة إنتحاره : أعرف أن هذه ليست هي الطريقة الصحيحة ، ولكن ما باليد حيلة .
من شعر سيرغي يسينين   . صديقي مريض أنا ، وجداً مريض
لست أعرف من أين يعصف بي ألمي .
أم هي الريح تعوي على ناصيات الحقول الموحشات ، المقفرات .
متجمدة هي الليلة .. ووحدي على النافذة .
لست على أنتظار ضيف .. أو صديق .
 تزوج في وقت مبكر من أمرأة في فوران شبابه وأنجبت له ولد وبنت وبسبب هذياناته وسكره وعربدته هجرها في ظروف صعبة جداً رغم ميله الديني والأيمان بالخالق عكس أقرانه من الادباء والشعراء وعلاقتهم بالجمال ، أعتبر من شعراء الطبيعة الروسية بما تتميز به أشعاره من صفاء وجمال . تعرف وأتخذ منها كزوجة الراقصة والفنانة الامريكية ( إيسدورا دونيكان ) وهاجر معها الى أوربا وأمريكيا ، لكنها لم تتحمل فوضويته رغم أنها تكبره ب 18 عاماً . فعاد الى روسيا رغم تمرده على الوضع السياسي القائم وموقفه المسبق من ثورة البلاشفة ربما أعتقاده الديني هو الدافع النفسي والفكري والسياسي ، حتى في موته حضرت أمه مراسيم التشييع والدفن وطلبت أن يدفن على أساسيات ومعتقدات الديانة المسيحية ، لكن لم تجري الأمور مثل ما أرادت وتمنت . عاد الى الاتحاد السوفيتي بعد أن هجرته زوجته الامريكية ، والتي إنتحرت أيضاً بعد عامين من إنتحاره . عاد وفي داخله ندم ورغبة بالعودة الى زوجته الروسية أم أولاده فاصطدم بالواقع حيث وجدها متزوجة من رجل آخر ، فلم يبقى أمامه خيار الا توديع أطفاله وبعد يومين شيع نبأ إنتحاره . رغم قصر حياته ، لكنه تعرض الى ثلاثة زيجات فاشلة ، قد تكون واحدة من الاسباب كما تعزى له هو أدمانه على الكحول
الشاعر يسينين رغم قصر حياته الادبية ( الشعرية ) ، لكنه ترك نتاجاً ثراً في تاريخ الشعر الروسي والعالمي ،  وما زالت محط أهتمام أدباء العالم . تعرفت عليه لأول مرة في مطلع الثمانينيات في العاصمة بغداد من خلال نتاجاته وحول ما نشر عنه وعن حياته وأشعاره في العاصمة بغداد في مطلع الثمانينيات في مجلة الثقافة للمرحوم صلاح خالص ، وكان الفضل الأكبر في تعريف القراء العراقيين والعرب عليه ، هو الاستاذ حسب الشيخ جعفر الذي تناول حياته وشعره بفيض .
ولد ونشأ في عائلة ريفية فقيرة ، وقد تفرد بموهبته الشعرية منذ الصغر وسط أحضان الطبيعة وبين جداول الحقول وصهيل الخيول ورائحة الأرض ظل طيلة حياته يتغنى ويكتب ويحن الى ضيعته الريفية والتي أصبحت جزء من نتاجاته الادبية وأبداعه ، والتي لم تفارقه في جملة تفاصيل حياته ، وما زالت تقام على تلك الأرض مهرجاناً شعرياً سنوياً أعتزازاً بأنتمائها الى الشاعر  يسينين ، وهناك جائزة سنويه بأسمه تمنح للادباء المبدعيين . وقد أقيم تمثالاً له وسط مدينته ، في بداية حياته حاول والده والذي يعاني من ضنك العيش أن يبعده عن موهبة الشعر ، فأخذه وأنتقل به وبالعائلة الى العاصمة ووجد له مكاناً للعمل في متجر للحوم ، لكنه سرعان ما تركه رغم العوز المادي ، لانه موهبة الشعر كانت طاغية على شخصيته ، ففي هذه الاثناء تعرف على الاديب والشاعر الكبير ( ألكسندر بلوك ) ، الذي كان شاغل الصحف والنقاد بشعره ، فرحب ألكسندر به أشد ترحيباً وساعده في نشر أشعاره بأهم الصحف والمجلات الواسعة الانتشار ، مما درت عليه أموالاً ، أنقذت نوع عما أزمته المادية .


وقد قال عنه الاديب الكبير ( بوريس باسترناك ) ” لم تلد الأرض الروسية مَن هو أكثر محلّية وأكثر عفوية،
مَن هو أكثر وطنية وأفضل توقيتاً ممّا هو سيرغي يسينين…
وفي ذات الوقت، لقد كان يسينين مثالاً حياً ينبض بالأدب، الذي
يواصل تقاليد بوشكين ، الأدب الذي ندعوه ذروة المبدأ الموزارتي .. ”

شهد الاتحاد السوفيتي بعد موت قائد ثورة أكتوبر الزعيم لينين 1924صراعات حادة بين قطبين بحزب البلاشفة تروتسكي الذي كان من قادة ومنظري حزب المناشفة ومؤسس الجيش الاحمر الذي دحر جبروت النازية في الحرب العالمية الثانية ، لكنه أنضم الى البلاشفة قبل ثورة أكتوبر ، وبات أحد قادتها ولاقى أهتماماً كبيراً من القائد لينين فوصفه من أنظف العقول في قيادة الحزب . وستالين الذي فتح أبواب الحزب الغير متعلمين بين صفوفه على حساب مباديء الحزب الاصيلة ، وأنتهى هذا الصراع الى الافتراق السلطوي في الحزب ، ختمها ستالين بقتل رفيقه تروتسكي شر قتله في ألة ( الفأس ) بعد أن لاحقه وهو خارج البلد الى المكسيك ، والبلد الذي ختم مسيرة حياة مفكر وسياسي ، قتل على يد الشيوعي الاسباني ( رامون ميركادير ) , والذي كان يحظى بثقة عائلة ليون تروتسكي , والذي تبينت لاحقاً علاقته مع المخابرات السوفيتية , وقام بفعلته بتوجيه من الرئيس ستالين ، وقد حكم عليه عشرون عاماً وهي أقصى عقوبة يسمح بها قانون البلد ( المكسيك ) وبعد خمسة عشر عاماً خرج من السجن ووصل الى موسكو وتم تكريمه ومنحه وسام لينين .. وقال قبل مماته ” ما زالت صرخة تروتسكي يرن صداها في ذهني طالما حييت ، عندما فج رأسه بالفأس . لم يكن هذا الصراع بمعزل عن الحياة العامة في روسيا وتحديداً الادباء والشعراء والتي تركت ظلالها التراجيدية على مسرح حياة الشاعر يسينين كغيره من الادباء والشعراء . الذي كسر نفوس الكثير من الحالمين بمبادئ الثورة والعدالة. في تلك الفترة سقط العديد من أصدقائه الشعراء ضحية المناخ الشرس، وسقط هو في دوامة من التوجس والخبال النفسي شدته إلى حافة الجنون . كانت روح الشاعر سيرغي يسينين تنبض بشعر وروح بوشكين / باسترناك / ليرمنتوف . ونثر وأدب تشيخوف / تورغنيف / دستوفيسكي . من يقرأ حياة ستالين وقيادته للبلد والحزب فعلاً الرئيس العراقي صدام حسين مستفاد من تجربته في الحكم بقتل رفاقه على فرضية الشكوك والتميز . كما كان يروى .
ومن أهم قصائده والتي تعكس حبه الجارف لوطنه …
إذا صرخ القديسون والملائكة ..
ستلقي بك أيها الروسي ..
فلتعش في الجنة التي تستحق ..
أقول لاحاجة لي بها ..
أعطوني الوطن .

21

ثمة قراءات لسلسة من الشخصيات في الصندوق الاسود لحاسوبي ، لقد كتبت في زمن بعيد ، واليوم أضعها في حضرة القراء والمتابعين . في الصندوق الأسود ٢٥٠ شخصية بمختلف الألوان والاشكال والاتجاهات بين اليمين واليسار من فهد وسلام عادل الى ناظم كزار وبيريا الحارس الشخصي للرئيس ستالين والذي سقاه السم فقتله والى وحيدة خليل ورابعة العدوية ووووووووو .

نيكولاي بوخارين ”محبوب الحزب .

فلاديمير لينين هو الذي سماه محبوب الحزب قبل وفاته عام ١٩٢٤ . لينين الذي تعرض الى محاولة الاغتيال عام ١٩١٨ بعد أقل من عام على نجاح ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى من قبل  ” فانيا كابلان ، التي تنتمي الى أحدى أحزاب المعارضة فأصابته بثلاثة طلقات أحداها أستقرت في رئتيه ، لكن الموت لم يدركه مما تعرض بعدها الى سلسلة من الجلطات القلبية أقعدته عن مهامه الحزبية وأدت به الى الموت . الرفيق نيكولاي بوخارين يعد من أقرب رفاق لينين الى قلبه وفكره كما رفيقهم ليون تروتسكي . لينين كان شديد الحرص على سمعة رفاقه وحثهم على العمل والنضال في البناء الاشتراكي قبل وبعد ثورة أكتوبر ، والذين رافقوه سنوات طويلة من النضال والنفي والمطاردة وظروف التنقل والاختفاء بين مدن وعواصم العالم .
في الأسبوع الأول من أنتصار ثورة أكتوبر ١٩١٧ ، تلك الايام التي هزت العالم في يوميات الصحافي الامريكي جون ريد خلال مشاهداته الحية في شوارع موسكو . عادوا الرفاق الى أرض روسيا الجديدة ( السوفييت ) قادمين من الولايات المتحدة الامريكية الرفاق نيكولاي بوخارين عبر اليابان وسيبريا وليون تروتسكي ليأخذوا دورهم المعهود لهم في إدارة الحزب والدولة في حمى صراع محتدم بين عدة أتجاهات وتوجهات وتقاطع رؤى . فعهد الرفيق لينين الى الرفيق بوخارين عضوية المكتب السياسي واللجنة المركزية ورئيس تحرير جريدة البرافدا وقائد للاممية العالمية ( الكومنترن ) ، بما يتمتع به من مزايا فكرية ونظرية أسلوب وعمل  وتاريخ سياسي ورفقة طويلة في المهجر والمعاناة .

تفرد بوخارين بعمق مقالاته السياسية حول الفلسفة الماركسية وإدارة الدولة في أساسيات بناء النظام الاشتراكي . وكان بوخارين في عمر عشرين عاماً ضمن لجنة موسكو الحزبية وأحد نشطائها البارزين ، لكنها كانت مخترقة من الشرطة السرية مما عرضته الى المطاردة والاعتقال والنفي ، فتمكن بعد سجنه في الهروب من السجن وتسلل خارج حدود البلد الوطنية متنقلاً بين ( المانيا ، بولونيا ، السويد ، النرويج  ) ، ليستقر به المطاف في أمريكيا بعد نشاط سياسي دؤوب مع رفاقه خارج روسيا ، فالتقى لاول مره برفيقه لينين في النمسا عام ١٩١١ ليواصلا النضال معاً ضد القيصر وسياسته والدعوة للإطاحة بنظامه . وبعتبر بوخارين من الشيوعيين البلشفيين المتشددين تجاه النظرية والفكر بوعي ودراية ، وقد وقف ضد رفيقه لينين من معاهدة بريست مع الالمان بل سعى الى مواصلة الحرب وسماه حرب ثورية ضد أعدائهم الطبقيين التاريخيين . 



 في عام ١٩٢٤ رحل قائده الاعلى ونموذجه السياسي ورفيقه لينين بعد معاناة طويلة من النكسات الصحية وتبوأ الرفيق ستالين على إدارة الحزب والدولة وآلية إدارتها ، وكان بوخارين من داعمي لهذه المسؤولية التاريخية الكبيرة ، بعد فترة زمنية لم تعد طويلة وأمتداداً لمواقف لينين من إدارة أمور الحزب والدولة على النهج الماركسي في بناء مؤسسات الدولة وتقويم بناء الحزب وفي تعزيزها بمباديء اللينينية . وبعد موت لينين واصل بوخارين  في دعم السياسة الاقتصادية الجديدة لستالين وفي دعمه لوحدة الحزب الداخلية وتحزيب مؤسسات الدولة تحت راية الشيوعية ، مما عرضه هذا الموقف المؤيد والمتشدد لسياسة ستالين أن يخسر من شعبيته وحضوره بين الرفاق المعارضة لسياسة الأب ستالين ، لكن سياسة ستالين الشديدة والدموية تجاه رفاقه تروتسكي ، زينوفييف ، كامينيف ، دعاه أن يغير رأيه وموقفه مما عرضه هذا الموقف والاصطفاف الجديد الى السجن والاعدام بعد أن جرده الأب ستالين من كل مسؤولياته الحزبية والرسمية بعد أن سرب له معلومة لقائه برفيقه كامينيف غاضباً من ستالين وسياسته حيث وصفه جنكيزخان آخر وسيدمرنا جميعاً .

بعد محاكمة وأعدام رفاقه الشيوعيين القادة زينوفييف ، وكامييف ، في العام ١٩٣٦ أعطي ستالين أوامره الى جهاز أمنه الخاص في القاء القبض على بوخارين ، واليكسي ريكوف ، وأتهموا بالخيانة الوطنية في التأمر لقلب نظام الدولة السوفيتية ، وقد حوكم بوخارين في محكمة موسكو مع ثلة من رفاقه المعارضين لسياسة ستالين ، وكان بوخارين المتهم الرئيسي في المحكمة ، وقد وجهت اليه عدة أتهامات منها التأمر للاطاحة بالرفيق والأب ستالين ، والجاسوسية لحساب الدول الكبرى لغرض تمزيق وحدة وأراضي الاتحاد السوفيتي ، ومحاولة إغتيال الرفيق لينين العام ١٩١٨ ، وتسميم مكسيم غوركي أبو رواية الأم الشهيرة  . أما المراقبين والحاضرين في جلسات المحكمة ، كانوا موقفهم آخر أعلنوا في التضامن مع موقف بوخارين في الدفاع عن نفسه وعن رفاقه وأن الاتهامات الموجهه له مبالغ بها ومحبوكه ضده ، وقد حاول الرفيق بوخارين أن يتماشى مع بعض فقرات جلسات المحاكمة في الاعتراف ببعض الاتهامات من أجل إنقاذ عائلته وتحديداً أنقاذ حياة أبنه ، والذي أعدم معه رمياً بالرصاص ، وقد أعتبره بعض المؤرخين خسارة كبيرة للبلد والحزب والتنكيل بزوجته حيث أرسلت الى معسكرات العمل الشاق ، وقد عانت طويلا من ظروف صعبة حياتية وسياسية ، ففي العام ١٩٨٨ تم إعادة الاعتبار له من الدولة السوفيتية باعتباره رمزاً من رموز الاتحاد السوفيتي ، والذي يعتبر من المفكرين الشيوعيين المميزين في العطاء والفكر .

يقول ستالين … ( كلما تعمق البناء الاشتراكي زاد الصراع الطبقي ) ، حيث أتخذ هذا تبريراً للتنكيل برفاقه وأساليب التصفيات بحق رفاقه باسم الوطن والشيوعية .

ولد بوخارين في موسكو عام ١٨٨٨ لأبوين يعملان في مجالات التعليم ، فبدأ حياته السياسية في سن مبكر ، كان عمره ١٦ عاماً وفي العام ١٩٠٥ أنضم الى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي وبعد سنة من هذا الانخراط أصبح عضواً فعالاً ومهماً في الفصيل البلشفي ، وعندما بلغ العشرين من العمر كان عضواً في لجنة موسكو الحزبية .
صدرت له مئات المؤلفات من الكتب والاراء والفلسفة ، وكان اهمها . ألف باء الشيوعية . حول البناء الشيوعي للشعوب وقاعدته الاقتصادية والبشرية .

22
صورة الشيوعي الهويدراوي محمد الدفاعي   .

في عام ١٩٦٣ وتحديدا شهر شباط وماتبعها تباعاً من سنوات قاحلة في الخوف والدكتاتورية ، في تلك الحقبة لم تغب عن بالي ، وأنا طفلا ً ندب أمي ببختها العاثر وحزنها الشديد وحديثها اليومي مع الراحل أبي عن ما أصابنا من مصاب باعدام خالي الشيوعي خزعل السعدي ..  وشلون صار  ؟. ولماذا لم نحاول في إنقاذه من براثن الانقلابيين والقتلة ؟. هكذا يولولون مع حالهم ويندبون حظهم ليل نهار وسط واحة بيتنا العتيق تحت شجرة الرمان الباسقة .
هنا طرق سمعي للمرة الاولى أسم الشيوعي محمد الدفاعي ( أبو قاسم ) ، وكيف أستطاع أن ينجوا منهم بعد محاولة إعتقاله والهروب الى إيران . الراحلة أمي كانت تمني على نفسها ، وتتمنى لو كان أخوها خزعل قد نجا من الموت وعبر حدود الوطن .
حديث أهل القرية حول بطولة الشخصية الشيوعية محمد الدفاعي حديث يومي مفعماً بالبطولة مما تحولت في بعض تفاصيلها الى إسطورة ودراما حياتية ، وأنا أتلقى يومياً في البيت وفي دوكان أبي الصغير في القرية مع صحبه محور هذا الحديث وتداعياته في ذاكرة الناس .
وبعد أن تلحلحت الامور قليلا بأتجاه التهدئه بازالة بقع الدم المنثورة على جدران المعتقلات ” قصر النهاية ” أثر إنقلاب 8 شباط 1963 .
ومؤشرات صراعاً دموياً يحتدم بين أقطاب الساسة الجدد حول سجة قطارهم الامريكي وفي خضم تلك الصراعات الداخلية حول كرسي الحكم تنفس الشيوعيين الصعداء ، وبدأوا باعادة صفوفهم المتناثرة من خلال عودة كوادرهم التي نجت من بطش الانقلابيين . ربما كانت فرصتهم الآخيرة في القفز على كرسي الحكم .
عاد المناضل الشيوعي محمد الدفاعي من إيران الى مسقط رأسه قرية الهويدر ، وتقاطر القرويين أفواج أفواجاً الى بيته للتهنئة وشد على موقفه في زنكة القلعة على ضفة نهر ديالى .
رافقت الراحلين أمي وأبي في زيارتهم الى بيته ، وكان مزدحماً بالزائرين والرفاق ، مستذكراً بمرارة وألم عن ما أصاب الشهيد خزعل من أذى في أستشهاده البطولي ومقاومة الكاظمية .
في الوهلة الاولى وجدت هذا الشيوعي بلقائي الاول معه ، يستحق وبجدارة عن مانسج حوله من حكايات وصور وأفكار من خلال تواضعه وبساطة كلامه وإيمانه المطلق بعدالة قضية شعبه ، ومن خلال تلك السجايا والمواقف بات مرجعاً تاريخياً لشيوعي القرية ليس فقط فكرياً وإنما أجتماعياً وأنسانيا ً،  كنت أصغي لاحاديثه حول معاني النضال والعلاقة بالجماهير ولا تخلوا تلك الاحاديث من طرائف حول وصوله الى طهران والمكوث بها . في يومها فتح الشوعيين فكرة الحوار مع البعثيين لاقامة مشروع ميثاق العمل الوطني ( جبهة وطنية وقومية تقدمية ) . كان الرجل صريحاً جداً مع كل جلاسه ومستمعيه على تخوت قرية الهويدر معارضاً لها جملة وتفصيلاً مما زاد من فضولي لمتابعة أحاديثه ، وأنا ما زلت لم أتمكن من الحبو بممرات السياسة الضيقة والخانقة ، لكني فهمتها نوع من الثأر والانتقام عن مجازر ما حدث ، مما تركت معاني في نفسي وحفزتني على تقصي الحقائق والتعبير عن وجهة نظري بلا خوف ولا تردد .
في المساء طاولته عامرة على حدائق نقابة المعلمين في مدينة بعقوبة وسط صحبه ورفاقه ، الكل يتطلع أن يسمع أبو قاسم في حوارته الصريحه وتحليلاته السياسية الصريحة مما أزعج المتربصين حوله ، فدبر له البعثيين مكيده أدت به الى المحاكم بتهمة تنظيم شيوعي داخل قوات الجيش بعدما حذر الشيوعيين من ممارسته ضمن بنود توقيع ميثاق العمل الوطني المذلة .
كان عبدالله أبن حساني الجندي في بناية القصر الجمهوري وضمن سرايا الحماية هو الممشى لابو قاسم الى أروقة المحاكم ، وتمكن الافلات منها بأعجوبة . كان محاوراً مميزاً وذوو أسلوب تميز به في إدارة الحوارات وقوة أقناع وحجة ومعطيات .
طيلة فترة عقد الجبهة لم تهدأ مشاكلنا اليومية مع البعثيين أحيانا بأتفه الحجج الواهية . كان شيخ الشيوعيين محمد الدفاعي هو الذي يرشدنا برأيه السديد ونصيحته الحسنة متحملاً ضغوطات كبيرة من تسلكات البعثيين وأستفزازاتهم ، ومن باب الرزق فتح محلاً  لبيع المواد الغذائية في منطقة الحمام في وسط القرية ، مما أصبح مركزا حزبياً للقاءات وتحديد مواعيد الاجتماعات وتوزيع أدبيات الحزب من جريدة ومجلة وبيانات .
الشاعر خليل المعاضيدي أبن أخت الراحل محمد الدفاعي ، كان معتقلاً عندما زار وزير الداخلية سعدون شاكر القرية مسقط رأسه عام 1982 وبعد كل زيارة يخرج بمجموعة شباب من قلعة الهويدر منتسبين الى سلك الامن والمخابرات والاستخبارات وضمن تلك الزيارة عرج سعدون شاكر على بيت محمد الدفاعي وتمنى منه أن يطلب شيئ منه سواسية بالآخرين من سكنة المنطقة وأبناء قريته .
فوقف أبو قاسم متأملاً بوجه سعدون شاكر بمعرفة مصير أبن أختي الشاعر خليل المعاضيدي المغيب في سجونكم . فتفاجأ بجوابه لا تكلفني بقضايا أكثر من طاقتي وحدود مسؤوليتي المعروفة لك على ما أعتقد ، أنتهى الكلام مما ترك غصة في نفس المناضل محمد الدفاعي .
عندما فرط التحالف مع البعثيين لم يقتربوا منه ربما لمعرفتهم المسبقة بموقفه تجاه آلية هذا التحالف وموقفه الصلب ، كنا جميعا نلتم حوله سواء كنا داخل التنظيم أو خارجه . قرأ ماركس وأفكاره بوقت مبكر بمنظور نقدي فلسفي مختلف وبرؤى عملية وواقعية محاولاً وجاهداً بعكس أولويات تلك الافكار على واقعنا اليومي المعاش بطريقة سلسة وبسيطة ومفهومة . كان محاضراً ملهماً لموضوعة التحالفات على أسس الماركسية وربطها بالعوامل الموضوعية والذاتية والاسس التي تبنى عليها . ويعتبر التحالفات مع عقليات البرجوازية الوطنية أن صح التعبير ذو مفترق طرق قد تؤدي الى الانتحار ، إذا لم تستثمر تلك التحالف على أسس سياسية صحيحة والعلاقة بين الستراتيجية والتكتيك . إذن .. فرط التحالف مع الحليف البعثي وبقى طوق أبو قاسم شامخأ بين ناسه وأهله ، حدثوني أهلي بعد سنوات طويلة من اللقاء بهم عن أبو قاسم وكلماته كلما ألتقاهم التهدئه من روعهم من أثر غيابي ومصيري المجهول  رزق بعدد من الأبناء والبنات ، وكان الاكثر ممن حمل شعلة والده قاسم  القريب الى القلب والعقل ، والذي مرة بتجربة علاقة حب إنتهت بطريقة تراجيدية حزينة ، وكانوا مصير الآخرين من أولاده سلام ، ثائر ، خالد ، رباح ، عادل صعبة بعد غيابه . قبل سنوات كتب قصة حياته ” رواية ” بعنوان قرب النهر ” الدكتور عبد الحسين أحمد الخفاجي ، وقد أهداني نسخة منها . في العام ١٩٨٢ آخر أيامي قبل الالتحاق مع الثوار الشيوعيين في الجبل ، تسلل من الجبل الشيوعي عبد الزهرة العامري محاولاً لإعادة التنظيم بتكليف من قيادة الحزب وقصد بيتنا للإختفاء والتحرك في ذلك الظرف الصعب والمخيف في تاريخ العراق السياسي ، وحاولت والدتي أخفائه ومساعدته بتنفيذ مهمته لكن واجهتنا عدة صعوبات وهذا أمر واقع آنذاك ، فجرى الاتصال بالصديق عدنان صافي والمرحوم ماجد صبري ، لكن الظروف كانت أصعب وشديدة الخوف بعد أن عرفوا أهله فزاد الخناق الى مستويات الانتحار وفضح الأمر سيؤدي الى كارثة محدقة تحرق الاخضر والبابس ، فذهبت الى المناضل محمد الدفاعي ووضعت الحقائق أمامه ، وضمن حنكته وهدوئه المعهود طالبنا وبالسرعة الممكنة ترتيب وضعه وأخراجه من القرية قبل وقوع الكارثة ، وأخذت الامور على عاتقي وتمكنت من أخراجه ليلاً من القرية ووصوله الى الجبل مرة أخرى ، فتنفسنا الصعداء بعيداً عن أي أذى ، كان قاب قوسين . لترقد روحك بسلام ، أيها المناضل محمد الدفاعي .

23
المنبر الحر / صورة ألبير كامو …
« في: 09:16 11/08/2022  »
صورة ألبير كامو …
سيزيف مابين العبثية والمعنى |
كل شيء يبدأ بالوعي … ولاقيمة لشيء من دونه ” ألبير كامو ”.
   
قد يسأل البعض ؟. عن دوافعي في الكتابة عن تلك الرموز الأدبية والفكرية والسياسية والفلسفية والتاريخية والنضالية والاجتماعية والفنية بدءاً من عبد الرحمن القصاب وباقر إبراهيم وطه صفوك ووحيدة خليل وتورغنيف وتولستوي وعبد الفتاح إسماعيل ورشا فاضل ويسينين ومايكوفسكي وباسترناك ولليندي وعامر عبدالله ومهدي أبن بركه وعلي الجبوري ومحمد الدفاعي وضياء نافع وحياة شرارة وغادة السمان وعبد الحسين شعبان وحسين سلطان وسامي كمال وشوقي الماجري وجون نيكسون وعامر السعدي وحسقيل قوجمان وسلام عادل وساسون دلال وخليل عبد العزيز وفاضل البراك وبيريا حارس ستالين الخاص وبشرى عباس وأستروفسكي وأنا ليند وعمر أحمد إسماعيل وبوشكين وستار غانم وليرمنتوف وخزعل السعدي وعبير الجنابي ويهودا صديق  وخالد أحمد زكي وبهاء الدين نوري وآخرون . أنني أشعر بالانتماء الى هذا السجل الانساني في تحديد مسارات الحياة سواء أختلفت أو أتفقت معهم وبغض النظر عن مواقعهم وعطاءاتهم المختلفة .أما أنتم قد تختلفون أو تتفقون فالآمر سيان ؟.

مابين حربين ولد ونشأ الفيلسوف الوجودي والروائي والسياسي ألبير كامو لأب فرنسي مزارع وأم إسبانية في قرية الذرعان التي تعرف ببلدة مندوفي بمقاطعة قسطنطينة الجزائر العام ١٩١٣ وبعد عام من ولادته قتل والده في الحرب العالمية الأولى ، وأخذت والدته على عاتقها مسؤولية تربيته مع أخيه مما أضطرت وبسبب الظروف الصعبة أن تعمل ( خادمة ) في البيوت . نشأ في جو عائلي فقير ومضطرب ومحيط قلق ومجهول بسبب شبح الحرب والفقر والعوز ومعاناة والدته في العيش مما تركت بصماتها الواضحة على علاقته الجدلية بين إبداعه والعبث والأنتحار وعلاقته بأسطورة سيزيف وصخرته مع الفتى الأسطوري الاغريقي في حملها الى أعلى مرتفع قمة ودحرجتها مرة أخرى وأخرى ويظل هكذا الى الأبد وصبر المرء وقدرة التحمل وروح التحدي وأساس الوجود في خلق الانسان ليتلقى هذا المصير من العذاب  السرمدي وتمرداًعلى عبث الوجود ، كما كان يشير له النقاد ملك أدب العبث ، وقد نظر الى القضايا الحياتية الاجتماعية والسياسية من منظور فلسفي وميتافزيقي والتي تدين العنف الثوري والذي يؤدي الى مجيء الأنظمة الاستبدادية في خنق حرية الناس ومصادرة حقوقهم ، ومن خلال نصوصه الادبية والفلسفية يدعوا الى لغة الحوار بين الثقافات ودعم الابداع والمبدعيين مما شكل هاجس له في نقد سياسة ستالين في قمعه لحرية الابداع والرأي الآخر  . في بداية مشواره السياسي أنضم الى الحزب الشيوعي الفرنسي وسرعان ماأنفك عنه بل أصبح معادياً لسياسته  في نزعته الستالينية في معالجة قضاياه وعلاقته مع مصير الشعوب  . ولقد سخر قسم كبير من كتاباته الأدبية ولقاءاته الصحفية ضد سياسة ستالين في إدارة دفة الحكم ، وهو الذي لعب دوراً وهيأ له في منح الروائي السوفيتي بوريس باسترناك جائزة نوبل للابداع عن روايته دكتور زيفاكو والتي منعت من الطبع والنشر في بلاده فهربت كمسودة الى إيطاليا فذاع صيتها في العالم ، ظلت التكهنات الى وقت متأخر تشير الى المخابرات السوفيتية بالتعاون مع السلطات الفرنسية في قتله من خلال حادث سير مدبر في باريس ١٩٦٠ . كما يروجها بين الحين والآخر الكاتب والشاعر الإيطالي جيوفاني كاتيللي حول تآمر سوفيتي / فرنسي في التخلص من صوته العالي في إنتقاده للسياسة السوفيتية  ، كانت نهايته مأساوية كأنها نهاية فلسفته العبثية حول الحياة والموت . شكل مع رفاقه خلية الكفاح للمقاومة الوطنية الفرنسية ضد الاحتلال الالماني لبلده ، وعندما تحررت فرنسا تحولت الكفاح الى جريدة رسمية مسؤولها الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر لكن ألبير كامو قاطعها لاختلاف الرؤى بينهما من الموقف من ستالين وسياسة الحزب الشيوعي الفرنسي ، وظل خصمه اللدود في مجالات الموقف والابداع والفلسفة .

من المواقف التي يشار له بالبنان وقفته أنه ألبير كامو مع المقاومة الجزائرية في نضالها ضد الاستعمار الفرنسي وطالب ساسة بلده من ترك الاراضي الجزائرية وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية ، ومنح شعب الجزائر حرية الاختيار والعيش والحياة . شهدت فترة عمره ٤٧ عاماً معتركات ومعارك فكرية وأدبية وسياسية كانت أبرزها مع رفاق الوجودية جان بول سارتر وسيمون دي بفوار .

ومن أعماله الادبية الكبيرة رواية الغريب والطاعون وأسطورة سيزيف بين العبثية والتمرد والسقطة والرجل السعيد الذي يروي بها سيرته الذاتية عن حياته في الجزائر ، ومن العظام من فلاسفة ومفكرين الذين تأثرا بهم كارل ماركس وفيودور دوستوفسكي وفرانز كافكا . في العام ١٩٥٧ حصل على جائزة نوبل للاداب عن باكورة أعماله الادبية . في العام ١٩٤٧ كتب روايته الطاعون في مدينة وهران الجزائرية عندما أجتاحها وباء الطاعون وتحولت المدينة الى أشباح والشوارع فارغة .
وفي وصف مخيف في روايته لوباء الطاعون على لسان أحد أبطالها ( عندما يعم الوباء تزحف القبور الى المدينة ) ، وأرتباطاً بما يجتاح العالم اليوم من وباء ( كوفيد ١٩ ) فيروس كورونه ، حيث طبعت الرواية ملايين من النسخ في أيطاليا لشدة الاقبال ومتابعة قراءتها مجدداً أرتباطاً بتطورات الاحداث حول جائحة كورونا .
محمد السعدي

24
الآن بدأت ساعة التجربة . ”الشيوعيون والحرس القومي”.

الواجب الوحيد المترتب علينا حيال التاريخ هو إعادة كتابته ” أوسكار وايلد.

بهذه الجملة المختصرة والعميقة خاطب الشهيد سلام عادل سكرتير حزب الشيوعيين العراقيين رفاقه ” الآن بدأت ساعة التجربة  ” الذين إعتقلوا معه في يوم ١٩ شباط ١٩٦٣ في معتقل نادي النهضة في الكرادة الشرقية في الساعات الاولى من عملية الإعتقال . طيلة أيام ثورة تموز ومنذ أيامها الاولى شب الخلاف الى درجة التصادم والاحتراب بين قادتها الزعيم عبد الكريم قاسم والمشير عبد السلام عارف حول المواقع والمناصب السيادية مما أدى هذا الخلاف الى معسكرين متحاربين متخندقين بين الزعيم قاسم ومعه الشيوعيين وفي المعسكر المقابل المشير عبد السلام عارف ومعه القوى القومية والبعثيين ، ومن زاوية آخرى بين الزعيم قاسم والشيوعيين ، ويذكرنا التاريح بخطابه الشهير في كنيسة ” مار يوسف ” يوم ٢٩ تموز ١٩٥٩ ، بشن حملة قمع ضد الشيوعيين ومنح فرصة للقوى الرجعية والبعثيين في إستهدافهم وهم بالمئات وبتغطية من حكومة قاسم ، يذكر المستشار الشخصي للزعيم قاسم الضابط جاسم العزاوي في أوراقه ” ثورة ١٤ تموز أسرارها ، أحداثها ، رجالها حتى نهاية عبد الكريم قاسم ” في أحدى الليالي رافقت الزعيم الى موقع الكتيبة الرابعة ” كتيبة المثنى ” للدبابات في أبي غريب وخاطب ضباطها وجنودها بعد أن زج بآمرها المقدم خزعل السعدي في سجن رقم واحد وعين بدل عنه الضابط البعثي خالد مكي الهاشمي ومساعده القومي خالد حسون فريد ، أن تحولوا مسار الكتيبة من خطها وصبغتها الشيوعية الى خط ثورة ١٤ تموز  ، وبعد إن حولها الضابط الشيوعي خزعل السعدي الى خلية شيوعية وسيطر على مرسلات الإذاعة في أبي غريب ، وبعد هذا التغير أصبحت الكتيبة الرابعة ومرسلات الإذاعة وكراً للبعثيين والمتآمرين على الزعيم والثورة ، وكانت رأس الرمح وبداية الإنطلاق ضده يوم ٨ شباط ١٩٦٣ . ولم يستجن البعثيين ومعهم القوى القومية في حياكة الدسائس والانقلابات ضد ثورة تموز وزعيمها والشيوعيين ، ولم تكن تلك التحركات بعيدة عن رصد الشيوعيين ومتابعة خيوطها ، لكن الواقع كان خارج أرادتهم بسبب سياسة قاسم أتجائهم في تقليم أظافرهم وتحديد حركتهم رغم ثقلهم السياسي والاجتماعي والتاريخي ومواقعهم الحساسة في أجهزة الدولة . ولكثرة التسريبات التي كانت تصل للشيوعيين عن نية وموعد ويوم التحرك والانقلاب مما أضعف يقظة الشيوعيين في أخذها على محمل الجد . إن ما حدث يوم ٨ شباط ١٩٦٣ عندما علمت أحدى غانيات من عشيقها وهو ضابط مشارك في الإنقلاب أن يوم ٨ شباط سيقود به حزب البعث إنقلاباً عسكرياً ضد نظام عبد الكريم قاسم حيث كان المقدم البعثي ”حاتم حسن الكرخي ” له عشيقه اسمها ” فريال ” فكانت  تتردد عليه بصورة دائمة ، وتستدرجه للكلام ، فتعرف عن طريقه الأخبار والمعلومات التي تؤكد عن قرب وقوع إنقلاب ضد الزعيم قاسم ، وكانت بدورها تقوم بنقل هذا الأخبار الى قادة الحزب الشيوعي الذي تربطه بها صلة وثيقة وذلك عن طريق القيادي الشيوعي ” عبد الرحيم شريف ” ولكثرة ما نقلت فريال من مواعيد للإنقلاب عن طريق عشيقها المقدم فقد الحزب الشيوعي ثقته بهذا المصدر . فبادرت هذا الغانية الى أخبار أقربائها من الشيوعيين الذين بدورهم أبلغوا القيادي جمال الحيدري ، وعند منتصف الليل قام الحيدري بإبلاغ هذا الخبر الى مكتب لجنة بغداد التابعة للحزب الشيوعي ومن خلالها تم إبلاغ سلام عادل بالخبر . فذهب سلام عادل الى دار جورج تلو مسؤول المكتب العسكري في الحزب الشيوعي ، طالباً وعلى وجه السرعة والدقه منه إتخاذ الإجراءات الضرورية الممكنة ، وقد أكد عليه بصورة خاصة إبلاغ جلال الاوقاتي بمغادرة الدار التي يسكن فيها والمبيت في مكان آخر وبسبب الشتاء البارد لم تشتغل سيارة جورج تلو ، فأجل التبليغ الى الصباح فكانت تلك على حد تعبير زوجة سلام عادل ثمينة ناجي يوسف ” غلطة العمر ” ذهب ضحيتها الآف من العراقيين وضاع العراق الى يومنا هذا . وفي صباح ٨ شباط ١٩٦٣ تم قتل جلال الاوقاتي من قبل مجموعة تابعة للحرس القومي أمام دار بيته ، وفي الصباح عندما أتصل سلام عادل عن طريق الهاتف بمنزل جورج تلو مستفسراً منه هل ذهب الى الاوقاتي وأخبره بما تم الأتفاق عليه قبل ليلة الإنقلاب فأجابه بالنفي مما أدى بسلام عادل وبصورة إنفعالية الى شتم جورج تلو وأغلق الهاتف بوجهه ، فلم يشاهد سلام عادل منفعلاً مثل هذه المرة في حياته . كانت خطة الإنقلابيين وساعة صفرهم الأولى التخلص من جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية لعدة حسابات في بيدرهم بما يتمتع به من قوة وحنكة ومهنية ، وقيادته ٤٠٠ ضابط طيار ومنهم ٧٠ طيار شيوعي وبمقتله لقد شلت حركتهم تماماً ، وكان هناك أيضا خوف من الإنقلابيين لو قتل الزعيم قاسم ونجا الاوقاتي سوف هو من يدير دفة الحكم وهذه في حساباتهم ستكون نتائجها سلبية عليهم ، وفي نفس الصباح لقد نجا من الاغتيال الضابط الشيوعي سعيد مطر ، ووصفي طاهر ، وفاضل عباس المهداوي ، وعبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري ، والذي قاتل الإنقلابيين الى آخر نفس في ساحة وزارة الدفاع .

وفي الساعات الأولى من الإنقلاب سارع الشيوعيين العراقيين وعلى صوت ولسان زعيمهم الشهيد سلام عادل الى مقاومة الإنقلابيين ”” إلى السلاح اسحقوا المؤامرة الأستعمارية الرجعية إيها المواطنون ، ياجماهير شعبنا العظيم المناضل إيها العمال والمثقفون وكل المواطنين ، والديمقراطيون الآخرون قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين والمتأمرين بمحاولة يائسة للإستيلاء على السلطة أستعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الأستعمار والرجعية ””” ولقد تلا سلام عادل هذا البيان ، بعدما ” نجا من عملية إغتيال ” تعرض لها وهو يحمل على الاكتاف إلى ساحة التحرير قبل أن يقرأ هذا البيان ( البيان الأول ) ، ولم تكشف الجهة التي أطلقت عليه الرصاص عن نفسها ، وما كاد ينتهي سلام عادل من قراءة هذا البيان حتى بدأ الآلأف من الجماهير تتدفق الى الشوارع وهي عزل بالدفاع عن الثورة ومكتسباتها . ويصفهم حنا بطاطو في كتابه تلك الجماهير الشيوعية التي تدفقت الى بوابة وزارة الدفاع (( كان منظرهم مأساوياً كقطيع من الغنم يسرع الخطى مهرولاً إلى المسلخ )) . ولقد رفض الزعيم قاسم بتسليحهم خوفاً من إراقة الدماء كما يتداولون ، وأنا في أستنتاجي ومن خلال قراءاتي للحدث عبر دراسات وقراءات متنوعة ، كان وراء ذلك القرار هو خوف الزعيم من الشيوعيين لو فشل الإنقلاب حسب تقديراته سوف يستلمون السلطة الشيوعيين وهذا ما كان يتوجسه دائماً إتجائهم طيلة أيام وسنوات الثورة ، ودراما إراقة الدماء سالت منذ الصباح الباكر وتمرد عليه كل قادته العسكريين ودكت مدافع وصواريخ الإنقلابيين كل شبر في بغداد من المواقع الحساسة والمهمة . وذهب الزعيم بجلده الى الموت بإتجاه وزارة الدفاع ، وكانت تعليمات الحرس القومي للاعضاء الذين يراقبون بيته في ذلك الصباح لو سلك طريقه الى مبنى وزارة الدفاع إتركوه أن يكمل طريقه بل سهلوا له المهمة ، لكن لو غير الإتجاه الى معسكر الرشيد مقر اللواء التاسع عشر أو إلى أي إتجاه آخر غير وزارة الدفاع أمطروه بالرصاص . وقد حصر نفسه مع مريديه في مبنى وزارة الدفاع وحاول عابثاً الاتصال بقادته العسكريين والجميع بدون إستنثاء غلق سماعة التلفون بوجهه ، وبدأ يستنجد بقادة الإنقلاب من أجل إجراء المفاوضات وأنقاذ حياته ولم يتحقق شيئ مما أضطر صباح اليوم التاسع من شباط بتسليم نفسه الى الإنقلابيين مع عباس فاضل المهداوي ، وطه شيخ أحمد ، وكنعان خليل حداد ، وقاسم الجنابي . وقادوهم الى مبنى الاذاعة والتلفزيون في الصالحية ونفذوا بهم حكم الإعدام ما عدا قاسم الجنابي سحب من ستوديو التصوير بآخر لحظات ، ومن الذين قاتلوا الإنقلابيين بشراسة في ساحة وزارة الدفاع ومات عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري . 

ندد الشيوعيون بالإنقلاب وبينوا بأن هذا الإنقلاب تقوده مجموعة من القوى الرجعية هدفه أن يتحد هؤلاء للقضاء على الشيوعية في العراق ، وفي يوم ١٧ شباط ١٩٦٣ قامت مجموعة من الحرس القومي عند أحد حواجز التفتيش بإلقاء القبض على حمدي أيوب عضو القيادة المحلية للحزب الشيوعي وبعد إعتقال حمدي أيوب أنتقل سلام عادل الى بيت أستأجر حديثاً ، حيث كان يقيم في هذا البيت مسؤول لجنة الفلاحين للحزب الشيوعي ستار الخواجه وزوجته ساجدة طخه والمراسلة الحزبية لسلام عادل روضه عبد اللطيف ، وكان سلام عادل قد ألتقى قبل يوم من إعتقاله في ذلك البيت هادي هاشم الاعظمي ، فكان الأخير هو الشخص الوحيد الذي يعرف بمكان البيت من غير ساكنيه ، وعندما أعتقل العاني في بغداد ، وقد أخذ إلى مركز شرطة الفضل الذي كان فيه مقر للحرس القومي فكان التحقيق معه شديداً ولمدة يومين متتالين ، مما أدى إلى أنهياره تحت التعذيب فقادهم إلى حيث يسكن هادي هاشم الأعظمي عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في أحد الأوكار الحزبية التابعة للحزب وذلك في يوم ١٩ شباط ١٩٦٣ ، والذي كان معروفاً عنه بين الشيوعيين بأنه الشيوعي الذي لايعترف مهما كانت قسوة التعذيب ، ولكن الأمر هنا أختلف تحت هذا الظرف الحرج ، لقد خان الحزب وقدم للإنقلابيين معلومات وتفاصيل كاملة بنفس اللحظة والساعة واليوم عن جميع الأوكار الحزبية وقادهم بنفسه الى بعضها ، ولم يتعرض الى أي نوع من التعذيب ، كما أعلن في ظروف طبيعية لاحقه وبعد سنوات طويلة وللتكفير عن خيانته بإنه فقد ثقته بالحزب الشيوعي العراقي ، وقال : ( أن الحزب الشيوعي العراقي يقف أمام تقدم المجتمع ) ، وذلك أصبح هو الخائن في أدبيات الشيوعيين والذي سلم البيوت الحزبية التابعة للحزب الشيوعي العراقي إلى الحرس القومي ، كما يذكر صباح المدني في أوراقه أحد منتسبي الحرس القومي بإنهيار وتعاون هادي هاشم الاعظمي منذ اللحظة الأولى وبدون أي ضغوطات عليه ، حيث كان منهاراً ومرعوباً ومندهشاً عما آلت إليه الاحداث .

وفي نفس اليوم من يوم ١٩ شباط ١٩٦٣ ، قام صباح المدني بتجهيز مفارز من قوات الحرس القومي داهمت أوكار الشيوعية في بغداد حسب الاحداثيات الدقيقة التي أعطاها لهم هادي هاشم الاعظمي ، فكانت البداية نقطة الانطلاق منزل سلام عادل الواقع بين تل محمد وبغداد الجديدة ، فلم يجدوه فأعتقلوا ساكنيه وهم ” بتول الحكيم وزوجها هاشم الحكيم وأختها آمنة الحكيم وأبن سلام عادل ” علي ” البالغ من العمر سنتين وثلاثة أشهر ، ولم يتعرف عليه الإنقلابيين بإنه أبن سلام عادل مما كتبت له حياة جديدة . ثم هاجم الحرس القومي بيتاً آخر في الكرادة الشرقية فوجد به سلام عادل حيث نزل من الطابق الثاني وهو بكل قيافته ، فكان يرتدي بدله وربطة عنق وبيديه حقيبة فيها بجامته ، فكان متهيئاً للإعتقال ، فأقتيد هو ومن كان معه معصوبي الأعين إلى نادي النهضة بالكرادة الشرقية ومعه كل القيادة الشيوعية ، بعد مداهمة ٣٣ بيتاً حزبية في بغداد ، فأعتقلت جميع قيادات الصف الأول والثاني والثالث والبالغ عددهم أكثر من أربعين رفيقاً. ويؤكد رجل الحرس القومي صباح مدني في حوار مع الباحث فايز الخفاجي ، الذي قاد المداهمات والتي تمت في ليلة واحدة فقط يوم ١٩ شباط ١٩٦٣ ، ويذكر صباح المدني الى نفس المصدر السابق الحوار الذي جرى بينه وبين سلام عادل ، حيث أستمر هذا الحوار ما يقارب الخمس ساعات في نادي النهضة بالكرادة الشرقية ليلة الإعتقال فبدأ في الساعة الثانية عشر ليلاً الى الخامسة صباحاً من يوم ٢٠ شباط ١٩٦٣ . فسأل صباح المدني سلام عادل عن البيانين اللذين أصدرهما الحزب الشيوعي في يوم الإنقلاب ، وعن رفع السلاح ضد الإنقلاب وهم ” أي الشيوعيين ”لا يمتلكون أسلحة كافية لمقاومة الإنقلاب ، فلم تزود جماهير الحزب الشيوعي ومنتسبيها بالسلاح الكافي هذه الحقيقة أعترف بها عضو اللجنة المركزية للحزب زكي خيري حيث أشار ” بأن الحزب الشيوعي لايمتلك المال والسلاح الكافي في يوم ٨ شباط ١٩٦٣ لمقاومة الإنقلاب ”. ولذلك زج الشيوعيون بمعركة خاسرة ؟. فأجاب سلام عادل على تساؤلات صباح المدني في أن البيانين صدرا بأمر مني وليس بأمر من قيادة الحزب الشيوعي وأنه أخطأ عند رفع السلاح بوجه الإنقلاب وأنه مستعد أن يصلح هذا الخطأ بمجرد أن يلتقي بعلي صالح السعدي ولكن اللقاء لم يتم لأن الأخير كان موجوداً في مصر ، وذكر صباح المدني أنه أي سلام عادل لم يتعرض للتعذيب ولا القيادة الشيوعية التي كانت معه عندما كانوا معتقلين في ” نادي النهضة ” أي في اليوم الأول من الإعتقال ، ويصف صباح المدني سلام عادل … كان شخصاً قوياً متماسكاً لم يتجرأ أي شخص من أفراد الحرس القومي أن يوجه له أي إهانة في تلك الليلة . وبعد سنوات طويلة من تلك الحدث خرجت قراءات جديدة ومعطيات أكثر واقعية لو تريث سلام عادل في تصديه للإنقلابيين من خلال بياناته من أجل إعطاء فرصة عما ستؤول أليه الاوضاع ، وهناك معطيات تشير وأكدها الواقع المرير ، إن تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في عموم العراق لا تملك قطعة سلاح فعالة وأن أمتلكت بعض المحليات الحزبية في مدينة الثورة أو منظمة الكرخ فهي صدئة وقديمة وغير فعالة ، ويعلق الصحفي شامل عبد القادر على ذلك ”” لقد بدأ الحزب الشيوعي العراقي في تصديه للإنقلاب كحيوان الفقمة الذي لايقوى على تحريك ثقل جسمه اللزج إلا إذا تساقطت أجزاء كبيرة منه على جانبي طريق سيره ”” ،  وهذا الموقف المعلن ضد مجيء البعثيين ، دفع الإنقلابيين الى إصدار بيانهم المشؤوم رقم ١٣ في إبادة الشيوعيين ، عندما قرأت المذيعة هناء العمري زوجة علي صالح السعدي فيما بعد ، البيان الصادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة بصورة متشنجة ومنفعلة ومحرضة تتخلله موسيقى حماسية وأناشيد مصرية ” حيث قامت الإذاعة بحث الناس على مطاردة الشيوعيين أينما كانوا ” ، فكان هذا البيان الأسوء من نوعه في تاريخ العراق المعاصر . وكان البيان بتوقيع الحاكم العسكري العام رشيد مصلح التكريتي . وكان البيان متشنجاًعلى كل المستويات ، وقد صدر البيان من مقر الإذاعة والتلفزيون في الصالحية بعد أنتقال مجلس قيادة الثورة إليه . وظل الخلاف قائماً في وجهات النظر فيما يخص الشخص الذي دفع بصدور البيان رقم ” ١٣ ” فبينما يشير حازم جواد أن طالب شبيب هو الذي دفع بصدور البيان رقم ١٣ وأصر عليه ، وأنه أصر أيضاً على وضع أسم الشيوعيين في البيان ، بينما أراد حازم جواد كما يدعي أستبدال هذه اللفظة ” الشيوعيين ” ب ” الفوضويين ” ولكن طالب شبيب أصر على لفظة الشيوعيين لكي يتم تشخيصهم بصورة واضحة ”. كان البيان رقم ١٣ أحد محطات الرعب التي لاتمحى ولاتنسى نتائجه من ذاكرة الشيوعيين العراقيين على مر الأجيال ، فكان ضربة موجعة للحزب الشيوعي العراقي بمثابة أعلان إبادة جماعية . وعندما سأل الصحفي اللبناني غسان شربل في لندن حازم جواد قائلاً له هل هناك بقعة دم في يديك أو ضميرك ؟. فأجاب جواد : ” أن المذابح التي حدثت بعد ٨ شباط ١٩٦٣ مثلت بقعة دم في ضميري ”.
وضمن هذا السياق والفوضى ، يذكر صالح مهدي عماش ”” أنه تم إعتقال في أول يوم من الإنقلاب ٨٠٠ ضابط شيوعي منهم ١٥٠ طيار بحيث بقيت المطارات بدون طيارين ، وتم إعتقال ٤٠٠٠ شيوعي ، فقتل الكثير منهم في ٨ شباط ١٩٦٣ بدون محاكمة .

في يوم ٢٠ شباط ١٩٦٣ ، أي بعد يوم واحد من إلقاء القبض على القيادة الشيوعية في العراق فتح قصر النهاية كمقر للتعذيب وتركز التعذيب في ثلاثة أماكن من القصر ” السرداب ” الطابق الأعلى ”ومقر ما يدعى بلجنة التحقيق في الطابق الثاني ” وسرداب قصر النهاية يضم ثلاثة ردهات يجتاز النازل إليه بواسطة السلم ممراً ضيقاً الى السرداب نفسه ، والردهات مختلفة في مساحتها والردهة الأخيرة تتجمع فيها المياه القذرة بأنابيب خاصة متجمعة من مغازل القصر ، ورصفت أرضه بالأسمنت وفيه شبابيك أغلقت بالطابوق ، وتوجد في سقف السرداب أماكن لتعليق المراوح أستخدمت لممارسة التعذيب ، ونقلت إلى ردهات السرداب مياه قذرة حتى يجبر المعتقلون للتمرغ فيها عندما بفقدون القدرة على الوقوف ، أما الطابق الثالث فقد مورس التعذيب في غرفه الثلاث وسطحه الواسع وكان هذ الطابق هو مقر ”الهيئة العامة ” وهي أعلى هيئة للتعذيب في جميع أنحاء العراق . نقل الحرس القومي سلام عادل ورفاقه الى المبنى الجديد ” قصر النهاية ” كان يترأس لجنة التعذيب والتحقيق مدحت إبراهيم جمعة وكان بجانبه محسن الشيخ راضي ، فكان الأخير صاحب الكلمة الفصل في هذه اللجنة بينما كان مدحت إبراهيم جمعة رئيساً شكلياً لهذه اللجنة ، وقبل بدأ التعذيب من قبل الحرس القومي لسلام عادل ورفاقه خاطب سلام عادل جميع رفاقه المعتقلين معه بقوله : ….

” الآن بدأت ساعة التجربة ” ولما كسر أحد أفراد الحرس القومي يده اليمنى أثناء التعذيب قال : (( لولا الانسانية لقلت لك أكسر اليسرى )) ، وكانت القيادة الشيوعية تعذب من جلوس بينما سلام عادل كان يتعرض للتعذيب وهو واقف وذلك بسبب أن أفراد الحرس القومي الذين كانوا يشرفون على تعذيبه قد عرفوا من هادي هاشم الأعظمي أنه مصاب ” بعرق النسا ” فزاد هذا التعذيب من معاناته ففقد الوعي على آثرها وقام يهذي ، وأستخدم الحرس القومي بحق سلام عادل طريقه خارجه عن المألوف وشديدة وقاسية واللياقة الأخلاقية . عندما أتهموه بأن له علاقة ” غير شرعية ” مع مراسلته الحزبية ” روضة عبد اللطيف ” التي أعتقلت معه في نفس البيت الذي أعتقلوا به سلام عادل ، وذلك بسبب أنها كانت تتقيأ باستمرار فلما فحصها البعثي عصام الراوي الطالب في الصف السادس من كلية الطب ، وجد أن سبب التقيؤ ناتج عن تمزق معدتها أثناء ركلة تعرضت لها أثناء التعذيب من أحد أفراد الحرس القومي . وأثناء وجود سلام عادل في المعتقل ذكر حازم جواد أنه ألتقى به ، فطلب التفاوض مع قيادة حزب البعث ، ولكن حازم جواد رفض ذلك وأعتبر هذا الحوار بمثابة ” حوار بين السجين والسجان ” في حين ينفي كثير ممن كانوا شهود عيان على تلك المدة من عام ١٩٦٣ ما ذكره حازم جواد وأنه بعيد عن المصداقية .


”” وتذكر المعتقلة الشيوعية زكية شاكر أنها شاهدت سلام عادل يوم ٢٧/٢٦ شباط ١٩٦٣ ، وقد شوه جسده من التعذيب ، ولم يعد من السهل التعرف عليه ، فقد فقئت عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين ورش الملح والفلفل فوق جسده المدمى لزيادة الآمه وأشرف على تعذيبه بشكل وحشي محسن الشيخ راضي الذي كان يحقد عليه بشكل فضيع ””” بينما نفى الشيخ راضي أثناء مقابلة مع الباحث فايز الخفاجي وأيضاً في كتابه الذي صدر حديثاً ” كنت بعثياً ” وأكد أنه لم يلتقي بسلام عادل أثناء إعتقاله إلا خمسة عشر دقيقة في شهر شباط ١٩٦٣ بأعتباره المسؤول عن منطقة بغداد لحزب البعث وهذا يقع ضمن واجبه الحزبي . ومن خلال قراءتي ومتابعتي لهذا الملف في الشأن العراقي تشير كل الدراسات والوقائع أن يوم إعتقال سلام عادل كان يوم ١٩ شباط ومات يوم ٢٣ شباط عام ١٩٦٣ .  ”ويذكر صباح المدني أحد البارزين في الحرس القومي أن الطبيب الموجود في قصر النهاية أبلغه بموت سلام عادل فجاء مسرعاً فوجده قد فارق الحياة ”. ففي الخمسة أيام التي قضاه سلام عادل في المعتقل وما تعرض له من وسائل تعذيب وإهانات ، لقد إستنفذت قواه وإستسلم للموت .

وفي شهادة للتاريخ يصف الطبيب البعثي تحسين معلة ما آلت أليه وضع القيادة الشيوعية داخل معتقل قصر النهاية فيذكر” بعد إعتقال القيادة الشيوعية بأربعة أيام طلب مني حمدي عبد المجيد عضو القيادة القطرية لحزب البعث الحضور لقصر النهاية لعيادة بعض المرضى ، وذهبت إلى هناك وبدأت من سرداب القصر ، فرأيت سلام عادل نائماً وسط السرداب طاوياً نفسه على الأرض مشدود العينين ومدمى . أما جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي عضوي المكتب السياسي للحزب الشيوعي ، فلم يستطع هادي هاشم الاعظمي كشف محل أختفائهما ، وظل الاعظمي يردد لمدة طويلة ”” أن بقائهما طليقين سيعيد تنظيم الحزب الشيوعي العراقي ”” وظل حريصاً على القبض عليهما حتى تموز ١٩٦٣ ، فتذكر الاعظمي أحد الدور الحزبية القديمة التي لقي صعوبة في تحديدها بسبب تغير معالم المنطقة وكثرة البناء فيها ، وفي ٧ تموز ١٩٦٣ داهم الحرس القومي بمساعدة الأعظمي أحدى البيوت السرية التابعة للحزب الشيوعي العراقي وتم إلقاء القبض على جمال الحيدري ، ومحمد صالح العبلي ، والصحفي عبد الجبار وهبي ، فقام الحرس القومي بتعذيبهم تعذيباً شديداً ، فتعرض الحيدري للتعذيب القاسي على يد الحرس القومي فقطعوا أحدى يديه ثم علقوه بمروحة السقف باليد الأخرى ، أما عبد الجبار وهبي فقد قطعت رجله بآلة نشارة من تحت الركبة ، وقام خالد طبرة وسعدون شاكر بحفر حفرة لمحمد صالح العبلي وطالباه بالاعتراف أو الموت فرفض الاعتراف فأطلق عليه سعدون شاكر رصاصة فمات فوراً .

ولم ينجوا من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي من عملية الإعتقالات التي شنها الحرس القومي سوى عزيز محمد في كردستان وزكي خيري ، وباقر إبراهيم الموسوي في الفرات الاوسط ، وعبد السلام الناصري الذي كان خارج العراق ، ففي أول إجتماع للجنة المركزية بعد جريمة ٨ شباط ١٩٦٣ في العاصمة التشيكية براغ عام ١٩٦٤ للملمة الجراح وتسمية سكرتير جديد لحزب الشيوعيين العراقيين حيث وقع الاختيار على عبد السلام  الناصري وسجل حضوراً وقبولاً من قبل المجتمعين وكان الأوفر حظاً ، لكن الزعماء السوفييت أبدوا أعتراضهم على ضوء الاسس الجديدة في نهج سياستهم  تجاه الاحزاب البرجوازية ” الوطنية ” والتعويل عليها من خلال عملية التطور اللا رأسمالي فوقع الاختيار على عزيز محمد وبرغبة سوفييتية بإعتباره عقلية برغماتية وتوفيقية بعيدأ عن الفعل الثوري إذا تطلب الأمر وهذا ما أثبت رهانه طيلة ثلاثة عقود من خلال قيادته لحزب الشيوعيين العراقيين   . وكانت بعض الاحصائيات تبين بأن سبعة من الأعضاء للمكتب السياسي وثلاثة عشر للجنة المركزية كان مصيرهم القتل . أما القادة الشيوعيون الذين انهاروا تحت التعذيب وأدى بهم  إلى الاعتراف على الأوكار السرية للحزب الشيوعي وهم : شريف الشيخ ، وبديع عمر نظمي ، ولطيف الحاج ، وعبد القادر البستاني ، وعصام القاضي ، وباسم مشتاق ، وعدنان جلميران ، فلم يقتصر هؤلاء على الاعتراف بل أجبروا على تقديم براءة من الحزب الشيوعي العراقي . يذكر حنا بطاطو في مجلده ”” أن الحرس القومي ضم بين صفوفه أشخاص متوحشين بصورة حقيقية ””. ويشير في كتابه ” أن ٥٠٠٠ شخص شيوعي قتل بعد الإنقلاب ”. وان العدد النهائي حتى تشرين الثاني عام ١٩٦٣ وصل بحدود ١٢٠ ألف معتقل شيوعي .

محمد السعدي
مالمو/حزيران٢٠٢٢


25
مقاهي قرية الهويدر .. ذاكرة أجيال
محمد السعدي
 
كتب كثيراً عن مقاهي العراق وتحديداً مدينة بغداد من قبل أجيال متعاقبة ومهتمين ورواد منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921م . لكن مقاهي القرى والاحياء والمدن وعلى الرغم من صخبها وتاريخها وشخصيات روادها ومعتركاتها السياسية والثقافية بقيت مهمولة إن لم تكن معدومة من الاهتمام وتسليط الاضواء عليها وعلى تاريخها وحكاياتها .
اليوم .. سأتوقف في تلك الصفحات من سيرة مقاهي قرية الهويدر في محافظة ديالى . أني ولدت في تلك القرية وعشت ، ولأنني ترعرعت بين تخوتها وجلاسها ومالكيها .قرية الهويدر ، التي ولدت فيها وقضيت ثلث عمري ، الذي تجاوز الستين بين درابينها الطينية وعلى تخوت مقاهيها العتيقة وبين أهلها ، هاجرتها مجبراً ، لكنها لم تفك عني على الرغم من مرور تلك السنيين وأنا في المهجر ، وما زالت تعيش في تفاصيل حياتي اليومية في عطر الذكرى والناس والدربونه والنهر والمقهى والارهاصات . إذ لايمر يوم الأ ويهاجمني شريط الذكريات عن طيبة ناسها ورائحة قداحها وطينة نهرها وميائه الرقراقة الزلال ولمعة نحاس المشاريب على أكتاف نسائها وهن عائدات من شريعة نهر ديالى محملات بمياهه وملفعات بتلك العباءات السود . شريط الذكريات يمر بي الى عتبة بيت تلو عتبة أخرى وسحنات وجوه ساكنيه وطيبتهم وميزاتهم وأسمائهم ، أواصل حلمي الى كل دربونه وعكد ، بدءاً من القلعة الى الدوزة الى منطقة الحمام أميل يساراً الى دكان أبي المجاور الى باب الحمام الاهلي الجانبي مدخل سيدات وشابات الهويدر المبجلات بالخجل والجمال الهويدراوي ، يطوف بي تلك الحلم الى بيتنا العتيق الفاصل بين عكديين الحميدية والجبان ، أهيم بحنين بين بيوت الحميدية ويلفعني نسيم هواء بستان أم الهري الى فروع أم البنات عابراً الى درابين الممدية وذكرى صديقي الشهيد ثامر البغدادي في جرينة المطلاع ، وصولاً الى فروع الجرد والفضوة المسكونة بذكريات الصبا ومروراً بمنطقة الجامع ومقهى كامل السعدي ( أبو عيسى ) ، الى الشيخ دكل وإطلالة شريعة نهر ديالى والعبور بالكفه الى قرية السبتية . في منطقة الحمام الملتقى اليومي للناس في ساحة مدورة ولها عدة مخارج ومداخل من والى القرية حيث موقف السيارات التي تنقل الناس الى بعقوبة فضلاً عن  الطلبة والموظفين وعامة الناس سميت بالحمام لوجود وسط تلك الساحة الحمام الاهلي لاهالي القرية ، الذين يرتادوه صباحاً ومساءاً نساءاً ورجالاً . ويعود تاريخه الى منتصف القرن الثامن عشر في العهد العثماني كما يؤكد الباحثون والمطلعون على تاريخ القرية ويعد من اقدم الحمامات التي ما تزال موجودة حتى الآن في محافظة ديالى .
في منطقة ”الحمام ” مدخل قرية الهويدر يحيط بتلك الساحة أربعة مقاهي عاجة بروادها على طول الايام والاوقات في مدخل الساحة مقهى ”صاحب ” حيث تخوتها الخشبية المصنوعة من جريد نخيل قرية الهويدر تمتد على جهتي الشارع يتوسطها شارع مبلط ممشى للناس وطريق السيارات وفي وسط تلك الساحة أستهدف أهالي القرية بالمفخخات بعد الاحتلال الامريكي للعراق لكثرة تجمع الناس وسطها للاشغال والملتقى . مقهى صاحب كان روادها متنوعين خليط غير متجانس من عامة الناس تعج بهم أيام الصيف أكثر من الشتاء لضيق مساحة بناء المقهى الداخلي . وصاحب المقهى هو صاحب أبو فاضل هويدراوي النسب والأصل  يعتمر الجراوية واللباس القروي ويساعده ولداه في خدمة الزبائن فاضل وجاسم .
جذور عائلية
مقهى الحجي إبراهيم الجولاغ في ركن الساحة الممتد الى مداخل القرية من جهة باب الحمام الخلفي المخصص للنساء . رواد تلك المقهى من الشيوعيين والمثقفين مما شكل تحول في عقلية الحاج إبراهيم الجولاغ وهو ذات الجذور العائلية تمتد مع البعثيين والقوميين . إضافة الى التواجد اليومي للحاج جولاغ كان عدنان حمدان أبو محمد هو وجهها المشرق في التعامل مع روادها بابتسامته المعهودة وهو يقدم الشاي اللذيذ والمخدر حسب الاصول المتعارف عليها ، وهو محور الحديث والنكته والهدوء في المقهى . كنا على تخوت تلك القرية نوزع جريدة طريق الشعب ونتناول أهم المستجدات على الساحة العراقية وفي تبادل الاخبار وتحديد مواعيد الاجتماعات الحزبية واللقاءات الاجتماعية ، وكان عدنان ”ابو محمد” شبه منسق للقاءات اليومية في معرفة غياب أحد ما عن الحضور أو الخروج من المقهى لأبلاغ الآخرين  . حاول البعثيين عدة مرات أفساد هذه الاجواء من خلال تطفلهم على رواد المقهى ودس أنفهم بالصغيرة والكبيرة لكنهم فشلوا أمام تلك الروابط من الصداقات والعلاقات والرفقة  .
مقهى ”دردي ” سميت بأسمه السيد دردي وأخيه ”صادق نفس ” اللذان هجرا الى إيران مع عوائلهم عام 1980م رغماً عنهم في قرارات مجحفة وشوفينية وغير مدروسه ولاعقلانية ، كان ثمنها غالياً على طبيعة النظام العراقي ومصيره والذي أعترف النظام لاحقاً بجريمته وأعتبرهاسهواً وخطوة غير مدروسة وردود فعل سلبية وساعة غضب ينتزعون بها الاف العوائل من بيوتهم عنوة ويرموهم على الحدودالإيرانية بعد أن أنتزعوا منهم فلذات أكبادهم وبلا مآوى ولا مؤون. دردي وأخوه  نفس كانا ضمن هؤلاء الذين سيق بهم عبر الحدود وهما بأعمار مسنة ولا دخل لهم بما كان يجري خلف كواليس السياسة ، بعد تسفيرهم وفي الفترات الاولى كان الحزن طاغياً على روادها حزناً عليهم وتضامناً معهم حتى تخوت المقهى كانت خالية من ضجيجها اليومي ، أغلب رواد المقهى كانوا من الشخصيات الاجتماعية في القرية ، وكان في أحد زواياه برجاً للطيور وملتقى للمطيرجية بزعامة بلال وطالب أبو شنب ودعجول في تبادل يومي لاخبار حركة الطيور في القرية وفي البيع والشراء . وبقيت المقهى لسنوات طويلة تحمل أسم دردي وعادت الناس ترتادها ، لكنهم كانوا يضمرون في عيونهم الاستياء والرفض عن ما جرى لاصحابه الحقيقيين ، في إيران عام 1989م ألتقيت ببعض أولادهم ونقلت لهم مشاعر وأحاسيس أهالي قرية الهويدر جراء تعسف تسفيرهم .
مقهى أبو ستار تقع مقابل مقهى دردي في منطقة الحمام لا يفصل بينهما الا شارع القرية الرئيسي وأغلب روادها من البعثيين ومؤيديهم . أبو ستار شخصية شعبية دمث الاخلاق ويتفرد بعلاقة طيبة مع رواد المقهى على مختلف مشاربهم . المقهى داخل بستان ومحاطة بالاشجار وذات فناء واسع ودوماً في فصل الصيف مزدحمة بروادها وشارع المقهى يؤدي الى منطقة السوق حيث جامع الهويدر الذي فيه تجري مراسم عاشوراء كل سنة . في مطلع الثمانينات عائلة الشيباني مالكة البستان التي تتضمن المقهى قرروا تجريف البستان ومن ضمنها المقهى مما أجبرت الظروف العم ابا ستار أن ينتقل الى بداية السوق في طرف ورصيف بستان السيد ” غني الدولمه ورصف التخوت على جانبي الطريق وأنتقل معه أغلب رواد المقهى القديم . فمقهى أبو ستار الجديد مدخل الى سوق القرية .
طراز انيق
مقهى السيد ستار الكهوجي كانت مقابلة تقريباً الى مقهى أبي ستار الجديد . مقهى قديم ببناء وطراز أنيق وتخوت مريحة للجلوس ، لكن روادها قليلون ومن مختلف المشارب والمستويات ، الهدوء والسكون هما الطاغيان على أجواء جالسي المقهى . وتعد من المقاهي القديمة في قرية الهويدر .
مقهى صادق .. لاتبعد الا أمتار عن مقهى ستار الكهوجي تقع بداية ركن السوق المسقف التاريخي والقديم ، يدير تلك المقهى الاخوة الاربعة أولاد ملا إبراهيم أكبرهم صادق ، حمودي ، محمود ، طالب . بعد خروجي من العراق 1983م من ضمن ما تلقيته من أخبار أنها أنتفت حاجتها أن تكون مقهى وتحولت الى علوة للبيع والشراء وجزء أخر ضم الى محل أسطه محمد النجار .
مقهى كامل .. كامل عبد الامير السعدي والد المرحوم عيسى لاتبعد عن مقهى أبناء ملا إبراهيم الا أمتار حيث لايفصل بينهما الا مطعم كباب أموري الشهير على مستوى المحافظة وبرتاده الناس صيفاً وشتاً من خارج  القرية لحسن سمعته ومذاقه الطيب . مقهى كامل تتميز بموقع ستراتيجي مهم مقابل ركناً مهماً جامع القرية وتتميز أيضاً بركنين مهمين للجلوس وتعج بروادها على طول المواسم وروادها من شرائح المجتمع المختلفة وتجمع شيبة وشباب من كل أزقة وفروع القرية .
مقهى هاشم عبيد ”أبو فيصل ” تعد من أقدم مقاهي القرية . تتصدر ركن مهم من سوق القرية قريبة على بيوت منطقة ”الشيخ دكل ” يرتادها كل فئات مجتمع القرية ليلاً ونهاراً ، تميزت بميزة مكانية لموقعها بجوار علوة الهويدر للخضار والفواكة التي يأتي بها الفلاحون من مزارع وشواطيء القرية ، إضافة الى فلاحي قرية ”السبتية ” يحملون محصولهم اليومي من خضار وفواكة عبر عبارة في ضفاف نهر ديالى تسمى ” الثريمة بعد رحيل عميدها هاشم عبيد الى رحاب الله تسلم شؤون المقهى أبنه فيصل وأخوانه.
مقهى علي قاو .. تقع في السوق القديم المسقف ، مقهى صغير وروادها محدودون وخاصون  وبعد رحيل المغفور له علي قاو أستلم أدارتها ولده ” عزيز ” المكنى ب ”عزو ” وبمرور السنيين والايام تعاقب على ادارتها شخصيات أخرى من قرية الهويدر ، حتى لحظة تهديمها.
ظلت ومازالت مقاهي الهويدر وجه القرية للزائرين وأهلها على الرغم من الظروف الصعبة التي مرت بها القرية وما رافقها من تحولات وتغيرات شملت بنيتها السكانية من توسع وعمران . المرور على تلك المقاهي ومعالمها وسماتها وطبيعة روادها وميولهم السياسية وعلاقاتهم الاجتماعية هذاما تحتويه أحشاء ذاكرتي لاربعة عقود قد مضت في درابين ودهاليز السياسة ومعاناة الغربة وإحباطات التجربة .

26
مذكراتي”سيرة أحمد باني خيلاني”٣ والاخيرة .

حول التنظيمات الحزبية في المناطق العربية .
 أود أن أنوه مره أخرى ، أني أنقل النص كما هو مكتوب في سيرة المرحوم ” أحمد باني خيلاني ”

وفي صفحة الكتاب ٣٤٤ يذكر أبو سرباز حول ” حول التنظيمات الحزبية في المناطق العربية ” ويروي ما يلي .

””” واما التنظيمات الحزبية في المناطق العربية العراقية فانيط الى الرفيق ”أبو خولة ” باقر إبراهيم الموسوي واعطى له الصلاحية من قبل المكتب السياسي بان يسحب أي رفيق من التشكيلات العسكرية لهذه المهمة الصعبة والحساسة ومن الذي يراه مناسباً للعمل في الداخل بالاقتران مع استعداده للقيام بهذه المهمة النبيلة والذهاب الى المدن بصورة سرية لاداء مهمته ، ورغم ان ابو خولة كان يعتبر من الاختصاصيين في قيادة التنظيمات السرية ، ولكن ما قام به هو والرفيق عدنان عباس المسؤول الثاني في هذا المجال كان يجلب الانتباه ويثير اكثر من استفسار ، حيث بدل ان يشخص هؤلاء الرفاق من قبله بمساعدة رفيق اخر كمسؤول للمنطقة ويستفسر عن مسئولي القواطع وخاصة من الذين هو اعضاء اللجنة المركزية حول وضع هؤلاءالرفاق المشخصين واخذ آرائهم ومدى صلاحيتهم لهذه المهمة وتبقى هذه المسألة سرية بين المسؤلين الى حين تهيئة مستلزمات السفر لهم بهدوء ودون اثارة ضجة ، الا ان الرفيق ابو خولة قام بعكس ذلك وبدء بتشكيل لجان ومكاتب محلية ومنطقية ، حيث شكل لجنة منطقة الفرات الاوسط بقيادة الرفيق ابو تانيا ”عدنان عباس ” جمع حوله حوالي ثلاثين رفيقة ورفيقا فصلهم عن التنظيمات العسكرية وجمعهم في مكان خاص بهم وكذلك لجنة المنطقة الجنوبية بقيادة المرحوم عبد الوهاب طاهر وجمع حوله مجموعة من رفاق المنطقة الجنوبية واسكنهم في غرف خاصة باسم قيادة قيادة المنطقة الجنوبية وكان الرفيق عبد الوهاب يراسل المكتب السياسي باسم لجنة المنطقة الجنوبية وانفضح هؤلاء الرفاق كل واحد منهم امام الاخر وهذا يعني بان القاء القبض على رفيق لم يستطع الصمود امام العدو ينكشف كل رفيق المشخصين ، وليس هذا فحسب فان بعض هؤلاء كانوا معاقبين من قبل المكتب العسكري لقيامهم بسرقة حيوانات الفلاحين وذبحها ، فان احدهم كان مسؤلا سياسياً للفصيل ومن خلال بضعة اشهر سرق حوالي ٤٨ ثمانية واربعين راس غنم من الفلاحين والذين لم يبخلوا بتقديم اي خدمة لهم ، وقد نحى من لجنة القضاء وفصل كونه مسئولا سياسيا للفصيل ، وما ان ابدى استعداده ولو شكليا للانضمام الى المجموعة العائدة له حتى اعاد له الاعتبار ورفعه الى اللجنة المحلية وكذلك بالنسبة لكثيرين رفعوهم عضو الى لجنة ومن لجنة الى لجنة اقدم ، واما مصير هؤلاء فلم يستطع ابو تانيا ان يرسل احدا سوى اب هيمن الذي اصبح عميلا للامن وكان يسلم الاسلحة التي يستلمها من الحزب يسلمها الى الامن واما الرفيقتين المناضلتين ام ذكرى وام لينا ما ان وصلتا بغداد فقد القى عليهما القبض واستشهدتا تحت التعذيب . اما لجنة منطقة الجنوبية وبغداد ، فقد ارسل الرفيق ابو خولة احد المشخصين الى بغداد واعتقل قبل الارتباط بالتنظيم واعترف واعاده الامن الى منطقتنا ليكون عميلا بيننا واعترف لدى ابو خولة ، ولكنه لم يتخذ اي اجراء بحقه ومنعنا من التحقيق معه واما ابو طالب ارسل لبغداد فقد اصبح عميلا للامن ويخدمهم الى ما بعد انتفاضة اذار وسحب الى كردستان ولقى مصيره سنة ١٩٩٢ . اما مجموعة ابو تانيا ( عدنان عباس ) فأخذهم معه الى قاطع السليمانية على اساس المنطقة ملائمة لارسالهم الى الداخل فعدى المناضلتين ام لينا وام ذكرى فقد القى القبض كذلك على المناضلة ام حازم فقد انسحبوا الى مقر القيادة بعد حادثة بشتاشان وعلى رأسهم ابو تانيا وهيأ الرفيق ابو خاولة الجو المناسب لهم ليتركوا البلد هذا باستثناء الرفاق ابو ناصر وابو طه وابو لينا الذين بقوا معنا وساهموا مساهمة جيدة في قيادة القاطع بكل جهد واخلاص ولم يتركوا ساحة النضال الا بعد خفوت الحركة الانصارية اواخر ١٩٨٨ بعد استخدام الغاز الكيمياوي والانفال ”….  أنتهى النص . 

من يقلب صفحات كتاب ” مذكراتي ” ل أحمد باني خيلاني يجد في العديد من حواراتها غير منصفة وظاهرة الإجحاف والتجني ساطعة بحق رفاقه مردها المواقف السياسية والخلافات الفكرية والتنابزات الشخصية والضغينة والجهل أحياناً ، يبدو ورغم تجارب السنين المرة لم نستوعب ولم نتمكن التخلص منها بتاتاً سكنت نفوسنا وأستوطنت عقولنا وباتت أمراض مزمنة في نفوسناعلى حساب المباديء والقييم والتاريخ والتجربة . يستغل العديد من صفحات كتابه في الطعن برفيقه بهاء الدين نوري ” أبو سلام ” في التقليل من دوره السياسي والنضالي والأستخفاف بعقله وإمكانياته ، ويعزي ذلك الى غروره وطموحه الجامح في القفز الى المسؤول الاول في قيادة الحزب ولم يناله مما أنعكس سلباً على عمله الحزبي ، وحسب رآيه أنتابه شعور بالنقص والعظمة على حد سواء ، مما أدى به الحال آخيراً الى العزلة والإندحار في أحضان الاتحاد الوطني الكردستاني ”أوك”. حسب اعتقاده ؟. ولكن عندما يغيب العقل تتسيد لغة الغبن والاجحاف بحق الآخرين .

عندما عادت المياه الى مجاريها بين الشيوعيين وقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني بعد أحداث بشتاشان  ألتقى ” أبو سرباز ” بنوشيروان وقال له أن بهاء الدين نوري جاسوس ، وعندما ألتقى نوشيروان ببهاء الدين نوري ، قال له أن أبو سرباز يقول .. أنك جاسوس فرد بهاء الدين عليه أذا يكلولي ابو سرباز جاسوس أكول لهم لا ، بس اذا يكلولي مطي وزمال اكول اي والله ”.

موضوعة التنظيمات الحزبية أي إعادة التنظيم الحزبي في المدن العراقية في زمن النظام السابق ، ليس بالأمر الهين ولا السهل أي خطوة بهذا الاتجاه بمثابة الانتحار لشراسة وأساليب النظام ودمويته مع معارضيه ، أنت حتى تنفذ وتمرر أفكارك الى الناس لاتتم الا عبر ” خرم الأبرة ” حتى مع هذا الوسع الضيق لم ينفذ بعض الرفاق من مخالب أجهزة النظام . في أعتقادي وضمن تجربتي المتواضعة في التنظيمات السرية بين الجبل والمدينة لسنوات عديدة لم يوفق المرحوم أحمد باني خيلاني في أستعراضه لهذا الملف الشائك وردوده السلبية ومؤثراته على سياسات الحزب ومعالجة آثاره ، والى الآن يئن كيان الحزب من تداعياته ولم يخرج بدراسة ومراجعة موضوعية ضمن الواقع المعاش آنذاك . توقف في كتابه حول المهام الحزبية في الجبل والتي أنيطت الى الرفيق باقر إبراهيم الموسوي ”أبو خولة ” وهو من الاختصاصيين حسب تعبيره في قيادة التنظيمات الحزبية . الموسوي أبو خولة أستلم قيادة التنظيمات الحزبية منذ عام ١٩٦١ وتحمل عبأؤها الكبير في أنظمة سياسية متعاقبة وليس هنا في هذه الاوراق بصدد الحديث عنها ، ولكن ما يهمني من قراءته ونقله للقراء والمتابعين هو بحدود معرفتي وتجربتي بهذا المجال إنصافاً للتاريخ وأستحقاقاً للمناضلين والشهداء ، الذي سطروا الملاحم البطولية في المواجهة والاقدام . يشير في مذكراته الى أن الرفيق باقر إبراهيم الموسوي ، عندما كلف من المكتب السياسي وأنيطت له مهمة قيادة التنظيم المركزي في الجبل وإعادة بناء التنظيمات والخلايا الشيوعية في داخل الوطن، لكن ما قام به هو والرفيق عدنان عباس المسؤول الثاني في هذا المجال كان يجلب الانتباه ويثير اكثر من استفسار في طريقة أختيارهم للرفاق . ويذهب الى إنهما لم يحققا شيء يذكر في مجالات التنظيم والاتصال بالمدن فقط عندما زجا ” أبو خولة ” الرفيقتين الشهيدتين بشرى عباس ” أم ذكرى ” ورسمية جبر الوزني ” أم لينا ” الى بغداد لم يحققن شيء ووقعن في مصيدة أجهزة السلطة ويلقي المسؤولية على  ” أبو خولة ” . وهذا ليس إنصافا ًبحق مناضلين زجوا عشرات الرفاق الى المدن العراقية وشكلوا عبأ على السلطة واجهزتها ، لكن علينا لانغفل قوة النظام واساليبه وطرق مواجهته الشرسة للتنظيمات . ” الخلاف لايفسد الانصاف ” . تحامل احمد باني خيلاني على رفاقه وتشويه الحقائق بهذه السذاجة يدعوا المطلع أن يتساؤل حول الدوافع وراء ذلك ؟. وهل هو أبو سرباز من كتب تلك السطور باللغة الكردية أو ممن ترجم الكتاب الى العربية المجهول الهوية والجهة والمصدر هو من حرف الحقائق والا ما معنى هذا ومن المسؤول على هذه السردية العجيبة ؟.

يريد ” أبو سرباز ” في مذكراته أن يوجه اللوم والقصور والفشل والاتهام أذا صح التعبير ، أن الذين من الرفاق والرفيقات التي زجهم أبو خولة وأبو تانيا الى المدن من الجبل وقعوا بيد أجهزة السلطة وغيبوا ، ويمر من خلال مذكراته على الشهيدتين أم ذكرى وأم لينا . علماً وأن جميع المحيطين يعرفون هذه الحقيقة أن ” أبو خولة ” بعد جريمة بشتاشان ١ آيار ١٩٨٣ لم تعد عنده مسؤولية مباشرة في قيادة التنظيم وأصبح من المغضوبين عليهم وممن يتودد له من الرفاق يضع عليه علامات إستفهام ؟. ويطلقون عليهم جماعة السيد . وفي بدايات عام ١٩٨٤ تعرض الى وعكة صحية قللت من حركته ونشاطة والزمته الفراش لحين مغادرته الجبل في آيار عام ١٩٨٤ باتجاه سوريا الشقيقة ولم يعود الا في عشية عقد المؤتمر الرابع في شهر نوفمبر ١٩٨٥ وأعلن داخل أروقة المؤتمر عن إنسحابه وعدم ترشحه الى قيادة الحزب مرة آخرى . إن الشهيدة ” أم ذكرى ” بشرى عباس . توجهت الى بغداد من مناطق سليمانية وتحديداً من منطقة مصيف ” آحمداوة ” وقبل نزولها بأيام تعرضت الى عارض صحي تتطلب الأمر أن تذهب الى إيران للعلاج ، وقد رافقتها أنا شخصياً الى مدينة ” دزلي ” الإيرانية الحدودية وعدت أنا مع البغل الى مقر القاطع في منطقة ” كرجال ” ومن مدينة دزلي نقلت الى مستشفى في مدينة مريوان الإيرانية . وعادت بعد أيام بصحة جيدة وجلبت معها لي هدية قميص وبقيت محتفظ به لسنوات طويلة حتى بعد إستشهادها للذكرى والاعتزاز بها . أما ” أم لينا ” رسمية جبر الوزني . تركت قاطع سليمانية وكركوك في آواخر عام ١٩٨٣ الى قاطع بهدينان ومن هناك ذهبت الى المدينة وأستشهدت ، يعني الرفيقتين خارج مسؤوليات أبو خولة ، فمن أين هذه المصادر التي أعتمدها أبو سرباز في روايته ، هذا تاريخ يجب أن يكتب بأمانة للانصاف للحقيقة وللاجيال . في أثناء عودة الشهيدة ” أم لينا ” . كان عدنان عباس ” ابو تانيا ” في وقتها هو في بغداد ، وعندما عاد وعرف تعجب وسأل من الذي زجها الى الداخل ، وقبل هذا النزول كان معترض على النزول الأول والتوجه الى المحطة الحزبية ” أم سعد ” وحجم الضغط عليها . 

علاقة عدنان عباس ” أبو تانيا ” بالجاسوس عدنان الطالقاني في بداية الأمر ” كان ضمن تشكيلات تنظيمات الفرات الاوسط ، لكن بعد أن فاحت ريحته تخلى عنه وعن مسؤوليته له وهو مازال في بغداد والمدن العراقية ، وعندما أنعقد المؤتمر الرابع في نهايات ١٩٨٥ في منطقة ” آرموش السفلى ” وجهت له قيادة المؤتمر دعوة كمندوب لحضور المؤتمر ، وعندما وصل الى المناطق المحررة والى موقع المؤتمر حجر ولم يسمح له بحضور يوميات المؤتمر لكثرة الشبهات حوله ، هنا أنا شخصيا ألتقيته وذهبنا مع بعض بمفرزة بعد أنتهاء أعمال المؤتمر من لولان ، وكنت أنا قادماً من قاطع سليمانية وكركوك الى تشكيل الفصيل المستقل ببرقية من المكتب السياسي لغرض إعدادي في التوجه الى بغداد : إذن هذا يدحض كلام أبو سرباز ويفنده أن أبو خولة كان يسحب الرفاق من التنظيمات العسكرية ويشكل تجمعات وتكتلات وهذا جرى بغياب ابو خولة وإبعاده عن قيادة التنظيم . رافقوني في تلك المفرزة التي تحركت من قرى لولان الى ” زيوه ” مناطق بهدينان ” أبو هيمن ” عدنان الطالقاني و ” وأبو بهاء ” فلاح حسن . وطيلة الطريق الذي أستغرق ستة ليالي كانوا يسخرون من عقد المؤتمر وقيادة الحزب ، وكانوا يرددون علناً ” ماذا سيتمخض عن الجبل الا ولادة فأراً ” . وبعد شهور وكنت حينها في بغداد تم أعادة أبو هيمن الى بغداد برعاية ” أبو داود ” حميد مجيد موسى البياتي و ” أبو فاروق ” عمر الشيخ ” أعضاء المكتب السياسي ، أما أبو بهاء لقد ألقى مصيره . هذه السيناريوهات عدت ولم يكونوا لا أبو خولة ولا أبو تانيا في الجبل ولا في قيادة الحزب وهما كانا خارج الوطن . فمن أين تلقى تلك المعلومات الرفيق أبو سرباز وما القصد من وراء ذلك في خلطة عجيبة للاوراق وهو البعيد عن تلك الاحداث ، حيث كان في قاطع سليمانية في خضم تلك المستجدات والاحداث  ؟.
في معرض هجومه على بهاء الدين نوري ويصف أتفاقية ديوانه ” كامب ديوانه ” عندما وقع بهاء الدين نوري اتفاقية مع الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة ” ملا بختيار ” تحرم القتال بين الاخوة على ضوء جريمة بشتاشان ، لكن أبو سرباز يعلل ويبرر ويتهرب من المسؤولية عندما وقع في الآسر مع الرفاق كريم أحمد وقادر رشيد بيد مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني عندما أنسحبا من موقع بشتاشان وألتقا بالمرحوم جلال الطالباني وصدروا بيانا مشتركا في الوقت الذي كان الرفاق العرب الاسرى يمثل بجثثهم .

في كتابة السيرة الذاتية تنشأ علاقة مابين كاتبها وراويها ومابين القراء والمتابعين والمتلقين تعمدها الصراحة والعلنية والمكاشفة وتسمية الاشياء بأسماؤها الصريحة حتى تأخذ مجراه الطبيعي في الصدق والقوة والموضوعية . في سيرته ” أبو سرباز ” يمر على أكثر من حدث ويتركة مفتوحاً عرضة للتكهنات والتوقعات أشبه ما ” يضرب في التخت رمل ” يذكر في أوراقه حول ملف التنظيمات الحزبية بين قوسين في دائرة الرفاق أبو خولة وأبو تانيا ، أن هناك رفيقاً حزبياً كان يقوم بسرقة الاغنام من قرى الفلاحين ووصل العدد الى ٤٨ رأس غنم وعوقب من قبل المكتب العسكري ، لكن التنظيم الحزبي أعاد له الاعتبار ورفعه الى درجة حزبية أعلى لكن لم تسميه أوراق أبو سرباز من هو هذا الرفيق ؟. وفي حدث آخر يروي أن أبو خولة بعث أحد الرفاق الى الداخل ووقع بيد السلطة وتعاونه معها واعادوه الى الجبل بين صفوفنا ، لكن أبو خولة ألتزمه ورفض أن يفتح ملف تحقيق معه ولم يسمي لنا من هو هذاالرفيق ؟. أما ملف أبو طالب ” نجم الجبوري ” قصة وحكاية آخرى بحاجة الى وقفة ومراجعة واقعية وبلا رتوش وكشف الاوراق . في العام ١٩٨٢ إجتماع للقيادة الحزبية في الجبل سأل أحد أعضاء المكتب السياسي عن تنظيمات الداخل فرد عليه عزيز محمد إن الرفيق أبو خولة يطلعني يوم بيوم على حركة التنظيمات الحزبية في المدن العراقية ، وبعد ترك أبو خولة قيادة التنظيم سلم ” الكود ” الشفرة الى عمر الشيخ ” أبو فاروق ” وعاد أكثر من مرة الى أبو خولة يسأله عن الشفرة لان ينساه .

وفي حديث متصل مع الاعزاء أبو خولة وابو تانيا الرب يحفظهم سألتهم على بعض ما جاء في مذكرات أحمد باني  خيلاني ، سبق وأن كتب رداً عدنان عباس على مذكرات أبو سرباز ووضح به موقفه ومثبت في مذكراته ” هذا ما حدث ” الجزء الثاني وممكن للمتابعين الرجوع لها والاطلاع عليها . أما الحديث عن الرفيق الذي زجه أبو خولة الى الداخل ووقع بيد الاجهزة الامنية واعادوه الى الجبل وعمل لصالحهم وأخفاه ابو خولة ومنع الآخرين من فتح تحقيق معه أثار أستغراب أبو خولة ولا تحضره واقعه من هذا القبيل . أما الرفيق الذي سرق ٤٨ رأس غنم من بيوت الفلاحين فالعدد مبالغ به والرفيق هو ” عدي حمادي ”  حي يتنفس ويعمل في جامعة الحلة وله صلة بالحزب والتنظيم ، وعندما حدث هذا الأمر تعرض الى عقوبة الطرد من الحزب من قبل كريم أحمد والمكتب العسكري ، لكن أبو خولة هو الذي رفض القرار وأعاده الى الحزب .

محمد السعدي
مالمو/آيار ٢٠٢٢   







27
مذكراتي”سيرة أحمد باني خيلاني”٢ .

تعتبر مذكرات المناضل الراحل ”أبو سرباز” باكورة نتاجه الفكري والسياسي والتاريخي لأنها جسدت سيرة حياته النضالية والشخصية . واصبحت في متناول القراء والمتابعين للاطلاع أكثر على سجايا هذا المناضل ، الذي لاغبار عليها في محطات حياته كأنسان ومناضل مضحي ، لكن هذا لايعني أن تكون الصفحات بيضاء ناصعة لقد تخللتها هفوات وعثرات كسيرة أي مناضل . ولا سجال على سجاياه ومناقبه بما تفرد بها من دماثة خلق وأدب جم وتواضع في منتهى البساطة ، لكن للسياسة فذلكة ومناورة وصنعة في رسم دروبها . وعلى حد قول أفلاطون ” لايصلح العلماء والفلاسفة ورجال الدين أن يكونوا رؤوساء وقادة أحزاب ”. في كتاب سيرته المعنون مذكراتي المكون من ٤٥٩صفحة من القطع المتوسط إضافة الى الصور والفهرست .

الكتاب ترجم الى اللغة العربية بدون ذكر للمصدر أو الجهة المسؤولة التي أقدمت على ترجمة الكتاب من اللغة الكردية لغته الأم الى اللغة العربية ليسهل تداوله بأوسع شريحة من مجتمعنا السياسي ” الحزبي ” لكن للآسف هناك أخطاء مطبعية ولغوبة وإملائية واضحة للعيان ربما تأثر هنا وهناك على بناء الجملة وربط الحدث وسياقه . في قراءتي المتأنية والمتواضعة لتفاصيل الكتاب وما تضمنه من مواقف وأحداث ، كانت لزاماً عليه أن أتوقف عند بعضها والتي عشتها شخصياً عدة أعوام ، عندما كان المرحوم أحمد باني خيلاني ( أبو سرباز ) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والمسؤول الأول في قاطع سليمانية وكركوك وفي حينها كنت نصيراً في مقر القاطع .

انتقالنا الى شاربازير … في صيف عام ١٩٨٥ انتقلنا الى مناطق شاربازير وتركنا مقراتنا في جبل سورين على إمتداده ، هزارستون ، باني شر ، خورنوزان ، كرجال . هنا سأتوقف في مراجعة مذكرات أحمد باني خيلاني المعنونة ”مذكراتي ” والتي يروي بها واقعة ”خورنوزان ” والذي كنت أحد حراس ذلك الراقم الجبلي المطل على قرية ” شي رمر ” الواقعة في يسار الشارع العام الذي يؤدي الى قصبة ”حلبجة ” المنكوبة بالسلاح الكيمياوي . في عام ٢٠٠٩ ألتقيت بالمرحوم قادر رشيد ” أبو شوان ” في بيت الرفيق سالم الشذر بالعاصمة السويدية ” ستوكهولم ” وكنت بصحبة الصديق والإعلامي حميد عبدالله لفتح ملف جريمة ” بشتاشان ” لحساب قناة البغدادية ، وقد رأيت المرحوم أبو ” شوان ” زعلان عليه ومعاتباً على عدة ردود حول كتابه ” بشتاشان بين الألم والصمت ” وكان ردي بعنوان ” بشتاشان بين الواقع والخيال ” ومن ضمن ما تطرقت حوله هو ما ورد في كتابه حول واقعة ” خورنوزان ” وصوبت له المعلومة بالدقة لاني كنت في تلك الليلة في ذلك الراقم الجبلي وفي طبعة لاحقه أخذ الرجل بتلك المعلومات التي زودته بها ونشر صورتي في متن الكتاب ، وكان مستقصي تلك المعلومات من أسماء أنصار لم يكونوا معنا ليس في الراقم وحسب وإنما في الموقع لاوجود يذكر لهم . والمرحوم أبو شوان تفهم الموقف والحال مما ذوب تل الثلوح في حرارة علاقتنا . أضطررت أن أقدم هذا الشرح المختصر ليتسنى للقاريء قصد من معرفة ما وراء ذلك . سيكون صلب موضوعنا مذكرات أحمد باني خيلاني ، الذي مر على تلك الواقعة في مذكراته وللأمانة التاريخية والأخلاقية أن أدلوا بدلوي بمثابة شهادة للتاريخ …. وأيضاً حتى لايفوتني في لفت إنتباه القراء ، إن الحوارات التي أقتبستها من متن كتاب ”مذكراتي ” تركتها مثل ماهي في الإملاء والبناء .

في صفحة ٤١٢ يذكر أبو سرباز تفاصيله حول تلك الواقعة في خورنوزان ……….. كالتالي .
” كانت مقراتنا لا تزال في سفوح جبل سورين عندما بدأ قصف مدفعي كثيف في تمام الساعة العاشرة مساء من ليلة ٢٤/ ٦/ ١٩٨٥ أستهدف سلسة الجبل باكملها واستمرت لغاية منتصف نهار اليوم التالي مضرمة النار في الوديان والمرتفعات وتصاعد الدخان من كل مكان . لقد كان القصف المدفعي شديداً وكثيفاً الى درجة لم يتمكن لا نحن ولا الاخوة في البارتي ”الحزب الديمقراطي الكردستاني ”من زيارة المقرات القريبة منا ” وتصورنا بأنه قد يكون هنا هجوم واشتعال في جبهة الحرب العراقية الايرانية . وبعد ظهر ذلك اليوم أرسلنا مفرزة الى قمة الجبل للاطلاع على ماهية الامور ، وقد تبين لنا بأنه كان هجوما لقوات السلطة على مقرنا ومقر البارتي ” حدك ” في خورنوزان . وكانت هناك حراسة مشتركة بيننا وبين حدك على قمة الجبل وتبين لنا فيما بعد بأنه في غفلة من الحارسين تسلل المرتزقة الجحوش الى قمة الجبل فيما دفع بالحارسين الانسحاب من مكانهما دون أية مقاومة بغية أبلاغ المقرات بالهجوم على حد قولهما ، ولكن واقع الحال أن تلك المجموعة من المرتزقة الجحوش كانوا طلائع للقوة المهاجمة قدموا للاستطلاع ولما لاحظوا خلو المنطقة من الكمائن والدفاعات اقدم الجيش والمرتزقة على الهجوم واحتلال المرتفع ومن ثم شنوا هجوما اخر على المرتفع الثاني واحتلوه دون مقاومة ايضا . وعلى اثر احتلال المرتفعين المذكورين ، قام رفاق الحرس باخبار القيادة في خورنوزان بهجوم الجيش واحتلال المرتفعات وضرورة الانسحاب ليلا الى المناطق الخلفية وفعلا انهم تركوا القاعدة وبقوا خلف المقر بمسافة بعيدة واحتموا ببعض الكهوف الصغيرة والاحجار الكبيرة ونتيجة القصف المدفعي المستمر لم يستطيعوا التحرك الى الليلة التالية وبدون غذاء ووصوا مقرنا ” كه رزال ”وبعد ذلك فكرنا نحن وحدك من نقل قوتينا التي كانت في خورنوزان الى منطقة قلعة شميران قرب الجانب الشرقي من سدة دربندخان وعبر الاراضي الإيرانية بمساعدة الاخوة في حدك وبالنسبة لمقر القاطع أصبحت حركتنا محصورة جداً أو شبه مستحيلة وبالاخص خلال النهار ، وقد دفعنا ذلك نحن والاخوة في حدك الى التقكير الجدي بنقل مقراتنا الى مناطق شاربازير ”.

هذا ما تذكره  أبو سرباز في مذكراته الصادرة عام ١٩٩٥ . ولكن لي قصة ورواية أخرى مستندة على تجربتي العملية الميدانية في صلب الحدث ، سيما وأنا كنت من ضمن المجموعة التي كمنت في تلك الليلة في هذاك الراقم الجبلي . ثيمة شهادتي على تلك الواقعة حقيقية وبلا رتوش .

في ربيع عام ١٩٨٥ كنت ضمن تنظيمات الداخل على حساب المنطقة الوسطى ، وعندما أقول المنطقة الوسطى يعني تشمل مناطق بغداد ، ديالى ، الرمادي ، الكوت . في مقر هزارستون ( آلف دنكه ) . كنا في يومها أي يوم الهجوم على الرواقم الإيرانية المطله على مقرنا أنا لطيف ، ابو حاتم ، دكتور إبراهيم ، الشهيد أشتي ، الشهيد أبو أحمد ، الشهيد أبو علي السماك ، صارم الشمري ، كرم ابو الفوز . من هنا وبهذا التاريخ من ٦ آذار ١٩٨٥ شنت القوات العسكرية العراقية بقيادة العميد قوات خاصة ”علي عربيد ”مع الجحوش هجومها المباغت من قصبة ” سيد صادق ” تحت غطاء مدفعي كثيف مسنود بالطيران على أعلى ربيتين إيرانيتين في المنطقة على سلسلة جبل ” سورين ” بعد أن أنتشرت الاخبار بنية الإيرانيين بشن هجوم واسع على القاطع الشمالي ومحاولة إحتلال مصافي النفط في مدينة كركوك الغنية به ، ومنذ ستة شهور مضت لم تتوقف يوماً ولا ساعة التحشيدات الإيرانية ونصب ربايا جديدة والتوغل الى المدن والقصبات الكردية العراقية بالتنسيق مع القوى والاحزاب الكردية وتسهيل مهامهم اللوجستية والعسكرية في إحتلال الاراضي الوطنية العراقية ، وكنا نحن الشيوعيين العراقيين نعلن عن تذمرنا وأستياؤنا من تواجد القوات الإيرانية بالقرب من مقراتنا والمرور بها بإتجاه أرض العراق الوطنية وهذا موقف يحسب لتاريخ الشيوعيين الوطني ، دعنا عن تطلعات فردية بالتمني لاسقاط نظام صدام حسين من خلال الهجمات الإيرانية وإحتلال بلدنا ، هنا أتحدث عن موقف وطني وسياسي آنذاك في منع التعاون والتنسيق مع قوات الاحتلال ، في خضم تلك التطورات بالمنطقة ، بدأ العراق يعزز من قواته وتحشيداته بالمنطقة واصبحت مقراتنا وسط جبهة حرب بين العراق وإيران والقوى الكردية المتعاونة معها بجميع أطرافها . في صباح ذلك الربيع الدافيء بزنابقه المتفتحة مابين الصخور والشقوق ، بدأ قصف عراقي مدفعي وتحليق للطيران غير معتاد كباقي الايام التي تعودنا عليه وبسرعة قياسية لم تمهلنا وقتاً في لملمة وترتيب انسحابنا تمكنت القوات العراقية من الالتفاف على مقراتنا وبدون مقاومة تذكر في إحتلال أعلى راقمين في الجبل ، وكان خلفنا مقراً لحزب الباسوك بقيادة محمود الحاج تبين إنه أنسحب بوقت مبكر من بدأ الهجوم ، بعد أن رأينا بأم أعيننا كيف تسلقت القوات العراقية والجحوش المرتفعات الجبلية خلفنا وإحتلالها ورمي الجنود الإيرانيين من قمة الجبل الى قعر الوادي وهم احياء وأصوات الاستغاثة وصداه يكسر سكون الجبل الشامخ ، تسلقنا الجبل والوادي باتجاه رفاقنا الفوج التاسع في منطقة ” باني شر ” وحملنا معنا كل ما خف من حاجاتنا الشخصية واثناء ذلك صادفنا ضابطين إيرانيين نفذا بجلدهما وطلبا مني ناظور كنت أحمله مع سلاحي وترددت في البداية وكان بجانبي ملازم كرم ” أبو الفوز ” دعاني أن أعطيه لهم للتأكد عما حدث لجنودهم في الربايا وأعادوه لي وإختفوا ، تحت جناح الليل الدامس وصلنا الى رفاقنا في منطقة ” باني شر ” إستقبلنا ببرود من قيادة الفوج ، هنا شعرت ولأول مرة بالتعصب القومي تجاه الرفاق العرب ، بعد ليلة قلقة ومرعبة وصلت برقية من قيادة القاطع ، الذي مسؤوله الأول المرحوم احمد باني خيلاني ومساعديه إبراهيم الصوفي ” أبو تارا ” ومحمد النهر ” أبو لينا ” . تتضمن البرقية بأن انسحابكم بهذه الطريقة فقدت وجه الحزب بين أهالي القرى والعشائر وما عليكم الا العودة الى المنطقة وسحب ممتلكات الحزب لاعادة وجهه التي كانت عبارة عن تسعة صواريخ ”بازوكا ” فاسدة وبطانيات وللآسف هذا الموقف جاء مغايراً عن ما حدث من تطورات دراماتيكية عسكرية قيادة القاطع بعيدة كل البعد عنه مكاناً وميدانياً وقبل أن نقدم تقريرناً عن تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم . في المساء إجتمعنا وتداولنا مضمون البرقية وطرح أبو حاتم ”مناف الاعسم ” مقترح بالعودة الى المقر وسحب ممتلكات الحزب وأثنى على مقترحه أنا لطيف والشهيد آشتي والدكتور إبراهيم والآخرين تحفظوا . ووسط جبهة حرب ساخنة لم تهدأ الا بعد شهور من سيطرة الجيش العراقي على المنطقة برمتها بسهولها وجبالها ووديانها تحركنا نحن الاربعة تحت جنح الظلام بأسلحتنا الخفيفة وتحت تنوير وتمشيط مدفعي للمنطقة وبصعوبة بالغة الخطورة بحدود الساعة الواحدة ليلاً وصلنا الى مقرنا ودخلنا به وجدناه مبعثراً وبه بعض القتلى الجنود الإيرانيين وسحبنا الصواريخ الفاسدة معنا والتي يبدو الجيش العراقي عندما دخل الى مقرنا فحصها ووجدها فاسدة وتركها في مكانها وبأعادتها عدنا وجه الحزب ، والتي كانت تؤدي الى استشهادنا” قاب قوسين أو أكثر ”. تلك السياق من المقدمة وأرتباطاً فيما حدث فيما بعد حول ” خورنوزان ” التي تحدث عنها احمد باني خيلاني ، والتي حدثت بعد أربعة شهور من احداث ” هزارستون ”. بعد أحداث هزارستون تم توزيعنا على الافواج وكان نصيبي مع بعض الرفاق الفوج الخامس عشر في مقره المؤقت في وادي خورنوزان على إمتداد تلك السلسلة من جبل سورين .

فرضت علينا الاحداث وتطوراتها الحصار في شريط حدودي لا تتعدى يومياتنا عن الخفارات والحراسات والكمائن وتقطيع الحطب في وادي عميق وسط جبل شائق ومعقد . في تلك الليلة التي تحدث عنها أحمد باني خيلاني في كتابه منحتني فرصة أن أضع النقاط على حروفها . كنت أنا محمد السعدي ” لطيف ” وأبو زاهر ” مسؤول المفرزة ” والشهيد عمار من أهالي الدغارة الديوانية ” والشهيد قاسم من أهالي العمارة ”. يومنا ودورنا في الحراسة المتقدمة على قمة الجبل ” في الساعة العاشرة ليلاً تأبطنا أسلحتنا الخفيفة وأكياس معدة للنوم السريع والمؤقت وراديو صغير وتسلقنا الجبل في جو صيفي منعش في شهر حزيران عام ١٩٨٥ ، وكان بالتنسيق مع مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني فرع خانقين ( نوجة خانقين ) ، مهمتهم في موقع متقدم عبارة عن ربية قديمة ومحصنة تركها الجيش العراقي لشدة ووطأة المعارك في المناطق الجنوبية مع القوات الإيرانية ، وأن تلك الربية ليس فقط محصنة عسكرياً وأنما ايضاً تتميز بموقع أستراتيجي مشرف على كل المنافذ للتقدم والتحركات ، أما نقطتنا للحراسة فكانت بموقع مكشوف وبين الصخور وهدف سهل للعدو ، وبعد أن وصلنا الى نقطة الحراسة أفترشنا الاكياس بين الصخور بمربع محدد ، وجلسنا نسمع فيروز من صوت أذاعة الكويت وهي تصدح ” يا جبل البعيد خلفك حبايبنا ” والنجوم تلألأ السماء الصافية ، وفي لحظة ما أنتبهنا الى موقع حلفائنا من مقاتلي الحزب الديمقراطي أنها خالية من أي حركة وبدون حراسة ، تفاجأنا وبدأنا نعلق عن ما مبيت لنا من ليلة مظلمة وعلى سجيتنا ، الغريب في الأمر لم يبلغونا عن سبب أو مانع عدم التحاقهم بالكمين الليلي رغم هناك أتفاق بين قيادة فوجنا وقيادة قوتهم في المنطقة التبادل في وجهات النظر حول أي تطورات تحصل وتحديداً التنسيق في الحراسات والكمائن المتقدمة لكنهم لم يبلغونا عن سبب تخلفهم من الالتحاق بنقطة حراستهم الاستراتيجية ، في تلك الليلة المحيرة بقينا سهرانيين الى الساعة الواحدة ليلاً ولا شيء يعكر صفو مزاجنا أنه هدوء تام حدد الحراسات أبو زاهر وكان نصيبه بعد منتصف الليل الواحدة ليلاً ، وأنا سأستلم بعده وركنا الى النوم ، وبعد ساعة في نوم متقطع بين الصخور أيقظني لمناوبتي في الحراسة وبعد عشرة دقائق بالضبط لفعني صدى صوت بلهجة عربية تقدمت باتجاه الوادي رأيت المنطقة مطوقه من كل الجهات وموقع حلفائنا المتقدم سيطرة كاملة عليه من قوات الجيش العراقي وذهبت حالاً الى آمر المفرزة أبو زاهر وأيقظته من النوم وحال نهوضه تبعني الى حافة الجبل ورآى بأم عينيه حجم التحشيدات حول قمة الجبل وربية حلفاءنا مسيطر عليها بالكامل قرر الانسحاب حالاً بعد ما أيقظنا رفاقنا الشهداء عمار وقاسم وتسلقنا الوادي بسرعة البرق لنبلغ رفاقنا بحجم الكارثة والانسحاب باتجاه الاراضي الإيرانية قبل بزوغ الفجر وتمكنا نحن مقاتلي الفوج الخامس عشر الذي يبلغ عددنا بحدود ٣٥ رفيقاً وفوج التاسع بحدود ٥٠ رفيقاً وقطعنا الوادي في الساعات المتبقية من الليل وأستقرنا في قطع جبلي وعر على الحدود الإيرانية ننتظر ونراقب التطورات بعد أن إحتلت المنظقة بالكامل ومن ضمنها مقرنا وبث تقرير مصور في التلفزيون العراقي أنه وكر العملاء والجواسيس . في الليلة الثانية أتخذ قرار في التسلل الى المقر بعد توارد الاخبار أن الجيش في الليل ينسحب منه خوفاً من الهجوم المضاد وهم داخل الوادي أن نسد المنافذ عليهم ، عسكريا تقديرهم كان صحيح جداً ، في ظلمة الليل وتحت ضوء القمر تسلقنا الى الجبل باتجاه مقرنا ” وكان نصيبي هذا المرة أيضاً أن أكون في قمة الجبل للتغطية في حالة أي تقدم وكان معي هذه المرة ملازم ماجد ( علي مهدي ) ، وكانت علاقتنا نوع عما متشنجة وبقينا في قمة الجبل من الساعة التاسعة ليلاً الى الرابعة صباحاً ورفاقنا داخل المقر محاولة منهم لسحب بعض الضروريات وفي جو ساخن جداً أصابني العطش أضطررت أن أسحب ( الزمزمية ) من ملازم ماجد وأجهز عليها كاملة مما أثار أنزعاجه ، أنسحبنا بكل هدوء وبدون أي تعرضات سوى قذائف التنوير ، وفي اليوم الثاني أكتشف الجيش عملية تسللنا الى داخل المقر ، وفي هذا اليوم حاولت قوى كبيرة من مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني ” نوجة خانقين ” إقتحام الربيه التي تركوه خاليه في ذلك اليوم من الهجوم ولم يحققوا شيء ، ولقد عجزوا عن ذلك وحتى القرب منها وأعطوا ثلاثة شهداء واندحروا ، أما بياناتهم الحماسية تقول : أنهم قتلوا مجموعة من الجنود العراقيين وآسروا ضابط عراقي كبير وهذا خالي من الصحة كما تبين فيما بعد ، وفي تلك الليلة لقد أمطرونا بحمم بركانية من القنابل من المساء الى الصباح وكنا تسعين رفيقاً من الحزب الشيوعي العراقي لابدين ومحشورين بين الشقوق وداخل الكهوف والقواطع الجبلية لا نستطيع أن نقوم بأي حركة لشدة القصف وقوته وتناثر الشظايا ، كنت أنا والشهيد عمر ” أبو رماح ” لابدين بكهف محشورين ولا ننبس ببنت شفه وحال الرفاق الآخرين ، كانت توقعات الجميع في الصباح سيكون الجيش واقفاً على  رؤوسنا ، وعندما حل الصباح وجدنا الصخور متشظية والاشجار مقلوعة والشظايا مغطاة الوادي ورائحة البارود والموت تغطي فسحة الوادي ، فلم يبقى أمامنا الا تسلق الجبال والعبور الى الاراضي الإيرانية بعد ثلاثة أيام صعبة وقاسية من العطش والجوع والقرب من الموت ، وصلنا الاراضي الإيرانية إنها مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني ” حدك ” ونقلونا بسيارات مكشوفة عبر المدن الإيرانية الى مقر قاطع سليمانية وكركوك في منطقة ” كرجال ” وحين وصولنا عقدت قيادة القاطع أجتماعاً موسعاً بقيادة أحمد باني خيلاني وحملنا المسؤولية كاملة قائلاً : كان يجب عليكم تقاوموا وتطلقوا الرصاص على القوة المهاجمة حتى إذا تطلب الأمر في موت الجميع ، وفي تقدير الجميع لو حدث هذا فعلاً لسبب كارثة باستشهاد تسعين رفيقاً ولوح لنا مجموعة المفرزة بعقوبات عسكرية وحزبية قبل أن نقدم تقريرنا الميداني عن ما حدث ، لكن الوقت لم يمهلنا فرصة حيث إجتاح الجيش  العراقي المنطقة برمتها مما تركنا مقراتنا وعبرنا مرة أخرى الى الاراضي الإيرانية وتركنا كل شيء وراءنا مقر القاطع والافواج والقوة الى مناطق ”شربازير ” لبناء مقرات جديدة في تلك السلسلة الجبلية وسط مواقع الربايا الإيرانية وقوى الاحزاب الكردستانية ” وهذا أيضا لم يدم طويلاً بسبب الحرب العراقية الإيرانية والقصف والقتال بينهما ، ولقد تبين فيما بعد أن الهجوم على خورنوزان بدأ في الساعة السابعة مساءاً ومن عدة محاور . هذا ما حدث وأنا غير نادم عن ذلك القرار والموقف في ذلك اليوم .. وهذه هي شهادتي للتاريخ وللأمانة.
يتبع ….. هناك فصل أخير من تلك الشهادة سأرويها في حلقة ثالثة من كتاب ” مذكراتي ” حول التنظيمات الحزبية في المناطق العربية في تجربتي البسيطة .

محمد السعدي
مالمو/أبريل ٢٠٢٢


28
فهد والحزب الشيوعي‮ ‬العراقي
محمد السعدي‮ ‬
الكتابة عن‮ ‬يوسف سلمان‮ ‬” فهد‮ .. ‬ليس بالأمر الهين ولا السهل في‮ ‬حالة توثيق صفحات مناضل من الطراز الأول على كافة المحاور الوطنية والفكرية والنضالية والرجولية والثقافية‮ ‬،‮ ‬وقد برهنت مسيرة حياته القصيرة في‮ ‬النضال والحياة عبقرية هذا الرجل وإيمانه بمسيرة حياة وفكر خلاق‮ . ‬ولجت للكتابة عنه رغم قراءاتي‮ ‬البسيطة السابقة عن عصامية هذا الرجل واعتقادي‮ ‬به وبأفكاره ولشدة كرهه للاستعمار والاحتلالات وبناء الاوطان‮ ‬،‮ ‬لكن مما حفزني‮ ‬واقعتين أثارت بنفسي‮ ‬فضول ورغبة جامحة في‮ ‬الكتابة عن هذا الرجل إيماناً‮ ‬مني‮ ‬بالمسؤولية الاخلاقية والوطنية اللتان هما طريقي‮ ‬ومنهج مسيرة حياتي‮ ‬ومواقفي‮ . ‬الاولى للدكتور حميد عبدالله في‮ ‬برنامجه‮ ‬” من تلك الايام‮ ‬” حول حياة فهد‮ . ‬ووقع تحت‮ ‬يدي‮ ‬كتاب صادر2006‮ ‬للسياسي‮ ‬”سالم عبيد النعمان‮ ‬” الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬بقيادة فهد‮ . ‬وأنا منغمساً‮ ‬في‮ ‬صفحات هذا الكتاب‮ ‬328‮ ‬صفحة من القطع الكبير عن حياة هذا الرجل ذو الشخصية المتميزة في‮ ‬قراءة الواقع وظروف البلد في‮ ‬الخطط والبناء وتشكيل الخلايا السرية والتنظيمات ومخاطبة العمال والشعب بوعي‮ ‬مصالحهم والنهوض بها نحو مستقبل آمن عبر الفكر الشيوعي‮ ‬المعبر الحقيقي‮ ‬عن مصالحهم وبالاضافة الى هذا الشعور الوطني‮ ‬والاحساس الثوري‮ ‬يتمتع بشخصية شفافة ومتواضع ودمث الاخلاق‮ ‬،‮ ‬لكن هذا لايعني‮ ‬لايخلوا من هفوات في‮ ‬الشخصية والمواقف فهو أبن بيئة فقيرة ومجتمع قبلي‮ ‬عشائري‮ ‬وتجربة سياسية محدودة‮ . ‬
ولد‮ ‬يوسف سلمان‮ ‬يوسف‮ ‬” فهد‮ ‬” في‮ ‬قرية برطلة في‮ ‬محافظة نينوى عام‮ ‬1901 لعائلة مسيحية سريانية‮. ‬وعند بلوغه السابعة من العمر‮ ‬،‮ ‬انتقلت عائلته طلبا للعمل إلى البصرة وأدخل مدرسة السريان الابتدائية وبعد تخرجه منها دخل مدرسة‮ (‬الرجاء العالي‮) ‬الإمريكية‮. ‬وبعد سنتين اضطر إلى ترك الدراسة بسبب الأوضاع الاقتصادية للعائلة،‮ ‬وفي‮ ‬عام‮ ‬1916 اضطر للعمل في‮ ‬معمل صغير للثلج‮ ‬يعود لأخيه في‮ ‬الناصرية‮. ‬وعاد ثانية إلى البصرة ليعمل كاتبا في‮ ‬إدارة توزيع الكهرباء في‮ ‬الميناء،‮ ‬وتعرّف على أحوال العمال وظروفهم في‮ ‬مشروع كبير,, ويروي‮ ‬شقيقه‮ " ‬داود سلمان‮ ‬يوسف‮" ‬أحد قادة الإضراب الذي‮ ‬أعلنه عمال المسفن‮ " ‬الدوكيارد‮" ‬في‮ ‬البصرة صيف‮ ‬1918 في‮ ‬حديثه ل عزيز سباهي‮ ‬وكان الاثنان معتقلين في‮ ‬معتقل أبو‮ ‬غريب عام‮ ‬1949, أن فهد وكان وقتذاك شابا‮ ‬يافعا قام بصياغة وكتابة العريضة التي‮ ‬قدمها العمال لأدارة المسفن‮. ‬ثم انتقل للناصرية واشتغل عاملا في‮ ‬معمل الثلج والطحين العائد لأخيه،‮ ‬وفتح مكتبة في‮ ‬الناصرية لبيع الكتب والصحف والمجلات‮ .‬
خلايا شيوعية
يسجل لتاريخ فهد هو أول من وضع الاحجار واللبنات الاساسية الأولى للتنظيم‮ ‬،‮ ‬أي‮ ‬الخلايا الشيوعية والتي‮ ‬كونت لاحقاً‮ ‬حزباً‮ ‬شيوعياً‮ ‬مبنياً‮ ‬على النظرية الماركسية اللينينية لتكن مرشداً‮ ‬لهذ الحزب في‮ ‬التعبير عن آرائه وبناء منهجه‮ ‬،‮ ‬وقد وضع فهد في‮ ‬نظر الاعتبار وأعطى الاولوية لها في‮ ‬دراسته عن الحركات الاجتماعية والسياسية والتنظيمية التي‮ ‬ظهرت في‮ ‬العراق إنعكاس للتناقض الطبقي‮ ‬بين طبقاته وفئات المجتمع الذي‮ ‬كان سائد ومؤثر في‮ ‬حركة المجتمع العراقي‮ . ‬أكتسب فهد خبرة لم تكن قليلة الاهمية في‮ ‬مجال المعرفة والتنظيم من خلال سفراته المتعددة بعدة واجهات مختلفة ولقائه بقادة فكر وأحزاب مما سخرها في‮ ‬بناء الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬على أسس ومباديء النظرية والفلسفة‮ . ‬فهد أول شيوعي‮ ‬عراقي‮ ‬يقف أمام محكمة الجزاء في‮ ‬مدينة الناصرية أثر البيان الشيوعي‮ ( ‬العراقي‮ ) ‬الأول في‮ ‬مدينة الناصرية سنة‮ ‬1932‮ ‬يحمل شعار‮ ‬” يا عمال العالم اتحدوا‮ ‬” والمنجل والمطرقة‮ ‬” وقد وزع في‮ ‬شوارع الناصرية وألصق على جدرانها‮ ‬” بتوقيع عامل شيوعي‮ . ‬ولأول مرة عراقي‮ ‬متهم بالشيوعية وهو‮ ‬يوسف سلمان‮ ‬يوسف‮ ‬يدافع بشرف وشجاعة عن الشيوعية ومبايدئها‮ ‬،‮ ‬وهنا تكمن الاهمية التاريخية والوطنية لهذا الرجل‮ . ‬حيث كانت موهبته النادرة في‮ ‬العمل السياسي‮ ‬هي‮ ‬جزء طبيعي‮ ‬من تكوينه الذاتي‮ ‬والفكري‮ . ‬
لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار والتي‮ ‬أدت في‮ ‬النتيجة بعد عام على انطلاقها الى الاعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬ولينظم الى الاممية الشيوعية‮ ( ‬الكومنترن‮ ) ‬،‮ ‬ولقد لعب عاصم فليح أحد قادة الحزب آنذاك باعتباره خريج جامعة شيوعيي‮ ‬الشرق‮ ‬” جامعة كادحي‮ ‬الشرق‮ ‬” وعاش فترة في‮ ‬الاتحاد السوفيتي‮ ‬ومطلع بشكل جيد على أهداف وشروط الاممية الشيوعية والانضمام اليها‮ . ‬أن‮ ‬يحمل الاسم‮ ( ‬الشيوعي‮ ) ‬أولاً‮ ‬إضافة الى موقفه المستقل والمدافع عن النظرية الماركسية اللينينية هذا هو المعلن‮ ‬،‮ ‬أما في‮ ‬الواقع أي‮ ‬بالمفهوم السوفيتي‮ ‬في‮ ‬مركز التبعي‮ ‬القاصر وفكره صاغي‮ ‬وعينه مفتوحة الى ما تقوله موسكو ولهذا أنصابت أكثر الاحزاب الشيوعية بالجمود العقائدي‮ ‬وأنعزلت عن مصالح شعبها وتطلعاته‮ .  ‬عاد فهد من خارج العراق عام‮ ‬1938بعد فترة قضاها في‮ ‬عدة دول مر بها وألتقى بقادة ثوريين وزعماء أحزاب ومناضلين‮ ‬،‮ ‬وبعد أن شهدت فترة‮ ‬غيابه عن العراق جملة تطورات حيث تعرض الحزب الشيوعي‮ ‬بها الى مواقف لا تطمأن على مواقفه الصلبة وهو بأشد الحاجة لها في‮ ‬بداية تكوينه الفكري‮ ‬والسياسي‮ ‬والطبقي‮ ‬والوطني‮ ‬وهذا مرده موقف قادة الحزب من صلب الاحداث والتعامل معها بل عرضوا نفسهم الى أنتقادات من الاطراف الاخرى وإنسحاب أعداد‮ ‬غير قليلة من التنظيم على أثر تداعيات المشاكل والصراعات مع جماعة الاهالي‮ ‬والهجوم اليومي‮ ‬على قادتها عبر صحيفة‮ ‬” اتحاد الشعب‮ ‬” الجريدة المركزية للحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ . ‬بعودة فهد تمكن بفترة قريبة من لملمة الرفاق وتقوية عود الحزب وأنهاء الصراعات والتركيز على القضايا الوطنية وبناء ترميم بيت الحزب الداخلي‮ ‬بعد تقاذفته الامزجة والآراء المتناقضة والتناحرات الحزبية وقام بمد جسور مع القوى الوطنية الاخرى لترصين الجبهة الداخلية ضد الاستعمار المهمة الأولى‮  . ‬الشهيد سلام عادل العام‮ ‬1956‮ ‬خطى على نفس التوب حيث ساهم بقوة بتقوية الوضع الداخلي‮ ‬للحزب بعد أن كان قد تعرض الى أنشقاقات وخلافات ذاتية أثرت على وضعه الوطني‮ ‬والجماهيري‮ ‬،‮ ‬وبقيادة سلام عادل أصبح حزباً‮ ‬ذات صوتاً‮ ‬مسموعاً‮ ‬ومحسوباً‮ ‬له في‮ ‬الحراك العراقي‮ . ‬سلام عادل هو الذي‮ ‬قال‮ ‬” خروج شيوعي‮ ‬من الحزب بمثابة قلع شعرة من عيني‮ ‬” هنا تكمن مواصفات أهمية القائد السياسي‮ ‬النضالية والذاتية والاخلاقية والوطنية‮ .  ‬
في‮ ‬مطلع الاربعينيات تعرض الحزب الشيوعي‮ ‬الى نكسات وانشقاقات وأزمات متواصلة مرده تذبذب قادته والتناحرات الشخصية والصراع حول المراكز والموقف الغير وطني‮ ‬من الاحداث وتحديداً‮ ‬حركة الضباط الاربعة وحركة مايس ورشيد عالي‮ ‬الكيلاني‮ ‬وتحديد الموقف من الدولتين المتصارعتين المانيا النازية والاستعمار البريطاني‮ ‬مما أثقل كاهل الشهيد فهد في‮ ‬توضيح معنى الهوية الوطنية ورسم سياسة واضحة وصريحة من الوطن والاستعمار مما دعا الى عقد كونفرنس حزبي‮ ‬عام في‮ ‬آذار‮ ‬1944‮ ‬وهو الأول في‮ ‬حياة الشيوعيين العراقيين‮ ‬،‮ ‬وصدر عنه الميثاق الوطني‮ ‬للحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬والتي‮ ‬تتصدره لافته عريضه‮ ‬” وطن حر وشعب سعيد‮ ‬”? أنعقد في‮ ‬بيت النقابي‮ ‬علي‮ ‬شكر عضو الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬الكائن في‮ ‬منطقة الشيخ عمر‮ ‬،‮ ‬وقد أختير مندوبيه بعناية فائقة وسرية تامة‮ ‬،‮ ‬أنعقد من أجل توحيد صف الشيوعيين ووضع سياسة وطنية على أسس ومباديء النظرية الشيوعية‮ ‬،‮ ‬وعلى الرغم من صدور كراس قبل عام‮ ‬” حزب شيوعي‮ ‬لا اشتراكية ديمقراطية‮ ‬” والذي‮ ‬حدد به جملة قضايا جوهرية من ضمنها تعذر الحزب من عقد مؤتمر عام له بسبب ظروفه وعمله السري‮ ‬وقد مر في‮ ‬كتابه على عدة تجارب أحزاب شيوعية من تأخر عقد مؤتمر لاحزابها في‮ ‬الهند وأوربا رغم مرور سنوات طويلة على تأسيسها‮ ‬،‮ ‬وأخيراً‮ ‬نحن أمام مؤتمر الميثاق الوطني‮ ‬” مؤتمر التنظيم‮ ‬”كما سماه الشهيد فهد في‮ ‬كلمة أفتتاحه في‮ ‬بيت الشيوعي‮ ‬يهودا إبراهيم صديق الكائن في‮ ‬الصالحية تحت شعار‮ ‬” قووا تنظيم حزبكم‮ … ‬قووا تنظيم الحركة الوطنية‮ ‬” أذن أنعقد المؤتمر الأول للحزب العام‮ ‬1945‮ ‬بقيادة فهد وبقوام‮ ‬27‮ ‬مندوباً‮ ‬وبهذا المؤتمر أعلن عن نظام داخلي‮ ‬للحزب الشيوعي‮ ‬وتقرير سياسي‮ ‬وبرنامج فكري‮  . ‬ظل الشهيد فهد الى‮ ‬يوم استشهاده كنز كبير للحركة الشيوعية العراقية وجهوده الكبيرة في‮ ‬بناء حزب شيوعي‮ ‬قوي‮ ‬يؤمن بعملية التغير الثوري‮ ‬وبناء وطن ومجتمع خالي‮ ‬من الاضطهاد‮ . ‬بعد المؤتمر أتخذ الحزب الشيوعي‮ ‬قرارات تكتيكية وأستراتجية في‮ ‬الحقل الوطني‮ ‬تجاه القوى الوطنية العاملة في‮ ‬الساحة العراقية وتجميعها بأتجاه وطن حر ومستقل‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬خضم تلك التداعيات طرح شعار‮ ‬” قووا تنظيم حزبكم‮ … ‬قووا تنظيم الحركة الوطنية العراقية‮ ‬”. كان هم فهد وهم حزبه هو البناء والموقف من الاستعمار البريطاني‮ ‬والقوى الرجعية المتحالفة معه ولأول مرة كانت المواجهة مباشرة ومحتدة من خلال لصق شعارات وتوزيع بيانات على الجدران في‮ ‬العاصمة بغداد‮ ‬،‮ ‬وكان فهد هو شخصياً‮ ‬يقوم بهذه المهام وموقعة‮ ‬” فهد الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬” إذن أصبح فهد المطلوب الأول من الاستعمار البريطاني‮ ‬والحكومة الرجعية‮ . ‬
بعد نجاح المؤتمر الأول للحزب بقيادة فهد توسعت تنظيماته بكل بقعة من أرض العراق‮ ‬،‮ ‬وعادت الى صفوفه مجدداً‮ ‬التكتلات وبعض التنظيمات المنشقة بعد أن حلت نفسها ووضعت مصيرها تحت رحمة قرارات الحزب على سبيل المثال وليس الحصر‮ ‬” وحدة النضال‮ ‬” وخطى الحزب الى تشكيل نوادي‮ ‬ومنتديات ودور نشر تحت مظلة أجنحة الحزب كعصبة مكافحة الصهيونية وواجهات أخرى‮ . ‬يقول لينين‮ ‬” أن الماركسية هي‮ ‬أن تعرف كيف تحدد السياسة التي‮ ‬يجب انتهاجها في‮ ‬هذه الظروف أو تلك‮ ‬”. فهي‮ ‬نظرية عمل ومراجعة ونقد وبناء وليس قالب معلبات أو أدعية أو تعاويذ‮ . ‬في‮ ‬ليلة بغدادية باردة‮ ‬يوم18 ‮ ‬كانون الثاني‮ ‬1947تم أعتقال الرفيق فهد ورفيقه زكي‮ ‬بسيم‮ ‬”حازم‮ ‬” وحسين محمد الشبيبي‮ ‬”صارم‮ ‬” في‮ ‬بيت إبراهيم ناجي‮ ‬شميل الواقع في‮ ‬محلة الصالحية في‮ ‬منطقة الكرخ والقريب من مقر الإقامة الخاص بوزير الداخلية‮ . ‬وتم نقلهم الى سجن أبي‮ ‬غريب العسكري‮ ‬،‮ ‬ودعا خلال محاكمته موضحاً‮ ‬للرأي‮ ‬العام‮   ‬ملحمة الشيوعيين في‮ ‬الدفاع عن الشيوعية وعن الحزب الشيوعي‮ .‬
قوة سياسية
حَوَّلَ‮ ‬فهد الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬إلى قوة سياسية ووطنية متماسكة وفعالة خلال سنوات قيادته‮ ‬،‮ ‬وبنى له قاعدة جماهيرية،‮ ‬وتعمقت جذوره وشهد نمواً‮ ‬قوياً،‮ ‬كما أصبح حزباً‮ ‬يتصدر نضالات الشعب،‮ ‬وجذب ما‮ ‬يقارب نصف شباب كافة الطبقات الاجتماعية إلى الأفكار الشيوعية‮ .  ‬
كانت مواقف فهد في‮ ‬السجن،‮ ‬التي‮ ‬كان‮ ‬يرسلها لقيادة الحزب،‮ ‬تركز على‮ ‬“استقلالية الحزب وعدم التدخل في‮ ‬شؤونه” وقد عارض قرار تقسيم فلسطين خلافاً‮ ‬لموقف الاتحاد السوفياتي‮ . ‬بعد إعتقاله في‮ ‬ذلك اليوم مع رفاقه‮ ‬،‮ ‬لقد تعرض الى موجات من التعذيب الجسدي‮ ‬والنفسي‮ ‬ولم‮ ‬يكسر عوده‮ ‬،‮ ‬بل أزداد تمسكاً‮ ‬بمواقفه وأهداف حزبه‮ . ‬وفي‮ ‬سلسلة جلسات محاكماته وبهدوئه المعهود دافع عن أفكاره الشيوعية والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وقضايا الوطن الوطنية‮ . ‬لقد صمد فهد أمام محققيه وأكتفى بالعبارة آلاتية‮ : ‬أنا سكرتير الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬وإني‮ ‬أمين على أسراره ولا‮ ‬يمكنني‮ ‬أن أدلي‮ ‬بأية معلومات تتعلق بتنظيمات الحزب وبأعضائه أو أسراره والتي‮ ‬يمنع الحزب الإباحة بها‮ ‬”. وقد أجاب فهد عن سؤال وجه إليه‮ ‬” بأني‮ ‬كنت وطنياً‮ ‬قبل أن أكون شيوعياً‮ ‬وعندما صرت شيوعياً‮ ‬فان مسؤوليتي‮ ‬تجاه شعبي‮ ‬ووطني‮ ‬صارت أعظم‮ ‬” وقال إن الاممية لا تتعارض مع الوطنية‮ . ‬واصل فهد رسم سياسة الحزب وتحديد مواقفه من داخل قضبان السجن رغم سلسلة الاحكام التي‮ ‬صدرت ضده وضد رفاقه الميامين من ضمنها أحكام الاعدامات‮ ‬،‮ ‬وقد نفذت الحكومة الرجعية والاستعمار البريطاني‮ ‬عقوبة الاعدام‮ ‬يوم‮ ‬14‮ ‬شباط1949بحق فهد ورفاقه زكي‮ ‬بسيم وحسين الشبيبي‮  ‬بعد أن تم أعتقال قيادة الحزب الميدانية في‮ ‬الخارج وموقفهم الضعيف والمنهار وبعد أن تأكد وبناءاً‮ ‬على أعترافاتهم إن فهد هو الذي‮ ‬كان‮ ‬يوجهنا ويرسم سياستنا عبر نافذة الرسائل والتوجيهات المهربة التي‮ ‬كانت تصل لنا‮ ‬،‮ ‬فأن خيانة مالك سيف واعترافاته هو ويهودا إبراهيم صديق ودور الجاسوس عبد الوهاب عبد الرزاق وعاقبتها المفجعة التي‮ ‬أدت الى أعدام‮ ‬يوسف فهد ورفيقيه زكي‮ ‬بسيم وحسين محمد الشبيبي‮ . ‬بعد أن عرضت أكثر الرسائل أمام المحكمة المتبادلة بين فهد ورفاقه حول آلية العمل والموقف من الاحداث وتطورات البلد والتي‮ ‬سلمها لهم القادة المذكورين إعلاه بعد أن أنهاروا خلال مجريات التحقيق‮ .‬
‮ ‬قررت السلطات بإعدام فهد ورفاقه وقد علقت جثثهم في‮ ‬شوارع بغداد لفترة ليس قليلة‮ ‬،‮ ‬وقد علقت جثة فهد في‮ ‬ساحة المتحف بينما رفاقه الآخرين وزعوهم في‮ ‬ساحة التحرير وباب المعظم وقد سلموا جثثهم الى ذويهم الا إن فهد لم تسلم جثته ودفنوه في‮ ‬قبر سري‮ ‬أكتشف بعد ثورة تموز‮ ‬1958‮ ‬ووضعت داله على قبره إنه فهد مؤسس الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬ورفعت الداله مرة أخرى وأخفيت عندما جاء البعثيين في‮ ‬إنقلابهم في‮ ‬8‮ ‬شباط‮ ‬1963‮ ‬ورجعت الداله مرة أخرى عندما أنعقدت الجبهة بين البعثيين والشيوعيين‮ ‬16تموز1973‮. ‬وأصبح مزاراً‮ ‬وطنياً‮ ‬لقائد فذ‮ ‬يحتذى به‮ . ‬يروى إن السجان الذي‮ ‬قاد فهد الى مقصلة الاعدام سأله عن طلباته قبل تنفيذ الحكم فاراد أن‮ ‬يشوف رفاقه زكي‮ ‬بسيم وحسين محمد الشبيبي‮ ‬وأيضاً‮ ‬أخيه داود الذي‮ ‬كان أيضاً‮ ‬مسجوناً‮ ‬معه‮ ‬،‮ ‬وقد أملى على أخيه داود رسالة الى والدته‮ ‬يعتذر منها على ماسببه لها من أذى وختمها‮ ‬” أنه هو هذا طريقنا لاخيار آخر‮  ‬لنا الا طريق النضال الوطني‮ ‬وتحرير العراق‮ . ‬

Mohammed Al Saadi
Beider Media
www.beider-media.se
070 073 3003


29
حسين حجي كنجي ” أبو عمشه.

شيوعي عراقي تولد بمدينة بحزاني عام ١٩٤٤ التابعة الى محافظة الموصل وسط عائلة ميسورة الحال ولقد إمتهنت السياسة بوقت مبكر على اصولها فنشأوا على تقاليدها الوطنية والثورية مما دفعتهم مقابل ذلك إثمان باهضة في الارواح واليتم والعوز الدائم والهجرة القسرية ، اجتمعت كل تلك الظروف لتكون من شخصية ”أبو عمشه” رفيقاً ومناضلاً وأنساناً . تحدى مع نفسه أولاً ما أصابهم من أذى وخسائر طيلة المسيرة النضالية ، وكان مشوارها الأخير أنفال عام ١٩٨٨ آخر أنفال حكومي بعد أن تعطلت صفارة الحرب الإيرانية العراقية . في تلك الايام العصيبة من الانفال كما يرويها أبو عمشه بغصة وحزن وندم مما جرى بالتفاصيل واليوميات وموقفه الواضح تجاه المسؤول الحزبي الجاهل المتعجرف في قاطع بهدينان ، وما وقع عليهم من تراجيديا سوداء ، والذي نكل بمصير تلك العوائل رغم صراخة الاصوات وحزن النساء ورعب الاطفال من مغبة ذلك المصير المجهول  ، كان في مقدمة تلك الاصوات أبو عمشه ليس إنطلاقاً فحسب من أجل جمع من أفراد عائلته وزوجته ” غالية حجي ” أم عمشة وعندما أعتقلت تلك المرأة مع أولادها كانت حامل بالشهر الثامن وولدت في السجن بنت وأسمتها عاصفة فقتلت مع أمها وأخوتها الثمانية . بالإضافة الى والدته ” غزالة علي ” وشقيقته ” بكية حجي كنجي ” مع عائلة شقيقه المناضل جمعة كنجي والد رفاقنا صباح وكفاح . وأولاده وأخواته ووالديه ، حيث كان همه أكبر بمصير شعب وناس ضحى من أجلهم .

في نهايات الستينات تبوأ مركزاً حزبياً سكرتير محلية الموصل وقاد العمالية والخطوط السرية العسكرية في المدينة ، فكانت عيون البعثيين في المحافظة تلاحقه بعد أن شعروا بموقفه الواضح والرافض بعقد الجبهة مع البعثيين . فأستطاع أن يطفر سريعاً ويتخلص من مكائدهم بعد أن لاحت تباشير إعلان فرط التحالف معهم فوصل الى الجبل وبدأ بتشكيل الفصائل المسلحة من الرفاق الهاربين من جحيم الدكتاتورية . وواصل النضال في غمار تلك التجربة الى ساعات مشوارها الأخير في الانفال الحكومي يتميز بموقفه الانساني وعلاقته بالآخرين لا تحجزه عن ذلك المواقف السياسية المختلفة في نظرته السامية الى الانسان . ما زال يواصل ويتواصل من منفاه الدانماركي مع رفاقه وأصدقائه بحب وود ويتابع قراءاته المتأنية في الاحكام والمواقف بعيداً عن الببغائية والحكم المسبق في التقيمات . في فضاء مزرعته الصيفية يتأمل الوطن بزهوره ورائحته وتكبر في لقاءاته مع محبيه ورفاقه تحت قمرية العنب المتدلي .

في منتصف الستينات ولغاية منتصف السبعينات وفي تلك الفترة الزمنية تفرغ للعمل الحزبي في محلية الموصل  ، ورغم تفرغه للعمل الحزبي طرق باب التجارة وفتح معمل صغير لانتاج العرق من أجل تمشية أمور العائلة . أبو عمشه ما زال من الكوادر الحزبيين الذين يقرأون ويتابعون ويحللون على أساسيات الاسس الصحيحة في الوعي والموقف بالرغم من أوضاعه الصحية الصعبة ، ورغم كل تلك الظروف والملابسات السياسية تميز بعلاقاته مع رفاقه وناسه ومواقفه معروفة وآرائه واضحة داخل تنظيمات الحزب . كان عضواً فعالاً في لجنة تنظيم الخارج ” لتخ ” وقد تفرد برأيه أيام الجبهة مع البعثيين في الموقف منها والتحسس من نتائجها . في مركز عمله الحزبي في الموصل دعا الى تشكيل فصائل مقاومة لسلطة البعث في المدينة للحد من تجاوزاتهم المستمرة والمجحفة بحق الشيوعيين ولم تطرب له أذن صاغية . تميز بموقفه المعلن ضد عقد الجبهة مع البعثيين طيلة فترتها المخيفة .

وضعه الصحي العام لم يمنع من إداء واجبات عمله الحزبي طيلة حياته . سافر الى تشيكوسلوفاكيا للعلاج عبر لبنان وعند وصوله تم إعتقاله من قبل مجموعه فلسطينية لفترة محددة وتم اطلاق سراحه بعد ضغط من الجبهة الديمقراطية على الجهة التي أعتقلته . عاد الى كردستان عن طريق إيران لحضور المؤتمر الرابع ١٩٨٥ ، لكنه أعتقل في مطار العاصمة طهران وبقي فترة في السجون الإيرانية مما حرم من حضور وقائع المؤتمر . وهو في ريعان شبابه خاض تجربة الانصار من الجبل على طول مسيراتها بدءاً من العام ١٩٦٣ .

  في العام ١٩٨٦ تسللت مرتين من الجبل الى العاصمة بغداد عبر رفاق محلية الموصل ومن الاراضي التي تحت سيطرة أقدامهم ولخطورة الوضع آنذاك وحساسية المهمة لم يعنيني وقتي باللقاء الكافي والتعرف على الرفيق أبو عمشه . في المهجر ولجملة تداعيات توطدت علاقتي ببو عمشه وأمتدت الى لقاءات دائمة رغم تقاطع الافكار والآراء بمواقف عديدة تخص شأننا ، لكن لم تحد من نسبة الود والتواصل بيننا، وهذاالشيء المشرق في شخصية أبو عمشه وتحسب له مجداً في تاريخه السياسي والاجتماعي هو إستيعابه للآراء الأخرى مع الاعتزاز برأيه بهدوء والانسجام مع فكره وموقفه بدون مواربة مع أحترام آراء الأخرين ، وهذه صفة قلة ما تتوفر في وسطنا وسط الاشاعات وسرعة عدوتها حتى تجاوزت عدوة وباء المتحور ” أوميكرون ” . فهو يعد شخصية معتدلة في الرأي والموقف وهذه لم تأتي من لاشيء فواحده من مؤثراتها علاقاته مع الآخرين والاصغاء لهم والحوار على قاعدة الخلاف لايفسد للود قضية . وقضية أبو عمشة مع اليسار والماركسية مرنه ورحبة وتهدف الى لم شمل الجميع من أجل وطن معافى . 

محمد السعدي
مالمو/شباط٢٠٢٢

30
الشيوعية ” ورعيلها الأول في قرية الهويدر ”العراق.

لم أنفض يدي من مسعاي المتواصل منذ عام قضى أمام عدة عقبات جدية أعترت طريقي في الظفر بملف أرشيف يوثق البداية بتشكيل تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في قرية الهويدر محافظة ديالى . وكانت في مقدمة تلك العقبات شخصية أولاً تخص وضعي بسبب بعدي عن العراق والقرية أربعة عقود مما حرمني من متابعة معطياتها عن قرب ومواكبة روادها الأوائل ، والذين رحلوا تباعاً الى دنياهم الأخيرة ولم يتركوا لنا صورة أو وثيقة أو أرشفة ممكن الاعتماد عليه في عمل دراسة توثيقية عن أهم جزء من حزب سياسي في تاريخ العراق . في نهاية الستينيات ، وبدأ السبعينيات من القرن الماضي ، كانت للذاكرة مساحات في فضاءات القرية من حراك سياسي وأحاديث متداولة وسط العوائل وبين الناس على تخوت المقاهي في تداول شخصيات وأسماء أقترنت بالنشاط السياسي والعمل الحزبي ، وكانت جديرة بالتمعن آنذاك في ظل الجو السياسي . الشيوعيين أول من تصدر المشهد السياسي في القرية ، وهذا ليس بمعزل عن أحداث ووقائع عربية وعالمية أثرت على مجمل الوضع في العراق أنتصار السوفييت في الحرب العالمية الثانية وأسطورة الجيش الأحمر وحرب الانصار وظهور دراماتيكي لحركات تحرر وفصائل مقاومة في الشرق الاوسط وأمريكيا الاتينية .

ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ تركت بصمتها المميزة في مجال الحرية السياسية والعمل الحزبي على طبيعة المجتمع العراقي في تطوره التاريخي ، والهويدر جزء من هذا الواقع الجديد الذي أنعكس في بلورة التشكيلات الاولى للخلايا الحزبية ( الشيوعية ) . ربما الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية للتركيبة السكانية لاهالي القرية سرعت من بلورة التنظيمات بشكل سريع وباعداد متزايدة قياساً بالنسبة السكانية لتركيبة القرية . وقد تصدر هذا المشهد في حجم الانعطافات بإنطلاق الخلايا الشيوعية الأولى في القرية وسط شرائح أبناء القرية من فلاحين وعمال ومثقفين على يد شريحة مهمة من أبناء القرية عاهدوا نفسهم وشعبهم في مواصلة نضالهم من أجل وطن آمن .

محمد الدفاعي ( أبو قاسم ) ، مالك بساتين ولاحقاً أيام الجبهة مع البعثيين أفتتح محل للمواد الغذائية في وسط القرية وبات ملتقى للشيوعيين ومحطة لتوزيع جريدة الحزب ( طريق الشعب ) وأدبياته . كان له الدور الأكبر وشكل محوراً مهماً في بناء الخلايا الحزبية الشيوعية في القرية ، وبعد إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣، وقتامة الاحداث  ، كان المطلوب الأول في القرية من قبل أنقلابيي شباط مما تمكن الخلاص من أذرعهم في محاولته الجريئة بعبور الحدود الى إيران ومكوثه في العاصمة طهران لمدة عام . عاد بعد أن أستتب الحال أثر محاولة عبد السلام عارف في ١٨ تشرين عام ١٩٦٣ في إنقلابه على البعثيين . وبعودته هذه شكل رمزاً وطنياً ومرجعاً حزبياً وتاريخياً للشيوعيين في القرية وباقي المدن والقصبات في محافظة ديالى بما كان يتحلى به من قوة شخصية وحضور طاغي وقدرة متميزة على التحليل وإستخلاص الدروس وحنكة العبر وقراءة مسبقة للاحداث الى آخر يوم من رحيله .

عبد الأمير كاظم ( التكة ) ، صاحب ورشة تصنيع ( قفاصة ) من جريد النخيل . دهاليز البلد ربما هي التي دعته لهذا التحول من شيوعي صلب في الدفاع عن الحزب ومبادئه الى بعثي هاديء ومتماسك وحب مفرط للشيوعيين . لقد قص لي لأكثر من مرة واقعة السيارة ( المقلوبة ) . عام ١٩٥٩ عندما كان خالي الشيوعي والضابط العسكري خزعل السعدي محجوز في سجن رقم واحد ، وكنت رضيعاً في حضن أمي عندما ذهبوا أبي وعبد الأمير وأمي وأنا في حضنها الى بغداد بزيارة خالي في السجن ، ولقد أنقلبت السيارة عدة مرات  في وسط الطريق وقد نجوت بأعجوبة خارقة .

جاسم كسارة ( أبو كفاح ) ، معلم . عندما فرط التحالف مع البعثيين نهايات ١٩٧٨، وأشتدت الهجمة عليهم  توارى عن الانظار تاركاً زوجته وطفله كفاح وحيدين . ومن أكثر المعلومات في حوزة متابعيه ورفاقه أختفى في العاصمة بغداد من أجل بناء هياكل للتنظيم ، الذي تهاوى ، فأعتقل وغيب في دهاليز البعث منذ ذلك الحين ولا دالة تشير له منذ يوم الاربعاء ٩ نيسان ٢٠٠٣ .

ثابت سعيد الزيدان ، معلم ومثقف ومتابع جيد للتطورات والصراعات ، نجا من أحداث ١٩٦٣ ، وكان شديد الموقف تجاه البعثيين وسياستهم . ربما ثوريته الراسخة هي التي جذبته الى خط الانتفاضة الحزبية في ١٧ أيلول ١٩٦٧ والتي عرفت وسوقت بالانشقاق ولصقت بعزيز الحاج سكرتيرها المعلن . أعتقل المناضل ثابت على أثر موقفه الجديد بتبني سياسة الكفاح المسلح لاسقاط نظام البعث وتعرض الى وجبة تعذيب قاسية في دهاليز البعث ، وما زلت صغيراً وذاكرتي طرية واقفاً بدكان أبي ، عندما أتت به سيارة أمنية ورمته في منطقة الحمام في قرية الهويدر وسط الناس بجانب مقهى الحاج إبراهيم الجولاغ مدمى ومكسر من أثار التعذيب . ظل يعاني سنوات طويلة من عاهات جسدية ، لكنها لم تعيقه من عشقه وولعه بالفكر الشيوعي موقفاً وأخلاقاً ومعدناً .

سيد عبود .. أنتمى للحزب الشيوعي في وقت مبكر ، أعتقل في أحداث ٨ شباط وتلقى تعذيباً وحشياً ولم ينكسر عوده ، بعدها أنتقل الى بغداد ، وظل يزور القرية باستمرار ويتفقد رفاقه وأهلها . في ثمانينات القرن الماضي رحل الى عالمه الابدي .

قاسم محمد طاهر .. قاسم بيه ( أبو جياب ) ، إعتزازاً بأسطورة البطل التاريخي الفيتنامي ( جياب ) سمي أبنه ، والذي راح غدراً بعد إحتلال العراق بواحدة من الاعمال الارهابية لتنظيم القاعدة ، وعقبته عدة مأسي نالت من العائلة مما رحل أبو جياب حزيناً متألماً على ما أصابه تالي العمر . أبو جياب ، كان من الرعيل الأول في تنظيمات الخلايا الحزبية في القرية ، بعد ٨ شباط ١٩٦٣ أبتعد عن آلية التنظيم تماماً ، لكنه بقي الى آخر يوم من رحيله متمسكاً بالفكر الشيوعي بنهجه الثوري .

أحمد حسين البياتي .. الشاعر والاديب والاستاذ ، هو الذي أختارني أن أكون أحد شخصيات مسرحيته ( حلاقة المدينة ) ، بدماثة خلقه ونموذجه الفريد في الحياة والتعليم عكس النموذج الشيوعي الاصيل .

محمد أحمد عبادة العنبكي .. ( أبو أسيا ) ، كان رجلاً هادئاً مطلعاً على طبيعة ظروف أحوال القرية وحراكها السياسي .

عائلة بيت الطيار .. محمد الطيار ، خالد الطيار ، طارق الطيار . في زمن الجبهة مع البعثيين ، كان طارق وجهاً شيوعياً مكشوفاً ، لكن بعد فرط عقدها ، تكتر جانباً .

عائلة هادي الصالح .. الأخوين فاروق ، ذكاء . الصديق والرفيق ذكاء ، كان شخصية ديناميكية ، متواضع ومحبوب من الجميع .

عبد علي حمزة الشمري .. المعروف ب ( فيروز ) . بقي ومازال محافظاً على ألتصاقه بالحزب من خلال علاقاته ومواقفه .

عدنان محمود الرضا .. ( أبو زاهد ) . يشار له من الشيوعيين القدامى ، وهو محافظاً على هذا اللقب في عيون وقلوب الناس .

حسن عبد الهادي .. ( أبو زاهد ) . معلمي العزيز ، كان قنديلاً شيوعياً ، شكل مع زوجته بنت جيراننا الشيخ داود بيتاً شيوعياً مثالياً .

عائلة خماس الططو .. رشيد .. مجيد . جيراننا ومسيرة توجهاتنا اليومية الحياتية ، كنت طفلاً في عصرية يوم ما ، عندما أقتحم رجال الامن بيتهم ، وقادوهم الى المجهول . وهمس صوت عمي ردام في صداه لانهم شيوعيون .

جلال أبن الباي ..( أبو سحر ) .. أول شيوعي تحدث معي في دوكان أبي حول الحزب الشيوعي ، وكان عمري ما يقارب ١٣ عاماً .

محمد العلي .. ( أبو جسام ) .. فلاح مظهره يدل على تواضعه وبساطته ، لكن وعيه الطبقي واضح في سلوكه وموقفه وشبكة علاقاته .

عائلة زهدي .. محمد .. فرج .. عصام . المرحوم عصام عطر الذكريات وفواح التجربة ، لقد كنت محظوظاً في زيارتي اليتيمة الى العراق عام ٢٠٠٤ ، قد ألتقيه قبل رحيله المفاجيء . ذكراك طيب أبو حسين .

عائلة هاشم الشيخ داود .. عدنان .. ثامر .. فاضل . تلك العائلة ورفاقها ممن تأثرت بهم في الحياة والسياسة .

ثامر حميد علي الشان ( أبو لؤي ) . واحد من الشيوعيين ، الذين يعملون بصمت وقناعة منقطعة النظير ، ظل محافظاً على بريق الشيوعية وما زال .

ظلت الكتابة عن الخلايا الشيوعية الاولى في قرية الهويدر تراودني دائماً ، وطوال ما ينيف على أربعة عقود من الزمن أمضيتها في الغربة أتابع كل ما كتب عنها أو ذكر شيء عن روادها الاوائل بالنزر اليسير ومحاولاتي ما زالت قائمة بالتواصل مع رفاقي وأصدقائي أبناء قريتي للحصول على معلومات قد تدليني أو تساعدني على الوصول الى هدفي ، الذي هو جانب مشرق وتاريخي من سيرة أبطال سطروا ملاحم وسجلوا بطولات في زمن لم يكن هيناً ولا سهلاً في ظل أنظمة متعاقبة على تاريخ العراق .
أتقدم بالشكر الجزيل لكل من تعاون معي بمعلومة أو تصويب أو ملاحظة . وأخص بالذكر الاستاذ سيد حسين الهاشمي ( أبو أزل ) والرفيق المعتق فائق هاشم العنبكي ( أبو حيدر ) . الصديق والاستاذ عبد الحسين أحمد الخفاجي . أنا شخصياً أثني على موقفه وبحوثه في تناول تاريخ الشيوعيين ، ووقفة إعتزاز في إصدار كتابه حول الشيوعي محمد الدفاعي . هذا المقال بمثابة تذكير للاصدقاء والرفاق في البحث والتقصي عن تاريخ الشيوعيين الهويدراويين .

محمد السعدي
مالمو/٢٠٢٢

31
الأرض والسلاح والإنسان .

سيرة ذاتية للصديق والقاضي زهير عبود كاظم عنوان كتابه ”الأرض والسلاح والإنسان ” الصادر عن دار نشر 4D في مدينة النجف الاشرف ” الذي أهدانياه مشكوراً ، والذي لفتني عنوانه بتلك المفردات الثلاثة تعبيراً عن الإنسان ومحطات حياته النضالية في حقبة مهمة من تاريخ العمل الفدائي ( الفلسطيني ) عشية هزيمة ٥ حزيران عام ١٩٦٧ . في مقدمة كتابه ، الذي يحوي ١٢٦ صفحة من الحجم الكبير عرض موجز ومكثف عن بدايات إعلان الثورة الفلسطينية وإنطلاق منظمة التحرير ” فتح ” بقيادة ميدانية من رئيسها الراحل ياسر عرفات ، وتداعيات الموقف العربي الرسمي والشعبي في الدعم والمساندة المعنوية والمادية والاعلامية والوجستية بإتجاه تحرير الارض الفلسطينية المغتصبة من قبل الكيان الصهيوني ودوائره الامبريالية ، فضلا عن هذا الدعم والتأيد الكبيرين للقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير ممثلها الشرعي في التمثيل والنضال ، لكن تناسلت عنها عدة تنظيمات ومنظمات بداً من الجبهة الشعبية مروراً بالجبهة العربية لتحرير فلسطين الى منظمة حماس بعد أن أصبحت قراراتها ووجودها بيد قرارات وأمزجة الانظمة والدولة التي أحتوتها وبمرور الاعوام تحولت من مشاريع نضال وتحرير وعمليات فدائية الى سياسة تطبيع وإستسلام والتخلي عن شعارات الدولة القيطة والخنجر المغروس في قلب الوطن العربي . كان خطاب الاعلام العربي تأثيره النفسي والوطني بإتجاه تعبئة الشارع العربي نحو تحرير فلسطين فلبى هذا النداء الآف من الشباب العربي باتجاه التطوع في العمل الفدائي من أجل تحرير فلسطين ولم يغب عن بال الآخرين هناك دوافع وعوامل ثانية وثالثة دفعت هؤلاء الشباب بالتضحية بحياتهم ومستقبلهم .

زهير إبراهيم خالد .. من أهالي صفد / منطقة الصفصاف ، هذه هي هويته الجديدة من مكتب الجبهة الشعبية القيادة العامة في العاصمة بغداد ليحملها بصفة مقاتل فدائي بين عمان ودمشق لمدة تسعة شهور وتسعة أيام  يسردها بتفاصيل المدن والشخصيات والوقائع والاحداث والمفاجأت وروح التجربة ، في بداية حياته بمدينة مسقط رأسه ”الديوانية” أحدى معاقل الشيوعيين في الفرات الأوسط أنتمى الى خلية حزبية ولضنك العيش وصعوبة وضع أهله المعيشي تطوع نائب ضابط في الجيش العراقي ، وظل مجاهداً متمسكاً في خليته الحزبية الشيوعية ، وفي موجة حملة مداهمات وإعتقلات قبل إنقلاب البعثيين عام ١٩٦٨ ، أدت الى اعتقاله وطرده من الجيش وراح يبحث عن وعاء جديد يرى به نفسه ويلبي طموحه ويحقق رغباته في النضال والعنفوان فقادته تلك الهمم الى مكتب الجبهة الشعبية / القيادة العامة ”أحمد جبريل في العاصمة بغداد ليسجل نفسه فدائياً عربياً. تجربة غزيرة يرويها القاضي زهير عبود كاظم في إستذكار سيرته الفدائية وتتبع أدق تفاصيل مجرياتها بحرارة ذلك الزمن من المقاومة والنضال ووقعها التاريخي والوطني .

بعد تسعة سنوات وتسعة شهور يرجع الى وطنه العراق عبر بوابة ”دمشق عاصمة الامويين الذي يصف مدنها وأزقتها وشوارعها بالرشاقة والوسامة ونهر ”بردى الذي يضيء تاريخ وجه المدينة وعنفوانها . بغداد .. التي تركها منذ شهور الى العاصمة عمان التي يراها مدينة صغيرة وقديمة وتاريخية ويتوسط شارعها الرئيسي فندقها الوحيد . عاد الى مطرحه الأول مدينته ”الديوانية”وجيبه ممتليء بالافكار والطموحات قد تفوق عمره في ذلك الزمن . ومرة أخرى بين صفوف تنظيمات الحزب الشيوعي في مدينته تحت ظروف معيشية صعبة للغاية ، وكان يتطلع كأي شاب بعمره وطموحه الى مستوى دراسي قد يرفع به مستوى عائلته المعيشي والمادي ، وكان يأمل أن يمنح زمالة دراسية عن طريق الحزب الشيوعي العراقي الى أحدى الدولة الاشتراكية ، لكنه أزداد أحباط وخيبة ، عندما شاهد بأم عينيه طريقة منح الزمالات الدراسية الى أولاد القادة الحزبيين وذيولهم ، هنا وقفني أمام تجربة شخصية سابقة  أيام الجبل وحرب الانصار ، كانوا يأتون لنا شباب من المدن ولا أحد يعرف ربهم ولا ممكن حتى الاختلاط معهم ومعرفة أساسياتهم وطيلة وجودهم في مقراتنا عيونهم تربوا الى الطريق المؤدي الى  إيران ومن هناك الى دول الزمالات والدراسات على حساب رفاق ومناضلين ومقاتلين أشداء ؟.

في ١٥ شباط ١٩٧١ يترك مدينته والعراق مرة ثانية بحزن بعد أن خابت ظنونه وأهتزت قناعاته وسيطرة البعثيين على السلطة ودفة الدولة واللعب بمقدرات الناس فلم يجد أمامه سبيلاً الا العاصمة دمشق حيث هناك النشاط والعمل السياسي ( الفدائي ) ، ليجد نفسه مجدداً مقاتلاً وسط تنظيمات منظمة الصاعقة واسمها الرسمي " طلائع حرب التحرير الشعبية - قوات الصاعقة ", هي منظمة فلسطينية قومية موالية للبعث السوري (على عكس جبهة التحرير العربية الموالية للبعث العراقي . ولخبرته السابقة في العمل الفدائي وفي الجندية العراقية يرحل الى جنوب لبنان مسؤول أحدى الفصائل المسلحة في منطقة ( جبيل ) الحدودية مع العدو الصهيوني .

الذي لفتني في كتاب القاضي زهير عبود كاظم ( أبو علي ) ، ذاكرته في ذكر التفاصيل التفاصيل اليومية لكل يوم من خلال تجربته ، الاشخاص ، المواقع ، التعرضات ، المفاجأت ، الشهداء ، القادة ، الامكنة ، حمدونه ، التموين ، تفاصيل الطبخ ، القرى ، السلاح . حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ كانت ومازالت تداعياتها تلقي بظلالها على الشارع العربي والموقف الرسمي للحكومات وتحديداً التي خاضت الحرب أي دول المحور والتصدي العراق ، جمهورية مصر ، سوريا . وقد خاض المصريون الحرب مع الكيان الصهيوني على أمتداد جبهة واسعة تجاوزت  عبور خط ”بارليف المنيع ” الى قناة السويس .  سوريا وجيشها العربي والفصائل الفدائية لقد تعرضت الى ضغوطات كبيرة ، وكان لوقفة الجيش العراقي من خلال مشاركته في الدفاع غير مجرى المعركة بإتجاه آخر . نتيجة الحرب وتداعياته تركت أثارها على الفصائل الجهادية في خطط عمل جديدة وسيناريوهات مختلفة . يذكر القاضي زهير في ختام كتابه بعد تلك الاحداث وجد له كرسياً في جامعة دمشق ليكمل مشواره العلمي والاكاديمي وليتخذ من القلم والقانون وسيلة نضالية في خدمة مشاريع الوطن والانسان . 

محمد السعدي
مالمو/كانون الأول ٢٠٢١



32
علي الوردي وشخصية الفرد العراقي .

سابقاً .. لم يعينني وقتي بالإطلاع الكافي على مؤلفات عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ، أي نعم في بدايات وعينا الاولى وإرهاصات السياسة ، كنا نردد شذرات من نتائج دراساته وطروحاته وأستنتاجاته حول الشخصية العراقية وازدواجيتها في المواقف العامة والحياة الخاصة ومؤثرات الصراع بين قيم البداوة والحضارة  ونظرية التناشز الاجتماعي وإنعكاساتها على السلوك العام للفرد العراقي وموقفه من الحاكم والعشيرة والقبيلة والطائفة . يقول كلام به حق ووجهة نظر في الشخصية العراقية من السهولة أن تبايع الحاكم وتهتف للسلطة وأيضا من السهولة أن تتخلى عنه وترفع السلاح بوجهه في منعطفات المواقف والاحداث والوقائع والبراهين كثيرة بهذه المضامير القديمة والحديثة وليس بصدد الوقوف على تفاصيلها المملة . في قراءاتي الاخيرة عن ”علي الوردي ”سيرته الذاتية ومؤلفاته في علم الاجتماع العراقي والحركات الاجتماعية وتحليل مواقفها على ضوء دراسات سابقة وتأثره بمنهج ابن خلدون التاريخي في علم الاجتماع .
كان الوردي متأثراً بمنهج ابن خلدون في علم الاجتماع. فقد تسببت موضوعيته في البحث بمشاكل كبيرة له من بعض الاطراف السياسية الفاعلة في ساحات العراق لواقعية استنتاجاته وموقفه العلمي الصحيح المعلن بعيداً عن أتكت المجاملات والمحاباة ، لكن هذا لن ولم يثنيه عن صراحة ومنطق بحوثه في تكوينات وتحليل الشخصية العراقية ، لأنه لم يعتمد الفكر الماركسي في منجزاته ولم يتبع الأيدولوجيات (الأفكار) القومية الجاهزة مما قد آثار هذا حنق متبعي الأيدولوجيات فقد اتهمه القوميون العرب بالقطرية لأنه عنون كتابه" شخصية الفرد العراقي" وهذا حسب منطلقاتهم العقائدية إن الشخصية العربية متشابهة في كل البلدان العربية. وكذلك انتقده الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي الماركسي في دراسته .

تشير سيرته الذاتية الى إنه …

علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 13 تموز 1995 م)، وهو عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ وعُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي، وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية، كما فعل في كتاب وعاظ السلاطين وهو من رواد العلمانية في العراق . لقبت عائلته بالوردي نسبة إلى أن جده الأكبر كان يعمل في صناعة تقطير ماء الورد ، التي أشهر بها العراقيين في فترات سابقة . في مدينة اوستن، بالولاية الامريكية تكساس الامريكية. حصل على الدكتوراه عام 1950م من نفس الجامعة التي درس بها دراسته الجامعية .

قال له رئيس الجامعة عند تقديم الشهادة له: (أيها الدكتور الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع ). تشير حصيلته في الدراسات والبحوث الى أكثر من 150 بحثا مودعة في مكتبة قسم علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة بغداد. ويسرد علي الوردي في يومياته إن ولادته في عام ١٩١٣ لقد حققت له فرصة التعلم والمعرفة والتي شهدت نهايات الحكم العثماني ، والتي كانت المدارس في فترة هذا الحكم ضئيلة ومختصرة على أولاد الباشوات والاعيان ، لكن فرصة مجيء ملك فيصل الأول ملكاً على العراق فتحت أبواب العلم والمعرفة من خلال بناء المدارس والنوادي التعليمية وأعتزازاً منه بتلك المرحلة أطلق على أحد أبنائه فيصل . ويستذكر طفولته في بداية حياته الدراسية عندما كان يعمل صانع في محل للرزق، كيف كان يهمل الزبائن ويلهو بقراءة الكتب مما دعا صاحب المحل الى طرده من شغله .

علاوة على شجاعته في كتاباته ومحاضراته إنه كان يكتب بلغة متناهية في السلاسة والفهم والوضوح بلغة تحليلية نقدية تفكيكية للشخصية على منهج أبن خلدون في دراستة لعلم الاجتماع . تفرد في بحوثه وكتاباته بالموضوعية والغوص في تركيب النفسية الاجتماعية ولا يبالي وبدون تردد ولاخوف من كل الفرق والحكومات وأجهزة الشرطة والقمع وعلى مدار عقود في مواصلته من نشر بحوثه واعلانها للملأ رغم كل الضغوطات الهائلة والاغراءات الثمينة لكنه بقى متمسك بمنهجية العلم والبحث والتحليل في إداء رسالته العلمية والانسانية . وقد وجد وتوصل من خلال بحوثه خواصاً في الشخصية العراقية غير التي موجودة في تكوينات النفس البشرية مما أغاضت الحكام والحكومات على مدار الانظمة المتعاقبة ، وجد بها نموذجاً لاتشاركه فيه أبناء المجتمعات الاخرى .

حصد علي الوردي سخط البعض نتيجة أفكاره النقدية وبرز ذلك عند إصدار كتابه الأول "وعاظ السلاطين"، الذي يسخر فيه من النزاعات التي حدثت حول الأفضلية بين عمر وأبي بكر وعلي والذي كانوا برأيه يمثلون اتجاهاً واحداً. وبعد إحتلال دولة العراق من قبل القوات الامريكية وحلفائها عام ٢٠٠٣ برزت تلك النبوءة الى العلن في الاقتتال الطائفي الدموي الذي شخصها وحددها علي الوردي في ملامح الشخصية العراقية من خلال سلسلة دراسات واستنتاجات توصل لها في بحوثه .
ساهم على الوردي في إعادة قراءة الأحداث الإسلامية بنظرة واقعية موضوعية بعيدة عن المثالية وعن التحيّز للأحداث التي حصلت في التاريخ الإسلامي، كالصراع السني الشيعي وتداعياته التي ما زال المجتمع العربي يتجرع مرارتها، فدعا في منشوراته إلى نبذ الخلاف الطائفي لأن الزمان أكل وشرب على هذا التاريخ القديم ، وكان أبن بيئته أنذاك بحكم الظروف والمعطيات التي كانت سائدة .

يشكل كتابه الثاني بعد كتابه الأول ” وعاظ السلاطين ” مهزلة العقل البشري ”الصادر ١٩٥٩ علامة فارقة في طروحاته فيه تمكن من تفكيك شبكات العقل ووسائل التفكير من خلال تحليلاته حول المنعطفات التاريخية التي عصفت بسيرة الحضارة العربية الاسلامية والخلاف حول المذهب ومرجعيته بعد مقتل الخليفة الاسلامي الثالث عثمان ابن عفان وبروز فرق شيعية وسنية ومنذ ذلك الوقت ظل هذا الصراع متخفياً تحت أجندة متعصبة وحاقدة من الطرفيين ، وبعد أن أحتل الامريكان بغداد عام ٢٠٠٣ فتح الشيخ جلال الدين الصغير مسجد براثا في كرخية بغداد ليكون ناصية للبث الطائفي والتحريض على القتل للمكون الآخر ، مثلما في المقابل راح السنة بتشكيل فرق وطوائف للقتل والذبح . رآى علي الوردي في كتابه هذا للحقيقة عدة وجوه ناقداً مبدأ ارسطو في نفيه للوسطية في دراسة الظواهر الاجتماعية . الملاحظ في السنوات الأخيرة ومما أصاب العراق والمنطقة بشكل عام من أحداث وأنقلابات وأحتلالات وقتالات وتشرذم على كل المستويات السياسية والفكرية والاخلاقية والاجتماعية مما ترك ألتفات واضح بمؤلفات علي الوردي وتداولها بشكل واسع من المهتمين والدارسين وعامة الناس من حيث قراءتها مرات وأعادة طبعها من عدة دور نشر بعد أن وجدت هذا الاقبال المتواصل من عامة الناس على متابعتها وأعادة قراءتها ، وقد أقيمت برامج تلفزيونية وندوات وعبر منصات التواصل الاجتماعي حول سيرته ومؤلفاته وأستنتاجاته حول تركيب النفس البشرية في سبق أغوارها وأبداعها .

محمد السعدي
كانون الاول/مالمو/٢٠٢١


33
قراءة في‮ ‬كتاب مهمة من بغداد‮    2-3
وثائق سويدية وعراقية مخفية آن الأوان لإطلاقها
محمد السعدي‮ ‬
كشف المؤلف ماتس إيكمان في‮ ‬كتابه‮ ( ‬صفحة‮ ‬84‮) . ‬طبيعة وحجم التعاون الوثيق بين جهاز المخابرات العراقي‮ ‬في‮ ‬بغداد والدكتور‮ ( ‬ف.ط‮ ) ‬طبيب من الموصل‮ ‬يعمل في‮ ‬شمال العاصمة السويدية بمدينة‮ ( ‬أوبسالا‮ ) ‬وبالتعاون مع مسؤول تنظيمات حزب البعث في‮ ‬السويد‮ ( ‬ع.م.ت‮) ) ‬الذي‮ ‬يشرف على خلايا التنظيم للبعث ومنها خلية‮ ( ‬إستوكهولم‮ ) ‬والتي‮ ‬كانت تضم بين صفوفها‮ ( ‬ص.س‮) ‬،‮ (‬ن.ب‮) ‬،‮ (‬ح‮.‬غ‮) ‬،‮ (‬هـ.ح‮) ‬طبيب جراح دماغ‮ ‬،‮ ‬وطبيب بيطري‮ ‬أسمه‮ (‬ج‮) ‬وآخرين‮ ). ‬
نقطة مهمة
في‮ ‬صفحة رقم‮ (‬208‮) ‬يتوقف المؤلف ماتس إيكمان عند نقطة مهمة حول ما‮ ‬يسمى‮ ( ‬إستئصال الرحم‮ ) . ‬كلمة السر في‮ ‬تنفيذ العملية‮ ‬،‮ ‬وبعد ثلاثة أيام من عملية أزالة الورم الخبيث‮ ‬،‮ ‬هكذا أطلقوا عليها بعد تنفيذها بنجاح‮ ‬،‮ ‬أي‮ ‬تنفيذ العملية بنجاح بتقطيع جسد‮ (‬م.ح‮) ‬في‮ ‬العاصمة السويدية‮  ‬في‮ ‬يوم‮ ‬4‮ ‬أذار العام‮ ‬1985 ‮. ‬حصل أتصال هاتفي‮ ‬مع‮ (‬م.ع‮) ‬على رقم هاتف البيت الذي‮ ‬يعيش فيه‮ ‬653073‮. ‬وكان‮ ‬يسكن شقة في‮ ‬الطابق السابع في‮ ‬إستوكهولم وهو‮ ‬يمارس عملاً‮ ‬تجارياً‮ ‬أيضاً،‮ ‬وهو قريب جداً‮ ‬من حادثة القتل المذكورة وهو‮ ‬يعمل بنفس خلية تنظيم البعث في‮ ‬بغداد‮ . ‬أجابت زوجة‮ (‬م.ع‮) ‬على رنات الهاتف الأرضي‮ ( ‬ج.ن‮ ) ‬،‮ ‬وبادرتهم بالجواب بأن‮ (‬م‮) ‬في‮ ‬الحمام الآن‮ . ‬أذن أبلغيه‮ ‬يتصل بنا بعد خروجه من الحمام فوراً‮ ) . ‬لأمر هام ومهم‮ ‬يتعلق بطبيعة عملنا وشغلنا‮ ‬،‮ ‬لقد وجدت جثة الرجل الذي‮ ‬أختفى مقطعة ومتروكة في‮ ‬الشارع‮ . ‬لم‮ ‬يتصل‮ (‬م‮) ‬بالجماعة المتصلة في‮ ‬ذلك اليوم‮ ‬،‮ ‬وانما أتصل في‮ ‬اليوم الثاني‮ ‬،‮ ‬وكان قلقاً‮ ‬ومتوتراً‮ ‬وصوته مبحوحاً‮ ‬،‮ ‬وتوالت عليه الأتصالات في‮ ‬الأيام الأخيرة من عدة مؤسسات وجهات مختلفة وبأرقام سرية أحياناً‮ .  ‬وأتصل به أكثر من صحفي‮ ‬وصحيفة لمعرفة معلومات عن الموضوع وجريمة القتل لكنه لم‮ ‬يجب ولا‮ ‬يرد على أسئلتهم واستفساراتهم‮ ‬،‮ ‬باعتباره القائم بأعمال السفارة ووجهها المكشوف وممثلها الدبلوماسي‮ ‬المعترف به في‮ ‬السويد‮ ‬،‮ ‬وظل‮ ‬يلف ويدور ويماطل الا أن وجد له مخرجا مؤقتا‮ ‬،‮ ‬حيث أصطحب زوجته‮  ‬في‮ ‬سفرة سريعة داخل أوربا لعدة أيام عسى ولعل تهدأ الامور‮ ‬،‮ ‬متنقلاً‮ ‬بين عدة بلدان مجاورة لعل الصحافة السويدية ومنابر الأعلام الاخرى تكف عن نشراتها اليومية في‮ ‬متابعة ملف هذه القضية والتي‮ ‬باتت لغة الشارع وحديث المحللين والصحفيين وتساؤلات الناس وحديث الصحافة ومتابعة التلفزة عن تفاصيل ما حدث عن واقعة مروعة هزت هدوء طبيعة المجتمع السويدي‮ ‬،‮ ‬فمن الطبيعي‮ ‬أن القتلة قد‮ ‬غادروا السويد وبدون رجعة بتخطيط مسبق ومدروس وبوثائق‮ ‬يكفلها العرف الدبلوماسي‮ ‬في‮ ‬تجاوز حدود البلد‮ ‬،‮ ‬كما تأكد من ملفات التحقيقات السويدية التي‮ ‬أعلنتها فيما بعد بجزئها المهم أمام الرأي‮ ‬العام‮ ‬،‮ ‬أنهم‮ ‬غادروا بنفس‮ ‬يوم‮  ‬الجريمة‮ ‬،‮ ‬وتركوا الاراضي‮ ‬السويدية بعدة إتجاهات ومن ذلك اليوم ولم‮ ‬يعد أثراً‮ ‬لهم‮ ‬يذكر‮ ‬،‮ ‬وما زالت السلطات السويدية تخاطب العراق من أجل تسهيل مهمتها في‮ ‬التحقيق مع موفق عبود لإنهاء هذا الملف الشائك والمعلق في‮ ‬أضابير أروقة الشرطة السويدية‮ ‬،‮ ‬ومن أجل الحصول على معلومات أضافية حول اللقاء الذي‮ ‬تم بين‮ ( ‬أولف بالمه‮ ) ‬رئيس الوزراء في‮ ‬الحكومة الاشتراكية وبين محمد سعيد الصحاف و(م.م.ع‮) ‬،‮ ‬الذي‮ ‬صادف بنفس اليوم الى اغتيال رئيس الوزراء‮ ( ‬أولف بالمه‮ ) ‬ومازال ملفه مفتوح ولم‮ ‬يغلق‮ . ‬تحاول الشرطة السويدية بين الحين والآخر بأثارته لكنها لم تحصل على نتائج كافية ومعلومات كاملة بسبب ممانعة العراق في‮ ‬التعاون مع هذا الملف من قبل النظام السابق والنظام الحالي‮ ‬على حد سواء‮.  ‬ولد أولف بالمه عام‮ ‬1927‮ ‬لأسرة من الطبقة الثرية في‮ ‬مدينة إستوكهولم‮ ‬،‮ ‬وتمكن في‮ ‬بداية مشوار حياته‮  ‬أن‮ ‬يتقن أربع لغات بطلاقة الى جانب لغته الأم السويدية‮ ‬،‮ ‬وهي‮ ‬الإنكليزية‮ ‬،‮ ‬الفرنسية‮ ‬،‮ ‬الألمانية‮ . ‬كما كان ملماً‮ ‬بقواعد اللغة الإسبانية‮ . ‬أصر بالمه على إبقاء النموذج الاقتصادي‮ ‬السويدي‮ ‬مصمماً‮ ‬خصيصاً‮ ‬لتلبية أحتياجات الشعب والوطن‮ ‬،‮ ‬لذا فقد عارض الدعوات الى عسكرة الاقتصاد السويدي‮ ‬،‮ ‬ودعا أولف بالمه في‮ ‬عام‮ ‬1982‮ ‬إلى تطبيق سياساته الاقتصادية الاشتراكية التي‮ ‬تسعى لتحقيق دولة الرفاه الاجتماعية لجميع أبناء الشعب السويدي‮  . ‬كان أولف بالمه كذلك من أشد المعارضين لدخول السويد في‮ ‬مجموعة السوق الاوربية المشتركة مبرراً‮ ‬موقفه بالحفاظ على الحياد الذي‮ ‬تميزت به السويد لسنوات طويلة قبل دخولها الاتحاد الأوربي‮ ‬في‮ ‬منتصف التسعينات من القرن الماضي‮ ‬،‮ ‬لكن بالمه كان‮ ‬يسعى في‮ ‬نفس الوقت لتمتين أواصر الصداقة والعلاقات الطيبة بين دول السوق نفسها‮ ‬،‮ ‬لأنه كان‮ ‬يدرك الذنوب الأخلاقية للأنظمة الاستعمارية‮ ‬،‮ ‬فقد كان من أوائل من طالبوا عبر البرلمان السويدي‮  ‬بدعم الشعوب والدول الفقيرة بمشاريع التطوير والبناء والتنمية‮ . ‬ويتذكر العرب أولف بالمه باعتباره مناصراً‮ ‬للقضية الفلسطينية ومن الأمور التي‮ ‬جلبت‮ ‬غضب قوى‮ ‬غربية له دعوته لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية‮ ‬ياسر عرفات لزيارة إستوكهولم عام‮ ‬1983‮. ‬لقد جعل بالمه الولايات المتحدة تغضب عندما أنضم الى تظاهرة ضد حرب فيتنام مع سفير فيتنام الشمالية في‮ ‬ستوكهولم عام‮ ‬1968،‮ ‬وليؤكد على مواقفه المبدئية متصدراً‮ ‬مظاهرة شعبية مشابهة في‮ ‬مدينة مالمو ثاني‮ ‬أكبر مدن السويد‮ ‬،‮  ‬وكانت التظاهرة هذه المرة ضد دخول جيوش الاتحاد السوفيتي‮ ‬مع قوات حلف وارسو إلى تشيكوسلوفاكيا‮ ‬،‮ ‬كما ساند كفاح شعب أفريقيا لإنهاء نظام الفصل العنصري‮ ‬،‮ ‬وكان الرئيس أولف بالمه‮ ‬يوصف في‮ ‬أفريقيا بأنه صوت السويد في‮ ‬عالم الرجل الابيض‮ . ‬في‮ ‬منتصف ليل الثامن والعشرين من‮ ( ‬شباط‮ ) ‬عام‮ ‬1986 ‮ ‬وكان أولف بالمه لازال‮ ‬يشغل منصب رئيس الوزراء وزعيم في‮ ‬الحزب الاشتراكي‮ ‬الديمقراطي‮ ‬والذي‮ ‬يعتبر من أقدم الأحزاب السويدية في‮ ‬مملكة السويد‮ ‬،‮ ‬وأثناء خروجه من دار السينما في‮ ‬شارع‮ ( ‬سفيافاجين‮ ) ‬ليستقل قطار الانفاق المحلي‮ ‬بالعاصمة إستوكهولم برفقة زوجته ومن دون حراسه‮ ‬،‮ ‬تعرض أولف بالمه للإغتيال بطلقتين من مسدس قديم عمره أكثر من نصف قرن‮ . ‬القاتل بقى مجهولاً‮ ‬الى‮ ‬يومنا هذا‮ ‬،‮ ‬وكلما فتح باب الاتهامات والنظريات حول جريمة الاغتيال تعود وتغلق حسب الادعاء السويدي‮ ‬بعدم توفر الأدلة‮ . ‬وأن المتهم الرئيسي‮ ‬في‮ ‬الاغتيال‮ ( ‬كريستر بيترسون‮ ) ‬تم إطلاق سراحه بعد عام من الاغتيال بسبب عدم كفاية الأدلة رغم تعرف أرملة أولف بالمه‮ ( ‬ليزبت‮ ) ‬عليه أثناء المحاكمة باعتباره الشخص الذي‮ ‬أطلق النار على زوجها وهي‮ ‬برفقته‮ ‬،‮ ‬وحفظت ملامح وجهه وهو‮ ‬يطلق النار على زوجها‮ ‬،‮ ‬ليلقي‮ ‬مصرعه لاحقاً‮ ‬في‮ ‬ظروف‮ ‬غامضه في‮ ‬عام‮ ‬2004‮ ‬ولا سبب‮ ‬يذكر أو أعلان على موته المجهول‮  ‬،‮ ‬وهذا‮ ‬يدخل ضمن سيناريوهات عمل المخابرات الدولية ونظرية المؤامرة‮ ‬،‮ ‬أن سياسات أولف بالمه كانت تقف في‮ ‬تلك الفترة الحساسة في‮ ‬العلاقات الدولية بشكل واضح الى جانب الحقوق المشروعة للشعوب حول العالم‮ . ‬مما رجح نظريات المسؤولية عن الاغتيال طابعاً‮ ‬دولياً‮ ‬باتهام جهات عدة صاحبة مصلحة في‮ ‬أبعاد بالمه عن مسرح السياسة الدولية مرة واحدة والى الابد‮ . ‬ويعتبر ملف قتل الضابط ماجد حسين من أقدم الملفات في‮ ‬أضابير الشرطة السويدية الذي‮ ‬لم‮ ‬يغلق الى‮ ‬يومنا هذا بسبب ضياع الخطوط المهمة في‮ ‬الملف ووضع العراق الحالي‮ ‬المرتبك سياسياً‮ ‬زاد من عمليات التعقيد في‮ ‬متابعة الملف وتحقيق خطوات تذكر‮ ‬،‮ ‬رغم أن هناك أكوام من الاوراق حبيسة في‮ ‬أدراج خزانة المخابرات السويدية ووزارة الخارجية ولنشاط محطات المخابرات العراقية وسطوتها وقوة أنتشارها في‮ ‬أوربا‮ ‬،‮ ‬الى مستوى من الاهمية طالما أستعانت المخابرات السوفيتية‮ ‬KGB بالمخابرات العراقية في‮ ‬كشف القواعد الامريكية وحجمها في‮ ‬أسبانيا‮ ‬،‮ ‬بسبب طبيعة العلاقات المتوترة بين الاتحاد السوفيتي‮ ‬ودولة أسبانيا ضمن سيناريوهات الحرب الباردة والتي‮ ‬كانت تحدد طبيعة وألية العلاقات بين الشعوب والأمم‮ ‬،‮ ‬كان من الصعوبة على المخابرات السوفيتية التحرك على الاراضي‮ ‬الاسبانية فاستعانت بالمخابرات العراقية لحجم قوتها في‮ ‬أوربا‮ . ‬كان برزان التكريتي‮ ‬مدير المخابرات‮ ‬يتباهى فيما وصل له حال العراقيين في‮ ‬الخارج من مشهد تراجيدي‮ ‬،‮ ‬وقد نقل على لسان ضابط عراقي‮ ‬عن قول برزان التكريتي‮ ‬عندما كان مديراً‮ ‬للمخابرات العراقية‮ ‬’’ يكفينا فخراً‮ ‬أن المعارض العراقي‮ ‬الموجود في‮ ‬واحدة من مقاهي‮ ‬باريس أو براغ‮ ‬،‮ ‬عندما‮ ‬يحاول أن‮ ‬ينتقدنا سيلتفت‮ ‬يميناً‮ ‬أو شمالاً‮ ‬خوفاً‮ ‬من وجود ضابط مخابرات عراقي‮ ‬بجانبه‮ ‬’’.  وهذا هو حال الواقع الذي‮ ‬كان‮ ‬ينتهجه العراق تجاه معارضيه بالقتل والاغتيال وشراء الذمم‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬المقابل هناك صمت مطبق عالمياً‮ ‬وعربياً‮ ‬ومن مؤسسات مدنية معنية بحقوق الانسان‮ . ‬السويد نموذج كانت تغض النظر عن تلك التحركات ضد حقوق الانسان مقابل المقايضة في‮ ‬مصالح تجارية وأرباح عمل شركات‮ . ‬الكاتب السويدي‮ ‬ماتس إيكمان،‮ ‬ينقل عن وثائق المخابرات السرية السويدية‮ ‬،‮ ‬أن أكثر من‮ ‬100 ‮ ‬عميل،‮ ‬كانت قد جندتهم مخابرات صدام ليعملوا في‮ ‬السويد وحدها خلال فترة السبعينيات وحتى سقوط حكم البعث‮ ‬2003‮. ‬ويطرح الكتاب جملة تساؤلات حول تقاعس حكومة السويد في‮ ‬الحد من نشاط شبكة مخابرات صدام،‮ ‬بسبب العلاقات التجارية والمصالح المشتركة‮ . ‬النظام العراقي‮ ‬السابق بنى منظومته وأجهزته المخابراتية ومحطات القتل بأموال طائلة درت على العراق في‮ ‬مطلع السبعينيات من عائدات النفط المتدفقه بعد تأميمه من الشركات الاحتكارية‮ ‬،‮ ‬وهذا جاء منسجماً‮ ‬مع عقلية وسياسة النظام ونهجه في‮ ‬الحكم وأساليبه في‮ ‬أدارة دفته‮ . ‬في‮ ‬تجربة شخصية لي‮ ‬العام‮ ‬1987‮ . ‬كنت معتقلاً‮ ‬في‮ ‬بناية الشعبة الخامسة التابعة الى مديرية الاستخبارات العسكرية لانتمائي‮ ‬الشيوعي‮ ‬،‮ ‬وكان الذي‮ ‬يجري‮ ‬تحقيقاً‮ ‬معي‮ ‬في‮ ‬ساعات متأخرة من الليل الموحش والمخيف‮ ( ‬خليل العزاوي‮ ) ‬, وكما عرفت لاحقاً‮ ‬ومن خلال الوثائق التي‮ ‬سربت ونشرت بعد إحتلال العراق‮ ‬, كان رجلاً‮ ‬مهماً‮ ‬ومدير الاستخبارات العسكرية في‮ ‬لحظات الخوف والموت بدهاليز الشعبة الخامسة‮ ‬،‮ ‬لا اعرف الى الان كيف لاح أسمه في‮ ‬ذاكرتي‮  ‬وطفر الى مخيلتي‮  ‬أنه أحمد العزاوي‮ ‬وليس خليلا في‮ ‬جلسات التحقيق والتعذيب الليلية الرهيبة‮ . ‬هناك أطنان من الوثائق تركها النظام مركونه ومغبرة في‮ ‬دهاليز الاعتقال والموت فسيطر عليها الامريكان في‮ ‬دوائر القمع ونقلوه الى خارج العراق‮ ‬،‮ ‬وبعد سنوات من حكرها والأستفادة من المفيد منها رجعوا وعادوها الى العراق مرة أخرى وسلموها الى الاحزاب التي‮ ‬أتت تحت أجنحتهم أنها تحوي‮ ‬على أسرار وصفقات وعمالات خطيرة تهم عمل المعارضة العراقية السابقة وحجم الاندساس ووكلاء أمن ومخابرات واستخبارات داخل تنظيمات أحزاب المعارضة وبعضهم ممن تبوأ مراكز قيادية مهمة وشاركوا في‮ ‬إعدام ناس وتحطيم عوائل كاملة وتدمير عقلية مجتمع كامل وهو‮ ‬يئن تحت سيطرة الخوف والرعب مما حطمو من بنائه الداخلي‮ ‬في‮ ‬قوته الايجابية وبناء مجتمع سليم ومعافى‮ . ‬
افراج وثائق
لماذا لم تطالب منظمات مجتمع مدني‮ ‬ودوائر حقوق أنسان ولجان نزاهة وأحزاب سياسية بالإفراج عن تلك الوثائق المخفية والمخيفة وفضح محتوياتها الخطيرة امام الملأ ؟؟‮. ‬مازال محشوراً‮ ‬في‮ ‬يومياتي‮ ‬ذات مساء‮ ‬يوم صيفي‮ ‬رطب‮ ‬،‮ ‬كنت منهكاً‮ ‬من اليوم الذي‮ ‬سبقه وما لاقيته من تعذيب وحش ومرعب ولئيم‮ ‬،‮ ‬حيث نقلت الى مديرية الأمن العامة مقيد اليدين معصوب العينين حاملاً‮ ‬معي‮ ‬خيبات الزمن اللعين وأفاق التجربة‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬ذات الغرفة المربعة أجلسوني‮ ‬على كرسي‮ ‬غير مريح‮ ‬،‮ ‬وظهر أمامي‮ ‬شخصان خلف طاولة خشبية بنية اللون‮ ‬،‮ ‬تتكدس فوقها أضابير وأوراق مبعثرة على طولها‮ ‬ينظران لي‮ ‬من خلفها بأمعان بعد أن رفعوا الغطاء عن عيني‮ ‬،‮ ‬كانت عبارة عن خرقة سوداء ونتنة ربما رائحتها النتنة هي‮ ‬التي‮ ‬دعتهم أن‮ ‬يرفعوها عني‮ ‬،‮ ‬ومباشرة فتحوا معي‮ ‬أضبارة جديدة بتحقيق جديد لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب بأساليب ورعب ومعلومات التحقيق في‮ ‬الشعبة الخامسة في‮ ‬مدينة الكاظمية‮ ‬،‮ ‬فكانت ألية وعمل تلك الاجهزة مركبة على بعضها وتسعى كل واحدة منها على حساب الاخرى بتحقيق أنجازات على حساب قتل الانسان وإرضاء مرؤوسيهم وطمعاً‮ ‬في‮ ‬التكريمات والمناصب والهدايا‮ . ‬
فهذه التركيبة المخابراتية المعقدة في‮ ‬أليات عملها وتحركاتها أمتدت الى محطاتهم المزروعة في‮ ‬دول العالم‮ ‬،‮ ‬فاكثر من جهاز ومديرية تتحرك على أرض بلد معين ولا هناك حد معين من تنسيق ما بينهم أو نوع من الصداقة والعلاقة بينهم‮ ‬،‮ ‬بل لايسمح أن‮ ‬يتعارفوا على بعضهم‮ ‬،‮ ‬وان تمت ذلك سوف‮ ‬يقومون باجراءات التنقلات اللازمة لتفادي‮ ‬الفضيحة وتحسباً‮ ‬لأي‮ ‬طاريء‮ . ‬مره سألت رجل الاستخبارات العسكرية علي‮ ‬منصور الدايني‮ ‬في‮ ‬مدينة مالمو السويدية عن موقع الكاظمية‮ ( ‬الشعبة الخامسة‮)  ‬ففادني‮ ‬أن في‮ ‬هذا الموقع‮ ‬16‮ ‬شعبة من مجموع‮ ‬17‮ ‬شعبة تابعة للجهاز ولم نعرف بعضنا بل لايسمح لنا بإقامة علاقات مع بعضنا وهذا ضمن القسم الذي‮ ‬أقسمنا عليه في‮ ‬أنتمائنا للجهاز‮ ‬،‮ ‬إضافة الى ذلك في‮ ‬حالة تسريب أي‮ ‬معلومة مهما‮ ‬يكن حجمها أو‮ ‬يبلغ‮ ‬ضررها ستلاقي‮ ‬عقوبة الإعدام في‮ ‬حالة أفشائها‮ . ‬بعد أن قضيت أياما من التعذيب والخوف في‮ ‬مديرية الامن العامة أعادوني‮ ‬ثانية الى بناية الشعبة الخامسة في‮ ‬مدينة الكاظمية وبنفس الزنزانة رقم ثلاثة‮ ‬،‮ ‬ألفت تلك البطانية السوداء ورائحتها ودبيب القمل عليها‮ ‬،‮ ‬وبعد أن أنهوا مجريات التحقيق الأخيرة معي‮ ‬في‮ ‬بناية الشعبة الخامسة ونتائجها التي‮ ‬لم ترضهم على مؤشرات مرضية لهم‮ ‬،‮ ‬بدأ الضغط بتهديدهم لي‮ ‬وشد الخناق علي‮ ‬بسحقي‮ ‬وقتلي‮ ‬مع أهلي‮ ‬،‮ ‬بعد فترة قصيرة‮  ‬أحالوني‮ ‬الى‮ ( ‬محكمة الثورة‮ ) ‬السيئة الصيت مع مجموعة‮ ‬يقدر عددهم‮ ‬12‮ ‬معتقلاً‮ ‬من تنظيمات حزب الدعوة‮ ‬،‮ ‬نقلونا من بناية الشعبة بسيارة مغلقة ومظلله مقيدي‮ ‬الايادي‮ ‬بسلاسل حديدية كل معتقلين مع بعض ومعصوبي‮ ‬العيون‮ ‬،‮ ‬كانت مجموعة جاسم ونهاد مما تختزنه ذاكرتي‮ ‬من أسماء‮ ‬،‮ ‬دفعونا الى أقفاص الاتهام وجهاً‮ ‬لوجه أمام رئيس المحكمة‮ ( ‬عواد البندر‮ ) . ‬وبدأوا بقراءة لائحة الاسماء مع كل واحد والتهمة الموجه اليه‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬موقف لم‮ ‬يمر على البال أدى الى‮  ‬فوضى مفاجئة عمت قاعة المحكمة صرخ أحدهم سيدي‮ ‬مخاطبا رئيس المحكمة‮ .. ‬أشلون‮ ‬يصير ومحكمتكم الموقرة تستند في‮ ‬أدعاءاتها على واحد لوطي‮ ‬وساقط خلقياً‮ ‬؟‮. ‬قال عواد البندر‮ .. ‬ولك من هذا اللوطي‮. ‬سيدي‮ ‬جاسم وجاسم هو المعترف على المجموعة في‮ ‬الانتماء لحزب الدعوة والتخطيط في‮ ‬تفجير معسكر عراقي‮ .‬
انحراف اخلاقي
بدأ جاسم وبكل جرأ وشجاعة‮ ‬يتحدث عن أنحرافه الاخلاقي‮ ‬وعم الهرج والاستهزاء والتصنيف وقهقهات الضحك‮ ‬،‮ ‬كنا جزء من العرض المسرحي‮ .. ‬مما دعا رئيس المحكمة الى تأجيل جلسة المحاكمة‮ .. ‬وهنا كتب لي‮ ‬عمر جديد‮ ‬،‮ ‬أعادوني‮ ‬الى نفس الزنزانة المخيفة والتي‮ ‬تحمل رقم ثلاثة‮ ‬،‮ ‬وأنا حزين لأني‮ ‬كنت أتمنى شهقات الموت السريعة‮  . ‬أنتظر قرار الموت باي‮ ‬لحظة حسب تبليغات الحراس لي‮ ‬،‮ ‬أنه سيتم أعدامي‮ ‬قريباً‮ ‬،‮ ‬ولم‮ ‬يعد هناك مخرج‮ ‬ينقذك بعد أن ادنت بجريمة خيانة الوطن‮ ‬،‮ ‬كنت متمسك بموقفين أما الموت وهذا ما كنت أتمناه بأي‮ ‬لحظة أو الخلاص من قبضتهم نظيف القلب واليدين والضمير‮ ‬،‮ ‬فلم أسبب أذى للعوائل والأصدقاء الذين ساعدوني‮ ‬في‮ ‬الاختفاء والتنقل ولولاهم لم أكن حياً‮ ‬الى الآن‮ ‬،‮ ‬بيت عبد الخالق مطلك الدليمي‮ ‬في‮ ‬مدينة الشعب‮ ‬،‮ ‬وعائلة الحاج‮ ‬غازي‮ ‬في‮ ‬مدينة الكاظمية‮ ‬،‮ ‬وعائلة بيت منصور في‮ ‬مدينة الشعلة‮ ‬،‮ ‬وعائلة عبد الرحمن دبش في‮ ‬مدينة الحرية الثالثة‮ ‬،‮ ‬وبيت علي‮ ‬وعالية في‮ ‬مدينة الدورة‮ ‬،‮ ‬وبيت سعد البياتي‮ ‬في‮ ‬شارع‮ ‬52‮ ‬،‮ ‬وبيت قصي‮ ( ‬أبو نغم‮ ) ‬في‮ ‬مدينة النهروان وعشرات العوائل أخرى قرأت سلسلة حلقات برزان التكريتي‮ ‬الأخ‮ ‬غير الشقيق لصدام حسين‮ ‬،‮ ‬والذي‮ ‬رافقه منذ كان عمره‮ ‬12‮ ‬عاماً‮ ‬في‮ ‬أنقلابات البعثيين المعٌرة في‮ ‬القصر الجمهوري‮ ‬الى أن أصبح رقما مخابراتيا مخيفا في‮ ‬العراق‮ . ‬يكتب اليوم مذكراته‮ ‬يتنصل بها عن أي‮ ‬مسؤولية لحقت بالعراقيين الحيف والظلم وكأنه ذاكرتهم مثقوبة‮ ‬،‮ ‬يطلع علينا السيد برزان أنه كان حمامة سلام وسط صقور جارحة‮ ‬،‮  ‬وكان هو‮ ‬يحلق ضدها أي‮ ‬كان ضد سياسة أخيه صدام ونظامه‮ ‬،‮ ‬ربما نسى من كان‮ ‬يصدر الاوامر الى المجرم جاسب السماوي‮ ‬في‮ ‬قسم الاعدامات في‮ ‬سجن أبي‮ ‬غريب‮ ‬،‮ ‬الى الأن برزان لم‮ ‬يتحفنا في‮ ‬أوراقه الغابرة حول ملف الشيوعيين والغدر بهم وقتلهم وشواهد قبورهم‮ . ‬والى الأن لم‮ ‬يكشف لنا‮ ‬،‮ ‬وهذه مسؤولية أخلاقية وتاريخية حسب ما‮ ‬يدعي‮ ‬كان نهج ممارسات السلطة ورموزها في‮ ‬تعاملهم مع الشعب العراقي‮ . ‬كانت هناك صحف عربية ومجلات مشتراة من البعث وبتمويل كامل لتلميع وجه النظام والاف من العملاء والجواسيس والوكلاء الموجودين‮  ‬في‮ ‬الخارج وشخصيات ومنظمات وأحزاب راحوا مع عورتاهم بذهاب النظام‮ . ‬قرأنا أجزاء مهمة من كتاب‮ ( ‬مهمة من بغداد‮ ) ‬بمساعدة صديق‮ ‬يجيد اللغة السويدية بشكل جيد بمدلولها السياسي‮ ‬ووجدنا في‮ ‬صفحات الكتاب معلومات مبنية على أراء وأحتمالات وتقديرات بعيداً‮ ‬عن الحقائق أي‮ ‬ضمن سياقات حبكة الهدف والاشاعة وتوجد دلائل ايضا تفقأ بها الارض‮ ‬،‮ ‬سنستمر في‮ ‬متابعتها في‮ ‬أكثر من محادثة تلفونية مع الكاتب ماتس إيكمان صاحب كتاب‮ ( ‬مهمة من بغداد‮ ) . ‬كان في‮ ‬البدء متوجساً‮ ‬في‮ ‬الحديث معي‮ ‬بتوجيه اللوم نحوي‮ ‬باعتقاده الشخصي‮ ‬أو ضمن المعلومة الخاطئة التي‮ ‬تسربت له وهي‮ .. ‬أنا من قمت بترجمة كتابه بدون الرجوع له وأخذ موافقته حسب أصول دور النشر والطبع والقوانين المعمول بها ضمن العمل الطباعي‮ ‬والنشر وحقوق الناشر ودار النشر‮ ‬،‮ ‬وبعد أن شرحت له موقفي‮ ‬ونيتي‮ ‬،‮ ‬أنا لست مترجما وأنما بادرت بقراءة نقدية وبمثابة أستعراض حول ماهية الكتاب والمعلومات المنشورة على جنباته من واقعيتها والسقطات التي‮ ‬تخللته من مبالغات من جملة أحداث مهمة‮ ‬،‮ ‬وكوني‮ ‬عراقيا وسياسيا ويعنيني‮ ‬هذا الآمر وعشت تجربة أعتقال وتعذيب‮ ‬،‮ ‬كادت أن تنهي‮ ‬حياتي‮ ‬بسبب معتـــقدي‮ ‬السياسي‮ (‬الفكري‮).‬

34
قراءة في‮ ‬كتاب مهمة من بغداد‮    ‬1‮-‬2
جريمة مروّعة تشهدها أرض السويد
محمد السعدي‮ ‬
ماتس إيكمان‮ … ‬صحفي‮ ‬سويدي‮ ‬وباحث مختص بقضايا الشرق الأوسط وتحديداً‮ ‬العراق وقضاياه‮ . ‬شاع صيته مؤخراً‮ ‬في‮ ‬وسائل الأعلام والتواصل الاجتماعي‮ ‬وتناقل المعلومة عقب صدور كتابه الذي‮ ‬يحمل عنوان‮ ( ‬مهمة من بغداد‮ )  ( ‬På uppdrag från baghdad ) . الكتاب‮ ‬يتناول حقبة مهمة ومرحلة حرجة من تاريخ السويد وحساسية العلاقة بين جمهورية العراق والملف الأمني‮ ‬حول قضايا اللاجئين العراقيين والمخابرات على حد سواء منذ مطلع السبعينيات‮ . ‬في‮ ‬صباح‮ ‬يوم‮ ‬4‮ ‬أذار العام‮ ‬1985،‮ ‬أستيقظت السويد والسويديين على جريمة قتل مروعة‮ ‬،‮ ‬هزت الرأي‮ ‬العام‮ ‬،‮ ‬حيث تشهدها أرض السويد لأول مرة‮ ‬،‮ ‬هزت وسائل الاعلام وحيرة المعلقين ودوخت المحللين عبر شاشات التلفزة وأروقة المحاكم والتي‮ ‬ما زالت تبحث عن أدلة وشهود لأنهاء هذا الملف الخطير‮ . ‬في‮ ‬صبيحة ذلك اليوم عثرت الشرطة السويدية عبر مخبر عارض بوجود حقيبتين سوداوين متروكتين في‮ ‬منطقة‮ ( ‬سودرتاليا‮ ) ‬في‮ ‬جنوب العاصمة السويدية‮ ( ‬أستوكهولم‮ ) . ‬لتجد الشرطة في‮ ‬داخلهما أكياسا بلاستيكية لاشلاء أنسان مقطعة بعناية وخبرة الى‮ ‬48‮ ‬قطعة حسب وصف المذيع السويدي‮ ‬المذهل لواقع الجريمة‮  . ‬
أنها جثة رجل ضابط الاستخبارات العراقي‮ ‬ماجد حسين عبد الكريم‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬فر من العراق عام‮ ‬1983‮ ‬متجهاً‮ ‬الى مملكة السويد طالباً‮ ‬اللجوء السياسي‮ ‬حسب أتفاقية‮ ( ‬جنيف‮ ) ‬المعمول بها وضمن أتفاقيات الدول الموقعه على لائحتها القانونية والانسانية‮ ‬،‮ ‬أراد أن‮ ‬يكون بعيداً‮ ‬عن أيادي‮ ‬وعيون وخطورة الجهاز الذي‮ ‬ينتمي‮ ‬له‮ ‬،‮ ‬هكذا كان معتقداً‮ ‬من خلال تصريحه الأول للصحف السويدية‮ ( ‬سفينسكا داغبلادت‮ ) ‬،‮ ‬مهدداً‮ ‬بهز وفضح أربعة خلايا مخابراتية تعمل على أرض السويد ونشاطهم التخريبي‮ ‬وشبكة العلاقات داخل أوربا‮ ‬،‮ ‬وتفاصيل لقاء مناحيم بيغن رئيس وزراء الكيان الصهيوني‮ ‬السابق مع برزان التكريتي‮ ‬عندما كان مديراً‮ ‬للمخابرات وقصة ضرب المفاعل النووي‮ ‬العراقي‮ ( ‬تموز‮ ) ‬في‮ ‬منطقة الزعفرانية أطراف العاصمة بغداد العام‮ ‬1981‮ ‬من قبل سرب من الطيران الاسرائيلي‮ ‬يضم‮ ‬18‮ ‬طائرة حربية بناءاً‮ ‬على معلومات حول المكان وهيكلة بنائه وزواياه قدمها لهم عملاؤهم من الفرنسيين‮ ‬،‮ ‬الذين كانوا‮ ‬يعملون في‮ ‬موقع المفاعل الذري‮ ‬،‮ ‬والطيران الذي‮ ‬خرق أجواء دول مجاورة وعطل كل الرادارات عبر الحدود الاردنية الى العاصمة بغداد منطقة‮ ( ‬سلمان باك‮ ) ‬ليحقق مهمته في‮ ‬تدميره‮ ‬،‮ ‬كان المقتول ماجد حسين حاضراً‮ ‬وشاهداً‮ ‬على هذا اللقاء وهدد بكشف تفاصيله الى وكالات الانباء العالمية ودوائر أستخباراتية‮ . ‬وفي‮ ‬خطوة أستباقية قام النظام العراقي‮ ‬في‮ ‬بغداد بحجز زوجته وأطفاله الثلاثة وسيلة للضغط عليه من أجل عودته الى العراق أو تحييد موقفه في‮ ‬ألتزام الصمت‮ ‬،‮ ‬لكنه لم‮ ‬يعر أعتباراً‮ ‬لذلك التهديد أو حتى لم‮ ‬يأخذه على محمل الجد‮ . ‬أثارت عملية قتله وطريقتها الهلع والخوف بين صفوف العراقيين على أراضي‮ ‬مملكة السويد والدول المجاورة‮ ‬،‮ ‬الذين هربوا من العراق بسبب قمع النظام وسياسته وحروبه‮  ‬ودب الهلع والخوف بين أوساط العراقيين وتذمرهم من برودة الموقف السويدي‮ ‬الرسمي‮ ‬في‮ ‬أتخاذ الاجراءات الرادعة والسريعة في‮ ‬حمايتهم من نشاط رجال المخابرات العراقية‮ ‬،‮ ‬مما زاد من توجساتهم الأمنية‮ ‬،‮ ‬وأضطر قسم‮ ‬غير قليل منهم ترك الاراضي‮ ‬السويدية الى دول مجاورة‮ ‬،‮ ‬وقسم أخر أنتقلوا وغيروا عناوينهم وألقابهم الى مدن سويدية أخرى بعيداً‮ ‬عن متناول أياديهم وهواجس الرعب والخوف تطاردهم في‮ ‬أبسط تفاصيل حياتهم‮  . ‬
أستند إيكمان في‮ ‬كتابه الذي‮ ‬يحوي‮ ‬340‮  ‬صفحة على وثائق المخابرات السويدية‮ ( ‬سيبو‮ / ‬Säpo  ‮) ‬وعلى ملفات وزارة الخارجية السويدية بهذا الشأن تحديداً‮ ( ‬الشأن العراقي‮ ) .  ‬ستة وسبعون صفحة من الكتاب مكرسة للتغطية على أغتيال ضابط الاستخبارات ماجد حسين عبد الكريم وتفاصيل تنفيذها وتداعياتها والتي‮ ‬ما زالت طاغية على المشهد الأمني‮ ‬السويدي‮ . ‬وذكر الكاتب ماتس معاناته بعدم تجاوب المعنيين بهذا الملف من الجانب العراقي‮ ‬حيث خاطب عشرين جهة رسمية ومدنية ولم‮ ‬يتلق جواباً‮ ‬واحداً‮ ‬مما أحزنه كثيراً‮ ‬،‮ ‬لهذه اللامبالاة‮ ‬،‮ ‬بعيداً‮ ‬عن المسؤولية الاخلاقية والتاريخية والقانونية‮ . ‬
السويد كمركز قرار وعلاقات دولية كانت تغض النظر عن نشاطات المخابرات العراقية على أراضيها رغم معرفتها الكاملة والمؤكدة بالتضييق والتجسس على حياة العراقيين ومسببة لهم هلعا وخوفا في‮ ‬منظومة علاقاتهم وحياتهم الطبيعية أرتباطاً‮ ‬بالمصالح السويدية‮ ( ‬الاقتصادية‮ ) . ‬تنظر السويد لمصالحها الاقتصادية بعين الاعتبار وتضعها في‮ ‬الاولوية‮ ‬،‮ ‬حيث لها عدة شركات تعمل بالعراق وخبراء ومستشارين فلا تريد ان تفرط بتلك الميزات والهبات على حساب ضمان حياة جمهرة من الناس الهاربين من جحيم نفس تلك الاجهزة‮ .‬
اجندة خاصة
‮ ‬الدول والانظمة بكل أنماطها وشكل حكمها لا‮ ‬يهمها الا مصالحها وأجندتها الخاصة‮ . ‬في‮ ‬نهاية السبعينيات أصبحت السويد من المحطات المهمة للمخابرات العراقية وثقل دبلوماسي‮ ‬وعلاقات أقتصادية وتجارية‮ ‬،‮ ‬كان معمل الأسمنت في‮ ‬مدينة‮ ( ‬مالمو‮ ) ‬الجنوبية أعتماده الاساسي‮ ‬على التصدير الى العراق‮ ‬،‮ ‬وعندما تأزمت العلاقات في‮ ‬السنوات الاخيرة بين البلدين وضعف التبادل التجاري‮ ‬والاقتصادي‮ ‬بينهما،‮ ‬ومن أولويات أسبابها الحرب والحصار أغلق هذا المعمل وتحولت أرضه الى عمارات سكنية للساكنين‮ ‬،‮ ‬وشهدت العلاقات والزيارات المتبادلة على مستويات عالية جداً‮ ‬،‮ ‬حيث زوجة النائب صدام حسين زارت السويد مرتين‮ ‬،‮ ‬وكان‮ ‬يفترض واحدة من المرات أن تلتقي‮ ‬بزوجة الملك‮ ( ‬كارل السادس عشر‮  ‬كوستاف‮ ) ‬،‮ ‬لكن‮ ‬يبدو سفرة مفاجئة لزوجة النائب‮ ( ‬ساجدة خيرالله طلفاح‮ ) ‬الى لندن لموعد مهم مع طبيب حال دون ذلك‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬العام‮ ‬ 1979‮ ‬تقاطر الى مملكة السويد عدد من القادة البعثيين والوزراء محمد عايش وزوجته ومحيي‮ ‬الشمري‮ ‬مشهدي‮ ‬وعائلته وتجولوا في‮ ‬المدن السويدية في‮ ‬أهتمام رسمي‮ ‬وزاروا العاصمة الفنلندية‮ ( ‬هلسنكي‮ ) . ‬وفي‮ ‬عودتهم الى بغداد ذبحوا على مسلخ قاعة الخلد الشنيعة بسيناريو معد مسبقاً‮ ‬بأخراج فاشل ومفضوح أنها مسرحية‮ ( ‬المؤامرة‮ ) ‬راح ضحية عرضها‮ ‬23‮ ‬وزيراً‮ ‬وقائداً‮ ‬حزبياً‮ ‬أنها مساع في‮ ‬السيطرة على الحكم وتصفية حسابات‮ .  ‬فاغتيال رجل الاستخبارات ماجد حسين عبد الكريم نتاج ذلك الارباك في‮ ‬العلاقات العراقية‮ / ‬السويدية وعلى ضوء مساحتها الخضراء تتحرك أجهزة المخابرات بحصانات دبلوماسية‮ ‬،‮ ‬وحسب وثائق وملفات جهاز المخابرات السويدية‮ ( ‬سيبو‮ / ‬Säpo ‮) ‬لحين سقوط نظام صدام حسين على‮ ‬يد المحتلين الامريكان‮  ‬عام‮ ‬2003†يوجد حوالي‮ ‬مئة منتسب للاجهزة المخابراتية العراقية‮ ‬يعملون على الاراضي‮ ‬السويدية‮ . ‬والبعض منهم عاد وتعاون مع الوضع الجديد في‮ ‬العراق تحت عباءة الغطاء الطائفي‮ ‬وأجندة المحتل الامريكي‮ . ‬
‮ ‬يشير ماتس إيكمان في‮ ‬كتابه حول إغتيال رئيس وزراء السويد‮ ( ‬أولف بالمه‮ ) ‬اليساري‮ ‬النزعة والاشتراكي‮ ‬الهوى بعد ثمانية أيام من العثورعلى جثة ماجد حسين عبد الكريم مقطعة ومرمية في‮ ‬شارع بالعاصمة السويدية‮ . ‬أولف بالمه الذي‮ ‬كان وسيطاً‮ ‬دولياً‮ ‬في‮ ‬مهمة أنهاء النزاع العراقي‮ ‬الايراني‮ ‬في‮ ‬العاصمة السويدية‮ ( ‬أستوكهولم‮ ) ‬وممثلاً‮ ‬شخصياً‮ ‬لرئيس هيئة الامم المتحدة ولاعب أساسي‮ ‬في‮ ‬الملف الفلسطيني‮ ‬الشائك‮ ‬, فبعد ساعات من لقائه بالسفير العراقي‮ ‬محمد سعيد الصحاف المعروف لاحقاً‮ ( ‬أبو العلوج‮ ) ‬, عقب إحتلال قوات المارينيز للأرض الوطنية العراقية والقائم باعمال السفارة العراقية والمتهم بالتخطيط لاغتيال الضابط العراقي‮ ‬ماجد حسين والذي‮ ‬عين سفيراً‮ ‬للعراق في‮ ‬باريس بعد‮ ‬2004 ‮ ‬ولمدة تسعة أعوام‮ ‬, وعندما زار هوشيار زيباري‮ ‬وزير الخارجية العراقي‮ ‬السابق العاصمة السويدية في‮ ‬عام‮ ‬2007‮. ‬طلبت منه الجهات السويدية الامنية عبر القنوات الدبلوماسية بالمساعدة بغلق هذا الملف عبر تسليمهم موفق مهدي‮ ‬عبود أحد المتهمين في‮ ‬أعمال قتل وتجسس على الاراضي‮ ‬السويدية‮ ‬, أو تشكيل لجنة مشتركة من خبراء أمنيين مختصين عراقيين وسويديين لأستجوابه في‮ ‬بغداد‮ . ‬سارع هوشيار زيباري‮ ‬الى تحرير خطاب الى وزارة الخارجية العراقية بنقل موفق من سفارة العراق في‮ ‬فرنسا الى منصب مسؤول دائرة أمريكيا الشمالية والجنوبية والبحر الكاريبي‮ ‬في‮ ‬مبنى وزارة الخارجية العراقية وما زال الى‮ ‬يومنا هذا, يشغل هذا المنصب‮ ‬،‮ ‬وحاولت الجهات السويدية بأستجوابه عدة مرات عن ما حدث عبر وسطاء‮ ‬،‮ ‬لكنه كان‮ ‬يستغرب من السؤال والاستفسار والتظاهر بعدم معرفته وبدون أي‮ ‬تعاون عراقي‮ ‬واضح حول ملف هذه القضية‮ . ‬تخزن ملفات السويد في‮ ‬أضابيرها حول شخصه وسلوكه تهمة التحرش الجنسي‮ ‬رغم أنه متزوج عدة مرات‮. ‬تمكن بعد إحتلال العراق أن‮ ‬يحشر نفسه مثل عشرات‮ ‬غيره مع طابور جيش من الخونة والمتعاونين مع المحتل ضد بلدهم‮ ‬،‮ ‬فذهب ضمن لجنة أعمار العراق وأعادة بنائه التي‮ ‬سرقت البلد ودمرته تدميراً‮ . ‬وحسب رواية الباحث‮ ( ‬ماتس إيكمان‮ ) ‬في‮ ‬كتابه الذي‮ ‬صدر في‮ ‬نهايات‮ ‬2011‮ ‬مهمة من بغداد‮ ‬, والذي‮ ‬أثار الآن أهتماماً‮ ‬واسعاً‮ ‬على صفحات تواصل العراقيين وأهتمامهم‮ . ‬يقول تمكنت المخابرات العراقية من تجنيد شرطة سويدية لصالح تحركاتها المشبوهة في‮ ‬أستهداف العراقيين المعارضين لسياسة النظام والهاربين من جحيمه‮ ‬, وكان واحد من هؤلاء‮ ‬يشغل مفوضاً‮ ‬في‮ ‬أجهزة الشرطة السويدية‮ ( ‬هانس ميلين‮ / ‬Hans Melin‮)‬ , ويعمل في‮ ‬قسم حساس جداً‮ ‬في‮ ‬قضايا اللجوء في‮ ‬السويد‮ ‬،‮ ‬بل هو مسؤول قسم خطير جداً‮ ‬أستغله بتقديم تقارير الى محطة المخابرات في‮ ‬مبنى السفارة العراقية حول القادمين الجدد والهاربين من العراق أسمائهم وعناوينهم في‮ ‬العراق وفحوى أدعاء أقوالهم في‮ ‬التحقيق أثناء طلب اللجوء ومنافذ خروجهم وطرق وصولهم‮ . ‬وقام شاب عمره‮ ‬24‮ ‬عاما‮ ‬ً‮ ‬أسمه‮ ( ‬ص.س‮ ) ‬يعمل ضمن جهاز المخابرات العراقية والده كان ضابطا كبيرا أصبح فيما بعد سفيراً‮ ‬للعراق في‮ ‬دولة‮ ( ‬سريلانكا‮ ) ‬بدعوته لزيارة العراق مع زوجته بل رافقفهم من العاصمة السويدية‮ ( ‬أستوكهولم‮ ) ‬الى العاصمة بغداد‮ . ‬وفي‮ ‬بغداد توفرت له سيارة وسائق‮ ‬يدعى‮ ( ‬س.ج‮ ) . ‬يعمل أيضاً‮ ‬ضمن جهاز المخابرات العراقية ورافقوهم لمدة عشرة أيام في‮ ‬المدن‮ ( ‬الموصل‮ ‬, كركوك‮ ‬, بابل‮ ‬, أربيل‮ ) ‬أضافة الى العاصمة بغداد في‮ ‬حسن ضيافة مبالغ‮ ‬بها مع هدايا ورعاية كبيرة‮ ‬،‮ ‬ورداً‮ ‬على تلك الزيارة قام‮ ( ‬أبو جعفر‮ ) ‬بزيارة السويد وجمعته لقاءات وجلسات مع مستر هانس وعائلته‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬ملفات التحقيق السويدية رفض مستر هانس أمام المدعي‮ ‬العام في‮ ‬أروقة المحاكم السويدية بأي‮ ‬لقاء بـ(س.ج‮) ‬في‮ ‬بغداد قد حصل‮ . ‬ووجهت المحكمة السويدية له عدة تهم تتعلق بالتجسس والتعاون مع المخابرات الامريكية‮   ‬ CIA والمخابرات الروسية‮  ‬ KGBلكن محاميه طعن بجميع تلك التهم‮ ‬،‮ ‬لكن هذا لم‮ ‬يساعده في‮ ‬تبرئته من حكم القضاء فحكمت عليه المحكمة العليا أربع سنوات سجن بتاريخ‮ ‬23‮ ‬أيار العام‮  ‬1979‮ ‬قضى منها ثلاثة سنوات وخرج بعد أن قدم محاميه طعنا في‮ ‬القرار‮ .‬
اطلاق سراح
‮ ‬فالمحكمة العليا نزلت الحكم عليه الى ثلاثة سنوات بتاريخ‮ ‬18‮ ‬أيلول من نفس العام‮ ‬،‮ ‬فاطلق سراحه في‮ ‬حزيران العام‮ ‬1981‮ ‬بسبب حالته الصحية التي‮ ‬تدهورت في‮ ‬السجن وتوفى عام‮ ‬1993‮ ‬في‮ ‬العاصمة السويدية‮ . ‬واحدة من الأدعاءات التي‮ ‬قدمها محاميه الى هيئة المحكمة الوضع النفسي‮ ‬لمستر هانس وهو جالس في‮ ‬مكتبه‮ ‬ينتابه الضجر ويحتصر نفسياً‮ ‬من شكل مكتبه ولون جدران‮ ‬غرفته‮ . ‬في‮ ‬نفس هذه الفترة من عام‮ ‬ 1979 ألقت المخابرات الاسرائيلية في‮ ( ‬تل أبيب‮ ) ‬قبل مغادرته‮ ‬, على شخص سويدي‮ ‬يدعى‮ ( ‬Steg bergling‮) ‬يعمل في‮ ‬المخابرات السويدية لكنه أيضاً‮ ‬متعاونا ويعمل لصالح المخابرات السوفيتية‮ ( ‬KGB ‮) ‬وفي‮ ‬التحقيق كشف لهم خطة الدفاع السويدية تجاه تحركات السوفيت‮ ‬،‮ ‬مما أجبر السويديين بتغير هيكلية وخطة الدفاع والتي‮ ‬كلفتهم الملايين من الدولارات‮ .  ‬وفي‮ ‬مشهد درامي‮ ‬تقع صدفة عيني‮ ‬الموظفة السويدية في‮ ‬السفارة العراقية على أوراق مرسلة من دائرة الشرطة الى السفارة العراقية تتضمن عدة أسماء من القادمين الجدد من العراق أو دول الجوار الى السويد طلباً‮ ‬للجوء وبحثاً‮ ‬عن الأمان‮ . ‬فقدمت تبليغا رسميا الى الجهات المعنية وأعتقل وتعرض للتحقيق عدة أشخاص‮ . ‬وبعد شهرين من تلك الجريمة عين الصحاف سفيراً‮ ‬للعراق في‮ ( ‬استوكهولم‮ ) . ‬وقد لعب دوراً‮ ‬في‮ ‬محو أثار الجريمة بقتل الضابط ماجد حسين‮ ‬،‮ ‬وكافأ مادياً‮ ‬السويديين الذين تعاونوا مع المخابرات العراقية في‮ ‬نشاطاتها المحمومة على أرض السويد‮ . ‬العراق كان‮ ‬يمتلك سلاح المال حيث مكنه تجنيد اناس وشراء ذمم لمصلحة أجهزته في‮ ‬ربوع العالم‮ ‬،‮ ‬حتى تمكن لسطوة أمبراطوريته المالية أن‮ ‬يشتري‮ ‬مواقف دول وصحف‮ .‬
‮ ‬مازال ملف إغتيال ماجد حسين مفتوحاً‮ ‬في‮ ‬أروقة المخابرات السويدية‮ ( ‬سيبو‮ ‬Säpo ) رغم مضي‮ ‬فترة طويلة عليه ويعتبر من الملفات الشائكة‮ . ‬والسويد لاترغب بغلقه قبل ان تكشف الجناة الحقيقيين والمتعاونين معهم والمتسترين‮ .‬
‮ ‬وحاولت في‮ ‬السنوات الاخيرة من العمل المتواصل حوله في‮ ‬كشف حيثيات وتفاصيل الجريمة في‮ ‬الاسماء والوقائع والشهود‮ ‬،‮ ‬لكنها تصطدم بعدة معوقات هو عدم الوصول الى الفاعلين وسكناهم‮ ‬،‮ ‬أنهم‮ ‬يختبئون بواجهات سياسية وبأسماء مستعارة وعناوين سرية‮ . ‬
يذكر ماتس إيكمان طي‮ ‬صفحات كتابه‮ .. ‬أن المخابرات العراقية جندت موظفاً‮ ‬في‮ ‬الشرطة السويدية للتجسس على العراقيين المقيمين في‮ ‬السويد‮ . ‬وفي‮ ‬بداية العام‮ ‬2000قامت المخابرات العراقية بتكليف أحد عملاء النظام وهو سويدي‮ ‬من أصل عراقي‮ ‬لتصفية أحد القادة البعثيين‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬كان قد أنشق عن نظام صدام حسين منذ عام‮ ‬1975‮ ‬وأنشأ منظمة معارضة لنظام صدام حسين في‮ ‬لندن المقصود‮ ( ‬أياد علاوي‮ ) .‬
‮ ‬ويستغرب المؤلف ويتساؤل بتعجب ؟‮ .. ‬كيف أن العراق في‮ ‬تلك الفترة الذي‮ ‬كان‮ ‬يرزخ فيه تحت وجع الحصار المفروض عليه وأثار حروب مدمرة ومستمرة‮ ‬،‮ ‬ونظامه ما أنفك‮ ‬يخطط لعمليات الاغتيال ضد معارضيه وتحديداً‮ ‬ممن أنشق عنهم ضمن أجهزة وتنظيمات حزب البعث‮ . ‬
في‮ ‬العام‮ ‬2003وعلى أثر سقوط نظام صدام حسين وإحتلال العراق حين بحثت قضية مقتل الضابط العراقي‮ ‬المنشق ماجد حسين من جديد‮ ‬،‮ ‬أذ تم رفع وثيقة تذكير الى البوليس السري‮ ‬تتهم وزير أعلام النظام السابق محمد سعيد الصحاف‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬كان سفير العراق في‮ ‬السويد بين عامي‮  ‬1985‭/‬ 1987بوقوفه وراء مقتل الضابط العراقي‮ ‬ماجد حسين‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬أواخر العام‮ ‬2007‮ ‬نشرت الشرطة السرية السويدية‮ ( ‬سيبو‮ / ‬Säpo   ‮)‬ ورئيس الادعاء العام‮ ( ‬توماس ليد نستراند‮ ) ‬في‮ ‬صحف عراقية وسويدية وفي‮ ‬بلدان أخرى صورة المرأة‮ ( ‬ج.ش‮ ) ‬المشتبه الأول لضلوعها في‮ ‬جريمة القتل مع شخصين آخرين‮ . ‬أملين الاستدلال عليهم والسبيل في‮ ‬الوصول لهم‮ ‬،‮ ‬لكن البوليس لم‮ ‬يصل الى نتيجة الى الآن‮ . ‬ويعتقد ماتس إيكمان مؤلف كتاب‮ ( ‬بمهمة من بغداد‮ ) : ‬مخابرات صدام حسين في‮ ‬السويد هي‮ ‬المسؤولة وأن الحقيقة ستظهر فيما بعد وأن تقادم الزمن عليها‮ .‬
أخيراً‮ .. ‬تمكنت الوثائق السرية السويدية ونشرتها على العلن بتحديد العناصر الذين كانوا وراء تخطيط ومتابعة تنفيذ عملية الاغتيال ومنهم‮ . ‬
< فاضل البراك‮ ..  ‬مدير المخابرات العراقية‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬أعدمه النظام العراقي‮ ‬بتهمة التجسس لصالح المانيا الشرقية والاتحاد السوفيتي‮ ‬من خلال علاقته المشبوهة مع شخص لبناني‮ ‬يدعى‮ ( ‬صباح الخياط‮  ) ‬بتهريب معلومات مضللة عن نشاط المخابرات العراقية‮ ‬،‮ ‬وتهمته الثانية إثراؤه المالي‮ ‬وطريقة البذخ في‮ ‬العيش من خلال أمتلاكه‮  ‬قصر كبير في‮ ‬المنصور وكوميشينات من تجار ورجال أعمال عراقيين‮ ‬،‮ ‬أعدم عام‮ ‬1992‮ ‬في‮ ‬منطقة‮ ( ‬سلمان باك‮ ) ‬بحضور سبعاوي‮ ‬إبراهيم الحسن عندما كان مديراً‮ ‬لجهاز المخابرات الأخ‮ ‬غير الشقيق للرئيس صدام حسين‮ ‬،‮ ‬وعندما طلب سبعاوي‮ ‬من أحد الاعضاء العاملين في‮ ‬الجهاز‮ ( ‬ع.ش‮ ) ‬باطلاق النار من مسدسه ضعف وسقط المسدس من‮ ‬يديه فأتخذ الجهاز قراراً‮ ‬بعقوبته وطرده متهماً‮ ‬إياه بالضعف والجبن‮ ‬،‮ ‬لكن فيما بعد أعاده الجهاز الى صفوفه ليصبح سفيراً‮ ‬للعراق في‮ ‬دولة تونس‮ ‬،‮ ‬وبعد سقوط النظام إغتيل في‮ ‬منطقة العامرية ببغداد العام‮ ‬2004  ‮ ‬ضمن حملة التصفيات السياسية بعد سقوط النظام والثارات الاجتماعية والعشائرية‮  ‬،‮ ‬وفي‮ ‬سنوات لاحقة تزوج برزان أبراهيم الحسن زوجة فاضل البراك‮ ( ‬جنان‮ ) . ‬
تهم مختلفة
وأعدم برزان وسبعاوي‮ ‬وفاضل البراك في‮ ‬تهم مختلفة وتحت واجهات سياسية متصارعة وماتت زوجاتهما‮ . ‬وفاضل البراك حاصل على شهادة دكتوراه من معهد الاستشراق السوفيتي‮ ‬عام‮ ‬1973في‮ ‬رسالته الموسومة عن حركة رشيد عالي‮ ‬الكيلاني‮ ‬ورغم الاعتراض من معهد الاستشراق على فحوى المادة باعتبار المركز متخصص بدراسات الماركسية اللينينية‮ ‬،‮ ‬لكن طبيعة العلاقات بين الحزب الشيوعي‮ ‬السوفيتي‮ ‬وحزب البعث في‮ ‬العراق مررت على مضض‮ . ‬
وقد لفت بتحركاته المريبة وعلاقاته المتنوعة الجانب السوفيتي‮ ‬مما دفعت المخابرات السوفيتية فتاة سوفيتية جميلة أسمها‮ ( ‬لودا‮ ) ‬على علاقة بالمخابرات لترتبط بعلاقة عاطفية معه وأشترى لها شقة وسيارة في‮ ‬موسكو‮ ‬،‮ ‬وكشفت طبيعة علاقاته للسلطات السوفيتية مع المرحوم‮ (‬خ.خ‮) ‬و(ح.س‮). ‬وعندما عاد الاول الى العراق في‮ ‬مطلع التسعينيات عثر عليه مقتولاً‮ ‬في‮ ‬شقته في‮ ‬بغداد‮ . (‬م.م.ع‮) .. ‬القائم بأعمال السفارة العراقية‮ ‬, يشغل حالياً‮ ‬رئيس دائرة ملف أمريكيا الشمالية والجنوبية والبحر الكاريبي‮ ‬في‮ ‬مبنى وزارة الخارجية العراقية بعد تسعة سنوات من سفير عراقي‮ ‬في‮ ‬باريس من‮ ‬2004‭/‬2013‮ . ‬وهو من أهالي‮ ‬مدينة الكاظمية‮  ‬ينضـح طائفية ويلعب على أوتارها الحساسة حسب وصف معرفة القريبين منه‮ .‬
‮-(‬ف.ف‮) .. ‬مواطن عراقي‮ ‬, كان‮ ‬يصدر جريدة‮ ( ‬الحوار‮ ) ‬في‮ ‬مدينة‮ ( ‬أوبسالا‮ ) ‬السويدية‮ ‬،‮ ‬ثم أنتقل الى مكتبه الجديد الفاخر في‮ ( ‬إستوكهولم‮ ) . ‬ولم‮ ‬يعد أي‮ ‬أثر له‮ . ‬
‮-( ‬ك.س‮) .. ‬الملحق الدبلوماسي‮ ‬في‮ ‬السفارة العراقية‮ ‬،‮ ‬وهو أيضاً‮ ‬لا ذكر له ومصيره مجهول‮ . ‬
‮-(‬ج.ش‮) .. ‬امرأة عراقية وعنصر مخابراتي‮ ‬تحمل جواز لبناني‮ ‬مزور‮ ‬،‮ ‬وهناك تسريبات ربما تكون مغربية الاصل‮ ‬،‮ ‬أستخدمت كطعم للايقاع بالضحية‮ ‬،‮ ‬وهي‮ ‬محور رئيسي‮ ‬في‮ ‬ملفات التحقيق‮ ‬،‮ ‬والبحث عنها قائم من خلال نشر صورها ومعلومات عنها للاستدلال عليها‮ .‬
‮ ‬تمكنت‮ (‬ج‮) ‬وضمن سيناريو معد لها بمتابعة تحركات المقتول ماجد حسين والاماكن التي‮ ‬يرتادها‮ ‬،‮ ‬فتعرفت عليه بعلاقة أعجاب مشبوهة‮ ‬،‮ ‬وبعد فترة من الزمن والمعرفة دعته الى شقتها في‮ ‬العاصمة السويدية على وليمة عشاء وخمر وسهر‮  ‬،‮ ‬بعد ترتيب مسبق لعملية قتله والخلاص منه‮ ‬،‮ ‬حيث كان في‮ ‬انتظاره على الأقل شخصان داخل الشقة‮ ‬،‮ ‬ونفذوا به مهمتهم بنجاح وسلاسة بعيداً‮ ‬عن أي‮ ‬شبهات محتملة‮ ‬،‮ ‬وبعد أن أجهزوا على الرجل وقطعوه تركوا السويد بنفس اليوم الذين نفذوا العملية به‮ ‬يوم9 ‮ ‬كانون الثاني‮ ‬1985‮. ‬وعثرت الشرطة السويدية على جثته‮ ‬يوم‮ ‬17‮ ‬آذار‮ ‬1985‮ ‬في‮ ‬العاصمة إستوكهولم‮ .‬
‮- (‬ع.م.ح‮) ‬عنصر المخابرات العراقية والقاتل الذي‮ ‬وصل الى السويد في‮ ‬يوم‮ ‬14‮ ‬كانون الاول‮ ‬1985‮ ‬وغادر في‮ ‬9‮ ‬كانون الثاني‮ ‬1985‮ ‬يوم تنفيذ العملية برفقة جميلة الشافي‮ ‬الى العاصمة الدانماركية‮ ( ‬كوبنهاغن‮ ) ‬ومنها الى مدينة‮ ( ‬نيس‮ ) ‬في‮ ‬فرنسا‮ . ‬وأختفى أثرهما من هناك الى الان‮ . ‬
‮-(‬ع.ع.ح‮) .. ‬عنصر مخابراتي‮ ‬والقاتل الذي‮ ‬وصل الى السويد في‮ ‬يوم‮ ‬14‮ ‬كانون الاول‮ ‬1984‮ ‬بجواز دبلوماسي‮ ‬كحامل للبريد الحكومي‮ ‬،‮ ‬وغادر الى اليونان في‮ ‬يوم‮ ‬9‮ ‬كانون الثاني‮ ‬1985‮ ‬وأختفى أثره هناك ومصيره مجهول الى الآن تماماً‮ . ‬
أضافة الى محمد سعيد الصحاف سفير العراق في‮ ‬مملكة السويد اللاعب الأساسي‮ ‬في‮ ‬ملف القضية‮  . ‬
‮-  (‬ن.ب‮) … ‬شاب من أهالي‮ ‬مدينة البصرة وصل للسويد للدراسة وعمل مترجماً‮ ‬في‮ ‬مبنى السفارة العراقية في‮ ‬ستوكهولم براتب‮ ‬3500‮ ‬كرونه‮ . ‬عندما أستقر‮ (‬س.ج‮) ‬في‮ ‬العاصمة السويدية‮ ‬،‮ ‬والذي‮ ‬رافق هانس ميلين في‮ ‬بغداد وقام بتنقلاته في‮ ‬المدن العراقية بسيارة‮ ( ‬التاكسي‮ ) ‬
‮. ‬دعا‮ (‬ن‮) ‬على وليمة عشاء برفقة طبيب الاسنان العراقي‮ ( ‬ف.ح‮ ) ‬في‮ ‬مطعم صيني‮ ‬في‮ ‬العاصمة‮ ( ‬إستوكهولم‮ ) . ‬فاجأ‮ (‬س.ج)الشاب‮ (‬ن‮) ‬بوثائق دامغة على عمل المخابرات العراقية وعلاقاتها الواسعة وتحركاتها على أرض السويد فوضعه تحت الأمر الواقع للعمل والتعاون معهم‮ ‬،‮ ‬وهدده في‮ ‬حالة تسريب أي‮ ‬معلومة سوف تقطع رقبتك‮ ‬،‮ ‬مثل ما فعلنا مع الآخرين‮ . ‬فلم‮ ‬يكن أمامه خيار الا التعاون مع المخابرات العراقية‮ .‬



35
من العمل الحزبي في موسكو إلى الفجيعة.. قناديل شيوعية تسلّط ضوءاً على حياة شرارة

ذات يوم من شهر آب عام 1997تواردت الاخبار بفجيعة الاستاذة والاديبة والمترجمة حياة شرارة بموت مفجع أقرب الى التراجيديا السوداء مع أبنتها الكبيرة مها ونجت أبنتها الثانية زينب من الموت فكثرت التكهنات حول طريقة ودوافع موتها ، قد يكون أرتباطاً بأزمة الوضع السياسي في العراق وأشكالات سياسة النظام في التعامل مع ملف الحصار الدولي وتداعيات أسلحة الدمار الشامل وسياسة قمع المعارضين . في اللحظة الأولى التي طرقت سمعي تلك الخبرية الحزينة ، وفي محاولة يائسة للصدمة لزمة قلماً جاف وورقة بيضاء ورحت أدون شذرات من ذاكرة الماضي القديم ، عندما كانت إستاذتي لثلاثة سنوات مضت في الآداب جامعة بغداد تلقي دروساً علينا حول فطاحل الادب الروسي والتي توسمت رسالتها ب ( تولستوي فنانا ) ، وبعد أيام نشرت تلك الشذرات عن حياتها في مجلة ( رسالة العراق ) . عندما كانت الخطوط ماشية مع الربع في نشر منشوراتي قبل ما تلاص وتتقاطع المواقف والرؤى حول الاحتلال والعملية السياسية والموقف الوطني .

حياة هي أبنة الاستاذ والشاعر محمد شرارة لبناني الاصل وعراقي الهوى . ولدت في عام 1935 في مدينة النجف، وتوفيت انتحاراً هي وابنتها مها عن طريق استنشاق الغاز في 1997. انضمت إلى الحركة اليسارية في العراق ودرست في جامعة بغداد ثم سافرت في الستينيات من القرن العشرين إلى روسيا لتكمل دراستها. بعد عودتها إلى العراق عملت في جامعة بغداد - كلية اللغات كأستاذة للأدب الروسي فترة من الزمن حتى بدأ نظام صدام حسين ملاحقتها بالرغم من محاولتها عدم الاعراب عن مواقفها من سياسة الحكومات آنذاك. وانصرفت إلى التأليف والترجمة. فنشرت مقالات مثل "تأملات في الشعر الروسي"(1981) و"غريب في المدينة" ومسرحية "المفتش العام" لجوجول و"يسينين في الربوع العربية"(1989) و"مذكرات صياد"(1984) و"رودين" و"عش النبلاء" لأيفان تورجينيف و"مسرحيات بوشكين”(1986). نشرت أختها بلقيس روايتها الوحيدة بعد عدة سنوات من رحيلها ( إذا الأيام أغسقت ) ، وهناك عمل روائي آخر لها لم يلقى النور (وميض برق بعيد ) .

حياة شرارة زوجة طبيب الكسور والعظام الشهير محمد صالح سميسم ، ويذكر إنه أعتقل في يوم أجرى به خمسة عمليات لجرحى الحرب العراقية الإيرانية عام 1982، وقد مات في ظروف غامضة وأصابع الاتهام تشير الى المخابرات العراقية في قتله تاركاً بعد رحيله زوجته حياة وبنتان مها وزينب . وحياة هي البنت الثالثة للاديب محمد شرارة بعد بنتان مريم وبلقيس ، وقد سماها والدها ( ثالثة الاثافي ) . تقول أختها بلقيس ومن خلال روايتها ” إذا الأيام أغسقت ” والرسائل المقتضبة بينهما إنها أنتحرت تمرداً ويأساً على الوضع القائم بالعراق وإنحداره نحو النفق المظلم ، وفي تقديري الشخصي ليس غريباً على شخصية حياة لتوغلها في الروح الانسانية وجوهر الانسان في نتاجات الادب الروسي ، إنها هي التي قرأت علينا وحللت إنتحارات الروائيين والأدباء الروس ”فلاديمير مايكوفسكي ” سيرجي يسينين ” وأعتبرتها في قمة أحتجاجاتهم الفكرية والادبية والانسانية على الوضع السائد في الاتحاد السوفيتي زمن ستالين .

يوم الأوّل من شهر آب (أغسطس) من ذلك العام، توقيتاً للانتحار مع ابنتها الكبيرة مها. رغم ذلك ، تبقى يد نظام البعث واضحة ومسؤولة في انتحارها الذي لم يكن إلا احتجاجاً أخيراً وصامتاً على سنوات طويلة من الحصار والمعاناة على حياتها ، فمنعها من السفر وحجب كتبها وضيّق عليها أكاديمياً. على أن الرواية نفسها كانت رثاءً للأيام الذهبية الآفلة وانطفائها في بغداد التسعينيات. روايتها التي تحمل جزءاً من سيرتها من خلال بطلها الأستاذ نعمان في إحدى جامعات العراق والضيق الذي يتعرض له يومياً كجزء من حالة يومية في حياة العراقيين .

الدرس الأول عام 1980 في أروقة الآداب/ بغداد . ألقيت علينا نحن الطلبة الجدد نبذة مختصرة عن سيرتها الاكاديمية وأهتماماتها في مجالي الكتابة والترجمة ، ولم تمر علينا في تلك السيرة على سيرتها الشخصية من هي ؟. ومن أي بلد ؟. ظل الاعتقاد ماشي بيننا لردح من الزمن إنها عراقية الأبوين . أنطباعي منذ اليوم الأول عنها إنها تخفي حزن شديد في روحها ، إنها هادئة الطبع يعلو وجهها الجميل إبتسامة خفيفة ، تتشح بالملابس السوداء تنورة وقميص وحذاء وحقيبة سوداء لاتفارقها تخفي بها أوراقها المبعثرة عن مرحلة الزمن القادم وتداعياته على حياة العراقيين . في العام 1982تغيبت عن حصص المحاضرات لمدة أسبوع في مهمة حزبية الى الجبل ، وفي عودتي في اليوم الأول صادفتني على السلم المؤدي الى الطابق الثاني حيث قاعات دروسنا وقبل أن ألقي التحية عليها بادرتني بالسؤال .. وينك أنت .. وليش ما داوم ؟. أنني سوف ألتحق بفصائل الانصار الشيوعيين في الجبل ، يعني سوف تشرد مثل جماعتك وتلتحق بهم ؟. في حينها لم أفسر وأعي معنى كلامها ، لكن بعد سنوات فهمت عمق ومعنى كلامها . نحن الشيوعيين تركنا الساحة العراقية الى البعثيين يتحكمون بمقدرات شعبنا وخيرات بلدنا ، وعندما عدنا بعد سنوات من النضال عدنا مع الاحتلال الامريكي وتحت أجندة الاسلام السياسي المتخلف ضيعنا الخيط والعصفور.

جاء أبوها، الشاعر محمد شرارة، من جبل عامل في الجنوب اللبناني عام 1920 متنهًا إلى مدينة النجف لدراسة الفقه الإسلامي، وقرر الاستقرار والزواج في العراق. في بداية الأربعينيات، وللظروف التي مرت بها العائلة أخذ الأب عائلته وأنتفل بهم إلى بغداد، وافتتح صالونًا أدبيًا، كان يرتاده الكتاب والشعراء، مثل بدر شاكر السيّاب، ونازك الملائكة ، محمد مهدي الجواهري ، بلند الحيدري ، أكرم الوتري ، لميعة عباس عمارة ، عبد الوهاب البياتي . في بغداد أكملت دراستها الثانوية ثم سافرت بسبب الظروف السياسية في العراق في العقد الأخير من الخمسينيات الى سوريا ومصر حيث درست بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة . بعد ثورة 14 تموز عام 1958 عادت إلى العراق. درّست الأدب الروسي في جامعة بغداد. وبعد تخرجها، سافرت إلى مدينة موسكو، حيث نالت الدكتوراه من جامعة موسكو، قبل أن تعود إلى العراق وتعمل أستاذة للأدب الروسي في جامعة بغداد. إثر موت زوجها بعد اعتقاله عام 1982? تعرضت لضغوط وملاحقات دفعتها إلى الابتعاد عن السجالات السياسية، لكن هذا لم يشفع لها عند السلطات. مُنعت من السفر، كما مُنعت كتبها، وظلت على هذه الحالة حتى رحيلها في الأول من أغسطس عام 1997. في العام 1982مات زوجها الدكتور محمد صالح سميسم وتلبسها حزن شديد وخوف على مستقبل عائلتها . وأنا أرى ذلك الحزن الشديد والغضب في عيونها في زيارتنا الى بيتها مع الدكتور جليل كمال الدين وزميلي في القسم محمد عبد الكريم الزبيدي .

النتاجات في سجل حياة شرارة الأدبية والروائية والترجمة .

- إذا الأيام أغسقت2002

-“ماياكوفسكي1976

- مدخل إلى الأدب الروسي1978

- بيلينسكي 1979

- من ديوان الشعر الروسي” 1983

- صفحات من سيرة نازك الملائكة (نقد)، 1994

تولستوي فناناً2002

يذكر الدكتور ضياء نافع زميلها في الدراسة في مطلع الستينيات في موسكو ، وبعد سنوات طويلة جمعتهما الرفقة كأستاذين في الهيئة التدريسية في كلية الآداب جامعة بغداد لتدريس اللغة والادب الروسي ” جئت مرة الى القسم ورأيت حياة قد خرجت لتوها من غرفة رئيس القسم وهي متوترة جداً. حييتها وسألتها – ما الأمر يا أم مها؟ فأجابت بانفعال واضح ، انها تحدثت لتوها مع رئيس القسم حول تدريس مواد الأدب الروسي من رواية ومسرحية وشعر وتاريخ الأدب ,فقال لها رئيس القسم باستهزاء ان تلك المواد لا قيمة لها بتاتا في مناهج التدريس في القسم .ابتسمت وسألتها – وهل سمع بوشكين ودستويفسكي و تولستوي بذلك ؟. ضحكت حياة وقالت – الحمد لله لم يسمع احد، وضحكنا من أعماق القلب، ولكنه كان – بالطبع- ضحكا كالبكاء..

أختارت الفقيدة حياة شرارة أطروحتها الجامعية لنيل شهادة الإستاذة عن الروائي ليف تولستوي وواحد من كتبها عنه بعنوان ” تولستوي فنانا” وتذكر في كتابها … أحتل تولستوي مكاناً مرموقاً في قلوب القراء وتعتبر رواياته "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا" و"البعث" من الروائع الخالدة في الأدب العالمي وهي التي يزداد إهتمام الكتاب والمسرحيين والسينمائيين بها من جيل إلى جيل .

ومنبع هذا التلهف على أدبه هو محتواه الإنساني العميق ودعوته للخير ولسيادته في العلاقات البشرية ونقده المرير للظلم والطغيان والفساد والإنحطاط التي يتعرض لها البشر . يعتبر الروائيين الروس أصحاب مجد متواصل في الادب العالمي لتوغلهم في النفس البشرية في الحب والألم والشجاعة والهزيمة والجريمة والعقاب.

ذكر الدكتور صباح نوري المرزوككان للنعي الذي رفعته كلية اللغات بجامعة بغداد على جدران مجمع الكليات في الوزيرية سنة 1997م أثره البالغ في نفوس من قرأ هذا النعي وعرف عنوانه، لاسيما انه يتعلق بأستاذة فاضلة ومترجمة متمكنة في ميدانها وهي الدكتورة حياة شرارة، أستاذة الأدب الروسي.وكان الحديث يومئذ همسا يدور حول انتحار الدكتورة مع ابنتها مها، هل هو انتحار فعلي ام ان يدا خفية من وراء ذلك، ولكن ما جاء في رواية (إذا الأيام أغسقت) التي كتبتها الراحلة وقامت بنشرها وكتابة المقدمة لها شقيقتها بلقيس شرارة يؤكد ان الحدث هو انتحار بسبب فقدان الأمل والإحساس بانها أمام منعطف الهاوية عندما فقدت الحياة مغزاها وهدفها.

كتبت أختها بلقيس بعد مرور عقد من الزمن على رحيلها الفاجع ” مرّ عقد و العراق يمر في مآسي متواصلة، فالعلم يحارب بقتل أساتذته وأطبائه و طلبته وعلمائه و خبرائه. و استشرت هجرة العقول من العراق و أصبحت آفة لا يمكن التغلب عليها، تلتهم العقول و الضمير. مرّ عقد غلب عليه الحزن فأذاب الفرح، عقد لفه دخان الرعب بجناحيه، و الناس حيرى يتطلعون إلى السماء علها تشرق شمس الأمان في مدينتهم بغداد.

لا أدري كيف أختصر عقداً كاملاً و تحت حفنة من التراب في عتمة القبر الضارية. كنت أتمنى زيارة قبرها بعد سقوط الحاكم الذي كان سبباً في نهايتها المحزنة، زيارة مدينة بغداد التي أحبتها و لم تفارقها!! مدينة بترت أوصالها و قطعت شرايينها، و هُجّر أهلها، و أغرقت في شلال من الدم!! داكن، قاتم، هو الواقع الذي يعيشه الناس، و لا أدري متى يعود العراق إلى شاطئ الأمان!! فأهل العراق لا زالوا في الانتظار .

يشير الشيوعي والصديق صباح كنجي في مقال منشور في الحوار المتمدن حول موت حياة شرارة ” أن الحزب الشيوعي نشر في مواقعه بعد سقوط الدكتاتورية خبراً عنها ينصُ على أن حياة قد ذبحت مع بنتها.. (الدكتورة حياة محمد شرارة زوجة الدكتور محمد صالح سميسم وأبنتها واللتان اغتيلتا ذبحا في منزلهما في بغداد) ..

أياً تكن الحقيقة لا تغير من جوهر الأمر.. لكن التوثيق مطلوب والتدقيق في التاريخ والمعلومة أفضل من تعدد الروايات والتواريخ المثبتة المختلفة في عدد من مواقع الانترنيت ..”

أنتمت حياة شرارة بحكم وضعها العائلي والبيئي ونشأتها بوقت مبكر الى الحزب الشيوعي العراقي ، لكن تركت التنظيم أيضا في وقت مبكر في موسكو عام 1961” وتمنت في رسالتها الموجهة الى منظمة الحزب في موسكو أن لايهاجموها كما جرى مع الأخرين بشتى النعوت ” الذين عزفوا عن التنظيم ” وتقول تركت الحزب والى الأبد ، لكنها بقيت متمسكة بفكرة اليسار الراديكالي وأهدافه .

الفقيد خالد حسين سلطان وتحت سلسلة متواصله ( قناديل شيوعية ) ، صدر كتابه عن حياة شرارة ( الثائرة الصامتة حياة شرارة ” يقول .. لم التقي بالفقيدة وأنا من جيل طلابها بل كانت هي وزوجها المرحوم محمد صالح سميسم أصدقاء ورفاق لوالدي المرحوم حسين سلطان، وكان الطبيب محمد سميسم طبيب العائلة وأصدقاءها وأقاربها يقدم لهم المشورة والمساعدة في الحالات المرضية سواء في اختصاصه او غير ذلك وخصوصاً خلال فترة عمله في مستشفى الطوارئ في بغداد حيث كنت احد مراجعيه، وفاءاً لتلك الصـــــــداقة والنبل الإنساني الذي تحمله الفقيدة وزوجها والإهمال المقصود من المؤسسات الأكاديمية التي عملت فيها وكذلك رفاقها في فترة عملها الحزبي ، أقدمت وعلى ضوء أمكاناتي المتواضعة في تسليط الضوء على حياتها من خلال كتابي هذا .


36
مذكراتي ” سيرة أحمد باني الخيلاني .

الدافع الذي حثني ، إن أسعى في الحصول  على نسخة من مذكرات أحمد باني خيلاني ( أبو سرباز ) باللغة العربية بعد أن صدرت في وقت سابق بلغته الأم ( الكردية ) ، وإضافة الى رغبتي وتطلعي في متابعة أوراق وسير رفاقنا وقادة حزبنا في الحزب الشيوعي العراقي لعدة أسئلة في طريقي مازالت تبحث عن أجوبة بما آلت اليه أوضاعنا بعد عدة عقود من النضال والتضحيات ، فضلاً عن توقي بشكل عام بقراءة أوراق السياسيين باعتبارها أنها تقول الحقيقة وتعيد مسارات التاريخ برؤية نقدية . لقد عشت عدة سنوات مع الراحل ( أبو سرباز ) في وادي كرجال بقاطع سليمانية وكركوك ، بل كنت أنام في غرفة مع عدد من الرفاق تبعد عن غرفة منام ( أبو سرباز ) ثلاثة أمتار التي تجمعه مع الرفاق إبراهيم الصوفي ( أبو تارا ) ومحمد النهر ( أبو لينا ) وكمال الزهاوي ( مام أستاكمال ) و طه صفوك ( أبو ناصر ) عضو في مكتب القاطع .

شهد ذلك الوادي الممتد من قرية ( آحمداوه ) الى نقطة الحدود الإيرانية ( دزلي ) في عام ١٩٨٣ وما أعقبه من سنوات أحداث وصراعات وأحتراب بين رفاق الامس وما خلفته من تداعيات حول جريمة بشتاشان ، كان أهمها الاصطفافات الجديدة في المهام والمناصب والمسؤوليات ، كنت تواً ملتحق الى مقر قاطع سليمانية وكركوك في صيف ١٩٨٣ ، وصل الرفيق أحمد باني خيلاني الى مقر القاطع في منطقة ” كرجال” ويحمل في جيبه قرار قيادة الحزب أن يتبوأ المسؤولية الاولى في قيادة عمليات قاطع سليمانية وكركوك ، بعد أن تم عزل بهاء الدين نوري بقرار فوقي بعيداً عن السياقات التنظيمية المعتمدة في العمل الحزبي مقترنة بحملة تشهير واسعة ومؤذية . وصل الراحل ” أبو سرباز ”عبر الاراضي الإيرانية برفقة المرحوم قادر رشيد ( أبو شوان ) والمرحوم مام باقي بعد أيام من  خروجه من الأسر سالماً مع رفيقه كريم أحمد من قبضة مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) أثر هزيمة بشتاشان . وعلى حرارة دماء رفاقهم الذين إعدموا وأستشهدوا في جريمة الهجوم الغادر في ذلك اليوم من عام ١٩٨٣، وقعوا بيانهم المشؤوم ( المدان  ) مع قيادة الإتحاد الوطني الكردستاني ، والذي بث مرات عديدة عبر أثير قناتهم .

قد يعد تكريماً له في تحمل وزر الهزيمه والانبطاح أمام القييم والمباديء وأراقة دماء رفاقهم والمساومة على أرواحهم المغدورة . منذ اليوم الأول لوصوله أستقبل بالحفاوة من الذين قبل سويعات يدينون موقفه ويشتموه ، لكنهم غفروا له بعد أن تبوأ المسؤولية الاولى في القاطع . في الندوه الاولى التي أقيمت في مقر القاطع بمناسبة تسنمه المسؤولية . شدٌ الحديث بإتجاه الرفيق بهاء الدين نوري وحمله مسؤولية الضعف والهوان والهزيمه على أثر أتفاقية ”ديوانه” الذي وقعها مع الاتحاد الوطني الكردستاني ممثلاً بالملا بختيار ، والتي تنص على عدم الاقتتال بين أعداء اليوم رفاق الامس . في يومها سألت عدة رفاق لانني ما زلت تازه وملتحق جديد بالتجربة .. طيب هو يدين بهاء الدين نوري وهو الذي وقع بيان مرفوض مع قيادة الإتحاد الوطني الكردستاني ؟. تمتمة والجواب غير شافي بعد مالحقت تشوف شيئ .

الندوة الثانية … التي حضرتها ، كنت أتوقع سيتحفنا الرفيق أحمد باني خيلاني بالمستجدات حول ماركس وافكاره والمراجعات الفكرية ، وأصطفافات اليسار في أمريكيا اللاتينية ، وسر الرفيق علي يعته في تقبيل يد الملك المغربي محمد الخامس . لكن خرج لنا أبو سرباز بنظرية جديدة فن قيادة الشيوعي ” للبغل ” الحيوان الذي نستخدمه لجلب الحطب ومستلزمات التموين ، وبراعة الشيوعي تكمن في قيادته للبغل . 

في الفترة الاخيرة طفحت الى الواجهة مجدداً واقعة بشتاشان ، إنها النار تحت الرماد ، بعد أن هيجها القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني ملا بختيار ، عندما أقتضى الأمر بتنفيذ حكم الاعدام بأحد الاسرى الشيوعيين العرب ورفض ، وأضاف الى ذلك في تلك اللقاء التلفزيوني ، عندما قال له نو شيروان الشخصية الثانية في الاتحاد الوطني الكردستاني والمسؤول عن قيادة الهجوم على مقرات الشيوعيين في بشتاشان .. حيث أوصاه ” أنا حطمت رؤوس الشيوعيين فما عليك الا أن تقطع أطرافهم ” في حينها لم يثر أي زوبعة في صفوف الشيوعيين من تصريحات مله بختيار . وفي لقاء تلفزيوني متصل مع مفيد الجزائري وفي سؤاله عن تلك اللقاء والتصريحات من قبل ملا بختيار وواقعة بشتاشان ، كانت الميوعه والجهل في الموقف والجواب ، مما حث بعض الانصار الشيوعيين والمتابعين الى إدانة الموقف عبر حمله على مواقع التواصل الاجتماعي تعرض لها القيادي الشيوعي مفيد الجزائري ، مما دعاه الى نشر رسالة إعتذار ، لم تلقى ترحيباً ولا مغفرة من الشيوعيين ، والذي يقول فيها ” إنه أعاد الحلقة مرات عديدة حتى يتيقن من فحوى حديثه ” يبدو للمتابع إنه لا يفطن الى فحوى حديثه .

ناشطون شيوعيون وعبر مواقع التواصل الاجتماعي يطالبون الحزب الشيوعي بالضغط على قيادة الاتحاد الوطني بالاعتذار ، وفي تقدير البعض لقد جاء المطلب متأخراً ، كان يفترض من اليوم الاول لرحيل الدكتاتورية على يد الاحتلال الامريكي يطالب الحزب الشيوعي قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني متمثلا بمام جلال ونو شيروان الراحلين باعتذار رسمي عبر الصحف والقنوات وغير ذلك ستكون مواقف أخرى لنا في العمل السياسي وبروتوكولات العلاقات فالموقف الرسمي كان ضعيفاً.
وسواء اتفقنا مع أحمد باني الخيلاني ، أم اختلفنا معه، في مواقفه السياسية ، لكنه كان رجل بسيط متواضع بأدب يحترم الجميع الكبير والصغير ، قدم قرباناً للتجربة والقضية أعز ما يملك زوجته وأبنه سرباز . تعرض الشيوعيين العراقيين الى الحرب من قبل الأنظمة المتعاقبة على دفة الحكم في العراق طيلة سيرة تاريخهم البطولية بالاضافة الى العوز في عيش حياة كريمة أيضاً أبعدهم عن القراءة والفكر والمعرفة والمتابعة حول الفكر الانساني والمدارس الفكرية المتعددة والتي تدحض بعضها البعض .

محمد السعدي
مالمو/نوفمبر ٢٠٢١

37
بيني وبين نفسي
"حكايات من آرشيف الحركة الشيوعية العراقية"

•   مالمو - بغداد
صدر عن دار الرافدين (بغداد - بيروت) كتاب جديد للنصير الشيوعي محمد السعدي، وهو الكتاب الثاني بعد كتابه الأول "سجين الشعبة الخامسة" والكتاب هو رحلة في أوراق وتجارب شخصية ومذكّرات جمعها فصولاً من ثمانينات  القرن الفائت كما يقول مؤلف الكتاب، وهدفه توثيق حقبة مهمة من تاريخ حركة الأنصار الشيوعية، وقد كتبها في فترة متقطّعة أسماها "التقطير الإتلافي للذاكرة".
ويروي السعدي في كتابه المثير كيف وقع في فخ الإستخبارات العسكرية العام 1987 لقمة سائغة ليجد نفسه نزيلاً لمدّة 87 يوماً في الشعبة الخامسة ويتعرّض للتعذيب والضغط النفسي،  ليضطرّ الإعتراف بمهمته والكشف عنها، وقد أقتيد إلى محكمة الثورة، ومن حُسن الحظ يقول أن المحكمة تأجّلت، فتمّت مساومته للعمل لصالح الإستخبارات العسكرية مقابل إطلاق سراحه، وهي طريقة اتبعت في الكثير من الأحيان مع من يلقى القبض عليهم، خصوصاً ممن كانوا يتوجّهون إلى داخل العراق لإعادة بناء التنظيم، وفي الكثير من الأحيان كان هؤلاء تحت أعين الأجهزة الأمنية بأنواعها واختصاصاتها التي كانت تخترق خطوطاً حزبية وتتغلّغل فيها وتسهّل مهماتها لتكون في حدود السيطرة عليها باللحظة المناسبة. وقد استدرجت قيادات متقدّمة في مطلع التسعينات وهيأت لها أماكن إقامة وبيوت حزبية راصدة جميع تحركاتها واتصالاتها كما ورد في الكتاب وهو ما يعتبر فضيحة حقيقية.   
بعد موافقته على العمل لصالح الإٍستخبارات العسكرية أُطلق سراح السعدي فهرب مرّة ثانية إلى كردستان وبعد فترةٍ ضاقت به الأمور فقرّر الذهاب إلى دمشق ومنها حصل جواز سفر يمني بمساعدة عامر عبدالله فسافر إلى براغ ومنها توجّه إلى السويد لاجئاً. وعانى ما عاناه ليس فقط من التعذيب، بل من الشكوك والإتهامات، خصوصاً بعد أن كوّن فكرة ورأياً حول كيف تصنع السياسات الحزبية وكيف يتخذ القرار بمزاجية ومنافسات وأنانية بين القياديين وقد فوجيء كيف يتمّ طرد بهاء الدين نوري أبرز قيادي في الحزب الشيوعي بسهولة واستخفاف بسبب خلافات سياسية وفكرية وهو الأمر الذي حصل لاحقاً مع باقر ابراهيم وحسين سلطان وعشرات من القياديين والشخصيات البارزة في الحزب بعد المؤتمر الرابع إضافة إلى إبعاد قياديين مرموقين مثل عامر عبد الله ونزيه الدليمي وآخرين.
وفي الكتاب الكثير من الأسرار والخفايا حول حركة الأنصار والسياسات الحزبية وما يتعلّق بالمؤتمر الرابع للحزب الذي فجّر الصراع على المكشوف وأدى إلى فصل أعداد كبيرة من الرفاق القياديين والكوادر. فلم تكن ملاحقة الحكم البعثي وتصفيات أجهزة الأمن كافية، بل أكملتها القرارات التعسفية التي اتخذتها مجموعة صغيرة وحاقدة وقف على رأسها عزيز محمد المسؤول الأول عن أخطاء وارتكابات قيادة الحزب والذي استمرّ على قمّته 29 سنة. 
الكتاب يتناول أهم الإختراقات ويسمّي بعض الأسماء التي لعبت دوراً خطيراً في الأجهزة الأمنية بتسهيل من بعض القيادات، كما يتوقّف عند ظاهرة تعريض بعض المعارضين لنهج القيادة للتعذيب في سجون خاصة تمّ بناؤها في كردستان، ويتناول هذه الظاهرة الخطيرة بالأسماء حيث استشهد تحت التعذيب جابر عبد الله (منتصر) وتعرّض للتعذيب (الشيوعي) سامي حركات (ستّار غانم) الذي استشهد لاحقاً خلال تسلّله للداخل ويعتبر أمين (أحمد الناصري) أحد الشهود الأحياء الذين يواصلون نضالهم لفضح هذه الممارسات الإجرامية وهو يطالب بكشف المجرمين المعروفين والذين يحظون بدعم القيادة التي تتستّر على أفعالهم، وبالتالي فهي مسؤولة أيضاً خصوصاً القيادة السابقة وعلى القيادة الحالية أن تدين هذه المرحلة وتردّ الإعتبار للضحايا فالسكوت دليل تواطؤ.
وقد قدّم للكتاب الأستاذ عبد الحسين شعبان، وأورد أربع ملاحظات قال أنها خارج الآراء السياسية والحزبية: 
أولها - إنه تعرّف أكثر على السعدي من خلال كتابته بعد أن إلتقاه عند عامر عبد الله في دمشق. وثانيها- أشاد بجرأته حين اعترف بأخطائه ومثالبه وعيوبه ومنها تعاونه مع جهاز الإستخبارات العسكرية حين تمّ اعتقاله وذلك إنقاذاً لنفسه بعد عدم تمكّنه من الصمود فوافق على عرضها ثم هرب إلى الجبل.
وقد تضمّن الكتاب معلومات كثيرة حول العديد من الذين أُلقي القبض عليهم وتعاونوا مع الأجهزة الأمنية ويعتقد السعدي أن قسماً منهم أخفى المعلومات عن الحزب واستمرّ في البقاء في مواقعه المتقدّمة دون أن يبلّغ عن ذلك. وينقل  كاتب المقدّمة عن الكاتب (أن الغالبية الساحقة من الذين توجّهوا إلى الداخل وقعوا في شرك الأجهزة الأمنية) فإما استشهدوا ومن أطلق سراحه باتفاقات معها ويذكر العديد من الأسماء وبعض مهماتها واستدراجاتها.
وثالثها - إنه ينتقد تجربته، لا سيّما مشاركته في التحقيق (الحراسة) ضدّ آخرين أو قبوله فكرة التعذيب لآخرين لانتزاع إعترافات منهم.
ورابعها - إنه يشخّص عدداً من المسؤولين عن الأخطاء والعيوب بما فيها الأمنية، لعدم خبرتهم أو قلّة معرفتهم أو حتى جهلهم. 
الكتاب مكرّس للنقد الذاتي وسعي لكشف الحقيقة والمصارحة والإعتذار لمن تمّت الإساءة إليهم أو لعوائلهم. ويقول مؤلفه لا مبرّر لمن أنكر أو سكت وذلك هو التواطؤ بعينه الذي لا بدّ من كشفه أيضاً، وقد فعل السعدي الخطوة الأولى ثقة نفسه.
الكتاب يعكس معاناة شاب تركت التجربة ندوباً على نفسه جسدية ونفسية، ليس من الأعداء فحسب، بل من رفاق الدرب أيضاً.
وكان كاتب المقدّمة (الأستاذ شعبان) قد ختم مقدّمته بالقول (إن تجربة محمد السعدي يجب أن تقرأ دون إسقاطات مسبقة بالـ "مع" أو "الضد" وحتى خارج السياسة لأنها تجربة إنسانية وهي تصلح أن تكون فيلماً درامياً بغضّ النظر عن سوداوياتها، فثمّة كوّة ضوء ويقظة لأمل جديد وروح جديدة).
إن (كتاب بيني وبين نفسي) يهمّ جميع السياسيين سواء كانوا من اليسار أو اليمين، من الإتجاهات الإشتراكية أو القومية أو الإسلامية، لأن الجميع عانى من ممارسات النظام الفاشي السابق ومن أساليب دكتاتورية في داخل كل حزب من الأحزاب. إنه كتاب يهمّ الجيل الجديد بعد أن انكشفت جرائم كثيرة وترتكب اليوم جرائم جديدة، وعلى الرغم من محاولات التستّر عليها، إلاّ أن الحق لا بدّ أن يظهر والحقيقة لا بدّ أن تنكشف. الكتاب وإن كان يتكلّم عن أمور شخصية وخاصة وهموم ذاتية لكنها أموراً عامة بل أكثر عمومية لجيلٍ من السياسيين ظلوا حالمين حتى اصطدموا بصخرة الواقع.
دار الرافدين (بغداد- بيروت) 2021، 397 صفحة من الحجم الوسط.


38
المنبر الحر / كنتُ بعثياً ..
« في: 02:56 01/08/2021  »
كنتُ بعثياً ..

وقع بين يدي كتاب صدر حديثاً بعنوان ( كنتُ بعثياً ) لمؤلفه البعثي محسن الشيخ راضي ، وينسب إنه من الرعيل الأول من البعثيين ، والذي عاصر أحداث مهمة ، بل كان من صناعها في تاريخ العراق السياسي وفي حقبات مهمة من مسيرته السياسية مازالت الأراء والمواقف محتدمة حولها . في التحويشه الأخيرة من العمر أزداد تلهفي في الاطلاع على السير الذاتية للشخصيات ورجال السياسة والفكر والدين على حد سواء ، مثلما سعيت في الحصول على نسخة من هذا الكتاب بعد أن قرأت بعض النتف حول إصداره ، كان أكثرها توسعاً ما نشره السيد جمال العتابي على صفحات جريدة المدى بثلاثة حلقات متتالية ، مثلما أسعى في الحصول على مذكرات البريفسورة سيمون دي بفوار المعنونة ( وانتهى كل شيئ ) .

الموقف الذي يسجل له وهو على عتبة التسعين من العمر ، وأن أتى متأخراً أهون من أن لا يأتي أبداً ، هو أعتذاره من العراقيين على ما أقترفوه البعثيين من جرائم بحق شعبنا والانسانية ، وحمل نفسه مسؤولية تلك الاحداث في أنتفاد ذاتي واضح والاعلان عن ندمه . ما يهمني ويهم العراقي المغضوب على امره في أعتقادي هو الاشكالية والموقف والحدث من الصراع الدموي بين الشيوعيين والبعثيين والقوميين ؟.

بيان رقم ١٣ في ٩ شباط عام ١٩٦٣ ، الذي يدعوا الى إبادة الشيوعيين عن بكرة أبيهم . والذين أصاغوه حسب رواية محسن الشيخ راضي في صفحات كتابه ، عبد السلام عارف ، أحمد حسن البكر ، صالح مهدي عماش . وفي الوقت الذي يدين ويستنكر هذا البيان ، لكنه في كتابه يحاول أن يعطي التبريرات في صياغة هذا البيان الفاشي . أن الشهيد سلام عادل في ظهيرة ٨ شباط وزع البيان المدوي في شوارع بغداد ”إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية ” دعوة صريحة لمقاومة الانقلابيين والحفاظ على مكتسبات الثورة والجمهورية الفتية مما زعزع الثقة والبلبلة بين صفوف الانقلابيين والخوف من سيطرة الشيوعيين على الوضع ، الذي ما زال متأزماً وغير محسوم ويعتبروها كرد فعل على الموقف وما سطره الشيوعيين من ملاحم مقاومة بطولية في عدة مناطق في بغداد ، الكاظمية ، الشاكرية ، باب الشيخ  . ويذكر السيد محسن الشيخ راضي في كتابه ” كنا نتوقع من الشيوعيين فقط بيانات شجب وإستنكار لحين أن تهدأ الاوضاع في إيجاد صيغ وطرق للتفاهم والحوار ” . يبني محسن الشيخ راضي فرضيته هذه بعدم مقاومة الشيوعيين لهم جراء ما تعرضوا له من وسائل تنكيل وسجون وأضطهاد من قبل الزعيم لهم في فترة حكمه ، حيث تشير المصادر عدد الذين كانوا يقبعون في سجون الزعيم قاسم بحدود ٥٠٠ شيوعي وشيوعية ، فكانوا لقمة سائغة وسهلة في جعبة البعثيين .

بعد صدور بيان رقم ١٣ ، شنوا البعثيين والقوميين حملة كبيرة على أوكار قادة الحزب الشيوعي العراقي مدعومة بفتاوي من رجال الدين وبدعم من بقايا الاقطاع والرجعيين . في يوم ١٦ شباط ألقي القبض على الكادر الشيوعي حمدي أيوب وتعرض الى تعذيب وحشي فأدلى باعترافات شملت إلقاء القبض على عضو المكتب السياسي هادي هاشم الاعظمي ومسؤول تنظيمات بغداد وبطل السجون في فترة حكم النظام الملكي ، والذي يعده الشيوعيون من أكثرهم صلابة وقوة في الحزب ، فمنذ اللحظة الاولى التي ألقي القبض عليه تعاون معهم ووضعوه في حماية خاصة مع عائلته في بيت في الوزيرية ، بعد أن طلب اللقاء بعلي صالح السعدي وتحاور معه وقدم له جميع المعلومات المتوافرة لديه عن أوكار وتواجد قيادات الحزب الشيوعي ” ويذكر محسن الشيخ راضي أنه ألتقى به مرتين وخلال حديثه معه كان ينتقد الشيوعيين ، ويردد في حديثه بأن الحزب الشيوعي العراقي اصبح عائقاً امام حركة التحرر في العراق ، فاعطاهم أربعة عناوين لبيوت سرية يتنقل بينها الشهيد سلام عادل ، فبعد متابعة لتلك الاوكار ورغم كل تمويهاته تم إلقاء القبض على الشهيد سلام عادل في بيت سري يوم ١٩ شباط ، وكان مع أبنه الصغير علي برعاية أحدى الرفيقات لغياب زوجته ثمينة ناجي يوسف الى موسكو لحضور مؤتمر نسائي هناك ، وقد نجا أبنه من الموت لعدم فطنة الانقلابيين له أو ربما كانوا في لجة نشوة القبض على أهم رجل مطلوب لهم ، وكان معه أحد الرفاق حيث أدعى أنه عامل كهرباء جاء لطلب من صاحب البيت لمعاينة الخلل . ونقل الشهيد سلام عادل على عجل وبسرية تامة الى أقبية التعذيب فاستشهد تحت التعذيب يوم ٢٣ شباط .

في محاولة يائسة من السيد محسن الشيخ راضي في تبرير موقفه من تعذيب وقتل الشيوعيين وأشرافه حسب عدة مصادر مسربة هو من أشرف على تعذيب الشهيد سلام عادل .
يقول في صفحات كتابه في تبرير موقفه ” ذهبنا أنا وحازم جواد الى قصر النهاية فوجدت سلام عادل جالس على كرسي في ممرات قصر النهاية وفي وضع ميئوس منه وجلس أمامه حازم جواد : وسأله .. لماذا لم تتخذوا أجراءات الحذر واليقظة ولا تعمموا توجيهات الى تنظيماتكم العسكرية بعد أن تلقيتوا أخبار بمحاولتنا الانقلابية قبل يومين من وقوعها ، فرد عليه .. هذه ليس المرة الأولى التي تصلنا مثل تلك المعلومات ؟.

قبل يوم من وقوع الانقلاب نقلت الى قيادة الحزب القيادية الشيوعية المندائية ( روضة عبد اللطيف  ) من أهالي منطقة المأمون  في أثناء لقاؤها مع عشيقها البعثي العسكري برتبة عقيد في وزارة الدفاع يدعى ( جابر علي كاظم ) وهو محسوب على خط صالح مهدي عماش وفي غمرة وحرارة اللقاء بينهما لحظات سكره وولعه بها . قال لها باجر عندنا محاولة إنقلابية ضد الزعيم قاسم والشيوعيين ، فنقلت الخبر الى أحد اعضاء اللجنة المركزية وبدوره نقلها الى الشهيد سلام عادل لكنهم لم يأخذوها على محمل الجد . فوقعت الكارثة .

أستشهد الشهيد سلام عادل تحت التعذيب يوم ٢٣ شباط ١٩٦٣ . وينفي السيد محسن الشيخ راضي على صفحات كتابه تلك المعلومات التي تداولت أن القيادي البعثي علي صالح السعدي هو من أطلق رصاصة الرحمه على الشهيد سلام عادل ، ويقرنها بقوله ” كنا مسافرين بوفد الى عاصمة مصر القاهرة يوم ٢٠ شباط لحضور الاحتفالات التي اقيمت في القاهرة بمناسبة عيد الوحدة بين مصر وسوريا ولم نعود الا يوم ٢٤ شباط ، وفي غضون غيابنا من تلك الايام لقد سمعنا باستشهاد سلام عادل . وقد القى في المؤتمر علي صالح السعدي كلمته الارتجالية بعد كلمة جمال عبد الناصر يوم ٢١ شباط  . وإن ما نقل عن المرحوم علي صالح السعدي نحن حئنا بقطار أمريكي ، كان يقصد بعض البعثيين مما تعاونوا مع الامريكان في إنقلاب يوم ٨ شباط ١٩٦٣ ، حسب رواية محسن الشيخ الراضي .

في يوم ٩ شباط نفذ حكم الاعدام بحق الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء طه الشيخ أحمد والمهداوي في مبنى دار الاذاعة في الصالحية بقسم غرفة الموسيقى بعد أن أستسلم للانقلابيين رغم محاولاته الحثيثة ومن خلال سلسلة أتصالات من وزارة الدفاع ببعض قادة الانقلاب وقادة الفرق العسكرية عارضا استسلامه على شرط الموافقه على إجراء محكمة علنية له وتسفيره وابعاده خارج العراق . كانت ردات الفعل أن يسلم نفسه بدون قيد وشرط ورأسه مطلوب ، مثلما أكد له طاهر يحي رأسك مطلوب فقط ومع كل هذا وهو القائد العسكري ذهب طوعاً الى الموت وهو أدرى بمصيره ، هنا نقطه رأس سطر .. بحاجة الى مراجعة حقيقية لتلك التراجيدية ؟. حصر نفسه بوزارة الدفاع ولم يقاوم لمدة أربعة وعشرين ساعة . كان الاجدى به الانتحار أو الموت في القتال , وليس أستجداء العطف من أعدائه . العقل الجمعي العراقي ( العاطفي ) ، ما زال يتغاضى عن سياسة الزعيم المربكة في أدارة أمور البلاد ، يتغلب ذلك العقل ومازال أنه الزعيم الاوحد بدون مراجعة ميدانية ( نقدية ) ، عن تسلكاته التي أدت الى هتك البلاد والتي يتم تبريرها بجملة إنجازاته بعيداً عن فحوى الواقع الذي كان طاغياً كما وصفه زعيم الشيوعيين العراقيين الشهيد سلام عادل في لقائه اليتيم معه أنه طاغية سيدمرنا ويدمر البلد . حيث لم يعير أهتماماً بصرخة تلك الجماهير التي خرجت الى الشوارع في الدفاع عنه بأسلحة يدويه وخفيفة ، ولم يمتثل لها وهي تطالبه بالسلاح كما يفسرها البعض خوفاً من أراقة الدماء في الوقت الذي أسيلت الدماء في الشوارع منذ الصباح الباكر يوم ٨ شباط في شوارع بغداد . وفي تقدير موضوعي للمتابعين أنه أمتنع عن تسليم السلاح للمدافعين عنه خوفه من الشيوعيين أن يتصدروا أمور البلد الذي كان يصفهم أنهم أعداء الله والعروبة .

لم أجد وأنا المتابع لقضايا تاريخ البلد كتابة أو دراسة خرجت منصفة بحق هذا الرجل حيث شفعت له إنجازاته على حساب تسلكاته وأدارة شؤون البلد والتي هي اليوم جزاً ليس قليلاً ما وصل له العراق ، رغم طول تلك السنيين والتجارب المريرة . وانا شخصياً لم يخامرني يوماً أدنى شك بنزاهته ووطنيته ، لكني لم أرى أنصافاً من الذين كتبوا عنه في الجانب الآخر الطامس من شخصيته دكتاتوريته وفرديته في أساليب أدارة الحكم . 

محمد السعدي
مالمو/ تموز ٢٠٢١


39
الأخضر بن يوسف .. وداعاً.
في موت شاعر كبير بقيمة سعدي يوسف ، ليس غريباً إن يتصدر الترند الأول في الميديا والاعلام والناصيات والمواقع ، منذ اللحظات الاولى للاعلان عن رحيله فجر يوم ١٢ حزيران ٢٠٢١ في عاصمة الضباب لندن ، وقد حملت وتقاطعت بعض الآراء والتقيمات حول أرثه ومواقفه السياسية تحيداً تجاه ما أصاب العراق في سنواته الآخيرة من أحتلالات وضياع وتشظي . وكانت بعض تلك الآراء والمواقف مجحفة بحق الشاعر الراحل سعدي يوسف وبعيدة عن الوقائع وقريبة الى الغبن والتشفي ، ولاسيما من بعض الأنفار ، كانوا يوم أمس من أبواق الدكتاتورية وحروبها وعطايا مهرجاناتها الشعرية ومداحي أم المعارك ، ومن بعض مروجيه الاحتلال الامريكي ودعاة الطائفية .

كتب الشاعر والمترجم العراقي محمد مظلوم -على صفحته في فيسبوك- بيتا من قصيدة يوسف، مستفتحا بها بيانا رثائيا يرثي به صاحب القصيدة:
أيها الموت لا تفتخر
وسلاما أيها الولد الطليق.

وقد تعرض الشاعر ” الشيوعي الآخير ”  في سنواته الآخيرة الى حملة تشويه شنيعة بسبب مواقفه السياسية تجاه الاحتلال الامريكي للعراق ونظام الحكم الطائفي ، ولكن للتذكير لم يعد مخفياً على متابعي الشأن العراقي إنزلاقات الشاعر في بعض المواقف السياسية والتصريحات التي لا تناسب أرثه النضالي والشعري والفكري وتضحياته ، وقد أستغلها بعض الموتورين والمصابين بعمى الرؤية لصب جام غضبهم على مرحلة سياسية صعبة عاشها الشاعر ورفاقه . شكل الشاعر سعدي يوسف جزء مهم من وعينا الوطني والانساني في مرحلة مهمة من تاريخ العراق السياسي في طاحونة القمع والحروب وحكم صدام حسين . في مرحلة الجامعة في بغداد في مطلع الثمانينات  ، كنت أحمل مع كتبي الجامعية أحد دواوين الشاعر سعدي يوسف مغلفاً بجريدة أو مجلة ، وذات مرة في مكتبة الأداب ، وأنا أتصفح ذلك الديوان رآني الشاعر صادق حسين صابر المقيم حالياً في باريس ، فصاح ديوان سعدي يوسف بصوت مسموع مما أرعبني في لحظتها ، وسحبه من أمامي من على الطاولة ، ورجوته حينها أن يكون الآمر بيننا ، خوفاً من عين الرقيب لأنها التهمة ستكون بمثابة أي منشور حزبي معارض آنذاك ، ولم يعيد لي صديقي الديوان . شكل الشاعر سعدي يوسف جوانب مهمة ومؤثرة في تاريخ ثقافتنا الوطنية ، ويعد أحد أهم رموز الشعر والثقافة في العالم العربي .

آخر ما كتبه قبل موته …

يردد حفيدي شهاب مقولته كل مساء
حين تهدأ غرفته ويكف ضجيج الممرات
"  مامن بيت بنيناه يدوم ، والفراشة ما ان تخرج من شرنقتها حتى تموت "
بعد ايام يوارى الثرى
لندن اقرب لي من بيوت الطين في حمدان
معلقة على سعف النخيل
مازالت عذوقها محملة بالرطب
ومازال الفتى سعدي يقطع شارعها
المغبر في عز الظهيرة .
ماذا تريد ايها الأخضر وقد ذويت
الجزائر بحر لا تسعه السماوات
والبصرة سماء  اطبقت على اليم
لن ترتوي  بعد هذا النأي بماء شط العرب .
..............................
في اول الليل زارني امرؤ القيس
وخلفه كان ريتسوس  يقرأ معلقة
قفا نبكي ...
لماذا البكاء يا صاحبي  ؟
الفجر منطلق القصيدة
والذكريات جميلة
أمرها اجمل من ساعة منفى
وانا مثلكم
تائه ربما ، لكني اذكر علامات الطريق
قد نلتقي مرتين
مرة في القصيدة وأخرى عند مصب  النهر
هل ادرك السياب قنطرة  على نهر بويب
ام ظل في منتصف الطريق
يصحح آخر بيت من قصيدته
انت الغريب على الخليج يوما
وانا الغريب سنوات عمرك كلها يا بدر
هل نلتقي تحت السدر ام تحت النخيل ؟
قريبا سينبلج الفجر
وترحل روحي في هدوء
هل تسقط الراية الحمراء
ام تبقى يدي معلقة بها
ونرحل في سماء الفجر
آه يالوني المفضل
بغداد تمر بخاطري
حمراء هذا الفجر
مثل اليمامة ،
مذعورة ،  تحيط صغارها ...
يكفي
فقد تعبت من لون الوسادة والشراشف
خلف الستائر ينتظر الأحد
هيا ... هيا الى مرعى السماء .

الحملة التي تعرض لها الشاعر سعدي يوسف بعد مماته ونبش قبره تحمل في طياتها أبعاد عميقه حول الشخصية العراقية وادارة الصراع وروح الانتقام ، حيث لا أحد فوق لغة النقد ومن حق الجميع ان يلوم وينتقد  لكن ما تعرض له سعدي خارج هذا السياق ، وكيف أذا كان ميتاً .

محمد السعدي
مالمو/حزيران٢٠٢١



40
المنبر الحر / إمرأة من الشرق .
« في: 17:36 08/06/2021  »
إمرأة من الشرق .
غادة السمان .. كاتبة وأديبة وشاعرة سورية ناشطة في الكتابة والنشر والفكر والجرأة في طرح الافكار حول قضايا المرأة والمجتمع والتقاليد والتحرر ، ولدت في العاصمة دمشق مطلع الاربعينيات لعائلة سورية دمشقية ميسورة الحال ، والدها كان من رجالات الدولة والعلم والأدب ، ومن هنا كانت بداياتها الاولى مع الإبداع والادب والحياة ، من منفاه الباريسي تواصل معتركها الادبي والسياسي في الصحف والمواقع وأرشيفها الشخصي من تجارب حب ورسائل عشق جمعتها مع شخوص مروا بحياتها ، وتركوا أثراً يحكى به  ، مما سجلت سابقه واضحة وجريئه في العلاقات الانسانية في أطر تقاليد مجتمعاتنا المكبلة بالقيود والتخلف ، أنها لمعة إستثنائية في عالمنا اليوم وفي جرأتها بنشر رسائل الحب وعشق مع شخصيات مهمة في عالم الادب والنضال وعلى الرغم ما تعرضت له من المتابعين والنقاد بتقليل من أهمية تلك الرسائل وتسطيحها والتقليل من اهمية كتبها التي سطرت بها رسائل الشاعر اللبناني أنسي الحاج والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني ، ووصفها البعض إنها بلغت عتياً من الزمن وبدافع اليأس والمرارة .

الكاتب والروائي الجزائري الفرنسي ألبير كامو ورسائل الحب مع حبيبته الفنانة والممثلة ماريا كازاريس عبرت عن أسلوب أدب جديد في عالمنا بما حملتها تلك الرسائل من معاني حب وود ولفهة بين عاشقين يتبادلان في رسائلهما درجات الشوق وروح الوفاء ورؤية واقعية لتطورات المجتمع ومعتركات السياسة في الادب الاوربي .

سجل كارل ماركس الشخصي والانساني عندما وبسبب قحالة الظرف الصعب بحياتهما الزوجية حملت زوجته جيني بناتها الثلاثة من لندن الى المانيا ، هرباً من العوز والجوع . وكان ماركس يكتب لها الرسائل ممتلئه بالألم والأمل في المستقبل القريب وشوقه الطافح بالحب والحنين لها .

الذين مروا بحياة الاديبة غادة السمان الشاعر كمال ناصر والشاعر اللبناني أنسي الحاج ، لكن الأكثر صخباً وعنفواناً هو الشاعر والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني وهذا ماورد في سيرة غادة السمان بنشرها رسائل غسان لها وما حملت من مشاعر حب وهموم مشتركة وقضايا ملتهبة .
تزوجت غادة مرة واحدة في حياتها من مالك دار نشر الطليعة في بيروت بشير الداعوق البعثي الانتماء وقومي الهوى وأنجبت منه ولداً أسمته حازم تيمنناً باحد ابطال روايتها ( ليل الغرباء ) . تعرض زواجها الى سيل من الافتراءات والسيناريوهات واعتبروه بمثابة علاقة النار بالثلج لاختلاف طباعهما ، ونظرتهما لجدلية ومعترك الحياة اليومية ، لكن في حياتها الزوجية الجديدة دحضت تلك السيناريوهات التي أخرجت مسبقاً عن سيرة حياتها الزوجية ، فعاشت حياة زوجية طبيعية وشاركته بهموم الحياة ومسراتها ، ولازمة حياته بأصعب ظروفه في تعرضه الى المرض ، وظلت مخلصة له الى آخر يوم في حياته ، لكن في حياتها وفي جانبها المخفي والممنوع ، والذي كشف عنه بعد سنوات تفاصيل وأسرار من قصص عشق ورسائل حب مع مبدعين عرب في محط اهتمام وتناول روادها ومعجبيها ومتابعيها .

كانت أحدى رسائل المناضل والشاعر غسان كنفاني الى غادة . يقول لها ..  (( أنت من جلدي ، وأحسك مثلما أحس بفلسطين ، ضياعها كارثة بلا أي بديل ، وغيابها دموع ، تستحيل معها لعبة الاحتيال )).
فردت عليه  ..ايها البعيد كذكرى طفولة ، أيها القريب كأنفاسي وأفكاري أحبك وأصرح بملؤ صمتي أحبك .

ولعدة سنوات كانت الرسائل متبادلة بينهم الى حد الهيام لكنهما لم يلتقيا الا مرتين ، وكان هذا النوع من الادب الراقي والغير رسمي والممنوع في مجتمعاتنا ، وغير متعارف عليه في اوساطنا الأدبية .

وتكتب له مرة أخرى في روعة لهفتها له .. ضمني أليك كالكفن وكن موتي الاخير :
تلك الرسائل ، التي أطلق سراحها أعتبرها البعض تمس وتأثر على جانب مفاوضات ” أوسلو في وقتها . ومن يتابع نشاطات غادة السمان على مستوى الشاشة واللقاءات الصحفية فهي مختفية تماماً بعد أن اصيبت بخيبة أمل كبيرة بآخر أطلاله لها من القاهرة ، بعد أن أكتشفت أن المذيعة التي تجري الحوار معها لم تقرأ حرفاً واحداً من منجزاتها الادبية  ولا عن أهم محطاتها الحياتية  .

في عالمنا اليومي المتردي والمرتبك على المستويات الانسانية والفكرية والتراجعات الحياتية في بناء الانسان ووعي الشعوب ، تعد غادة السمان من الرائدات العربيات في منجزها الفكري والاجتماعي من أفكار وآراء حرة وجريئة في أختراقاتها للممنوعات ودعوتها الى التحرر والتوق والانسان .
محمد السعدي
مالمو/ حزيران ٢٠٢١ . 


41

الشيوعيون العرب وقرار التقسيم .

تداعيات أزمة الشيوعيون العرب المحتدمة والتي ما زالت أثارها متداولة ومؤثرة على قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة وبتأيد من الاتحاد السوفيتي السابق بحق أرض فلسطين وأهلها ، نكبة فلسطين شكلت أنعطافة خطيرة في مسيرة اليسار العربي والاحزاب الشيوعية العربية وتأثيرات السياسة السوفيتية الداعمة لقرار التقسيم بل هي التي زودت إسرائيل بالاسلحة والطائرات في حروبها المتتالية ضد العرب وقضيتهم المركزية . تعد قضية فلسطين محور نضالنا العربي وقضيتنا المركزية في المصير نحن الشيوعيين العرب . فجاء قرار التقسيم بمثابة الصاعقة على توجهات اليسار العربي وشكل خللاً فكرياً في التوجه العام للوضع السياسي العالمي وبعد أن أعلن الاتحاد السوفيتي تأيده الكامل لقرار التقسيم ، ودوره الضاغط والمفروض على آلية قرارات الاحزاب الشيوعية في تأييد مشروع التقسيم .

تعد القضية الفلسطينية من بين القضايا التي القت بظلالها على الوضع العربي من جهة والدولي من جهة أخرى ، هناك ثابته تاريخية يجب التوقف عندها ، فقد كان الشيوعيين العراقيين يروون قضية فلسطين رؤيه خاصة وعميقه بما ميزتهم عن باقي الاحزاب والقوى السياسية الاخرى العاملة في الشارع العراقي ، إذ كانوا يفصلون بين الصهيونية واليهودية ، فاعتبروا الحركة الصهيونية أساس البلاء ، في حين أن اليهود شريحة مضطهدة من قبل الحركة الصهيونية نفسها ، وأن حصر موقف الحزب الشيوعي من قرار تقسيم فلسطين وفق الدوافع السوفيتية ومصالحهم ترك مردودات سلبية على وضع الحزب داخلياً لاسيما مع فترة تولي اليهود العراقيين لمراكز قيادية في الحزب الشيوعي العراقي شاؤول طاوق ، ساسون دلال ، يهودا صديق ، وآخرون . .

موقف الإتحاد السوفيتي بخصوص التقسيم وفـّر للصحف المرتزقة والمعادية ومأجوري الإمبريالية وعملائها فرصة لا للتشهير بالإتحاد السوفيتي فقط وتجربته الاشتراكية ، بل أيضا بالحركة الشيوعية وأحزابها في البلدان العربية فنالوا من تاريخها ومواقفها الوطنية والقومية ... ولذلك ، فإنه كان يجب على الاحزاب الشيوعية العربية من تحديد موقفها من التبعية لموسكو وسياستها والتي في أغلبها جاءت بالضد من مصالح ومواقف شعوبها فان الاعتراف بالتقسيم لقد خلق جو تنظيمي قلق وغير مستقر للاختلاف في المواقف والرؤى ، بل راح بعض قادة الاحزاب شرق أوسطية في الدفاع عن قرار التقسيم أكثر من ستالين نفسه ، ويعتبر خالد بكداش عميد الشيوعيين العرب كما يلقبوه وهو يحلو له هذا اللقب في خوض صراع مرير ضد رفاقه ، الذي عارضوا قرار التقسيم ، وهذا ينطبق أيضا على سياسة الاحزاب الشيوعية في الموقف من قرار التقسيم . للحزب الشيوعي العراقي له رؤى مختلفة وعلى مر تاريخه مع قضية فلسطين التي كرس صفحات من نضالاته وبرامجه لوضع حلول عادلة وفق قاعدة حق الامم في تقرير مصيرها . وكان الرفيق فهد وهو حبيس الجدران ضد قرار التقسيم وأعتبره سابقه خطيره على مستقبل الشيوعيين في العراق والمنطقة ، وأيضا تعرض قادة أحزاب شيوعية عربية للتنكيل والتشهير والطرد من أحزابهم لمواقفهم ضد التقسيم وتصنيفهم بخونة مباديء الكومنترن . وماتعرض له فرج الله الحلو سكرتير الحزب الشيوعي اللبناني ورفاقه من أساليب تنكيل ومصادرة أراؤه وأفكاره وعزله عن مهامه الحزبية والقيادية .

محمد السعدي
مالمو/حزيران٢٠٢١
 

42
مواضيع ذات صلة بإنسان ومناضل .. صدى الشيخ عطا والحزب الشيوعي العراقي .

في صيف عام ١٩٨١ ، دعاني الى بيتهم بمدينة كفري الصديق والرفيق آشتي شيخ عطا أحد الكوادر الفعالة في منظمة ” الصدى ” لتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي ، ومن مؤسسيها ، وكنت أحد أعضائها ، وصلت الى المدينة في ظهيرة قائضة الحرارة ، دلفت في لحظتها الى داخل سوق المدينة قاصداً مكان عمل الشهيد عمر أحمد إسماعيل ( شيروان ) في محل ” الكماليات ” بيع الملابس والعطور . بعد ساعات من الحديث حول أفاق الدراسة وهموم السياسة ، تدرجت بين أزقة المدينة وظني أن عيون الرقيب تلاحقني وعلى عتبة الباب رآني من بين فتحات باب البيت العليا ، وأستقبلني بأبتسامه هادئه ، وكأنه يعرفني منذ زمن ، كانت المرة الأولى التي ألتقيه ، وكأني أعرفه منذ زمن عميق ، فضلا أن ذاكرتي تختزن عنه تفاصيل مهمة وأحاديث طويله تطمأن النفس عبر ولده آشتي .

شخصية لايتصنع التكلفة وبعيداً عن الرسميات يدخل القلب  بأول لمسة شغافه ، وفي اللحظة الأولى طبعت شخصيته في مخيلتي أباً ومناضلاً ورفيقاً ، وذو خلق رفيع وسيره حسنه ، دمث الاخلاق وحسن التعامل وأبن  بار لمرحلة العراق السياسية وكيفية التعامل معها بعيداً عن الطفوليه والمغالاة . هو ….
 الشيخ عطا الله جمال محمد علي الطالباني . تذكر سيرته الذاتية ، إنه ولد عام ١٩٢٥ في قرية زرداو التابعة لقضاء كفري . يعرف في الاوساط السياسية والمخيلة الشعبية ( شيخ عطا الطالباني ) . وهو الابن الوسط بين الأخوين مكرم الطالباني الوزير الشيوعي في فترة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ، حيث ولد عام ١٩٢٣ . وإحسان الطالباني مواليد ١٩٢٧ . 

رحل الى السماء الشيخ عطا الطالباني في يوم ٤ آيار عام ٢٠٠٠ في مدينة السليمانية على أثر تعرضه لنزف في الدماغ  وتوارى ثرى جسده بمقبرة ( مامه ياره ) في مدينة سليمانية ، وقد سبقته بسنوات رفيقة عمره أم كوران أثر عملية إغتيال قذره نفذت تحت ستار الليل ، وتركوا من حطام هذه الدنيا ثريات صالحة وأولاد بطاقات خلاقه . الدكتوره جوان ، الدكتور كوران ، الدكتور سوران ، الدكتور سيوان ، الدكتوره شيلان ، ورفيقي آشتي . توطدت علاقتي بالشيخ عطا ، وكان يشغل مدير بلدية كفري حينها من خلال نشاطي في منظمة ( الصدى ) ، والذي أرتبطت بها تنظمياً في نهايات السبعينيات في العاصمة بغداد ، وظل أرتباطي المباشر بالرفيق آشتي ، وهو أحد أبناء الشيخ عطا وهو المؤسس الرئيسي مع رفاقه محمد دانا جلال المفتي ، والذي رحل الى الآخره قبل عامين .والشهيد صارم حسن الزهاوي وهو من طلاب جامعة البصرة جاء الى بغداد وأختفى بها وبعد سنة من تأسيس منظمة الصدى والتي تأسست في نهايات عام  ١٩٧٨ وبدايات عام ١٩٧٩ ، أنتقل الى الجنوب والفرات الاوسط بهدف توسيع الركائز والقواعد الحزبية ، إلا أنه أعتقل في العام ١٩٨١ ، ولم يبوح بأي سر من أسرار التنظيم ، فتمت تصفيته داخل أقبية الأجهزة الامنية ، والى اليوم لا داله على مصيره .

وفي حديث شخصي . ذكر لي رفيقه آشتي حول شخصه وسجاياه . قال : كان قائداً ميدانياً صارماً ومبدئياً وشجاعاً بمعنى الكلمة .. وفي معظم لقاؤتنا ، كان يكرر دوماً اذا تم اعتقالي لاتخافوا سوف لن أنهار وأعترف عليكم تحت التعذيب تحت وطأة هؤلاء السفلة ، ولكن امنيتي منكم أن تستمروا بعدي وبدوني ، ويؤكد آشتي إنه كلام ألهمني حينها ، وكانت لي وللرفيق المرحوم محمد دانا قوة كامنة وخارقه ، ومحفزة لنا دوماً ”

في طيلة سنواتي الثلاثة في الجامعة وبحكم مسؤولية آشتي عن أرتباطي وشبكة علاقاتي ، كانت لقاءاتي مستمرة مع الشيخ عطا ، وكان بمثابة مرجع حزبي وسياسي وأمني حول نشاطات منظمة ” الصدى ” وكان يتمتع بحنكة سياسية وتفكير ميداني وعقل واقعي يسبق خطط وآلية عمل البعثيين في تعاملهم مع قوى المعارضة . في صدى حركة الانصار وعمليات الثوار في الجبل الى القصبات والمدن العراقية وسعير جبهات الحرب مع إيران ، أدت الى موجه من التململ بين أوساط الشيوعيين المقطوعي الصلة منذ الهجمة الشرسة نهاية عام ١٩٧٨ وفرط عقد الجبهة مع البعثيين ، رأت قيادة منظمة الصدى وكوادرها في مواكبة تلك التطورات وضخ دماء جديدة الى حركة الانصار من أجل توسيع قاعدتها ، توليت أنا شخصياً بالتحرك على بعض العناصر ومفاتحتها بالالتحاق الى الجبل مع الثوار الشيوعيين ، وقد تمكنت خلال فترة زمنية أن أرفد بعض الشيوعيين في الالتحاق بفصائل الانصار عبر قواعد ومحطات منظمة ”الصدى” وأخص بالذكر . خضر عبد الرزاق مقيم في السويد ، عبد الزهرة تيتو مقيم في المانيا ، طالب عبود جميل أستشهد بآخر أنفال حكومي عام ١٩٨٨ ، وحيد عبد الرحمن دبش مقيم في السويد ، فهد عبد الجبار عبود ( محمد عه رب ) أستشهد عام ١٩٨٤ في منطقة ( باني شهر ) في قاطع سليمانية بخطأ تكنيكي ، عندما أنفجرت عليه الرمانة اليدويه التي يحملها في حزامه  . ومن خلال نشاطي هذا ، توطدت علاقاتي بالشيخ عطا من خلال ترددي الدائم على بيتهم ، وكنت أحياناً أقضي ليالي في مشتمل بيتهم الاثير ، وطعم مذاق الباميا من يد أم كوران ، وفي الهزيع الاخير من الليل كنا نقضي وقتاً ممتعاً تحت قمرية العنب في حديقة بيتهم ومرات مع بعض صحبه ورفاقه ، ويلقي عليه ما كتبه في دفتره المتواضع من خواطر وشجون حول حياة كوكب الشرق أم كلثوم وسجل أغانيها الطويل . قله الذين هم صادفوني في مسيرة حياتي السياسية يحملون عقلاً متواضعاً في التعامل مع الواقع ، كان أحدهم هو الراحل الشيخ عطا ، وفي المرة قبل الاخيرة ، عندما حانت ساعة الالتحاق مجبراً على ترك الأهل والمدينة والرفاق والجامعة صيف عام ١٩٨٣ ، وصلت الى بيتهم ، وكنت مهلكاً لتداعيات الموقف ، وفي اللحظة التي شاهدني بها على عتبة باب بيتهم قال لي ” هو أنت العربي الذي يبحثون عنك وحولك تحوم الاعترافات ”

بتجربته الطويلة في العمل السياسي المعارض تنعكس على تقبلك الحالة في مواجهة المستجدات ، وكأنه أمراً عادياً في المواجهة في أساليب النضال . في نفس اليوم نقلني مع عائلته في سيارته من مدينة كفري الى مدينة كركوك الى منطقة ” تكية الطالبانيين ” وهناك ألتقيت بآشتي ، ودارت بيننا حوارات طويلة وأفاق عمل في المستقبل ، وبعد أيام وصلت الى قواعد الانصار في قرى شهرزور ، وبادر الشيخ عطا في حمل حاله الى أهلي حاملاً بعض أشيائي ليطمنهم على وصولي بسلام عبر أبنة عمي ساهرة مجيد . بعد أربعة سنوات ونيف ألتقيته اللقاء الاخير في بيتهم أيضاً بمدينة ” كفري ” بعد أن نجوت بأعجوبة من قصة الاعتقال ونتونة زنزانتي رقم ثلاثة في الشعبة الخامسة ، هذه المرة طالت أيامي في بيتهم تعدت الى أسابيع وفي بعض أماسيها كنا نقضي وقتاً في مزرعته باطراف مدينة كفري مع رفيقه كريم كومنست ، تلك المزرعة التي تعرف بمزرعة الشيوعيين ، كانت محطة أستراحه وأختفاء للمناضلين والمقاتلين بها أستشهد عمر احمد إسماعيل ( شيروان ) عام ١٩٨٨ عندما حوصر داخل المزرعة من الجاش ومفارز الاستخبارات ، عمر كان أول إنتماء شيوعي له عبر منظمة الصدى .

رويت له في تلك الايام تفاصيل المشهد وظروف أعتقالي وأساليب التعذيب القذرة وطرق مواجهتها في التمسك بالثوابت المبدئية بعدم ألحاق الاذى بالآخرين ، وأن تكون حياً وشاهداً على مرحلة تاريخية صعبة ومعقدة في حياة العراقيين ، كان يصغي لي بأنتباه حول أدق التفاصيل مع أشادة كبيرة بموقفي على أقل تقدير في الحفاظ على حياتي وحياة الآخرين ، وهو الذي مؤمن بالواقعية السياسية في التعامل اليومي مع أساليب النظام الدموية في تسقيط الشيوعيين والطرق الناجعة في مواجهتها . يقول لينين ” الثوري من يراوغ شرطيه ” .

في سنوات لاحقه من النضال وتجربة المهجر ، وبغض النظر عن كل مالحق بالشوعيين العراقيين من تصفيات وسجون وتسقيط وكوارث على يد زمر البعثيين وأجهزتهم القمعية . كان هناك أستعداد كامل عند قيادة الحزب  الشيوعي في الحوار مع النظام والعودة الى مواقع الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وبشروطهم الى حد أيام قليلة من عمر النظام قبل سقوطه على يد الامريكان ، وأن كانت هناك أعتراضات من قبل بعض المسؤولين الشيوعيين تعود لارتباطات ومصالح خاصة ليس الا …” وفي العام ١٩٨٩ كادت أن  تصل الى نهاية فصولها . لو أطلق سراح ( البيان المحبوس ) ، على حد وصف الراحل آراخاجادور له ، عندما حمله الراحل عبد الرزاق الصافي من براغ الى دمشق يحمل صيغة إعلان حول المفاوضات واللقاءات التي شهدتها العاصمة براغ بين قوى المعارضه بشقيها العربي والكردي والنظام عبر الوسيط الشيوعي مكرم الطالباني .

الشيخ عطا الطالباني يحمل سجل نضالي طويل ومهم وفي فترة تاريخية بحاجه الى توثيقها من خلال الوقوف على أهم محطات حياته النضالية وتحديداً من تاريخ فرط عقد الجبهة مع البعثيين نهاية عام ١٩٧٨ الى حين رحيله عام ٢٠٠٠ ، عقدين من النضال والمواجهة الحقيقية مع أساليب النظام في عقر داره ، وكنت شاهداً على تلك المرحلة التاريخية من النضال من خلال نشاطي وعملي الحزبي في منظمة الصدى منذ مطلع الثمانينات في ظروف غاية في الصعوبة وحافات الموت .

حدثني في سنوات لاحقه زميلي في الاداب/ قسم اللغة الانكليزية دارا أحمد ، والذي يقيم حالياً في السويد وكان يحمل الرقم ١٤ في أول دوره لانتخابات مجلس نواب في أقليم كردستان عام ١٩٩٢ عن قائمة الشيوعيين . وفي سلسلة أحاديث شخصية يذكر لي عام ١٩٨٠ وصلني أبلاغ عبر التنظيم في الوقت الذي كنت به أقود خط حزبي خيطي خاص بي، أن أتصل بك لأجل أنضمامك الى التنظيم .. فتفاجأت لاني حسب علمي أنك داخل التنظيم حسب الخطوط الموزعة لاساليب التنظيم وتحوطاً للطواريء المحتملة . ترددت في الحديث معك لعدة تحوطات وتخوفات لاننا في مربع دراسي واحد وفي حالة اللقاءات المتكررة ربما يلفت النظر لعناصر أجهزة النظام داخل الحرم الجامعي .

في قراءتي الاخيرة لكتاب ” صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره ٌ للبريفسور طارق يوسف إسماعيل وفي عرضه لتاريخ الشيوعيين ونضالاتهم التاريخية لم أجد أشاره واحدة لمنظمة ” الصدى .. ودورها النضالي في مرحلة هي الاصعب في تاريخ العراق السياسي ، وكان لها ثقلها الثقيل في الشارع وأضابير أجهزة النظام والتي قلبت حساباتهم في وهمهم للقضاء على الشيوعيين . الركائز الأولى لمنظمة ” الصدى ” أنطلقت في بغداد ( كليات المستنصرية وبغداد والتكنلوجيا ) ، وكذلك في كركوك وكفري والسليمانية وأربيل والبصرة وبعض القرى في مناطق كرميان . وبادر آشتي الاتصال بالحزب عام ١٩٨٠عن طريق فخر الدين نجم الدين الطالباني ( مام صالح ) ، الذي كان سكرتير محلية كركوك ، وقد وثق مام صالح في أوراقه لاحقاً في إبلاغ قيادة الحزب برسالة آشتي حول تنظيم منظمة ( الصدى ) ، وقد سنحت لي فرصة شخصياً باللقاء بمام صالح في العام ١٩٨٣ في منطقة هزارستون بجبل سورين مع الرفاق نوري أبو صباح ومام فتاح ، ونقلت لهم صورة واقعية عن آلية عمل منظمة الصدى وأتساع رقعة تنظيمها في عموم العراق ، حيث ألتحق بها أعداد كبيرة من الشيوعيين مقطوعي الصلة بعد أن فرطت عقد الجبهة مع البعثيين ، وفقدوا بوصلة الاتصال بالحزب بعد أن تركت قيادته العراق بإتجاه المهجر .

وفي أول خطوة عملية وجريئة ، أقدمت عليها منظمة الصدى للاعلان عن تشكيلها وزعت بيان باسم الحزب الشيوعي العراقي ، لكن دون علم قيادة الحزب لعدم وجود أي اتصال ، حيث تم استنساخ بخط اليد ٥٠٠ نسخة في بغداد وتم توزيعها داخل جامعة بغداد والمستنصرية والتكنلوجيا ، وعدد من اعداديات الثورة وشارع فلسطين وعلى باصات مصلحة نقل الركاب وعدد من المحلات ، وقبل توزيع البيان تم عرضه عبر آشتي على الدكتور مكرم الطالباني وأستحسن مضمونه ، وهذا يعتبر أول نشاط شارك به معظم التنظيم . وقد قام أعضاء التنظيم حملة تبرع من الناس المتعاطفين مع الحزب والمحسوبين على ملاكه وخلال ثلاثة شهور جمعنا ٧٧٥ دينار عراقي . كانا الشيخ عطا وأخيه مكرم عون لنا في العمل ربما أستثمرنا علاقاتهم الواسعة مع رجالات الدولة بتمريرهم لنا بعض أفكار السلطة وخطط تحركها ضد الشيوعيين وتسريب لنا قوائم الاعتقالات ممن في نية السلطة في اعتقالهم ، وكانت علاقة الشيخ عطا مع البعثي القيادي رشيد الطعان ، والذي كان مدرجاً ضمن لعبة الورق الامريكية بحدود مناطق كفري ، وكلر . وجلولاء ، والمقدادية ، في الصد عن ملاحقة الشيوعيين والعلم المسبق بنية السلطات في قائمة إعتقالات جديدة مما نجا أكثر من رفيق ناشط من الاعتقال وأختفى عن عيون الرقيب والبعض ألتحق بالجبل .

محمد السعدي
مالمو/آيار٢٠٢١


43
رسالة خاصة الى الشيوعيين في العراق .

يوم ٤ أبريل نشر موقع ”بيدر ميديا ” رسالة خاصة موجهة من الرفيق صباح كنجي ورفاقه في التوجه والموقف والاتجاه والتغير والتمني الى قيادة الحزب الشيوعي العراقي ومندوبيي في المؤتمرات القادمة بأتجاه إجراء إصلاحات وتحولات جريئة وثورية تعيد بناء قوام عود الحزب ودوره تجاه المتغيرات الداخلية والاقليمية والدولية ، ومما حفزني في الانتباه الى معاني وتفاصيل تلك الرسالة أولاً ” للتعبير عن جزء كبير من رؤيتي وتطلعاتي نحو مستقبل غد لتاريخ الحركة الشيوعية العراقية ، ولانها جاءت تلك الرسالة من مناضل عتيد وذو مواقف واضحة وصريحة ومنسجمه مع تطلعاته وأفكاره ، وبحكم تجربتي الشخصية معه ، عندما تولى عملية تسللي من الجبل الى بغداد لمرتين متتالتين في العام ١٩٨٦ ، كان شديد اليقظة والحرص والمسؤولية ، وكنجي عندما يكتب يقصد ماذا يعني بين أوساط كبيرة من الشيوعيين . يقف مع الجميع على إمتداد مسافات واحده بين من يعمل داخل التنظيم وبين من رمته ظروفه ومواقفه خارج التنظيم بحب وصدق . وأنا هنا لم أناقش مضامين رسالة صباح كنجي ورفاقه ، وأنما أقدم قراءة أخرى على ضوء تلك الرسالة .

حملت رسالتهم في بداية مشوارها أن يحدوهم الأمل أن تلقى مضامين دعوتهم الاهتمام في التفاعل والقراءة المتأنية من قيادة الحزب الشيوعي العراقي في رؤية مستقبلية لمتغيرات البلد والتفاعل معها على شتى الاصعدة التي تتعلق بمستقبل الشيوعيين العراقيين والعراق . أن مبادرة اصلاح الحزب الشيوعي العراقي من الداخل ليست بالآمر الهين ولم تعد ممكنا على المدى القريب فجميع الاعضاء في جهاز الحزب يتماهى مع النهج الاصلاحي ومع سياسات قادة الحزب الفاشلة . مر بلدنا العراق بفواجع هزت كيانه ووجوده ووحدته ومصيره ، وتوجت باحتلاله وتدميره عبر عملية سياسية طائفية ، وكنا نحن الشيوعيين الوطنيين نمني على أنفسنا وعلا صراخنا بصوت مدوي ومسموع أن لا يتورط الحزب الشيوعي بنتائج الغزو والاحتلال ، وأن يبقى بعيداً ومتمسكاً بتاريخه المشرف في النضال والتضحيات في ساحات النضال ووغى المعارك الوطنية في مسيرته المجيدة .
نداء الى مندوبيي المؤتمر الحادي عشر أن وقع ضمن المواعيد المطروحة بعد أن تأخر عام على موعده الرسمي أن يعلنوا من أروقة فضاءات مؤتمرهم بادانة الاحتلال جملة وتفصيلاً ونسف عمليته السياسية ونقد ذاتي لسلسة التحالفات الفاشلة والتي هي بالضد من ارادة شعبنا ونقد ذاتي للمشاركة فيها والاعتذار من الجماهير في موقف واضح ومسؤول ووطني .

تحديد موقفه السياسي والوطني من الاسلام السياسي ورموزه باعتباره المسؤول المباشر عن تردي الاوضاع وضياع الوطن وقطع كل أمدادات التعاون معه وتحميله سوء أدارته لامور البلد .
طرح مشروع سياسي ووطني بعيداً عن أجندات القوى الاخرى يتناسب مع ثقل الحزب النضالي والتاريخي وقوافل الشهداء .
أن يعلن لجماهيره وناسه ومحبيه نتائج مراجعته السياسية والوطنية من عملية إحتلال العراق وندمه على تلك المواقف بالاعتذار من جماهيره .. بخطاب سياسي جديد يعيد به هيبته وسجله الوطني ومواقف شهدائه .
أن يرفض الدستور باعتباره مخاض عملية ولادة عسيرة ومشوهة ويتبنى الحزب ميدانياً مسؤولية وضع دستور جديد للبلد يتلائم مع تاريخىه العريق وتنوعه العرقي والمذهبي وعزل الدين عن أمور السياسة من خلال بنود واضحة وصريحة .
أن يعبىء الجماهير والناس الفقراء والمتضررين من العملية السياسية الطائفية بقراءة سياسية واقعية للتطورات ومجريات الاحداث .
أن يخرج المؤتمر الحادي عشر بقيادة شابة واعية ومسؤولة وذات فكر ونضال وتاريخ ومستقبل .. وان تكون تلك القيادة الجديدة على معرفة ودراية بمتطلبات العصر وتطوراته العلمية . وأن يعلن عبر كرنفال وطني في أحدى ساحات بغداد وعلى سطوح بيوت الصفيح سياسته الجديدة ضمن مضامين تراثه الوطني .. ويدعوا قادة الحزب ومناضليه التاريخيين ممن مازالوا احياء أن يكونوا مراجع نضالية لسياسة الحزب الجديدة بعد الاعتذار عن مامسهم من حيف وأساءة .
وتجاربنا كافية باستخلاص النتائج ومعرفة الاسباب التي أدت الى تشرذمنا ، والذي فتح مجالا واسعا لاحزاب الاسلام السياسي البائسة بتصدر مشاريع العراق نحو الهاوية والمأزق ، نحن الأجدر تاريخيا ووطنيا في بناء بلدنا والانتقال به الى شواطيء الامان .
تلقت سياسة الحزب في السنوات الاخيرة ردود أفعال متضاربة ومتناقضة ، هناك من أشاد بها وتمنى لو بات أمراً واقعاً بتجسيده بخطوات فعلية وواقعية وهناك ثمة من شكك بها جملة وتفصيلاً وأعتبرها كسابقاته مجرد كلام ولتهدئة لغة السجال والهروب من الانتقادات وحصر مساحات النقمة والغضب على سياسة تلك السنوات .
في تقدير سابق لأوانه في تقيمه وحصد نتائجه لننتظر برهة أخرى من الزمن ، لانه الذين يتربعون على عرش هذا الارث النضالي باتوا يدركون حجم المخاطر التي تحيط بكيان الحزب فلابد من سياج كونكريتي حوله مسلح بمناضليه وجماهيره ومحبيه ، وأن من لم يدرك حجم هذا الخطر في تداعي أوضاع العراق الحالية من شيوع الميلشيات والارهاب والاسلام المتخلف سنكون عرضة في المؤتمر القادم أن عقد أوسع تشظياً وأكثر بؤساً ولا ينفع الندم ولا يدمل النقد جرحاً غائراً .
الحزب الشيوعي العراقي عمره ناهز ٨٧ عاماً على أيدي رجال مخلصين ومناضلين حلموا كما غيرهم بأقامة مجتمع عادل ونموذجي تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية والاشتراكية . فعلى الشيوعيين اليوم وأمتداداً لذلك التاريخ العتيق أن يقدموا أنفسهم كقوة سياسية وفكرية وأخلاقية في مواجهة الارهاب والتطرف الديني والمحاصصة من خلال البحث في كيفية الخروج من الازمة بطرح مشاريع سياسية ووطنية عابرة للطوائف والتخلف ، وهذا لم يتم الا من خلال الوصول الى وحدة سياسية تنظيمية حسب مباديء لينين التنظيمية . حيث بلغ اليوم التدخل الامريكي في العراق ذروته المتفاقمة في تهديم بنية مجتمع بالكامل من خلال عمليته السياسية الطائفية برموزها المهترئه تحت غطاء عباءة الاسلام السياسي فعلى الشيوعيين أن يتصدروا لهذا المشروع التدميري من خلال تعبئة الجماهير ضد هذا المشروع على أسس وطنية .
فشعار التغير ، الذي سيطرحه المؤتمر القادم فلابد أن يقترن بخطوات عملية وسريعة على مستوى السياسة والتنظيم والموقف من التحالفات التي كانت تجري علناً وسراً وحجم كيد الدسائس والمؤامرات للاطاحة بالعراق بجريرة دكتاتور أرعن قاد العراق الى المهالك المذلة ، ولخلاص الناس من شره يتم عبر تدمير البلد كذبة أنطلت على سياسينا وعلى من أرتبط بأجندة خارجية بالضد من أرادة شعبنا وحجم تضحياته ذهبت تلك الارهاصات بالعراقي المعتد بنفسه ويتباهى بانتمائه وتراثه الى النقمة والغضب راح الناس والمجتمع الدولي وباحثي علم النفس يضعون منزلته في الدرك الاسفل .. وبات محاطا بعدة أسئلة أينما حط رحاله بنوايا أدعاءته وقدومه وأنجازاته .
لابد من أعادة الاعتبار لهذا المخلوق وتأهيله نفسيا وسايكلوجيا وأجتماعيا وسياسيا . أذن نحن بحاجة الى مشروع وخطة تنمية ووعي للنهوض بهذه المهمة ، واليسار كفيل أن ينهض بهذه المهمة .
يقول الفيلسوف الالماني هيغل (( الشعب الذي يصدق الاكاذيب .. يستحق أن تنتزع منه حريته )) .
نتطلع الى محطات وقراءات وقائع المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي العراقي وتمنياتنا أن يخرج بانطباعات جديدة ينفض عنها غبار الماضي ويحلق في فضاءات جديدة تواكب سمة العصر وتطوراته ، وأن يصغي للغة العقل وحسن الخطاب في لملمة الاطراف المبعثرة نتاج سياسة خاطئة سابقة ، وقرارات مجحفة أقصاء وتهميش وتشهير ، وان يراجعوا مواقفهم الوطنية من اليوم الأول من الحصار على شعبنا الى الغزو والموقف من الاحتلال والعملية الطائفية السياسية التي تمخضت عنه ، وأعلان موقفا واضحاً من الاسلام السياسي وتجهيل المجتمع بولاية الفقيه .

محمد السعدي
مالمو/أبريل٢٠٢١


44
صدى سنين الخوف / الدكتور جليل كمال الدين .

في الأداب جامعة بغداد عام ١٩٨٠ ، ألتقيته في المرة الأولى معرفاً عن نفسه لنا ، نحن الطلبة الجدد ، أنا جليل كمال الدين كاتب ومختص بالادب الروسي ، وسوف ألقي عليكم دروساً في الادب المقارن . طلب منا نحن الطلبة بالتعريف عن انفسنا ، وعندما وصل الدور لي عرفت عن نفسي وأسم قريتي الهويدر ، قال مبتسماً ، أجلس أيها الهويدراوي الدمث ”عزاؤكم مشهود . بعد فترة زمنية سألته ما المقصود ؟. الهويدراويون في أربعينية الحسين يلطمون بوجع . من هنا ربما بدأت اللحظة الاولى في فضاء علاقتنا يمتد خارج سياقات طالب وإستاذ الى هموم وتبادل الأراء حول العمل السياسي في العراق . كنت في بداية محاولاتي للكتابة والتردد لابسني إمام قامة أدبية كبيرة تزين يومياً الصحف بمقالاته ومواضيعه ” ومجلة الثقافة الجديدة للراحل صلاح خالص وزوجته المصرية سعاد محمد خضر لايخلوا عدداً من نتاجاته المتنوعة حول الثقافة والأدب مغموسة بهموم الوطن . للأداب في باب المعظم والوزيرية في داخل ذلك المبنى العتيق والشهير أكثر من مكتبة للقراءة والمخطوطات ، في أحداها والتي كانت منزوية وقله ممن يرتادها من الطلبة والمتابعين ، كان الإستاذ الراحل جليل كمال الدين ملتقاه الصباحي برفقة فنجان قهوته للمراجعة والكتابة والتأليف ، في صباحات أحدى الأيام نفضت عن غباري ذلك الخجل القروي ، وعرضت عليه ما كتبته لأول مرة حول قصيدة ”موت شاعر ” للشاعر والاديب الروسي ميخائيل ليرمنتوف صاحب رواية ” بطل من هذا الزمان ”  أرثى هذا الشاعر لموت رفيقه الشاعر ألكسندر بوشكين والتي أنتشرت في كل أنحاء روسيا ، والتي دفع بسببها حياته أثناء مبارزة سخيفة بدفع من سلطة القياصرة .. يقول في مطلعها ……

       موت شاعر ….
مات الشاعر عبداً للشرف .. مات وكان مفتريء عليه بأفتراءات خبيثة ..

كان مقالي الأول حول تراجيدية المشهد ، وفي يومها قدم لي الراحل الدكتور جليل كمال الدين ملاحظات حول كتابة المقال ، ومازلت متمسك بتلك الأسس في كتابة مقالاتي ، بل دلني وبمساعدته في نشرها في مجلة الثقافة الجديدة بأسم محمد الهويدراوي . ومشت الشهور والسنين في طبيعة تلك العلاقة ، وبدأت أتردد على شقته الكائنة في شارع ١٤ رمضان في المنصور الدور الثاني ، وكان تحتها محلاً للمشروبات الكحولية ، فوفر لنا وقتاً كافياً في جلب البيرة العراقية ”فريدة ” الرائعة المذاق في قيض العراق الحار ، كانت أحياناً تلك الزيارات برفقة زميلي محمد عبد الكريم الزبيدي العمر المديد له . فتنة الحرب العراقية/الإيرانية وتداعياته على الحياة اليومية للعراقيين وسياسة النظام والتذمر منها ، ومن نافلة الكلام أني ساهمت أن تصل مستوى علاقتي بالإستاذ جليل التبادل في وجهات النظر وإبداء الأراء والنقد حولها ، فبحت له بأنتمائي السياسي وعملي الحزبي رغم خطورته المحدقة ، وعندما لمست من جانبه بوادر الاهتمام والمتابعة ، تفتحت أمامي أفاق جديدة للعمل خارج دائرة الريبة والشك من خلال إيصاله له كل أدبيات الحزب الشيوعي السرية وجريدة طريق الشعب وأخبار عمليات الانصار . ويقدم لنا الراحل أبو فرقد شهرياً إعداد ودراسات حول المشهد السياسي العراقي ، وكنت أبعثها الى المنظمة الحزبية للاطلاع والتقييم والنشر أحياناً.

في صيف عام ١٩٨٣ أزداد الخناق عليه من قبل أجهزة السلطة ، فأجبرت على ترك مقعدي الدراسي والقرية والعراق ملتحقاً الى الجبل مع الثوار ” أنصار الحزب الشيوعي العراقي ” ولتداعيات المشهد وخطورته وطريقة محاولة إلقاء القبض عليه ، تركت كل شيء خلفي معرضاً للاحتمالات والتساؤلات والأشاعات بحكم الظرف السياسي وقوة الدكتاتورية في التحكم بمصير ورقاب شعبنا . إستاذ جليل كمال الدين كان واحد من تلك الملابسات والاحتمالات المفتوحة في السؤال وتتبع أخباري حول مصيري . وقد حدثني عبر ناصية التواصل الإجتماعي بعد ثلاثة عقود من الزمن من مدينة الناصرية زميلي ورفيقي حسن خضير الناصري ، كان الانطباع السائد بيننا والهمس الذي يدور حولك أنك في قبضة أجهزة السلطة ومصيرك محتوم الى الموت ، لكننا تفاجأنا وأنا أحدهم أن أصل لك عبر هذه الناصية أنك أنت وما زلت حياً رغم تلك السنين العجاف . في الصيف نفسه من ذلك العام ، كنت في الجبل مع الثوار وفي أعادة الاوراق مع قيادة التنظيم وآلية توجهي الى بغداد والعمل داخل التنظيم وضعت كخطة عمل قريبة لي في أنتظار الأشارة بتأمين المنزل ومستلزمات التحرك ، لكن الذي عرقل تلك الخطط والتوجهات لوجستياً والقرب من القرى والمدن هو سياسة الاحتراب وصراع القوى الكردية بين الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) من جهة والحزب الديمقراطي الكردستاني ( حدك ) والحزب الشيوعي العراقي ( حشع ) من جهة أخرى ، مما أدت تلك السياسات الى تقييد حركتنا في شريط حدودي في جبل سورين ، مما تعرقلت خطة نزولي وألتحاقي برفاق التنظيم في بغداد وديالى . وفي أقتراح من قيادة التنظيم من المرحوم طه صفوك ( أبو ناصر ) والشهيد محمد الخضري ( أبو جلال ) في التواصل مع الرفاق وأصدقاء الحزب والذين أنقطعت سبل التواصل معهم ومازالوا معلقين وعلى أقل تقدير تبعد عنهم هاجس الخوف ومفاجأة الاحتمالات السيئة ، فقمنا بجلسات طويلة أنا والشهيد أبو جلال في قرى وتلال شهرزور بدايات ١٩٨٤ قبل توجهه الى بغداد ، والذي أستشهد على أثرها ، وهو من أطلق أسمي الحركي لطيف وهذا مفخر أعتزازي . كانت واحدة من تلك الرسائل ، التي حملها الشهيد أبو جلال الى الإستاذ جليل كمال الدين تتضمن بعض الأشارات المهمة لتطمينه على أقل تقدير أنني ما زلت حياً وإبعاد شبح الخوف عنه . وصلت رسالتي الى الإستاذ جليل وكان مطمئناً وإيجابياً ومتعاوناً حسب قول المرحوم أبو ناصر لي في ربيع ١٩٨٤ في منطقة ” كرجال ” في سليمانية وهذا كان موضع أرتياح وأعتزاز لي ، وما قدمته في تلك الظروف الدموية .

في يوم واحد من الشهر الجديد في السنة الجديدة ١٩٨٦ تعرض التنظيم الى ضربة ماحقة شملت كل أوكاره وشبكات علاقاته أنطلاقاً من محطته الرئيسية في قرية ” جديدة الشط ” في ديالى بساتين عائلة أبو ناصر . في حجم الاعتقالات والاعترافات والاعدامات شملت الإستاذ جليل كمال الدين وحكمته محكمة الثورة  عواد البندر مدى الحياة وألقي في ردهات سجن أبي غريب ، والذي قضى زمناً طويلاً منها ، وخرج منها بعد أن شاخ وتعب وأستهلكت قواه وودع الحياة في العاصمة بغداد . في حديث هاتفي مع الدكتور ضرغام عبدالله الدباغ من منفاه الإلماني في برلين ، والذي قضى ١٦ عاماً في سجن أبي غريب باعتباره بعثي يساري ومازال يعتز بهذا الأنتماء رغم ما تلقاه من رفاقه . ذكر لي محطات من أيام السجن ”أبي غريب ” التي جمعته مع الاستاذ جليل كمال الدين ونشاطهم الفكري والثقافي في الترجمه والكتابة والأحلام . وأكد لي واقعة جريئة ، أقدم عليها إستاذ جليل في السجن ، كادت أن تنهي حياته ، في واحدة من وجبات الاعدام المستمرة بحق السجناء ، جاؤوا في أخذ مجموعة شباب الى مقاصل الإعدام فوقف جليل كمال الدين بوجهم هاتفاً بالكف عن ذبح الناس ، وهذه تعتبر بادرة غريبة وجريئة في داخل ذلك المبنى المرعب .

في رحيله الابدي عام ٢٠١٤ عن عمر ناهز ٨٤ عاماً  في العاصمة بغداد نعيته بكلمات بسيطة حزينة بعد ما تلقيت نبأ رحيله من ولده فرقد تعبيراً عن أعتزازي به وبتلك السنوات من النضال والمعاناة والتحدي ، مما ألفتت إنتباه الاعلامي عبد الجبار العتابي أنه قامة أدبية وفكرية يرحل عن دنيانا ولم يلقى ذلك الإهتمام الا ببعض الكلمات من أحد طلابه محمد السعدي . بئساً لتلك الثقافة ولذلك الإتحاد الذي لم يحتفي ولايحزن برحيل أعلامه ، والذي ساهم في تأسيسه .
نم قرير العين .. فمازال موقعك شاغلاً وقلمك حزيناً . 
محمد السعدي
مالمو/أبريل٢٠٢١


45
لاأمل في إجراء إنتخابات في العراق .
مرة أخرى أن أجد نفسي امام سلسلة محنة الإنتخابات في بلدي العراق لكثرة التداول في ألفاظها وتضارب الأراء حولها والنتيجة المرجوة منها واحلامها الوردية في ظل تداعيات وضع العراق الخطير منذ إحتلاله عام ٢٠٠٣ من قبل الغزاة الامريكان والعراقيين المتعاونين مع أجندته في تحطيم وحدة العراق الوطنية رغم شبح الدكتاتورية ، لكن كانت هناك لحمة وطنية وإرادة جماعية في المواطنة والإنتماء .

لا أمل في إجراء انتخابات قال الكولونيل ……
فقال له الطبيب: لا تكن ساذجا أيها الكولونيل. فقد أصبحنا كبارا على انتظار المسيح المخلص.
 غابريل غارسيا ماركيز من رائعته " ليس لدي الكولونيل من يكاتبه ”

حسب لوائح حكومة الكاظمي هناك تلاعب صريح بمواعيد الانتخابات رغم الوعود التي أعطيت عنها والاعلان التقريبي عن مواعيدها منذ أنطلاقة أنتفاضة تشرين البطلة وأسقاط حكومة عبد المهدي والمجيء بالولد مصطفى الكاظمي كمشروع لزعزعة الازمة في العراق من خلال تلبية بعض مطاليب المنتفضين في ساحات العراق والكشف عن فرق الموت التي تغتال في وضح النهار ناشطيه أنتفاضة تشرين وللأسف الشديد لم تتوقف الى اليوم ولم ولن يتم الكشف عن القتلة المعروفين من قبل أبناء شعبنا ، وقد تركت جائحة كورونا ظلالها السلبية على حركة وتنسيقات ثوار تشرين مما أستغلتهاالحكومة لصالحها من أجل تفتيت رص صفوف ثوار الانتفاضة مع الأساليب التي أتخذتها حكومة الكاظمي بالتنسيق مع قادة الميليشيات وفرق الموت وعصائب الاغتيالات ، وفضلاً عن ذلك العمق الإيراني في التدخل بمصير العراقيين في رسم مستقبل بلادهم بالتوافق مع الدور الامريكي بتحقيق أجندته في العراق . سيناريو القضاء على بوادر الانتفاضة لم يعد مجدياً بما تفرضه ساحات العراق يومياً من تظاهرات وإحتجاجات تطالب بحزمة من حقوقها المدنية والطبيعية ، وفي تقدير نقدي للمتابعين بقوة أنطلاقها مره أخرى في رسم مستقبل جديد للعراقيين ، لانه دوافع وأسباب إنطلاقها ما زالت قائمة بل أزدادت قبحاً وألماً .

ما معنى أن تكون هناك إنتخابات على ضوء التداعيات المفروضه الآن في ساحات العراق من فساد ومحاصصة وميليشيات وغياب دولة القانون تحت أجنحة ربع الله  . وأن قامت فما الجدوى من ورائها ” فهي أولاً لم تكن خياراً ديمقراطياً . فالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات تدار من قبل الاحزاب المسيطرة ومليشياتها في رسم خارطة جديدة للعراق وفق أجندات وتعهدات لاتمس الى مصلحة الشعب العراقي ، فمقاطعة الانتخابات بهيأتها الحالية وتعبئة الناس في مقاطعتها سيساهم بلا شك في أسس وطنية جديدة لمصلحة العراق والعراقيين .


يقول فيودور دوستويفسكي " أحيانا لا يريد الناس سماع الحقيقة لأنهم لا يريدوا رؤية أوهامهم المحطمة .

شريحة هامة وواعية من العراقيين ، باتت تدرك جيداً الأعيب الاحزاب وميليشياتها من أجل الامساك بكراسي السلطة عبر أساليب شرعية محتالة الإنتخابات أحدى الواجهات يعني النفوذ والفساد وفرق الموت ، حيال هذا الدمار اليومي يتصاعد الرفض الشعبي ( العفوي ) تجاه ممارسات وأساليب رؤساء المليشيات والطوائف التي تتحكم في أدارة البلاد والعباد ، وهذا كله يحدث وسط غياب تام لقوى مدنية وديمقراطية تتبنى تطلعات الجماهير بل تعبأتها باتجاه المصير المشترك من خلال تبني برامج وأهداف ومصالح الجماهير . فعلى القوى الخيرة المدنية والديمقراطية وتنسيقات تشرين في البلاد أن تعمل من أجل مقاطعة تلك المهزلة التي تسمى الإنتخابات من أجل تضييع الفرصة على الاحزاب والميليشيات الفاسدة في إعطاء شرعية لها بأدارة أمور البلد تحت واجهة الإنتخابات .

محمد السعدي
مالمو/أبريل٢٠٢١

46
قراءة في كتاب ٣ . والأخيرة .
صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره . للبروفيسور طارق يوسف إسماعيل .

الجبهة الوطنية ١٦ تموز ١٩٧٣ .

في حفل أقيم في القصر الجمهوري ، تم التوقيع على ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية في ١٦ تموز ١٩٧٣ بمناسبة الذكرى الخامسة لانقلاب البعثيين على الرئيس عبد الرحمن عارف والتي تعتبر فترة حكمه من ١٩٦٦ الى ١٩٦٨ فترة هدوء وأستقرار سياسي وأنفراج نوع عما ، مما شهد المشهد السياسي العراقي فترة أنتعاش وتحولات ولقاءات وحوارات بين أعداء الامس ، نتجت عنها لاحقاً اصطفافات سياسية سرعان ما إنهارت . وكان الموقعون أحمد حسن البكر من البعث والسكرتير العام عزيز محمد من الحزب الشيوعي العراقي ، فيما رحبت جريدة البعث اليومية ( الثورة ) بالميثاق باعتباره نجاحا كبيرا لهدف البعث في الوحدة العربية ، داعية إلى أن الحاجة الى توحيد المجموعات الوطنية والديمقراطية التقدمية في جبهة واحدة مهمتها المركزية هزيمة العدوان الإمبريالي الصهيوني والرجعية ، ثم المضي قدما لتحقيق أهداف الثورة العربية . وكان رد الشيوعيين على هذه الديباجه في الاشادة في برنامجه بأن إنقلاب ١٧/٣٠ تموز ١٩٦٨  في وصفه بانه قوة ايجابية ، أسست في العراق حكومة وطنية تقدمية وكانت انجازات حكومة البعث كثيرة وشملت أغلب قطاعات المجتمع .

 أدت في النتيجة سياسة الحزب الشيوعي العراقي وأذعانها الى آوامر السوفييت والأمتدادات لهم على المستوى الداخلي والخارجي الى توقيع ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية مع البعثيين في ١٦ تموز ١٩٧٣ . ولكن لم يكتب لها النجاح كجبهة إستراتيجية لسوء التكتيك في أدارتها والأملاءات في جداولها ، وفضلا عن ذلك ضعف مقومات لبنة بناؤها الأولى . مما أدت تلك السياسات والتحالفات والمواقف وسوء أدارة الصراعات الفكرية والمواقف السياسية الى أنعماسه في وحل العملية السياسية الطائفية نتاج الاحتلال الامريكي البغيض في ٩ نيسان ٢٠٠٣ . حسناً ما فعل المؤلف في بداية مؤلفه بتقديم لوحة مكثفة وشديدة الوضوح عن تاريخ العراق السياسي وصراع الارادات والمصالح والتأثيرات الخارجية قبل الدخول الى البدايات الأولى في الوعي الوطني العراقي باتجاه تكوين الحلقات الماركسية الاولى على يد حسين الرحال ومحمود أحمد السيد من خلال نادي التضامن الذي تأسس في منتصف العشرينات مع نبذه من المثقفين وتأثرهم بالافكار الاشتراكية الاوربية من خلال نتاجاتهم والتي تترجم الى اللغة العربية وتنشر في جريدة الصحيفة والتي كانت تصدر كل ثلاثة شهور والتي لها الفضل الأول في نشر الوعي السياسي في العراق .

فرضت أوضاع العراق آنذاك السياسية والتأثيرات الخارجية وأنتهاء الحرب العالمية الاولى والانتداب البريطاني وتنصيب الملك فيصل الأول ملكاً على العراق وشرارة ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية تلك جملة العوامل التي تركت أنعكاساتها في بلورة الوعي السياسي بين العراقيين فتشكلت عدة جمعيات ونوادي ولجان بعيدة عن تطلعات السلطات وبرامجها كاتحاد نادي التضامن وجماعة الاهالي ولجنة مكافحة الاستعمار والأستثمار ستكون في معرضنا حديثنا وصلب موضوعنا من خلال قراءاتي للكتاب ( صعود الحزب الشيوعي العراقي وأنحداره ). حينما قفزوا البعثيين الى دفة الحكم في ١٧ تموز ١٩٦٨ بانقلاب عسكري سمي بالابيض لعدم أسالة قطرة دم به ، أنتزعوا السلطة بسهولة من أصحابهم وحلفاؤهم السابقين في مشاريع الانقلابات والدم ، فراحوا يلوحوا بصفحات جديدة في مشاريعهم وطي صفحات الماضي من خلال التعاون مع القوى الوطنية الاخرى على الساحة ، وكان نصيبهم الشيوعيين باعتبارهم قوة حية وفعالة رغم حالات التشرذم في صفوفهم ، وبحكم جملة عوامل وظروف دولية وداخلية ، طفحت قنوات الغزل بينهما بنسيان صفحات الماضي ، وكانا الطرفين ولهاناً بدفء حضن اللقاء رغم جفاف الماضي القريب . في ضوء تلك التطورات الدراماتكية وتجربة الأثني عشر ( الكادر ) ، وتجربة الكفاح المسلح في الاهوار جنوب العراق بقيادة خالد أحمد زكي ونجم محمود ، أقدمت قيادة الحزب اللجنة المركزية بأدانة هذا الاسلوب من النضال تعد سابقة خطيرة من باب تقديم التنازلات للبعثيين من خلال الاجحاف بمواقف رفاقهم مما طمعوا البعثيين بالمزيد من الاملاءات .

وفي مشروع الميثاق الوطني والتصويت عليه ، عقدت عدة اجتماعات متواصلة لقيادة الحزب بعد أن عاد عزيز محمد من الخارج ، والذي قضى طيلة فترة قيادته للحزب في الخارج بمثابة موظف مطيع وبارع في تنفيذ الاجندة السوفيتية بعيداً عن مصالح الشعوب وتطلعاتها ، وقد ساهم في الاجتماعات ١٣ قياديا شيوعيا ، وكانت الجولات الاولى من النقاشات والدراسات والقراءات والتصويت ضد مشروع قيام الجبهة مع البعثيين ومد اليد لهم بتصويت فرق صوت واحد معارض ، لكن في الختام تمكن سكرتير الحزب عزيز محمد بأسلوبه المراوغ أن يحيد موقف أحمد باني خيلاني ويضم صوته الى المجموعة المؤيدة لتنتهي النتيجة سبعة مقابل ستة أصوات ، وأقدم عزيز محمد بالتوقيع على ميثاق الجبهة مع رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر يوم ١٦ تموز ١٩٧٣ .   

مفترق طريق ٢٠٠٣ .

ثم صدرت شهادة وفاته باحتلال العراق عام ٢٠٠٣ بعد أن تخلى عن تقدميته وانغماسه في وحل الطائفية المقيته

بهذه الجملة المثبته أعلاه . توقف البروفيسور طارق يوسف إسماعيل عن النتيجة النهائية لوطنية الشيوعيين من خلال مشاركتهم بالعملية السياسية التي أقامها المحتل على أسس المحاصصة والطائفية ، والتي تخلى بها الحزب عن مفاهيمه الوطنية السابقة أمبريالية وأستعمار والدفاع عن الوطن . 


الاعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي

عقدت لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار أجتماعها الأول في ٣١ آذار العام ١٩٣٤ لتعلن عن نفسها كواجهة شيوعية بعدة مطاليب بسيطة لحياة الناس ، وكانوا من أهم الحاضرين لذلك الاجتماع عاصم فليح ، والذي أصبح أو سكرتير للحزب الشيوعي والذي انهار بأول مخاض سياسي في معتقله ، وترك العمل وعاد الى مهنة الخياطة ، وزكي خيري ، عبد القادر إسماعيل البستاني ، يونان فرنكول ، عبد الوهاب محمود ، يوسف متي ، نوري روفائيل وآخرون . في نهاية عام ١٩٣٥ قررت اللجنة أن تتبنى أسم الحزب الشيوعي العراقي كاسم لها ومعلنه عن ولادته . وفي يوم ١٩ تموز من العام ١٩٣٥ بدأ الحزب الشيوعي العراقي بإصدار أول صحيفة سرية وهي ( كفاح الشعب ) والتي تحمل شعار الماركسية ( ياعمال العالم أتحدوا ) فضلا عن الشارة الشيوعية ( المطرقة والمنجل ) على صدر الصفحة الرئيسية ، وقد كرست الصحيفة جهدها لشرح مبسط للإيديولوجية الماركسية اللينينية . وقد لاقى الشيوعيين من يوم بدأ مشوارهم النضالي في الاعلان عن أسمهم وتحديد أهدافهم ومراحل نضالهم حملة مضادة من السلطات الى حد الاعلان عن تجريم الافكار الشيوعية وعلى الرغم من ذلك فان الحزب الشيوعي العراقي قد حقق بعض النجاحات ، وتحديدا في مرحلة سقوط نظام رشيد عالي الكيلاني الوطني القصير العمر في أيار عام ١٩٤١ والذي دعمه الحزب الشيوعي في البداية جريا على الخط السوفييتي . وقد خاطب الرفيق فهد من السجن رفاقه الى دعم وتأيد حركة رشيد عالي الكيلاني رغم الاعتراضات الجدية على الاداء الحكومي لانها ضد الاستعمار البريطاني ، أما في هذا الزمن اللعين يحتل العراق ويملي قادة الاحتلال من يساهم في العملية السياسية ان يتخلى في برنامجه ولوائحه الداخلية عن الامبريالية والرأسمالية وشعار الدفاع عن الوطن  .

محمد السعدي
مالمو/آذار ٢٠٢١

         
         


47
قراءة في كتاب ٢ .
صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره .

في مطلع الكتاب يشير مؤلفه البروفيسور د. طارق يوسف إسماعيل … الى حصيلة مؤلمه ولكن ليس غريبة عن الشيوعيين ولهذا تدعوك للتأمل والقراءة والمراجعة .
         ” أن هذا الحزب العريق فقد صفته الثورية على إثر انحرافات آب ١٩٦٤.
          وبعد أن قضت جبهته مع حزب البعث على ما تبقى منه .
ثم صدرت شهادة وفاته باحتلال العراق عام ٢٠٠٣ بعد أن تخلى عن تقدميته وانغماسه في وحل الطائفية المقيته

وعلى تبيان التجربة البسيطة والقراءة المتواضعة ، أود أن أقدم صفحات على تلك الحصيلة المحزنة التي توصل بها البروفيسور طارق يوسف إسماعيل .
         

خط آب ١٩٦٤ . هي دعوة الرفاق السوفييت في سياستهم الجديدة تجاه أحزاب وبلدان الشرق الاوسط فاندفعوا في الضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي بحل تنظيماته والاندماج مع مشروع عبد السلام عارف في الاتحاد الاشتراكي العربي على غرار مع حدث مع جمهورية مصر العربية أبان حكومة عبد الناصر عام ١٩٦١ والذي لم يحقق آمرا ملموسا على أرض الواقع  ، وظل يراوح في باب الامنيات ، ومع هذا كله جوبه من بعض قطاعات المجتمع المصري بالرفض التام . كان خلاصة التوجه الجديد جاء تلبية لنظرية السوفييت الجديدة للتطور اللارأسمالي ، ولتنفيذ الاتجاه الجديد للسياسة الخارجية السوفييتية في العالم العربي والشرق الاوسط ، بدأت الاحزاب الشيوعية بتغير خطابها إذعاناً للسوفييت وأشيد بجمال عبد الناصر بأنه الداعي الرئيسي للصداقة والتضامن في المواقف مع السوفييت ، وأدعي أن تجربته في الحكومة هي المثال الافضل لطريق التطور اللارأسمالي ، رغم ملاحقاته للشيوعيين المصرين وزجهم في السجون ، ويبدو أن قيادة الحزب الشيوعي العراقي كانت تتحرك بهذا الاتجاه ، أي سال لعابها . وفي أول إجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي يومها صوت بالاغلبية لصالح رأي السوفييت بأستثناء المرحوم عزيز الحاج الذي صوت ضد هذا التوجه ، وتحفظ المرحوم آراخاجادور عليه ، وقد برر الشيوعيين العراقيين دعوة عبد السلام عارف بالتحولات الاشتراكية في بلد لم تعد به تنمية متطورة مما تركت ظلالها السلبية على عصب الحياة الاقتصادية ، وفي الوقت كان نظام عارف يعاني الكثير من النكسات في الداخل ، فقد أرتفعت البطالة حتى أنه تم تسريح أكثر من ٢٠ ألف عامل بحلول خريف عام ١٩٦٥ . وكان للاقتصادي العراقي الكبير خيري الدين حسيب بصماته وجهوده واضحة على هذه الدعوة للتحولات . وفي يومها لم يكن يمضي عاماً واحداً على مجازر الدم التي أرتكبت بحق الشيوعيين وجماهيرهم من قبل إنقلابي ٨ شباط ١٩٦٣  . وكان الصراع الداخلي بين قادة الحزب الشيوعي في حمى عنفوانه ، وأثناء ذلك ، واصل عزيز الحاج هجومه المبطن والمعلن على خط آب في أوساط جماهير الحزب الشيوعي وهاجم نظام عارف والسوفييت على حداً سواء ، منتقداً الموقف السوفييتي للتدخل في الشؤون التي تخص الشيوعيين العراقيين . وعندما أنعقد الكونفرنس الحزبي في نيسان ١٩٦٥ طفت تلك الشكاوي والمواقف على السطح وترك الاستياء أثره باتجاه سياسة جديدة وموقف من حكومة عارف وطرح مبدأ العمل الحاسم والذي تبناه عامر عبدالله عبر إنقلاب عسكري بعد عودته من الخارج مع رفاقه بهاء الدين نوري وعبد السلام الناصري ، والذان رفضا مبدأ ودعوة عامر عبدالله في الترجيح على جبهة عريضة مع قوى المعارضة الاخرى وعبر أنتفاضة شعبية تطيح بحكومة عارف ، وأصبحوا الثلاثة قادت الحزب الفعلين في بغداد . وكانت الاستخبارات العسكرية تراقب تلك التطورات عن كثب داخل مواقف الحزب الشيوعي ، وقد تمكنت من اختراق كل منظمة حزبية بما فيها اللجنة المركزية ، وعندما بدأت التحضيرات للعمل الحاسم بداية ١٩٦٦ بدأت القوات الامنية حملة على الحزب ووقع بقبضتهم ستة من كوادر وأعضاء اللجنة المركزية محمد الخضري ، إبراهيم عبد السادة ، علي عرمش شوكت ، أرا خاجادور ، الذي خطف في منطقة كرادة مريم ولفت أنتباه المارة في الشارع بصراخه  أنا الشيوعي أرا خاجادور بلغوا الحزب باعتقالي ، بعد هذه الواقعة تحولت تلك الصرخات الى اهزوجه حزبية ( ياناس كولوا للحزب أرا ألزم )  بما في ذلك مسؤول القسم العسكري للحزب ثابت حبيب العاني قد قوض خطط ( العمل الحاسم ) . الملاحظ في لوحة القادة الشيوعيين بالغالب التقلبات السريعة في المواقف تجاه الاحداث من حل الحزب والاندماج مع نظام عارف وفق مبدأ خط آب الى إسقاطه عبر إنقلاب عسكري . 

الانتفاضة الحزبية ١٧ أيلول ١٩٦٧ .

  بعدها بثلاثة سنوات وقعت الانتفاضة الحزبية ١٧ أيلول ١٩٦٧ والتي شيعت وما زالت في أوساط الشيوعيين أنشقاق عزيز الحاج ، ولصقت به كتهمة بعيداً عن الموضوعية والعدالة والمراجعة وتحديد أسبابها . وبعد أن طفح الى العلن الصراع بين اللجنة المركزية ومنظمة منطقة بغداد ، وقد أصدرت اللجنة المركزية منشوراً داخلياً باسم مناضل الحزب تدعو به الحملة على المنشقين حسب تسميتها لهم لكوادر تنظيم بغداد فتحدوا القيادة بالدعوة الى اجتماع طاريء للكادر المتقدم في ١٧ أيلول . وهذا الاجتماع ترأسه عزيز الحاج وقدم فيه تقريرا مفصلا بشأن الأزمة في داخل الحزب . وبعد نقاش طويل توصلوا الى الاعتراف بالآتي .
(( أن الحزب يعاني من أزمة ، هيكلية ، وسياسية ، وفكرية عميقة أخمدت كل طاقته وأعاقت أنشطته وهي تعود زمنياً الى ثورة تموز عام ١٩٥٨ ، مما كان له أثر مدمر بعيد المدى على الحزب وأسهم في التفريط في ثورة الشعب )). تعود نشأة قيادة هذه المجموعة الى بعض الاعضاء في منظمة بغداد ، وخصوصا في تنظيم المثقفين واللجان الطلابية والتي كان يقودها في البداية نجم محمود وأعضاء آخرين في منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا . وكان من بين هؤلاء الأفراد خالد أحمد زكي ، الذي كان ناقداً وغاضباً على سياسات الحزب ( خصوصا خط آب ) ، وكان له اتباعا بين العراقيين في لندن ، والذي عاد الى بغداد عام ١٩٦٦ ، حيث نجح في توسيع دائرة نفوذه ولدى وصوله أسندت إليه مسؤولية المنظمة القائمة والمعروفة باسم ( خط حسين ) . والتي أيدت الدعوة إلى الكفاح المسلح ، كما تبناه وعمل عليها سابقا ، وقد ضحى بوظيفته المدنية مساعداً لرئيس منظمة السلام العالمية الفيسلوف والمفكر برتراند رسل ، والذي كان مؤمناً بالشيوعية رغم ملاحظاته على التجرية السوفييتية . وفي فترة وجيزة حققت القيادة المركزية جماهيرية كبيرة في أوساط الشيوعيين وأصدقاؤهم حيث مال العدد الأكبر الى جانبهم من الكادر الوسط والمتقدم ومما عزز من هذا الانعطاف معهم هو مواقفهم الراديكالية تجاه حكومة عارف والوقوف عند أخطاء الماضي وموقفهم المستقل من السياسة السوفييتية وتأثيرها على قراراتهم المصيرية ، فتعرضوا الى مصير لايرحم من الاعداء والأصدقاء على حد سواء ، وقد قرأت في وقت سابق شهادة حية للمناضلة العراقية هيفاء زنكنه بنت العشرين عاماً وما تعرضت له من إنتهاك أخلاقي وسياسي في أقبية قصر النهاية لتوجهها النضالي الشيوعي الجديد ، وهي بنت ذلك النسب العائلي المجيد ، مما أعطاها زحماً الى مواصلة ثبات نضالها الوطني الى يومنا هذا في الدفاع عن العراق والمثل الانسانية  .

محمد السعدي

48
شيوعيون يهود في العراق .

شهد العراق في بدايات تأسيسه التاريخية دور مشهود لليهود العراقيين في مجالات شتى ضمن تكويناته الادارية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، وقد وصلوا الى مواقع وأدوار مهمة في عصب تشكيل الدولة العراقية ، وقد لعب اليهود دوراً مؤثراً في تاريخ العراق السياسي فمنذ تأسيس عصبة مكافحة الاستعمار والاستثمار والتي تحولت لاحقاً الى أعلان تأسيس الحزب الشيوعي العراقي يوم ٣١ آذار ١٩٣٤ ، كان لليهود العراقيين الشيوعيين أثراً في هذا التحول السياسي في تاريخ العراق حيث واكبوا هذا المولود السياسي بل لعبوا دوراً في تشكيله وتركوا أثراً في نضاله الوطني والطبقي . فليس إعتباطاً ولا بعيداً عن الواقع ومن يفتش بين أوراق الكتب سيعثر على شخصية شاؤول طويق أول شهيد شيوعي عراقي يهودي في أنتفاضة ١٩٤٦ . ويذكر لنا التاريخ حول الشخصية الشيوعية التي عاصرت يوسف سلمان يوسف ( فهد ) ورفاقه محمد حسين الشبيبي ( صارم ) و زكي بسيم ( حازم ) وأعتلى حبل المشنقة عام ١٩٤٩ يهودا إبراهيم صديق ، لكن لظروف وتداعيات مازالت مبهمة لعدم ذكراه وتمجيد شهادته مع قادة الحزب الشيوعي الميامين في ذلك اليوم الأغر من تاريخ العراق السياسي بحجة أنه ضعف بالتحقيق وأدلى بإعترافات على رفاقه فالسؤال المطروح والواقعي دوماً لتبيان الحقيقة . لماذا أقدمت السلطات الملكية في سوقه الى منصة الإعدام مع رفاقه ؟.

 

وبعد أن أعتلوا قادة الحزب الشهادة في يوم ١٤ شباط ١٩٤٩ تولى قيادة الحزب شاب يهودي بعمر العشرين ربيعاً ساسون دلال وبعد شهور معدودات وقع في قبضة السلطات ولم يمضي على إعتقاله الا  فترة وجيزة من مكوثه في السجن ، حيث سيق سريعاً الى منصة الاعدام بشموخ وتحدي ورسالته المؤثرة قبل ليلة من إعدامه الى أخيه جسد بها قيم المعاني والنضال والتمسك بالوطن . بعد قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ كان يقبع في السجون الملكية مئات من الشيوعيين العراقيين . وكان من بينهم شيوعيون يهود حسقيل قوجمان ، سعاد خيري ، عميدة المصري ، عادل المصري وآخرون ، وقد أستثناهم قادة ثورة تموز في أطلاق سراحهم وتحريرهم من السجون مقابل تعهدات خطية بالتنازل عن قوميتهم وديانتهم الدينية اليهودية ، وفي يومها لقد حمل عضو المكتب السياسي هادي هاشم الاعظمي والشخصية الثانية في قيادة الحزب وثيقة البراءة الى السجون الى رفاقه في النضال لخيارهم على التنازل وقد جوبه بالرفض من بعض الشيوعيين اليهود في التنازل عن قوميتهم باعتبار الحزب حزباً اممياً وكان من بين هؤلاء الأكثر تشدداً وموقفاًحسقيل قوجمان كما وردت بأكثر من مطرح في أوراقه وكتاباته وعلى أثر هذا الموقف تعرض الى التهميش والتهجير وقصته واضحة ومعروفة بين أوساط الشيوعيين .


وبالرغم من الدراسات التي تناولت تاريخ الحزب الشيوعي العراقي الى انها لم تتناول جوانب أخرى في بدايات تأسيسه وقاعدته الجماهيرية ودور الاقليات في مسيرة نضاله ومنهم اليهود .

اليهود الذين عدو أحد تلك الاقليات المهمة التي كان تأثيرها واضحا في المسار الفكري للحزب في فترة تاريخية
مهمة للحزب الشيوعي وهي مدة االاربعينيات من القرن العشرين والتي  أعطت تفسرياً واضحاً عن دور اليهود العراقيين في المسار والسياسي والفكري والقيادي في الحزب وما لعبوه من دوراً مهماً في حياة الحزب من مال ودعم لوجستي ووضع إجتماعي وأمني ، حيث تشير المصادر التاريخية بنشاطات الحزب الفكرية والتنظمية في بيوت اليهود في العراق ، ووما يرجح هذه الفرضية بإعتقال فهد عام ١٩٤٧ في تلك البيوت اليهودية مما يحتمل عن ثقل اليهود الكبير في جسد الحزب الشيوعي  . 

  هيمنة اليهود على الحزب الشيوعي العراقي وتحديد مواقفه ومساراته من القضايا الداخلية والعربية ومنها قضية فلسطين موقفاً مؤيداً لقرار تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧ ، ولم نخفي موقف السوفييت وتأثيرهم على قرارات الاحزاب الشيوعية في البلدان الناعسة بضمنها العراق .

 سنوات لاحقة من مسيرة الحزب وبعد أن أنتقل الى المهجر وتبنى سياسة جديدة في النضال في نهاية السبعينات على أثر فسخ ميثاق العمل الوطني مع البعثيين وتعرض العراق الى هجمات متتالية للنيل من سيادته الوطنية ، فرزت تلك التداعيات الى مواقف وآراء من الدفاع عن الوطن ، وعندما تعرض العراق الى هجوم إيراني باحتلال ميناء الفاو ، انبرى قسم من قادة الحزب الشيوعي العراقي في إتخاذ مواقف سياسية معارضة للخط العام لسياسة الحزب حول رؤيتها للحرب والموقف الوطني منها ، وقد برز من هؤلاء الشيوعيين زكي خيري وزوجته سعاد خيري فحملوا شعار الدفاع عن الوطن ( العراق في خطر ) ، لقد تبنى زكي خيري هذا الشعار والموقف من الوطن ودافع عنه من خلال ادانته للموقف الإيراني والاصرار على الحرب وإحتلال أرض العراق الوطنية معززاً موقفه بتجارب شعوب العالم في الدفاع عن أوطانها ، ولقد كلف يومها فالح عبد الجبار في الرد على مواقف الشيوعي العراقي اليهودي زكي خيري في الصحافة والمنابر الأخرى .

محمد السعدي
مالمو/أذار٢٠٢١   

49
المنبر الحر / بيني وبين نفسي
« في: 23:45 07/03/2021  »
الكتاب سيصدر قريبا

بيني وبين نفسي
حكايات من الأرشيف الشخصي للحركة الشيوعية العراقية
مقدمّة كتاب محمد السعدي: بقلم عبد الحسين شعبان(*)

- I -
حين طلب منّي الرفيق محمد السعدي "أبو بيدر" كتابة مقدّمة لكتابه الجديد "بيني وبين نفسي - حكايات من الأرشيف الشخصي للحركة الشيوعيّة العراقية"؛ عدت إلى قراءة كتابه السابق "سجين الشعبة الخامسة"، لارتباط الكتابين بتجربة شخصيّة لمناضل في صفوف الحركة الشيوعية، سواء في حركة الأنصار أم في ظروف العمل السرّي، في فترة من أخطر المراحل السياسيّة في تاريخ العراق؛ ولعلّ تجربته الغنيّة هي جزء من تجارب شخصية لمناضلين شيوعيين في مستويات مختلفة، ومن مواقع عمل عديدة، تبقى بحاجة إلى دراسة ومراجعة وتمحيص وتدقيق ونقد لأخذ العِبرة منها بما لها وما عليها.
ويروي محمد السعدي كيف وقع في فخّ الاستخبارات العسكرية في العام 1987 بخديعة أو تواطؤ أو قُصر نظرٍ على أقلّ تقدير، لا فرْقَ في ذلك فقد كان لُقمة سائغة بيدِ الخصم، ليجد نفسه "نزيلًا" في الشعبة الخامسة لمدة 87 يومًا تعرّض فيها لأنواعٍ شتّى من التعذيب، وضغوط جسدية ونفسية اضطر فيها الاعتراف بمهمّته والكشف عنها، حيث اقتيد إلى "محكمة الثورة" مع 7 أو 8 أشخاص من حزب الدعوة، ومن حُسن الصُدف كما يقول أن تأجّل البتّ في قضاياهم، فأعيدوا من حيث أتوا لتتمّ مساومته بإطلاق سراحه مقابل التعهد بالعمل لصالح الاستخبارات العسكرية، وهي طريقة اتّبعت في الكثير من الأحيان مع من يلقى القبض عليهم، خصوصًا ممّن كانوا يتوجّهون إلى داخل العراق لإعادة بناء التنظيم، وفي الكثير من الأحيان كان هؤلاء تحت عين الأجهزة الأمنية بأنواعها واختصاصاتها التي غالبًا ما كانت تخترق خطوطًا حزبيّة وتتغلغل فيها وتسهّل مهمّاتها لتكون في حدود السيطرة باللحظة المعنيّة، وقد استدرجت إدارات حزبية متقدمة وهيّأت لها أماكن إقامة و"بيوت حزبية" راصدة جميع تحرّكاتها واتصالاتها متعقّبة أثرها، في أكبر عمليّة اختراق في مطلع التسعينات.
كتابَا الرفيق أبو بيدر جعلاني أتوقّف عندهما، في مراجعة محطات مهمّة من تجربته الشخصية، خصوصًا وأنّهما يكمّلان بعضهما البعض ويتداخلان أحيانًا في بعض التفاصيل، بل أنّ تكرار المشاهد يجعلك تتصوّر أنّك تقرأ في كتاب واحد، وإن جاء كتابه الذي أتحدّث عنه ليستعيد فيه طفولته ونشأته وحياته في قرية "الهويدر"، حيث بساتين البرتقال والأشجار الباسقة، والمقاهي الشعبية والأصدقاء وحركة الناس، لينتقل إلى بدايات وعيه السياسي واندفاعاته وحماساته وتطلّعاته ومدارسه في إطار تأمّلات سوسيولوجيّة ولفتات ذكيّة ومواقف لا تخلو من أخطاء ومراجعات ونقد، ومن ثمّ تناول بدايات نشاطاته الطلّابية والنواتات الحزبية والمواجهات المباشرة وغير المباشرة في إطار الاصطفافات السياسية في القرية مع البعثيّين ومنظّماتهم أيام الجبهة الوطنية التي انفرط عقدها في أواخر العام 1978 والثلث الأول من العام 1979.
ولعلّ المرحلة الثانية من نشاطاته وحركّيته جاءت حين انتقل إلى بغداد للالتحاق بالجامعة في العام 1980 والتي تداخلت مع الحرب العراقية - الإيرانية، حيث انتظم في نواةٍ شيوعية أطلق عليها "منظمة الصدى" ليلتحق بقوات الأنصار في العام 1983، وهنا يستعيد أسماء الشهداء ويُعدّد المواقع والقرى الكردية وخطوط التواصل وحياة الأنصار والصعوبات التي يمرّون بها والبطولات التي يجترحونها والتضحيات التي يقدّمونها، ثمّ يخبرنا عن تكليفه بالتسلّل إلى بغداد في مهمّات خاصّة يستغرب هو الآن تنفيذها بكل رحابة صدرٍ وكأنّه يتوجّه إلى نزهة، في حين أن الموت كان ينتظره عند أيّ منعطف أو محطة ولأيّ خطأ يقوم بارتكابه أو سهو يقع فيه، ويذكر الحِرمانات التي عاشها دون أن ينسى تلك الرومانسية الحزينة التي لم تتركه، ودون أن يهمل الأخطاء والعيوب والإخفاقات والبيروقراطية وإسقاط الرغبات على الواقع.
ويتوقف السعدي بذهول أحيانًا عند بعض المحطات المهمّة في تجربته الفتيّة، حين التقى بعض قادة الحزب الذين كان يسمع عنهم، ومنهم أمين عام الحزب الأسبق بهاء الدين نوري (من العام 1949 وحتى العام 1953) الذي تمّ عزله ومقاطعته اجتماعيًّا والتشهير به، وكيف كان "يخاطر" بالذهاب إليه والإلتقاء به، ويستعرض بشكل متفرّق حيثيّات ما حصل في بشتاشان حين شنّ الاتحاد الوطني الكردستاني "أوك" هجومًا غادرًا ضدّ أنصار الحزب الشيوعي راحَ ضحيّته عشرات الرفاق ويتناول الحساسيات التي حصلت جرّاء مواقف البعض الضعيفة.
أمّا بخصوص المؤتمر الرابع للحزب فيتناول تعقيداته وملابساته وما أثاره من انقسامات، خصوصًا في التحضير له حين ألقى عزيز محمد (الأمين العام للحزب حينها) كلمة قال فيها "اجتمعنا ليُلغي نصفنا النصف الآخر"، واتّضح أنّها خطّة للتضحية والتفريط بقيادات تاريخية وكوادر متقدّمة ومجرّبة بسبب وُجهات نظرها الفكرية والسياسية، لا سيّما بصدد الموقف من الحرب العراقية - الإيرانية، كما يسلّط الضوء على الاختراقات العديدة لأجهزة المخابرات والأمن العراقية التي تمّ اكتشاف بعضها والتحقيق مع عدد من المتّهمين بعد إخضاعهم للتعذيب، حيث اعترفوا بتعاونهم مع الأجهزة العراقية، وصدر قرار بإعدامهم دون أن يذكر مصدر هذا القرار ومَن قام بتنفيذه لكنّه يلمّح له، علمًا بأن ثمّة أسماء تردّدت على هذا الصعيد من خلال روايات عديدة لم يتمّ الإفصاح عنها أو كشفها على الرغم من مرور ثلاثة عقود ونيّف من الزمان.
وبعد إطلاق سراحه بالمساومة المذكورة وجدها فرصة مناسبة للهرب في اليوم التالي والوصول إلى مدينة كفري في كركوك حيث حلّ ضيفًا على عطاالله الطالباني مدير بلديّتها الذي كانت تربطه به علاقة سابقة عبر نجله آشتي رفيقه الذي كان يلتقيه في المعهد البريطاني في بغداد، وهناك التقى مكرّم الطالباني (القيادي الشيوعي السابق) وقصّ عليه ما حصل له، فشجّعه على ذلك ونصحه بالابتعاد عن كل ما له علاقة بتلك الأجواء، وهكذا إلتحق بالجبل مرّة أخرى ليروي ما جرى له لقيادة الحزب وللرفيق طه صفوك (أبو ناصر) الذي اعتُبر من العشرة "المبشّرين بالجنّة" الذين اختارهم عزيز محمد ليصبحوا أعضاء في اللجنة المركزية دون أن يعلن عنهم بحجّة العمل السرّي، لكن الدنيا ضاقت بالسعدي بعد أشهر وأخذ يفكّر بترك موقعه والتوجه إلى الخارج فعسى أن يجد في حياته الجديدة ما يعوّضه عمّا تعرّض له وما خسره وما عاناه خلال اعتقاله، إلّا أنّه فوجئ بعدم تقديم أيّ مساعدة له، فاتّخذ قراره بعبور الحدود إلى إيران معتمدًا على نفسه وعلى بعض الأنصار من أصدقائه ومن بيشمركة الأحزاب الكردية، ومن هناك رتّب أموره ووصل إلى سوريا واستقرّ فيها لبضعة أشهر وحصل على جواز سفر يمنيّ بواسطة عامر عبدالله ومنها توجّه إلى براغ ومن الأخيرة إلى السويد طالبًا اللجوء السياسي ليستقرّ في مدينة مالمو منذ العام 1989 وحتى الآن، وهي رحلة شاقة ومضنية قطعها مئات الرفاق الذين وجدوا أنفسهم في المنافي البعيدة بعد تبدّد أحلامهم وتشتّت شملهم.

- I I -
 أربع ملاحظات أساسية أتوقف عندها خارج الآراء السياسية أو الحزبية التي وردت في الكتابين، سواء بالاتفّاق أو بالاختلاف أو بالتناول والتقويم.
أوّلها - الكتابان عرّفاني بالرفيق محمد السعدي أكثر ممّا أعرفه، وكنت أوّل مرّة قد تعرّفت عليه بواسطة الرفيق عامر عبدالله الذي استقبله في الشام ليستمع إلى تجربته المؤلمة، فضلًا عن كون الشهيد الجنرال خزعل السعدي خاله، إضافةً إلى معرفة لاحقة بواسطة الرفيق طه صفوك "أبو ناصر"، واكتشفت أنّ لديه رغبة في التعلّم وحبّ المعرفة، والمعرفة حسب كارل ماركس تعني "الذهاب للقاء بالواقع". وقد حاول السعدي في الكتابين أن يعرض تجربته بأسلوب قصصي لا يخلو من حبكة دراميّة واستخدم الحكاية بطريقة موحية، وقد جاء الكتابان بصيغة مجموعة حكايات أو قصص أو حتّى أقصوصات منفصلة ومتّصلة أحيانًا في إطار هارموني متآلف ومتخالف أيضًا، وهو أسلوب استخدمه للتخفيف من عبء الكتابة بمعناها الحرفي والمهني دون أيّ ادّعاءات أو تضخيم للذات.
وثانيهما - امتاز محمد السعدي بجرأة وشجاعة نادرتَين بكتابه الأول والثاني، حين اعترف بالكثير من أخطائه ومثالبه وعيوبه، ومنها تعاونه مع أجهزة الاستخبارات العسكرية حين تمّ اعتقاله وذلك إنقاذًا لنفسه بعد أن لم يتمكن من الصمود في التعذيب إلى النهاية، حيث قرّر قبول عرض الاستخبارات بعد أن رفضه في السابق بإصرار، ولكنّه في الوقت نفسه قرّر تضليلها ثمّ الهروب في أوّل فرصة سُنحت له إلى الجبل مرّة ثانية وإخبار الحزب بجميع التفاصيل التي جرت له، خصوصًا وأنه يمتلك خزينًا هائلًا من المعلومات عن بعض من أُلقي القبض عليهم وتعاونوا مع الأجهزة الأمنية، ويعتقد أنّ قسمًا منهم أخفى المعلومات عن الحزب وهو ما يزال يعمل في مواقع متقدّمة دون أن يبلّغ عن ذلك، علمًا بأنّ من يُلقى القبض عليه وتتم مساومته ويوافق على ذلك يُطلق سراحه بسرعة ليعود إلى وضعه الطبيعي وكأنّ شيئًا لم يكن، حيث يكون نقطة استقطاب لكشف المزيد من الذين يكلّفون بمهمات داخل العراق فيكون تحت علم وبصر الأجهزة الأمنية.
وكما يقول أبا بيدر فإن الغالبية الساحقة من الذين توجّهوا إلى الداخل وقعوا في شرك الأجهزة الأمنية، قسم منهم استشهد والقسم الآخر أُطلق سراحه باتفاقات معها، وعلى هذا الصعيد يذكر العديد من الأسماء وبعض مهمّاتها واستدراجاتها، وتحفظُ ذاكرته أسماء عشرات الشهيدات والشهداء الذين ذهبوا ضحيّة الغدر والخيانة وضعف اليقظة، ويتناول أخطاء بعض إداريّي الحزب وصراعاتهم ومنافساتهم غير المبدئية التي سهّلت على هؤلاء الذين عملوا لمصلحة الأجهزة الأمنية التحرّك بحرّية، بل إن البعض كان يُبدي إعجابًا بشجاعتهم، ولولا بعض المصادفات لكان هؤلاء قد استمرّوا وألحقوا أضرارًا لا يعلم بها إلّا الله مُستدرجين عشرات آخرين من الرفاق.
وثالثها - أنّه ينتقد تجربته، لا سيّما مشاركته في التحقيق "الحراسة" ضدّ آخرين أو قبوله بفكرة تعذيب آخرين لانتزاع اعترافات منهم، سواءً كانوا يعملون لمصلحة الأجهزة الأمنية أم رفاق اتّهموا بالتكتل أو الاحتجاج ضدّ ممارسات بيروقراطية وسياسات خاطئة، كما حصل للضحيّة المغدور مشتاق جابر عبدالله "من مدينة الثورة" واسمه الحركيّ "منتصر" الذي استشهد تحت التعذيب على أيدي رفاقه، وستّار غانم "سامي حركات" الذي استشهد خلال تسلّله إلى الداخل على يد المخابرات العراقية، وأحمد الناصري "أمين" الذي هو أحد الشهود الأحياء على ما حصل له ولرفاقه من سوء معاملة وتعذيب، وسبق له أن روى قصته ومفارقات تعذيبه على أيدي البعثيّين وعلى أيدي رفاقه الشيوعيّين. ويذكر محمد السعدي عددًا من الأسماء التي شاركت بالتعذيب أو التحقيق وفي اتخاذ القرارات صراحةً أو تلميحًا، وكان الرفيق قاسم سلمان "أبو الجاسم" قد عرض أدوات التعذيب والوسائل التي استُخدمت لانتزاع اعترافات من الرفاق المعارضين أمام الرفيق عزيز محمد (الأمين العام الأسبق) في اجتماع أمام جمع من الرفاق الأنصار، وهو ما تمّ تداوله في حينها ونشرته بعض المطبوعات الحزبية.
ورابعها - إنّه يشخّص عددًا من المسؤولين عن النواقص والعيوب والثغرات بما فيها الأمنية إمّا لعدم خبرتهم أو قلّة معرفتهم أو حتى جهلهم، ناهيك عن أنّ بعضهم يريد تحقيق مكاسب أو منجزات ليُدرج ذلك في سجلّه الشخصي. ويعرض السعدي حكايات وقصصًا عن الاختراقات وبدائيّة التعامل معها، حيث يتناول سذاجة بعض المسؤولين وانفصالهم عن الواقع، ناهيك عن "المغامرة" بالرفاق تحت عنوان إعادة التنظيم، وحسب بعض التقديرات، فإنّ بضع عشرات من هؤلاء غيّبوا في السجون ولم يُعرف مصيرهم حتى الآن، بمن فيهم رفيقات بطلات، دون أن تكون النتائج مُجزية، وكان يمكن ادّخارهم لليوم المناسب. وهكذا لم تكن حسابات الحقل منسجمة أو حتى متوازية مع حسابات البيدر، ولكن الغريب هو الإصرار بعد كل هذه الخسائر على إرسال الرفاق إلى الداخل كما يقول.

- I I I -
في الكتابين دعوة للنقد الذاتي لكشف الحقيقة ومصارحة الرفاق والاعتذار لمن تمّت الإساءة إليهم أو لعوائلهم في حالة استشهادهم، والكفّ عن مثل هذه الأساليب التي لا تخدم إلّا أعداء الحزب والشيوعيّة، وقد عبّر السعدي عن انتقاده الشديد لمن أنكر أو سكت معتبرًا ذلك تواطؤًا لا بدّ من كشفه وقد بدأ بانتقاد نفسه على ذلك، ويأمل أن يتحلّى آخرون بالشجاعة ليقولوا الحقيقة وهو ما استوضحتُهُ منه، وحسب شكسبير "فالحقيقة تُخجل حتى الشيطان"، وقد وجدت في اعترافه بأخطائه وندمه على القيام بذلك فضيلةً، وكما يقال "فالاعتراف بالخطأ فضيلة" وهو أوّل الطريق للمصارحة والمكاشفة بممارسة رياضة روحية مع النفس للتطهّر وعدم تكرار ما حصل.
ومهما كانت المبادئ سامية إلّا أنها تتعرّض للتشويه حينما تتحوّل إلى أيديولوجيا "صمّاء" وهي ما تستخدمه إدارات الأحزاب لتبرير انتهاكاتها، سواء كانت في السلطة أم خارجها، ولفرض هيمنتها، فحتى الأحلام الوردية واليوتوبيا ليست معصومة من ارتكاب الآثام والجرائم، ولعلّها ذاتها تصبح أداةً للجريمة طالما تضع الفكرة بمقام أسمى من الإنسان، وهذا الأخير حسب كارل ماركس "أعظم رأسمال"؛ ووفقًا للفيلسوف الإغريقي بروتوغراس "الإنسان مقياس كل شيء". ولعلّ التبرير بامتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات يُعطي المسوّغ لبعض المتأدلجين باستخدام جميع الوسائل للوصول إلى غاياتهم عن طريق العنف أو الخداع والكذب والتدليس، إضافة إلى استغلال "إيمانيّة" و"براءة" البعض الذين يعتبرون ما يرِدهم "حقائق مطلقة" حتى دون أن تستفزّهم طوابير الضحايا، فالأمر ليس مهمًّا بقدر المستقبل المنشود.
وباختلاف الفعل عن الفكرة السامية أو القصد الأصلي تتّسع دائرة الافتراق بين الغاية والوسيلة، فلا غايات شريفة وعادلة دون وسائل شريفة وعادلة، فالوسيلة من شرف الغاية، علمًا بأنّ الوسيلة ملموسة وعملية في حين أنّ الغاية بعيدة ونظريّة وحسب المهاتما غاندي رائد المقاومة المدنية اللّاعنفية "الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة" أي أنّهما مرتبطان عضويًا ولا يمكن فصلهما. 
بتقديري إنّ الممارسة هي مصدر كل حقيقة ومعيارها وفقًا لماركس، لأن النظرية لا تنفصل عن الفعل وهي حسب وصفه "توصل المجتمع إلى الوعي بذات المجتمع"، والممارسة تمثّل "حياة الفكرة" مثلما الأخيرة "دليل الممارسة" ومفتاحًا لكل الأقفال.

- IV -
إذا كان الرفيق أبي بيدر قد عانى أشد المعاناة وتركت تجربته تلك ندوبًا نفسيّة وجسديّة على حياته اللاحقة، إلّا أنها فتحت عينه على آفاق جديدة، وهو ما يتّضح من بعض استنتاجاته، سواء التي توصّل إليها أم تلك التي تترشّح من بين السطور، ومنها ما جدوى مثل تلك المغامرات؟، حيث تبقى تعتصر قلبه على فقدانه مقاعد الدراسة في كلية الآداب "قسم اللغة الروسية"، ويتذكّر عدد من أساتذته بمن فيهم حياة شرارة التي ودّعها حين قرّر الصعود إلى الجبل فعلّقت "إنت همْ راح تهرب مثل جماعتك؟" وهي الأخرى كانت عانت من مرارة علاقتها الشيوعية مع البيروقراطية الحزبية عند دراستها في موسكو، وضياء نافع وجليل كمال الدين ومحمد يونس الساعدي.
 لكنّ التعويض الأهم لكل تلك العذابات والمظالم بما فيها من ذوي القُربى "رفاق الدرب" جاءه من الحبيبة والزوجة التي مسحت دموعه ونوّرت حياته وأزهرت مستقبله، وكانت بمثابة البلسم الذي داوى جروحه، حيث ظلّ لسنوات، بل لحدّ اليوم يستيقظ مرعوبًا وفزِعًا حين يشاهد كوابيسًا مخيفة في أحلامه، ليجد زوجته (جنان) إلى جانبه، فتهدّئ من روعه وتناوله قدح ماء ليلتقط أنفاسه ويستعيد توازنه، خصوصًا بلمسة دافئة وكلمة حلوة.
- V -
تجربة محمد السعدي تُقرأ دون إسقاطات مُسبقة بالـ"مع" أو "ضد"، وحتى خارج نطاق السياسة لأنّها تجربة إنسانية وهي تصلح أن تكون فيلمًا دراميًّا بغضّ النظر عن سوداويّتها، فثمّة كوّة ضوء ويقظةٍ لأملٍ جديد وروح جديدة. إنها تجربة حيّة لنصيرٍ وشيوعيّ رواها بصدقيّة كما أعتقد، وسيكون مفيدًا لمن عايشه في تلك الفترة أن يدلي بدلوه بما تناوله من حكايات وسرديات، إن كان إضافة أو حذفًا أو تصحيحًا أو تدقيقًا أو حتى تخطئةً، لأنّني أعتقد أنّها تجربة تستحق القراءة والنقد هي ومثيلاتها، فقد حاول عرضها بطريقة لا تخلو من عفويّة وخارج دائرة القيود والتستّر.
لم يُهمل السعدي نقاط ضعفه ولم ينشغل بتلميع شخصه، ولم يدّعِ بطولة، بل عرضَ بعض مغامراته تلك بتلقائيّة لا تخلو من براءة وطفوليّة لاعتقاده أنه كان يقوم بعملٍ مهمّ يؤدّيه بإخلاص كواجبٍ محبّب، ولو استعدنا الزمن فإنّ ما فعله في تلك الأيام باعتباره عملًا اعتياديًّا سيتوقّف عنده كثيرًا، بل سيتردّد أكثر وربّما سوف لا يُقدم عليه لأنّه قد لا يجده ضروريًّا، بل إنّه انجراف غير محسوب النتائج، وتلك واحدة من دروس الحياة.
بتقديري، ليس المهم الحركة، بل لا بدّ معرفة ما الهدف من الحركة؟ وماذا يمكن أن تنتج؟ وكيف يمكن تحقيق الهدف؟ وهل الأساليب المُستخدمة تنسجم مع الواقع والتطوّر؟ فقد كانت الخسائر تكبر دون نتائج ملموسة تُذكر، وأستعيد هنا قولًا أثيرًا كان عزيز شريف (أبو عصام) غالبًا ما يردّده بعقلانيّته المعروفة: "نحن الشيوعيّين مثل واحد راكب درّاجة لا يريد أن يتوقف خوفًا من الوقوع ويبقى يتحرك بكل الاتجاهات، ولكن دون هدىً خشية من التوقّف"، أقول ذلك لأن على القائد السياسي أن يراجع نفسه باستمرار وخطط عمله وأساليبه وتكتيكاته كل يوم، بما لها وما عليها، خصوصًا وأن متغيّرات عديدة وسريعة تحصل وظروفًا وأوضاعًا كثيرة تتبدّل، وعليه التفكير والتحرك بطرق واقعيّة ورسم سياساته في ضوء المتغيّرات.
"أيّها السائر ليس ثمّة طريق... السّير يصنع الطريق... كلّ شيء يمضي... كلّ شيء يبقى" حسب الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو الذي توفّي في فرنسا هاربًا من حصار قوات فرانكو إلى مدريد بعد نشوب الحرب الأهلية الإسبانية؛ ولذلك على قيادات الأحزاب أن تبتدع طُرقها الخاصة بما في ذلك اختلاف مرحلة عن أخرى، فما كان يصلح لزمن الرفيق فهد ربّما لم يعد يصلح في زمن الرفيق سلام عادل، وما هو صالح في العهد الملكي ليس صالحًا في العهد الجمهوري على سبيل المثال، كما أنّ ما هو صالح للعهد الجمهوري الأول لم يعد مناسبًا لعهديّ البعث، سواء بالستراتيجيّة أم بالتكتيكات، وما يصلح في مواجهة أنظمة وطنية بما فيها فرديّة أم ديكتاتورية، ليس هو ما يصلح لمواجهة الاحتلال، فتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.
في كتاب محمد السعدي ثمّة دهشة مستمرّة لكلّ ما حصل، وهي دهشة كبيرة ما تزال تتوالد أحيانًا، فقد كان يقيس حياته بما يحصل في قرية "الهويدر" وإلى حدٍّ ما في محافظة ديالى "بعقوبة" وحتى بغداد التي تردّد عليها طالبًا أو متسلّلًا ليعيد بناء التنظيم الجديد لم يعرفها كثيرًا، لكنّ قنديل الطفولة الذي بداخله يريد أن يبقى مضيئًا، وإذا به "لا يضيئ زنزانة خالية، بل يضيء كتابًا" حسب باشلار، فتلك الباقة من الحكايات والمرويّات أراد لها أن ترى النور، في منولوج داخلي بينه وبين نفسه ولمن يرغب في قراءتها؛ أو أنه كان يقيس حياته بملعقة القهوة وفقًا للشاعر ت.س.إليوت، وإذا بالحياة أكثر إدهاشًا وأشدّ تعقيدًا من كلِّ ذلك في مواجهة الجمال للقُبح والخير للشرّ والعدالة للظُلم والحقّ للباطل والعمران للخراب، لكن الخطأ والخطيئة ومحاولات إذلال الإنسان وجدت طريقها إلى تلك الدروب الوعرة والألغام الكثيرة والمرايا المحطّمة والمصائر المُحزنة، وهو ما يكشف عنه في أرشيفه الشخصي.

(*) أكاديمي ومفكّر من الجيل الثاني المجدّدين العراقيّين والعرب، ويُعدّ من روّاد حركة المجتمع المدني العربية، وحائز جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة 2003) بدفاعه عن الحقوق والحريّات، ولا سيّما في المجالين العربي والدولي. له أكثر من 70 كتابًا ومؤلّفًا بدءًا من حقل اختصاصه الأساسي في القانونين الدولي والدستوري إلى حقول الفكر والسياسة والثقافة والأدب والأديان، كما له مساهمات وانشغالات خاصة بقضايا التجديد والتنوير والحداثة والفكر الاشتراكي والأديان والتسامح واللّاعنف. ومنذ مطلع الستّينات عمل في صفوف الحزب الشيوعي لكنّه لم يتقيّد بتعاليم المدرسة الماركسية التقليدية ولم يلتزم أُطرها التنظيمية التي تمرّد عليها. ويُعدّ من المثقّفين الماركسيّين الإشكاليّين الذين سلكوا طريق التجريب متخلّيًا عن اليقينيّات الإيمانية مختارًا طريق العقل والأسئلة والنقد، لا سيّما محاولاته إعادة قراءة الماركسية وتجاربها العمل
Mohammed Al Saadi
Beider Media
www.beider-media.se
070 073 3003

50
المنبر الحر / قراءة في كتاب .1
« في: 21:41 28/02/2021  »
قراءة في كتاب .1
ليلة البارح وقبلها بليلتين سهرت مع كتاب ( صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره ) للمؤلف البروفيسور طارق يوسف إسماعيل أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليغاري الكندية ورئيس المركز العالمي لدراسات الشرق أوسطية المعاصرة وترجمة الصحفي والمترجم العراقي عمار كاظم محمد ، ويبدو كانت ترجمة الكتاب الحرفية صعود وسقوط الحزب الشيوعي العراقي وللتخفيف من عبأ الوقع على النفوس وببراعة المترجم صدر بعنوانه الحالي ، كنت حريصاً في تقليب صفحاته بقراءة هادئة ومتأنية ومفيدة في تقليب صفحات التاريخ وأعادة القراءة لسنوات قضت من حياتنا ،  سبق وأني قرأت عنه بأكثر من ناصية وموقع وصحيفة وسمعت من بعض الرفاق والأصدقاء ، الذين حظوا به وقلبو صفحاته بوعي  ودراية ، والذي زاد من أهتمامي في الحصول على نسخة منه رغم الصعوبات التي فرضتها تداعيات ( جائحة كورونا ) على حرية حركة الناس ، لكن بمبادرة طيبة وهذه ليست الأولى من نوعها الرفيق والصديق أبن المناضل المرحوم حسين سلطان الرفيق خالد ومن بغداد الحبيبة حمله مشكوراً بسام أبن المرحوم المناضل حسين الكمر وعبر العزيز إبراهيم أبن المناضل باقر إبراهيم وصل لي بأمان فالشكر لتلك الايادي النظيفه . كان جل أهتمامي في الحصول على نسخه منه وقراءته حين وصوله على حساب قراءات أخرى ، كانت ضمن البرنامج المهيأ لي . وما تركه هذا الكتاب في عشية صدوره من سجال وآراء وخلاف في وجهات النظر وصلت بعضها حد التشهير والأتهامات الرخيصة من رفاق الأمس على مانشيتات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ، كان محط أهتمامي وزاد من فضولي بتقليب صفحاته .


الكتاب الذي طبعته جامعة كامبردج يستعرض تاريخ الحركة الشيوعية في العراق منذ بداية ارهاصاتها الاولى في العشرينيات من القرن الماضي وحتى فترة ما بعد تأسيس مجلس الحكم العراقي بعد الغزو الامريكي للبلاد عام 2003.
”ويرصد الكتاب تاريخ الحركة الشيوعية العراقية الذي تغطي قرن من الحياة السياسية للبلاد التحولات التي طرأت على الدولة العراقية منذ بداية الحكم الملكي وحتى نهاية الحكم الجمهوري عارضا صورة شاملة لكل الوقائع التي رافقت الحركة الشيوعية في العراق منذ نشاطها الطليعي في الاربعينيات والخمسينيات الى انحسارها وتراجعها في الوقت الحالي محللا بشكل محايد الاسباب التي ادت الى انتكاسها بشهادات ووثائق وعشرات المقابلات مع الشخصيات المهمة في الحركة تم جمعها من قبل المؤلف وتنسيقها بشكل علمي طوال اربعين عاما من العمل المضني ”.
الكتاب الذي صدر بترخيص من جامعة كامبردج بمجلد من 630 صفحة من القطع المتوسط عن دار ( سطور ) في العاصمة بغداد ضم الكثير من الاسرار والخفايا التي تنشر لأول مرة واحتوى على اسماء وشخصيات مازالت لحد الان ضمن المشهد السياسي الحالي في العراق.

يعتبر ومن وجهة نظر العديد من المتابعين والمعنيين يالشأن أول كتاب شامل يصدر خارج الحزب عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي . وقد صدر في وقت سابق باللغة الانكليزية وقدم له مقدمته المرحوم والمناضل اليساري حسقيل قوجمان ، وتطلع في حينها الى ترجمته الى اللغة العربية لتسهيل قرأته من قبل جيش من الشيوعيين العراقيين ، الذين يتوقون الى تاريخ حزبهم المجيد .
وقال قوجمان : في أحدى متابعاته للكتاب هذا أول تاريخ للحزب الشيوعي العراقي يمكن لأي قارئ مهما كان موقفه السياسي أن يستفيد منه، لاستخلاص ما حدث تاريخيا وليس آراء من كتب هذه الأحداث . وقد أثير  عشية صدور الكتاب بنسخته العربية حفيظة البعض حتى شملت ممن لم يطلع عليه وعلى تفاصيله جملة إنتقادات لاذعه له بدل من أن يأخذ على محمل الدراسة وأعادة التقييم على ضوء العقل النقدي الماركسي في فهم التاريخ .

في نسخته العربية على يد وبراعة المترجم عمار كاظم محمد والذي أستغرق في ترجمته عامان وتبادل مع المؤلف حوالي مئة رسالة وبمعونة رفاق ومتطلعين ومعنيين بالشأن السياسي العراقي . وقد قال المترجم بعد أن أنجز ترجمته والاطلاع على تاريخ الحركة الشيوعية العراقية منذ أرهاصاتها الأولى في العشرينيات من القرن الماضي وتضحياتها الجسام ولم تتمكن من بناء عراق قوي ومزدهر آمر يثير الغرابة ، ومن خلال متابعتي للاهتمامات والآراء المختلفة حول الكتاب ، يبدو أثارت حفيظة البعض من الرعيل القديم ولا خلاف على وجهات النظر المختلفة والمتصارعة ضمن سياقات الصراع الفكري وهذا يضيف معلومة جديدة وقراءة مختلفة من أجل حراك فكري ثقافي مهم ، لكن للآسف الشديد راح في متاهات أخرى بعيدة عن أرثنا التاريخي في التشهير والاتهامات مما دعا البعض يقول .. ها هم ممن كانوا يقودوننا ، ورباننا في السفينة ؟. 

صدر الكتاب عام ٢٠٠٨ باللغة الانكليزية من جامعة كامبردج في نيويورك ويتألف الكتاب بنسخته الانكليزية من ٣٢١ صفحة من القطع الكبير ونال اهتماما خاصا من المتابعين والدارسين والتواقين للفكر والتاريخ  ، وأعتبر الكتاب الثاني من حيث الاهمية والموضوعية والأمانة بعد كتاب حنا بطاطو ( الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق ) ، والعديد من القراء أعتبروا كتاب عزيز سباهي في مجلداته الثلاثة لم يلبي طموحات الشيوعيين في مناقشة تاريخهم . ويقول حسقيل قوجمان حين أستعرت الجزء الثالث من الكتاب وقرأته سألني أحد الاصدقاء عن رأي بالكتاب فقلت له لولا عنوان الكتاب لما عرفت أنه يبحث تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، وقد أخفق في مناقشة سياسة الحزب وأحداثه والتحيز للحزب ومواقفه ومحاولة تبرير الاخطاء منها وإيجاد الأسباب والتبريرات التي أدت الى الخطأ . فقد كان أسلوب عزيز سباهي واضحا في التحيز إلى الاتجاه السياسي الذي يؤيده ويعتبره الاتجاه الصحيح وهذا ليس تاريخا بالمفهوم العلمي للتاريخ . وكانت رؤية الحزب منذ مؤتمره الثاني ١٩٧٠ بتكليف لجنة حزبية لكتابة تاريخ الشيوعيين العراقيين التي تعمدت بالبطولة والفداء وقد تخللت مسيرته عثرات ونواقص فلابد من الوقوف عندها وتقييمها ، وقد حدا بقيادة الحزب بتكليف عزيز سباهي ١٩٩٩ بإنجاز هذه المهمة ورغم صدوره بثلاثة أجزاء عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي لكن لم يعتبر الحزب الشيوعي كتاب الرفيق سباهي وثيقة حزبية رسمية . وحسناً فعل ، فالكتاب رغم الجهد الكبير الذي بذل في تأليفه ، يحمل وجهة نظر مؤلفه القابلة للنقاش .
محمد السعدي
مالمو/شباط ٢٠٢١


51
بين وحدة فورية واتحاد فدرالي ضاع العراق

 
تعتبر احدى من ركائز نجاح ثورة 14 تموز  1958في العراق الملكي (المنتدب بريطانياً ) ، قيام جبهة الاتحاد الوطني التي تأسست عام 1957 والتي ضمت بين جناحيها الأحزاب التي تعمل في الساحة العراقية الشيوعيين والبعثيين والوطنيين والمستقلين أضافة الى القوى الكردية ، وواحدة من اهدافها الرئيسية التي انطلقت من أجلها ازاحة النظام الملكي القائم منذ 1921بتنصيب الملك فيصل الاول ملكاً على العراق القادم من الحجاز  .

تطلعات المستقبل .

ولم يكن هناك خلافاً بين أهداف تلك الاحزاب في تطلعاتها لمستقبل العراق ، وكان للشيوعيين دور كبير في التنسيق حول آلية العمل الوطني وداعم لتلك الاحزاب في تطلعاتها وبرامجها ، ولم يكن هناك خلاف أو تفاوت في المواقف بين الشيوعيين والبعثيين عندما تحول لاحقاً الى صراعاً دموياً ، وقد أقدم الشيوعيون قبل قيام ثورة تموز في أطار العمل الوطني والتنسيق بدعم لتنظيمات حزب البعث بطابعة سرية لطبع منشوراتهم وتوزيعها .  في الاسابيع الأولى من عمر ثورة تموز دب الخلاف بين أحزابها وقادتها وبين قطبيها الصديقين اللدودين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ، وقف الشيوعيون وهم القوة الفعلية في الشارع مع زعيم الثورة عبد الكريم قاسم ووقف البعثيون والقوى القومية مع قائد الثورة عبد السلام عارف بالتنسيق مع رئيس جمهورية مصر جمال عبد الناصر الداعم الأول لهم، وطالبوا أنصاره بالوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة وقابلهم الشيوعيون وأنصارهم باتحاد فدرالي … ونقطة نظام ضاع العراق ؟.  ولم يكن موقف السوفييت وهم القطب الذي يفترض أن يكون موقفه واضحاً وداعماً لمسيرة ثورة تموز بفرضية الدعم الاممي من خلال حضور الشيوعيين الفعلي والميداني في دعم ثورة 14تموز ودورهم ومشاركتهم بها  ، لكن كانت لمصالحهم حظوة أكبر في تحييد مواقفهم على حساب مصالح الشعوب والاوطان  ، فظلوا الى آخر يوم يراهنون على سياسة ومشاريع عبد الناصر في تحقيق نظام اشتراكي عربي وتحقيق العدالة الاجتماعية على حساب تأزم الاوضاع في العراق واحتدام الصراعات بل ساهموا في تأجيجها لصالح القوى المعادية لمنجزات ثورة تموز ، وطيلة عمر الثورة واكبتها الخلافات والصراعات بين أحزابها وقادتها ولم تكن تلك المواقف المعادية لأهدافها والاطاحة بها مخفية فكانت هدفا أساسيا في خطابات الرئيس جمال عبد الناصر في الهجوم عليها وعلى قادتها وعلى القوى المناصرة لها الشيوعيين ، بل نصبت إذاعات ووكالات أنباء ودعم لوجستي وعسكري للأطاحة بها ، كما وقع يوم 8 شباط 1963.
والذي يتحمل الزعيم قاسم مسؤولية ليس قليلة في الاخفاق للتصدي للانقلابين وعرقلة انقلابهم في ذلك اليوم المشؤوم التي تمر ذكراه هذه الأيام .
في صبيحة ذلك اليــــــوم الجمعة  8 شباط 1963وقد سبقته تحركات مشبوهة لم تكن بعيدة عن دراية الزعيم وسمعه وأطراف حديث متناقل بين الاوساط السياسية ، لكن الخلاف حول لحظة الانطلاق المنتظرة بدل المبادرة في الاجهاز عليها ، فباشروا في ذلك اليوم المشمس في سماء بغداد بساعة الصفر باغتيال الشيوعي جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية إمام عتبة بيته وتحت مرأى أبنه الصغير ، كان اغتياله لحظة انطلاق سرب الطائرات من قاعدة الحبانيه بقيادة منذر الونداوي وتحرك رتل الدبابات من كتيبة المثنى في أبو غريب بقيادة خالد مكي الهاشمي باتجاه وزارة الدفاع والمواقع العسكرية المهمة تحت بيانات الانقلابيين من مرسلات الاذاعة في أبو غريب . الغريب في أمر الزعيم قاسم يتوجه الى وزارة  الدفاع وفي الوقت الذي كان تحت مرمى الهدف وتحت قصف الانقلابيين ن مما حصر حاله داخل المبنى وتقطعت كل سبل اتصالاته مع قادته بل تمردوا عليه بعد أن شعروا بضعف موقفه وتخلي القطعات العسكرية عنه أمام شدة القصف الجوي وتقدم الدبابات المعادية في محاصرة وزارة الدفاع وموقفه الغريب أمام الجماهير التي زحفت من الاحياء الشعبية الفقيرة للدفاع عنه بعدم تسليحها للدفاع عنه وعن الثورة ومن جانبي لايمكن تفسيره الا خوفه من الشيوعيين لأخذ المبادرة والانقلاب علية وأنا ضد فرضية حقناً لأراقة الدماء ، فالدماء سالت منذ الصباح الباكر ، لكن الظاهر بيان سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي المدوي في شوارع بغداد منذ اللحظات الاولى للانقلاب فسر من قاسم وصحبه سوءاً . الزعيم قاسم كان هو الادرى بمصيره منذ الساعات الاولى للانقلاب ، عندما أتصل بطاهر يحي وسأله عن فرصة التفاوض فكان الرد نريد رقبتك وأيضا قادة آخرين ، فكان الأجدر به وهو يعرف مصيره أن لايسلم نفسه لهم وان يموت واقفاً أذا تعذر عليه التسلل ليلاً من مبنى وزارة الدفاع الى وســـــــــــــــــــط الجماهير التي تهتف بأسمه .
لقد مضى على رحيل الزعيم قاسم أكثر من نصف قرن ولم نحظ بوحدة فورية ولا اتحاد فدرالي حتى الذين طالبوا بها تخلوا عنها عندما جلسوا على الكراسي . ومنذ ذلك اليوم يدفع العراقيون دماءاً غزيراً ولم يتوقف الى يومنا هاذا ، قد تكون مرحلة حكم عبد الرحمن عارف قد شهدت هدوء نسبي بعض الشيء لكنها لاتشكل شيئا حيال المنعطفات التي مرت بحياة العراقيين .

محمد السعدي
مالمو/شباط٢٠٢١

52
المنبر الحر / سيرة رجل زاهد .
« في: 21:23 06/02/2021  »
سيرة رجل زاهد  .

خوزيه موخيكا ، مزارع أوروغواي وسياسي ، حياته مفعمه بالنضال والزهد والبساطة  شغل منصب الرئيس الأربعين الأوروغواي من عام ٢٠١٠ إلى عام ٢٠١٥ . سجن لمدة ١٢ عاما خلال الديكتاتورية العسكرية في السبعينيات والثمانينيات . يلقب بأفقر رئيس دولة في العالم . عاش حياة زاهدة طيلة توليه رئاسة جمهورية الأوروغواي بعيداً عن برستيج حياة المسؤولين والرؤساء في البذخ والمجن . ويقيم في مزرعة بسيطة في منزل زوجته لوسيا توبولانسكي بالقرب من العاصمة الأوروغوانية مونتفيدو ولا يملك الا سيارة فولكس فاجن بيتيل صنعت عام١٩٨٧. بسبب أسلوب حياته التقشفي وتبرعه بقرابة تسعين في المئة من راتبه الشهري الذي يساوي١٢٠٠٠ دولار أمريكي للجمعيات الخيرية والشركات الناشئة والناس المحتاجه . عرض الرئيس الأروغواني خوزيه موخيكا للمصالح الاجتماعية في حكومته في شتاء عام٢٠١٤ بفتح أبواب قصره الرئاسي المعروف بكاسا سواريث أي رييس للأشخاص المشردين في حال عدم اكتفاء مراكز إيواء المشردين في العاصمة . وقد رافقت تلك الدعوة الى تدفق أعداد كبيرة من الجالية السورية الى هذا البلد الآمن . 

في بداية حياته أنضم الى المقاومة الثورية كان مقاتلاً سابقاً في منظمة ( توباماروس ) الثورية اليسارية وهي جماعة سياسية مسلحة مستوحاة من الثورة الكوبية. دافع عن مصالح بلده وحقوق شعبه تجسيداً لمسيرة حياته النضالية كمناضل يساري وتحمل سجون وحرمان من رغد العيش في حياة طبيعية .
في سبتمبر ١٩٧١ تمكن مع رفاقه من الهروب من السجن عن طريق حفر نفق من داخل السجن انفتح في غرفة المعيشة في منزل قريب. أُعيد القبض على موخيكا بعد أقل من شهر من هروبه ، لكنه هرب من بونتا كاريتاس مرة أخرى في أبريل ١٩٧٢. تلك المأثرة النضالية تعيد بنا الى عام ١٩٦٧ ، عندما حفر الشيوعيين العراقيين في سجن الحله نفقاً للهروب منه ، وكان للمرحوم حسين سلطان مشرفاً على عملية الحفر والهروب مع الشاعر الكبير مظفر النواب ، وقد أدى بهم تلك النفق الى مرآب السيارات ، وأثناء خروجهم الى الساحة بأول الفجر توقع حارس المرآب أنهم أشباح يخرجون من تحت الأرض .

ولد موخيكا في ٢٠ مايو ١٩٣٥، لديمتريو موخيكا ، من أصول إسبانية من الباسك ،ولوسي كوردانو ، ابنة مهاجرين إيطاليين. كان والد موخيكا مزارعًا صغيرًا أفلس قبل وقت قصير من وفاته في عام١٩٤٠ ، عندما كان ابنه في الخامسة من عمره ، كان والد والدته من المهاجرين الفقراء للغاية من ليغوريا. ويرفض موخيكا في الحصول على أي راتب تقاعدي عن فترة خدمته كمناضل يساري وسجين سياسي سابق وعضو في مجلس الشيوخ ورئيساً للدولة رغم ما حققه من خطوات وأنجازات لشعبه ووطنه .

كانت من أول أهتمامات  "موخيكا" في فترة حكمه والتي أمتدت لخمسة سنوات التركيز على إعادة توزيع الثروة في بلاده بشكل عادل  ولتشمل كل فئات المجتمع ، وقد تمكن مع حكومته من خفض معدل الفقر من 37% إلى 11%، وشهدت الأوروغواي ، انخفاضاً كبيراً في معدلات الفساد، وتضاعُف مؤشرات الشفافية، حيث سجلت المنظمات الدولية أوروغواي الدولة الأقل فساداً في أميركا اللاتينية، ويرجع ذلك إلى إحساس "موخيكا" العميق بالفقراء والكادحين وتاريخه النضالي والتضحيات التي قدمت مع رفاقه لأجل ناسه وشعبه ، فهو لم ينسَ ، وكان على الدوام يضع نصب عينيه ظروف نشأته الفقيرة ومعاناة الناس من الفقر والتوق الى الآمان والحرية ، ولم ينسى نشأته وطفولته ، ويتذكر الايام عندما كان في صباه بائع زهور في شوارع العاصمة من أجل سد رمق الجوع .
كان "موخيكا" من أشد المعارضين للحروب ويعتبرها إنتهاك لحرمة البشر وتؤدي الى الهلاك والتخلف ، ويقول: "إن العالم ينفق مليارات الدولارات على الحروب، ولو أنفق ربعها على التنمية لتغير وجه العالم"، وكان دوماً يقترح المفاوضات حلاً وحيداً للصراعات وتجنب الكوارث ، ويؤمن بلغة الحوار ، ويصر أن الطريقة الوحيدة لضمان السلام العالمي هي بث روح التسامح والعفو . ومن شعاراته: "التقشف هو جزء من النضال من أجل الحرية”. وتأمين حياة آمنة لشعبه .
أما أولوياته في الحكم، فكانت التعليم ركن أساسي في تطور المجتمع والرقي به الى مصافي السلام والبناء ، حيث قال: "لا بد من الاستثمار أولاً في التعليم؛ فالشعب المتعلم لديه أفضل الخيارات في الحياة، ومن الصعب أن يتعرض لخداع الفاسدين”. وركز في حياته كمسؤول للدولة على مفاصل التربية والتعليم وأهميتها في حراك وتطور الشعوب ، ولم يبخل يوماً في دعمها ومقومات تطورها .
ومن أقواله أيضاً: "السلطة لا تغير الأشخاص، ولكنها فقط تكشف حقيقتهم”.

بعد أن أنهى فترة رئاسته، لم يحاول تغيير الدستور، ولم يسعَ لتمديد حكمه، بل سلَّم السلطة لمن أتى بعده بسلاسة وبروح رياضية معرباً عن أمله للرئيس الجديد بمواصلة نفس الطريق في التنمية والبناء ، واختار العيش في حياة بسيطة، على سجيته، ليكون مثالاً فريداً في التاريخ يقتدى به ، في العدل والزهد.. وأنموذجاً للرئيس الذي يسعى لخدمة شعبه والتقرب منه، ليس بالشعارات فقط، وإنما بالعيش معه، وعدم التعالي عليه . وبمقارنة ما يجري اليوم في عالمنا من أنظمة حكم وبرلمانات ومجالس وأحزاب بعيدة عن تلك المثل والتقاليد في بناء الانسان والبلدان .

محمد السعدي
مالمو/شباط٢٠٢١ .

53
فردية الفرد العراقي .


لم أدعي يوماً طيلة مسيرة حياتي وفي أطار تجربتي الشخصية المتواضعة أن أمتلك الحقيقة ولاحتى نصفها في أطار سجلي الشخصي ، الأ بعض المواقف والاحداث والتي استوقفتني في تجربتي الشخصية ، ولم أغامر أن أدلو بدلوي أو أن أقيم أحداً أو أتخذ موقفاً عبر رأي الآخرين والسماع منهم ، أو أتبنى إشاعة حول حدث أو شخص الأ أذا كنت جزء من صميم الحيثيات عبر رؤيتي الشخصية . في العراق وحياة العراقيين الأمر يختلف تماماً في رسم الصور وتقييم الاحداث والبت في القضايا اعتماداً على القول والاشاعة وهي الطاغية في عراق اليوم في تحديد مسارات الناس والاجحاف في حقهم تعد ماركة عراقية مسجلة بإمتياز . في مسيرة غربتي والتي أقتربت من أربعة عقود متتالية وفي تجارب مختلفة مع النسيج العراقي المختلف في الآراء والانتماءات فالآمر سيان . أن كنت شيوعياً أو اسلامويا أو قومياً حيث تتقاذفك الدعايات أينما حللت ورحلت لموقف معين أو لنسمة اعتراض على السياسة العامة أو لبرهة اختلاف في الرأي . بعد رحيل الدكتاتورية على يد الاحتلال الامريكي عام ٢٠٠٣ وما أعقبها من أرهاصات سياسية أدت الى ائتلاف طائفي عرف بالعملية السياسية قادت البلد والعباد الى الهلاك والخراب . لا أحد يختلف على سياسة النظام السابقة وممارساته في تفتيت وحدة نسيج المجتمع العراقي أعتمدت بناءاً على عقلية وبنية الشخصية العراقية وأزدواجيتها في القرار والموقف .



حلل علي الوردي عالم الاجتماع العراقي الشخصية العراقية على اعتبارها شخصية ازدواجية تحمل قيم متناقضة هي قيم البداوة وقيم الحضارة . في لجة انهيار الدكتاتورية وغياب سطوة سلطتها المنفرطة على رقاب العراقيين ، والذين انفرطوا في اعلان الوفاء لها تحت جملة مسميات وكلاء أمن ومخبرين وخطوط وطنية فلا غبار عليها ولا لوم على ما إجبروا عليه  لأنها دكتاتورية ونظام قمعي تبنى أساليب شديدة في القساوة الى حد التغيب والموت ، وعلى القوى السياسية التي عادت مع أجندات الاحتلال أن تستوعب حجم الظروف الصعبة التي مر بها شعبنا ، لكن الغريب في الأمر ، الذي يتوجب الوقوف حياله حول تلك الشريحة الاجتماعية والتي تناست مواقفها السابقة ، من ذل وطاعة ونفاق وتقارير لأجهزة النظام السابقة لقد راحت تكيل الاتهامات للمناضلين الذين دفعوا حياتهم قرباناً لشعبهم ووطنية مبادئهم . تصلني أحياناً أطراف حديث وكلام مبتذل ودعوات للبطولات المزيفة تحت غطاءات سياسية من الذين تعاونوا مع نظام البعث حول شخصيات ومناضلين حقيقين تبنوا مواقف معارضة من المشاركة في العملية السياسية أو أتخذوا مواقف وطنية معارضة من آلية العملية السياسية وخطوطها العامة والمواقف الوطنية .


وما تحدث وجاء به الاستاذ علي الوردي من خواص الشخصية العراقية التي تعتمل بداخلها ثلاث خواص متفاعلة هي: ازدواج الشخصية والتناشز الاجتماعي وصراع البداوة والحضارة ، ام مرده صفة النفاق التي تحدث عنها الخليفة الرابع علي بن ابي طالب في معرض ذمه أهل البصرة بعد موقعة الجمل في خطبة له قال فيها: «أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق»، أم انها الوصولية والنفاق  التي اضحت ملتصقة بالشخصية العراقية ، يستفزني دوماً منظر منقول من ساحات الاحتجاج أحدهم يرفع لافته عريضه وطويله ضد الفساد وهو يستلم أربعة رواتب ويحاول جاهداً أن يستلم الخامس من سحت المال الحرام . وينبّه الوردي إلى أن العراقي بهذه الصفات "ليس منافقاً أو مرائياً كما يحب البعض أن يسمه بذلك، بل هو في الواقع ذو شخصيتين، وهو إذ يعمل بإحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الأخرى، فهو إذ يدعو إلى المثل العليا أو المباديء السامية، مخلّص فيما يقول، جاد فيما يدّعي، أما إذا بدر منه بعدئذٍ عكس ذلك، فمردّه إلى ظهور نفس أخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فَعَلتْ”. العراقيين شعب مغلوب على حاله وتتغلب عليه دراما العواطف وفي أحايين كثيرة تذهب بهم بوصلتهم الى متاهات وتقيمات وتسلكات بعيداً عن المألوف . تبنوا مواقف وأتخذوا قرارات بحق ناس لم يلتقوا بهم يوماً ، فحددوا موقفهم بناءاً على آراء الآخرين ، والتي في الغالب تكون بعيدة عن الأنصاف والموضوعية ، وسجلنا العراقي ممتليء بهذه الصور المؤلمة ، وقد غذيت تلك الظاهرة على مر العصور والأنظمة من قبل الاحزاب والكيانات السياسية بدوافع وأجندات لاتمت الى الواقعية والعقلانية والضميرية بصلة في بناء الشعوب والمجتمعات والاوطان .


محمد السعدي

مالمو/٢٠٢١


54
النفخ في قربة مخرومة .
محمد السعدي
الأوضاع السياسية في العراق وتداعياتها على كافة الأصعدة تدعوك الى الحذر والخوف من القادمات المخيفة ، وفي رأي المتابعين عن ما يجري اليوم ليس بجديد ، لكنه تصاعدت وتائره في الأونة الأخيرة على قرب موعد الأنتخابات المزمع أجرائها في حزيران عام ٢٠٢١ . الاصطفافات الجديدة التي يدعو لها بعض قادة الكتل السياسية والميليشيات الطائفية كالنفخ في قربة مخرومة ” حيال ما يجري بالواقع اليومي في الساحات العراقية والمنتديات الثقافية من رفض وتظاهرات وتحدي على أساليب وسياسات الكتل السياسية ومشاريعها الطائفية ومزاريب الفساد .
السيد مقتدى الصدر يدعو الى ترميم البيت الشيعي والاستعدادات لخوض الانتخابات حالماً بمئة مقعد نيابي ، وستكون حصة رئيس الوزراء هذه المرة من أستحقاقات التيار الصدري ملمحاً بأشارات واضحة ضد القوى المدنية والليبرالية والشيوعية ، بعد أن شكل تحالفاً معهم في دورة الانتخابات السابقة تحت مسمى ( سائرون ) ، وزج في هذا التحالف أسماً وهمياً تحت حزب الأستقامه لصاحبة السيد حسن العاقولي ، والذي بدوره أختفى تماماً بعد إنجاز تلك اللعبة السياسية ، أما القوى المدنية أو اليسارية أن صح التعبير راحت تنفخ ليل ونهار في قربة مخرومة عن أحلام السيد مقتدى الصدر في التحول الى الديمقراطية وبناء وطن حر وشعب سعيد ، كما جاء على لسان أحد المدفوعيين لقادة هذا التحالف عندما سأل في برنامج تلفزيوني عن فرص تحقيق شعار وطن حر وشعب سعيد يداً بيد مع سماحة السيد مقتدى الصدر ، ربما ما زالت لعنة بناء الاشتراكية يداً بيد مع كاسترو العراق شبحها يطاردنا أينما حللنا ، التحالفات والانتقال بها من قوى فاشية كحزب البعث الى ميليشيا إسلامية متخلفة تستدعي المراجعة والنقد والوقوف مع الذات وأعادة النظر في السياسات القديمه بعقل سياسي وفكري نظيف ومسؤول .
خطوة السيد مقتدى في تحالف ( سائرون ) مع القوى اليسارية والمدنية لم تكن من عندياته وإنما بتوجيهات من قوى طائفية أخرى لا تضمر للعراق خيراً ، رأت في ذلك بعد أن تصاعد رصيد القوى المدنية في الشوارع والساحات العراقية مقرونة بحملة كبيرة في رفض الطائفية ومحاربة الفساد ، رأت تلك القوى المتخلفة في شخص كمقتدى الصدر أن يلعب هذا الدور بسيناريو معد مسبقاً في إحباط هذا المشروع المدني والديمقراطي من خلال جملة تحولات في المطالبة في الاصلاح والتغير ، وقد أنطلت تلك اللعبة على القوى المدنية لتتحمل نتائجها السلبية في المشهد السياسي العراقي المتشرذم .
رأي في السيد مقتدى خارج قياسات التاريخ …..
(السيد مقتدى الصدر شخصية إسلامية ذات عمق تاريخي ويعمل من أجل مصلحة العراق وأنه ماض وجاد باتجاه إقامة الدولة المدنية)) رائد فهمي. سكرتير الحزب الشيوعي العراقي ).
اليوم السيد مقتدى في دعوته الطائفية بترميم البيت الشيعي لم تستجيب لدعوته تلك القوى الطائفية الشيعية في الواقع العملي وربما رافقت بعض التصريحات الإعلامية المنافقة لتلك الدعوة البائسة ، لكن في النتيجة هناك مشتركات بين تلك الكتل في موضوعات الطائفية والجهل والفساد ومحاربة القوى المدنية واليسارية وقمع التظاهرات وإغتيال الناشطين .
قبل الانتخابات عام ٢٠١٨، قام سياسي كبير في إيران، علي أكبر ولايتي، بزيارة العراق وأدلى بتعليقات تم تفسيرها على أنها ضد التحالف ( سائرون ): “لن نسمح للليبراليين والشيوعيين بالحكم في العراق” التعليقات التي انتقدها نواب عراقيون علمانيون ان لاأحد يحق له التدخل في الشؤون العراقية.
ما يقوم به اليوم التيار الصدري ومسمياته العديدة والتي تصب في مجرى واحد هو الطائفية والجهل والتخلف وبتوجيه مباشر من السيد مقتدى في قتل الناشطين والمعارضين وذو العقل النظيف المحب للعراق .
محمد السعدي
مالمو/٢٠٢١

55
ماركس والماركسيون .


في الوهلة الأولى، عندما قرأت مقال "في معنى أن تكون ماركسياً"، قفز إلى ذهني قولاً لكارل ماركس: التاريخ لا يفعل شيئاً، إنه الإنسان الحقيقي الحي الباحث القارئ هو الذي يفعل كل شيء ، في السنوات الأخيرة لفتت انتباهي دراسات وبحوث واستنتاجات وكتب الدكتور عبد الحسين شعبان حول مفهوم الماركسية والتعامل مع مقولاتها في الواقع العملي بعقل نقدي متحرر وباحث. وفي سنوات مضت قرأت باهتمام كتابين مهميّن للدكتور شعبان تصب بنفس المنحى والاتجاه حول عقل الماركسية المتجدد والمتفاعل مع ثمة قضايا مهمة في مسيرة البناء الإنساني والاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة والثقافة" تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف". وكذلك: الحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية.

المقال المنشور في مجلة الشراع وعنها نقله أكثر من موقع وصحيفة بعنوان "في معنى أن تكون ماركسياً" - ماركس الحلقة الذهبية الأولى في التمركس (الجزء الأول وما زلنا ننتظر الجزء الثاني)، لاقى اهتماماً وردوداً من متابعي الفكر والسياسة بما تضمنّه من رؤى وتطلعات وحلول للمجتمع الإنساني عبر المفهوم الماركسي والنظرية في التطبيق العملي عبر الجدل والفهم من روح النظرية والنتائج السلبية في فشل التجربة الاشتراكية على أفكار ماركس .

كارل ماركس.. فيلسوف ألماني، اقتصادي، عالم اجتماع، مؤرخ وثوري. ويعتبر من أعظم الاقتصاديين في التاريخ، ومن أهم إنجازاته البيان الشيوعي، ورأس المال.

يقول ماركس: الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة، الطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً، وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً. وفي سعييه الفكري المتواصل لا يترك فرصة دكتور شعبان إلّا وقام في تقليب جديد لمفاهيم الماركسية في قالبها المتجدد باعتبارها نظريّة حيّة ومتجدّدة ومُلهمة في الفكر والاستيعاب. لم يعد مخفياً في الربع الأخير من القرن الحالي ما تركه الدكتور شعبان من اجتهادات جديدة ودراسات مهمة ومختلفة وخارجه عن المألوف التقليدي حول الجدل الفكري للفكر الماركسي والذي خضع لسنوات طويلة إلى تابوهات ضيّقة وجامدة، وهناك من اعتبر انهيار التجربة الاشتراكية في مطلع التسعينات دليل على فشل النظرية الماركسيّة، فتركت على رفوف المكتبات فأهملت بقصد، لكن الدكتور شعبان في قراءاته الجديدة حولها قدمها للقارئ العربي بأسلوب آخر جديد تماماً من خلال وحيها الفلسفي والاقتصادي والفكري كعقل متجدد في مواكبة حركات الشعوب وبناء أنظمتها السياسية وبرامجها الاقتصادية ولم يغفل الجوانب الديمقراطية وحرية النقد والبناء ومنظومة عمل الأحزاب التي تعمل تحت لوائها في بناء هياكلها التنظيمية وتطوير أفكارها من خلال السجال وقبول الرأي الآخر والنقد.


محمد السعدي

56
وقفة في كتاب عمرو موسى 


صدر لأمين العام للجامعة العربية السابق عمرو موسى كتابه ” سنوات الجامعة العربية ”الصادر عن دار الشروق بالقاهرة وحرره الصحفي خالد أبو بكر . ما يهمني في تلك المذكرات ورغبة تسليط الضوء عليها هو الملف العراقي أبان أحتلاله ٢٠٠٩ ، وعندما كان عمرو موسى أميناً عاماً للجامعة العربية من ٢٠٠١ حتى ٢٠١١ ، وقد تضمن الكتاب في طبعته الثانية ٦٣ صفحة حول الوضع في العراق ومعركة الهوية العربية كما يصفها  ، والذي يذكر فيها جسامة الخوض لمعركة الدفاع عن عروبة العراق والهوية العربية للعراق في سن الدستور العراقي الجديد من قبل هيئة مشكلة من مجلس الحكم الأنتقالي بعد إحتلال العراق والتداعيات الخطيرة التي أفرزتها الحرب .

يستذكر عمرو موسى في كتابه  ” جاءت ليلة ١٩/٢٠ أذار ٢٠٠٣ ، حيث تجرعت شخصياً نفس تلك المرارة التي تجرعتها بعد هزيمة سنة ١٩٦٧ ، إذ بدأ غزو العراق لكن ماذا عساي أن أفعل أكثر مما فعلت لوقف تلك الحرب الجهنمية التي تدخل بلداً عربياً رئيسياً الى المجهول ، في ظل تشرذم عربي ، يكبح أي قدرة على الفعل ؟.


العراق يعد من مؤسسي الجامعة العربية وعضو فعال ومهم بها وبقراراتها المصيرية ذات الشأن العربي ، وأن طمس الهوية العربية للعراق على ضوء مسودة الدستور الجديد للعراق أعتبرها عمرو موسى سابقة خطيرة بأتجاه مسح هوية العراق العربية وتداعياتها على مستقبله ومستقبل جيرانه .


ولقد ذكر في كتابه ” حدث في صباح 29 آب 2005 أنني كنت أستمع لإذاعة BBC في طريقي من بيتي إلى مقر الأمانة العامة للجامعة العربية. وإذ بتقرير يتناول المساجلات الدائرة بشأن الدستور العراقي. وركز التقرير على مادة مرتبطة بهوية العراق جاء نصها كالتالي: "الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية"، بحجة أن الشعب الكردي هو جزء من الأمة الكردية المقسمة في الشرق الأوسط، فإذا قلنا إن كل الشعب العراقي هو جزء من الأمة العربية، فنلغي بذلك وجود الشعب الكردي، كما كان يردد الرئيس العراقي جلال طالباني في تلك الأثناء.

هنا يبرز عمرو موسى الدور الكردي في التأكيد على مضامين الهوية العربية في صيغة الدستور الجديد والذي يعتبرها معركة تخوضها الجامعة العربية بشخصة من أجل عروبة العراق ، يبذل تحركاً نشيطاً على كافة المستويات أعلامياً وأتصالات عبر عدة قنوات ما أجل تضمين الدستور العراقي الجديد في التأكيد على الأنتماء العربي لهوية العراق .

ويقول في معرض حديثه في كتابه ” على الفور طلبت إذاعة BBC تليفونياً. قلت للمسؤولين فيها: إن لدي تعقيباً على موضوع الدستور العراقي. فأدخلوني على الهواء مباشرة. صرحت بأن موضوع طمس الهوية العربية للعراق مسألة لا يمكن قبولها، وأن الجامعة العربية سوف تظل على اتصالاتها مع المسؤولين العراقيين لتعديل ذلك النص المعيب الذي لا يجعل العراق بكامله دولة عربية وجزء من العالم العربي.

في ذات اليوم اتصل بي هوشيار زيباري، وزير خارجية العراق وصديقي العزيز. سألني بنبرة هادئة: إيه اللي مزعلك يا سيادة الأمين العام في موضوع الدستور؟


قلت: اسمع يا هوشيار.. النص الخاص بهوية العراق في مشروع الدستور "موش مريحني" لا يمكن أن يمر بهذه الصيغة. أنتم تقولون الشعب العربي فقط في العراق جزء من الأمة العربية. وأنا هنا أسألك: هل أنت مندوب العراق في الجامعة العربية أم مندوب الشعب العربي في العراق وأنت كردي؟


قال: مندوب العراق كله.


قلت إذن لابد من تعديل هذه المادة.


قال الرجل وهو ما يزال يحتفظ بهدوئه ورغبته في التوصل لصيغة مرضية للجامعة العربية: طيب شوف يا سيادة الأمين العام الصياغة التي تراها مناسبة ونتناقش فيها مع بقية الأطراف في العراق.


قلت له: سأكتب نصاً وأتصل بك في وقت لاحق من اليوم.


بعد أن أنهيت اتصالي بهوشيار بوقت قصير اتصل بي برهم صالح (الرئيس برهم صالح رئيس الجمهورية العراقية حالياً)، وكان وقتها نائباً لرئيس الوزراء، وهو شخصية رصينة وصديق عزيز، وهو أيضا كردي من حزب جلال طلباني (الاتحاد الوطني الكردستاني)- أما زيباري فمن حزب مسعود برزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني)- قال لي سمعنا أنك غاضب من مشروع الدستور العراقي، ونحن حريصون على إرضائك وإرضاء الجامعة العربية.


قلت: شوف يا برهم.. لا يمكن قبول الصيغة التي تتحدث عن أن الشعب العربي في العراق هو فقط الذي يشكل جزءاً من الأمة العربية. هذا معناه قطع الصلة بين العراق باعتباره دولة عربية مهمة منذ إنشائه وبين عالمه العربي، ومعناه أيضا تقسيم العراق.. ودعني أسألك: أليس هوشيار زيباري هو وزير خارجية العراق ومندوبه في الجامعة العربية؟ بصرف النظر عن هويته الكردية؟


قال: لا توجد له صفة أخرى.. هو ممثل الدولة العراقية.


قلت: إذن يجب إعادة النظر فى تلك الصيغة السيئة.


قال برهم: وما هي الصيغة التي تقترحها؟ .

ولم يتوانى موسى في الوقت من أجل إيجاد صيغة تليق بموقع العراق العربي ودوره المميز . وكما ورد في هذا النص ….


كنت بالفعل قد جهزت صياغة حرصت على أن تضمن بشكل قاطع التأكيد على الهوية العربية للعراق بكامله، وفي نفس الوقت لا تغضب بقية القوميات غير العربية؛ فاقترحت النص التالي: "العراق عضوٌ مؤسسٌ في جامعة الدول العربية وملتزمٌ بميثاقها وتنفيذ قرارتها"، ومن وجهة نظري معنى أن ينص الدستور على أن العراق عضواً مؤسساً في الجامعة العربية وملتزم بميثاقها وقراراتها أنه بلد عربي.


في تمام الرابعة من عصر ذات اليوم تلقيت اتصالاً هاتفياً من زلماي خليل زاد السفير الأميركي في العراق، وهو صديق من أيام عملي مندوباً دائماً لمصر في الأمم المتحدة (1990- 1991)، كان قد تم تعيينه سفيراً للولايات المتحدة في حزيران 2005 وهو مسلم سني من أصل أفغاني. قبل أن يتحدث قلت له: هل أنتم (الأميركان) من يقف وراء محاولة تغيير الهوية العربية للعراق في الدستور؟


قال: على الإطلاق.. لسنا طرفاً في هذا الأمر حتى ولو بالإيحاء من أطراف أخرى.


قلت: لقد دار بيني وبين هوشيار زيباري وبرهم صالح حديث طويل في هذا الأمر، واقترحت صيغة أتمسك بها بصفتي أميناً عاماً للجامعة العربية.


قال: أنا على علم بما دار بينكم، والصيغة التي اقترحتها أمامي. كل ما أطلبه منك هو أن تمنحنا فرصة لإنجاز الأمر دون تصعيد إعلامي، والأمور ستمضي إلى ما تريد.


قلت له: ماذا تقصد بالفرصة؟


قال: ساعتين أو ثلاث على الأكثر.


عدت إلى منزلي بعد الظهر، رحت أجوب في حديقة المنزل ذهاباً وإياباً عشرات المرّات في انتظار ما ستؤول إليه نتائج هذا اليوم العصيب الذي تتعرض فيه هوية بلد عربي مؤسس للجامعة العربية للذوبان. أكاد أجن كلما تصورت أن الدستور العراقي يمكن أن يصدر بصيغة تجعله بلداً غير عربي أو ناقص العروبة.


ثم دق التلفون بعد صلاة العصر. كان برهم صالح هو المتصل. قال لي: أولا أهنئك يا سيادة الأمين العام. لقد وافقنا على النص الذي اقترحته، وثانياً أرجو أن تتذكر أن الذي قام بجهد كبير لتمرير هذه الصيغة العربية وأبلغك بقرار تمريرها مسؤول كردي هو أنا.

وبعد خوض تلك المعركة والسجالات اليومية والنتائج التي توخت عن تلك الجهود ، قدم عمرو موسى شكره المتناهي الى القادة الكرد لدورهم في تغير بنود الدستور الجديد حول هوية العراق العربية .



وأود أن أسجل فى كتابي هذا شكري وتقديري العميقين للرئيس برهم صالح والوزير هوشيار زبيارى وطبعاً للرئيس طالباني (رحمه الله) والرئيس مسعود برزاني الذين لم يكونا بعيدين عن هذه الملحمة الدبلوماسية، وعن تسهيل التفاهم بشأن الصياغة الدستورية المتعلقة بهوية العراق، وكذلك للسفير زلماي خليل زادة لدوره في هذه المسألة .


 


التداعيات الخطيرة التي أفرزتها الحرب .



قالت كوندريزا رايس أبان غزو العراق :” لم نذهب الى العراق لننشر الديمقراطية ولم يدخل روزفلت الحرب ضد هتلر لتحويل ألمانيا الى بلد ديمقراطي .

 الغزو الأمريكي للعراق وإحتلاله لقد جرى تعيين الجنرال الأمريكي "جي غارنر" بمثابة الحاكم العسكري لبلاد الرافدين، تحت مسمى إدارة "مكتب إعادة إعمار العراق" الذي تشكل قبل الغزو بثلاثة أسابيع واتخذ من الكويت مقراً له، بهدف إدارة العراق بعد الحرب. شغل غارنر منصبه اعتبارا من 9 نيسان إلى 12 أيار 2003، وكان مجهوده الرئيسي ينصب على استعادة عمل مرافق الدولة العراقية، التي تعرضت للسلب والنهب منذ دخول الأميركان، وقد فشل غارنر فشلاً ذريعاً وأعيد الى بلده .


بعد غارنر وفي اليوم التالي لعزله ، خلفه الدبلوماسي الأمريكي ، بول بريمر تحت مسمى "الحاكم المدني للعراق" الذي كان فشله أفدح ، لجهله المطبق بأوضاع العراق السياسية والعشائرية والأثنية. كان رجلاً جاهلاً، اعتمد على مستشارين من طائفة معينة ، وهذه الطائفة رغم أنها طائفة عربية محترمة، لكن كان ينتسب إليها بعض الرافضين للعروبة، ولديهم فهم طائفي ضيق للغاية، ومن هناء جاء قرار بريمر في 23 أيار 2003 - أي بعد تعيينه بأقل من أسبوعين - بحل القوات المسلحة العراقية، وكذلك الأجهزة الأمنية، ما جعل العراق بعد ذلك مفتوحاً على مصراعيه للتدخلات الخارجية، خصوصاً الإيرانية.


الحقيقة أن الغزو الأميركي للعراق أفرز تداعيات خطيرة لا تزال تتفاعل، وخلَّف وضعاً جديداً تطلَّب المتابعة المستمرة لتطوراته ومضاعفاته، وتحركاً متواصلاً من جانب الجامعة العربية في المجالات كافة، للمساعدة على تجاوز الأزمة التي خلفتها من مختلف جوانبها الإنسانية والسياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والتعجيل باستعادة العراق لسيادته الوطنية والعمل على إنهاء الاحتلال الأجنبي، والأهم هو الحفاظ على الهوية العربية للعراق.






وفي 13 تموز 2003 تم الإعلان عن تشكيل "مجلس الحكم الانتقالي" في العراق تألَّف من 25 عضواً. وفى هذا الإطار أكد العديد من الدول العربية على أهمية أن يكون "مجلس الحكم الانتقالي" في العراق خطوة نحو استعادة السيادة العراقية وانتهاء الاحتلال، وبداية تحرك نحو تشكيل حكومة عراقية وطنية تُمثل مختلف أطياف المجتمع العراقي وتكون قادرة على تحقيق تطلعات الشعب العراقي، وأنها تُتابع عن كَثَب نشاطات وتطورات عمل المجلس والصلاحيات التي سيتمتع بها. ومرت سنين طويلة على تلك الاحداث ، والعراق يزداد الآمر به سوءاً وتعقيداً على كافة المستويات ، ولم تلوح للمتابع بارقة أمل ولو بعيدة عما ستؤول له الامور وكل التطورات تقودك الى نتيجة واحدة بإتجاه نفق مجهول .


محمد السعدي

مالمو / ديسمبر ٢٠٢٠


57
ناظم كزار في حضرة شامل عبد القادر  ؟ .


قصص قريبة في حكاياتها ومترعة بالخيال والمبالغة والاساطير … ولكن لا تغيب عنها الحقائق .
لافرنتي بيريا … رئيس جهاز الامن الخاص للرئيس السوفيتي السابق ستالين ، والذي رحل الى جوار ربه قبل خمسين عاماً . حيكت حوله قصص وحكايات جمة حول بشاعة وقتل خصوم ستالين ، الا أن أنتهت إسطورته بدس السم في قهوة الأب الرفيق ستالين ليموت بعد أيام معدودات . وفي عام 1953 يعدم بيريا لفداحة الجرائم التي لصقت به .
ناظم كزار … مدير الامن العام في حكومة البعث ما بين 1968 الى 30 حزيران 1973 . ناظم كزار شخصية عراقية تداول عنها العراقيون العديد من القصص والروايات والمواقف والحكايات والاساطير والخرافات والمبالغات والحقائق أيضأ . قرأت قبل سنوات مضت نتفا من كتابا حول سيرة ناظم كزار للباحث شامل عبد القادر  . وجدت بين سطوره معلومات وحقائق تدحض بعضاً من مسلماتي حول دموية ناظم كزار وحقده على الشيوعيين بل التلذذ في رميهم في أحواض التيزاب أو سحقهم في المثرمة في محاولة يائسة لتبيض صفحته المحفورة في ذاكرة العراقيين الجمعية بما أحتوى سجله التاريخي من تعذيب وقتل للشيوعيين في ذلك المبنى السيء الصيت والسمعة ( قصر النهاية ).


عام 1971 أعتقل المرحوم والدي مع قريبنا الشيوعي عبد الرحمن إسماعيل علاوي من أهالي بهرز وأخي الشهيد فليح . غيبوا لمدة عام كامل في قصر النهاية بتهمة التنظيم في القيادة المركزية الجناح الذي أنتفض على سياسة اللجنة المركزية .
كنت كثير الالحاح بالاسئلة لوالدي حول ظروف الاعتقال في قصر النهاية ودموية التعذيب والقتل ، كان يقص لي حكايات مرعبة ويذكر مواقف يدنى لها الجبين الانساني . ناظم كزار واحد من رموز البعث ( الذئاب ) المفترسة ومحاولته الانقلابية الفاشلة في 30 حزيران 1973 ما هي الا حباً للغطرسة والاستحواذ على السلطة والتأمر بين زمر البعث في صراعهم الدموي ، ولم يعد التقارب الشيوعي البعثي سببا في محاولته الانقلابية لانه كان يدرك جيداً موضوع الجبهة ما هي الا خطوة تكتيكية للقضاء على الشيوعيين وذبحهم ، ولا الاشكالية في حل القضية الكردية وملابساتها الداخلية وتداعياتها الخارجية . يقول حسن العلوي البعثي في دولته ( الاستعارة القومية ) .. عندما وقع عزيز محمد مع أحمد حسن البكر ميثاق العمل الجبهوي في 16 تموز 1973 في يومها وزعنا منشورا داخليا على الجهاز الحزبي الطرق والاساليب في تفتيت تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي .

ولد ناظم كزار عام 1940 في بغداد ، لكن جذوره تنبع من جنوب العراق لينتقلوا الى العاصمة بغداد في مطلع الثلاثينات ، وحسب المصادر أن صدام حسين هو الذي فرضه على الجهاز الحزبي أن يكون مديراً عاما للامن بعد أنقلاب 17 و 30 تموز 1968 رغم الموقف الرافض من رفاقه لتوليه هذا المنصب ، يصفون صورته أنه كان بعثياً شرساً ودموياً لايتهاون مع من يقف في طريقه .. حيث وصفه صدام حسين .. حاسوبا لا يخطىء .. وموهبة أمنية لا تقدر بثمن ، لكن بعد أقل من خمس سنوات أعدمه صدام بطريقه سرية وغامضة ، ولم يعدمه كونه ( شيعي .. شروكي ) . بل يذكر أنه من أوائل البعثيين الذين وقفوا ضد سياسة البكر وصدام في تحويل حزب البعث الى حزبا عشائريا وقرويا من خلال تجميع أبناء عمومتهم وعشيرتهم في مؤسسات الدولة الحساسة والقصر الجمهوري ، لكن هذا لايعني أن يكون نزيها ، أو حاملا مشروعا وطنيا لعراق تعددي وحر ، فهو لايقل بؤساً عن صحبه ، هكذا كان رده عندما سأله صدام بعد فشل محاولته الانقلابية المزعومة ومواجهته وجهاً لوجه بعد أن فشلت محاولته في الهرب وقبض عليه في طريقه للهرب الى إيران عبر منفذ زرباطيه . 

ناظم كزار لا يقل دموية وفتكاً عن سعدون شاكر أو طه الجزراوي وسبعاوي باشراف وتخطيط صدام وحضوره شخصياً الى قصر النهاية والاشراف المباشر على التعذيب والقتل ، عندما إعتقل ناظم كزار سكرتير القيادة المركزية عزيز الحاج وضعه أمام صدام في قصر النهاية بملابسه التي أعتقل بها .
يبقى ناظم كزار واحد من مجرمي البعث ، نعم قد أتفق وأختلف هنا وهناك من صناعته وخلق منه بعبع مرعب للاخرين من عامة الناس وبتخطيط وعمد من ماكنة النظام القمعية .
أستند الباحث شامل عبد القادرعلى الكثير من معطياته حول سجايا ناظم كزار من رفاقه ومن عائلته تبرأ عن ماشيع عنه من دموية في قتل الشيوعيين أو تبريرها . لكن ليس هذه كل الحقيقة ، ومؤسسة السياسيين التي منحته في العراق شهيداً عام 2005 , فهذا الوضع برمته مشكوك به ومدان أنها مؤسسات بريمر وعملائه .


ناظم كزار … الملاحظ عليه قليل الظهور والكلام والضحكة .. ولم تعرف عنه الا صورة واحدة لحين رحيل النظام ، ظهرت له وعبر أهله قلة من الصورة جلها لم يكن مبتسما بها ، قبل محاولته الانقلابية. كتب الى أحمد حسن البكر وصدام حسين في التخلص من رجال الردة ويقصد بذلك سعدون غيدان وحماد شهاب وزيري الداخلية والدفاع ، مذكرا بمواقفهم في التأمر على البعث مع عبد السلام عارف .
في المحاولة الانقلابية التي قام بها عبد الغني الراوي عام 1970 ، وعندما فشلت شكل البعثيين محكمة خاصة بقيادة طه الجزراوي ، فكان ناظم كزار عضو بها ، وظل موقفه شديداً وحاقداً على مجموعة الراوي وقتلوا الكثرة الاكثر منهم وممن شاركوا في المحاولة ، وكانت فرصة للخلاص من معارضيهم وهم بعيدا عن ما حدث ، لكن لم يكن الذئب الوحيد بين البعثيين ولا الحمل الوديع ، فهناك ذئاب أكثر منه أفتراسأ وحقداً ، عدائه للشيوعيين ينطلق من حقده عليهم عندما أرادوا سحله بالحبال عام 1959 أيام المد الشيوعي حسب أستنتاجات وبحث شامل عبد القادر ، الذي يخبرنا بها في صفحات كتابه المذكور، أنا ليس بصدد الدفاع عن المقاومة الشعبية أبان المد الشيوعي بعد ثورة تموز 1958 أرتكبت حماقات هنا وهناك وتجاوزات لا مبرر لها وشعارات حمقاء وإستفزازية لعقلية المجتمع ، لكن هذا لايعني ولا يبرر بدفع مدير أمن أن ينتقم من الالاف من الشيوعيين بعد سنوات وللتذكير أيضا كانت سجون الزعيم ممتلئه بالشيوعيين المعارضين لفرديته في أدارة أمور البلاد ، قد يصل عددهم ٥٠٠ معتقل ، وبعد إنقلاب شباط أستفرد بهم البعثيين والقوميين .


كان كزار طيلة فترة حكم عبد الكريم قاسم مركوننا بعدة زوايا من سجون العراق وحتى بعد أنقلابهم المشؤوم عام 1963 والصراع مع الجناح القومي أيضا زج في السجون الى يوم 17 30 تموز 1968 . وكان موقفه شديدا ، وكان أخر بعثي أطلق سراحه بعد إنقلاب 17 تموز ، عكس صدام حسين كان موقفه ضعيفا وأدى باعترافات كاملة الى مدير الامن العام رشيد محسن وبعد عام 1968 صادر صدام منه كل أضابير الاعترافات وبعثه الى القاهرة وأن يصمت الى أبد الابدين بعد أن أنتزع منه كل أشرطة الاعترافات . أما البكر كان موقفه أشد بؤساً وأيلاماً من رفاقه قدم البراءة من البعث وألتزم البيت . ونشرت براءته في الصحافة حسب ما روى شامل عبد القادر في بحوثه ، لكن بعد 17 تموز عادوا الى القصر الجمهوري بخطابات وخطوات ظللوا بها خصومهم السياسيين قبل رفاقهم وعبر منظمات ودول صديقة ليذبحوهم باسم البعث والقومية والتأمر على الوطن ، ولم ينجو منهم حتى رفاق الامس ، ومجزرة قاعة الخلد عام 1979 دليل على دمويتهم ، كان هاجس صدام والبكر ولكي يفرضوا هيمنتهم على الحزب والدولة فلابد من التخلص ممن يقف بطريقهم وممن يشكل عائقا جديا أمامهم وأمام مشاريعهم وأهدافهم في الاستحواذ والسيطرة على مقدرات البلد ، محاولة ناظم كزار ومهما لصقت بها من سيناريوهات ، كانت فرصة لصدام للتخلص من معارضيه الحقيقيين ناظم كزار ومحمد فاضل وعبد الخالق السامرائي  بما يمتازون به من زهد وتصوف في حياتهم الحزبية بعيداً عن المظاهر بحياة بسيطة وبيوت متواضعة وإيمان بمشروعهم العربي القومي وتأيد حزبي وشعبي لهم ، في القضاء عليهم فتحت الابواب أمام البكر وصدام من أوسع أبوابها في أرتهان البلد ومصيره بيدهم وكملوا مشروعهم في القضاء على آخر ما تبقى بما يسمى ( البعث اليساري ) في قاعة الخلد عام 1979 . نقلا عن كتاب الباحث شامل عبد القادر . أن ناظم كزار قال لاحد رجاله حسن المطيري  أذا لم أقتله والتخلص منه رأس الانحراف ويقصد صدام سوف أنتحر . كان ناظم كزار يقود جهازاً أرهابياً المتمثل بمديرية الامن العام لحزبا أرهبيا على المستوى الاخلاقي والسياسي لم تأخذه دوافعه الانسانية والفكرية والوطنية في الرأفة بمعارضيه ظل يلاحق أعضاء القيادة المركزية واحداً واحداً الا أن قضى عليهم تماما ، ومئات من الشيوعيين قتلهم في المعتقلات أو عبر طرق الاغتيال شاكر محمود ، ستار خضير ، محمد الخضري بالتنسيق مع صدام وأجهزته القمعية .
المخابرات السوفيتية ( كي جي بي ) . لها الدور الاكبر في فشل محاولة ناظم كزار في تمويه مخابراتي عراقي أن البكر وصدام ماضون في توقيع ميثاق العمل الوطني مع الشيوعيين وتحولات تقدمية لكنهم يعزون التلكأ والبطء الى معارضة كزار ورفاقه في الوقوف بالضد من هذا الانجاز الوطني . البكر وصدام ورفاقهم تمكنوا من تصوير صورة بشعة وساقطة بحق كزار ورجاله ومهنة القتل التي لصقت بهم وهذه هي الحقيقة في قصر النهاية وبهذا أرادوا وتمكنوا من أبعاد التهمة حولهم ودورهم القذر في ذبح خصومهم السياسيين في زنازين قصر النهاية . هنا برزت قوة البكر وصدام بالخلاص من منافيسهم الحقيقيين ، وبدأ صدام بتعزيز شبكاته الامنية بأستقدام أبناء عمومته وعشيرته . في عام 1979 قرر صدام بعزل الأب القائد البكر عن كافة مسؤولياته فالتجأ الى خاله وأب زوجته خيرالله طلفاح ليكن حكما وهو الخصم ، فذات صباح دعا خيرالله طلفاح الى بيته احمد حسن البكر وأبنه هيثم وعدنان خيرالله وصدام . وطرح طلفاح فكرة تنازل البكر عن مواقعه كاملة ، لكنه في البدء رفض وأشتد الموقف مما دعا هيثم أبن البكر يشهر سلاحه ويطلق النار ويصاب عدنان خيرالله بيده ، هنا حسم السجال صدام وقال للاب القائد البكر ، لم يعد لك شيء في مؤسسات الدولة ولا في المخابرات ولا حتى في الحرس الجمهوري ما أمامك خيار الا هذا البيان المكتوب سلفا تخرج على شاشة التلفزيون وتعتذر من الناس بلتنحي عن كافة مسؤلياتك ، وفي المساء دعا البكر الى إجتماع قيادي طاريء على مستوى رفيع من قيادات الدولة . وأعلن أمام الحاضرين قراره بالتنحي عن مواقعه ومهامه لاسباب صحية وتسلم القيادة الى الابن البار صدام حسين ولم يعرفوا تفاصيل الاجتماع الذي عقد في الصباح في بيت خيرالله والذي دعا له لأمر هام . كان في يومها صدام يسجل ملاحظاته عن ردود الافعال ومواقف الرفاق . وقف أول الحاضرين عدنان الحمداني مخاطبا الاب القائد بالعدول عن الفكرة ونحن على أبواب توقيع ميثاق العمل القومي مع الشقيقة سوريا . ونهض غانم عبد الجليل رافضا الفكرة بتنحي البكر وتسليم المسؤوليات الى النائب صدام حسين . وأجهشوا بالبكاء محمد عايش و محمد محجوب ، بعد يوم من تلك الحدث الدراماتيكي ، دعوا الى إجتماع طاريئ آخر في قاعة الخلد والتي سميت مذبحة ( قاعة الخلد ) هنا تمكن صدام حسين في القضاء على آخر ما تبقى من قيادات البعث في مشهد مسرحي هزيل سيناريو وأخراج ، ميلودراما تراجيديه أدى البطولة بها محي عبد الحسين المشهدي والبطل في نهاية المشهد أعدم . إعتقل ٥٥ بعثي قيادي وأعدم 22 منهم بأسرع محكمة تاريخية والبقية ماتوا أغلبهم في السجون وليتوج صدام رئيساً للدولة ورئيس مجلس قيادة الثورة بلا منازع وتهتف الجموع بروحه وتسطر القصائد بخصاله وبحب القائد ، وفي لحظة تاريخية دراماتيكية ترفع صور الاب القائد من على حيطان دوائر الدولة والساحات والواجهات الشعبية والرسمية وبدون ذكر ولا أثر وليرسموا بوصلة العراق نحو الحرب والفوضى والدمار ولينتهي المطاف به ساحة للنزاعات الطائفية والعشائرية والارهاب والاحتلال .


ناظم كزار يشكل جزء مهم من أشكالية عراقية بمرحلة معقدة من تاريخ العراق السياسي وصراعاته كانت في أوجهها على المستوى الداخلي والتقاطعات المحيطة بالبلد . فعندما تتناول تلك الشخصية ليس بالضرورة أن تكون من المتعاطفين معه أو من المؤيدين لافكاره وتبنيها ، وهذا ينطبق أيضا على أي حدث تاريخي أو واقعة المهم والمريود منه أن تتجلى الحقائق في صورها الحقيقية بعيداً عن الرتوش المنمقة . في العالم الغربي جل الباحثين والدارسين ينقبون عن أحداث وشخصيات تركت ظلالات مغشوشة وسيئة ومؤلمة لتوعية الاجيال القادمة ، أما في عالمنا العربي حدث ولا حرج في رقي ديمقراطيته المستبدة والمستعمرة ، عندما تتناول شخصية أو حدثا يتقاطع مع أفكارك تتعرض للتهميش والاتهام ، فكيف نبني شعوبا وثقافات وأفكار وتطلعات ، ومن خلال أطلاعي على كتاب الباحث شامل عبد القادر حول سيرة ناظم كزار ، كان في كثرة من الجوانب والتفاصيل ملماً بها ومعتمداً على وقائع وأحداث وشهود ، وتمكن من أظهار جوانب خفية من حياة ناظم كزار قد لا يعرفها العديد من المتابعين والمعنيين . سيبقى ناظم كزار واحد من مجرمي البعث في أشد حقبة من تاريخ العراق السياسي دموية وصراخاً ، في الذاكرة الجمعية العراقية دماء وغياب رفاق وأهل .
محمد السعدي
مالمو/ديسمبر ٢٠٢٠


58
أنتفاضة تشرين أيقونة عراقية وطنية


العراقيون وشعوب العالم والقوى المحبة للسلام والتغير والخير ،  تتأمل وترسم شتى السيناريوهات المحتملة ، لقد ملأت بها ناصيات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية عن القادم من المفاجأت والتوقعات على أثر إصرار شبيبة الأنتفاضة بيومهم المعهود والتاريخي يوم ٢٥ تشرين بمرور عام كامل على أنطلاق الأنتفاضة قدمت خلاله قوافل من الشهداء والمغيبين والمعتقلين والمخطوفين ، وكانت آمال العراقيين في الرد على ما أرتكب من جرائم إنسانية بحق ثوار ثورة تشرين ، لكن الذي حدث فاجأ الجميع ومازالت حوله ردود أفعال متباينة حول ما حدث بعد يوم من اليوم الموعود ٢٦ تشرين . أنسحب الثوار وتركوا خيمهم الثورية عرضة للعبث والتخريب والتفليش على يد قوات الحكومة والميليشيات ، وفي فترة زمنية قصيرة رفعوا الخيم والحواجز والسواتر من الشوارع المحيطة بساحة التحرير بعد أن سدت بأرادة ثوار تشرين منعاً من سهولة أستهدافهم وأختراق تجمعاتهم وإغتيال ناشطيهم . 


بعد كل الذي حدث والذي فاجأ الجميع مازال المشهد يلفه الغموض والحيرة . الأنتفاضة التي إسقطت حكومة الأمعة عادل عبد المهدي رغم كل المحاولات والاساليب القذرة في الإغتيال والقتل والتشويه . فرضت قوتها وجماهيرتها ، وباتت رقم صعب في الشارع العراقي رغم كل المحاولات من القوى والاحزاب والتيارات المنطوية تحت أجندات العملية السياسية في أحتوائها وحرفها عن أهدافها الرئيسية وشعارتها الوطنية ( أريد وطن .. ونازل أخذ حقي ) . وأجبرت رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي ، الذي هو أيضا نتاج للاحتلال الامريكي والنفوذ الإيراني في جملة تعهدات ووعود بإصلاح الحال العراقي ، وقد مضى عليه ستة شهور ولم يحقق وعداً واحداً . وعندما نشرت مقالاً في عشية تسنمه لرئاسة الوزراء مقللاً من دوره وكذبة وعوده ، هاجمني البعض متحججاً في التسرع في الحكم عليه ولابد من أعطائه فرصة ، وها قد قضى ستة شهور والحال العراقي يزداد سوءاً على كافة الأصعدة ، واليوم الحال في العراق  أحسن من بكرى .

وبأعتباري من الداعمين للانتفاضة والمسرورين بها خيراً فلم أترك فرصة الا وأقوم بتعرية العملية السياسية منذ تنصيبها الأول ٢٠٠٣ على أثر إحتلال العراق والنفوذ الإيراني . ولقد تلقيت ما تلقيت ولم يضعف من عزيمتي . والله ولأنها فخراً تضاف الى سجلي . 


الانتفاضة قوة وطنية طليعية في المجتمع العراقي وما أصابها لم يكن أمراً سهلاً ممكن العبور عليه ونسيانة بل سوف يتجدد بهمم ثورية وأهداف وطنية لعراق جديد يحوي الجميع على أسس المواطنة والوطن . بعض المتابعين والقريبين من الأحداث يعزون تلك التداعيات في التراجع الى حالات الاندساسات الكبيرة في هيكل جسم الانتفاضة والخوف الكبير من أنحرافها عن مشروعها الوطني وأفراغها من صورها الحقيقية التي أنطلقت من أجلها ، لكن العديد من المتابعين والمؤيدين لها يتنظرون من قادتها ورموزها توضيحات عن ما حدث ؟؟.

الانتفاضة أدت دورها التاريخي والاخلاقي في أعادة الكرامة العراقية وفي أجتراح المأثر التي قدموها أبنائها في ساحات العراق وشوارعه في تجسيد مطالبهم وتحويلها الى أداة فاعلة للتغير تريد أن تقتلع جذور الفساد والتخلف من أساساتها كثورة وطنية معبرة عن أرادة العراقيين . وما تشهده اليوم العاصمة بغداد من مخاضات ( الهدوء يسبق العاصفة ). ولم يستطع أي حزب أن يركب الموجه ويتبنى أهداف ومشروع الأنتفاضة لانه ماقدمته من مأثر سبقت الجميع في الوطنية والموقف والتحدي . ولا أحد عنده التخويل في التحدث بأسمها . فالانتفاضة التشرينية لم تنتهي حتى تبدأ من جديد ، أي نعم لقد توقفت في بغداد بمثابة مناورة سياسية ، كما يقول قائد ثورة أكتوبر العظيم لينين  ( الثوري من يراوغ شرطيه ). تعرض المتظاهرين طيلة عام كامل الى ضغوطات نفسية ومعيشية وأجحافات كبيرة بحقهم لم تخلو من الافتراءات والاكاذيب والخطف والقتل ، حيث وصل عدد الشهداء الى ٨٠٠ شهيد وجرحاها لأكثر من ٢٥ ألف جريح . ولم يبخل رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي من يوم تعينىه خلفاً لسلفه عادل عبد المهدي ، رغم تعهداته المستمرة في كشف المتورطين في قتل الناشطين في شوارع العراق ، بل راح يعمل خفيةً وعكس ما يصرح به لوسائل الأعلام بأصدار أوامر للقضاء على الأنتفاضة من خلال ملاحقة ناشطيه وممن لم يتعاون مع مليشياته ، والذين تعاونوا مع السلطات حصلوا على مواقع قريبة من رئاسة الوزراء . وبعدما شعروا بالخطر أمر قواته وميلشياته المدعومة من إيران بغلق جسر السنك والطرق المؤدية الى المنطقة الخضراء بعد أن تصاعدت دعوات المتظاهرين بحل البرلمان وتشكيل حكومة طواريء ومحاولات عبور جسر السنك الى المنطقة الخضراء مما التجأت قواته الأمنية وبأمر منه الى أستخدام الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين والأعتداء عليهم أمام مرىء ومسمع العالم . بذلت قوات الامن العراقية كل طاقاتها وأساليب قمعها بتوجيه من رئيس الوزراء بالقضاء على الانتفاضة بعد ما بدأت تشكل لهم وجع رأس وأرباك بالوضع العام لقربها من مراكز الحكومة . أما الوضع في الجنوب العراقي يختلف تماماً عن ما جرى في العاصمة بغداد حيث تتصاعد المظاهرات وتتبلور مطاليبهم بدعم عشائري وأسناد شعبي ، وقد أدى هذا التلاحم الى مواجهة سلطة الاحزاب وميليشياتها بحرق مقرات الاحزاب والميليشيات وتحجيمهم .


طيلة سنوات الاحتلال وفساد العملية السياسية ورموزها المنتفعة ، لم تتوقف المحاولات اليائسة لاحتواء الغضب الجماهيري وركوب موجته ، وقد أستطاع مقتدى الصدر وأزلامه مدعوماً من المرجعية الدينية وميليشيات مدعومة من أطراف حكومية في التلاعب في شعارات الانتفاضة التشرينية ، عندما حشروا نفسهم بدعوات المشاركة في الانتفاضة وحمايتها ، ولقد غيروا حتى الشعارات الوطنية الملصقة على واجهات المطعم التركي معقل قادة الأنتفاضة ويومياتها ، ودور السيد مقتدى والمهمات الملقاة عليه من قبل النفوذ الإيراني والدور الحكومي هو إنهاء أي فعالية ثورية أو تحرك جماهيري بإتجاه الاصلاح والتغير من خلال خطابه الديماغوجي نحو الوطن والمقاومة ومحاربة الفساد والذي تمكن من تمريره على عقول العديد من الناس ومازالت بقاياه قائمة ( إئتلاف ساهرون ) المهلهل مثالاً . الطريقة والفكرة والتوقيت كانتا في غاية الغباوة .


أستطاع السيد مقتدى بالتنسيق مع الميليشيات الحكومية المدعومة من إيران ضرب أي محاولة جدية ضد الفساد والفاسدين من خلال الدعوة لإجراء أصلاحات وحماية المنتفضين وسرايا السلام ذو القبعات الزرقاء ماهي الا عناوين بارزة لاجهاض الانتفاضة من خلال تغير مساراتها وإغتيال ناشطيها .


وقال الصدر عبر “تويتر” ، إنه “حسب توجيهات المرجعية الدينية ووفقًا للقواعد السماوية والعقلية لا بد من إرجاع الثورة إلى انضباطها وسلميتها”.



 

وأضاف أنه وجد أن يلتزم “القبعات الزرق” التنسيق مع “القوات الأمنية الوطنية البطلة ومديريات التربية في المحافظات وعشائرنا الغيورة إلى تشكيل لجان في المحافظات، من أجل إرجاع الدوام الرسمي في المدارس الحكومية وغيرها”.


وقد تمكنت تلك المجاميع من السيطرة على تنسيقية المطعم التركي ( جبل أحد ) كما يسميه المنتفضون . وكانت تلك المجاميع هي اليد الطولى للسيد مقتدى الصدر ودورها في أجهاض الانتفاضة .

قبل التجديد السنوي لانطلاق الانتفاضة يوم ٢٥ تشرين ٢٠٢٠ . أعلن عن تشكيل جبهة تشرين تضم ٢١ تنسيقية تمثل المنتفضين في عموم العراق ، وقد تسربت بعض التسريبات أن تلك الجبهة ستمثل المحتجين والمتظاهرين في الانتخابات القادمة المبكرة . يؤسفني كملايين من العراقيين ومن المؤيدين والمساهمين في الانتفاضة لم تتشكل قيادة موحدة والاعلان عن ناطق رسمي لها للإيقاف على أخر التطورات حولها وحول برامجها ورؤيتها الوطنية المستقبلية ، وهذه واحدة من الاسباب المهمة في تراجعها أي عفويتها في تنسيق أهدافها وشعاراتها . كل التطورات الحاصلة في البلد تشير الى تجديد الانتفاضة مجدداً بعقلية وطنية ورؤية واضحة في الاصلاح والتغير بعيداً عن أجندات الحلول الترقيعية والاستفادة من منابع الاختراقات التي أجهضت الانتفاضة بتحوير مطالبها وأهدافها . ملايين من العراقيين يذرفون الدموع يومياً مقروناً بالغضب والثأر على ما أصابهم من تهميش وفقدان أهل وأعزاء لهم ، وهناك من يتضرعون جوعاً وفقراً وعوزاً سرقت أموالهم من قبل حيتان العملية الطائفية وأحزابها بعناوين عدة ومختلفة وغير شرعية أنه المال السحت الحرام . لم تمر ببال أحد حتى ولو بالاحلام يوم الانتفاضة والزمن في إنطلاقتها ، كانت كل التوقعات والتحليلات ورغم الخراب الطاغي على مستويات الحياة  أن بعد خمسين عاماً سيعلن عن ثورة سيأتي جيل جديد بعقل نظيف ووطني ويتولى المهمة مهمة بناء عراق جديد ، لكن الذي وقع صدم العديد من المتابعين والمهتمين ، واليوم من أي وقت مضى نحن على أبواب ملحمة ثورية ستطيح برمة العملية السياسية ورموزها ، وأن لناظره قريب . وواهم كل من يعتقد أن الأنتفاضة أنتهت بعد ماقدمت على مدار عام كامل من التضحيات أنه تمرين وطني . الحرقة والخوف على الوطن كبيرتان لان الوطن ذاهب الى المجهول .


محمد السعدي

مالمو/تشرين الثاني ٢٠٢٠ .



59
جمر وندى .. في عراق مضطرب ”.


جمر وندى .. عنوان كتاب سيرة ذاتية وصلني من كاتبتها السياسية والصحافية منى سعيد متمنية لي في إهدائها بقراءتها والوقوف عند أحداثها ، كما سبق لي أن تابعت القراءات والآراء التي كتبت حولها ، مما أستوقفتني مضامينها وأحداثها وماحصل حولها من قراءة متأنية للوضع السياسي العراقي آنذاك في نهاية السبعينات ومما تعرض له العراق من أحداث متسارعة بإتجاه التدهور والضياع وما ذاق به الشيوعيين العراقيين من مطاردات واعتقالات وتغييب بعد أن فرط عقد تحالفهم مع البعثيين . ماقدمه الباحث الدكتور عبد الحميد برتو ، والناقد والأديب  حسب الله يحيي ، والشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي ، والدكتورة سلوى زكو ، والروائية بثينة الناصري ، والشاعر وديع شامخ . والكاتب كريم كطافة ، والباحثة السورية الدكتورة خولة حديد ، وأبنة الكاتبة الفنانة يمام سامي  تلك الأسماء المهمة واللامعه في عالم الكتابة والإبداع والنقد رصدت أحداث وتفاصيل تلك اليوميات من حياة امرأة عراقية تخطت كل الصعاب وحملت آلام أوجاعها لتثبت لنفسها أولاً ، وللمجتمع قدرتها على مواصلة الحياة رغم تغييب زوجها الشيوعي سامي العتابي وتركها مع طفلة لم يتجاوز عمرها العامين في وضع سياسي مكهرب وخطير .


تقول منى سعيد في مطلع سيرتها الذاتية ” لئلا يداهمني النسيان وينخرني العدم . نفضت سجادة أيامي ، لملمت أطرافها ، ناسجة ما تهرأ منها ، نفخت رماد تفصيلات خمدت جمراتها ولم تزل توخزني .. تلسعني بلظى حرقة مستعرة لا تنطفيء .. أتصالح معها أحيانا ، أرسم بظلال الكلمات زهور بساتين ، وطرائف حكايا . وأقطف منها فاكهة الذكرى ..إذ يصبح التذكر بلسما حين تحل النكبات وتتربع الرزايا .. وتستعين بيتا من قصيدة الشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي .. فتذكر ( سعيت لنشر غسيل الماضي على حبل الذكرى ، بعدما طلقت العالم الصاخب بالثلاث ).



شخصياً وطول مدة بقائي في المهجر والتي امتدت لأربعة عقود تابعت بحرص الإصدارات العراقية المتعلقة بالوضع السياسي العراقي المتأزم على الدوام برؤية وقراءة واقعيتين  ربما بدافع معايشتي لتلك الاوضاع ولأني  كنت جزءا من حالة عامة في البلد ، فضلا عن رغبة مني للإطلاع على تفاصيل وحياة العراقيين المكتوية بوضع أستثنائي بإمتياز وأنا البعيد بعيداً عن أي تواصل وأتصال مع الأهل والرفاق ، وعلى الرغم من صيغ تلك الأعمال الأدبية وبنائها الدرامي البعيد عن المباشرة  , ونقلها صورا واقعية عن تداعيات الأحداث ورؤى الناس من  قلب الاحداث كوقائع وشخصيات وأسماء ، لكني وجدت في رواية السيرة الذاتية لمنى سعيد أمرا مختلفا تماماً من حيث الحرفية والواقعية والصدق والوجدانية في رسم الاحداث وتناولها . إذ تعد شهادة تاريخية عن مرحلة سياسية مهمة عصيبة مر بها العراقيين وتحديداً الشيوعيين في مواجهة أزمتهم مع أساليب البعث في التسقيط السياسي .


ما يهمني من تلك القراءة .. نقطتين مهمتين وردتا في السيرة بجرأة متناهية . ما تعرض له الشيوعيون أثناء أزمة العلاقة مع البعثيين وما واجهوه من إنتهاك سياسي وأجتماعي وأخلاقي وعبر التعامل مع قرار ٢٠٠ سيء الصيت الى جانب أثاره  النفسية والاجتماعية على حياة الرفاق  ، وهذا ما كان واضحاً بجلاء  في ذكريات السيرة ( جمر وندى ) . فضلا عن كيفية  أستيعابه والتعامل معه وفق مقتضيات البلد وشراسة أساليب النظام . وأسجل للكاتبة وقفة مميزة  في جرأتها عند تناول تلك التفاصيل وبالأسماء الصريحة في المكان والزمان المحددين . 

والنقطة الاخرى الأكثر أهمية في السيرة تتعلق بالصدق والأمانة وجلد الذات والبوح في المعاناة والعوز والجوع والتعامل مع الواقع بغير رتوش أو تسطير بطولات فارغة بل تحملت ونقلت تسجيلاً  يومياً ما كان يحدث في عراق نظام صدام حسين ، مما يؤشر سابقة ونقطة تسجل لها في الشجاعة والجرأة .


يشدك البناء الدرامي للرواية لمواصلة القراءة فتتكشف في كل صفحة  تطورات جديدة يجمعها الجمر والندى تعيد لذاكرتك زمنا مضى كنت جزءا منه حين أنتميت للمشروع السياسي ( الشيوعي ) نفسه ، المراد تغييبه والقضاء عليه آنذاك ، تلاحظ عند تتبع الأحداث سهولة اللغة في بناء لغوي سلس مع سرد للأحداث بأنسيابية رقراقة تجهز على القاريء وتزجه بتفصيلاتها حتى ختام السيرة الموجعة .


منذ عام ٢٠٠٣ عند رحيل النظام الشمولي وسقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الامريكي وبالتعاون مع الإيرانيين  غاب عن المشهد الثقافي وكتابة السير الذاتية واقعيتها في المباشرة والمكاشفة عن ماجرى وحدث  طيلة تلك الحقبة التاريخية من حكم البعث ، أعني هنا الأدباء والمثقفين والكتاب الذين لم يجرؤا على كشف الحقائق وتوثيقها عبر كتابة سيرهم الذاتية ، لكن رواية ( جمر وندى ) للكاتبة العراقية منى سعيد أشرت عبر فضح سيرتها الذاتية وولوجها صلب الأحداث وقصها بأمانة وصدق ما جرى لها وللشهيد زوجها بأعتبارهما شيوعيان عملا في جريدة الحزب المركزية ( طريق الشعب ) وما تعرضا لهما ، ولرفاقهما وأهليهما بعد ما فسدت العلاقة بين الحزبين  ( البعثي والشيوعي ) من مضايقات ومطاردات وأنتهاكات سياسية وإنسانية وأخلاقية هددت مصائر حياتهما مقابل التعهد والتوقيع على قرار  البراءة ٢٠٠ سيء الصيت . وضعت منى سعيد في رواية سيرتها الحقائق على المحك وسردت ماتعرض له الشيوعيون العراقيون وأفصحت عن مواقفهم بمواجهة اساليب السلطة القذرة . كما لم يصبح الشيوعي في حل من سطوة تلك الأساليب حتى وأن وقع على ذلك القرار ، وحال الكاتبة كغيرها من آلاف الشيوعيين ممن حرم عليهم العمل السياسي عدا تنظيمات السلطة .  وهذا ما حدث لمنى سعيد وزوجها الشهيد سامي العتابي رغم توقيعهما على القرار ، فتعرضا الى الاستدعاء لمرات عديدة من قبل الأجهزة القمعية أنتهت بالتالي الى تغييب الزوج في أقبية التعذيب .  أعتمد البعثيون عند بدء الهجمة أسلوب الاعتقال السريع بهدف التسقيط السياسي ثم أخلاء سبيل المعتقل ضمن خطة وضعت بهدف إحلال الانهيار الكامل بين صفوف إفراد الحزب الشيوعي ، كما ورد لاحقاً في الوثائق والشهادات التي عثر عليها بعد سقوط النظام ، ثم تغير ذلك الاسلوب بعد فترة قصيرة  ، فعمدت السلطة الى أعتقال وتغييب الشيوعيين  تماماً خصوصاً المناضلين الذين تمسكوا بمواقفهم البطولة بمواجهة أشد وأشرس وسائل التعذيب وحتى القتل . كما رصدته منى سعيد في روايتها . ومثلما عايشناه نحن عبر تعرضنا لتلك الأساليب في الأيام الأولى من الهجمة .


توقفت عند أكثر من رفيق وزميل ممن تعاون مع البعثيين وأصبح وكيلا سريا في التجسس وكتابة التقارير على رفاقه ، وما أكثرهم كانوا بحكم جملة ظروف قاهرة خارجة عن طاقة الأنسان في التحمل والاستيعاب ، وبعد رحيل البعث نفضوا عنهم غبار تلك السنين وعادوا الى صفوف الحزب العلنية مرة أخرى .

وتمضي منى سعيد في سردها لأحداث ووقائع مهمة مر بها العراقيين من نهايات السبعينيات حتى إحتلال العراق وسقوط النظام ٢٠٠٣ . عاكسة في سردها حياة وتفاصيل مسكوت عنها بما فيها من أوجاع وخفايا وعقد سياسية وإجتماعية وثقافية ونفسية في المشهد السياسي العراقي .


محمد السعدي

مالمو/ تشرين الثاني٢٠٢٠


60
رهان على الأنتخابات في العراق .


أعلن رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي على تحديد موعد للأنتخابات العراقية في شهر يونيو/حزيران عام ٢٠٢١ . ورحب به ومؤيداً له مكتب الامم المتحدة في العراق على لسان ممثله السيدة جينين هينيس بلاسخارت الهولندية الأصل . وقد شهد العراق منذ سقوط الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام ٢٠٠٣ ، بعد غزوه وإحتلاله من قبل القوات الأمريكية عدة عمليات أنتخابية ولم تتمخض عنها الأ حكومات فاشلة ( فاسدة ) ، أدت بالعراق والعراقيين الى الخراب والفساد والطائفية والمحاصصة والفقر والجهل وسطوة الميليشيات ، فعلى من يجري الرهان على أنتخابات قادمة لا تضمن للعراقيين أبسط حقوقهم المدنية والسياسية حسب تصريحات المفوضية العليا للجان الأنتخابات . ومنذ اليوم الأول الذي صرح به رئيس الوزراء بموعد الأنتخابات المبكره أنقسمت به أراء الشارع العراقي حول تكهنات عدة حول جدوة الأنتخابات في وضع عراقي ميئوس منه على كافة الاصعدة ولم تعد هناك دولة بمعنى مقدرات دولة في السيطرة على الملفات الأمنية والاقتصادية والتي تحت سيطرة وأدارة العصابات والميلشيات حاملة القرارات والاسلحة المنفلته الخارجة عن سيطرة الدولة أن وجدت فعلاً مقومات دولة .


العراق يشهد اليوم مخاضات سياسية وأمنية عصيرة قد تؤدي به الى التقسيم ، وهذا ما تعمل وتقوم به كل الأطراف والقوى المعنية بالوضع السياسي في العراق بالتنسيق مع أرادات دولية ولم يعد هذا خافياً على أبناء شعبنا ، ولم تعد للانتخابات معنى وفائدة الأ رقماً جديداً يضاف في المزيد من الضياع والدمار الذي حل في حياة العراقيين من أثر الحكومات المتعاقبة والتي جاءت عبر تلك الصناديق المزورة من بدعة الأنتخابات ، وما حركة تشرين البطلة وشهدائها الميامين الأ صرخة مدوية في مواجهة دولة المحاصصة والفساد . أمنيات الكاظمي بأجراء أنتخابات مبكرة ونزيهة تلبي مطالب الشعب العراقي وطموحه ماهي الأ سراب قبل الوقوف على حل ملفات عالقة تنخر في جسد العراق منذ إحتلاله ، وقد وعد بأكثر من مناسبة رئيس الوزراء الكاظمي على كشف المجرمين والقتلة الذي سفكوا دماء أبناء شعبنا في ساحات الأعتصام والتظاهر في ساحة التحرير في بغداد والحبوبي في الناصرية والبصرة الفيحاء .


ولم يعد هناك أهتمام لافت من العراقيين بضجيج موعد الأنتخابات المبكرة ووعودها العسلية بأخراج العراق من عنق الزجاجة رغم مساعي ووعود القوى الدينية التي تتحكم بمقدرات البلد في الجموع الغفيرة من أبناء شعبنا الذي أكتوا بالفقر والجهل والحرمان وبالشعارات الطائفية من أجل أستمالتهم مرة أخرى في مشاركتهم بالأنتخابات مجرد أرقام للمشاركة والتخلي عنهم لاحقاً مثل كل المرات السابقة .


لم يعد للعراقيين وقتاً أن يضيعوه في الوعود وعلى القوى المدنية واليبرالية وحركة تشرين البطلة أن تفضح تلك الدعوات الزائفة وتقاطع الانتخابات وما هي الأ نتاج للاوضاع المزرية في البلد ، ولم تضيف شيء له الأ مزيداً من الخراب والاصطفافات الطائفية وعلى الكاظمي أن يسعى للإيفاء بتعهداته السابقة بتحسين الخدمات ومحاربة الفساد والكشف عن قتلة المتظاهرين قبل التورط في خوض الانتخابات وأن أصر في الاقدام عليها في ظل هذا الوضع العراقي ستكون حصيلة نتائجه وخيمة على العراقيين وأمام هذا الهول وما يجري في العراق على القوى المدنية المنتفضة والتي تبلورت بكيان سياسي ( جبهة تشرين ) أن تبادر بطرح مشروعها الوطني والذي أصطفت من أجله في ساحات وشوارع العراق وأسقطت به حكومة عادل عبد المهدي قادرة اليوم بحكم ثقلها الشعبي والجماهيري أن تسقط حكومة الكاظمي أذا لم يفي بوعوده وبات عثره أمام طريقهم في تحقيق شعار أريد وطن .. ونازل أخذ حقي . 


الأنتخابات المقبلة كما معلن عنها ستشكل فاصلة تاريخية في حياة العراقيين ، حتى وأن جوبهت بالمقاطعة والرفض الشعبي ستؤدي الى أصطفافات جديدة ترسم مستقبل عراق آخر . وان كل التحولات التي ستحدث في الداخل وتدخلات الخارج ستؤدي الى التغير المنشود ، ولم تعد لتلك التيارات والميليشيات والتابوهات بوجوهها الكالحة موقعاً على الأرض رغم أمتلاكها المال السحت والسلاح المنفلت وسطوة التحكم في رقاب الناس .


السباق الأنتخابي عبر الشعارات والوعود ، التي أطلقتها النخب السياسية بكل ألوانها لم تعد لها مكاناً أو أهتماماً كسابقاتها من أبناء شعبنا المسحوقين بعد أن أكتوا بتجارب سابقة ، فهناك وعي مسبق في التصدي للشعارات الطائفية ولا يذهب عن بال الآخرين وتحديداً المتابعين عن دور المنتفضين والانتفاضة وما سطروه من ملاحم بطولية أعادوا به هيبة العراق وتاريخه المسروق . وغداً موعدنا يتجدد مع ملاحم أبناء شعبنا في ساحات العراق عبر لجان التنسيقات الواعية في تشكيل وعي ثوري جديد سيزلزل كراسيهم ومنابرهم المنافقة في تدمير العراق .


محمد السعدي

مالمو/٢٤ أكتوبر ٢٠٢٠ 

61
حمى التطبيع ولسان العرب .

قبل أن نلقي لمحة واقعية على محنة التطبيع والموقف العربي المتداعي منها ، والتطور السريع على مستوى العلاقات العربية / الاسرائيلية ، وبات الاعلان عنها بلا تردد وبدون وجل ، بل جزء من إستراتيجية بعيدة المدى ، رغم أنها طبخت على نار هادئة. نتوقف عند مفهوم التطبيع وهو مصطلح سياسي مفاده طبيعية العلاقات بين الشعوب والدول من خلال أتفاقات وعقود ومشاركات ثقافية وفنية . التطبيع الأخير الذي شهده العالم بين دولة إسرائيل وبعض البلدان العربية لم يلقى ذلك الرفض والأستنكار والمظاهرات والاعتصامات والكتابات المعارضة كما شهدت في ذلك التاريخ عندما ذهب الرئيس المصري أنور السادات الى منتجع ( كامب ديفيد ) ليلتقي بغريمه الاسرائيلي مناحيم بيغن وبرعاية أمريكية ( جيمي كارتر ) يوم ١٧ أيلول ١٩٧٨ . ولم أنسى ذلك اليوم ، وهو جزء من ذاكرة طرية ، عندما أخروجنا عنوة من المدارس وطافوا بنا شوارع مدينة بعقوبة ونضرب بكف أيدينا بقوة على حزمة الكتب المدرسية التي نحملها وبصوت واحد نصرخ .

 ( يا سادات يا جبان يلي لابس عباية النسوان ) .


ولا أحد منا فطن الى مغزى هذا الكلام الفضفاض . وفي اليوم الثاني ألقى علينا أستاذ يحي البعثي المتعجرف محاضرة مردها تخلف دولة مصر عن محور المقاومة وتصدع دول الصمود والتصدي . العراق ، ليبيا ، سوريا .


فات عن بال العديد من المتابعين والمعنيين عن مغزى التطبيع والاسلوب الهاديء في حراكه نحو هدفه الأول باعتباره واقع حال وآمر لامناص منه ، وهذا ليس وليد اليوم وفعلاً لم يشكل مفاجأة لاوساط ودول كثيرة بما ضمنهم الفلسطينيين لأنه تجربة السنوات التي مضت وأنتهت بما يسمى الربيع العربي وأسقاط أنظمة وتفكيك مصير شعوب وأحتلالات ودواعش وميليشيات  هذه نتائجها الأولية في العلاقات العربية / الاسرائيلية آمر واقع يجب أن تتعايش معه شعوب وبلدان المنطقة ، بعد حالات اليأس والتردد والمعاناة في حياة الشعوب العربية عامة والفلسطينيين خاصة  .


الشعب الفلسطيني هو الخاسر الوحيد من سياسة التطبيع هذه حيث جرت وتمت بعيداً عن أرادته ومصالحه ، مازالت هناك سياسة الاستيطان قائمة على قدم وساق وجهل قرار العودة الى الاراضي الفلسطينية وتعويضهم حسب قرار الامم المتحدة ١٩٤ ، مغيب من قرارات التطبيع .


أين ذهبت أصوات محمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني ومظفر النواب وغسان الكنفاني في مناداتهم للقدس أن تكون عربية ، لقد جفت صدى أصواتهم في تعبئة الشارع العربي نحو قدس عروسة عروبتكم ، بعد أن حطموا العراق قلعة المواجهة لعمقه التاريخي وموقعه الجغرافي لتتبعه بلدان وشعوب قد تهاوت وتمزقت ليبيا ، سوريا ، اليمن ، لبنان بشخص السيد حسن نصر الله في تغير بوصلة زحفه من القدس الى قلب لبنان لتتحول الى فوضى عارمة بس الله قادر أن يعيد عافيتها . وسقطت جميع الشعارات الطنانة والخطب الفضفاضة بتحرير القدس من صدام حسين الى الخميني . فماذا بقى أمام العرب غير سياسة التطبيع  كآلة طيعة ؟.


مرة .. سأل محسن إبراهيم مسؤول منظمة العمل الشيوعي اللبناني عن سبب ذهاب المرحوم ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عن خيار ( أوسلو ) المر .

فقال .. يقصد عرفات قد . قرأ الوضع الدولي بعد غياب الاتحاد السوفيتي ، وقرأ الوضع الاقليمي بعد معاقبة العراق على غزو دولة الكويت ، وقرأ الاوضاع العربية وموازين القوى الدولية والأحوال المالية وخاف على قضيته من النسيان والضياع والتدمير . وخطوة بعض البلدان العربية على سجة التطبيع مرده تلك الاحداث والتراجع في المواقف والمباديء وستعقبها دول أخرى قريباً حيث لابديل أمامها بعد أن ميعت فلسطين وقضيتها المركزية ، وما صرح به أخيراً عبر شاشة التلفزة النائب السابق والقيادي في التيار الصدري بهاء الاعرجي . أن العراق مقبل قريباً على التطبيع وسيصدر القرار من مدينة النجف المقدسة ومقر الحوزة الدينية ، فهذا آمر حتمي ونتاج طبيعي لآلية الحكم في العراق ولم نرى ونلاحظ أي موقف إستهجان ورفض من كافة القوى في العراق سواء كانت إسلاموية أو علمانية ولا من الاوساط الثقافية أو الفكرية ولا من النخب السياسية الحاكمة ، فيبدوا للمتابع أن هناك شوط كبير مقطوع بهذا الاتجاه ، وهو في أنتظار الوقت المناسب للاعلان عنه وهذه واحدة من شروط صفقات الاحتلال وتحطيم العراق ودول المنطقة . 


محمد السعدي

مالمو/أكتوبر٢٠٢٠


62
زيارة متأخرة الى شيوعي مخضرم .


في يوم الخميس المصادف ١٥ أكتوبر ٢٠٢٠ . تعنيت الى مدينة ( هلسنبوري ) لزيارة الرفيق والانسان والمناضل والشيوعي باقر إبراهيم الموسوي ( أبو خولة ) ، و في هذه المرة رافقني الأستاذ والقاضي زهير عبود كاظم للأطمئنان على صحته وسلامه روحه بعد المصاب الجلل الاخير ، الذي تعرض له بفقدان رفيقته وشريكة حياته عزيزة نعوم عباس ( أم خولة ) ، أبنة أخت الشهيد الشيوعي داخل حمود بسبب تعرضها الى وباء كورونا اللعين فغيبها الموت . هذه المرة تأخرت زيارتي له والتي باتت دورية منذ ثلاثة عقود بمحط تقليداً وألتزاماً بالرفقه والنضال والعلاقات الانسانية والمواقف النضالية المشتركة لتداعيات أنتشار جائحة كورونا اللعين ومن أجل تجنب الضرر قد يلحق بكبار السن حسب وصايا الصحة العالمية .


قبل أيام من زيارتي له ، تحدثت معه عبر سماعة الموبايل ، فشعرت بغبطه من خلال نبرة صوته ، فاقترحت عليه الزيارة بشوق اللقاء به ، فرد مرحباً باللقاء وبأي وقت أراه مناسباً لي ، فنسقت مع القاضي زهير عبود كاظم ، وحددت موعد الزيارة مع أبنته الكبرى العزيزة خولة ( أم رامي ) . وفي اللحظة الأولى من وصولنا الى عتبة بيتهم أنتابتني لحظات حزن وألم ، هذه المرة الأولى التي أزورهم بها وسأجده وحيداً في بيتهم المتواضع بعيداً عن رفقه شريكة حياته . فالشعور الأول ، الذي بادرني .. ماذا حل ببو خولة بعد غياب رفيقته ومسيرة عمره ؟.


على عتبة الباب ، أستقبلنا أبو خولة مثل كل المرات السابقة بأبتسامته المعهودة مرحباً بنا ، يشعرك بالأطمئنان والحياة والرفقه رغم عمر السنين الطوال في حياته ، لكنك تجده متمسك بديمومة الحياة والتواصل مع الرفاق والأحبة . صادفت زيارتنا له وجود خولة وزوجها حارث النقيب ( أبو رامي ) ، وكانت فرصة مناسبة للقاء ، فأخذنا الحديث ومشت بنا السوالف حول تطورات جائحة كورونا في السويد وأخبار عراقنا المزعجة ومأساة تجربتنا المرة وعمق الذكريات ، فكان الرفيق أبو خولة كعادته يسمع أكثر مما يتكلم ، لكنه بأنشراح كما هو الظاهر في تفاعله مع طبيعة الحوار وأنسجامه مع فحوى الحديث . وقد بلغ أبو خولة من العمر عتياً ، وظل ومازال متماسكاً بمواقفه ومتباهياً بتاريخه الطويل وبعلاقاته الرفاقية والانسانية ، حيث ظل نظيف القلب واللسان والضمير والوفاء ، ولم ألمس منه يوماً طيلة تجربتي معه الأساءة لرفيق أو يستغيب أحداً رغم الأساءات  والأتهامات والقساوة التي تعرض لها بسبب مواقفه الفكرية والسياسية والتقاطع مع رفاق الأمس حول الموقف من الوطن وسياسة الحزب ومسيرة النهج والأتجاه  . 


في عام ٢٠٠٠ زارني أبو خولة في بيتي في مدينة مالمو في السويد قادماً من مدينة سكناه في ( هلسنبوري ) ، وكانت هذه الزيارة  ليس كسابقاتها ، حيث يحمل معه كتاب إستدعاء من المخابرات السويدية ( سيبو ) . وفي اليوم الثاني صباحاً رافقته الى مبنى المخابرات بناءاً على الموعد المحدد . وتحدثت مع مكتب الأستعلامات وطلبوا مني أن ينتظر في صالة البناية لحين أستدعائه وبعد دقائق معدودات جاء شخصان وأصطحبوه معهم الى داخل المبنى ، وأنا ذهبت الى داخل المدينة على أمل أن يفض اللقاء بساعة أو ساعتين ، لكنه طال ساعات طويلة أخذ جوف نهار يوم كامل ، وأنا بقيت أتردد على المبنى كل ساعة لحين فض الأجتماع ، والذي تحول من إستدعاء وتحقيق الى نقاش وطرح الأراء وتبادل مواقف سياسية وأستقراء حول وضع العراق السياسي في حمى الحصار وأستعدادات الغزو وتداعياته الخطيرة على العراق ومستقبل شعبه . لقد وجد أبو خولة أمام المحقق ( تومي ) على مكتبه تقريراً من منظمة مالمو للحزب الشيوعي العراقي جملة أتهامات وأقاويل وأفتراءات وأكاذيب بسبب مواقف أبو خولة الوطنية من الحصار والحرب والاحتلال لبلده العراق مما دعا المحققون أن يتعاطفوا مع أراء أبو خولة بعد أن أطلعوا على تاريخه ومواقفه السياسية ودوافع خلافه وتبادلوا معه وجهات النظر ، وكانوا ميالين للاطلاع على المزيد من هذه المواقف وفي نفس الوقت مندهشين من هذا الاسلوب الرخيص من رفاق الأمس بسبب التقاطع في المواقف السياسية . هؤلاء هم أعداء الحزب ؟.


وكان من بين تلك الأسماء الموقعة على التقرير ، الذي يتهم أبو خولة في التخاطب مع نظام البعث ، كان أحدهم وهو الرفيق في الجبل يهم كلما رآى أبو خولة بحمل بريق الماء ( للتشطيف ) خلفه وهو ذاهب الى المرحاض . والآخر كان مهجر مع عائلته عام ١٩٨٠ بسبب تبعيته الإيرانية ووصل الى دمشق ، وطرح أسمه مرتين من قبل أحد الرفاق الى منظمة دمشق للحزب الشيوعي العراقي وفي المرتين لاقى طلبه الرفض ، لكنه في نهاية المطاف وصل الى الرفيق أبو خولة وبدوره قدم له مساعدة في الحصول على جوازات يمنية مع عائلته بمساعدة الرفاق عدنان عباس وعبد الحسين شعبان ، ووصلوا بها الى السويد ووفاءاً لهذ الموقف قدم الجزاء والعرفان . والآخرون لايقلوا تعاسه عن مواقف رفاقهم في كتابة التقارير الملفقة ؟. أمام تلك التسلكات والافتراءات لاستهداف أبو خولة وهذا جزء من وضع عام وفي تقديري عراقي بإمتياز وما وصل له العراق اليوم ، لم يهتز له أبو خولة ، حيث بقى متماسكاً كعهده ينظر للامور بعين أخرى ولم ينزل الى تلك المستويات ولم يستغيبهم يوماً ، بل أذا صادفهم وألقوا عليه التحية يرد بمثلها وأكثر وهذه من شيم الكبار ولا يختلف أثنان على سجايا ومناقب أبو خولة في النظافة والأمانة . ولم تهزه يوماً تلك الأساءات ولم يتخذ موقفاً تجاه مروجيها . مرة لامني ، عندما هاجمت أحدهم ، الذي حاول  أن يطكطك بمنكاره . وتجنبي في ذكر الاسماء ما هو الأ تعففاً .


قبل سنوات هاتفني الرفيق صباح كنجي من منفاه في ( هامبورغ ) ألمانيا . وأنا شحصياً أكن كل الاحترام والاعتزاز والفخر لهذا الرفيق لدوره البطولي الخارق عندما تبنى عملية نزولي الى بغداد الحبيبة من الجبل عام ١٩٨٦ ولمرتين متتالتين خلال هذا العام ، أنه أشرف على وصولي بكل مسؤولية شيوعية من قرى وجبال ( بهدينان ) الى مدينة الموصل ومن هناك الى بغداد . أراد مني في تلك المكالمة أن أستفسر له من الرفيق أبو خولة عن أشكالية تنظيمية سابقة وبدوري طلبت من الرفيق صباح أن يكلمه مباشرة ، لكنه كان متردد ربما لمواقف سابقة ، فهيأت له وقت مناسب في الحديث مع أبو خوله وهو بدوره لم يعترض على أستقبال المكالمة من الرفيق صباح والحديث معه .


في سياق التدهور الفظيع وحمى التشهير من قبل أعداء الحزب وداخل الحزب ، يطرح أحد الرفاق على قيادة الحزب أن يوجه نداء الى رفاقه المقيمين في أوربا وأمريكيا بالعودة الى الوطن لمقتضيات نضالية معقدة يمر بها الحزب أمام شراسة القوى الأخرى والتي تضمر حقداً على الشيوعيين وتاريخهم وينتظرون أي فرصة مناسبة  للقضاء على الشيوعيين ، ولم يلقى هذا التوجيه أي أهتمام من قيادة الحزب تحت حقيقة الواقع المر ، لو أقدمنا على هذا التوجيه فلم يلبي ندائه الا نفر قليل والبقية المتبقية سوف يعتزلون التنظيم وبلا عودة .. هؤلاء هم أعداء الحزب الفعليين ، الذين يستغيبون الآخرين ويشهرون بهم بعيداً عن مصلحة الوطن والحزب .


محمد السعدي

مالمو/ أكتوبر ٢٠٢٠


63
بوخارين ”محبوب الحزب .

فلاديمير لينين هو الذي سماه محبوب الحزب قبل وفاته عام ١٩٢٤ . لينين الذي تعرض الى محاولة الاغتيال عام ١٩١٨ بعد أقل من عام على نجاح ثورة أكتوبر الاشتراكية من قبل  ” فانيا كابلان ؛ التي تنتمي الى أحدى أحزاب المعارضة فأصابته بثلاثة طلقات أحداها أستقرت في رئتيه ، لكن الموت لم يدركه مما تعرض بعدها الى سلسلة من الجلطات القلبية أقعدته عن مهامه الحزبية وأدت به الى الموت . الرفيق نيكولاي بوخارين يعد من أقرب رفاق لينين الى قلبه وفكره كما رفيقهم ليون تروتسكي . لينين كان شديد الحرص على سمعة رفاقه وحثهم على العمل والنضال في البناء الاشتراكي قبل وبعد ثورة أكتوبر ، والذين رافقوه سنوات طويلة من النضال والنفي .


في الأسبوع الأول من أنتصار ثورة أكتوبر ١٩١٧ . الايام التي هزت العالم في يوميات الصحافي الامريكي جون ريد خلال مشاهداته الحية في شوارع موسكو . عادوا الرفاق الى أرض روسيا الجديدة ( السوفييت ) قادمين من الولايات المتحدة الامريكية الرفاق نيكولاي بوخارين عبر اليابان وسيبريا وليون تروتسكي ليأخذوا دورهم المعهود لهم في أدارة الحزب والدولة في حمى صراع محتدم بين عدة أتجاهات وتوجهات . فعهد الرفيق لينين الى الرفيق بوخارين عضوية المكتب السياسي واللجنة المركزية ورئيس تحرير جريدة البرافدا وقائد للاممية العالمية ( الكومترن ) ، بما يتمتع به من مزايا فكرية ونظرية وتاريخ سياسي ورفقة طويلة في المهجر والمعاناة .

تفرد بوخارين بعمق مقالاته السياسية حول الفلسفة الماركسية وأدارة الدولة . وفي عمر عشرين عاماً كان ضمن لجنة موسكو الحزبية ، لكنها كانت مخترقة من الشرطة السرية مما عرضته الى المطاردة والاعتقال والنفي ، فهرب من السجن متنقلاً بين ( المانيا ، بولونيا ، السويد ، النرويج  ) ، ليستقر به المطاف في أمريكيا بعد نشاط سياسي دؤوب مع رفاقه خارج روسيا . فالتقى لاول مره برفيقه لينين في النمسا عام ١٩١١ ليواصلا النضال معاً ضد القيصر وسياسته . وبعتبر بوخارين من الشيوعيين البلشفيين المتشددين تجاه النظرية والفكر ، وقد وقف ضد رفيقه لينين من معاهدة بريست مع الالمان بل سعى الى مواصلة الحرب وسماه حرب ثورية ضد أعدائهم الطبقيين التاريخيين .

 في عام ١٩٢٤ رحل قائده الاعلى ونموذجه السياسي ورفيقه لينين بعد معاناة طويلة من النكسات الصحية وتبوأ الرفيق ستالين على أدارة الحزب والدولة وآلية أدارتها ، وكان بوخارين من داعمي لهذه المسؤولية التاريخية الكبيرة ، بعد فترة زمنية لم تعد طويلة وأمتداداً لمواقف لينين من أدارة أمور الحزب والدولة على النهج الماركسي في بناء مؤسسات الدولة وتقويم بناء الحزب وفي تعزيزها بمباديء اللينينية . وبعد موت لينين واصل بوخارين  في دعم السياسة الاقتصادية الجديدة لستالين وفي دعمه لوحدة الحزب الداخلية وتحزيب مؤسسات الدولة تحت راية الشيوعية ، مما عرضه هذا الموقف المؤيد والمتشدد لسياسة ستالين أن يخسر من شعبيته وحضوره بين الرفاق المعارضة لسياسة الأب ستالين ، لكن سياسة ستالين الشديدة والدموية تجاه رفاقه تروتسكي ، زينوفييف ، كامينيف . دعاه أن يغير رأيه وموقفه مما عرضه هذا الموقف والاصطفاف الجديد الى السجن والاعدام بعد أن جرده الأب ستالين من كل مسؤولياته الحزبية والرسمية بعد أن سرب له معلومة لقائه برفيقه كامينيف غاضباً من ستالين وسياسته حيث وصفه جنكيزخان آخر وسيدمرنا جميعاً .

بعد محاكمة وأعدام رفاقه الشيوعيين القادة زينوفييف ، وكامييف ، في العام ١٩٣٦ أعطي ستالين أوامره الى جهاز أمنه الخاص في القاء القبض على بوخارين ، واليكسي ريكوف ، وأتهموا بالخيانة الوطنية في التأمر لقلب نظام الدولة السوفيتية . وقد حوكم بوخارين في محكمة موسكو مع ثلة من رفاقه المعارضين لسياسة ستالين ، وكان بوخارين المتهم الرئيسي في المحكمة ، وقد وجهت اليه عدة أتهامات منها التأمر للاطاحة بالرفيق والأب ستالين ، والجاسوسية لحساب الدول الكبرى لغرض تمزيق وحدة وأراضي الاتحاد السوفيتي ، ومحاولة أغتيال الرفيق لينين العام ١٩١٨ ، وتسميم مكسيم غوركي أبو رواية الأم الشهيرة  . أما المراقبين والحاضرين في جلسات المحكمة ، كانوا موقفهم آخر أعلنوا في التضامن مع موقف بوخارين في الدفاع عن نفسه وعن رفاقه وأن الاتهامات الموجهه له مبالغ بها ومحبوكه ضده ، وقد حاول الرفيق بوخارين أن يتماشى مع بعض فقرات جلسات المحاكمة في الاعتراف ببعض الاتهامات من أجل أنقاذ عائلته وتحديداً أنقاذ حياة أبنه ، والذي أعدم معه رمياً بالرصاص ، وقد أعتبره بعض المؤرخين خسارة كبيرة للبلد والحزب والتنكيل بزوجته حيث أرسلت الى معسكرات العمل الشاق . وقد عانت طويلا من ظروف صعبة حياتية وسياسية ، ففي العام ١٩٨٨ تم أعادة الاعتبار له من الدولة السوفيتية باعتباره رمزاً من رموز الاتحاد السوفيتي . والذي يعتبر من المفكرين الشيوعيين المميزين في العطاء والفكر .

يقول ستالين … ( كلما تعمق البناء الاشتراكي زاد الصراع الطبقي ). حيث أتخذ هذا تبريراً للتنكيل برفاقه وأساليب التصفيات بحق رفاقه باسم الوطن والشيوعية .

ولد بوخارين في موسكو عام ١٨٨٨ لأبوين يعملان في مجالات التعليم ، فبدأ حياته السياسية في سن مبكر ، كان عمره ١٦ عاماً وفي العام ١٩٠٥ أنضم الى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي وبعد سنة من هذا الانخراط أصبح عضواً فعالاً ومهماً في الفصيل البلشفي ، وعندما بلغ العشرين من العمر كان عضواً في لجنة موسكو الحزبية .
صدرت له مئات المؤلفات من الكتب والاراء والفلسفة ، وكان اهمها . ألف باء الشيوعية . حول البناء الشيوعي للشعوب وقاعدته الاقتصادية والبشرية .
محمد السعدي
مالمو/ أكتوبر٢٠٢٠

64
المنبر الحر / من خيام الذاكرة .
« في: 18:35 29/09/2020  »
من خيام الذاكرة .

وصلت الى الشام يوم ١٥ آب عام ١٩٨٨ قادماً من العاصمة الإيرانية ( طهران ) بعد معاناة قاسية وخوف مرتقب من مستقبل مجهول مرده الاوضاع الغير طبيعية داخلية وخارجية ،  وواحدة من أسبابه ذروة لهيب الحرب بين الجارتين الاسلامتين العدوتين إيران والعراق ، حيث الطيران العراقي يحلق يومياً في سماء طهران ليرمي حمم رشاشه من منافذ ( سوبر إيتندار ) الطائرات الفرنسية المميزة والتي منحتها حكومة ( شاراك ) الى العراق لتنهي بها الحرب من خلال الأستهداف الدقيق لحركة السفن النفطية في ميناء بندر عباس ومصفى عبدان والذي يعد أهم مرفق حيوي أقتصادي لإيران مما شلت الحركة به تماماً ليتجرع الإمام الخميني جرعة السم الشهيرة .

وصلت الى العاصمة طهران في ربيع ١٩٨٨ بعد أن نجوت بأعجوبة من جائحة الانفال التي أجتاحت كل مقراتنا ووجودنا ووديان تواجدنا والأشجار والقرى التي نحتمي بها كمقاتلين ( بيشمركة ) شيوعيين وجلالين وبرزانيين وحسكيين والباسوكيين . سكنت بدربونة ضيقة في شارع ناصر خسرو الشهير في بيت كبير ذوو طراز فارسي قديم مع الشهيد سامي حركات وعملت بمطعم ليل نهار في شارع كوجه مروي لسد رمق الجوع وكسوة الحياة المتواضعة . الشارع الذي يكتظ بحشود من العراقيين بكل ألوانهم وأنتماءاتهم ونشاطاتهم السياسية وقصصهم الاجتماعية الغريبة وطرق تزوير الوثائق والمستمسكات العراقية وبدون إستثناء ،  بث الأشاعات تسبق واقعهم اليومي عن بلدهم البعيد العراق داخلين ببعضهم الى حد التجسس على بعضهم وبين صفوفهم ، وفي وسط طبيعة علاقتهم تنتشر أساليب التجسس على بعضهم . كنت في ظرف صعب ما عليك الأ أن تنجو من تلك الاجواء وتداعياتها الخطيرة ، وبعد أن نجوت بأعجوبة من عملية الانفال ومازلت أحمل أضرارها وخوفاً من يكشف آمري للسلطات الإيرانية بعد أن أدعيت في أول نقطة حدودية أني جندي هارب من الحرب ومن مدينة الكاظمية وأسمي علي . آذن أذا كشف آمري أنني شيوعي وكنت مقاتلاً في الجبل ؟. هذه وحدها تهمة تؤدي بك الى التهلكة الحتمية . 

بذلت جهداً مضنياً من أجل أن أخرج من طهران سالماً بمعونة أصدقاء ورفاق وأحبة رغم البحبوحة المادية في ترتيب يوميات حياتي . في دمشق الوضع يختلف سياسياً حيث الرفاق والحزب والعمل العلني والبوح بأسمك الصريح وأنتمائك السياسي حيث لاخوف ولاتردد في الاعلان عن مواقفك . في يومها كان الجو السياسي للشيوعيين مشحون بالخلافات والانتقامات والمقاطعات لحد العظم مما لفت أنتباه القوى والاحزاب الأخرى أتهامات بالعمالة للنظام العراقي والمخابرات الاسرائلية بالجملة بدون وازع أخلاقي ولا أنساني ولا أسانيد ولا أحتراماً للتاريخ الطويل المعمد بالتضحيات ، حيث من يختلف أو يبدي وجهة نظر عليه أن يضع أمامه حملة شرسة وقاسية لتسقيطه سياسياً وأجتماعياً وأقتصادياً في تميز واضح لنا نحن الشيوعيين وبين صفوفنا ببغاوات يقلدون الاصوات رغم نشازته في التعبير يعني أي أشاعة تطلق على رفيق حتى وأن كانت نشاز أو للانتقام تتبنى رغم المعرفة المسبقة أنها أشاعة لتحطيم رفيق جزاء موقف أو أعتراض . الحقيقة هي العمود الفقري للتاريخ وأن طمست مؤقتاً لكنها ستظهر من جديد بأكثر صرامة ووضوحاً . 

في اليوم الأول ، الذي طأطأت به قدميه الحافتين أرض دمشق الحبيبة شعرت بالآمان رغم وضعي الصعب حيث بلا جناح لأفق قريب . سكنت مع أبن قريتي وصديق الطفولة والرفقه الدكتور عزيز الشيباني في مشتمل متواضع في حارة ركن الدين . نتقاسم حنين الشوق الى قريتنا وبيوتها وذكرياتهم السجية بيتاً بيتاً لعلها تشحذ بنا ما تبقى من ذكرى وأمل للقاء وصدى صوت مخنوق عبر أسلاك التلفونات المخترقة . رغم كل المحاولات في الحصول على عمل يسد نزراً من رمق العيش الصعب ، لكنها هباء كل المحاولات تتلاشى بقدوم الأيام لم يبقى أمامك الا القراءة واللقاء بالرفاق والاصدقاء ومقهى الروضة بمثابة وكالة أنباء عن أخبار العراق والعراقيين والذي يتصدر نشراتها الرئيسية أبو حالوب المقيم العتيق .

في تلك الرحلة والأقامة لايعكر مزاجك ويحزنك الأ صراع الرفاق وقساوة الاساليب وحذالة الاتهامات والمقاطعة الاجتماعية ضد من بات خارج الصندوق المقدس ، ولم يجرأ أحداً الى الآن بفتح ذلك الصندوق الأسود وما كان يخزنه من أجحاف وتشويهات وتعديات ليعاد الى ماكان على عهده . لآجل لم الشمل والذي بات متشظياً وسط أكوام من ميليشيات وأحزاب إسلام سياسي ودين متخلف . وفي يوم ما من عام ١٩٨٩وفي ظهيرة دمشقية كنت نازلاً مشياً على الاقدام من ركن الدين الى مقهى الروضة في الصالحية صادفني في الطريق غضبان السعد الشيوعي والعسكري المرموق أيام ثورة تموز ، وبعد السلام والكلام والسأل عن يوميات الشهيد خالي خزعل في معرض تجميع معلومات عنه لكتاب قادم . حدثني بألم عن تفاصيل يوميات حياته والأساليب التي عومل بها لا لشيء الأ في أبدائه بعض الملاحظات عن طبيعة التنظيم والأداء الحزبي والتعامل الفض مع حشود من الرفاق . 

كنت فقيراً في أدواتي الأولى في تتبع مسيرة حياتي ، حيث ضيعت فرص كثيرة بسبب مستحاتي ، كانت مسيرتي قاحلة ومليئة بالالغام ، كنت في بداياتي أكتب لنفسي في فضاءات قرية الهويدر على شريعة النهر وفوق السطح وكهوف الجبال ، وأنا من الذين وليس هذا تفرداً أو تميزاً أكتب عن الاشياء التي عشتها وخضت تجاربها . يقول جوستاف فلوبير أنا هي بوفاري في روايته مدام بوفاري . وهذا هنري ميللر ورواياته . أكتب بدون تردد ولاخوف رغم السد العالي للتيار المنافي للحقائق والوقائع وهناك نفر ورغم تجاربه الطويله في الحياة والسياسة لكنها لايمتلك تلك المبادرة بإتجاه روح التغير وبناء الانسان ولي تجارب عديدة للأسف الشديد وستبقى حالتنا هذه للآسف . وهل من رابط بين السياسة والكوميديا .
من كتابي سيصدر قريباً في العاصمة بيروت .

محمد السعدي
مالمو السويدية /أيلول ٢٠٢٠

65
السويد وحصة ”الكورونا ( كوفيد 19) .
خطت مملكة السويد قرارات وخطط عملية جريئة وحكيمة لمواجهة جائحة كورونا منذ يومها الأول في الاعلان عن أنتشارها أنه ( كوفيد١٩ ) ، أختلفت مضامين تلك الخطط مع قرارات ويوميات وتسلكات دول العالم في مواجهته  ، مما عرضت مملكة السويد نفسها الى أنتقادات شديدة من أغلب دول العالم وعلمائه الى حد تهمة الأستهانة بحياة الناس ، أنها السويد حيث تبنت سياسة مناعة القطيع ، أي حملة شعبها والساكنين على أرضها طولاً وعرضاً في مواجهة تلك الآفة من خلال تحمل مسؤولية مواطينها في مواجهة ومقاومة تلك الآفة بعيداً عن أجراءات أقرب الى الأستنفار بغلق الحدود وشل الحياة وتعطيل المؤسسات الحكومية والمدارس وأرباك طبيعة الحياة الطبيعية والعامة وترك المطاعم والكازينوهات والبارات على رتابة عملها اليومي مع تحذير أن لاتتعدى القاءات والمناسبات العامة والشخصية وأن لاتتجاوز عن خمسين شخصاً ، ومن خلال تعزيز تلك الأجراءات دعوك أن تشعر بالآمان وبعيداً عن كوامن الخطر ، وخففوا القلق عند المواطنين عن طريق توفير المعلومات للحد من أنتشار العدوى في السويد . في الاسبوع الذي مضى سافرت خارج السويد مع زوجتي وأصدقاء لنا ، وهذه المرة الأولى منذ أنتشار الوباء ، وبعد أن تجاوزنا آخر نقطة للحدود شعرنا بخطورة جائحة كورونا من خلال الأجراءات والقيود المفروضة على حياة الناس في المطارات والشوارع ومرافق الحياة العامة ، ولم نشعر بحريتنا الا في عودتنا الى أرض السويد بعد عشرة أيام وهذه حسنة كبيرة  .

رافقت تلك التطورات والمخاطر في مملكة السويد توعية عامة وأصرار على مواصلة الحياة من خلال اللقاءات اليومية والصحف والمؤتمرات اليومية لرئيس الوزراء ستيفان لوفين ومسؤولي الدولة . وكان الدور الأكبر في أتخاذ تلك القرارات الجريئة والأستثنائية لعالم الأوبئة السويدي أندرش تينغيل ، والذي قلل من فاعلية فرض بعض القيود على الناس في تقليل نقل العدوى بل أشار في أحدى مؤتمراته أضرارها الصحية . وكانت السويد حكومة وشعباً عند منزلة هذا العالم الجليل وفريقه في أتخاذ التدابير اللازمة في مواجهة هذا الوباء من خلال متابعته اليومية في مواكبة تطورات الوقاية ومكامن الخطر على حياة الناس من خلال طرق التوعية والأرشادات اليومية ومناعة القطيع .
وقد أعتمد السويدين الى الفعل الطوعي ومسؤولية الأفراد فعلى سبيل المثال توصي السلطات الاشخاص الأكثر عرضه للاصابة والاشخاص فوق سن السبعين عاماً بالبقاء في المنزل بدلاً من أن تفرض حظراً كاملاً على مستوى الدولة والبلد .

في البدء وبسبب تلك السياسة تعرضت السويد الى إنتقاد كبير من مواطينها قبل دول الجوار وشعوب العالم وحكامها ، لكن سرعان ما تحولت تلك الانتقادات الى الأشادة بمملكة السويد في تلك القرارات الناجعة في مواجهة الازمة من خلال  دعم المؤسسات المدنية والنشاطات الاجتماعية والاقتصاد السويدي وزرع روحية التحدي وبث الآمان في سلوكيات مواطينها ومتابعة حياتهم الطبيعية في الشارع والمدرسة ومكان العمل  . وهذه نقطة تحسب للسويد في تلك الخطوات العملية والتي لاقت الاستحسان والرضا من المواطنين السويديين .

أجراءات أقتصادية فاشلة ؟.

وفي مواجهة تلك الازمة أقتصادياً ، ورغم الأعلان الحكومي عن تحديد مبالغ كبيرة في دعم الشركات والمؤسسات ومنظمات مجتمع مدني في دعمها من آجل عدم تعرضها للأفلاس وفي مواصلة ومتابعة نشاطاتها والتي أقترنت بحزمة تصريحات يومية عبر وسائل الأعلام والقنوات المرئية والمسموعة ، لكن على المستوى العملي والفعلي لم يحدث هذا ولم تشهد ولم تحصل تلك الشركات ولو على النزر اليسير من تلك المساعدات بل تعرضت عدة كبيرة من تلك الشركات والمؤسسات الى أزمات أقتصادية طيحت ببعضها وأغلقت .

وفي تجربة شخصية عشتها في معمعة تلك الأزمة في تقديم عدة طلبات من أجل الدعم المالي في تكاليف الآجارات والدفع الضريبي وجزء من رواتب العمال لكني لم أحصل على شيء من هذا القبيل وفي ذروة الأستفسار لا جواب شافي الا فقط في تقديم طلبات تلو الطلبات والتي أصبحت مملة وتسويفية .

وفي حديث شخصي مع دائرة الضرائب فقط لتأجيل الدفوعات الشهرية أو تقسيطها المترتبة عليك كشركة مساهمة لا تلقى جواباً الا تهديداً ضمنياً ، أذا لم تدفع تلك الأموال سوف نعرض شركتك للافلاس ؟.
أين هو صدى الصراخ اليومي من مسؤولي الدولة وقرارات البرلمان والوعود الحكومية في مواجهة الازمة بدعم الشركات من أجل دعم الاقتصاد وحرية التجارة وتجاوز تداعيات الازمة . ولم تستطيع تلك السياسة من تخفيف الأثار المترتبة من الجائحة على مستوى الافراد والشركات . وقد تلقى الاقتصاد السويدي ضربة خلال جائحة كورونا لكنها أخف وطأة من الدول الأخرى .

الوضع الاجتماعي ( العائلي ) .

تشير أحصائية سويدية أن نسبة الطلاق أزدادت أطراداً في أشهر جائحة كورونا . وينسب تصريح الى جونار أندرسون أستاذ الديموغرافيا بجامعة أستوكهولم الى تداعيات فيروس كورونا ( كوفيد ١٩ ) الاجتماعية حول الأسر والعوائل التي ألتزمت البقاء في البيت تجنباً من العدوى ، وأن العديد من الأزواج أمضوا وقتاً أطول مع بعضهم البعض تحت سقف البيت مما تركت ظلالها السلبية على تلك العلاقة الزوجية أدت الى الانفصال ، ولكن هذا لايعني أن هناك العديد من العوائل تعاني من أزمات سابقة في حميمية العلاقة .

ومنذ شهر آذار عام ٢٠٢٠ والسويد تتبنى تلك السياسة بل دول وشعوب أشادت بها وتبنت تلك الخطوات بعد كانت معارضة لها ومحط أنتقادات . وفي جرد يومي للاصابات من قبل وزارة الصحة السويدية والجهات المعنية تسجل أصابات متفاوته وقليلة جداً مع تلك الدولة التي سدت حدودها ومطاراتها وحجرت مدنها ومنعت مواطنيها من حرية الحركة . وأنت كمواطن على أرض السويد الطويلة لا تشعر بخطورة تلك الآفة من خلال حركة الناس وسير المجتمع وعمل مؤسسات الدولة وهذه تشكل نقطة مهمة لعبقرية السويديين في مواجهة الجائحة .

محمد السعدي
مالمو / أيلول ٢٠٢٠ .




66
لعنة الموت وعاقبة الضمير .
بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين ، حكاية قديمة مطروقة ومتداولة بين عامة الناس وتشير على من يرتكب جريمة قتل بحق أنسان ما وبريء ومهما تكن الاسباب والدوافع تبقى عقدة الضمير تأنب صاحبها طيلة العمر وشبح الموت يطارده . أستوقفتني تلك الحكاية وأنا أقرأ نتفاً من كتاب صدر حديثاً في أسرائيل حول أغتيال خليل الوزير ( أبو جهاد ) في العاصمة التونسية يوم ١٦ أبريل/ نيسان في العام ١٩٨٨ ، والذي يعد الشخصية الثانية بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد الرئيس ياسر عرفات ومن الرجال المهمين في مسارات القضية الفلسطينية وتعرجاتها .

الكتاب … يروي قصة وحياة ممن ساهم بشكل فعلي بإغتيال أبو جهاد ونهايتهم المأساوية الى حتمية الموت بطرق بشعة ومختلفة . ويتسأل مؤلف الكتاب بين المزح والجد . هل لعنة إغتيال أبو جهاد هي التي قادتهم الى هذا الموت ؟. فيشير مؤلف الكتاب قتل أبو جهاد بهذه الطريقة وأمام زوجته وأبنته هي التي قادتهم الى هذا الموت البائس والمحتوم . الروح المظلومة تطارد قاتلها .

وحدة عسكرية خاصة تابعة لهيئة الأركان العامة يقدر عددهم بالمئات الذين شاركوا في الأعداد للاغتيال من أجهزة الموساد والشاباك والمخابرات العسكرية في أستهداف بيت أبو جهاد في العاصمة التونسية ، الذي يقع في منطقة ( سيدي بو سعيد ) على بعد بضعة كيلومترات من شاطيء البحر ، والذين تسللوا من خلاله بزوارق تحت جنحة الليل . كان يسكن بجوار بيته محمود عباس عضو اللجنة المركزية لحركة فتح . وأبو الهول رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية وعدد من القادة والدبلوماسيين معززة بالحراس وشرطة النجدة لكنهم الجميع صحوا وعرفوا بعد وقوع الجريمة وإختفاء الجناة . لعنة الشهيد أبو جهاد والثأر له لاحقت المنفذين الفعليين وقادتهم الى الموت المفجع وهم في ريعان شبابهم ، لم تمنحهم الحياة فرصة ولم تتركهم أثار تلك الجريمة أن ينعموا بنشوة التكريم والاهتمام  .

شاحوم ليف .. وهو مخطط العملية وقائدها الفعلي وهو من أطلق الرصاص على أبو جهاد . ولقد مات في حادث مروع عام ٢٠٠٠ في شارع وادي عربة حيث سقط من دراجته النارية وهو يقودها بسرعة جنونية مما أدى الى تقطيع جثته الى عدة أجزاء .

إياك رغونيس .. مهندس وضابط كبير في وحدة هيئة الاركان وأحد المشاركين في اقتحام بيت أبو جهاد واغتياله ، وهو من صمم بيتاً من كارتون مطابقاً لمواصفات بيت أبو جهاد لسهولة أقتحامه . وقد مات نتيجة جلطة في الدماغ .

الجنرال عوريد رووم .. الذي مات أيضاً بالسكتة القلبية .

ويتسأل مؤلف الكتاب ؟. عن تلك العملية التي أستغرقت خمسة دقائق وثمانية رصاصات في الصدر ، لكنها سبقتها شهور في الاعداد والتخطيط بمشاركة ثلاثة ألاف شخص . ويتسأل مؤلف الكتاب عن تلك الحتمية الحياتية التاريخية في مصير هؤلاء المنفذين  . هل هو القدر أم الأنتقام لدم أبو جهاد ؟.

 

في العراق لقد وقعت قصة مشابهة بتفاصيل نهايتها المأساوية في أحداث ثورة تموز ١٩٥٨ أي في صبيحتها حول ما جرى بواقع مؤلم ومأساوي لاينم الا عن جهل وحقد وتخلف في أبادة العائلة المالكة والتي حكمت العراق ما يقارب أربعين عاماً عبر الإحتلال ( الأنتداب البريطاني ) . في خضم الصباح الباكر من ذلك اليوم والبيانات والأناشيد تعزف بنجاح الثورة من مبنى الصالحية والمطالبة برجال العهد السابق أن يسلموا نفسهم الى ثوار الثورة ، حيث توجهت أكثر من قوة عسكرية أخذتها حماسة الأنتصار ولعلعة البيانات الى قصر الرحاب حيث تقييم العائلة المالكة الشاب الملك فيصل الثاني وخاله ولي العهد عبد الآله وأفراد عائلتهم نساء وأطفال ، وأثناء خروجهم من الباب الخلفية وصل على رأس قوة عسكرية مدججة بانواع السلاح من معسكر الوشاش ضابط المشاة عبد الستار العبوسي . وفي لحظة خروجهم من الباب حاملين على رؤوسهم المصاحف ولافتات الاستسلام ملك ووصي ونساء وأطفال وخدم . وفي لحظة جنونية ودموية ضغط الضابط العبوسي بأصبعه على زناد سلاحه ليلقي بهم جثث هامدة في حديقة باحة القصر ولتتلقفهم الجماهير الغاضبة للتمثيل بجثثهم وسحلها في شوارع بغداد بين صدى البيانات التي تدعو الى نظام وطني جديد للانسان والحياة في مشهد تاريخي بائس ومدان ومقلوب  .

من تلك اللحظة التاريخية الفاصلة في تاريخ العراق السياسي يحمل الضابط العبوسي عبأ فعلته وندم جريمته طيلة حياته حيث عاقبة الضمير ولعنة الخوف تطارده في رحاله وترحاله في منامه ويقظته ، الكوابيس تطارده في أدق تفاصيل حياته الا أن أنتهى به المطاف النهائي عام ١٩٧٠ أن يدخل الى دورة المياه ويطلق رصاصة الرحمة على رأسه المحمل بالعذابات لتنتهي حياته منتحراً . ففعلها وخلص .   

أستوقفني هذين الحدثين الى رواية الجريمة والعقاب لدستوفيسكي وبطلها الشاب الطموح واليافع راسكو لينتوف لينتهي به المطاف الى قتل النفس البشرية العجوز المرابية وأختها بآلة الفأس ويسرق حاجاتهما ومن تلك الليلة لم يتمتع بطعم ليلة هانئة حيث يعيش في صراع نفسي يومي على أثر فعلته مما يشعر المجتمع ومن حوله رافضيه بعد أن أنفصل عنهم أخلاقياً وضميرياً والعيون تطارده ، مما يتهم بالجنون يؤدي به الى التفكير بالانتحار بعد عذاب نفسي قاسي وخوف مستديم يتمنى الموت بكل لحظة من حياته .
 محمد السعدي
مالمو / آب ٢٠٢٠ .

67
ذكرى مرور ١٣ عاماً .
في يوم ١٥ آب . يكون قد مضى ١٣ عاماً على أطلاق موقع بيدر الأعلامي في العام ٢٠٠٧ . كنت أحلم كأي عراقي مهووس بحب الأرض والوطن والناس  ، وأن أكون من خلال هذا الموقع وسط الناس والأهل والرفاق نتقاسم همومنا معاً ونشد من أزرنا تجاه حب العراق والنهوض به الى مرافيء الحياة الطيبة والنظيفة والآمنة ولهذه الدعوات بقى موقع بيدر زهرة القلب والضمير والعقل . ظل محافظاً على خطابه السياسي والاجتماعي والثقافي والحضاري ضمن القييم التاريخية للعراق وحضارته مع مراعاة وجهات النظر المختلفة بعيداً عن روح النكوص والشتيمة والطعن والغدر . من حق الجميع وبمختلف الالوان والاتجاهات والأثنيات أن ينشر به في التعبير عن أرائه ومواقفه ومن حق الآخرين أن يردوا عليه بشرط تكفله روح الصبر والتسامح ومفهوم الديمقراطية وحب الأوطان .

فمن حق كل العراقيين والعرب أن يعبروا من خلاله عن وجهات نظرهم دون المساس السيء بأراء الآخرين وأن تقاطعت مع أفكارهم . عملت المستحيل وهذا ليس سهلاً في عالمنا اليوم أن يكون موقع بيدر مستقلاً عراقياً وطنياً يعكس به تاريخنا المشرق وحراكنا الوطني وتراثنا الثقافي . بعد حفنة من الاعوام على أنطلاقه مع خيرة طيبة من الشباب المتطوعيين والكتاب الامعين .

هل أجد حققت في قرارة نفسي هدفي وغايتي في الدفاع عن العراق وأهله وأرضه وتاريخه ؟.

لا طبعاً ليس بمستوى الطموح والهدف ، لكنه قطع أشواطاً مهمة بأتجاه ترسيخ أسس المحبة والتسامح والوطنية والثقافة ، ورغم التلويحات المتعددة من جهات شتى تحت ضغط الأغراءات أن يحييد عن أتجاهه وموقفه أو ممن حاول الاساءة الى الموقع بألصاقه ببعض المقاصد السيئة البعيدة عن هدف أنطلاقه وحسن غايته .

أتقدم بهذه المناسبة العزيزة على قلوب كل من تابعها وساهم بها وأضاف لها حرفاً أو أسدل لها معنى وممن مازال متواصلاً في دعمها من خلال مقالة أو شعراً أو خبراً أو رأياً سديداً من أجل تطويرها ، أمتناني الكبير لهم مقروناً بالعرفان والوفاء والمواقف فلولاهم لم تكن بيدر موجودة بهذا التألق والموقف والاستقلالية . فهم كثر ومهمين ولهم بصماتهم ومواقعهم في المجتمع والثقافة . 

هيئة تحرير
شبكة بيدر الاعلامية . 
مالمو / ٢٠٢٠

68
ثرثرة فوق النهرين / دجلة والفرات .
لم يعد العراق ذلك البلد الذي نتمناه الا أطلالاً في ذاكرتنا القديمة ، الذي سحقها الزمن والغياب القسري ، ولم يعد لنا بلداً ذات كيان سياسي ودولة مؤسسات وأنظمة حكم وتشريعات ودساتير وأعراف أجتماعية ومثل فكرية وثقافية ، حيث تصدعت هويته الوطنية المجتمعية بفعل صراع أبنائه السياسي المجحف على كراسي الحكم بعد أحتلاله العام ٢٠٠٣ . أبنائه وشعبه هم الوحيدين الذين يتحملون ما أصاب العراق من هوان وتشتت وتدمير وهذاجزء من بناء الشخصية العراقية ونفسيتها في التلون والتملق والضعف أمام مالك الجاه والقوة والمال . قد يسأل البعض ؟. أن أغلب شعوب العالم أدت الى تلك النتائج عندما أنهارت أنظمة الحكم بها الدكتاتورية والقمعية . الجواب هي نعم ، لكن ليس بالمستوى الي مر به العراقيين في علاقتهم مع الحاكم منذ تأسيس الدولة العراقية ١٩٢١. يتجرأ البعض أن يتظاهر في ساحة التحرير أو ساحات الاعتصام حاملاً لافته براقه ضد الفساد وهو يتقاضى أربعة رواتب زوراً وبهتاناً بأوجه أجنده جلبها معه المحتل وعمليته السياسية الفاسدة والتي أستهدفت بناء المجتمع وتنميته . تحضرني حكمة للمناضل الوطني نيلسون مانديلا ( أن المناضل عندما يتقاضى ثمن نضاله يتحول الى مرتزق ) . 

عندما أحتل الامريكان بغداد عام ٢٠٠٣ . كان رجالات النظام العراقي السابق يتوعد ويهدد الغزاة بالانتحار على أسوار بغداد بجهازية مليونين بعثي عقائدي فدائي ، ولكن عندما وقعت الفجيعة وأخترقت دبابتين أمريكتين جسور وشوارع العاصمة بغداد وأستقرتا على جسر الجمهورية لساعات تحت عدسات ووكالات التلفزة العربية والعالمية  لم نرى ونسمع طلقة واحدة بأتجاهما ولافدائي بعثي يعكر وقفتهما والفجيعة الأكبر تبخبر وماعوا هؤلاء الرفاق البعثيين والبعض منهم وصل به الحال والأسى الى رمى ملابسه الزيتوني وهويته الحزبية وسلاحه في مياه دجلة  ليعلن عن طوي مرحلة تاريخية صعبة ودموية من حياة العراقيين . ربما وقعت حالات مشابهة ومقاربة في عدة  بلدان ومن التاريخ القريب بلد نظامه شمولي وقمعي الاتحاد السوفيتي السابق عندما أعلن عن أنهياره وفشل تجربته الاشتراكية تزاحم الالاف من الشيوعيين السوفييت الى ضريح لينين في الساحة الحمراء بتمزيق هوياتهم الحزبية ورميها على الضريح . وقد بلغ عدد الاعضاء الشيوعيين السوفييت عشرة ملايين فقط في موسكو أربعة ملايين ولم يتجرأ أحدهم يقف ويصد السكير يلسين وهو يتبختر على ظهر الدبابة في شوارع موسكو أو يقف ضد خطط كورباتشوف في تدمير بلد الاشتراكية الاول .

في العراق المشهد يختلف في عرضه المسرحي السياسي هؤلاء البعثيين الذين تخلوا عن الزيتوني وأبدلوه بالعمامة أو المحبس ذات الشذرات الملونة الكبيرة وبروز الآثر الواضح في وسط الكصة من كثرة السجود تحت عباءة الاسلام السياسي بل راحوا يدعون ببطولات في معارضتهم لسياسة النظام السابق عبر القنوات الفضائية ومجالسهم برائحة تزكم الذوق العام وتعكر المزاج وهذا ليس فقط محصور بين البعثيين ، أنا أعني في حديثي الشخصية العراقية عامة . وفي تجارب شخصية مختلفة ومهمة وخطيرة في مسيرة حياتي السياسية .

يقول فيودور دوستوفيسكي ( أنا أنطق بالذي أنت لاتجرأ التفكير به ) . كنت أشعر بالحيرة وأنا مازلت في وعيي الأول ، عندما فرط التحالف بين البعثيين والشيوعيين في نهايات السبعينات . وما آل أليه حالنا ووضع وحياة رفاقنا ، وأنا هنا أعني بشكل جلي لايقبل التأويل الرفاق الذين تساقطوا سريعاً وتحولوا ضمن منظومات وأجهزة البعث ولا أعني الرفاق الذين ضعفوا أمام آلهة السلطة القمعية لعدة أسباب ودوافع وبقوا وحافظوا على تاريخهم السياسي بدون أن يلوثوه رغم كل الضغوطات النفسية والاجتماعية والاقتصادية فأنا أرفع لهم القبعات رغم مرور تلك السنيين .
أذن .. أعني بهذه السطور ممن وضع خدماته وأمكانياته تحت أجهزة البعث . طيلة سنوات غيابنا أي غياب دورنا السياسي القسري في معترك المشهد المحتدم حتى عام ٢٠٠٣ وسقوط قلعة البعث على يد المحتلين الامريكان ، ففي خضم هذا المشهد الهش والفاسد طفحوا هؤلاء على سطح المشهد وطرحوا أنفسهم مرة أخرى كشيوعيين بعد أن أطمئنوا لوجود حاضنه أمنة لهم تستوعبهم هو عودة الحزب الشيوعي العراقي ضمن أشتراطات الوضع الجديد والغريب تحت حراب الاحتلال وعمليته السياسية الطائفية أيضاً لاخلاف على ذلك ، لكن الخلاف والمؤلم عن هؤلاء الرفاق المتملقين والمتلونين وبعد أن تحصنوا بمواقعهم ضمن الوضع العام والهش ، راحوا يكيلون التهم والافتراءات الخبيثة على المناضلين الحقيقين والذين لم يهادنوا الدكتاتورية وأساليبها الملتوية وتحملوا السجون وتحدوا المعتقلات وعانوا من ظروف نضال قاسية وقساوة الغربة والبعد عن الأهل والوطن ، لانهم رفضوا وناضلوا ضد الوضع السياسي الجديد وفضحوا أجندته .

يشير العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي في طروحاته حول الشخصية العراقية بالازدواجية ويعزيها الى ذلك الصراع بين البداوة والحضارة وبين المدنية والريف في غياب واضح للوعي الوطني والاجتماعي . غادرت الوطن العام ١٩٨٣ ورغم الظروف الصعبة التي واجهتني بقيت متواصلاً مع الأهل والرفاق والاصدقاء والمعارف عبر طرق وحيل عديدة محافظاً على ديمومة تلك الايام ، وكنت أتلقى أخبارهم بعضها حزينة ومؤلمة ومؤذية لكني كنت أستوعبها بحكم الظروف الصعبة التي يمرون بها تحت حراب سياسة الدكتاتورية والحروب والقمع والحصار فلا جدال على قدرة الانسان وطاقاته في التحمل والاستيعاب .

في العام ٢٠٠٣ وبحكم الظروف الجديدة من تداعيات خطيرة على مستوى الوطن والجماعات والمواقف وربما البعض يشكو من عقدة تأنيب الضمير والدونية أحدهم في ليلة وضحاها تحول من وكيل أمني معتق الى تصدره المشهد الثقافي والسياسي الملتبس والهش وبعد أن حقق بحبوبته في الموقع والجاه عبر التدليس والنفاق لمن هم مالكي القرار وهم أصلاً بحاجة ماسة الى مثل هؤلاء النعيق لتبيض صفحاتهم الآسنة . هذا الشخص راح في مجالسه عبر المنتديات الليلية وسهرات المجن يقييم ويسيء الى سمعة العديد من المناضلين الذين عانوا من سالف الايام ودفعوا أثمان غالية على كافة المستويات . هذا نموذج صارخ لعراق جديد ماشي الى نفق مظلم بلا أفق يلوح عن أنفراج  قريب بل تدمير وقتل وضياع وطن .

لم تكن المعايير السابقة سارية الآن في الأنتماء والنضال ولايبررها الوضع السياسي الجديد في العراق ، كانت هناك تقاليد نضالية تربينا عليها في الالتزام والانضباط الحزبي ( المبدئي ) . في عودتي اليتيمة الى العراق بعد أحتلاله وفي تجوالي مع أحد الرفاق السابقين كان يحمل معه أينما حل بحدود مئة هوية حزبية لمن يريد أن ينتمي للحزب الشيوعي العراقي ومن يكون ؟. وللأسف . بدون ترشيح ولا حتى تزكية من نفر .

عشرات البعثيين ( السيئين ) على معرفة تامه بهم أيام النضال الصعبة بحدود محيطنا البيئي كانت أدوارهم ومواقفهم قذرة وسببوا أذى وغياب عوائل كاملة وحطموا حياة رفاق لكنهم مازالوا اليوم طلقاء ويعيشون في مستوى حياة راقية بعيداً عن المسائلة القانونية والأخلاقية بعضاً منهم أنتقل فقط من محيط القرية الى فضاءات العاصمة بغداد لينضوي تحت عباءات أحزاب العملية السياسية الفاشلة ، وأنا هنا ليس من دعاة الأنتقام والثأر والحقد لكن ضد هؤلاء في أدعاءتهم والنيل من تاريخ المناضلين . والدعوة الى محاسبتهم ضمن عدالة القوانين العادلة في عراق عادل وحر .
محمد السعدي 
مالمو/٢٠٢٠

69
سومريون .. سير وحكايات .
أطلقت مؤسسة بيدر في شهر آيار من هذا العام ٢٠٢٠ ، في التعاون مع مؤسسة أبن رشد ومعرض الكتاب العربي برنامجها الثقافي والفني والفكري على منصة تطبيق ( زووم ) . ورغم قصر إنطلاقته في أستضافته لشخصيات مهمة في مجالاتها الأبداعية والفكرية وذو شأن في الأبداع والثقافة ، لكن الملاحظ وهذا الشيء المفرح هو كثرة متابعيه عبر ناصيات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية مما ترك للمشرفين على العمل مساحة أوسع من التواصل والمتابعة والتقديم ، وكل واحد من هؤلاء كانت له بصمته الإعلامية هبة نبيل والشاعر أحمد الثرواني والمخرج مصطفى عبود والفريق الذي يعمل خلف الكواليس . كان الضيف الأول لبرنامج سومريون الموسيقار نصير شيمه ، وكان هناك أتفاق مسبق مع مؤسسة بيدر سيكون ضيفها في أحياء حفل موسيقي كبير على أهم مسارح مدينة مالمو السويدية ، وفي لقاء يعد الأول من نوعه في هذه المدينة النائمة على هدوء موج بحر البلطيق ، لكن الجائحة اللعينة كورونا في تهديد حياة الناس ومنع التجمعات هي التي عرقلت من قيام هذه الفعالية الكبيرة في مدينة مالمو / السويدية ، كان ينتظر أن يكون لقاء مباشر مع محبيه ومتابيعه من الجالية العربية والأوربيين كما أشارت المبدعة هبة نبيل في لقائها معه عبر شاشة زووم . وبسبب تلك الظروف الطارئة ، كان ضيفنا الأول في برنامجنا سومريون والذي مازال محط أهتمام ومتابعة من متابعي وناشطي ناصيات التواصل . في هذا اللقاء الطويل من عمر البرنامج روى الموسيقار نصير شيمه أهم محطات حياته ومرابع طفولته ومشاريع المستقبل ومواقفه الانسانية . وقد نشرت الحلقات ومازالت على منصة تطبيق زووم وبث مباشر على شبكة بيدر على ( فيسبوك ) .

هند كامل الفنانة المتألقة والمبدعة كانت ضيفة البرنامج في حوار هاديء ومتنوع وصريح وبعيداً عن المجاملات في تصديها للمشهد الثقافي العراقي بين الطموح والمعوقات . وهند كامل برزت كممثلة في مطلع الثمانينات وحققت موقعاً متقدماً في الدراما العراقية والعربية .

علي بدر الملحن العراقي هو أيضاً أطل على شاشة برنامجنا مع الاعلامية هبة نبيل في تعقب تسلسلي لاهم محطاته في عالم التلحين وأفاق النهوض بالاغنية العراقية كلمة ولحن وغناء وأنعكاساتها على مزاج الناس وتأثير محيط البيئة على تطورها .

خليل فاضل الممثل المبدع الشاب أبن القامة العراقية الكبيرة فاضل خليل ، كان ضيفاً هادئاً في الحوار معه بعيداً عن التكلف وصريحاً في طروحاته ، وأتحف الحلقة بصوته الشجن بمقاطع من الغناء العراقي .
 
حيدر النعيمي .. إعلامي دؤوب ومؤسس مهرجان الفن العراقي من خلال تواصله وأهتماماته بالفن والفنانين العراقيين صاحب جاهزة الهلال الذهبي . كان ضيفنا في حلقة برنامجنا سومريون الخامسة في حوار صريح عن أهم محطات حياته والمعوقات التي تواجهه ومشاريعه الكبيرة للمستقبل .   

كان ضيف برنامج سومريون في الترتيبة السادسة الممثل العراقي حسين عجاج خفيف الظل وممتع الحديث عن تجربته الفنية وتطلعاته حول الدراما العراقية وأفاق النهوض بها. وعكس من خلال حواره مع الاعلامية هبة نبيل عن أهم الاعمال التي قدمها عراقية وعربية . وعن ماذا يحمل في جعبته من جديد من أعمال تمس واقعنا العراقي أو تعكس جزء من معاناته التي طالت لعدة أسباب .

رأت مجموعة برنامج ( سومريون ) وعلى ضوء المقترحات التي قدمت لها من قبل جمهرة المتابعين للبرنامج ، وهي حقاً كانت ضمن جدولة أعمالنا في أستضافة نجوم ومبدعين عرب لأجل التنويع والخروج من المحيط المحلي العراقي الى فضاءات أوسع . كانت ضيفتنا في الترتيبة السابعة المخرجة والمنتجة الشابة البحرينية إيناس يعقوب . وأني سبق وألتقيتها في مهرجان فني وثقافي عربي في العاصمة تونس العام ٢٠١٧مهرجان الإذاعة والتلفزيون في دورته التاسعة عشر  . وقد حصلت على جائزة من أدارة المهرجان لأحد أفلامها الوثائقية المتحركة ( حول أبن بطوطة  ) . الرحالة العربي . وقد نجحت في أختياراتها لقضايا تاريخية تشكل مركز أشعاع فكري وتاريخي في تاريخنا مثل الفيلم الوثائقي ( رجال رسول الله ) . وقد منحها الرئيس الفلسطيني محمد عباس شهادة تقديرية بأسم الثقافة والأداب .

كان ضيف هبة نبيل الشاعر العراقي الكبير حمزة الحلفي في حوار مفتوح وجريء عن أهم محطات حياته الابداعية وعلاقتها بالوضع العام العراقي وفي التعبير عن معطياتها الكامنة في التواصل مع الابداع والأوجاع . شاعر شفاف وقريب الى النفس البشرية ليس فقط شعراً وأنما روحاً بتواضع شأن الكبار . وهذا ما لمسناه في حواره المتواصل لساعة من الزمن . بدأ من بدايات طفولته وتأثرها بالبيئة وبالذين سبقوه من مبدعين وتأثره بهم ليس فقط شعراً وأنما فكراً وسلوكاً بعقلية اليسار .

كان ضيف الحلقة التاسعة الناشط المدني والممثل المميز حيدر عبد ثامر في حديث شيق وممتع عن أهم محطات حياته ، من طفولته ورغم حرماناتها لكنها كانت نقطة إنطلاقته الاولى نحو التمثيل والشهرة . وفي شهور مضت كان ضيفنا في السويد واللقاء مع جمع عراقي وعربي في أمسية جمعتنا بمبنى أبن رشد بالتعاون مع مؤسسة البيدر في الحديث عن بطولات شبابنا في أنتفاضة تشرين . كان نموذجاً حياً وصادقاً في رؤياه عن بطولات شبابنا في ساحة التحرير وفي نقل صور حيه عن يومياتهم ومعاناتهم وتحديهم لاساليب الحكومة وميليشياتها من أجل شعار نازل أخذ حقي وأريد وطن .

الفنان المبدع باسم الباسم كان ضيف حلقتنا ( سومريون ) العاشرة . الفنان الذي قدم أعمالاً مشتركة على المسارح ودور السينما السويدية في تناول قضايا أجتماعية وتاريخية تعكس جوانب مهمة من العلاقة والأندماج مع السويديين .

وفي ختام هذه الحلقة نكون قد أنهينا الفصل الأول من برنامجنا سومرين وخليكم على موعدنا معكم في حلقات جديدة وشخصيات مبدعة ومهمة في الأوساط الثقافية والادبية . وقد ترك فريق العمل بصماته الواضحة في نجاح البرنامج المتمثل بالاعلامية المجتهدة هبة نبيل وأعداد الشاعر المبدع أحمد الثرواني وأخراج المبدع مصطفى عبود وللذين خلف الكواليس تحية وتقدير ولفريق العمل الحب والود .
محمد السعدي
مالمو / ٢٠٢٠


 

70
عطشان ضيول الايزريجاوي .. قتلوه ؟.
عطشان ضيول من شيوعيي العراق الذين يشار لهم بالبنان والفخر والموقف في سنوات النضال الصعبة والمعقدة ، في بدايات عمله السياسي والتحول الفكري في ذهنيته ومواقفه الشديدة أدت الى تعرضه الى المطاردة والاعتقال والتعذيب في وقت مبكر من حياته  . وظلت حياة الاختفاء تطارده طيلة حياته السياسية في العراق قبل نفيه وأبعاد شبحه عن صلب الاحداث من قبل أجهزة الحكم المتعاقبة على العراق لحين ثورة ١٤ تموز العام ١٩٥٨ .

وبعد تخرجه من الكلية العسكرية برتبة ضابط أعتقل لمدة عامين لميوله الشيوعية في ظل الحكم الملكي وتعرض الى الأذى والأنتهاك . في عشية ثورة تموز ظهر كغيره من الشيوعيين متصدراً المشهد السياسي الجديد في ظل الجمهورية . وأخذ على عاتقه وبتوجيه من الحزب الشيوعي التنظيم الحزبي في القوات المسلحة بل مسؤول التنظيم العسكري بأعتباره عسكرياً لامعاً وسياسي ومساعد آمر المقاومة الشعبية طه البامرني  . وأصبح عضو لجنة مركزية من العام ١٩٥٤ الى العام ١٩٦١ عندما أبعد من العراق بأتفاق سوفيتي مع قيادة الحزب الشيوعي العراقي لمواقفه المتشددة والصلبة تجاه سياسة الزعيم عبد الكريم قاسم في أدارة  حكم البلد ، بل كان من أوائل المناضلين الذين يطالبون بأزاحته عن السلطة مما أزعج السوفييت ومراهنتهم على سياسة الزعيم في أنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية من خلال التعويل على تحولات عقلية البرجوازية الوطنية في البناء الاشتراكي . أراد أزاحة الزعيم قاسم عن دفة الحكم مع الحفاظ على حياته وعيشه بعز فوقف معه قادة الحزب سلام عادل وجمال الحيدري وعارضوهم عامر عبدالله وثابت حبيب العاني والرفاق السوفييت وهم لهم الأثر الاعظم في مصير القرارات المصيرية . ومن خلال قراءاتي المتأخرة حول سياسة السوفييت وعلاقاتهم بما يسمى الموقف الاممي . كان موظف بسيط وممكن ساذج في القرار السوفيتي يحدد مصير شعوب وأوطان .  وعندما أحتدم الصراع حول سياسة الزعيم قاسم بين قادة الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول مع أخذ السلطة من الزعيم وقف ضدهم كتلة الاربعة بهاء الدين نوري وعامر عبدالله وزكي خيري ومحمد حسين أبو العيس الذي كان هو الأقرب الى سلام عادل فاستشهد معه في أنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ . وصل حد هذا الصراع الداخلي الى أبعاد سلام عادل وعطشان ضيول الى موسكو بحجة الدراسة الحزبية العام ١٩٦١  . أما الشهيد جمال الحيدري رفض الذهاب الى موسكو وترك ساحة العراق .

كان الأعلان عن وجهتهم الى موسكو لغرض الدراسة ، لكن الحقيقة هو أبعادهم عن قرب القرار وتأثيرهم الواضح والذي بدأ يتعاظم بدور الحزب الوطني والميداني من تطورات الاحداث ، وبعد شهور من وصولهم شعروا بذلك وأرادوا العودة للعراق بكل الطرق وبأي ثمن ، حيث في النهاية عاد سلام عادل قبل ٨ شباط ١٩٦٣ بعدة شهور ووجد الحزب الشيوعي مشتت والتنظيم العسكري مجمد والقوى القومية والبعثيين متصدرين الاحداث والزعيم قاسم بتخبط في مراهنته على القوى المعادية والتي تضمر له شراً أنتقاماً من الشيوعيين وفي الختام أطاحوا به وبالجمهورية وبالشيوعيين ، أما عطشان ضيول أنتهى به المطاف في مستشفى الأمراض العقلية بموسكو أنتقاماً في مواقفه ورغبته في العودة الى العراق وأنتقاد السياسة السوفيتية من الملف العراقي الساخن وملفات أخرى .

أنتهت حياة عطشان ضيول في موسكو برميه في مستشفى للمجانين ومصحات للامراض العقلية للأنتقام منه ومن مطالباته في العودة الى العراق أو سفره الى دول أمريكيا الاتينية ليلتحق بركاب المناضلين جيفارا ورفاقه . كل محاولاته باءت بالفشل رغم طول السنيين في العاصمة موسكو الى أن تمكن وبمساعدة رفاق شيوعيين أن يخرج من حجره وحجزه بجواز أردني منح له من الحزب الشيوعي الاردني يحمل أسم أحمد داود فاوصله هذا الجواز أن يدفن في مقبرة الغرباء في العاصمة عمان وتمكن من خلال وثيقة الجواز هذه أن يصل الى برلين الشرقية عبر العاصمة باريس ويمكث لليلتين فقط في بيت الشاعر كاظم السماوي ، كما روى لنا عن هذا اللقاء الرفاقي المخضب بالدم في مدينة مالمو السويدية العام ١٩٩٠ ومحاولاته معه في ثنائه للبقاء معه لكن لم تلويه كل الرغبات والحجج . فانتقل الى مدينة ( كولن ) المانيا الغربية سابقاً وأصدر أقصوصة ورقية أطلق عليها أسم ( أساس ) للتعبير عن وجهات نظره وروي تجاربه السابقة ومستشفى المجانين ودعم سياسة الكفاح المسلح الذي تبنته القيادة المركزية مما حسب على ملاكهم ، وتلك المواقف لم تكن في منهى من متابعة أثره من قبل المخابرات السوفيتية لحين أقتنافه فأنتهى به الحال جثة مرمية بالشارع والفاعل مجهول الى يومنا هذا وحتى بدون تسليط الضوء على محطات حياته المهمة ولو أستذكار بسيط ليوميات حياته والتي قضاها مناضلاً بين صفوف الشيوعيين .

وفي سعي المتواصل الذي تحقق باصدار كتابي الحلم والشهادة عن الضابط الشيوعي خزعل السعدي العام ٢٠٠١ عن دار قوس للطباعة في العاصمة الدانماركية ( كوبنهاكن ) . أستلمت رسالة من المرحوم كاظم السماوي في يوم ٥ تشرين الثاني العام ١٩٩٨ . ضمن ما يذكر بها والمنشورة في كتابي كالأتي . (( كان خزعل السعدي العسكري التقدمي كرفاقه العسكريين التقدميين .. غضبان السعد وعطشان الايزرجاوي وسليم الفخري .. وكانوا في مسيرتهم الثورية حرس الثورة لو لم تشل أيديهم وتركهم خارج دائرة الفعل الثوري لأجتهادات خاطئة .. وزج بعضهم في السجون ليظلوا وراء جدرانها يتململون لما أحاق بالثورة من أخطار مهددة بالانهيار والسقوط .. ومن تصاعد فلول أعداء الثورة .. وكانوا السلاح لاجتثاث جذور الردة ورموزها من رجعيين وشوفينيين . فقد أعيد غضبان السعد وأحيل الى دائرة الشلل المتعمد وكان أول ملحق عسكري في موسكو .. وأوقف سليم الفخري وأبعد عن الأذاعة والتلفزيون .. وأبعد عطشان ضيول الى موسكو وكان مسؤول الخط العسكري في الحزب الشيوعي وكان يرصد تحرك القوى الأخرى . وقرر الزحف قبل أن تتهيأ لهم أي فرصة للتفرد بأي أنقلاب يهدد الثورة .. وزج خزعل السعدي .. وكان قائد فيلق الدبابات خلال الثورة في السجن )).

ينحدر عطشان ضيول من عشيرة آل أزيرج من مدينة الناصرية ، وفي وقت مبكر من حياته أنتقلت عائلته الى بغداد وسكنت حي الدوريين وهنا تعرف وأنتمى الى الحزب الشيوعي العراقي في وقت مبكر من حياته ولمواقفه وشجاعته أحتل مواقع مهمة في تنظيمات الحزب الشيوعي العراق مما لفت أنتباه القوى المعادية ورصد تحركاته في النيل منه لكن حلت نهايته على يد رفاقه بالتعاون مع تطلعات الرفاق السوفييت في رسم سياستهم على ضوء مصالحهم الضيقة بعيداً عن مصير وتطلعات الشعوب في التحرر والديمقراطية .

محمد السعدي
مالمو / ٢٠٢٠

71
تضاريس الخوف والموت

بعد أن أسدل الستار على أعمال المؤتمر الرابع لحزب الشيوعيين العراقيين في  ١٥ تشرين الثاني العام  ١٩٨٥ . ورفعت خيمة المؤتمر من منطقة ( أرموش السفلى ) في شريط لولان الحدودي وفيها ألغى النصف من الرفاق  النصف الآخر . إتجهت السياسة الجديدة في تعزيز تنظيمات الداخل من خلال زج عدد أكبر من الرفاق نحو صوب مدن الوطن . وأتخذ من الفصيل المستقل في وادي ( زيوه ) على نهر الزاب خلف مدينة العمادية نقطة إنطلاق وتجميع الرفاق وتهيأتهم لوجستياً وتنظيمياً ومعنوياً من خلال المناطق الذي ينتمون لها ( الفرات الأوسط ، الجنوبية ، بغداد ، والمنطقة الوسطى ) . بأشراف مباشر من قادة الحزب عمر الشيخ ( أبو فاروق ) ، حميد البياتي ( أبو داود ) ، أرا خاجادور ( أبو طارق ) ، بعد أن أزيح باقر إبراهيم ( أبو خولة ) عن القيادة المركزية للتنظيم بعد كلمته التي ألقاها في خيمة المؤتمر بتخليه عن مسؤولياته كافة وأعتذاره من المندوبين عدم ترشيح نفسه ثانية لاي مسؤولية حزبية مما سبب أرباكاً داخل تنظيمات الفرات الاوسط بتلك أعتبروها مفاجأة ، كان هناك أفق في التعويل عليه  .

تجمعنا في وسط ذلك الوادي الضيق ، والذي أستهدف فيما بعد بالاسلحة الكيمياوية بسلاح الطيران الحكومي ، كانت جريمة ما زالت تداعياتها تلاحق ملفات جرائم النظام الراحل ، وقد بلغ عددنا التقريبي ستون رفيقاً من كل بيدر حبة . وفي شتاء قارص من نهائيات العام ١٩٨٥ وفي غرف رطبة ولم يكسر رطوبتها الا دفء الأفاق بالعزم نحو أماني جديدة من النضال والأجواء الحميمية الطاغية بين الرفاق والأماسي اليومية حول وثائق المؤتمر ونتائجه ودعواته نحو تعزيز العمل الحزبي في الداخل ودعمه الكامل لتبقى الجبال نقطة تجمع وهدف لالتحاق الرفاق من بطش الدكتاتورية والالتحاق من الخارج ( القامشلي ) ، تعد المنفذ الأهم والمهم للالتحاقات للحفاظ على كيان الحزب والخوف من العزوف عن الركب الحزبي .

في إعداد الخيارات من الرفاق بالتوجة الى مدن العراق تجري بسرية تامة ، لكن ممن تكثر اللقاءات به داخل الوادي أو على سطوح غرف المقر جيئةً وذهاباً تعطي ضوء أخضر للرفاق الأخرين أنه مهيأ قريباً في النزول الى الداخل . بداها الرفيق الشهيد محمد وردة ( أبو جيفارا ) ، فبدل من أن يأخذه الدليل ( شهاب ) ، أبن العمادية العميل المزدوج الى مدينة الموصل أمناً نحو بغداد ، دخل به الى مديرية أمن دهوك وضاعت أخباره بين الرفاق حيث رفاق تنظيم الداخل يتطلعون الى وصوله بلهفة للاطلاع على نتائج وأخبار عقد المؤتمر وبين قيادة التنظيم المطمئنة الى وصوله بسلام لانه تعتقد كان بيد أمنه . بعد فترة زمنية أنحصرت بأربعين يوماً ، وهو ما زال يتلوى من وطأة التعذيب اليومي في أقبية البعث المنحل ، كان يعتقد فترة زمنية كافية للرفاق بأن يقدموا على تغير أوكارهم الحزبية ، لكن لم يدر على باله أن رفاقه ينامون بهدوء بعيداً عن تلك التوقعات ، فأجبر أن يبيح ما في صدره من أسرار خطيرة عن الاوكار الحزبية وأجهزة الطبع والاسلحة ، كانت ساعة صفر واحدة في الواحدة ليلاً من أول ساعة في السنة الجديدة من شهر كانون الثاني  العام ١٩٨٦ . في الهجوم على عدة أوكار حزبية خربطت حسابات أجهزة السلطة في القدرة على بناء هذا التنظيم رغم أساليبهم القذرة في تشويه ومعاداة الشيوعية . رفاق سطروا ملاحم بطولية ( أبو غسان ، أبو أزدهار ، أبو سهيل ، أبو قيس ، أبو جلال ، أبو ستار ، سفانة ، أم ستار ) . أبو جلال ( محمد الخضري ) هو القائد الفعلي للتظيم أستشهد في مقاومة بطولية في محاولة لالقاء القبض عليه ، أما أبو قيس  خالد جاسم معاوية ، وقع بيد المخابرات بعد مقاومة بطولية في بيتهم في مدينة بعقوبة ومحاولته للإلتحاق الى الجبل .

بعد كارثة الرفيق محمد وردة ( أبو جيفارا ) . تهيأ للنزول الى مدن العراق والتي تعد كابوساً في ظل نظام فرض سطوته بقوة الحديد والنار وألاعيب المخابرات والأمن ، كل تلك السطوات المخيفة والمرعبة لم تحد من أرادة الشيوعيين في مواصلة النضال والتحدي . غابا عنا وعن عداد الفصيل الرفاق المرحوم علي الجبوري ( أبو أحمد ) ، وعبد فيصل ( أبو عبير ) . في دقيقة أو ساعة لا أحد يعرف توقيتها في التحرك ومع من ، من الرفاق والطريق المؤدي للقرب من المدن القلقة بأتجاه العاصمة بغداد . غابوا وبعد شهور وربما سنة كاملة تواردت الأخبار عبد فيصل معتقل وعلي الجبوري عاد الى الجبل محملاً بحكايات وهموم لم تحكى بعد .

اللقاءات في الفيصل أشعرت الجميع لمن الدور القادم في النزول الى بغداد . الرفاق الشهداء ( أبو بشرى ، أبو سالار ، أبو سرمد ، أبو أحمد ) . أستيقظنا في صباح ندي ، والشمس ما زالت غائبة عن سفوح الوادي وكلمعتاد تجمعنا حول سقيفة المطبخ في وسط المقر ننتظر من يد خفر المطبخ وجبة الفطور خبز منقوع بالدهن تفقدنا رفاقنا الأربعة شعرنا بغيابهم ، أنهم زجوا الى بغداد . غابت أخبارهم ولم نعد نسمع شيء عنهم الا بعد شهور أزداد الهمس بين الرفاق أنهم في قبضة أجهزة السلطة ومن بينهم الرفيق  ( أبو سرمد ) أستشهد في بيته  في ناحية ( الدغارة ) محافظة الديوانية ، عندما حاولت أجهزة السلطة في القاء القبض عليه فقاومهم فاستشهد . قدمت هذه المقدمة لكي أبين للقاريء المتابع طبعاً ومن يمتلك حساً في فرزنة الاحداث .

 بدأ الحديث معي حول التهيأ للنزول الى بغداد ، وكنت مهيأ نفسياً ومعنوياً ونضالياً وبقناعة لاتلين في مواصلة العمل النضالي الصعب والخطير مسنوداً على قناعات كاملة وبدون خوف ولا تردد ولا شيئ يحيد عن موقفي أن تطلب الآمر الاستشهاد . وكان معي سلام العكيلي ( محمد عرب ) ، من أهالي الخالص محافظة ديالى ، والذي يعد من الشيوعيين المنتميين بصدق وقناعة وشجاعة متميزة ، تعرفت عليه عن قرب في قاطع سليمانية وكركوك قبل سنوات قبل توجهه الى بغداد في المرة الأخيرة عام ١٩٨٤ ، وترشيحي للعمل معه في بغداد زادني قوة لمزاياه النضالية والشخصية . تحركنا في ليل’ دامس وتحت رذاذ مطر خفيف يعتكر حركتنا أحياناً مع مفرزة من الأنصار صوب قرى محافظة الموصل ، ولأنه كان عائد تواً من بغداد يحمل أنطباعات عن حركة الناس وخطط العمل والتحرك ، أتفقنا أن أتسلل قبله الى بغداد ، وأعتمد على حالي لمدة أيام لحين وصوله الى بغداد وحددنا نقطة اللقاء الاول في موقف الباص ( حافلة النقل ) بحي الأعظمية بجانب سينما الأعظمية والتي تحولت فيما بعد الى دائرة مسرح السلام ، وحددنا أن يكون يوم الجمعة الواحدة ظهراً وأن يكون الانتظار لا يتجاوز خمسة دقائق وأن لم يتم يعاد في يوم الجمعة التي تليه ، وأن لم يتم تلغى كل المواعيد وتلغى الاتفاقات وأن لانعرف بعضنا ولم نلتقي سابقاً ، وفعلاً لم نلتقي لانه في اللحظات الأخيرة منع من التسلل لتوارد أطراف حديث الى قيادة الحزب وقيادة التنظيم في الجبل عن حملة كبيرة في بغداد ومحافظة ديالى ضد تنظيمات وأوكار الشيوعيين ، أدت الى تحطيمها بالكامل ، بدأت أبحث عن مآوى حتى يأويني من ليل بغداد الموحش ، فلم أجده الا على رصيف مرآب النهضة محشوراً بين مئات من جنود الحرب ذاهبين الى أتونها الحارقة وويلاتها المجهولة ، وحتى البيوت التي أختارته ربما ستأويني سدت أمامي فلم يبقى أمامي الا البحث عن منافذ لم تكن في الحسبان من أجل تأمين ليلة أمنة بعيده عن الكوابيس والمخاطر الجدية التي تحيط بي من كل جانب وركن ، في ظهيرة بغدادية من نهاية شهر شباط ١٩٨٦ والشمس تسدل ذيولها بسطوع على أرصفة الشوارع ، حاولت يائساً في الاتصال بالدكتور كريم عبد الرحمن دبش من سكنة مدينة الحرية عبر تلفون البيت الأرضي فتفاجأ بمكالمتي ، وكان التردد والخوف واضحاً من خلال نبرات صوته وصداها هل أنا هو فعلاً ( علي الجبلي ) ، لقد مرت سنوات طويلة على غيابه وتقاذفته الدعايات بين الموت وقسم الاعدامات في بناية أبي غريب وعلى قمم الجبال وبين عواصم المدن ( دمشق ، طهران ) ، في الختام أستجاب الدكتور كريم عبد الرحمن دبش الى تأكيداتي هو أنا بعينه فحددنا موعداً سريعاً لرغبتي الملحة في منطقة ( باب الدروازة ) بمدينة الكاظمية ، عندما وصل الى المكان حاملاً تحت ذراعيه جريدة الجمهورية الحكومية كنت جالساً في ركن مزوي بمقهى شعبي أراقب المشهد ربما هناك من يتابعنا أو يرصد لحظات لقاءنا وبعد أن شعرت بتململه من طول الانتظار والذي لم يتجاوز الأ دقائق معدودة خرجت له فتصافحنا بحرارة فأطمئن أكثر عندما رآني مبتسماً بمظهر يوحي له بالأطمئنان أخذتنا حرارة الأحاديث تحت حرارة أشعة الشمس المتسلطة على رصيف الشوارع الى العبور الى حي الأعظمية عبر جسر الأئمة فمررنا بجانب منارات أبي حنيفة النعمان الى كورنيش الأعظمية عبر أزقة بيوتها القديمة . عادتني تلك اللحظات الى سنوات مضت عندما كنت طالباً في الأداب في التردد على تلك الأماكن ( مكتبة الاعظمية ، كورنيش الأعظمية ) ، وبيت أستاذنا المرحوم محمد يونس الساعدي عندما شكلنا وفد من طلبته في الأداب جامعة بغداد لزيارته بعد أن تعرض لأزمة صحية أقعدته لأيام في البيت ، وبسبب ظروفي الصعبة والخطورة المحيقة بي أن أرافقه الى بيتهم لقضاء ليلة هادئة من ليالي الخوف ، فذهبنا الى بيتهم في منطقة الحرية وتعرفت على أخيه راضي الطالب في جامعة بغداد ، ودارت بيننا أحاديث طويلة ولساعة متأخرة من الليل فركنا الى النوم بنفس غرفة راضي التي يطل شباكها على الشارع وبقي راضي يهمس بأحاديث العاشق الولهان بشوق حبيبته في التلفون مع خطيبته ، زميلته في كلية الأدارة والاقتصاد ، وأنا بين إيماءة النوم واليقظة وما بينها تعالت الأصوات الى سمعي بصراخ ينذر بوقع شيء خطير ، لم أعرف من أين هبطت عليه رباطة الجأش والهدوء الغريب وأنا السياسي المطارد والمختفي من عيون السلطات بمثل هكذا مواقف ، كان الأخ الصغير للدكتور كريم وراضي هاوي طيور ( حمام ) ومرتب لهم برج على السطح وحاولوا بعض منافسيه في تلك الليلة التسلق الى السطح وسرقتهن فأنكشف أمرهم  قبل تنفيذ الجريمة وحدث ما حدث ، كنت معتقداً أنا المستهدف في ظل وضعي المضطرب . في الصباح تحول ما وقع الى مزحة وأستغراب من تلك المصادفة الرهيبة . بعد ساعات خرجت من بيتهم يائساً للبحث عن شبر في أرض العراق الواسعة لتآويني ساعات من ليل مخيف .
محمد السعدي
من كتاب سيصدر في هذا العام .
بيني وبين نفسي .   



72
السفير من كابول الى البيت الأبيض عبر عالم مضطرب ؟.
هذا عنوان الكتاب الذي صدر في العام ٢٠١٧،  لزلماي خليل زادة السياسي والدبلوماسي الجمهوري الامريكي الأفغاني الأصل ، والذي أوكلت له مهمة المبعوث الرئاسي الخاص للمعارضة العراقية في الخارج ، وتولى بعد إحتلال العراق السفير الامريكي في بغداد بعد عزل السفير الامريكي الذي سبقه نيكروبونتي في فترة سريعة بعد توليه المنصب وبظروف غامضة  . في كتاب مذكراته يروي أهم محطات حياته السياسية في العاصمة بغداد في ظل الاحتلال الامريكي والتوسع الإيراني عبر دعم الميلشيات الشيعية ودفعها بأتجاه النحر الطائفي بين طوائف شعب العراق ، وفي الوقت الذي كانت تدعم الميليشيات الشيعية أيضاً تدعم أطراف سنية وقادة في تنظيمات القاعدة والتي تحولت فيما بعد الى تنظيم داعش الارهابي . وحسب المصادر التي سربت لاحقاً أن في عشية أحتلال العراق وفي وسط التحشيد الكبير والألهة الإعلامية المزعومة في الدعاية والكذب عبر قافلة من العملاء وبائعي الضمير ، كان هناك قواعد عسكرية ولوجستية لتنظيمات القاعدة على الحدود الإيرانية العراقية خلف قرى ( بيارا وطويلة ) في قاطع حلبجة وبأشراف إيراني تحضيراً لتدمير العراق أذا وقع الأحتلال وسقطت الدولة .

وقد تعرضت أبان الاحتلال تلك الثكنات والقواعد العسكرية الى قصف مدمر من قبل الامريكان ولم ينجى منهم الا عدداً قليلاً من ذلك القصف وكان من بينهم الزرقاوي ، والذي زج فيما بعد الى داخل العراق بمساعدة إيرانية .
في تلك المذكرات سأتوقف عند مفصلين مهمين عبر شاهدها وراويها هو زلماي خليل زاده في كتابه المضطرب .

دعم وتأسيس الميليشيات ؟.
تفجير القبة الذهبية للإمامين الشيعيين علي الهادي وأبنه حسن العسكري ؟.

كانت أمريكيا على دراية تامة وبأتفاق ضمني مع التوغل الإيراني في تدمير العراق عبر إذكاء الفتنة الطائفية بين أبناء الشعب العراقي من خلال تأسيس الميليشيات الطائفية وتأليبها على بعضها في شراء ضمائرها في التنافس على الطاعة والعمالة ضد مصلحة الوطن العليا . يروي زاده في كتابه عندما وصلت بغداد وباشرت بعملي في ظل وضع سياسي متشابك فليس سهلاً لي في البداية من أفاق نجاح قريبة بأتجاه تهدئة الوضع العام من خلال تقريب وجهات النظر بين أطراف سياسية متناقضة ومتعددة تحمل ثاراً على مخلفات الماضي بل المضي على أجتثاثه ولا يخلو من أصطفافات طائفية واضحة للعيان بأي لحظة تنفجر ، ومن خلال فريق عملي تصلني أخبار يومية شبة دقيقة عن أمتداد إيراني واسع من خلال ميليشيات عراقية ، كانت أغلبها في البداية تعتمد على العراقيين الذين كانوا عايشين في إيران ممن قذفتهم محن الحروب وأساليب القمع والاضطهاد ومن هاربي الحرب والأسرى ( التوابين ) ، ومنتميه الاحزاب الاسلامية وأولاد العوائل المهجرة بتهمة التبعية الإيرانية ، والتي أطلق عليها صدام حسين بعد سنوات نادماً أنها فوران دم ، لكنها تعد خطوة غبية وبعيدة عن أي أبعاد سياسية وقيم أنسانية .
 
وفي أشارة واضحة في كتابه عن الصمت والموقف المتفرج تجاه تطورات الاحداث . يذكر في كتابه وصلتنا معلومة عن وجود شخص إيراني يتحرك بريبة من خلال منظومة علاقات واسعة ومتشابكة ، ويكمل بعد أن حصرنا وجوده وتم تشخيصه بدقة في بيت عمار الحكيم قررنا إعتقاله ، لكن الرئيس الامريكي بوش الأبن رفض ذلك لتداعيات قد أجهلناه في حينها ، وتبين فيما بعد أنه قاسم سليماني ، ويربط وجوده وتحركه فيقول وبعد فترة زمنية قامت تلك الميلشيات بتفجير القبة الذهبية للإمامين الشيعيين علي الهادي وأبنه حسن العسكري في مدينة سامراء وفي أشاره واضحة في سطور كتابه يوجه التهمة الى الميليشيات الشيعية بالتنسيق مع الوجود الإيراني وعلى رأسهم المرحوم قاسم سليماني . 

بعد هذا العمل الارهابي تعرض العراق بكل طوائفه الى فتنة طائفية داخلية أدت الى القتل على الهوية والطائفة أجتاحت مساحة العراق من الشمال الى الجنوب في تكديس الجثث على جوانب الشوارع والطرقات  ولولا يقظة الخيرين من العراقيين وحرسهم الوطني لوقعت الحرب الاهلية وحرقت اليابس والاخضر ومع بوادر تلك اليقظة الحذرة مازال العراقيين يعانون من أثارها المدمرة في تحطيم نسيجهم الاجتماعي . يذكر زاده في كتابه حول تفجير القبة الذهبية بأعتراف صريح وخطير من نوري المالكي نحن من فجرنا القبة الذهبية في مدينة سامراء بلقاء جمعه معه وبحضور آخرين ؟. كما يروي في كتابه .

إيران كانت تريد من خلال أذكاء الفتنة الطائفية تحجيم دور السنة وأبعادهم عن المشاركة في العملية السياسية ومن خلال تلك السياسة أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد ، وهي رسالة ضمنية الى الميليشيات الشيعية أنه بدون الدعم الإيراني سوف تتعرضون الى التهميش والإقصاء . يذكر زاده في كتابه حول مام جلال والتأثير الإيراني على الوضع العام في العراق بأعتباره أول رئيس جمهورية للعراق بعد سقوط النظام . أن يذهب مام جلال وهو رئيس دولة العراق للقاء سراً على الحدود الإيرانية مع قاسم سليماني ، وحسب أدعاء زاده عندما واجهناه بالواقعة . قال مام جلال متعذراً بهاجس خوف سليماني من محاولة أعتقاله من قبل الأمريكان أذا دخل الى العاصمة بغداد بشكل علني .

وعندما كان المحتلين الامريكان يدعون الى الوحدة الوطنية العراقية حسب أدعائه وهذه كذبة فاقعة لأنهم هم من دمر البلاد وحولوه الى كانتونات وميليشيات وطوائف والتي تتعارض مع دعوتهم حول الوحدة الوطنية ، ومن خلال منح ضمانات للسنة المعتدلين في المشاركة في الحكومة الجديدة ومحاولة طمأنة الشيعة بسيادة القانون بعيداً عن التأثيرات الإيرانية الذي بات وضعهم مرتبط بالوجود والدعم الإيراني .

في كتابه هذا يكشف زاده مواقف ومعطيات مثيرة حول الخطط الإيرانية المبكرة للسيطرة على العراق من خلال الاحزاب الشيعية العراقية الموالية لايران . ويعبر زاده في كتابه عن خوفه وقلقه من تنامي حجم النفوذ الإيراني وتمدده بين المدن العراقية ذات الكثافة السكانية المكتظة من طائفة الشيعة وأستغلالها طائفياً من إيران . ويؤكد زاده في كتابه عن صحة بعض التقارير القاطعة أن النوع الأشد فتكاً من وسائل التفجير المرتجلة والتي كانت توضع على جوانب الطرق المسماة قذائف معدة للتفجير EFPS) كانت تصنع في إيران .

حول الدور السوري في العراق يشير زاده في كتابه ضلوع السوريين في دعم العمليات والتفجيرات لزعزعة الاستقرار في العراق بتقديم الدعم للجماعات المتطرفة ( السنية ) وضباط الجيش العراقي السابق الذين همشوا على أسس طائفية من خلال المواقف من العملية السياسية وأعضاء حزب البعث السابقين . ويدعي ويفسر هذا الموقف السوري من العملية السياسية في العراق لاحباط مشروع أمريكيا الديمقراطي في العراق .. عن أي ديمقراطية تتحدث أنت وحكومتك ؟. وبعد مضي تلك الأعوام من التدمير عبر شل مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني وتهميش كل المحاولات الجادة بأتجاه بناء العراق وتفتيت وحدته الوطنية . وهل تلك الدروس والوقائع لاتشكل حوافز لابناء شعبنا باتجاه الحذر من تلك الألاعيب والتي ترمي في تدمير العراق . ومن علائم الفشل بالأخذ من تلك الدروس والتجارب والماضي موت الرياضي العراقي أحمد راضي في مستشفى النعمان ببغداد متأثراً بفيروس كورونه والسجال الطائفي العقيم حوله بعيداً عن اللياقه والحرص والحب .
محمد السعدي
حزيران/٢٠٢٠

 

73
الى مصطفى الكاظمي …
رئيس وزراء العراق المحترم …
تحية وتمني …

أتمنى لك النجاح بمهمتك الجديدة ، رغم شكوكي الكبيرة بهزيمتك ودحرك ، هاذا أذا لم تقتل وتصبح شهيداً ورمزاً عراقياً في  حالة المضي قدماً بتحقيق وعودك في تلك الظروف الصعبة من تاريخ العراق السياسي منذ ٩ نيسان العام ٢٠٠٣ . يوم تدميره بجريرة نظام دموي وكذبة أسلحة دمار شامل . أنني مواطن عراقي منذ أربعة عقود تركت بلدي العراق مجبراً لا بطراً . أحمل مشروعاً سياسياً ( شيوعياً ) للعراق وأهله ولأجله ضحيت بكل غالي ونفيس . وبحكم ظروف الغربة وحياة المهجر التي عانينا منها ومن ويلات أيام النضال السري ضد النظام الدكتاتوري ، لقد تكونت لدينا رؤية سياسية خالصة بعيدة عن الشبهات والتنكيل بالسيادة الوطنية والأرتزاق . ومن هذه الناصية أناشدك بقلب وضمير عراقيين ….

لقد كنت ضمن المئات في أستباقة مبكرة لتطورات الاحداث ونتائجها الوخيمة على العراق وأبنائه وما ولدت عملية الاحتلال من تنصيب العملية السياسية برموزها المهترئة والطائفية ، ولأجل تلك التداعيات بقينا متمسكين بالثوابت الوطنية في الدفاع عن العراق بالمقال والحديث والنقد الحريص ، محافظين وفي رفض تام لاي إغراء أو مساومة أو مناورة تخدش الحياء العراقي .

ومنذ اليوم الأول بقبولك رئيس وزراء جديد للعراق أتابع خطواتك وتصريحاتك ووعودك العسلية بتحقيق جزاً يسيراً من أمنيات العراقيين في العيش الرغيد وهذه ليس منية وأنما ضمن سياقات الحياة الطبيعية للبشر . يوم بعد يوم يخيب ظني بك لانه كل ماتقوله هباء ومجرد كلام ولم يرى العراقيين واقعاً منه ، وتعد خطوتك الأخيرة أذا لم تبررها على الصعيد العملي ستكتب نهاية مشوارك السياسي في العراق ، هو لقاءك بنوري المالكي وما تسرب من كلام حول هدف وفحوى لقاءك به، أنه ذات التاريخ الملطخ بالدم والشرف والغيرة ، والمثبته حوله جملة تهم ستقوده الى مصيره المحتوم لو توفر لنا قضاء عادل ومتنفس هواء سياسي نظيف ، لكن في الختام سينال جزائه العادل على ما أقترفه بحق العراق .

أدعوا لك بقلب وطني صادق أن أرى منك موقفاً يقلب الطاولة العتيقة الصدئه منذ عام ٢٠٠٣ . لأعلن موقفي معك قلباً وقالباً في دعمك أعلامياً وسياسياً ، وأن كنت غير قادر على ذلك ، وهذا ما أتوقعه فالاستقالة خير لك أو تدفع حياتك ثمناً من أجل العراقيين وهم يستحقون ذلك ، وفي موتك ستكون رمزاً وطنياً ومزاراً .

شاهدتك عدة مرات بلحمك وشحمك عبر ناصيات الأعلام . تتحدث عن الفساد والمشاريع الوهمية الفلكية وخزينة الدولة والجماعات الخارجة عن القانون والسلاح المنفلت وحديثك في القضاء عليها مما زرعت أملاً في حياة بعض العراقيين وراحوا فرحين عبر مواقع التواصل الاجتماعي يتبادلون الفرح بينهم ، لكن سرعان ما أحبطوا أنها مجرد سراب ووعود يارئيس وزرائنا الجديد .
 
محمد السعدي
مالمو/السويد
٠٠٤٦٧٠٠٧٣٣٠٠٣

74
المنبر الحر / صورة ألبير كامو …
« في: 17:23 20/06/2020  »
صورة ألبير كامو …
سيزيف مابين العبثية والمعنى |
كل شيء يبدأ بالوعي … ولاقيمة لشيء من دونه ” ألبير كامو ”.
   
قد يسأل البعض ؟. عن دوافعي في الكتابة عن تلك الرموز الأدبية والفكرية والسياسية والفلسفية والتاريخية والنضالية والاجتماعية والفنية بدءاً من عبد الرحمن القصاب وباقر أبراهيم وطه صفوك ووحيدة خليل وتورغنيف وتولستوي وعبد الفتاح إسماعيل ورشا فاضل ويسنيين ومايكوفسكي وباسترناك ولليندي وعامر عبدالله ومهدي أبن بركه وعلي الجبوري ومحمد الدفاعي وضياء نافع وحياة شرارة وغادة السمان وعبد الحسين شعبان وحسين سلطان وسامي كمال وشوقي الماجري وجون نيكسون وعامر السعدي وحسقيل قوجمان وسلام عادل وساسون دلال وخليل عبد العزيز وفاضل البراك وبيريا حارس ستالين الخاص وبشرى عباس وأستروفسكي وأنا ليند وعمر أحمد أسماعيل وبوشكين وستار غانم وليرمنتوف وخزعل السعدي وعبير الجنابي ويهودا صديق  وخالد أحمد زكي وبهاء الدين نوري وآخرون . أنني أشعر بالانتماء الى هذا السجل الانساني في تحديد مسارات الحياة سواء أختلفت أو أتفقت معهم وبغض النظر عن مواقعهم وعطاءاتهم المختلفة .أما أنتم قد تختلفون أو تتفقون فالآمر سيان ؟.

مابين حربين ولد ونشأ الفيلسوف الوجودي والروائي والسياسي ألبير كامو لأب فرنسي مزارع وأم إسبانية في قرية الذرعان التي تعرف ببلدة مندوفي بمقاطعة قسطنطينة الجزائر العام ١٩١٣ وبعد عام من ولادته قتل والده في الحرب العالمية الأولى ، وأخذت والدته على عاتقها مسؤولية تربيته مع أخيه مما أضطرت وبسبب الظروف الصعبة أن تعمل ( خادمة ) في البيوت . نشأ في جو عائلي فقير ومضطرب ومحيط قلق ومجهول بسبب شبح الحرب والفقر والعوز ومعاناة والدته في العيش مما تركت بصماتها الواضحة على علاقته الجدلية بين أبداعه والعبث والأنتحار وعلاقته بأسطورة سيزيف وصخرته مع الفتى الأسطوري الاغريقي في حملها الى أعلى مرتفع قمة ودحرجتها مرة أخرى وأخرى ويظل هكذا الى الأبد وصبر المرء وقدرة التحمل وروح التحدي وأساس الوجود في خلق الانسان ليتلقى هذا المصير من العذاب  السرمدي وتمرداًعلى عبث الوجود ، كما كان يشير له النقاد ملك أدب العبث ، وقد نظر الى القضايا الحياتية الاجتماعية والسياسية من منظور فلسفي وميتافزيقي والتي تدين العنف الثوري والذي يؤدي الى مجيء الأنظمة الاستبدادية في خنق حرية الناس ومصادرة حقوقهم ، ومن خلال نصوصه الادبية والفلسفية يدعوا الى لغة الحوار بين الثقافات ودعم الابداع والمبدعيين مما شكل هاجس له في نقد سياسة ستالين في قمعه لحرية الابداع والرأي الآخر  . في بداية مشواره السياسي أنضم الى الحزب الشيوعي الفرنسي وسرعان ماأنفك عنه بل أصبح معادياً لسياسته  في نزعته الستالينية في معالجة قضاياه وعلاقته مع مصير الشعوب  . ولقد سخر قسم كبير من كتاباته الأدبية ولقاءاته الصحفية ضد سياسة ستالين في أدارة دفة الحكم ، وهو الذي لعب دوراً في منح الروائي السوفيتي بوريس باسترناك جائزة نوبل للابداع عن روايته دكتور زيفاكو والتي منعت من الطبع والنشر في بلاده فهربت كمسودة الى أيطاليا فذاع صيتها ، ظلت التكهنات الى وقت متأخر تشير الى المخابرات السوفيتية بالتعاون مع السلطات الفرنسية في قتله من خلال حادث سير مدبر في باريس ١٩٦٠ . كما يروجها بين الحين والآخر الكاتب والشاعر الإيطالي جيوفاني كاتيللي حول تآمر سوفيتي / فرنسي في التخلص من صوته العالي في إنتقاده للسياسة السوفيتية  ، كانت نهايته مأساوية كأنها نهاية فلسفته العبثية حول الحياة والموت . شكل مع رفاقه خلية الكفاح للمقاومة الوطنية الفرنسية ضد الاحتلال الالماني لبلده ، وعندما تحررت فرنسا تحولت الكفاح الى جريدة رسمية مسؤولها الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر لكن ألبير كامو قاطعها لاختلاف الرؤى بينهما من الموقف من ستالين وسياسة الحزب الشيوعي الفرنسي ، وظل خصمه اللدود في مجالات الموقف والابداع والفلسفة .

من المواقف التي يشار له بالبنان وقفته أنه ألبير كامو مع المقاومة الجزائرية في نضالها ضد الاستعمار الفرنسي وطالب ساسة بلده من ترك الاراضي الجزائرية وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية ، ومنح شعب الجزائر حرية الاختيار والعيش والحياة . شهدت فترة عمره ٤٧ عاماً معتركات ومعارك فكرية وأدبية وسياسية كانت أبرزها مع رفاق الوجودية جان بول سارتر وسيمون دي بفوار .

ومن أعماله الادبية الكبيرة رواية الغريب والطاعون وأسطورة سيزيف بين العبثية والتمرد والسقطة والرجل السعيد الذي يروي بها سيرته الذاتية عن حياته في الجزائر ، ومن العظام من فلاسفة ومفكرين الذين تأثرا بهم كارل ماركس وفيودور دوستوفسكي وفرانز كافكا . في العام ١٩٥٧ حصل على جائزة نوبل للاداب عن باكورة أعماله الادبية . في العام ١٩٤٧ كتب روايته الطاعون في مدينة وهران الجزائرية عندما أجتاحها وباء الطاعون وتحولت المدينة الى أشباح والشوارع فارغة .
وفي وصف مخيف في روايته لوباء الطاعون على لسان أحد أبطالها ( عندما يعم الوباء تزحف القبور الى المدينة ) ، وأرتباطاً بما يجتاح العالم اليوم من وباء ( كوفيد ١٩ ) فيروس كورونه ، حيث طبعت الرواية ملايين من النسخ في أيطاليا لشدة الاقبال ومتابعة قراءتها مجدداً أرتباطاً بتطورات الاحداث حول جائحة كورونا .
محمد السعدي
حزيران / ٢٠٢٠

75
بين قساوة الأمس وأفق التجربة . بهاء الدين نوري يهدىء العلاقة مع الاتحاد الوطني .

يعد الرفيق بهاء الدين نوري ( أبو سلام ) نموذجاً من تلك الايام الغابرة من النضال الثوري وتحطيم الرؤى . في صيف ١٩٨٣ تعرفت عن قرب في الجبل على بهاء الدين نوري في مناطق كرميان وقرداغ وشهرزور ، كان في يومها المسؤول الأول في قاطع سليمانية وكركوك لانصار الحزب الشيوعي العراقي ، وكنت ملتحق تواً من تنظيم الداخل وذهني معبأ بالافكار والمشاريع والخطط والطموح جلها تصب في البحث عن فرص للاطاحة بالنظام الدكتاتوري ، حقاً كانت أحلام صادقة بمشاريع ثورية لكنها طوباوية بعيدة عن رؤية الواقع بالعين الأخرى . في يومها ألتقيته على عجل في تقليب سريع لتطورات الاحداث في الداخل ، كان ينصت لي بإهتمام وأنا أستقرأ الوضع السياسي وظروف الحرب وعلاقاتنا بالجماهير وتأثيراتها على أثر هروبنا الجماعي عامي ١٩٧٨ / ١٩٧٩ وترك الساحة فارغة فقط للبعثيين يعبثون بها، في أنتهاك صارخ لحياة الشيوعيين وأصدقائهم. آنذاك كانت جريمة بشتاشان تلقي بظلالها السلبية على معنويات الأنصار وحراكهم السياسي ، وكان للرفيق بهاء رأي وإتجاه آخر من تشابك الاحداث يدعوا الى تهدئة الأجواء بين الأطراف المتطاحنة رغم أن الأتجاه العام هو الذي كان طاغي بين رفاق الحزب هو الانتقام والثأر لدماء رفاقهم التي نزفت على سفوح وجبال قنديل . المتعارف عليه بين أوساط الشيوعيين عن شخصية بهاء الدين نوري هو الاعتداد بمواقفه والتمسك بها هكذا تتحدث سيرته الذاتية ( الحزبية ) منذ العام  ١٩٤٩ منذ أن وطأت قدماه أرض العاصمة بغداد من قرية نائية وغافية على سفح جبل قرداغ ( التكية ) ، تلك القرية التي عرفت من خلال قصته الشهيرة أيام العمل الجبهوي مع البعثيين ( قرية على سفح جبل ) . يذكر أنه جاء الى بغداد بناءاً على وصية من السجن للرفيق فهد في حال أعتقال حميد عثمان ، وطيلة وجود فهد ورفاقه في السجن من العام ١٩٤٦ بعد المؤتمر الأول للحزب عام ١٩٤٥ وتشكيل لجنة مركزية ومكتب سياسي وبرنامج سياسي للحزب ونظام داخلي شكلت خمسة مراكز حزبية في العاصمة بغداد في فترة وجود فهد ورفاقه في السجن بعضها أنهار والبعض الآخر تعرض الى الاعتقال والمطاردة والتصفية ،  أكثرها كانت أختيارات غير موفقه ومبنية على أسس بعيدة عن القدرة والكفاءة والقيادة بسبب الوضع الاستثنائي للحزب الشيوعي ومعاداة السلطة الحاكمة له .

مشى بهاء الدين نوري بإتجاه تهدئة العلاقة مع حليف الامس عدو اليوم الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) في قاطع سليمانية وكركوك رغم الغضب الحزبي والجماهيري عن ماآلت اليه الامور في التصعيد والقتال في القواطع الاخرى . فراح وعقد أتفاقية عن عدم الاقتتال الداخلي مع مله بختيار مسؤول قوات الاتحاد الوطني في قاطع سليمانية وكركوك في قرية ديوانه فعرفت فيما بعد باتفاقية ( ديوانه ) بالضد من الجو العام السائد في التصعيد رداً لأعتبار ودماء الشيوعيين التي سالت في قرى بشتاشان ووادي بليسان وجبل قنديل مما سببت غضب وأستهجان كبيرين وأدت الى أنسحاب رفاق من مواقع النضال وعزوف البعض عن العمل الحزبي فتركت بلبلة كبيرة بين الرفاق وأنتقادات ساخرة وصلت الى حد التجريح والاتهامات ، وفي غضون ذلك الوضع الحزين وفي تلك الاجواء المشحونة ، تدوي صفعة مفاجئة غير متوقعة كالصاعقة على معنويات الشيوعيين ببث أذاعة الاتحاد الوطني الكردستاني بياناً موقعاً باتفاق الأسيرين من قادة الحزب كريم أحمد وأحمد باني خيلاني لمرات متعددة تدعو الشيوعيين الابتعاد عن العمل والتنسيق مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني ( حدك ) والحزب الاشتراكي الكردستاني ( حسك ) ، وتدعوهم في التنسيق والعمل المشترك مع مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) ، في الوقت نفسه يقتلون ويعذبون برفاقنا ؟.
 
تطورات متسارعة .

يومها ساد الأسى والتعجب عن ما يجري من تطورات متسارعة بين بشمركة الحزب فانتقل الشيوعيين مجبرين من مناطق كرميان وقرداغ الى مناطق شهرزور وكرجال وسورين وهزارستون ، وفي محاولة تعد يائسة أمر الرفيق بهاء بأجراء أنتخابات حزبية للهيئات واللجان الحزبية في سابقة جديدة من تاريخ الحياة الحزبية ، لكنها لم تشكل شيء أمام حجم التحديات الجديدة .

توقيع بيان .

في الشهور الاخيرة من العام ١٩٨٣ وصل أحمد باني خيلاني الى مناطق كرجال بعد أن فكوا أسره قادة الاتحاد الوطني الكردستاني على أثر توقيع بيانهم المذل بحق دماء رفاقنا مع كريم أحمد بعد أن قتلوا رفاقهم العرب ومثلوا بهم تعبيراً عن شوفينيتهم وحقدهم ، وصل حاملاً معه قرار تعيينه مسؤول أول للقاطع ..؟.

 هنا نقطة نظام … رأس سطر ؟.

أحمد باني خيلاني عضو اللجنة المركزية من أهالي دربندخان ، كان قاريء مواظب في المساجد قبل أن يعتنق الشيوعية ، وهو من رجح كفة الميزان بعقد الجبهة العام ١٩٧٣ بضغط ومراوغة من سكرتير الحزب عزيز محمد بعد أن كانوا ثمانية من أعضاء اللجنة المركزية من مجموع خمسة عشر عضو ضد هذا المشروع بل طالبوا في الحد الأدنى من البعثيين الأعتذار عن قتل الشيوعيين العام ١٩٦٣ ، لكن البعثيين كانوا وقحين ولم يستجيبوا . ومن هم المعارضين لهذا المشروع ؟. مشروع الجبهة مع البعثيين ؟.
زكي خيري ، بهاء الدين نوري ، عمر الشيخ علي ، أراخاجادور ، سليمان أسطفيان ، عدنان عباس ، مهدي عبد الكريم .. وأخيراً أحمد باني خيلاني الذي أنقلب على هذه المجموعة في الجلسة الثانية من الأجتماع ليحسم التصويت على أقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية .

منذ اليوم الأول لوصوله كنت مقاتلاً بنفس الموقع وأراقب تطورات الاحداث لسبب لاغيره ما زلت أحمل مرارات  عمل الداخل ومخاطره وحياة الناس في حبها للحزب ومقارنته بما يجري بين صفوفنا ومستوى صراع قادتنا . جاء أحمد باني خيلاني وحامل معه قرار مسبق ومدعوم من سكرتير الحزب عزيز محمد بعزل بهاء الدين نوري عن كافة مسؤولياته العسكرية والحزبية وحصر نشاطه السياسي والعسكري بل تحجيمه وتقزيمه . في تلك اللحظة بدأ صراع محموم بين القائدين الشيوعيين الى مستوى الاتهامات الشخصية المتبادلة وتعيير بعضهم بتاريخهم القديم بفضحه على الملأ من مواقف وأحداث وتاريخ شخصي فكانت كفة النزاع تميل أكثر الى جانب أحمد باني خيلاني وسط الرفاق والأنصار لانه أصبح هو المسؤول الاول وبيده القرار حتى لو كانت على حساب المباديء والأمانة التاريخية وهذه سمة غالبة عند العراقيين عموماً يميلون بمواقفهم مع القوي حتى لو كان عاطلاً وغير أميناً . وفي هذا الأثناء بعد ما حوصر الرفيق بهاء وجرد من مسؤولياته وعمم على الرفاق بعدم الاخذ والعطاء معه أي بمعنى أدق مقاطعته أجتماعياً وسياسياً والنيل منه لكي تثبت أنتماءك الحزبي . تركت تلك الضغوطات على حياة بهاء الدين نوري فراح يلوح بنشر وثيقته التقيمية عن تاريخ الحزب من ١٩٦٨ الى ١٩٧٩ ويطالب بعقد مؤتمر طاريء لمناقشة أزمة الحزب ووضع الحلول الكفيلة بأنهاضه من جديد وبعدم شرعية القيادة الحالية ، رغم أتساع الحملة ضده وشدتها من رفاق الأمس لكنه لم يضعف أو يقدم تنازلات بل يزداد تمسكاً بموقفه ويدافع عنه بكل بسالة وتحدي وقناعة ، وتتطور الامور الى مستوى محاولة حجزه وحجره وهو داخل موقعنا في شريط مناطق كرجال في جبال ( بيارا وطويلة ) أي بمثابة إقامة جبرية ، بعد هذه الحمله الكبيرة ضده ومراقبة ومتابعة رخيصة بأساليب معيبة ولا تليق بنا نحن الشيوعيين مع الحملة المفترئة للمساس بتاريخه السياسي والشخصي حيث وصل بنا المستوى الى الكيل له بتهمة العمالة للسلطة . هنا شكل عندي الوعي والموقف بتجلي جديد في تقييم الاحداث والخلافات والموقف منها دعتني أن أعيد النظر بمواقف عديدة ورسم رؤى جديدة في مسيرة حياتي النضالية ، وعندما كنت أسأل رفاق الحزب عن مصداقية وواقعية تلك الأتهامات بلا جواب شافي وبدون مسؤولية الا أن تطورت الاحداث الى حد التصادم والمواجهة فتسلل عبر مقرنا الى مناطق شهرزور مع مرافقه الوحيد أبن أخيه ( آسو ) ، والتحق فيما بعد به عبدالله فرج ( مله علي ) المسؤول العسكري السابق للقاطع ورفاق حلبجه توفيق الحاج وأقربائه وسرية فتاح كلالي ليعلنوا تمردهم العسكري والحزبي على الحزب وسياسة الرفاق في القاطع .

كنت ضمن جحافل المقاتلين لملاحقتهم في سهل شهرزور في طريقة متخلفة لانهاء الازمة وأحتواء الخلافات بيننا  كرفاق ومناضلين وأصحاب مشروع ثوري ، كانت الحلول المطروحة عشائرية أكثر مما هي سياسية ووطنية أدت بنا الى أنسحاب كامل من أراضي شهرزور مناطق تواجدنا وقربنا من الجماهير الى الشريط الحدودي في جبال سورين طبعاً كانت أيضاً مشاكلنا مع الاتحاد الوطني الكردستاني فعلت فعلتها من خلال دعمهم لهذا العصيان والتمرد الحزبي والعسكري بل شاركوا بتأجيجه بالتنسيق مع خطط النظام . أنتهى المشوار ببهاء الدين نوري في قريته ( التكية ) في قرداغ بإصدار صحيفته القاعدة ونشر وثيقة تقيمه بها وتاريخ خلافاته مع قيادة الحزب ونقد لاذع لسياسة الحزب في فترة الجبهة وما ألحق بها من ويلات .

بعد شهور من تلك الازمة العاصفة الخانقة بدأت تتلحلح بعض المواقف بأتجاه التهدئة والتواصل عبر وسطاء مؤثريين على المشهد السياسي ( الكردستاني ) فتوقفت الحملة من الطرفين لكنها يبدو لي مشروطه بالتزامات من الطرفين . أنحصرت تلك التطورات في الفترة الزمنية من نهاية عام ١٩٨٣ الى بدايات العام الذي تلاه . في صيف هذا العام وعلى حين غرة يصل بهاء الدين نوري مع مله علي وعائلته ويتخذوا من بساتين قرية ( آحمداوه ) موقعاً لهم على طلة نهر متدفق ( ريبوار ) من الاراضي الإيرانية . كنت أمر وأسلم عليهم متى ما نزلت الى قرية آحمداوة في تبادل أحاديث عامة بعيداً عن ما جرى . ومن أجل طوي تلك الصفحات من الماضي كما أعلن في حينها وفتح صفحة جديدة من التفاهم وسماع الآخر والمضي قدماً بإتجاه لملمة الصفوف ..
حيث تمت دعوتهم من قيادة الحزب الى مناطق لولان حيث إجتماع اللجنة المركزية هناك من أجل الوقوف مباشرة على تقاطعات مواقفهم وأراهم السياسية ، لكن هذه المرة الآمر لم يطول وفي مفاجئة سريعة في تسريب الاخبار في عملية أعتقال بهاء الدين نوري وهروبه من السجن ووصوله الى مناطق قرداغ ، وكانت هذه بداية النهاية في تصعيد المواجهة مجدداً. تعرض بهاء الدين نوري في حياته الحزبية والنضالية الى أكثر من محاولة تهميش وأقصاء ضمن دائرة الصراع السياسي والخلاف الفكري منذ مطلع الخمسينيات ، عندما أعتقل وهو داخل السجن جرده وسحب منه كل مسؤولياته رفيقه حميد عثمان . وفي فترة قيادة سلام عادل لحزب الشيوعيين والخلاف معه حول قيادة سياسته للحزب فعارضوا تلك السياسة كل من بهاء الدين نوري وعامر عبدالله وزكي خيري والشهيد محمد حسين أبو العيس ، وفي تدخل السوفييت في أنهاء هذا الخلاف قدم الرفاق أعتذارهم ووضعوا حياتهم تحت تصرف الحزب الا بهاء الدين نوري بقى معتداً بموقفه ولم يخشى من الوقوع في الخطأ وفي الدفاع عنه مما أبعد عن دائرة الأضواء الى موسكو لسنوات عدة وعاد بعد مجازر ٨ شباط ١٩٦٣ .





عزل نهائي .

في المحاولة الثالثة تم عزله نهائياً والى الأبد وبدون أي هيئة حزبية أو لجنة لسماعه ودراسة أرائه ، حيث عرف  شخصياً بطرده من الحزب من خلال أدبيات ونشريات حزبية . في العام ١٩٨٧ زرته في قريته ( التكية ) رغم التحذير الحزبي الصارم بعدم الاتصال واللقاء به ، فوجدته بتلك الروح العالية من التحدي والمواصلة بصحة أرائه وصدق مواقفه رغم مرور تلك السنين وما تعرض له من حملة كبيرة للاساءة الى تاريخه ومواقفه تجاوزت المألوف وخرجت عن الاساسيات في أصول النزاعات الفكرية . كنت ومازلت أعتبر قادة الحزب رفاق ضحوا بحياتهم وأفنوا مستقبلهم من أجل هدف سامي للعراق وأهله ، وتركوا لنا أرثاً نضالياً كبيراً رغم الأخطاء التي رافقت عملهم النضالي ، فالعلاقة معهم والتواصل وفاءاً شيوعياً .
في بدايات العام ١٩٨٩ كنت في الشام ( دمشق ) بعد أن نجوت بأعجوبة من السلاح الكيمياوي في أخر أنفال حكومي على مناطق ( سركلو بركلو ) مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني ربيع العام ١٩٨٨ . ألتقينا مجدداً لأسابيع وسكن عدة ليالي في بيتنا في ركن الدين ، الذي كان يشاركني به عزيز الشيباني وخضر عبد الرزاق ودارت حوارات سياسية متعددة مع أطراف عراقية خرجت من رحم الحزب وشخصيات من حركات تحرر ورفاق آخرين ، كنت أرافقه ببعضها بناءاً على رغبته وأرى جبروته في أدارة الحوار وطرحه السياسي في المستجدات ومعالجة الازمة وأيمانه بقدرات المناضلين في أعادة بناء صرح الحزب . في العام ١٩٩٠ كنت في مدينة مالمو السويدية بعد الهجرة الجماعية التي عصفت بحياتنا عكس الذي كنا نصبو له في مشروعنا من العودة للوطن أدت بنا الى الهجرة المعاكسة خارج أسوار الوطن . في مدينة مالمو تجمعني الظروف مرة أخرى بالرفيق أبو سلام وصلني من العاصمة أستوكهولم وسكن معي في شقتي المتواضعة ولم تمل أحاديثه كانت بالنسبة لي دروس ومعاني نضالية في تقليب صفحاته عبر تاريخ طويل وعميق بالتجارب والدروس والعبر . رغم عمر سنه وصحته العليلة وحياته المرهقة كان بحاجة الى أجواء حياة مثل السويد في تقديم الخدمات وحياة تليق بالبشر ، لكن أبو سلام كانت عيونه وأحاسيسه تربو صوب الوطن حالماً بوطن خالي من الاستبداد والدكتاتورية وحزب شيوعي معافى من ترسبات الماضي . فحزم حقائبه بأتجاه الوطن ليقضي ما تبقى من العمر بين أهله ورفاقه وشعبه . بقينا فترة طويلة نتبادل وجهات النظر عبر الرسائل البعيدة وكانت أشعر بأصراره على مواصلة النضال من خلال سطور رسائله . ومازلت والى يومنا هذا بعد مضي ثلاثة عقود أتابع تغريداته ومقالاته بنفس الاصرار وروح التحدي والدفاع عن تلك المباديء التي حلم بتحقيقها منذ أن وطأت قدماه أرض بغداد الحبيبة وهو شاباً يافعاً . للرفيق أبو سلام الصحة والعافية وثناء له على أصراره في مواصلة الطريق رغم الخلافات ببعض المواقف وتقاطع الرؤى والافكار على أقل تقدير بالنسبة لي .
محمد السعدي
شباط/ ٢٠٢٠

76
صورة سلفادور الليندي ..

ليس غريباً لكل من قرأ وسوف يقرأ المشهد المأساوي ، الذي أدى ، الى نهاية تراجيدية بنهاية حياة وموت  الزعيمين في بلدين بعيدين ومختلفين العراق وتشيلي عبد الكريم قاسم وسلفادور الليندي ، الأ أن القائد اليساري الليندي أنهى حياته بعد أن خر صريعاً على عتبة باب قصره بآخر رصاصات من بندقية كلاشينكوف كان قد أهداها له رئيس كوبا فيديل كاسترو  . المشهد قريب بين الأثنين كلاهما خدعا من قبل حاشيتهم وأقرب القادة الى قصورهم وحياتهم الخاصة والعامة أو ربما جهلهم بألاعيب السياسة ودهاليزها هو الذي قادهم الى الموت النهائي رغم حبهم لأوطانهم ونظافة ضمائرهم ، لكن هذا لايعينهم ببناء أوطانهم وسعادة شعوبهم .

 وصل الليندي الى قصره عبر الانتخابات الديمقراطية ممثلاً عن اليسار والديمقراطية .ويعتبر أول رئيس دولة في أمريكيا اللاتينية في القصر الرئاسي ( لامونيدا) ذي خلفية سياسية ماركسية منذ ١٩٧٠ وحتى ١٩٧٣ عند أنتحاره في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكمه والذي خططت له ونفذته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بقيادة الجنرال أوجستينو بينوشيه رفيقه في السلطة والقرار ، والذي يعتبر من أقرب معاونيه ومنحه عدة أوسمة ونياشين لدوره في الأمن الوطني والاخلاص له  ، لكنه تخلى عنه وصحبه في شدة الأزمة ، بل أنقلبوا عليه وعلى نظامه في زمن حرج ، حيث أصطفوا مع قاتليه من قوى معادية لمصالح الشعب ونوايا تدخل خارجي ومما دعا الآخرين أن يعتقدوا سبب أنتحاره هو من هول الأزمة واليأس والمأساة الى لحظة تجلي الوعي في الخيانة الوطنية ، عندما وجد نفسه معزولاً ووحيداً يواجه مصيره  . في أول الساعات عندما بدأت الطائرات الحربية تدك وترمي حمم قنابلها على القصر الرئاسي تخلى عنه قادته ومريدية رغم بياناته المتكررة من أذاعة سرية تدعو الشعب والقوات المسلحة الى فض الحصار على القصر الرئاسي والمقاومة لكنهم تركوه وحيداً ليتلقى مصيره النهائي ، وهذه التراجيديا السياسية قريبة في أحداثها على تاريخ العراق السياسي الحديث ومقتل الزعيم في جمعة ٨ شباط ١٩٦٣ . عندما حصر نفسه الزعيم في وزارة الدفاع تحت وابل قنابل الإنقلابيين وتخلى عنه كل مقربيه جاسم العزاوي حميد حصونه وآخرين كثر ، ولم تنقذه بياناته التي سربها عبر حراسه الى مبنى الأذاعة في الصالحية وبعضها سلمت الى أيادي الإنقلابيين ، مما أدى به المصير أن يسلم نفسه يائساً الى الإنقلابيين وهو الأدرى بمصيره المحتوم ، فقاده قدره الى الموت تحت رحمة وعودهم الخائبة ودهشة محبييه ورفاقه . ليسدل الستار على حقبة سياسية مهمة في العراق ، كانت في ظله بناء وأعمار وأفاق وطموحات ورغد للفقراء في العيش ، لكنها مغلفة بقالب سياسي مضطرب بالخوف والأنفجار لنزعته العسكرية في أدارة شؤون البلاد والعباد  .

ولد سلفادور الليندي في تشيلي يوم ٢٦ يونيو ١٩٠٨ وأستشهد في ١١ أيلول ١٩٧٣ وهو طبيب وسياسي وذي عقلية يسارية وطنية ومن أصول إسبانية . وكان آخر بيان بثه الى أبناء شعبه قبل إنتحاره .
أعلن أني لن أتنازل ، اني مستعد أن أقدم حياتي دفاعاً عن السلطة التي ائتمنتني الشغيلة عليها، أن هروبي سيكون أقذر من خيانة هؤلاء الجنود الذين خانوا وطنهم…عاشت تشيلي، يحيا الشعب، يحيا العمال! هذه هي كلماتي الأخيرة، وأنا واثق من أن تضحيتي هذه لن تكون عبثية.وستكون العقاب المعنوي للخونة والمتأمرين . 

كان من أهم رجالات سلفادور الليندي ورفيقه في النضال والذي جمعهم الفكر الماركسي وفرقهم الموت الشاعر الشيوعي بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل للاداب والذي مات بعد ١٢ يوماً من أنتحار رفيقه سلفادور الليندي وما زالت التكهنات متناقضة حول موته . وما أميط اللثام حوله بعد حفنة سنيين ، أنه مات في أحدى المستشفيات بحقنة سامة ، عندما كان راقداً تحت جرعات أوجاع سرطان البروستات في ظل الفوضى التي عمت في البلاد .
وقد شهدت الحياة السياسية ورموزها في العالم طبيعة العلاقة بين الحاكم السياسي والمثقف وتأثيراتها على صورة البلد ، مثلما عرف بدور العلاقة على طبيعة النظام وأسس أركانه بين مفجر ثورة أكتوبر لينين وأبن الثورة الأديب مكسيم غوركي .
وفي تجارب التاريخ صور عديدة عن العلاقة بين الزعيم أي رجل السلطة والمثقف رغم تناقضات فصولها وتركيبة أهدافها فرجل فرنسا القوي العسكري ورمزها شارل ديغول وبعد أن توج فرنسا بالنصر وهزيمة المحتلين الألمان ودخوله قصر ( الشانزليزيه ) أعطى للمفكر والروائي الفرنسي ( أندريه مالرو ) منصب وزيراً للثقافة ومستشاراً ثقافياً له تعبيراً عن وجه فرنسا الجديد بعد دحرها للإحتلال النازي الالماني  .
أيضاً أراد وتمنى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد مفاوضات ( أوسلو ) ، أن يقلد الرئيس ديغول في خطوته بالعلاقة بين الرئيس والمثقف فتمنى أن يكلف الشاعر محمود درويش بمهمة وزارة الثقافة أو مستشاراً ثقافياً له . فكان رد الشاعر درويش سريعاً .. لا أنت ديغول ولا أنا أندريه مالرو .. ولا فلسطين باريس ولا باريس فلسطين .
محمد السعدي
أيار/ ٢٠٢٠




77
إعلان
لبناء جسور من التواصل مع الوطن، تطلق مؤسسة البيدر للثقافة والإعلام التعاون  مع مؤسسة ابن رشد ومعرض الكتاب العربي في السويد، البرنامج الحواري الثقافي و الفني (سومريون). يسلط الضوء على أبرز الشخصيات الفنية المؤثرة والرائدة، وتأثيرهم على شباب الجالية العربية في أوروپا ..
ضيف الحلقة الأولى الموسيقار العالمي نصير شمة.
إعداد وتقديم:
الإعلامية هبة نبيل
الشاعر أحمد الثرواني

الإشراف العام:
محمد السعدي

إخراج:
مصطفى عبود

موعد العرض اول ايام العيد في الساعة السابعة مساءً بتوقيت السويد، الثامنة بتوقيت العراق.

ملاحظة:
يرجى تعبئة الرابط لحضور الفعالية، https://forms.gle/PgVodDJKUAWRPgcTA 
سنقوم بإرسال رابط برنامج zoom على الإيميل الإلكتروني قبل العرض بساعتين.

Beider Media i samarbetet med Studieförbundet Ibn Rushd och Arabiska bokmässan i Sverige inleder en kulturell och konstmässig dialog vid namn (Sumerena) som belyser och hyllar de mest kända och framstående konstnärliga personer inom arabvärlden och deras påverkan på den yngre arabiska generationen i Europa.
Heba Nabil och poeten Ahmad Altherwani ligger bakom programidén.
Programledaren är Heba Nabil.

 

78
صورة البروفيسور ضياء نافع .
أولاً .. لابد أن أعلن الى الملأ وعن هواجسي بالقول .. أن الكتابة لهامة سومرية عراقية بقدر الأستاذ ضياء نافع وهو يتنفس برئة الادب ( الروسي ) والعالمي ، وندعوا من الرب أن يمده بالعمر الطويل ، فكانت هي الأصعب مما تخيلت وما دار في خلدي من أفكار وأراء ، الأفكار كثيرة والذكريات مزدحمة ولم تفارقني منذ يوم اللقاء الأول العام ١٩٨٠ في الأداب / جامعة بغداد والتي الى يومنا هذا تدافع بعضها بعضاً في زحمة ذكريات إيامي ، وكأن الواحدة تقول للأخرى وتزاحمها ، أنا الأولى والأحق منك بأن أذكر وأكون في الصدارة ، فما يمكنك أن تقول وتفعل أمام هذا الرجل المليان . اليوم .. المرة الثانية الذي أسمع صوته عبر أثير التلفون بالصوت ولكن ليس الصوت المسكون في ذاكرتي قبل أربعة عقود ، لقد ترك الزمن لوعاته عليه ، ومنذ أن تفارقنا في العام ١٩٨٣ عندما كنت طالباً في أروقة الأداب / جامعة بغداد وهو أستاذي ومعلمي الاول حول أساسيات الادب الروسي من ” كيف سيقنا الفولاذ إلى المدرعة بوتمكين ؛ وبعد أحتلال العراق وعن طريق مواقع التواصل الاجتماعي والله يطول عمرك ياسيد مارك على هذه الألتفاتة الأنسانية الكبيرة . تجرأت وكتبت له رسالة مقتضبة ومترددة ربما للسنوات الطويلة من العزلة والبعد والظروف الصعبة  قد ألقت بظلالها على الذاكرة والنسيان ، فقلت له في مطلعها أستاذ ضياء ، أنا محمد من قرية الهويدر أحد طلابك ففاجأني بجوابه أي نعم أعرف ولقد قرأت كتابك ( سجين الشعبة الخامسة ) وأعتزازي بك كبير وبمواقفك وأنت من الطلاب النجباء ، هذه السرعة في التلقي والأستذكار لقد قضت على هاجس ترددي وتركت في نفسي لوعة وحنين الى سنوات مضت من زمن عصي لكنه كان مشرق وفيه أمل كبير بالغد الأحسن  .

ومنذ اليوم الأول ، الذي عرفته في أروقة الاداب وهو لايعطيك فرصة أن تفكر بالقرب منه أمام دماثة خلقه وثقافته وعلمه الواسع وتواضعه الأنساني حيث تقع أسيراً بلا قيد إمام عطائه . في العام ١٩٨٢ في الأجتياح الاسرائيلي للبنان ، دخل الأستاذ ضياء الى القاعة متأبطاً حزمة من الاوراق متحمساً ومتوتراً تاركاً مادة الحصة التدريسية جانباً ومتناولاً موضوعاً أخراً بيننا ، خطورة الأجتياح على عاصمة بلد عربي ( بيروت  ) وتداعياته على ضمانة السلم الأجتماعي مما حول وهيج مشاعرنا الوطنية تجاه هذا الأعتداء الصهيوني . أو على أقل تقدير لفت أنتباهنا نحن الطلبة على قضايا مصيرية وماوقع من ظلم وتعدي على بلد عربي شقيق .

تجربتي كطالب مع أستاذ ضياء أمتدت لثلاثة سنوات فقط في أروقة الاداب ، لكنها كانت مليئة بصخب الأنعطافات ، في وضع العراق الصعب أنذاك . أشتعلت الحرب بين الجارتين اللدودتين العراق وإيران ، كانت دروس الدكتور ضياء حافلة بالاهتمام والانتباه على ما يلقيه علينا من صورة مشرقة لأدباء روسيا وفي الوقوف عند مأثرهم الادبية والوطنية وتحديهم لاساليب سلطة القيصر في قمع حرية الكلمة والأبداع ، وكأنها كانت دروس لنا في النضال والوطنية من خلال عكسه لصور مشرقه من تاريخ الادب الروسي رغم تسلط نظام القياصرة على قمع الحريات ومنابع الابداع . كنا كطلبة لم نشعر يوماً بفواصل بيننا وبين أستاذ ضياء ، كان يتعامل معنا كأصدقاء في تبادل وجهات النظر حول هموم الدرس والحصص . لقد مضى أربعة عقود على تلك الايام وكأنها البارحة وكلما وقع نظري على مقالاً لاستاذ ضياء والذي مازال ينضح أدباً ونتاجاً وثقافةً رغم تقادم العمر والصدمة التي تلقاه بفقدان من أعز على قلبه أبنه الوحيد نوار في عز شبابه وعطائه ونزولاً عند عطاءات وذكريات وقدسية نوار . أصبحت اليوم لنوار جائزة سنوية تمنح بأسمه للمبدعين والمفكرين والمترجمين في كل عام ، وأيضا دار نشر نوار تخليداً له ولثراه الطيبة . لايمر يوم الا ويتحفنا أستاذ ضياء بمقال وواقعة أو درس حول فطاحل الأدب الروسي ونتاجاتهم الادبية وعمق الشخصيات ومشاكساتها في البناء الدرامي . دوستوفيسكي .. تولستوي .. تشيخوف .. تورغنييف .. غوغول .. بوشكين .. ليرمنتوف .. والناقد الديمقراطي بيلينسكي وآخرون .

ضياء نافع يشغل حالياً عضو في إتحاد أدباء روسيا وهو العربي الثاني بهذا التشريف لنتاجه وعطاءاته الثرة في مجال النشر والابداع . وقد نال قبله عضوية إتحاد الادباء الروس الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى . أتابع يومياً منشورات دكتور ضياء عبر عدة منصات ومواقع ألكترونية وناصيات التواصل الاجتماعي ولموقع بيدر ميديا حصتها في نشرها ، والملاحظ عدد المارين والمتابعين لكتاباته يزداد يوماً بعد يوم لفرادتها في الاختيارات من أرشيف وشخصيات وأحداث واكبها ضياء نافع منذ مطلع الخمسينيات في مجمل مسيرته الاكاديمية والأدبية والعملية عندما أصبح مسؤول قسم اللغات في كلية الاداب / جامعة بغداد ، والتي أقترنت فترته بأنجازات كبيرة على مستوى التطور والابداع في أساليب الدراسة وحتى تركت ظلالها على العلاقات السوفيتية العراقية من خلال دعم مشاريع ثقافية في التعاون مع السفارة السوفيتية في بغداد .

أتطلع وبرغبة شديدة أن ألتقيه بعد طول تلك السنين العابقة بالذكريات والمواقف والأحداث ، وقد وجهنا له عدة دعوات في مناسبات عديدة من أجل الاحتفاء به وتكريمه والوقوف عند أهم أنجازاته ومشاريعه الادبية في محل أقامته في العاصمة موسكو منذ عدة سنوات مع زوجته الروسية والتي تحن للعراق بفيض وصوره المشرقة عاشت سنوات طويله فيه وتطبعت على عاداته وتكلمت لغته وأحبت تاريخه وتجنست جنسيته وهي فخورة بهذا التقليد والعيش في هذا البلد العراق ، ولم يذهب عن بالنا أيضاً هي أستاذة جامعية ساهمت في نشر الثقافة والأدب ، كما ساهمت الأستاذة سعاد محمد خضر المصرية الأصل وزوجة اليساري المرحوم صلاح خالص في البناء الثقافي والأكاديمي . واللبنانية الأصل الاستاذة المرحومة حياة شرارة أبنة الأديب والمثقف محمد شرارة وزوجة طبيب الكسور والعظام المشهور المرحوم محمد صالح سمسيم ( أبو مها ) ، الذي أعتقل في أحدى المرات العام ١٩٨١ بعد أن أجرى خمسة عمليات جراحية لجنود الحرب العراقية / الإيرانية في مستشفى الرشيد العسكري في بغداد . حياة شرارة هي معلمتي وزميلة الأستاذ ضياء نافع لسنوات طويلة في قسم اللغة الروسية في جامعة بغداد وقد ساهما معاً بشكل واضح ومؤثر في دعم الابداع والادب ونشر الثقافة الوطنية في العراق من خلال تعاونهم المشترك في الترجمة والنشر والمعرفة  . ولم أكن بعيداً عن تلك الأجواء بحكم قربي منها طالباً في الأداب مما تركت بصماتها على مسيرة حياتي وأختياراتي الاحقة ومواقفي ، كنت أحمل نضدات من مجلة الثقافة للمرحوم صلاح خالص وزوجته سعاد محمد خضر في عودتي الى قريتي الهويدر وأيصالها الى بعض متابعيها وكتابها في المدينة .     
                                                                             
تقضي عائلة أستاذ ضياء سنوياً عدة شهور في جمهورية الجبل الأسود مونتينيغرو ( بالصربية ) بالقرب من فلذة كبدهم أبنهم نوار ، والذي توارى ثراه هناك على أرضها ، عندما كان يعمل طبيباً فيها قبل رحيله الأبدي . فسلام على قبره . ومن تلك الايام عندما كنت طالباً في الاداب لم تحتفظ ذاكرتي ولو مرة واحدة على طريقة أستاذ ضياء في التدريس وألقاء المحاضرات ، لكنه كان دائماً واقفاً ويضرع الفسحة الضيقة ذهاباً وجيئةً بين رحلات الطلبة والسبورة وبيديه الطباشير لكتابة أسم أديب أو رواية أو قصيدة شعرية عكس بعض الأساتذه والذين كانوا يفضلون الجلوس على منصة التدريس المخصصة لهم مما يفضي الى تسرب الخمول وسط الطلبة وضعف تركيزهم على حصة الدرس ، بينما طريقة أستاذ ضياء كانت تشدنا الى الدرس بفعالية وحب .
محمد السعدي
مايس / ٢٠٢٠



79
صراع الرفاق الدموي في عدن   .
كثر ممن عاشوا على أرض جمهورية اليمن الديمقراطية وسط شعبها وبين ناسها من شيوعيين وحركات تحرر وقوى يسار وعلى وجه التحديد العراقيين والفلسطينيين ، وكانت لهم حضوة كبيرة من الأهتمام والامتيازات ، وشغلوا مراكز مهمة في جسم الدولة أنطلاقاً من الفهم الماركسي للتضامن الأممي ، لكنهم قله ممن كتب عن تلك التجربة ووثق الحدث الدامي بين رفاق الحزب الواحد والتجربة الواحدة والتاريخ المشترك من النضال والمقاومة . 
 
  دموية ذلك اليوم في ١٣ كانون الثاني العام ١٩٨٦لم تكن المفاجئة للمتابعين ولا للرفاق اليمنيين ولا لأصدقائهم  ، كانت كل السيناريوهات مفتوحة للقتال والتصفية والثأر ، والتي أحتدمت بمفترق طريق بعد عودة القيادي الشيوعي عبد الفتاح إسماعيل من موسكو والثأر له من قبل رفاقه ومريديه ضد خط سياسة علي ناصر محمد القابض على دفة الحكم في اليمن بعدة سنوات وعلى أثر إبعاد رفيق النضال عبد الفتاح إسماعيل ورفاقه الى الاتحاد السوفيتي العام ١٩٨٠  أي كانت بمثابة عملية نفي وإقصاء ، قد تكون قريبة تلك التجربة من فصولها بما حدث في العراق في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم عندما نفي سكرتير حزب الشيوعيين العراقيين الشهيد سلام عادل الى العاصمة موسكو عندما تقاطعت رؤاه السياسية مع رفاقه حول سياسة الزعيم عبد الكريم قاسم ،  فتغلب حوار الدم وكان هو السائد الذي ختم فصول المشهد السياسي للتجربتين اليمنية والعراقية وفي زمنيين مختلفين .  كانت ميزة عبد الفتاح إسماعيل عن رفاقه هو عمقه الفكري في الادب الماركسي وأطلاعه على كنوزه الى أنه كان يلقي محاضرات ودروس في المدرسة الحزبية للدارسين في موسكو حول الماركسية اللينينية وقوانينها الديالكتيكية وتطبيقاتها العملية في مسيرة حياة الشعوب ، ولم يكن للرفاق السوفييت رأياً بعودته وهم الأدرى بطبيعة الصراع الرفاقي ومخاطره على التجربة الفتية  . وفي أبان عودته أنعقد المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي اليمني في أكتوبر ١٩٨٥وتم أنتخاب الرفيق عبد الفتاح إسماعيل لقيادة الحزب وفي عضوية المكتب السياسي وحسب راوي عراقي قريب من وقع الحدث ، عندما أذيعت في قاعة المؤتمر نتائج التصويت من قبل الرئيس علي ناصر محمد أسم عبد الفتاح إسماعيل حرارة التصفيق هزت أركان القاعة وهتافات الحاضرين في قاعة المؤتمر لم تعطي للرئيس علي ناصر محمد برهة من الوقت أن يدلو بالأسماء التي تليه والتي فازت بالتصويت من بعده ، من هنا بدأ التوجس مرة أخرى والعودة الى صراعات السنوات الماضية وجدلية الانتقام الرفاقي والتمسك بكرسي القرار والجاه ، كانوا يعتقدون ( معارضيه ) أن غيابه أو أبعاده خمسة سنوات خارج البلد كفيله بتغيب دوره وحصر تأثيره بين أوساط رفاق الحزب الواحد ، لكن ليس كل مايعتقد ممكن أن يتحقق على أرض الواقع ، وبعد المؤتمر بدأت خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة أحاديث ليس مسرة عن أعتماد نتاهج الأنتخابات في التشكيلة الجديدة ، أي بمثابة ألغائها وعدم الأعتراف بها ومهما كان الثمن ومجرى الدم الذي سيسيل في شوارع العاصمة عدن  ، وقد روى رفاق شيوعيين عراقيين قريبيين من الحدث ، عن لقاء جمع جورج حاوي وفخري كريم وبحضور علي عنتر المحسوب على خط عبد الفتاح إسماعيل الذي هدد قائلاً ( لو أبعد عبد الفتاح إسماعيل من سكرتارية الحزب سوف أقتلهم  وأقتل نفسي أي أنتحر ) .

في العام ١٩٦٧ تمكن اليمنيين الجنوبيين في نضالهم ومقاومتهم البطولية من تحرير اليمن من أخر ثكنات الاحتلال البريطاني وتأسيس أسس نظام جديد في البناء والديمقراطية تأثرا بالتطورات العالمية في نهضة جديدة من التحرر والمقاومة واليسار ، وقد لعبت الجبهة القومية للتحرير دوراً نضالياً كبيراً في تحرير اليمن الجنوبي من خلال التعبئة الوطنية للشعب في التحرر الوطني بعد أحتلال بريطاني طال ١٢٠ عاماً لأرض اليمن ، وكانوا أغلب المنتسبين وأعضاء الجبهة القومية هم ينحدرون من القرى والأرياف خارج العاصمة عدن ومن أهم أنصارها وأعضاءها ( علي سالم البيض ، حيدر أبو بكر العطاس ) ، فكانت للإنتماءات القبلية والعشائرية والمحسوبية دور كبير في ضياع التجربة ، والتي تعتبر الدولة الماركسية الوحيدة في العالم بدين رسمي هو الاسلام ، ولم تكن بعيدة أحداث فيتنام وما سطروه من بطولات وطرد المحتل الامريكي وثورة الطلاب في  العاصمة باريس ومواقف الاتحاد السوفيتي في دعم تطلعات تلك الشعوب تركت ظلالها على تطلعات شعوب العالم . ومن ذلك التاريخ حلم اليمنيين في أسس نظام ثوري عادل في البلد ، لكن الخلافات الأيديولوجية والتي لم تخلوا من دوافع شخصية وقبلية ومذهبية وبتأثيرات أقليمية ودولية ضاعت التجربة ومات الرفاق . وتعتبر الجبهة القومية للتحرير وجهتها الرئيسية الفكر الماركسي في مساندة الأنظمة الاشتراكية حول العالم لمقاومة الاستعمار والاحتلالات ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني في أرجاع أرضه المغتصبة . ينقل عن الدارسين بأوضاع اليمن أن من النقاط الأساسية للخلافات بين القيادة اليمنية وعبد الفتاح أسماعيل مرده هو أصل الأخير ينحدر من اليمن الشمالي ( مذهب الأثني عشر الشيعي ) ما يسمون اليوم ( الحوثيين ) . وتحت هذا السياق والفهم فهو غير محبوب للطرف الآخر . إذن ” كان هناك صراع مخفي من نوع آخر سبق الأنتماءات الحزبية والعقيدة ورغم تحلي عبد الفتاح بالثقافة والفكر وقدرة التحليل والقيادة وتجاوز المذاهب .

في يوم ١٣ كانون الثاني العام ١٩٨٦ في ذلك الصباح الندي المرتقب والموحش بالخوف في العاصمة عدن وفي مبنى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني طوت أخر صفحات الصراع السياسي بين الرفاق بالدم وضياع التجربة وممن قتل داخل المبنى علي عنتر وعلي شايع هادي وصالح مصلح الذي يعتبر وسيط بين الطرفين ونجا من المذبحة عبد الفتاح أسماعيل وعلي سالم البيض بخروجهم على ظهر مدرعة بأتجاه منطقة التواهي ، وهنا ضاعت الحقيقة بمصير عبد الفتاح إسماعيل وغيابه أي طريقة تصفيته هناك عدة سيناريوهات مطروحه ، حتى بعد أن هدأت الاوضاع شيع بتابوت من قبل رفاقه ومحبيه بدون جثة لانه لم يعثر على جثته ولاحتى على عظم واحد من جسده الهزيل . ورجال الرئيس علي ناصر محمد وتحديداً حراسه الشخصين هم من بادر بأطلاق الرصاص على رفاقهم داخل مبنى المكتب السياسي لتزهق الآف من الرفاق أرواحهم ، وعندما دخل حراسه قاعة الإجتماع في بناية اللجنة المركزية ، كانوا جميع الرفاق حاضرين الا علي ناصر محمد فوضع أحد حراسه ترمز الشاي أمام كرسيه الفارغ ، وعندما سألوا عنه المجتمعون قالوا لهم في الطريق وفي هذا الاثناء فتحوا حراسه النار على المجتمعين ، وفي لحظتها تطايرت دماء الرفاق وتلطخت جدران القاعة بطشاره . حرب شوارع ضروسه وأنتقامات وتصفيات قبلية وأيديولوجية طالت لمدة شهر كامل بعد أن ولى علي ناصر محمد بأتجاه اليمن الشمالي واضعاً على واحدة من يديه لفاف أبيض على أنه مصاب في المعركة ، ولكن الحقيقة هو لم يكن قريباً على دخانها ولا حتى على رائحة بارودها . في الختام هرب مع مئات من رفاقه ومقاتليه وأستقبلوا من حكومة علي صالح السعدي في صنعاء بالاحضان والاهتمام والرعاية  وتركوا أرض اليمن تئن من ويلات الصراعات والحرب ولاشيء يلفت الى فداحة الاوضاع الا نظر العسس المدججين بروح الثأر والانتقام . 

 ومازال علي ناصر محمد حيياً الى يومنا هذا متنقلاً بين عدة عواصم عربية ، لكن الحقيقة مازالت غائبة عن ثمة تفاصيل مهمة في ضياع التجربة وقتل الرفاق من خلال كتابات وشهادات بعيدة عن الشخصنة والذاتية ، والآمر أيضاً ينطبق على علي سالم البيض وجميع الرفاق الذين نجو من تلك التصفيات لأجل تقييم مسارات تلك التجربة الفريدة في موقعها الجغرافي والبيئي . وبعد سنوات طويلة من تلك التجربة الفاشلة على أرض اليمن السعيد حول مصير عبد الفتاح إسماعيل نقل عن أهله ومحبيه في تلقيهم مكالمات هاتفية بصوت عبد الفتاح نفسه بعد عشرة أيام من الواقعة ، لكن ما شيع في حينها أن عبد الفتاح إسماعيل مات في يومها وهو على ظهر الدبابة التي خرجت به تحت جنح الليل من مبنى اللجنة المركزية مكان المواجهة الرفاقية وحوار الدم على أثر قصف قوات البحرية للدبابة التي تحمله ، وقد رآها بعد حين بعض العراقيين في الأيام التوالي من الاحداث وكانت محترقه بالكامل وعبارة عن هيكل حديد منصهر . وعلى ضوء تلك التطورات التي عصفت بالتجربة اليمنية الفتية وما قدمته من مجالات دعم شتى للحلفاء والاصدقاء على أراضيها ، لكن هناك ثمة تداعيات تفرض حالها على المشهد هو الموقف المعلن من تلك الاحداث وتطوراتها قبل الأحداث وأثنائها وبعدها من العراقيين والفلسطينيين والسوفييت ؟.
لقد أكد أكثر من طرف معني بأحداث اليمن ، أن هناك أتفاق مسبق جرى بين علي ناصر محمد والسوفييت في إبعاد عبد الفتاح إسماعيل الى موسكو ، رغم توجس السوفييت وعدم أرتياحهم من أدارة علي ناصر محمد لأدارة العملية السياسية في البلد . وعندما وصل عبد الفتاح إسماعيل الى موسكو في مطلع الثمانينات . كان يتساؤل بأندهاش عن الغرض والسبب الذي جاءوا بي الى هنا ؟. وقد حدثني الدكتور خليل عبد العزيز عندما ألتقاه في العاصمة موسكو أراد أن يعرف منه السبب في مجيئه الى هنا ولم يلتقيه أي مسؤول سوفيتي رفيع المستوى . ظل السوفييت على هذا الخط من السياسة والتي تثير الريبة والتساؤل تجاه الشعوب المناضلة والداعية الى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية  والاحزاب الشيوعية والبلدان . وقد حان الوقت لكشف مواقفهم هذه أي بحاجة الى التوقف والدراسة في معرفة بواطن تفكيرهم حول تلك الصراعات . فالمواقف المعلنة والمخفية للسوفييت تجاه أصدقائهم من الشعوب والبلدان لم تكن أيجابية وتأتي دوماً متناسقة مع مصالحهم على حساب أرادة وتطلعات الجماهير والتي هي ضمن سياستهم وأنسجاماً مع عقائدهم .

محمد السعدي
أبريل / ٢٠٢٠

 

80
جون نيكسون .. John Nixon : .
سألتني أبنتي سدير ، عندما رأت بيدي كتاب يحتل مساحة غلاف صفحته الرئيسية صورة صدام حسين ملتحياً ، عندما كان سجيناً لدى القوات الإمريكية الغازية لأرض العراق لرجل وكالة الإستخبارات الامريكية جون نيكسون المحقق الفعلي لأستجواب الرئيس صدام حسين طيلة فترة مكوثه في السجن الامريكي . السؤال .. لماذا تقرأ عنه بابا وهو وضعك في السجن ؟.  وشردك من وطنك وأبعدك عن أهلك وضيع مستقبلك وجدته سؤال منطقي ووجيه وواقعي فحفزني على الكتابة . في بداية أعمارنا السياسية كنا لانقرأ الا الكتب التي تعبر عن أنتماءاتنا السياسية والفكرية ونجهل كتب وأفكار ساسة أعدائنا وبماذا يفكرون وماذا يريدون ؟. هذه كانت الوجهة العامة مما تحملنا عبأها على عملنا السياسي اللاحق في جهل المعرفة عن طبيعة عدوك وطريقة تفكيره وكيفية التعامل معه .

في كتابه ( أستجواب الرئيس صدام حسين ) ينقل جون نيكسون رجل الإستخبارات الامريكي والمختص بملف العراق وبشخصية صدام حسين والحاصل على شهادة الماجستير من جامعة جورجتاون حول شخصية وتاريخية صدام حسين ولمدة ١٣ عاماً في الطابق السابع لمبنى وكالة الاستخبارات الامريكية قبل أن يقع أختياره في متابعة ملف صدام حسين وأبعاثه الى العراق لهذا الغرض ، الذي وصل الى بغداد قبل أربعة أسابيع من إعتقال الرئيس صدام حسين بل هو من أكد للامريكان في بناية المطار أنه هو بلحمه وشحمه الرئيس صدام حسين في معاينته له وصورة الوشم المطبوعة على جلد جسمه وأثر الرصاصة في ساقه من محاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم العام ١٩٥٩ في رأس القرية في العاصمة بغداد ، وشفته السفلى المتدلية من كثرة تناول السيكار ، وبعد أن عرضوه على رجالات النظام السابق المعتقلين لدى الامريكان عبد حمود التكريتي الذي أكد على هويته وطارق عزيز قطع الشك باليقين.  في لحظتها زفت البشرى الى ساسة البيت الابيض باعتقال صدام حسين والى الشعب العراقي . 
                                         
هوس جون نيكسون وقبل أنتمائه للوكالة مولعاً بالقراءة حول الشخصيات والقيادات التاريخية والتي تفردت بحكام شعوبها وتركت أثراً غائراً في ذاكرة العالم . نقل جون في كتابه ومن خلال لقاءاته التلفزيونية أموراً لفتت نظري ودغدغة مخيلتي عن حقبة سياسية ماضية كنت أحد ضحاياها . بدأت في بدايات السبعينيات وما يعرف بمشروع الميثاق الوطني ( الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ) ، لا سجال على ضرورتها لكن الخلاف حول عقدها وشروطها وتكتيكها ونهايتها المأساوية . يروي في كتابه تفاصيل أستجواب الرئيس صدام حسين حول أهم القضايا ، بدءاً من طفولته التعيسة حيث ولد بدون أب مات أبوه وهو في بطن أمه والتي تزوجت بعد ولادته من عمه شقيق والده إبراهيم الحسن ، مما فتح عينيه طفلاً منبوذاً من أقرانه ، الذين كانوا يعيروه أنه بلا أب وأمه أنسانة شريرة . ولم أعثر على أولويات في صفحات كتاب جون أهمية حول أسلحة الدمار الشامل ولجان التفتيش والعلاقة بالتنظيمات الإسلامية المتطرفة ( الراديكالية ) والتي كان يعتبرها صدام سلفية وأكثر خطوره من التنظيمات الشيعية على مستقبل نظامه السياسي حسب أدلائه للمحقق الامريكي  . ولكن تلك الادعاءات والأفتراءات هي التي بررت الغزو الامريكي للعراق وتدميره ، ولم تشغل حيزاً كافياً في كتاب السيد نيكسون بقدر الاهتمام والتركيز على الجوانب الشخصية والقضايا الإجتماعية والصراعات في محيط القصر بين أفراد العشيرة الواحدة ( الحاكمة ) . لم أعثر في بحر الكتاب ذكراً للشيوعيين وبطشه بهم ، وهم جزء مهم وريادي في تاريخ العراق السياسي الحديث . قدموا تضحيات جسام من أجل الوطن والمباديء والقييم ولايمكن نكران دورهم بهذه الطريقة حتى وأن تختلفون معهم لكنهم يبقون فصيل مهم من تاريخ العراق .

يمضي جون نيكسون في صفحات كتابه تخبط السياسة الامريكية في التعامل مع الملف العراقي والتخبط في أتخاذ القرارات المصرية قبل أحتلاله وبعد أحتلاله في الصراع الواضح والمصالح المختلفة بين ساسة مراكز القوى في الادارة الامريكية ، ومن خلال كتاب المحقق جون أن غزو العراق وأحتلاله تم بناءاً على دوافع شخصية ضد الرئيس صدام في محاولة أغتيال بوش الأب على أرض الكويت بعيداً عن أي معايير أنسانية وقانونية في تدمير بلد بالكامل ومازال شعبه يئن تحت مخلفات الاحتلال وعواقبه . آذن ”من يقرأ الكتاب يجد بين صفحاته تخبط وصراع ساسة أمريكيا حول مصير العراق . من يتسنى له مطالعة الكتاب يدرك حجم الخطر الذي كان مبيتاً في العداء للعراق والقرار على تدميره ؟. وقد وردت أفكار وأراء في صفحات الكتاب من أستنتاجات جون نيكسون بعضها على خلاف معها بعيداً عن الواقعية السياسية العراقية في مسيرتها الطويلة لكنها تبقى وجهات نظر مختلفة ومتصارعة سواء أتفقنا معها أو أختلفنا وفي النهاية هي جزء من حال العراق ورأي الكاتب . ألقى الكتاب رواجاً واسعاً على ناصيات التواصل الاجتماعي وتلقف من قبل دور ومنتجي هوليود ليتحول الى فيلماً سينمائياً سيدر مليارات الدولارات لجملة أكاذيب وأكشنات بعيداً عن تطلعات وعذابات العراقيين في حقبة سياسية أمتدت من العام ١٩٦٨ ومازال العراقيين يدفعون ثمنها باهضاً .

أراد جون نيكسون في كتابه تخطئة السياسة الامريكية حول الملف العراقي وهذه حقيقة تأكدت ولا تقبل التأويل والصراع المحموم بين أركان ساسة أمريكيا وتأثير اللولب الصهيوني في سياسة العالم والشرق الأوسط وتحديداً العراق .
وسعى الكاتب أن ينقل للقاريء والمتابع شخصية مختلفة عن صدام حسين وخطأ السياسة الامريكية في أحتلال العراق وتغير النظام مقارنة بساسة العراق الجدد ، والذي نعتهم بالحثالات والمرتزقة في سرقة وضياع بلدهم العراق . لم يكن مستوى الكتاب بحجم الضجة التي أثيرت حوله ولا تلك المعلومات الدفينة عن رؤية العراقيين فهما الأدرى بها وببواطنها .
حاول الكاتب جون نيكسون من خلال عدة سيناريوهات قلب الحقائق عن شخصية صدام حسين وأخراجه بفيلم هو الأقرب الى خدمة مصالح الامريكان ومحاربة الإسلام المتعصب والمتطرف بعيداً عن مصلحة وتطلع العراقيين والأذى الذي تحملوه بسبب سياسة النظام والدكتاتور . ولم يشغل الكتاب مساحة كافية عن معاناة العراقيين جراء سياسة النظام لسنوات طويلة تحملوا فيها القتل والموت .

في وقت سابق قرأت نتفاً في عدة مواقع  سطور من الكتاب والتعليقات حوله ، لكن صديقي ورفيقي خالد حسين سلطان كعهده بالوفاء والرفقة بعث لي نسخة من بغداد بواسطة صديقنا المشترك علاوي الشمري مما سهل عليه الأطلاع الكامل حول متون الكتاب ، الذي يعتبر أعتراف ضمني بهنجهية السياسة الامريكية في شؤون شعوب العالم .

محمد السعدي
أبريل / ٢٠٢٠


 





81
في حضرة عامر عبدالله
في مطلع السبعينيات وعلى التخوت العتيقة لمقاهي قرية الهويدر في محافظة ديالى ، كان يدب همس حديث يومي بين جالسيه تلك المقاهي حول آمور البلد السياسية مقروناً بالتحليل والتنبؤات عن شراكة سياسية قادمة بين البعثيين والشيوعيين ، وطوي صفحة الماضي القريب المخضبة بالدم والعداء . كان أسم المرحوم عامر عبدالله هو الأكثر تردداً على مسامعي ، وأنا الصغير ومازال عودي غضاً في الفهم والأستيعاب ، لكنه في الأيام القادمة ترك علامة في مسيرتي السياسية ليس لي وحدي بل مئات من شيوعيي فترة الجبهة الوطنية مع البعثيين ، كان أسماً لامعاً في صدارة تلك الاحداث ومعطياتها .

عامر عبدالله … الشخصية الشيوعية والمفكر الأهم وربما الأوحد في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية على مدى صفحات تاريخها . ولد العام ١٩٢٤ في مدينة عانه لواء الدليم في عائلة عربية عريقه في تقاليدها وأنتمائها الوطني . أنتقل الى العاصمة بغداد في مقتبل شبابه وأنخرط في العمل السياسي في وقت مبكر . تعرف في بغداد على أبن مدينته عانه عزيز شريف رئيس حزب الشعب وجريدته ( الوطن ) ، وبسبب ظروفه الصعبة في العاصمة بغداد وفر له أبن مدينته عزيز شريف سكن داخل بناية جريدة الوطن بين أكوام الحبر والورق وركامات المطبعة . ومن نوافذها بدأ يرصد الاحداث ويكتب ويحلل ويشارك في المظاهرات ضد سياسة النظام الملكي مما تعرض الى الملاحقة والأعتقال . سافر الى بيروت بعد رؤيته مشانق ساحات أعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي ( فهد ، حازم ، صارم ، يهودا صديق ) ، في ١٤ شباط ١٩٤٩ . 

في بيروت تعرف على قادة الحزب الشيوعي اللبناني وشخصيات من القوى الوطنية وللأطلاع على ظروف البلد السياسية قربته أكثر من الفكر الماركسي وتعمقه به ، وعندما عاد الى العاصمة بغداد أنضم الى الحزب الشيوعي العراقي ليتدرج في أعلى تراتيبه وليصبح من أهم قادة الحزب ومن ألمع مفكريه .

في سنوات لاحقة من مسيرة النضال تعرفت بشكل قريب ووثيق على الراحل عامر عبدالله ، وذاكرتي مليانه بصور مختلفة الابعاد بعضها مغطاة بالغبار . في دمشق عام ١٩٨٨ وعن طريق بعض الرفاق والاصدقاء ألتقيت بالراحل عامر عبدالله لأول مرة في بيته الكائن في منطقة محي الدين ، وجدته كما قرأت عنه وسمعت من بعض المقربين منه بتواضعه الجم ودماثة أخلاقه وبساطته المتواضعة وعمق موسوعته الفكرية والسياسية وقدرته على تحليل الأحداث وأبعادها التاريخية . كثرت لقاءاتنا بزياراتي المستمرة الى بيته في دمشق ، وتعززت أكثر بعد معرفته أني أبن أخت الشهيد الضابط الشيوعي خزعل السعدي ، وأطلاعه بشكل مفصل على مواقفي وتعرضي الى الاعتقال في بناية الشعبة الخامسة وأساليب التعذيب التي تعرضت لها ونجوت بأعجوبة .

وفي فحوى تلك اللقاءات ومصير حياتي في العيش الصعب في دمشق ، بدأ الرجل يقترح عليه جملة حلول بالمساعدة في ترتيب حياتي بتجاوز الأزمات المتلاحقة التي لاحقتني من تجربة الجبل الى التسلل الى بغداد والإختفاء بها الى ظروف الاعتقال والى أن وطأت رجليه أرض دمشق بلا عمل أو أفق قريب يلوح بحل قريب لوضعي المعيشي . كانت أكثر الحلول القريبة والممكنة هو حصولي على الجواز اليمني لأتمكن من خلاله السفر من سوريا باتجاه أوربا ، في وقت صعب قررت به الحكومة اليمنية الجنوبية بوقف منح جوازات سفر الى العراقيين والفلسطينيين للضبابية في مواقفهم وعلى ضوء تلك التداعيات على الاحداث الخطيرة التي شهدتها اليمن والأحتراب الداخلي بين رفاق الأمس أدت ضياع أفق تلك التجربة الفريدة من نوعها في المنطقة . 

في هذا الأثناء من بدايات العام ١٩٨٩ . سافر المرحوم عامر عبدالله الى العاصمة عدن على ضوء دعوة رسمية من حكومة اليمن الجنوبية الجديدة ( علي سالم البيض ) أثر الأقتتال الداخلي الرفاقي شهر يناير ١٩٨٦ قتل على أثرها عبد الفتاح أسماعيل وعلي عنتر وعلي شايع هادي وهرب علي ناصر محمد ورفاقه الطرف الثاني في الصراع والتصفيات الى اليمن الشمالي ليستقر به الحال في دمشق العاصمة ، فذهب المرحوم عامر للاطلاع على مقتضيات الوضع الجديد بعد حمامات الدم التي سالت في شوارع عدن ، ووضع خطة خمسية للبلد لتجاوز عقبات أحداث الماضي والنهوض بالبنية التحتية في البلد ، كان قد أملني المرحوم عامر عبدالله في حال وصوله الى عدن سيبذل جهود مع المسؤولين هناك من أجل حصولي على جواز يمني ، بعد أيام من وصوله أتصلت بي السيدة بدور ( أم أريج ) زوجة عامر عبدالله الموظفة في السفارة اليمنية بدمشق . وأبلغتني مع باقات تهاني لقد تمت المواقفة على حصولي على جواز يمني وما عليه الأ أن أذهب الى السفارة اليمنية في دمشق حاملاً صور شخصية لأجل أستلام الجواز .

بعد أيام عاد الى العاصمة دمشق الراحل عامر عبدالله حاملاً في ذهنه عبأ ثقيل عن تداعيات الاحداث في اليمن وتأسفه على ما أصاب شعب اليمن من ويلات وتشظي وضياع التجربة ومواقف الرفاق ، وأعلن عن رغبته في الأنتقال الى العاصمة التشيكية ( براغ ) حسب قوله .. سأقضي آخر عمري هناك وسأجهد نفسي في كتابة مذكراتي حول تجربتي السياسية ، وأضاف لي أملاً ، عندما أجد هناك فرص متاحة في براغ من خلال الرفاق للسفر الى بلدان اللجوء سأبعث لك خبراً في المجيء لنا . وفي غضن عدة أسابيع ، أستلمت رساله من باقر أبراهيم ( أبو خولة ) أن أتوجه الى العاصمة ( براغ ) ، وسعدت بها ولملمت حالي وحزمت حقيبتي بإتجاه العاصمة ( براغ ) . وصلت لها يوم ١٥ آيار ١٩٨٩ الى مطار العاصمة ، وكان في أستقبالي الراحل عامر عبدالله في المطار ، وكان يوم مشمس ودافيء ، ورافقته في سيارة تاكسي الى بيته الجميل في أطراف مدينة براغ .

في مساء اليوم ألتقيت مع الرفاق بسهرة في قصر الثقافة التشيكية ، بالاظافة الى عامر عبدالله ، المرحوم حسين سلطان ، عدنان عباس ، عبد الحسين شعبان ، رواء الجصاني ، نجم الدليمي .. وآخرون . بقيت عشرة أيام في مدينة براغ الجميلة ، كنا يومياً نتجول في المدينة نلتقي برفاق وأصدقاء وأحبة ، والشوارع تغص بالشبيبة الشيوعية فرحين مسرورين ، يتعانقون بقبل طويلة للتعبير عن حبهم للحياة ، لكن لم يدر في خلدهم أن بعد عام ستغتال تلك التجربة ، والحديث الذي يستهوينا والطاغي هو العراق ونية النظام في توجهات جديدة حول التعددية والمفاوضات والعودة بعد نهاية الحرب العراقية / الإيرانية ، ووصول الوسيط الدائم  للوساطة والمفاوضات ، الشخصية الشيوعية مكرم الطالباني حاملاً في جعبته توجهات جدية في الخروج من الأزمة والعودة الى الميثاق الوطني . وعلى آثر تلك التطورات أخرت قليلاً من أندفاعي نحو التوجه الى مملكة السويد ، أملاً في إيجاد صيغ للتفاهم والأعلان عن أنفراج سياسي ، ففضلت العودة الى بغداد بدلاً من التوجه الى طلب اللجوء السياسي . وكان هناك توجه عام بهذا الاتجاه بما ضمنهم الحزبين الكرديين الأتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني ، لكن في اللحظات الأخيرة أحبط المشروع ، عندما حمل المرحوم عبد الرزاق الصافي وثيقة الأتفاق الى العاصمة دمشق ، هناك توقف كل شيء ؟. وأنتهى .

كان المرحوم عامر عبدالله لايخفي توجساته من أزمة فكرية وسياسية ستحل في بنية الحزب وتطلعاته وعلاقته بالجماهير مما حصل في خيمة المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي في منطقة ( آرموش السفلى ) ، وشبهها بأحداث قاعة الخلد عام ١٩٧٩، عندما ذبح صدام حسين رفاقه . في خيمة المؤتمر الرابع تم عزل ٢٦ عضو لجنة مركزية ، وشمل حتى ممن رحل عن الحياة . ومنح عزيز محمد بعد أن أعيد تعينيه سكرتيراً للحزب بأختيار عشرة رفاق جدد للجنة المركزية ، مما أطلق عليهم العشرة المبشرة في الجنة ، وأستمروا لسنوات واحد داخل والآخر خارج رافضه عزرائيل . 

بدأت أبحث عن مخارج للوصول الى السويد ، فذهبت برفقة الدكتور عبد الحسين شعبان الى السفارة البولندية في العاصمة براغ للحصول على فيزة لجوازي اليمني ، فتعرقلت في غياب السفير اليمني ، وفي عودتنا الى بيت عامر عبدالله ، توصلنا الى حل ، قام به الدكتور شعبان فحصلت على الفيزة ، وبعد يومين ودعني المرحوم عامر في المحطة العالمية لحركة القطارات بإتحاه العاصمة وارشوا . في يوم ٣ حزيران ١٩٨٩ وطأت قدماي رصيف مدينة إيستاد السويدية في رحلة مضنية وصعبة عبر باخرة بولونية عملاقة .

عاش الراحل عامر عبدالله أخر أيامه في العاصمة لندن ، ولم تنقطع زياراته الدائمة الى العاصمة ( أستوكهولم ) ضيفاً عند قريبته السيدة هيفاء ( أم هند ) ، وكنت على تواصل دائم معه لحين رحيله المر في شقته بالعاصمة لندن يوم ٢٩ كانون ثاني ٢٠٠٠ .
ومازال حول رحيله سجالاً ، وأراء وأفكار وكتب ورسائل أطروحه حول منجزاته الفكرية الكبيرة ودوره السياسي البارع ورؤيته الثاقبة للاحداث .

سطور من كتاب في قيد الاعداد .
محمد السعدي
مالمو / ٢٠٢٠ 

 




82
صورةالمناضل مهدي أبن بركة .
قد يسأل البعض ؟. أو تستغرقه دهشة الفضول ، ما الهدف من الكتابة عن شخصية ظلت محيرة ومنسية ومجهولة للبعض في وسطنا العربي ، وغير معنية بالأهتمام في تسليط الضوء عن دوره الرؤيوي والمهم في المعترك السياسي العربي والأفريقي .
في مراحل متقدمة . قرأت عنه نتفاً في بعض الادبيات والمواقع بها أشارات مهمة عن دوره كقائد يساري في البناء الثوري للمجتمعات العربية / الأفريقية . في الأيام الأخيرة من نهاية هذا العام ٢٠١٩ . نشرت جريدة الزمان البغدادية ثلاثة حلقات في تقديري مهمة وجديرة بالقراءة للدكتور عبد الحسين شعبان حول شخصية محورية وتاريخية الدكتور نوري عبد الرزاق في أستعراض تاريخي لأهم محطات حياته السياسية والادوار الكبيرة لقادة وثوار ومناضلين ، كان من بينهم المغدور مهدي أبن بركه ، وقد حفزني مانشره الدكتور شعبان سابقاً أن أعرج على الشخصية العربية المهمة ، وأعني به المهدي أبن بركه ، وفي تعريف العالم بدوره الكبير في التحرر والحرية .

المهدي أبن بركة … ولد في الرباط ( المغرب ) العام ١٩٢٠ لأبوين مغربين . ويعتبر من ألمع السياسيين المغاربة فكراً ونهجاً بأتجاه الفكر الاشتراكي وحركة اليسار العالمية ، منذ بداياته الأولى ، أولى أهتماماً كبيراً بتجارب الشعوب وحركات التحرر والبؤر الثورية . ويعتبر أكبر معارض أشتراكي للملك الحسن الثاني . عرف كأصغر سياسي في بلاده المغرب من خلال التوقيع على وثيقة قدمت الى الملك محمد الخامس في العام ١٩٤٤ تدعو الحكومة والملك الى أستقلال المغرب من الهيمنة الفرنسية وعودة العائلة الشرعية للحكم بعد خلعها عن دفة الحكم رغم معارضته الشديدة لطبيعة أداء المملكة المغربية لأدارة الحكم ، لكن هناك أولويات في السياسة والنضال هو الوطن ، وكان في حينها عمره لايتجاوز ٢٤ عاماً . نحن العراقيين لنا تجربة ربما مماثلة لهذا المواقف النضالية التاريخية في العام ١٩٤١ حركة رشيد عالي الكيلاني ومعركة ( سن الذبان ) عندما طالب الشهيد يوسف سلمان يوسف ( فهد ) رفاقه الشيوعيين عبر قضبان السجن بمقاومة المحتلين رغم معارضته الشديدة لنظام الحكم الملكي في البلد وما يتعرض له الشيوعيين من قمع وملاحقات . 

أعتقل أبن بركة على أثر تلك الوثيقة وتأثيرها على حركة الشارع المغربي في التوق الى الحرية والاستقلال لمدة زمنية في السجون المغربية ، وبتأثير حركة الاحتجاج في الشارع المغربي أطلق سراحه وعاود نشاطه الوطني والقومي من جديد ليتزعم قيادة حزب الاستقلال المغربي وهو أكبر حزب في المغرب . وفي مواكبته لحركات التحرر وقوى اليسار العالمي . أرتبط بعلاقات نضالية متميزة مع قادة عالميين وشخصيات مؤثرة في حركة التاريخ .جيفارا ، أحمد أبن بله ، جمال عبد الناصر . أرادوا هؤلاء بعقد مؤتمر للقارات الثلاثة أفريقيا ، أسيا ، أمريكيا اللاتينية مما أثار حنق الامريكان وغضبهم ومحاولتهم في أفشاله ومن جهة السوفييت لم برحبوا به لوجهات نظره المعارضة لسياستهم . المؤتمر الذي كانوا ينوون عقده بالعاصمة هافانا سنة ١٩٦٦ ، وكان هدفه خلق تكتل سياسي دولي أكبر حجماً وأستقطاباً وأكثر فاعلية من تنظيم دول عدم الانحياز ، وذلك بهدف التصدي لإخطبوط الامبريالية داخل دول القارات الثلاث ، والعمل على تحريرها من هيمنته المقيته ، وهو ما أثار حفيظة زعيمة الامبريالية العالمية الولايات المتحدة ، وبذلك أصبح هدفاً مطلوباً . في العام ١٩٦٥ في زيارته الثانية القائد البوليفاري أرنستو تشي غيفارا الى الجزائر بدعوة لدعم شعوب إفريقيا وأسيا ألقى خطاباً تاريخياً مهماً وجه نقداً لاذعاً الى مواقف السياسية السوفيتية بعد أن عاد من لقاء مع الرئيسي السوفيتي ليونيد بريجينيف وطلب منه أن يمنح لثوار العالم الأسلحة مجاناً من أجل مقاومة الأمبريالية ولم يلقي تجاوباً من الرئيس السوفيتي مما حمل في خطابه اللوم على تلك السياسة .

وفي خضم تلك التداعيات والصراعات الدولية وأحتواء بلدان الغير والسيطرة عليها . أتضببت فكرة عقد المؤتمر للقارات الثلاثة ، حيث أختطف المهدي أبن بركة من مطعم ( ليب .. Libe ) في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية في باريس ، في يوم ٢٩ أكتوبر ١٩٦٥، أثناء موعد له مع مخرج فرنسي حول أعداد سيناريو لفلمه حول ( حركات التحرر ) ، وكان للمخرج يد في ترتيب أختطافه ، ولم يتم هذا اللقاء وعند خروجه من بوابة المطعم والمشي في الشارع الرئيسي أستوقفته سيارة شرطة بها شرطيان وقاداه الى فيلا بأطراف باريس بالاتفاق مع المخابرات المغربية ، كما كشفا بعد ذلك أمام ملفات التحقيق ، ومن ذالك التاريخ وما زالت التكهنات تحيط حول مصيره ، والذي لم يكشف عنه الى الآن رغم كل مناشدات عائلته وصحبة ومنظمات حقوقية وحركات تحرر . وأطيح ببن بله في أنقلاب قاده الهواري بو مدين في ١٩ يونيو ( حزيران ) ١٩٦٥ . وأختفى جيفارا بعد أن توجه الى الكونغو العام ١٩٦٥ . وأستشهاده البطولي في أحراش بوليفيا على يد جنود الجيش البوليفي بعد أن أوشى عن تحركاته ومكانه راعي أغنام بوليفي العام ١٩٦٧.

شهدت مملكة المغرب في العام ١٩٦٥غليان سياسي وشعبي ضد الملك وحكمه في أدارة ملفات ومطالب الشارع المغربي مما أزدادت شعبية المعارض اليساري المهدي أبن بركة ، والذي يتنقل في عواصم أوربا بجواز جزائري ويدعو في نضاله الى تغير النظام الملكي ، مما أثار حنق السلطات المغربية ، أدت الى تغيبه في أطار التعاون مع المخابرات الإسرائلية في العاصمة باريس ، وتشير بعض الدلائل بعد خطفه الى فيلا في أطراف مدينة باريس أشرف على تعذيبه وقتله وزير الداخلية المغربي ( محمد أوفقير ) والجنرال أحمد الدليمي مدير المخابرات المغربية ، اللذان قتلا في ظروف غامضة في المغرب لطمس معالم الجريمة ، وفجر قتله في أسرائيل أزمة بين أركان الحرب . وتعتبر مسألة الأختفاء القسري للمهدي أبن بركه إحدى الجرائم السياسية الكبرى في القرن العشرين . وقد شهد العراق في هذا القرن غياب وأخفاء شخصيات مهمة وعلى عدة مستويات للدكتور صفاء الحافظ ، والدكتور صباح الدرة ، وعايدة ياسين ، ودارا توفيق في مطلع الثمانينات في بغداد ، وأختفاء ناصر السعيد في العاصمة بيروت في فترة مقاربة . 


وفي فترات تاريخية متعاقبة شهدت العاصمة باريس سلسلة أغتيالات سياسية لناشطين ضد أنظمتهم وعلماء ورجال أقتصاد بنشاط محموم من المخابرات الاسرائيلية ( السافاك ) ، كما وقع مع العالم الفيزيائي المصري ( يحي المشد ) المساهم في وضع اللبنات الاولى لولادة المشروع النووي العراقي بالتنسيق مع حكومة الرئيس الراحل جاك شيراك ، حيت تم أغتياله في غرفته في أحد فنادق باريس عبر فتاة بائعة الهوى ( مومس ) ، وتعرضت فيما بعد الى دهس بسيارة في أحد شوارع باريس ليتم تغيبها .

في ١٤ تموز ١٩٥٨ وقع إنقلاب عسكري في العراق وبتأيد وإسناد جماهيري وشعبي كبير مما سرعان ما صنف بثورة ضد النظام الملكي ، في يومها طلب المهدي أبن بركة مقابلة الملك محمد الخامس الذي أستقبله وطلب منه أن يعترف المغرب بالنظام الجمهوري في العراق ، فقال له الملك محمد الخامس هل تطلب مني أن أعترف بالذي أطاح بنظام ملكي وأن ملك ، فأجابه المهدي بقوله : أنت لست أي ملك ، بل أنت ملك التحرير الذي لايشبهه أي ملك ، فالملكية المغربية كانت عبر التاريخ رمزاً للجهاد ومدرسة للوطنية ، عكس ملكيات المشرق العربي التي صنعها الاستعمار الانكليزي . وكان أن صدر في نفس اليوم بيان الاعتراف بالنظام العراقي الجديد ، وزار محمد الخامس فيما بعد العراق وأستقبله الزعيم عبد الكريم قاسم .

وفي تطورات الحياة السياسية في المغرب ، أصبح أبن بركة عضواً برلمانياً الى جانب زعماء سياسيين مغاربة ، إلا أنه لم يمارس مهنته كبرلماني ، فأختار العيش في المنفى ، وكانت محطته العاصمة باريس ، بعد أن شعر بأن القوى الرجعية كثفت من تحركاتها ضده وضد توجهاته ، إذ سرعان ما أتهم بتدبير الانقلاب على النظام الملكي ، فيما عرف بمؤامرة ١٩٦٣ التي وقعت فيها محاكمة العديد من العناصر الوطنية ، وصدر في حقه غيابياً حكم بالإعدام ، الذي أجبره الى الإقامة في المنفى ، وظل يواصل من هناك نشاطه السياسي ومعارضته للنظام ، وخلال تلك الفترة كتب بيانه السياسي والإيديولوجي ، على غرار البيان الشيوعي لكارل ماركس ١٨٤٨ ، وأطلق عليه أسم ( الاختيار الثوري ) ، وهو البيان الذي وضع فيه تصوره لمغرب تقدمي أشتراكي ، وتكون فيه وسائل الأنتاج ملكاً للدولة وحدها ، ولكنه أخفق ولم يتحقق شيء يذكر على الصعيد العملي في بيئة مثل البيئة المغربية الإسلامية المثقلة بالتقاليد والاعراف . 
محمد السعدي
مالمو / كانون الثاني/ ٢٠٢٠


المصادر ..
كوبا الحلم الغامض / دار الفارابي بيروت ٢٠١٠ .
الصحفي المغاربي سعد الكنس .

83
خواطر عن الثورة في ساحات العراق .
حقاً .. أشعر بالخجل والتردد في الكتابة عن أهلنا وثورتهم في العراق منذ إنطلاقتها ١ أكتوبر ، حاولت أن أرضي نفسي ببعض أنواع الدعم على أقل تقدير لتأنيب الضمير والشعور بالخيبة إمام ملاحم بطولية سيحفظها التاريخ العراقي الى أبد الآبدين .
ما يجري في ساحات العراق لحظة تاريخية مهمة ومفصلية في رسم سياسة جديدة ونظم حكم أفقده العراق منذ تأسيسه الأول . الثوار العراقيون بثورتهم السلمية أعادوا لنا مجد العراق ، أعادوا لنا وطن كاد أن نفقده ، بعد أن تكالبت عليه دولتان مارقتان ( أمريكيا / إيران ) اللتان توحيان للآخرين بل للسذج من العامة والخاصة أنهما عدوتان لدودتان ، كل ما يجري في العراق منذ ٢٠٠٣ بإتفاق أمريكي / إيراني وليس بعيداً بالتنسيق مع الدوائر الصهيونية في تحطيم العراق ، وهذا ما تبرهنه الأحداث يومياً في ساحات العراق وتطورات الاوضاع .

ماذا يعني أصرار الطبقة السياسية وسلطتها في العراق على تجاهل مطالب المنتفضين السلمية بواقع أريد وطن بعيد عن الشبهات والفساد والخراب ، بل واجهوا مطاليب المتظاهرين بالقتل والإغتيال والدم في غباء سياسي عميق بمواجهة الازمة بايجاد حلول سياسية تجنب الوطن القتل والدم بدل من أن يطلقوا العنان لمليشياتهم الوقحة والعاقلة المدعومة من إيران بأغتيالات الناشطين من الثوار مما يدل على الصفاقة والغباء في القضاء على الأزمة ، ولم يعطوا فسحة مجال للمراجعة للبقاء لمدة قد تطول في حكمهم للعراقيين الا الرحيل عن أرض العراق بارادة ثورية لايمكن التراجع عنها الا بأسقاط الطبقة السياسية والغاء البرلمان وتشكيل حكومة طواريء من شباب ساحة التحرير وساحات العراق وأنتخابات مبكرة تكفل حرية الوطن والمواطن .

على مر التاريخ ، هناك دول وشعوب مرت بمخاضات عسيرة قد تكون قريبة ببعض فصولها على تجربة العراقيين اليوم . أنتفاضة الطلاب في العاصمة الفرنسية باريس العام ١٩٦٨ والتي شلت الحياة في فرنسا بفعل قوة التظاهرات والاضرابات والاعتصامات في عهد الرئيس الفرنسي شارل ديغول بطل الفرنسيين الوطني الذي حرر باريس من الإحتلال النازي الإلماني ، والذي سرعان ما واجه حجم وخطورة هذه الانتفاضة الذي شارك فيها الفيلسوف جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وبدعم من الاشتراكيين والشيوعيين بأجراء أنتخابات نيابية شعبية الذي خرج بها ديغول أكثر قوة وشعبية . وجنب البلد والشعب أراقة الدماء .

أكثر من مئة يوماً مرت ويزداد الغضب الشعبي ويتدفق الناس يومياً الى ساحات الشرف والعز بحثاً عن وطن أحبوه ، وأرادوا أن يرجعوه بعد أن شعروا بالخوف من فقدانه لحجم الدمار الذي لحق به من قبل ساسته السرسرية ، الذي أتت بهم إيران وأمريكيا ليدمروا بلد أسمه العراق ، لم يكن هناك شرف وطني ومستحى أمام تحدي شعبنا في رفضهم التام لهم ولسياستهم .
لم تعد تنفع أساليبهم بشتى ألوانها في لوي ذراع أرادة شعبنا في تحقيق مطاليبهم اليومية والوطنية , وسوف لم تذهب تلك التضحيات الجسام وقوافل الشهداء هدراً وعلى الطبقة السياسية الفاسدة أن تعي خطورة هذا المنحى في تسويف مطاليب شعبنا ومزيداً من الدماء ، فأرواح الشهداء ساكنة في ساحات العز والشرف وستنبت فوقها زنابق حمراء لترسم خارطة وطن قادم خالي من الإسلام السياسي المتخلف والطائفية والفساد .
محمد السعدي
كانون الأول / ٢٠٢٠

84
سامي كمال .. الانسان والقضية .
كان تشيخوف يقول لصديقه مكسيم غوركي وهما يغادران مزرعة ( إيسيانا بوليانا ) .. لماذا تعتقد أن تولستوي يمتدح ما نكتب ؟ يضحك غوركي وهو يقول : لانه ينظر ألينا كأطفال ، كل ما كتبناه لعب أطفال بالنسبة اليه ؛

كلما تعرفت عن قرب على الفنان سامي كمال وجدته يتعامل بكبر مع محبيه وقريبيه . مشوار طويل من الصداقة قبل تكون في خانة النسابة والمصاهرة حافلة بالمواقف والاحداث والمنعطفات . صورة الرجل المشعة دائماً بالأمل ذكرتني بهذا الحوار بين أدباء روسيا الكبار حول الكبار .
ولد الفنان سامي كمال العام ١٩٤٠في قضاء الكحلاء ( المسعيدة ) التابع لمحافظة ميسان وسط عائلة ميسورة الحال وذات نفوذ أجتماعي وسط أهالي قضاء الكحلاء ، والده مناتي أمتهن مهنة خياطة ( العباءة العربية ) ، كباب رزق وعيش لعائلته ، والدته ربة بيت لعائلة تتكون من ستة أبناء هو الأكبر بتسلسل الاولاد ، فتحمل منذ طفولته الأولى عبأ العائلة في البحث عن مصادر للعمل لتعيين والده لمساعدته في العيش . وفي وعي مبكر بسبب ظروف الحياة الاقتصادية وطبيعة العلاقات في مدينة الكحلاء وظروف العيش والحياة وأحتياجاتها اليومية والعوز في مصادرها وأنعكاس ثورة أكتوبر وأنتصارات الجيش الاحمر على جبهات الحرب العالمية الثانية وبث الافكار الشيوعية في جنوب العراق ، جملة تلك العوامل دفعت تلك العائلة الى الوقوف مع قضايا الفقراء والدفاع عن حقوقهم المسلوبة من رجالات الاقطاع والاغوات والمالكين الى الانحياز والايمان بالافكار الماركسية والشيوعية .

في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم أنتقل الفنان سامي كمال مع عائلته من مدينة الكحلاء الى العاصمة بغداد مما شكلت تلك الانتقاله أنعطافة في حياة الفنان على المستوين الفني ( الغنائي ) والسياسي ، وعندما كانت العاصمة بغداد تموج في منتدياتها وشوارعها مخاضات سياسية وثقافية قادمة في التغير ، قد تركت إثرها الواضح على حياته ، بل أنخرط في تلك الاحداث مبكراً من خلال الاهتمام والانتماء . وعندما وجد المرحوم مناتي والد الفنان سامي كمال الموهبة لدى أبنه في الغناء والفن . دعم تلك الموهبة في داخله وحثه بإتجاه صقلها في الدخول الى مسرح الموسيقى العسكري كمنشد مما شكلت إنطلاقته الأولى في عالم الغناء والتلحين . 
 
في بغداد العاصمة . تفتحت إمام الفنان سامي كمال أفاق جديدة لتطوير مواهبه الفنية والتي أعتمدها في ذاكرته من شجن وحزن الجنوب العراقي ، فلقد تعرف على ملحنين عراقيين من أمثال الراحل كمال السيد ، محمد عبد المحسن ، عباس جميل . وشعراء أغنية عديدون لازمهم في مسيرته الفنية ، ومن أكثرهم قرباً له الشاعر المرحوم كاظم أسماعيل كاطع ، وقد سبق هذه الأضاءات بولوجه وقبوله كمنشد في فرقة المنشدين الصباحية . في العام ١٩٧٠ بدأ العراق يخطو بأتجاه تهدئة الاوضاع وما رافقها من تنمية وأصلاحات أنعكست على الحياة الفنية والثقافية في العراق وبناء الأغنية المعبرة والهادفة ومضمونها وتطورها ، مما الى الآن يشار لها بالبنان في المعنى واللحن والشعر ، وكان الفنان سامي كمال واحد من عشرات الفنانين ، الذين تصدروا ألق هذا المشهد في تعزيز أسس الاغنية والفن بشكل عام .

في أستذكار تاريخي لأهم محطات الفنان سامي كمال في بداياتها . حيث يقول .. في بداية تسجيل أولى أغنياتي ( بويه عينه شكبرها ) . وكان الفنان يحي حمدي مخرجاً لهذه الأغنية ولما أكملت تسجيل هذه الأغنية خرجت الى الكونترول لاستمع أليها في مبنى الاذاعة ، وكانوا في حينها الملحن محمد جواد أموري والملحن الشيوعي كوكب حمزة والمغني سعدون جابر يستمعون لي عند إداء التسجيل . فقال الفنان يحي حمدي شهادة مازلت أعتز بها الى يومنا هذا أمامهم (( أن هذا هو الصوت المطلوب ، ولكنه بأعتقادي سوف لن يكون طريقه سهلاً )) . 

في منفاه البارد الموحش في القطب الشمالي ، الذي طال سنوات طويلة تداهمه به الذكريات والحنين الى الماضي في جو وحميمية عائلته الهاديء ، وعندما تكهرب الجو السياسي العراقي العام في أستهداف القوى الوطنية ومثقفيها وفنانيها من قبل أجهزة النظام في أعتقالهم وتغيبهم . قرر الفنان سامي كمال بحزم حقائبه في الرحيل الى وراء الحدود الى أصقاع الأرض القاحلة ، وفي لحظة وداع مؤلمة وصعبة لعائلته ، أثنته والدته الطاعنه في السن عن الرحيل متوسله له والخوف عليه من معاناة البعد ووحشة المهجر ، مازالت تلك اللحظات الصعبة تداهم الفنان سامي كمال بوجع وربما بندم على فراق والدته كلما تلبسته سنوات اليأس والأحباط ، ومما زادت من قساوة وهول الغربة رحيل والدته الى السماء بعيداً عن توديعها وإلقاء النظرة الاخيرة عليها . والانسان يشعر بالعمر وتقادمه عندما تغيب أمه عن الدنيا .

عندما ولج الفنان سامي كمال عالم الفن كمغني وملحن العام ١٩٧٠ ، وهو أب لاربعة أطفال يعمل من أجل تأمين حياة متواضعة لهم . راح يبحث عن مصدر رزق لتأمين معيشتهم ، لأنه في يومها لم يكن للفن معين مالي للعيش ولاسيما كفنان شيوعي يعطي من وقته وفنه للناس وقضاياهم ، فأخذ مهنة الحلاقة كباب رزق في تأمين حياة هادئة بفتح محل للحلاقة في مدينة الحرية في بغداد . وكان الملحن طارق شبلي يأتي من البصرة الى بغداد كلما توجب حضوره في  لحن أغنية  جديدة لمطرب جديد في مبنى دار الأذاعة بالصالحية ، وكان حينها يرافقه شاب صغير متلمساً طريق فن الغناء هو الفنان رياض أحمد ، والذي أصبح مغنياً مميزاً في مسيرة الاغنية العراقية . يستذكر سامي كمال ذكريات تلك الايام ، والذي حدث مرة في مبنى الأذاعة بتصرف غريب من الشاب رياض أحمد مما دعا سامي كمال في نهره وقائلاً له أمام جمع من الحضور ” أنت محسوب علينا ” فرد عليه رياض لا أنا بعثي . فاستدرك الفنان سامي كمال الموقف والخروج منه لا أقصد أنت محسوب علينا كفنانين .

في بغداد العراق ، وبعد أن ضاقت به فرص الحياة والعمل وحرية التفكير ومساحات الابداع لمعتقده السياسي ( الشيوعي ) والتمسك به ولم يرضى لنفسه على أي مساومة تجاه معتقده من آجل البقاء في مبنى الأذاعة في الصالحية والتي من فتحات نوافذها يحقق الشهرة والمال ، لقد تم أبعاده عن هذا الأفق وهو في بدايات ظهوره وشهرته الى الفرقة القومية للفنون الشعبية ، وقد تعرف هناك على بعض الفنانين العراقيين أمثال جبار عكـًار وأمل خضير . وفي الفرقة القومية ألتقى بالفنان عبد الآمير معله وهو اللقاء الثاني به ، وتفهم ظروفه ودعمه بأتجاه مشروعه الفني .   

كثير ما يشدنا في أغاني هذا الفنان الرائع هو المذاق العراقي السلس مع لحنه الممتع ، والكثير منا يتذكر الفنان سامي كمال في بداياته الفنية وفي أشهر أغانيه (رايح يارايح وين) والحاصلة على جائزة أفضل أغنية عام 1977-1976 ، والتي لابد من الاشارة هنا الى ملحنها المرحوم الفنان الراحل كمال السيد(ولنا وقفه مع هذا الفنان الراحل) والذي منحه اسمه الفني . في مسقط رأسه بمدينة الكحلاء ، وفي عز فتوته بدأت تظهر ميوله نحو متابعة الفن وعمالقة الغناء العربي وتحديداً الغناء ، ولموهبته المبكرة بهذا المجال بالتزامن مع ميوله السياسية بتأثير من والده مناتي بحكم طبيعة عمله وأحتكاكه اليومي بالناس وهمومهم ، فكان نصيب العائلة بذلك التوجه والانحياز الى قضايا الانسان في العيش والاختيار الحر . في سنواته الاولى للفنان سامي كمال في مجال الغناء والفن وتأثيرات أنتمائه السياسي على مسيرته الفنية في حقبة العراق التاريخية في التكوين السياسي وظهور الاحزاب السياسية الى العلن في العمل السياسي والاحتراب الى حد الخصومة والمواجهة بين القوميين والبعثيين من جهة والشيوعيين وأصدقائهم من جهة أخرى ، تركت ظلالها على حياة الفنان سامي كمال في بداياته الفنية بحكم هذا الصراع السياسي وتحديد المواقف . مما تعرض الى الاعتقال والسجن في أحداث ٨ شباط العام ١٩٦٣ ، بمجيء البعثيين والقوميين الى دفة الحكم بإنقلاب عسكري أطاح بثورة تموز وإنجازاتها ورجالها ليدخل العراق في دوامة طويلة من الانتهاكات والدم .

أرتبط همه السياسي والتعبير عنه في الوقوف مع قضايا الناس وتطلعاتهم من خلال موهبته الفنية
وأصالته العراقية وموسيقاه التي تفيض منها الحانه وصوته الشجي ، وهذا  ما نتلمسه في أغانيه على مدى أربعة عقود من العطاء . والفنان سامي كمال متمرس في الغناء منذ أواخر ستينيات القرن الماضي ، حيث دخل الاذاعة كمنشد في فرقة المنشدين الصباحية مع ثمة من الفنانين العراقيين ، والذين حجزوا لهم مكاناً في الذائقة العراقية أمثال عبد الجبار الدراجي ، صباح غازي ، حسين السعدي ، عباس حسن ، هناء وأختها غادة سالم . وبسبب ظروف العراق السياسية وتقلباتها مما أجبره كسائر الغالبية من المبدعين العراقيين الوطنيين الى مغادرة العراق متوجها  الى المجهول …؟.

المجهول هو المنفى حيث لم ولن يكون أحد منا انه يتوقع انه هذا المنفى هو كما آل اليه الحال ليمتد الى اكثر من أربعون عاماً من الزمان كان الهاجس هو المكان الآمن البعيد عن عيون المخبرين وسطوة الجلادين .

فكانت أغانيه مثل ( لبغداد).. ( أستمد الشجاعة منك ) ..(صويحب) التي اشتهر بها..(يــابــحــر ) ... (مشتــاكَ) ..(دكَيت بابك ياوطن) ..( شلون بيه وبيك يبنادم)  وغيرها الكثير .. الكثير...اين انتم واين نحن من هــذا الفنان ومتى ... ومتى ننصف مبدعينا الذين اعطوا للانسان والوطن الكثير ودفعوا أجمل محطات حياتهم للوطن .
مسيرة الفنان سامي كمال محطات ودول وأنعطافات وتجارب غنية وطافحة بالذكريات والمواقف تستحق الوقوف عندها ونقلها لتكن تجارب حياة للآخرين .

محطة اليمن … ومراحلها .

قبل أن تطأ قدماه أرض اليمن ، كان مروره الأول دولة الكويت ، والتي لم يمكث بها طويلاً لاسباب شخصية ومن منطلقات ( فنية وسياسية ) ، ورغم الأغراءات التي قدمت له من سكن ومال وجاه ، لكنه لم تثنيه على مواصلة طريقه المنشود ، وربما العامل ذو الوزن الأكبر والأكثر تأثيراً هو أنتمائه السياسي ( الشيوعي ) . فكانت وجهته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية . 

كانت محطته الأولى في المهجر هي جمهورية اليمن الديمقراطية ( اليمن الجنوبي ) عاصمتها عدن ، تاركاً خلفه عراق مضطرب تحت مفارقات سياسية خطيرة أدت به الى حروب ودكتاتورية متسلطة ووحشه . في منفاه الأول وجد بحبوحة من فضاء واسع للتعبير عن كوامن دواخله في الغناء والتعبير مع رعيل من رفاق فكر وطريق جمعهم اليمن السعيد بعد أن ضاقت بهم أرض بلدهم الخصبة . منذ البدء ، وفي الأيام الاولى .. التي وطأت قدماه أرض اليمن أنخرط في النشاط الفكري والفني والسياسي لينقل للعالم معاناة شعبه وما تعرضوا له من أرهاب وتهميش بسب معتقداتهم السياسية ، فبادر مع رفاقه بتأسيس فرقة غنائية ( سياسية ) ، أطلق عليها في حينها ( فرقة الطريق ) ، ضمت بين صفوفها سامي كمال ، المرحوم كمال السيد ، حميد البصري ، شوقية ، جعفر حسن ، المرحوم فؤاد سالم . تعرضت الفرقة بعد عدة نشاطات وأحياء مهرجانات الى عدم الاتفاق مما أدت تلك الخلافات الى تأسيس فرقة جديدة بأسم الطريق الثانية بين صفوفها سامي كمال ، والمرحوم كمال السيد ، لتميزها عن فرقة الطريق الأولى . وبمرور الأيام باتت أسم يشار لها بالبنان ليس فقط وسط جموع العراقيين الهاربين من بطش الدكاتورية ، وأنما أيضا باتت مدار حديث الشعب اليمني ، وكان اليمنيين حريصين على مواكبة نتاجات الفرقة بما قدمته من أغاني سياسية هادفة في التعبير عن أرادة الشعوب في التوق الى الحرية . وعندما وصل الفنان سامي كمال الى العاصمة عدن ترك وراءه في بلده العراق زوجة وأطفال صغار بين أهاليهم وأقاربهم ، وكلما طالت الايام والذي كان يعتقد كغيره ربما ستمر تلك الايام ( أيام الغربة ) ، كسحابة صيف ستتلاشى بحرارة اللقاء المرتقب بصفقة سياسية بين آمراء القرار السياسيين . كانت ظروف العراق أنذاك مخاضاتها صعبة للغاية في ظل نظام لايتساهل حتى مع همسات معارضيه ، فكانت الاتصالات مقطوعة والرسائل ممنوعة بين معارضيه في الخارج وأهلهم في العراق والذين يتلون صبراً وشوقاً الى حنين اللقاء .

كلما أزدادت مسافات البعد ووطأة الغربة بين الفنان سامي كمال وعائلته في العراق تقربت مسافات الشوق بينهما في البحث عن منفذ للقاء يجمعهم في بقعة من معمورة الاراض الواسعة . السيدة أم اولاده ( أم فريد ) ، عانت الآمرين في العراق من العوز المادي لأم في حضنها أربعة أطفال صغار رغم مساعدة أهلها وأخوانها لها . والآمر الثاني الي هو أكثر خطورة هو خوفها الطبيعي على أولادها من ممارسات وأساليب النظام عليهم بأعتبارهم أولاد فنان ومعارض سياسي . بدأ صدى صوته يخترق تطلعات شعبنا المكتوية بقوة الحديد والنار .

في ظل تلك الأجواء المعقدة والمخيفة قامت زوجة الفنان سامي كمال أم فريد بحمل أولادها الأربعة وعبرت بهم حدود العراق بأتجاه العاصمة السورية دمشق للبحث عن زوجها وجمعه بأولاده الذين يحلمون بأمنية لقائه ، مثلما أرادت أبنته الصغرى حنان ، وفي فراقه لها ، أن تعبر بأمنيات تفوق سنوات عمرها لحزنها على فراق أبيها وتعبيراً عن حزن طفلة حرمت من دفء حضن والدها . وعندما حطت الأم رحالها مع أولادها الاربعة في العاصمة دمشق ، ولم يعثروا على أثر لوالدهم في دمشق أصابهم الحزن ويأس اللقاء .

الرفاق والمعارف في دمشق هما من دلهم الى وجوده في العاصمة اليمنية الجنوبية ( عدن ) ، وكأي أم عراقية شجاعة ووفية راحت تجرر باذيال أولادها في العواصم العربية غبر مهابة من مخاطر الدنيا ومفاجأتها ، فوصلت بهم بعد معاناة  جدية وخطيرة عبر الحدود والمطارات الى العاصمة عدن ، ليجتمعوا تحت سقف مهجور لفندق عتيق . وفي أروقة ومداخل هذا الفندق وتحت العوز الى العيش الرغيد والحنين الى الوطن . بدأت حياة تلك العائلة تلملم شتاتها في العيش والتكيف مع ظروف هذا البلد وإهله الطيبيين تحت ربانها الفنان سامي كمال .   
مشى الزمن سريعاً على حياة تلك العائلة في العاصمة عدن ، أصبحوا جزء من حياة مجتمع وحركته الدؤوبة بين مئات من عوائل الشيوعيين العراقيين ، والذين تركوا وطنهم جبراً من بطش الدكتاتورية . وبعد سنوات وفي ظروف صعبة ألمت بحياة الفنان سامي كمال حزمت العائلة حقائبها باتجاه العاصمة السورية دمشق لتكن محطة أخرى من محطات العائلة تاركه وراءها أصدقاء وذكريات ومدرسة وأثنان من أفراد العائلة فريد و أسمهان . ورغم صغر أعمارهم ، لكنهم تمكنوا من شق طرق لحياتهم الى هدفهم المنشود . لم يتوقف طموح الفنان سامي كمال في المضي قدمأً بمعرفة خفايا وخبايا عالم الموسيقى في الدراسة الأكاديمية ، لقد تمكن من خلال وجوده في جمهورية اليمن وبأحد معاهدها الموسيقية من أن ينال درجة الدبلوم بآلة ( كلارنيت ) ، ليحقق جزء من طموحه الشخصي ، الذي حرم منه في بلده العراق . وفي سنوات وجوده في العاصمة عدن . تعرض الفنان سامي كمال الى وضع صحي طاريء تعذر عن علاجه وتجاوز أزمته في محل أقامته في دولة اليمن الجنوبية ، فأرسل من قبل منظمة الحزب الشيوعي العراقي الى دولة لبنان ( بيروت ) للعلاج أمام تعهد من قبل المنظمة في رعاية عائلته خلال غيابه المؤقت ، وقد عانت العائلة من غياب الأب  . 

 في بيروت المحترقة، بيروت العائمة على النار ، بيروت الحرب، بيروت المرصد ونقطة الانطلاق من جديد نحو الوطن وهنا كان سامي وغيره من الذين غادروا معه وقبله وبعده من المبدعين خاصة استجمعوا قواهم من جديد ليأسسوا لمرحله مؤقتة (في ذلك الوقت) . وبهذا الوجود المؤقت في هذه المحطة من المنفى لم يهدأ له بال الا ان يقول كلمته، وينشد ، ويغني ، ليشارك زملاءه في المسرح والموسيقى ، أنتج وغنى ولحن العديد من الالحان التي تغني للوطن وتنبذ المنفى وتدعو للعودة مشاركاً في المهرجانات الفلسطينية والوطنية اللبنانية حيث كانت اغانيه تنشد الوطن . وظل صوته ينزف باتجاه وطنه رغم ما تعرض له من أحباطات وأمراض ويتلوى على ما أصابه من أحتلال وطائفية وفساد .

محطة دمشق …. ومراحلها .

وصلت عائلة الفنان سامي كمال الى دمشق في العام ١٩٨٢ ، بعد أن سبقهم الفنان سامي كمال للبحث عن مآوى وطن أمن لمشقة ظروف العيش في بلاده ، كان العراق يومها دخل طاحونة الحرب بين الجارة اللدودة إيران وهيمنة دكاتورية الحزب الواحد . دمشق .. كانت الأكثر قرباً الى بلاده العراق ليس بالقرب الجغرافي فقط ، بل كان هناك إمتداد تاريخي وثقافي بين الشعبين العراقي / السوري . كانت على أرض دمشق تنشط عدة أحزاب وتنظيمات وكيانات معارضة لأنظمة بلدانها جمعت العراق ، فلسطين ، البحرين ، وبلدان أخرى . كانت سوريا وهذا موقف يسجل لها أحتضنت كل قوى المعارضة ، لكن للأسف الشديد هناك من تنكر لهذه المواقف عندما سوريا وشعبها تعرضوا الى محنة الحرب والوجود . وجد الفنان سامي كمال نفسه على أرض دمشق بين أوساط العراقيين والفلسطينين في البحث والذود عن وطنهم . فبادر مع مجموعة من الفنانيين العراقيين بتأسيس فرقة فنية ( فرقة بابل ) . وجمعت الفنانيين تحت لوائها وأهدافها وأغانيها السياسية الهادفة . واصل الفنان سامي كمال نشاطه الفني على أرض دمشق دافعه هو حب الوطن والأرض وهن من أساسيات أنتمائه الفكري للحزب الشيوعي العراقي ، وإيمان هذا الحزب بالفن وألتزامه وأهدافه ( تحزب الفن ) .

مشقة العيش الرغيد من خلال البحث عن العمل لتوفير لقمة عيش نظيفة لعائلته ، كانت من أولويات حياة الفنان سامي كمال . قام مع مجموعة من الفنانين في دمشق بتأسيس فرقة بابل ( سامي كمال ، كوكب حمزة ، المرحوم كمال السيد ، حمودي شربه ، المرحوم فلاح صبار ، سالم البهادلي ، فريد سامي ، جنان سامي ، حنان سامي ) . وفي الوقت نفسه كان رئيساً لفرقة ( بيسان ) الفلسطينية التابعة الى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ، والذي طاف بها المدن السورية والمخيمات الفلسطينية بأعذب الألحان وأوسع الاغاني أنتشاراً ( من يغسل الدم في الشوارع .. تقدموا .. لون البحر لونك .. ذاهب كي أرى كيف ماتوا .. أغنية مهداة الى الشهيدة سناء المحديلي .. سلام للخليل سلام للجنوب ) . وكانت تلك الاغاني من ألحان الفنان سامي كمال ، وهي إنعكاس حقيقي للواقع العربي وتداعياته السياسية .
موهبة التلحين عند الفنان سامي كمال زاملته من بداياته الأولى وولوجه عالم الفن الغنائي ، راح باحثاً عن قوة اللحن والتي تليق بأدراكه لمعنى الفن ورسالته التاريخية ودوره في ذائقة الناس وصفهم نحو قضايا شعوبهم .

في العاصمة دمشق وعلى أرضها الواسعة كانت تعج بالنشاطات السياسية والصراعات الإيدلوجية بين قوى سياسية معارضة لأنظمتها مما أنعكست فنياً وأبداعياً على قوى الشارع ، أي على حالة الفن في العراق وأحتضانه ومتابعته من جمهرة واسعة من العراقيين تحديداً نشاطات وحفلات فرقة بابل . وفي ظل أجواء أجتماعية ونشاطات متنوعة غنية بالوفاء والمحبة كان صوت الفنان سامي كمال الحزين ونغمات أوتار عوده يتدفأ بها العراقيين في ليالي دمشق الباردة . مازالت ذاكرة العراقيين تختزن بجمالية أيام سوريا وأجوائها الحميمية رغم مرور تلك السنيين الطوال في الغربة والتشظي .
وبعد سنوات طوال من العيش والاقامة والعلاقات والدفء في العاصمة دمشق . شد الفنان سامي كمال الرحيل مع عائلته الى القطب الشمالي مجبراً لمقتضيات العيش والتي بدأت تصعب في توفيرها السهل . مما دعته تلك المقتضيات في العام ١٩٨٨ الى ترك دمشق وفي نفسه لوعة لمشاريع لم تتحقق بعد على مستويات الفن والابداع ويأسه من الأعيب السياسة وأمراءها المنتحلون .





محطة السويد …. وصقيع أجوائها .

يقول الفنان سامي كمال في اللحظة الأولى التي رست بها الباخرة العملاقة القادمة من ميناء ( سفينوشجه ) البولندي الى ميناء مدينة ( إيستاد ) السويدي ، وخزتني نوبات حزن وفرح ، فرح غبطني بفرح عائلتي في الوصول بسلام الى أرض السويد ( الفردوس ) المفقود لنا وتأمين حالهم .. وحزن لازمني طيلة سنوات أقامتي في مملكة السويد رغم كل المميزات والخدمات التي حصلنا عليها ، لكني كفنان كنت أحمل في نفسي حزمة مشاريع وتطلعات وحب وطن والقتال من آجله ، وفي الوقت الذي حل به الفنان سامي كمال أرض السويد . تدفق أليها جموع من العراقيين الى أرض السويد من عدة بلدان ومن أصقاع الأرض بحثاً عن الآمان والعيش الآمن وضمان مستقبلهم ومستقبل أولادهم ، بعد أن ضاقت بهم سبل العيش وشعورهم باليأس من حلول سياسية قريبة تفرج عن أزمات غربتهم ومعاناتهم والتي طالت لسنوات ولا أفق قريب ينذر بالعودة الى الوطن ( الأم ) العراق . العراق وهو يطوي صفحات الحرب اللدودة مع الجارة إيران ، عندما تجرع السم الخميني في قبوله بأيقاف صفارات أنذاراتها ، والتي كانت أملا لبعض العراقيين في سقوط الدكتاتورية في العراق ، وعندما تلاشى هذا الأمل تدفق العراقيين الى صقيع بلدان القطب الشمالي بحثاً عن مأوى .

في هذه الأجواء الحميمية في وسط العراقيين وعلى أرض السويد ومدنها المزدحة بقدوم العراقيين . أحييت أملاً في روح الفنان سامي كمال في تحقيق جزء من مشاريعه وأهدافها بأحياء الموروث العراقي والتلاقح الثقافي ومد جسوره مع ثقافة السويديين وتطلعاتهم الى ثقافة الشرق الغنية بتنوع تراثها ، فقام بوضع عدة نواتات لتأسيس فرق فنية يحيي من خلالها التراث العراقي ولملمة صفوف العراقيين نحو تراث وتاريخ شعبهم جزء من ترسيخ الذاكرة الجمعية للعراقيين . لكن سرعان ما تلاشت الأحلام والطموحات وكهربت الأجواء بين العراقيين بعبور قوات الرئيس صدام حسين حدود الجارة دولة الكويت وإحتلالها وضمها الى الأصل وأعتبارها المحافظة العراقية التاسعة عشر ، مما تركت تداعيات خطيرة على المشهد السياسي العراقي وإمتداد تأثيره السلبي على لحمة العراقيين في المهجر وبروز الخلافات في وجهات النظر مما حدت من تطلعات الفنان سامي كمال حول رؤيته الجديدة في أنطلاق فرقة فنية تجوب بين وسط العراقيين في أوربا ، وتدفأ أجوائهم الباردة في بلدن الصقيع وتشد أزرهم نحو وطن بعيد .

وما لحق من تبعات هذا المشهد دخول قوات صدام حسين الى الكويت من موقف دولي في التحشيد بطرد قواته من الكويت وتحطيم العراق بنيات مبيته له سابقاً بالنيل من شموخه التاريخي لحصار قاهر أستمر لسنوات عجاف بلا مسوغ قانوني ولا رادع أنساني ، تلك التطورات لم يكن عنها بعيداً الفنان سامي كمال بل عاش في صلبها وتفاصيل يومياتها التدميرية تجاه وطنه في البحث عن منافذ لصد الكره عن ما سيصيب وطنه وأهله ، كانت معاناته تتعاظم يومياً في البحث عن الحلول وتقديم شيء لشعبه . تداخلت تلك الأحداث بأنهيار حلمه بالتجربة الأشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الأشتراكية ، فأنعكست فشل تلك التجربة بعد سبعين عامأ على الأحزاب الشيوعية في بلدان الشرق الاوسط والعالم وحركات التحرر وقوى اليسار ، ولم يكن الفنان سامي كمال بمعزل عن تلك الانهيارات لألتصاقه الوثيق بروحية وفكر تلك التجربة الشيوعية . وقد احس بالغدر في آماله وتطلعاته ، وكأنه بناء من الكارتون تهاوى على حين فجأة . هذا الأحساس سيبقى منغصاً له ولي ولكل رفاق الطريق . خمسون عاماً .. طيلة تعلقه بالفكر والإيمان بالاشتراكية تذهب هباء ؟. كانا لينين وستالين وبوخارين هما رموز تلك التجربة في الاتحاد السوفيتي . وستالين هو الأكثر تمسكاً بكرسي السلطة وقمع معارضيه وقتلهم ، أنتهى به المطاف أن يغتال من أقرب الناس له ومشاركه في كل الجرائم بحق رفاقهم هو ( بيريا ) مسؤول جهازه المخابراتي الخاص .

الفنان سامي كمال في محطته الأخيرة وأستقراره في مملكة السويد في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ومع حصول عائلته على تحقيق نجاحات على مستويات العمل والأستقرار الأجتماعي ، لكنه لم يهدأ باله بأتجاه أحوال العراق وما يبيت له من مكائد مصيرية مما بدت تنهش بجسده القوي ، الذي بدأ يضعف أمام الحنين الى الماضي وتألمه على تجارب الحلم التاريخية في الذود عن وطن آمن تسوده العدالة والمساواة .
وفي عجلة الحياة والزمن وصخبهما . كان مصراً على تقديم نتاجات من خلال محاولاته المستمرة والجادة بتكوين صرح فني ( غنائي ) لاحياء تجارب الماضي وصورة الفن الملتزم في الأغنية الهادفة الى بناء الانسان وجمالية الذوق الراقي في الإحساس والتطلع ، لكن كل تلك المحاولات لم ترتقي الى طموحه وحبه للفن والإصالة ، وفي صور هذا التوثب الى تحقيق الانجازات داهمته أزمة صحية ، كادت أن تعصف بحياته ، لكن تشبثه بالحياة وحبه لفنه عبر بهما الى طريق العيش والأمان ، تلك الجلطة الدماغية المفاجئة والتي أفقدته أعز ما يملك من مكنونات داخلية في النطق  والصوت والعزف على أوتار عوده ، مما عطلت مشاريعه بالكامل الثقافية والفنية.

وبعدها بسنوات معدودة لم تفك المصائب عنه فتعرض الى عملية ( القلب المفتوح ) على أسرة مستشفيات السويد ، مما سببت له أنتكاسة على المستوى الصحي والنفسي رغم معنوياته العالية في الحياة والعيش وتشبثه بهما . ظل متواصلاً مع متطلبات العصر ومحاولاً جاداً كفنان يتنفس هواء الناس النقي في تحقيق أحلامهم والتي هي جزء من تحقيق أحلامه ومن خلال أدواته الرئيسية في الموسيقى والحن والغناء في التعبير على مكنوناته الداخلية تجاه إيمانه المطلق بقدرة الانسان على الابداع والتواصل وتحقيق الأماني .

واصل الفنان سامي كمال طريقه الى التطلعات رغم الأوجاع التي أعترت طريقه في العبور الى الضفة الثانية من عراق معافى بسواعد أبنائه من بناة ميامين في حب الوطن والنزاهة . كان يحلم وملايين من أمثاله العراقيين بعراق آخر بعد رحيل الدكتاتورية عن أرض العراق ، لكن سرعان ما تلاشت تلك الاحلام والأمنيات وسنوات النضال ، لقد أعتلى دفة الحكم مجموعة من اللصوص وعديمي الضمير وبائعي الوطن في تدمير نسيجه الأجتماعي والثقافي على يد الميليشيات والطوائف المتخلفة في توطيد مفاهيم الطائفية والفئوية والحزبية بدلاً من الوطنية والمواطنة .

محنة الفنان سامي كمال ، كان يتلوى وجعاً على ما وصلت آليه الاحداث الى عراق مغيب ومجهول الهوية ومسلوبة الارادة ، وكان يعبر دائماً عن حزنه ولوعته في البحث عن وطنه ، الذي أفنى طيلة عمره من آجله مضحياً بالغالي والنفيس وبصحته وبمستقبل عائلته . ولقد رأيته وأنا القريب منه وعلى الرغم من أوجاعه بارقات الأمل على وجههه في مواكبة تطورات الاحداث وما سطره شبابنا في ساحات العراق الغاضبة في ثورتهم التشرينية في إعادة وطنا لنا ، وما سطروه من ملاحم بطولية فاجأت الاصدقاء قبل الاعداء ، وكان الفنان سامي كمال بكل جوارحه في قلب الحدث معتزاً بعراق جديد يعم به الأمل والمستقبل ، وهذا ما كان يصبو له طيلة حياته ومن خلال مواقفه النضالية والوطنية وتضحياته الجسام .

وفي معرض قراءاته للاحداث . يعلق الفنان سامي كمال وهو على عتبة الثمانيين من العمر وبحزن تنهمر الدموع من العيون . أريد وطن يعيش به أبناء شعبي وأولادي وأحفادي بحب وسلام بعيداً عن الجهل والطائفية ، وعلى أقل تقدير أشعر بالرضا على تضحيات تلك السنوات .

ساسة العراق الجدد بعد العام ٢٠٠٣ ، والذين جاؤوا مع الدبابات الامريكية في إحتلال أرض العراق الوطنية ، وأعتلوا دفة الحكم ونهشوا به وبمعالمه ومؤسساته الحضارية ، كانت أولى أولياتهم تحطيم الثقافة الوطنية العراقية وتاريخها العريق وتهميش رموزها من فنانيين ومثقفين ووطنيين ، كان من بينهم الفنان سامي كمال وصحبه والأستعاضة عنهم بأشباه من المثقفين والطائفيين ومحدودي الأفق والحاقدين على العراق وأهله .

محمد السعدي
مالمو/ كانون الأول ٢٠١٩


 


   

85
نجاح الشمري : في متناول الصحافة السويدية .
اليوم .. نشر موقع ألكتروني سويدي  / samhällsnytt / . حول وزير الدفاع العراقي الحالي نجاح الشمري . الذي كان يعيش في العاصمة السويدية ( إستوكهولم ) ، والذي مازال عنوانه قائم على باب شقته في العاصمة السويدية حسب دائرة الضرائب السويدية . وهو يحمل الجنسية السويدية ، وضمن السجلات السويدية الرسمية لم يملك أي دخل في مملكة السويد .
متهم بجريمة / كان يدعي في السويد أنه مريض وغير قادر على العمل ، ولم يدخل سوق العمل في السويد . في العام ٢٠٠٩ وصل الى السويد . وألتحقت به عائلته من العراق عام ٢٠١٢ .
في العام ٢٠١٥ حصل على الجنسية السويدية ، وبعد حصوله عليها ، دخل المدرسة السويدية لتعلم اللغة وبعد عدة سنوات من الدراسة ، ولم يعد قادراً على التحدث بها .

في العام ٢٠١٤ حصل على الاجازة المرضية بسبب ضعف الذاكرة وهو إدعاء كاذب . وفي العام ٢٠١٣ قدم لأكثر من مرة للحصول على المساعدة الأجتماعية ( سوسيال ) ولم يحصل على الموافقة . وفي نفس العام سافر مع العائلة مرتين الى العراق .
في العام ٢٠١٤ دفع مبلغ لاجراء عملية تجميل عيون لأحد أبنائه . في العام ٢٠١٥ قامت الجهات السويدية ( صندوق الضمان الاجتماعي ) دعوة جريمة التحايل والنصب ضده ، ولكن القضية توقفت لأسباب مجهولة . وبعدها بعام أدين بجريمة أكبر وقبل يوم من المحاكمة توقفت أيضاً ؟. وكان يومها محجوز في السجن الانفرادي على ذمة التحقيق وأفرج عنه قبل يوم من المحاكمة . وأثناء وصوله الى السويد وخلال أستجوابه أدعى أنه كان ضابط في الجيش العراقي برتبة ( جنرال ) في الجيش . وأدعى خلال التحقيق ، أنه كان في هيئة مكافحة الارهاب في العراق . وفي محاولة للمخابرات السويدية ( سيبو ) في الاتصال بأحد أقربائه حول وضعه ومن خلال الهاتف ، الأ أنه لم يتجاوب معهم وقد أغلق سماعة الهاتف بوجههم .
المخابرات السويدية لاترغب في الكشف عن المزيد حول وضعه ، وقد حيلت أوراقه وملفه الشخصي الى دائرة الضرائب السويدية . ومن خلال موقعه في العراق وزيراً للدفاع يسعى للتقارب بين شيعة العراق والجمهورية الإسلامية الإيرانية . والعراقيون يحملوه جريمة قتل ٣٠٠ عراقي متظاهر في شوارع وساحات العراق ويطالبون بمحاكمته . وفي الصيف الفائت ألتقى برفقة وزير الداخلية العراقي ومدير المخابرات برئيس وزراء تركيا أردوغان .
وفي مقابلة له مع أحدى الصحف العراقية أدعى أنه لايحمل الجنسية السويدية .

محمد السعدي
مالمو / نوفمبر ٢٠١٩ .   

86
سلام عادل .. صورة غير نمطية للقيادة الشيوعية

محمد السعدي
 
{ مدير مركز بيدر للثقافة والإعلام
يعتبر كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان  الموسوم " سلام عادل الدال والمدلول وما يمكث وما يزول" وثيقة مهمة وتاريخية ومرجعية للحركة الشيوعية ومادة حيوية  للبحث والدراسة، وقد نال اهتماماً كبيراً ومساحة واسعة من النقد والتعليق وفتح حواراً فعالاً وحيوياً حوله، خصوصاً إزاء إشكالات تاريخية، بل وحتى راهنة.  وانعقدت حوله ندوات وحلقات نقاشية، فضلاً عن تغطية يستحقها في الصحف والمواقع الأليكترونية، سواءً في العراق أو في خارجه، وسيبقى لحين آخر مثار نقاش وجدال، ولاسيّما الوثيقتين التاريخيتين اللتان أوردهما: الأولى الخاصة بالكونفرنس الثاني للحزب 1956 والثانية حول ردود سلام عادل على ضيق الأفق القومي الذي أصاب عدداً من القيادات الشيوعية الكردية، وهو ما يستحق التوقف عنده، وخصوصاً تأثيراته اللاحقة (1957).
توقيع كتاب
وكتبتُ مقالةً نُشرت بعدّة مواقع عراقية وعربية بعد قراءتي لسرديته عن سلام عادل في صحيفة الزمان التي نُشرت على حلقات، وحين صدر الكتاب وقامت مؤسسة بيدر في مالمو باستضافة الباحث للتوقيع على الكتاب في ندوة مهمة، عدتُ إليه مجدداً، خصوصاً بعد الملاحظات المهمة التي أبداها الكاتب حول مقالتي السابقة، وها أنا أفعل ذلك للتدقيق وحرصاً مني على الحقيقة وتأكيداً لها، لأن أعداء سلام عادل حاولوا  الإساءة  إليه بأشكال مختلفة منهم ما نشره ( محمد أبو عزة ) الكاتب والروائي الفلسطيني وسكرتير تحرير مجلة (دنيا العرب) ، والذي كان ضمن جحافل قوات الحرس القومي وذلك بعد انقلاب 8 شباط 1963 حيث روى قصة اعتقال سلام عادل في الأمن العام وكيف بصق بوجه أحد القياديين البعثيين، وهي رواية دحضها الباحث شعبان ، وشكّك ما ورد فيها وفي صحتها، واقتضت الأمانة قول ذلك وتأكيده.  كما خطّأ كتاب شعبان ما ذهب إليه آرا خاجادور حول إطلاق علي صالح السعدي رصاصة الرحمة على سلام عادل وذلك من خلال الوقائع التاريخية التي أوردها بما فيها كون السعدي كان على رأس وفد كان في القاهرة والجزائر وتاريخ عودته كان بعد استشهاد سلام عادل (بالرجوع إلى كتاب أمين هويدي). وفي الوقت نفسه فنّد رواية هاني الفكيكي حول الحوار بين الضحية والجلاد وإبداء استعداد سلام عادل لإصدار بيان مشترك مع قيادة البعث إذا ما تم إطلاق سراح المعتقلين ووقف التعذيب، وهي رواية مدسوسة وخبيثة ومشوّهة، وكان الباحث قد أوضح حقيقة ما جرى ورباطة جأش سلام عادل ومبدأيته حين طالب الانقلابيين بالكف عن ذلك وإعلان عدائهم للامبريالية، وكان ذلك تحدياً كبيراً في المواجهة البطولية بين سلام عادل وحازم جواد الذي كان قد ترأس التحقيق معه. وقد أورد المفكر شعبان فقرات عديدة من أقوال جواد التي يعترف بها بتعذيب المعتقلين بحجة أن الاتحاد السوفييتي يعذّب أعداءه.. تميّزت قيادة سلام عادل بمواصفات فريدة في حينها، لاسيّما عملها الجاد والمسؤول لاستعادة وحدة الشيوعيين وإنهاء الانقسامات والاعتراف بالأخطاء والثغرات والسعي لمعالجتها بروح الحرص والأفق المنفتح بعيداً عن التعصّب. فبعد أن تسلم سلام عادل قيادة الحزب في حزيران  العام 1955 وذلك بعد عزل حميد عثمان وهروبه إلى كردستان وانضمامه إلى الحزب  الديمقراطي الكردستاني، أخذ الشهيد سلام عادل على عاتقه مهمة صعبة وخطيرة، حيث قام بجمع وتوحيد ولم شمل رفاق الحزب وتوحيد تنظيماته بعد تعرّضها إلى تصدعات كبيرة لسنوات مضت بسبب الصراعات الداخلية وملاحقات الشرطة السرية لتنظيمات الحزب وكشف الأسرار بين الأطراف المتصارعة.   ويذكر هنا العديد من الشيوعيين وفي مقدمتهم باقر ابراهيم وحسين سلطان قول سلام عادل إن (فصل أي رفيق من الحزب بمثابة قلع شعرة من عيوني ) ،وعلى هذا الأساس تحرك وعمل من أجل وحدة الشيوعيين على مبادئ الحوار الفكري والرأي المختلف والحرص المتبادل انطلاقاً من قناعاته الثابتة بأهمية دور الحزب الوطني والعربي، وهو النهج الذي حظي بتأييد شامل من الشيوعيين، خصوصاً المرونة التي أبداها مع المبدأية والصبر وطول النفس لتحقيق الهدف. لقد كان هذا التوجه التوحيدي من أهم المفاصل الحزبية والمنعطفات التاريخية التي واجهتها قيادة سلام عادل فما كان يمكن تحقيق المنجزات وصولاً لثورة تموز دون تصفية التكتلات والانشقاقات والمجموعات المتباعدة والمتصارعة، وبروح مبدأية متسامحة فقررت العمل من أجل الوحدة مهما كان الثمن، وهو ما يذكره الدكتور شعبان فبالرغم من التقاطعات الفكرية  سعى للتواصل مع (راية الشغيلة) ،والتي كان من قادتها  عزيز محمد السكرتير السابق للحزب ،والشهداء جمال الحيدري ونافع يونس، على الرغم من أن جريدة القاعدة التي يصدرها الحزب وصفتها في حينها بأنها زمرة بلاطية ( نسبة إلى البلاط الملكي ) ،وإنها انحطت في المستنقع والقاذورات اليمينية ،متهمة إياها بالانتهازية، ويقول شعبان إن مثل هذه الاتهامات غالباً ما تصدر في المنعطفات التي تشهد انقسامات وصراعات داخل الحزب ،لكنه سرعان ما يطويها الزمن بفعل بعض التسويات والاتفاقات والانعطافات .
حل المنظمة
أما ’’ منظمة وحدة الشيوعيين ” فكانت برئاسة عزيز شريف وعبد الرحيم شريف وقد أسهم عامر عبدالله بحكم صلته الوطيدة بهما في إقناعهما بحل المنظمة والالتحاق بالحزب مجدداً وذلك في إطار المنهج الذي اتبعه سلام عادل، كما انضمت كتلة داود الصائغ (رابطة الشيوعيين) لاحقاً إلى صفوف الحزب وتنظيماته. ويمكنني الإشادة بدينامكية وقدرة سلام عادل في استيعاب الصراعات الحزبية والآراء المختلفة واحتوائها لمصلحة الحزب والوطن ، وعلى الرغم من أن الصراعات الداخلية بعد الثورة أنهكت سلام عادل،  دون أن ننسى الصراعات مع الحكم وأطرافه والقوى السياسية الأخرى إلا أنه حاول احتواء كتلة المبدأ وداود الصائغ بعد أن حصل الأخير على إجازة باسم الحزب الشيوعي العراقي في حين رفض عبد الكريم قاسم منح الحزب مثل هذه الإجازة حتى بعد تبديل اسمه إلى " حزب اتحاد الشعب"، وكان سلام عادل قد أرسل عدداً من الصحافيين والكتاب للعمل كمحررين في جريدة المبدأ والسعي لتغيير اتجاهها بما يتوافق مع نهج الحزب ومواقفه.
ويتابع د. شعبان بدقة كبيرة تفاصيل تنشر بعضها لأول مرّة عن استشهاد سلام عادل بعد تعذيبه في قصر النهاية، وهو لا  تفي بما هو مكتوب ومنشور، بل يذهب أحياناً إلى الجلادين أنفسهم ليستفسر عن هذا الموقف أو ذاك، مثلما يواصل الحديث مع بعض الضحايا وشهود العيان، ليبرز حقيقة شجاعة سلام عادل، بل يجبر حتى من قام بالارتكاب للاعتراف بذلك، في إطار عمل مضني ومجتهد. ويتابع ذلك ابتداءً من إصدار بيان المقاومة ضد انقلاب 8 شباط ولغاية اعتقاله ونقله إلى مركز المأمون ومنه إلى قصر النهاية، (19 شباط وحتى استشهاده مساء 23 شباط 1963).وامتازت قيادة سلام عادل ، ولاسيّما قبل الثورة بالمبادرات فمن توحيد الحزب إلى قيادة الشارع في انتفاضة العام 1956 تضامناً مع الشقيقة مصر ضد العدوان إلى توحيد الحركة الوطنية بقيام " جبهة الاتحاد الوطني" في عام 1957 ومنها إلى العمل مع الضباط الأحرار تمهيداً للثورة، كما انتهجت سياسة عربية متميزة تم التعبير عنها في الوثيقتين التاريخيتين، وكذلك منهجاً أممياً في حل القضية الكردية عبر حق تقرير المصير والاستقلال الذاتي، وفي الوقت نفسه نقد للاتجاهات التصفوية البرجوازية الذيلية التي ظهرت لدى فريق من الشيوعيين الأكراد، وهو نقد استشرافي جريء ومبدئي، وليس كما تم اتباعه لاحقاً مع مجاملات وتنازلات للتيار القومي السائد، والذي ألحق ضرراً بالحزب وهوّيته، خصوصاً بانقسام الشيوعيين على أساس قومي. ويفرد الكاتب صفحات من كتابه الذي يستحق القراءة ليبرز مواقف مهمة في حياة سلام عادل من سلطة قاسم الدكتاتورية والقضية الكردية والتباين عن رؤية السوفييت، إضافة إلى الصراع الداخلي في هرم قيادة الحزب والتدهور السريع في ضياع منجزات الثورة ونتائجها . وقد تحدّث المؤلف عن ذلك بانسيابية وحيوية على منصة مؤسسة بيدر في مدينة مالمو/ السويدية. وعلى الرغم من الأخطاء والالتباسات كما يقول شعبان في قضايا عديدة ومنها أعمال العنف في الموصل وكركوك، وكذلك الموقف من سلطة قاسم والتذبذب والتردّد، إلّا أن قيادة سلام عادل ختمت حياتها بالاستشهاد البطولي، حيث استشهد تحت التعذيب نحو 25 قائداً شيوعياً، في مقدمتهم سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلّي ومحـــــــمد حسين أبو العيس ونــــــــافع يونس وحمزة سلمان الجبوري ومهدي حميد وعبد الرحيم شريف وحسن عوينة وعبد الجبار وهـــــــبي وتوفيق منير، إضافة إلى عدد من العـــــــسكريين القياديين بينهم ماجد محمد أمين وفاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر وطه الشيخ أحمـــــــد وجلال الأوقاتي وخزعل السعدي وآخرين.
- كتاب سلام عادل - الدال والمدلول، صدر عن دار ميزوبوتاميا، بغداد ، 2019 ويحتوي على 323 صفحة من الجم المتوسط.
 

87
وداعاً شوقي الماجري .
قد يتسأل البعض لماذا هذا العنان في الكتابة عن مخرج تونسي  ؟.

 وأنا لم ألتقيه يوماً ولاحتى حدثته ، لكني كنت من متابعيه أعماله سبق وأن كتبت عن مسلسله ( هدوء نسبي ) عمل عربي مشترك عراقي ،  سوري ، مصري  العام ٢٠٠٩،  نقل به حالة العراق وماتعرض الى أحداث دراماتيكية منذ لحظات غزوه الى ساعات أحتلاله . وكانت في نيتي أن أدعوه كعضو شرف في مهرجان بيدر الاول الذي أقييم في مدينة مالمو السويدية في شهر أيلول ٢٠١٩ ، لكن أحياناً تتعذر الاسباب . تعرفت على المخرج العربي ( التونسي ) والعالمي شوقي الماجري من خلال أعماله التي أخرجها طيلة مسيرته الفنية والاخراجية والتي مست تاريخنا العربي برؤية نقدية مستقبلية تلامس أرض الواقع الحالية . فهو مخرج دراما وسينما بأمتياز ومن خلال أعماله التي قدمها وأغنى بها ساحات الدراما العربية متنقلا بين حدث تاريخي وواقع مزري حالي ، يربط بين التاريخ والحاضر وأستشراقات المستقبل ، يحمل هماً عربياً بما تعرض له العرب من هزائم طويلة وأرتداد وضياع فلسطين .

من أهم أعماله مسلسل ( الإجتياح ) ، الذي يتناول به القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين تحت سلطات الاحتلال مما حصل على جوائز عالمية . ورغم شهرته في العالم العربي من خلال قيمة أعماله الفنية والتاريخية كمخرج ، لكنه كان قليل الظهور الاعلامي ، ولهذا ربما كانت شهرته محدودة الا في أوساط المتابعين والمعنيين ببلاوي قضايانا  . ومن أهم أفلامه ( مملكة النمل ) ، الذي يتناول به الشأن الفلسطيني برؤية وطنية وأزمتها المستعصية والوضع العربي المعقد والبائس ، ويعد الفيلم الوحيد في سجله السينمائي والذي أخرجه بأدواته الابداعية المميزة ، الذي جمع فيه بين الخيال والإبداع والواقع المرير لتصوير معاناة الشعب الفلسطيني وحياتهم تحت الأرض ويحاكي قصة ثلاثة أجيال من الفلسطينيين المقاومين ، وتعاقبت أعماله على الشاشة العربية برؤية وأخراج وحكاية مميزة وربما أوساط عريضة من الجمهور العربي بتابعون أعماله ، لكنهم لايفطنون أن ورائها مخرج كبير بمستوى شوقي الماجري . ومن أهم أعماله مسلسل ( إسمهان ) ، ومسلسل ( أبناء الرشيد ) ، ومسلسل ( نابليون والمحروسة ) ، ومسلسل ( هدوء نسبي ) ، من تأليف الروائي السوري خالد خليفة ومن أنتاج قناة البغدادية ، وكان المسلسل من حصة العراق وماتعرض له من أنتهاكات وخروقات قانونية جراء أحتلاله العام ٢٠٠٣ . ومسلسل ( عمر الخيام ) ، ومسلسل ( أبو جعفر المنصور ) ، ومسلسل  ( الارواح المهاجرة ) عن رواية الكاتبة إيزابيل أيندي بيت الارواح ، ومسلسل  ( سقوط حر ) ، وختمها في رمضان الفائت بمسلسل ( دقيقة صمت ) ، والذي مازال محط أنظار متابعي الشاشة الصغيرة ورؤية النقاد . 

ترجل مبكراً عن صهوته الابداعية أثر تعرضه الى ذبحة قلبية في بيته بالقاهرة لم تمهله وقتاً ، لقد فارق الحياة بباب أحدى مستشفيات القاهرة ، وكان متواجد في القاهرة لمتابعة عمله الجديد لموسم قادم . رحل عن عمر يناهز ٥٨ عاماً ، يوم الخميس المصادف ١٠ أكتوبر  . وأرتدت منصات مواقع التواصل الاجتماعي ثوب الحداد عليه ، وكانت طليقته الفنانة صبا مبارك أول من نشر الخبر على صفحتها موشحة بالسواد مودعه أب أبنها عمار .
ولد في شهر نوفمبر العام ١٩٦١ في أحد الاحياء الفقيرة للعاصمة تونس ، وكان تسلسله التاسع بين أخوانه لاب فقير يعمل نجاراً ، ودرس في البداية في تونس علم الاجتماع لكنه لم يستهويه ويلبي رغباته مما ألتجأ الى عالم الفن بدراية وعمق وواصل مسيرته للانتقال في أرقى جامعات دولة بولندا للحصول على درجة الماجستير في الاخراج من نفس الجامعة التي تخرج منها المخرج العالمي رومان بولانسكي .
بعد يوم من رحيله في العاصمة المصرية ، نقل جثمانه الى العاصمة التونسية في أستقبال مهيب رسمي وشعبي يتقدمهم وزير الثقافة ومحبيه من فنانيين وأعلاميين وصحبة عمر وأهله .
وقد عاش في السنوات الاخيرة من عمره متنقلاً بين العواصم العربية عمان ، دمشق ، القاهرة ، لمتابعة نتاج أعماله ولرصد حالات المجتمع العربي لاعمال درامية جديدة .
في يوم ١٢ أكتوبر تم تشييع جثمان المبدع التونسي الراحل الى مثواه الأخير بمقبرة الجلاز في العاصمة التونسية وبحضور عدد من الفنانين التونسيين والعرب ووزير الثقافة محمد زين العابدين . وقد عرف عن المخرج التونسي بشجاعته في تناول قضايا تاريخية معقدة وحولها خلاف مزمن وطرحها بجرأة على الشاشة العربية .
محمد السعدي
مالمو / أكتوبر ٢٠١٩

88
جائزة نوار للابداع .
نوار ، هو الأبن الوحيد للبريفسور ضياء نافع عميد قسم اللغات في جامعة بغداد / كلية الاداب . وبعد أن فارق الحياة وهو في عز شبابه وثر عطائه في جمهورية الجبل الاسود ( مونتينغرو ) ودفن في ترابها وبات ضريحه مزاراً سنوياً لوالديه . في السنوات الاخيرة  أقام والده الأستاذ ضياء نافع بمنح جائزة تقديرية ( نقدية ) أعتزازاً بأبنه الراحل نوار للمبدعين والباحثين والمتطلعين الى تاريخ العلاقات الروسية العراقية وتعزيزها في كافة المجالات بما يخدم مصلحة البلدين في التطور والابداع . إعطت في السنة الاولى من قيامها الى السيد ( ميخائيل بوغدانوف ) مبعوث الرئيس الروسي الى الشرق الاوسط ودول أفريقيا لتعزيز أسس السلام والحوار بين الشعوب ، وصادف ذلك اليوم مرور أربعة وسبعون عاماً على تاريخ العلاقات الروسية العراقية وبتغطية إعلامية وحضور فعال من لدن المعنيين والمتابعين .   

يحتفل العراق وروسيا في هذا العام ( 2019) بالذكرى الخامسة والسبعين لاقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما , وانطلاقاً من هذه الذكرى اليوبيلية وتحية لها . 



فقد قررت لجنة تحديد الفائزين بجائزة نوّار لتعزيز الحوار العراقي – الروسي لعام 2019 اليوبيلي هذا منح جائزتين اثنتين بدلاً من جائزة واحدة كما كان الأمر في العام الماضي عند تأسيس هذه الجائزة , واحدة للعراق وأخرى لروسيا , أي أن العراق وروسيا فازا معاً لهذا العام ( في الذكرى الخامسة والسبعين لاقامة العلاقات بينهما ) بجائزة نوّار لتعزيز الحوار العراقي – الروسي , وذلك لأنهما باتخاذهما القرار باقامة علاقات دبلوماسية بينهما يعني أنهما يسعيان معاً لإقامة حوار دائم بين الجانبين , وهذا القرار ( الذي تم اتخاذه العام 1944 ) بحد ذاته يجسّد خطوة مهمة جداً في انطلاقة مسيرة هذا الحوار وتعزيزه لاحقاً .
يستلم جائزة نوّار لتعزيز الحوار العراقي – الروسي في دورته الثانية للعام 2019 باسم العراق سفير جمهورية العراق في روسيا السيد حيدر منصور هادي العذاري باعتباره رئيس هيئة تمثيل العراق في روسيا , ويستلم الجائزة باسم روسيا سفير روسيا الاتحادية في العراق السيد مكسيم كنستونتينوفتش مكسيموف باعتباره رئيس هيئة تمثيل روسيا في العراق . هذا وستجري مراسم تسليم الجائزتين في الحفل الكبير , الذي تقيمه بموسكو سفارة جمهورية العراق في روسيا الاتحادية ( لمناسبة الذكرى 75 للعلاقات بينهما ) مساء التاسع من أيلول / سبتمبر 2019 , وهو اليوم الذي وقّع فيه الجانبان إقامة علاقات دبلوماسية بينهما في عام 1944 , أي قبل 75 سنة .

في العام ١٩٨٠ ، كان لي اللقاء الأول بالاستاذ ضياء نافع على مقاعد كلية الاداب / جامعة بغداد ، ومن  هنا أمتدت علاقة عمر ليست بين أستاذ وتلميذ ، بل تعدت أبعد من ذلك بجوانبها الانسانية والابداعية ، حيث بدأت أنظر له فسحة مجال أمامي للابداع والتواضع متأثراً ومتفاعلاً بنتاجاته الادبية في حقول الادب الروسي الثر . بعد ثلاثة أعوام من تلك العلاقة داخل الحرم الجامعي أجبرتني ظروفي والوضع السياسي آنذاك أن أترك مقاعد الدراسة وآلتحق مع الثوار في الجبل ، لكن صورته وتواضعه الجم بقيت أمامي ماثلة مما رسمت جزء مهم في أختياراتي في القراءة والبحث في الادب الروسي ، وبعد ثلاثة عقود من المهجر واليأس والغربة ومن خلال صفحات التواصل الاجتماعي وقعت عيناي على صورته وجدته مازال مبتسماً وحيوياً ، فراسلته بكلمات مختصرة تجنباً مني ربما الظروف تركت أثرها على الذاكرة ، فكان رده سريعاً / أهلاً عزيزي محمد ، لقد قرأت كتابك ( سجين الشعبة الخامسة ) ، مما زادني حباً وأعتزازاً به ، وما زلنا الى اليوم متواصلين بشد العزم على تعزيز الجوانب الثقافية والفكرية على ربوع العراق بعد أن أنهكته الظروف الصعبة المحيطه به . أبتهل الى الرب أن يطيل بعمره ذخراً لعراق معافى ومشرق .

تخليداً لروح أبنه نوار ، وبات تقليداً سنوياً ، أن تمنح عدة جوائز بأسمه واحدة للحوار والثانية للمترجمين العراقيين عن اللغة الروسية ، وهناك نية أن تكون ثالثة للموسيقى والباليه بما يمت لها نوار من صلة بأعتباره أحد خريجيها ، والتي كان الفنان الكبير المرحوم ( عزيز علي ) مديرها .
المرحوم نوار خريج الجامعة المستنصرية / كلية الطب وأنهى أختصاصه في روسيا بطب العيون ، وأصبح طبيب عيون قبل رحيله في جمهورية الجبل الأسود ، وهو من أم روسية وأب عراقي ، حدثني أحد المقربين لتلك العائلة النبيلة حول أعتزاز أم نوار الروسية بالعراق وأهله والحنيين الى بغداد .
منحت جائزة نوار للمترجمين العراقيين عن الروسية الى د. تحسين رزاق عزيز / بما قدمة من نوع هائل في مجال البحث والترجمة حول أدبيات ولسانيات الأدب الروسي رغم ظروفه الصعبة ، لكنه تحداه ببحوثه وترجماته المستمرة ، فهو حقاً بها وحسن الأختيار من قبل الاستاذ ضياء والمحيطين به .
الدكتور تحسين رزاق عزيز / أبن مدينة النجف جمعتني به عدة سنوات مقاعد الدراسة والأقسام الداخلية ، كنا في مرحلة دراسية واحدة في الأداب / جامعة بغداد . اليوم على تواصل معه ، رغم القطيعة الكبيرة التي وقعت بسبب ظروف العراق وظروفنا لزمن طويل ، لكن يبقى ذلك الزمن الجميل عالقاً بيننا كالنهر الجاري في سقي ذكرياتنا . فهنيئاً لك على تلك الجائزة الكبيرة ( جائزة نوار ) ، وفخراً أن تمنح لك من أستاذنا ومعلمنا البريفسور ضياء نافع حسن . وفي حديث معه حول شعوره بتقليده وسام ( جائزة نوار ) ، كتب لي ( الدكتور ضياء هو معلمي الذي صنع مني مترجماً ، وعندما يكون التقييم على يديه تكون الفرحة أكبر ) .

محممد السعدي
مالمو / أيلول ٢٠١٩ .

 


89
مهرجان بيدر الأول .
يقام في مدينة مالمو / السويدية مهرجاناً ثقافياً برعاية مؤسسة بيدر للاعلام في دورته الأولى ( دورة الفنان سامي قفطان ) ، بمسرحيته ( صورة وصوت ) من إخراجه وتمثيله أضافة الى الفنانتيين سومة سامي وهبة نبيل . وسيشهدا مسرح مالمو وقاعة مؤسسة بيدر ولمدة أربعة أيام ، أيام المهرجان في لقاءات يومية مع أبناء الجالية العربية والعراقية ومن متابعين للثقافة العربية والنشاطات المدنية  نشاطات ثقافية وفنية ومعرفية وتشكيلية .

90
رد’ على رد .. صورة لبيد عباوي .
أثار الصحفي شمال عادل سليم في دردشته السريعة على هامش أحدى الفعاليات الانصارية في محافظة أربيل مع أحد الكوادر الحزبية الشيوعية السابقة  ، والذي تنكر لانتمائه ( الشيوعي ) بعد أحتلال العراق وبعد أن ساهم في تهيئة الحزب بأتجاه المشاركة في العملية السياسية والتي نصبها الحاكم الامريكي ( بول بريمر ) . وقد كان أحد مسؤولي قاطع ( بهدينان ) في فترة الانفال الحرجة الاخيرة العام ١٩٨٨ . لبيد عباوي في دردشته مع شمال عادل سليم حول تسليم عوائل المقاتلين الشيوعيين الى السلطات الحكومية حاول أن يحصرها بالمسؤولية الجماعية ليتهرب من دوافع موقفه والمسؤولية تجاه رفاقه ، هذا الموقف الغير مسؤول من لبيد عباوي دفع أبناء العوائل المغدورة في متابعة تطورات تفاصيل عن ماحدث في جزئين نشرا في ( الحوار المتمدن  ، وبيدر ميديا ) للرفيق والصديق كفاح كنجي .

في السنوات الاخيرة شددت العزم أن لا أكتب عن حدث أو أتناول موضوعاً الأ أن أكون قريباً منه ولو عن جزء بسيط من تفاصيله ، رأيته في المرة الأولى بعد أحداث المؤتمر الرابع لحزب الشيوعيين العراقيين في مقر زيوه الفصيل المستقل في نهائيات العام ١٩٨٥ ، في اللحظة الأولى وهو واقف مع حميد مجيد موسى في جوف الوادي متباهياً متعجرفاً من خلال هندامه وتصرفه النزق ذكرني ببعض أبطال الادب الروسي المنبوذين والمتعجرفين والبائسين والخائنيين ، فانتظرت من الايام القادمة ربما سأكون مخطئاً في تقييمه من النظرة الاولى ، لكن لم أحس بأي أطمئنان حول شخصه ، حيث لايمت بأخلاق الشيوعيين ومآثرهم بمعلم يذكر .
وقد وصفه النصير كريم كطافه في روايته ( حصار العنكبوت ) ، حول الانفال الأخير ( بقالب الزبد ) بأستخدامه المفرط لكثافة الجل على خصلات شعره لتثبيتها في رقعة صلعت رأسه الكبيرة ، وهو ينسل من بين تلك الخصيلات المتناثرة على وجناته الوردية ( المحفوفة ) ، بفعل وطأة أشعة الشمس الحارقة في تضاريس الجبل ، وكان هناك أنصار شيوعيين يتلون من ضنك العوز وملابسهم الرثة ومستلزمات العيش الطبيعية .
 
في عز ثورة البلاشفة ١٩١٧تصدر مشهدها الثقافي أدباء ومثقفين مثلوا روح الثورة وأهدافها . ماياكوفسكي ، يسينين ، فادييف . لم يعترف ماياكوفسكي بالأسماء الكبرى في تاريخ الادب الروسي في بداية طريقه الأدبي والسياسي ، فادى به أخيراً الى الانتحار ، كان يدعوا الى ضرورة التخلص من الماضي والارتباط مع الحاضر فقط في الانطلاق نحو المستقبل . لقد دعا ماياكوفسكي في بداية مسيرته الادبية الى أسقاط بوشكين من منصة العصر الحديث وخلعه والاطاحة به . بوشكين عاش ومات قبل ماياكوفسكي بقرن من الزمن . أن لينين حضر مرة في أحدى مؤتمرات الشباب الشيوعي ، وسألهم ( هل تقرأون شعر بوشكين ؟) ، فأجابوه ، كلا ، نحن لانقرأ البرجوازي بوشكين ، وأنما نقرأ شعر البروليتاري ماياكوفسكي ، فاجابهم لينين مبتسماً بجملته الشهيرة والواضحة وضوح الشمس ، لكن شعر بوشكين أجمل وأفضل .

في تصريح منسوب له ( لبيد عباوي ) وتناوله أكثر من مصدر للتأكد من فحواه ، وفي حديث ودي مع عدة صحفيين من الاتحاد الوطني الكردستاني ، رافعاً رأس خس بيده ، ومكشراً عن أنيابه المسوسة ، قائلاً .. أني أرتكبت أكبر خطيئة في حياتي حين أصبحت شيوعياً اللي طلعت ما تسوه رأس الخس هذا . لم ينمو بيننا أي ود رغم أننا في فصيل واحد محصور بين واديين ، بعد فترة زمنية قليلة لم يعد له وجود داخل الفصيل المستقل . في شباط العام ١٩٨٦ قرر الحزب أن أستعد للتوجه الى بغداد عبر رحلة تمر بجبل ( كارة ) في وادي ( مراني ) حيث مقر الفوج الأول بقيادة المرحوم أبو نصير ومقر قيادة الأقليم بمسؤوليه ، المرحوم سليم أسماعيل ( أبو عواطف ) ، المرحوم ( أبو جنان ) ، ولبيد عباوي ، وكان في الموقع أيضاً سبهان ملا جياد وزوجته ، وفي وصولي الى الموقع التجأت أليهم طيلة مكوثي لمدة أربعة أيام لمعرفة قديمة أيام قاطع سليمانية وكركوك ، وكنت في حديث يومي معهم ومع أبو عواطف من ضمن تلك الاحاديث طريقة توجهي الى الداخل ، وأي نقطة سأتسلل منها أمناً الى بغداد ، أما مع لبيد لم يكن أي حديث بيننا لامن قريب ولا من بعيد ربما حتى السلام نمرره بغفلة ، وحتى عندما تحركت باتجاه قرى الموصل مع الرفيق خديدا ( أبو داود ) ، ودعت الجميع الا لبيد لانه لم يشعرني بوجوده بل يستفزني مظهره وطريقة تعامله بما يتفرد به من غرور وعنجهية وسذاجه وغموض ، قدره لا يسوه الأ أن يكون بعثي صغير يتحرك ضمن دائرة ضيقة . ذهبت الى بغداد وحملت روحي على كفي ، وعدت الى الجبل ورجعت مرة أخرى الى بغداد ، وكنت أشاهده في موقع الأقليم بملابس لاعلاقة لها بملابس ويوميات النضال للانصار الشيوعيين . التطورات السريعة أجتاحات المنطقة أسرع من التوقعات والتحليلات ورسم الخطط أنتهت بنهاية قرار وقف الحرب  بين البلدين الجاريين في ٨ آب ١٩٨٨ ، ذهبنا بأتجاهات متعددة نحو حدود الدول المجاورة . في دمشق ، كانت وجهتي بحثاً عن أفق للفضاء الانساني تليق بآدمية البشر ،  وبمساعدة رفاق حصلت على جواز يمني ( جنوبي ديمقراطي ) . كانت وجهتي براغ ومنها الى دول اللجوء دول ( الرأسمالية ) ، أعلى مراحل الامبريالية كانت تتصدر أدبياتنا ومحاور ثقافتنا ، في ربيع العام ١٩٨٩ رافقت الرفيق المرحوم علي الجبوري ( أبو أحمد ) ، الى مقر الحزب في العاصمة ( دمشق ) للحصول على كتاب تأييد الى السفارة التشيكية في دمشق للحصول على فيزة دخول الى براغ ، ألتقينا في المقر بعد طول غياب من جانبي  بلبيد عباوي ، وعندما تحدث أبو أحمد حول كتاب التأييد لي أنبرى لبيد عباوي قائلاً ( خلي يروح لطيف والمقصود أنا الى عامر عبدالله وباقر أبراهيم يعطوه الكتاب ؟) ، لم يسبق أن أرى المرحوم أبو أحمد بهذا الموقف وهو القريب الى القلب والتفكير ، في مهاجمته بأقذع الكلمات والعبر في داخل مبنى المقر ، ولولا توسلات الرفاق الذين كانوا حاضرين وتهدئة أبو أحمد لأصبح في موقف يحسد عليه ، وفوق ذلك مسح تلك الأهانة بكل ممنونية ، لو كان أي أنسان غيره لحجم تلك الأهانة لبات في وضع آخر ميئوس منه . في الليل من نفس اليوم جرت عدة أتصالات وكان حميد البياتي ( أبو داود ) ، محورها لتهدئة الموقف المتأزم ، وذهبت في صباح اليوم الثاني الى مقر الحزب الشيوعي العراقي وحصلت على كتاب التأييد ، ولصقت الفيزة على جوازي اليمني . هذا الشريط من الاحداث عادني الى الواجهة أثر الكتابات الاخيرة والخطيرة حول ما حدث من ملابسات في تسليم العشرات من عوائل رفاقنا الى أجهزة السلطة ، كان واحد من أبطالها لبيد عباوي بل له يد الطولى في هذا الملف الخطير ، الذي سكت عنه لسنوات ، لكن أبناء ورفاق الضحايا فتحوه بعد أن تقيأت جروحهم على أمل أن تندمل بجزء من الاجراءات الطبيعية في الحد ومعاقبة المذنبين  ، والموقف الانساني والشيوعي يتطلب من الجميع بملاحقة المسيئين وممن سبب كوارث بحق الناس . بدل من أن تتخذ المواقف الشديدة تجاه هؤلاء المسيئين لتكن عبر للأخرين ولتقويم عود الحزب وتعزيز رفاقه به ، بل كرم في المؤتمر الخامس العام ١٩٩٣ في مدينة شقلاوة العراقية ، ليصبح لبيد عباوي عضو مكتب سياسي في الحزب الشيوعي العراقي . المؤتمر الذي دعا الى التجديد ومد يد المصافحة وروح التسامح ولملمة الشمل الذي تشظى بفعل أخطاء الماضي ، لكنه تبين فيما بعد أنه مجرد أعلان تسويقي  ، وحل عنه  في الواقع  سياسة التهميش والتشهير برفاق الأمس ، وباتت هي الطاغية مما أدت بنا أن نشارك بالعملية السياسية وعلى أسس طائفية ونلحقها بتحالفات هشه غير مدروسة وستكون نتائجها وخيمة على تاريخ الشيوعيين ومستقبلهم في العراق . بعد العام ٢٠٠٣، عام الكارثة الوطنية  عين وكيل وزير خارجية في أفسد وزارة وأفسد وزير شهده العراق الحديث ( هوشيار زيباري ) . وعينت زوجته مستشارة بأحدى السفارات العراقية تتقاضى راتباً برتبة وزير .

ومن هو الجبوري …؟ .  أنه علي محمد جاسم الجبوري المعروف بأبو أحمد ولد عام ١٩٤٠ لعائلة فلاحية من قرية جديدة الشط التابعة لقضاء الخالص ، محافظة ديالى مر في سجون كثيرة ، أولها في سجن نقرة السلمان الصحراوي وغيره ، بين أعوام ١٩٦٣ ، ١٩٦٧ . وكان من الناجين من مجزرة  ( بشت ئاشان ) ، أو من الشهداء المؤجلين . عمل في تنظيم بغداد المحلي كعضو لجنة محلية حتى بداية السبعينات ، ثم أرسل للدراسة الحزبية في معهد موسكو . بعد عودته عام ١٩٧٢ أنتقل للعمل في منظمة الفرات الاوسط ، وعمل بعد ذلك كسكرتير للجنة المحلية في محافظة الأنبار وعضو لجنة المنطقة الوسطى حتى مغادرته العراق عند أشتداد حملات القمع عام ١٩٧٨ . عاد الى الداخل أكثر من مرة  بين أعوام ١٩٨٤ / ١٩٨٧ . عانى الكثير من صعوبات ومرارات العمل السري ، في ظروف لم تكن تتوفر فيها أبسط إمكانات هذا العمل . وبسبب أخلاصه وأندفاعه لأداء الواجبات الصعبة المطلوبة منه ، تعرض لما كان من المتوقع أن يتعرض له أي مكافح آخر ، ويضطر ، لخيار بغيض يكره عليه ، وهذا ما ولد في دواخله أزمة نفسية عميقة . وفي سنوات لاحقة جمعنا الجبل ومن يومها أمتدت علاقتنا ، كنت ألتجأ أليه في البحث عن الحلول في أزالة ثمة أشكالات . كان كادراً حزبياً مجرباً في تنظيمات العمل السري وبين المدن ، مدن الفرات الاوسط وبغداد وديالى والرمادي الذي كان في فترة ما أحد قادة تنظيماتها . في العام ١٩٨٧ تحركنا مع مفرزة من مقرات لولان عبر الاراضي الايرانية الى ( دولا كوكا ) بأتجاه مناطق وقرى أربيل وسليمانية وجهتنا العاصمة بغداد ، تعرضت المفرزة الى مخاطر جمة كادت أن تؤدي بحياتنا ، وعندما وصلنا الى مناطق قريبة الى المدن ( سماقلي ، طقطق ) ، ودعنا أبو أحمد الى بغداد مضطراً لتدهور حالته الصحية وعدم قدرته على المسير الطويل ، وأنا واصلت الرحلة مع المفرزة الى قرى ( قرداغ ، كرميان ) ، ومن هناك الى بغداد . في نهاية العام ١٩٨٨ ، ألتقينا مجدداً في دمشق ، وكانا يعتقد بعضنا نحن في عداد الموتى المرحوم أبو أحمد يعتقد أن أستشهدت وأنا كان ينتابني نفس الشعور حول مصير أبو أحمد ، قضينا سوية شهور في دمشق في لقاءات يومية وأحاديث مرة ومؤلمة عن تجربة خطيرة ومواقف أخطر في مواجهة أساليب الدكتاتورية . تركت دمشق يوم ١٥ آيار ١٩٨٩ باتجاه مملكة السويد ، والمرحوم أبو أحمد ساءت حالته الصحية لتراكمات صحية ونفسية ، وكان هناك أهمال متعمد بمتابعة وضعه الصحي ، الذي بدأ يسيء ساعة بعد ساعة ، فوصل الى موسكو في وضع ميئوس منه وفي محاولة أخيرة وصل الى مستشفيات العاصمة السويدية ( إستوكهولم ) ، وعجزوا الأطباء عن أنقاذه فودع الحياة ومتاعبها الى السماء ، فتوارى ثراه في مقبرة ( إستوكهولم ) بتاريخ ١٢ أكتوبر ١٩٩٠ . له ولدان أثير وسمير . وقد سبقته زوجته الى عالم التضحية والخلود ، كأحد ضحايا القمع داخل الوطن ، وتوفي صغيره سمير أيضاً .

المصادر …
1.   مذكرات باقر أبراهيم .
2.   كتابات كفاح كنجي ، أبن العائلة المنكوبة في أنفال ١٩٨٨ .
3.   كتابات البروفيسور ضياء حسن نافع .


محمد السعدي
مالمو / آب ٢٠١٩     

91


في العام ١٩٧٩ كنت طالباً في مرحلة الخامس الأدبي في أعدادية بعقوبة المركزية ، كانت الملاحقات السياسية ( الأمنية )  في أوج ضرامتها بطشاً بالشيوعيين وأصدقائهم في عموم العراق . في يومها شاعت الاخبار في بغداد وعموم المحافظات العراقية بنبأ وقوع مؤامرة أبطالها قادة ميامين في حزب البعث ضد رفاقهم في الفكر والمصير . أنتشرت كسرعة البرق وباتت حديث يومي في البيوت العراقية مع سيل من التسريبات المبالغ بها . وقد مضى عليها دهراً من الزمن على مستوى الحدث والصدى , ومازالت قاعة الخلد في بغداد تشكل مفترقاً تاريخياً في الحدث السياسي العراقي , كل الذين أباحوا بوقع الحدث وآماطوا اللثام عن تفاصيل ذلك اليوم في تلك القاعة والتي شهدت تلك الكوميديا السوداء ، وهي القاعة التي عدت خصيصاً للعروض المسرحية والمهرجانات السياسية ، لكن خلدها النائب والذي أصبح رئيساً للبلاد بمجزرة الدم . والذين نجوا وهم قلة من مسرحية المؤامرة المزعومة لم يكشفوا عن التفاصيل الحقيقية والدوافع وراء ذلك الاجتماع والتصفيات بحق رفاق الآمس .


الرئيس الجديد والنائب السابق للأب القائد ، الاب الذي تنازل عن مقاليد السلطه لنائبه في مشهد تلفزيوني بائس كسعف النخيل الذي سقط بعد أن يبس . الرئيس الجديد صدام حسين يتابع شخصياً المشاهد والأدوار قبل العرض المسرحي من خلال أشرافه المباشر والسريع على التأليف وألاخراج . العراقيين يتناقلون أخبار العرض المسرحي ( أنها مؤامرة ) بتعاطف مبالغ به مع الرئيس الجديد ودموعه التي ذرفت بغزارة من على مسرح قاعة الخلد مع سيل من الهتافات من قبل المدعوون ( المذنبون ) للعرض المسرحي بعد أن أنتابتهم نوبة الخوف من ألصاق التهمة بهم . المشهد الدراماتيكي في أعترافات الشمري المثيرة للجدل والسخرية تشكل نقطة تحول في مسيرة حزب البعث نحو السقوط التدريجي .


بعد تسجيل العرض المسرحي ومونتاجه تم توزيعه على منظمات الحزب في محافظات وقرى العراق لمشاهدة فصوله الكاملة وتسريب فصوله الى الشارع وأشاعته بين الناس ، نحن العراقيين ميالين جداً الى تصديق الاشاعة ونشرها وصعوبة تكذيبها ضمن البناء النفسي للشخصية العراقية ، لقد تسنى لي حين ذلك بالاطلاع على تفاصيل العرض بعد حين ، كان عملاً فاشلاً كاخراج وتأليف وممثلين وحتى الكومبارس الذي مثله علي حسن المجيد حول دور عبد الخالق السامرائي في الإيحاء للرفاق ( المتآمرين ) عبر زنزانته المعزول بها عن العالم الخارجي منذ ستة أعوام ، والذي يعد من مفكري الحزب ولزهده ونزاهته أطلق عليه الملا من قبل رفاقه .  في ليلة وضحاها تحول عتاة قادة حزب البعث من مناضلين الى متأمرين ، وقالت التجارب أن العمل السياسي في العراق يؤدي بك في النهاية الى الموت ، ومن خلال تاريخ العراق كل الذين حكموه قتلوا من خلفاء وأمراء وملوك ورؤساء . 

محمد عايش ، محمد محجوب ، غانم عبد الجليل ، عدنان الحمداني ، محيي عبد الحسين المشهدي ، مرتضى الحديثي ، وليد محمد سيرت ، ماجد عبد الستار السامرائي ، إسماعيل النجار ، والعشرات بعضهم نجا بأعجوبة وظل صامتاً الى يوم رحيل البعث ٢٠٠٣ .


الرئيس الراحل حافظ الأسد طلب من عدنان الحمداني بعدم العودة الى العراق ، وكان حينها في دمشق يتابع الأعلان حول مشروع الميثاق القومي بين العراق وسوريا . قال له الغيوم متلبدة في سماء بغداد وخوفي عليك كبير رفيق عدنان ستكون أحد الضحايا رد عليه بثقة متناهية حول إنجاز المشروع القومي وسأكون رئيس وزراء العراق القادم في عهد الرئيس الجديد . أما محمد عايش الذي أعتقلت زوجته في اليوم الذي أعتقل به وبقيت في حاكمية المخابرات لمدة سبعة سنوات ، وكانت تعتقد أنها إعتقلت بوشاية من زوجها الذي أعدم بنفس يوم إعتقاله ، وعندما قرروا أطلاق سراحها ألتقى بها مدير الحاكمية ، وكانت تدعي على زوجها بغضب فتفاجأت عندما أبلغها المدير أن زوجها أعدم بنفس اليوم الي أعتقلت به بتهمة الخيانة والعمالة للنظام السوري . الرفاق الذين بلغ عددهم خمسة وخمسون شخصاً قيادياً جرجروا الى مبنى حاكمية المخابرات بتهمة التأمر جلهم لم يسبق له الدراية الا في داخل قاعة الخلد من خلال بساطيل الحماية وأحتكاكها في الأرض والبشر والدور البائس الذي إجبر عليه محيي عبد الحسين الشمري ( المشهدي ) وممن أستدعى من سفارات النظام لآمر هام في القدوم الى بغداد ولم يعد .


مبنى حاكمية المخابرات الواقعة في منطقة شارع ٥٢ في بغداد كانت سابقاً معبداً للبهائيين الذين هجروا من العراق في منتصف الستينيات ليختاره النائب أن يكون معتقلاً سياسياً بعد أن حولوا خريطة المبنى الى زنازين أنفرادية عرضها تسعين سم وطولها متر واحد لاتتسع الا لشخص واحد أشبه بالتوابيت .

مرحلة مهمة في تاريخ العراق السياسي لم توثق الى الآن شهودها أغلبهم رحلوا . تابعت بأهتمام مذكرات برزان التكريتي بعد أن نشرها موقع أمريكي عثر عليها في صندوق حديد بعد إحتلال العراق وإعتقال برزان الذي كان المشرف الأول على تلك التصفيات الجسدية لرفاق الحزب ولكنه لم يمر عليها ولا بجانبه فقط ركز في مذكراته حول شجرة الدر ( زوجته ) وزواج أبنته سجى من عدي صدام حسين وقصة هجرها . 

في يوم الثامن من آب وفي الساعة الثامنة مساءاً وبأمر من مجلس قيادة الثورة ( صدام حسين ) بتشكيل محكمة حزبية لمحاكمة الرفاق المتأمرين تعقد جلستها الاولى  فاتخذوا من قاعة صغيرة في نهاية مبنى الحاكمية قاعة للمحاكمة وضعت فيها عدة طاولات متلاصقة مع بعضها بعضاً . جلس خلفها رئيس المحكمة المفترضة نعيم حداد عضو القيادتين القطرية والقومية ، والى يمينه حسن العامري وتايه عبد الكريم عضوا القيادة القطرية ، وسعدون شاكر وحكمت العزاوي وعبدالله فاضل وسعدون غيدان . وفي زاوية مخفية من القاعة وضع كرسي مميز أتخذه برزان التكريتي محطة أستراحة ، للجلوس عليه عندما يشعر بالارهاق من التجوال بين غرف التحقيق 

في صبيحة ذلك اليوم من آب العام ١٩٧٩ ، كان جو بغداد قائض والرطوبة مرتفعة ، جاءوا بلمذنبين أو المتأمرين على شكل رتل طويل يتقدمهم عبد الخالق السامرائي متحدياً صورة المحكمة ، ويجرجر قدميه بثقل خلفه محمد عايش من وطأة التعذيب الذي لاقاه في الامس من رفاق الأمس .

خمسة وخمسون رفيقاً قيادياً بعرض مسرحي تراجيدي أدوارهم مجهولة وأقوالهم مخنوقة أمام هيئة صورة المحكمة ، وفي سؤالها الاول الى المذنبون . هل لديكم شيء أضافته عن ما قلتوه في التحقيق ؟. أي تحقيق لم يجري معنا أي تحقيق . كانت كل المؤشرات تشير الى تصفيتهم جسدياً على وجه السرعة الممكنة . هنا همس عبد الخالق السامرائي قائلاً .. أمنيتي كانت أن أعدم في اليوم الذي أتهمتوني بمؤامرة ناظم كزار العام ١٩٧٣ مع أطلاق أبتسامة خافته أن مؤامراتكم سوف لن تنتهي وهذه هي البداية والنهاية لكم . وتفوه محمد عايش بكلام مسموع ( أي أمة هذه تقدم مناضليها ، قرابين لمقدم رئيس مزور ) .


نعيم حداد في سنواته الأخيرة يعيش بعوز مدقع في منطقة صناعية بائسة في سوريا قريبة من الحدود اللبنانية وهو يكاد فقد بصره بعد أن ترك العراق بعد إحتلاله ٢٠٠٣ . زاره أحد المهتميين بالشأن العراقي وعرض عليه مبلغ للمساعدة ، لكنه رفضها ، وأيضا رجل أعمال عراقي عرض عليه مبلغ كبير مقابل الأدلاء بشهادته حول تفاصيل مجزرة قاعة الخلد ، لكنه رفض بتاتاً .

ماجرى في قاعة الخلد من الرئيس الجديد في قتل رفاقه حسب إعترافات الباحثين في تاريخ السياسة هي قريبة الى مجزرة القلعة في زمن محمد علي باشا في قتل مماليك عصره ، وبعض فصولها قريبة على ما كان ينتهجه ستالين تجاه قتل رفاقه ، وأحد القادة الشيوعيين يقربها على ماجرى في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي عام ١٩٨٥ في خيمة أرموش السفلى ، حيث النصف ألغى النصف الآخر .

يروي المذنب مرتضى الحديثي سفير العراق في إسبانيا الى بقية المعتقلين معه في زنزانة الحاكمية ، أستدعيت الى بغداد لآمر هام ، فلبيت الدعوة حالاً وبدون تردد رغم كل التحذيرات التي وصلتني وأيضا وصلني تلكس من الرئيس السوفييتي بريجنيف شخصياً بعبارات محددة ( لاتذهب الى بغداد ) ، توجه الى موسكو ضيفاً عزيزاً ، الكي جي بي ، لديها علم بالتصفيات التي ستجري في البلاد ، لم أعر الموضوع أهتماماً ، وإن أقلقني حقاً ، وبعد نصف ساعة من وصولي العاصمة بغداد صباح الأول من آب ، كنت في مكتب السيد الرئيس النائب قبل أيام وبات رئيساً ، بادرني السيد الرئيس عن عدم فعالية طاقم السفارة العراقية في أسبانيا في فضح خيوط المؤامرة وكان حجة السفير لم تكن لنا معلومات كاملة وتوجيهات ضمن هذا التحديد . لقد أنفعل غاضباً عندما أجبته ، أني محتار جداً بدوافع محمد عايش للتأمر على الحزب ، ومحتار أيضاً بكيفية إتصال المتآمرين بعبد الخالق السامرائي ، وهو في سجنه الانفرادي ، إذ سألني عمن أخبرني أنه في سجن أنفرادي ، وأجاب هو من عنده ، لابد وأن يكون الخونة المتآمرين هم من أخبروك بذلك ، ولابد أن يكون لك أتصال بهم ، حاولت أن أجيب ، أوضح له الحقيقة ، لكنه لم يعطيني فرصة ، بعدها ضغط على زر الجرس الذي أمامه ، وأمر المقدم ، وشخص آخر دخل معه بكلمة واحدة ( خذوه ) فأصبحت بعد نصف ساعة مسجوناً في بناية لا أعرفها من قبل ، قريباً من الجندي المجهول .

حكم عليه خمسة عشر عاماً من قبل المحكمة بقيادة نعيم حداد ، لكنه قتل بطريقة مأساوية بعد شهور في الزنزانة .

يعتبر مرتضى الحديثي مهندس مفاوضات النفط العراقي وتأميمه العام ١٩٧٢ وأيضا هو من وضع صيغة الحكم الذاتي مع الاكراد في قيادته للمفاوضات العام ١٩٧٠ ، وكان مساهماً فعالاً في المفاوضات مع الشيوعيين حول قيام الجبهة الوطنية العام ١٩٧٣ . 

نطق رئيس المحكمة باسم عبد الخالق السامرائي ، ومن بعده محيي عبد الحسين المشهدي حكماً بالاعدام ، فسمعه فاضل العبيدي ، الواقف الى جواره في صف المذنبين يقول ؛ هذه كلمة الشرف التي أعطيتموني أياها ؛ وسكت . أثنان وعشرون مذنباً، أولهم عبد الخالق وآخرهم غانم عبد الجليل صدرت بحقهم عقوبة الاعدام .


أمضى القادمون من جميع المحافظات العراقية الى بغداد ، ممثلين عن قيادات فروع حزبهم ، ليلتهم في فنادق خصصت لهم ، حسب الدرجات الحزبية ، بينها فندقي بغداد وأطلس ، ليساهموا في مجزرة الدم بقتل رفاقهم وتلطخ أياديهم بعار التاريخ . آخر تبليغ لهم قبل النوم ، هو التجمع في بهو الفندق الذي هم فيه بالساعة الخامسة والنصف صباحاً ، وفي تمام السادسة ، يكونون أمام بناية القيادة القطرية للحزب .

كان يوم الثامن من آب ، حاراً منذ الساعات الأولى لحلوله ، حضر الرفاق في الموعد المحدد ، لايعلمون لماذا حضروا في هذا الوقت المبكر بالذات ، يسأل بعضهم الآخر ، لماذا حضروا ، وماهو المطلوب منهم . بعضهم كان قلقاً لأن رفاق لهم حضروا الى قاعة الخلد قبل أيام ، ولم يعودوا منها ، فأصيبوا بوباء القلق الذي لايشفى .

أطل علي حسن المجيد ، بسيارة رئاسية سوداء نوع ( مرسيدس ) أقترب من جمهور المجتمعين ، أعطى أوامره الصارمة بضرورة الصعود الى السيارات المخصصة لنقلهم الى مكان محدد . لم يذكر أسم المكان المحدد ، تدخل في تفاصيل توزيع الرفاق مجاميع من عشرة أشخاص ، على كل سيارة . لدى السائق تعليمات بالمكان الذي أليه ذاهبون . المهمة التي تؤدوها اليوم تاريخية ، ستبقى ماثلة في سجل خدمة جليلة .

تحرك رتل السيارات بقيادة المجيد ، وصل المثابة المطلوبة ، ساحة الرمي الخاصة بالفوج الثاني لواء الحرس الجمهوري . ألتفت الرفاق بعضهم الى بعض ، لايعرفون الخطوة الآتية حتى الآن .

نصف ساعة مضت وهم مازالوا يقفون في أماكنهم ، ينتظرون في هذه الساحة ، التي شهدت الرمي على الأف الاهداف الوهمية ، الا هذه المرة  فالأهداف ليست وهمية ، أنها من بين قادتهم ، كانوا حتى وقت قريب مسجلين كبار دولة ، وكادر حزبها الوحيد والأوحد . يمر الوقت ببطء شديد ، وعند أنتهاء النصف الأول من ساعة الانتظار ، أمتلأت الساحة بأعقاب السكائر . وصلت في الدقيقة الثالثة من النصف الثاني لها سيارتان رئاسيتان ، ترجل من الأولى رئيس الجهاز ( برزان التكريتي ) ، ومن الثانية ولدا الرئيس الجديد للعراق ( عدي وقصي ) ، كان وصولهم إيذاناً بالشروع في إكمال المهمة . أثنان وعشرون شخصاً وقفوا في رهط عريض من صف واحد ، عصبت أعينهم ، وكممت أفواههم ، وقيدت أيديهم الى الخلف .

رفاق هؤلاء الواقفين أمامكم خانوا الحزب ، تأمروا عليه ، حكموا بالإعدام من قبل المحكمة التي شكلتها قيادتكم الحكيمة يستحقون الموت ، ويستحقون أن تكون أماتتهم على أيديكم رفاق ، ليبقى الحزب أكبر من الجميع ، هذا ما قاله العريف علي حسن المجيد قبل بدأ التنفيذ المطلوب للمهمة . وزعت البنادق على الرفاق ، أنا لدي بندقيتي الخاصة ، ولا أريد بندقيتكم قالها عدي الأبن البكر للرئيس بصيغة آمر ، الضابط نعم سيدي ، آمرك سيدي قال في رده على أوامر أبن الرئيس . أشر عدي الى سائقه أن يجلب له بندقية الصيد الغالية الثمن من سيارته وكذلك بندقية القنص الامريكية لاخيه قصي . وطلب عدي أن تكون حصته محمد عايش أما قصي فحصته الملا عبد الخالق السامرائي ليبدا بالتنفيذ تحت هتافات باسم الرئيس الجديد . أراد وليد محمود سيرت فك الشريط اللاصق من على فمه مما لفت أنتباه الجميع ، فالتفت علي حسن المجيد الى برزان التكريتي ، سائلاً عن أمر  هذا وليد ، قد يكون لديه قولاً يهم الحزب ، في صحوة ما قبل الموت ، لا أعتقد هذه ، أجاب رئيس الجهاز ، وأكمل القول من أن وليداً معروف بوقاحته ، وأن مجرد رفع الشريط عن فمه ، سيسمعنا كلام لا يصح سماعه أمام هذا الجمع من الرفاق ، ثم أن لدي توجيه من قبل السيد الرئيس بسد الأفواه ، لكي لاينطقوا الشهادة ويموتوا كفرة لخيانتهم الحزب والثورة .


المصادر …..

١ . رواية ( حفل رئاسي ) ل سعد العبيدي

٢ . شهادات خاصة ( للتاريخ ) للدكتور حميد عبدالله ( أحسان وفيق السامرائي ، ضرغام عبدالله الدباغ ، سليم الامامي ، وليد السامرائي ، تايه عبد الكريم ، محمد السباهي ، فايز الخفاجي ).

٣ . لقاءات تلفزيونية مع الدكتور عبد الحسين شعبان .

٤ . كتابات للباحث شامل عبد القادر .

٥ . برنامج أحمد منصور ( شاهد على العصر ) مع حامد الجبوري .

٦ . حوار محمد دبدب مع جريدة الزمان .


محمد السعدي

مالمو / تموز ٢٠١٩



94
قادة الحزب الشيوعي العراقي

منذ أن بذرت البذرة الأولى لنبتتة الشيوعية في العراق في مطلع العشرينيات من القرن الماضي ، وهنا ليس بصدد التأثيرات الخارجية أو الدوافع الذاتية أو العوامل الطبيعية بنمو تلك النبتة على أرض العراق الواسعة الطيبة والخصبة , هنا يعنيني القادة الشيوعيين ، الذين تعاقبوا على سكرتارية  قيادة الحزب الشيوعي بمراحل تاريخية مختلفة ومهمة . في يوم ٣١ آذار ١٩٣٤ انعقد في بغداد إجتماع تأسيسي حضره شيوعيون من مختلف أنحاء البلد . وأعلنوا توحيد صفوفهم في تنظيم مركزي واحد باسم  ( لجنة مكافحة الاستعمار والأستثمار ) وانتخبت أول لجنة مركزية , وأصبح عاصم فليح أول سكرتير للحزب . ، بعد أن سبقتها حلقات ماركسية على يد ثلة من الأدباء والمثقفين العراقيين ( حسين الرحال .. أمنه الرحال .. محمود أحمد السيد ، عوني بكر صدقي ، عبدالله جدوع ) ، أقدم هؤلاء الرواد الأوائل باصدار مجلة ( الصحيفة ) تصدر مرتين في الشهر تتصدر قضايا البلد العامة والتطورات الحاصلة به تأثراً بسياسة السوفيت ودوي سمعة ثورة أكتوبر  ،  ثم تغير اسم الحزب فيما بعد إلى الحزب الشيوعي العراقي بقرار أتخذته اللجنة المركزية العام ١٩٣٥ .

عاصم فليح … ولد في بغداد ومات بها عام ١٩٧٥ , رحل بهدوء تام ويأس قاتل وحتى بدون ذكر ولا كلمة نعي بسيطة بأقصوصة ورق عن سيرته النضالية  وقيادته لتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي لفترة زمنية صعبة في تاريخ العراق السياسي ، أمتدت من أول إجتماع عام للشيوعيين ٣١ آذار ١٩٣٤الى العام ١٩٤١تولى بها يوسف سلمان يوسف ( فهد ) قيادة تنظيمات الحزب بعد أن عاد من موسكو ( جامعة كادحي الشرق الشيوعية ) حول أسس التنظيم الحزبي وبناء المنظمات الثورية .

يوسف سلمان يوسف … ولد في قرية برطلة العام ١٩٠١ لعائلة مسيحية سريانية  في محافظة نينوى ، وعندما بلغ السابعة من عمر أنتقل مع عائلته الى محافظة البصرة طلباً للعمل ونشأ بها ، وباكورة عمله السياسي أنطلقت من محافظة الناصرية , عندما كان يعمل في معمل ثلج تابع لاخيه ومن خلال أطلاعه على ظروف الناس الصعبة ومعاناة العمال وحقوقهم نمى الوعي عنده مبكراً ، فوجد طريق الشيوعية خلاصاً لمعاناة هؤلاء البشر .

أعتقل  العام ١٩٤٧  وأعدم  في ١٤ شباط ١٩٤٩ في بغداد وبأشراف السفير البريطاني في العراق  ، قاد التنظيم الحزبي عبر منافذ أسوار السجن من خلال الرسائل والبيانات المهربة من السجن الى رفاقه في قيادة التنظيمات . في لجة هذا النشاط السياسي والحراك الثوري تولى قيادة الحزب في الخارج يهودا صديق عكس رغبات فهد في السجن ، كان يطمح أن يكون مالك سيف زعيماً للحزب عبر رسالة حزبية هربها من السجن الى التنظيمات الحزبية تضمنت توصية حزبية واضحة حول تشكيلات التنظيم ، فقام الرفيق يهودا صديق بخفي الرسالة طمعاً بقيادة تنظيمات الحزب وتولي المسؤولية الاولى ولم يسلمها الى التنظيم ولاحتى الى مالك سيف نفسه ليخبره برغبة فهد بقيادة التنظيم ، والذي كان يقود تنظيمات البصرة . 
وفي ظروف وزمان أعتقال فهد لم يكن هناك في بغداد قيادياً في الحزب نجا من الاعتقال الا يهودا صديق المولود في بغداد العام ١٩٢٠ ترجع أصوله الى عائلة يهودية ، وهو أحد أعضاء اللجنة المركزية , الذي أنتخب في المؤتمر الاول الذي عقد في بيته بجانب الكرخ .

يهودا صديق أنتمى للحزب الشيوعي العراقي بعد أحداث مايس ١٩٤١ وما تركته تلك ألاحداث من مواقف سياسية ووطنية على تداعيات الشارع العراقي . وفي لجة النشاط الوطني المتصاعد شخص وعبر وشاية من أحد الرفاق ، مما أضطره أن يختفي عن الانظار , وذهب الى مدينة ( شقلاوة ) , وسلم مفاتيح التنظيم الى أخيه ( حزقيال صديق ) ، وهو ليس بموقع لجنة مركزية ولا يملك مؤهلات قائد وكادر قيادي .
في عام ١٩٤٨ بعد أن باع نفسه الشيوعي عبد الوهاب عبد الرزاق كمخبر سري للشرطة قادهم الى الوكر الحزبي في محلة ( الهيتاويين ) وتم ألقاء القبض على قادة الحزب المختبئين مالك سيف ويهودا صديق ، وضعفوا في التحقيق وتعاونوا مع أجهزة الشرطة السرية في كشف محطات التنظيم في عموم العراق مما أعيد محاكمة قادة الحزب فهد وحازم وصارم ، وحكموا بالاعدام . في غمرة تلك الاحداث وما تعرض له التنظيم من أنتكاسات كبيرة برز شاب ثوري في تصدر تنظيمات الحزب ( ساسون شلومو دلال ) وعمره ٢٠ عاماً وهو من يهود العراق . وتبنى سياسة شديدة جداً تجاه النظام السياسي القائم , مما أثار غضب السلطات تجاه الشيوعيين في الملاحقة والاعتقال ولم ينجوا منها الشاب الشيوعي الثوري المتحمس في النضال تجاه قبضة السلطة ، كان من المعجبين بشخصية فهد ومواجهته للموت من أجل الشيوعية . أعتقل وواجهه الموت بشجاعة متناهية .

فكتب رسالة الى أخيه ليلة أعدامه قائلاً فيها ….
رسالة ساسون دلال الى اخيه ليلة اعدامه :
" أخي العزيز
أنها أمسية ساحرة. الريح تهب باطراد طوال اليوم لكنها هدأت بحلول الظلام فلا ضجة في الهواء. يبدو أن العالم نام بسرعة. انا لا استطيع النوم ومن الصعب النوم مع معرفة انني سأموت فجر الغد . منذ أن تم اعتقالي من وقت طويل ، وأنا أريد أن أكتب إليكم. لم أكن متأكدا مما سأقوله. كنت مرتبكا وخائفا. لم أكن متأكدا ان كنت ستتعاطف مع نشاطاتي وافكاري ، الأفكار التي يمكن فقط ان تثبت انها صالحة عندما تكون حياتنا في أمس الحاجة إليها. لم أكن متأكدا أن الحياة الأكاديمية التي عشتها انت في أمريكا من شأنها أن تجعلك ترى بموضوعية عدالة وصحة قضيتنا. الليلة مع علمي أن غدا سيكون الفجرالمقبل هو ليلتي الابدية قررت ان أكتب إليكم عن الأفكار والآراء التي تعج في ذهني الآن لقد اخذت موجة من الرعب البلاد والالاف من الناس يجري اعتقالهم ويتعرضون للتعذيب ويتم واعدامهم ،. أنا لست الوحيد الذي سأموت غدا هناك عشرة آخرين معي .

بعد أعدام ساسون دلال تولى قيادة الحزب حميد عثمان ، الذي كان مسؤول تنظيمات مدينة سليمانية ، ولم تدوم قيادته لحزب الشيوعيين الا ثلاثة شهور ، حيث تعرض للاعتقال عبر الاندساسات داخل صفوف التنظيمات الحزبية . ألتحق الشاب القروي بهاء الدين نوري أبن رجل الدين ذو الشأن الاجتماعي والعشائري والديني وسط أبناء قريته ( التكية ) على تلال مدينة قرداغ الى بغداد ليصبح السكرتير الأول للحزب الشيوعي . وقد زرت تلك القرية في نهاية ١٩٨٧ عندما كنت مقاتلاً في الجبل حلت ضيفاً على بهاء الدين نوري ( أبو سلام ) رغم الحذر الحزبي من الاتصال به ، ووقفت على سفح تلك القرية اتأمل ( قرية على سفح جيل ) ، وقصة الشاب بهاء أبن تلك القرية البائسة المتخلفة وقدرته في أدارة قيادة الشيوعيين في العاصمة بغداد . بعد ثلاثة أعوام من العواصف السياسية والقرارات الحزبية والتي أمتازت نوع عما بالفردية والتسلط أعتقل في بيت حزبي مع عدة رفاق وأعترف بانتمائه الشيوعي وحكم عليه يالسجن . تولى بعده كريم أحمد قيادة التنظيم قادماً من مدينة أربيل وبعد فترة زمنية هرب من سجن بعقوبة حميد عثمان بمساعدة التنظيم وفرض نفسه سكرتيراً للحزب وأعطى الاولويه له بمعاونة عدد من الرفاق مما أربك وضع الحزب التنظيمي والسياسي وسادت حالات تشظي  أنتهت بقيادة أحمد حسين الرضي ( سلام عادل ) سكرتيراً للحزب العام ١٩٥٥ .
قاد تنظيمات الحزب الى أخر يوم من أستشهاده بعد أن أعتقل من قبل أنقلابي ٨ شباط ١٩٦٣ يوم ١٩ شباط وأستشهد يوم ٢٣ شباط ١٩٦٣ .
أن أهم مايميز قيادة سلام عادل للحزب الشيوعي العراقي هو إيمانه بوحدة الشيوعيين يضاف الى إستشهاده البطولي . تسلم سلام عادل قيادة الحزب في حزيران ١٩٥٥ بعد أن عزل من قيادته السكرتير السابق حميد عثمان وهروبه الى كردستان وأنضمامه الى الحزب الكردستاني . بعد أن أخذ الشهيد سلام عادل على عاتقة مهمة جمع ولم شمل رفاق الحزب حين قال ( عزل أي رفيق من الحزب بمثابة قلع شعرة من عيوني ) , وعلى هذا الأساس تحرك وعمل من آجل وحدة الشيوعيين على مباديء الحوار والرأي المختلف والحرص المتبادل أنطلاقاً من جماهيرته الواسعة داخل تنظيمات الحزب لدوره الوطني والتنظيمي المشهود له قبل تسلم قيادته لتنظيمات الحزب وتحديه الشجاع لاساليب السلطة وسجونها .
ومن أهم المفاصل الحزبية التي واجهته في بداية تسلمه قيادة الحزب وحسب ما ذكر الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه حول سلام عادل موضوعة الانشقاقات وفي مقدمتها ( راية الشغيلة ) , والتي تبناها عزيز محمد , جمال الحيدري , نافع يونس , وقد وصفتها جريدة القاعدة في حينها بأنها زمرة بلاطية ( نسبة الى البلاط الملكي ) , وإنها انحطت في المستنقع والقاذورات اليمينية , متهمة إياها بالانتهازية وغالباً ما تصدر مثل هذه الاتهامات في المنعطفات التي تشهد انقسامات وصراعات داخل الحزب , لكنه سرعان ما يطويها الزمن بفعل بعض التسويات والاتفاقات .
أما ’’ منظمة وحدة الشيوعيين ” فكانت برئاسة عزيز شريف وعبد الرحيم شريف التي أسهم عامر عبدالله بحكم صلته الوطيده معهما في إقناعهما بحل المنظمة والالتحاق بالحزب . كما أنضمت كتلة داود الصائغ ( رابطة الشيوعيين ) لاحقاً الى صفوف الحزب . ويمكنني القول هنا الاشادة بدينامكية وقدرة المناضل سلام عادل في أستيعاب الصراعات الحزبية والأراء المختلفة وأحتوائها لمصلحة الحزب والوطن . كان لجماعة داود الصائغ وجريدته المبدأ خط سياسي ضد سياسة الحزب بل النيل من قدرات الحزب وتهميش دوره في عملية التغير , فبعث مجموعة من الشيوعيين في العمل في جريدة المبدأ كمحررين وصحفيين وعاملين ضمن الجهاز الحزبي بأتجاه أدارة الوضع السياسي نحو وحدة الشيوعيين , وهذا فعلاً ما تحقق لاحقاً .

تركت مجزرة شباط تداعيات خطيرة على مسيرة الحزب وبنائه التنظيمي وأربكت وضعه السياسي من هول الضربة الماحقة التي أطاحت بأغلبية تنظيمات وكوادر الحزب ، حيث تحطمت بالكامل في العاصمة بغداد وظلت تنظيمات وتجمعات ضعيفة في أقيلم كردستان ومنطقة الفرات الاوسط ومقطوعة عن المركز لفترة ليس قليلة . وبقيت تنظيمات الحزب بدون قيادة ومركز وسكرتير الى العام ١٩٦٤  ، عندما بدأ الوضع السياسي في العراق بتجه نحو الهدوء والتفاهم مع الطرف الأخر في السلطة . رشح لقيادة الحزب شخصان نجا من الاعتقال والموت عزيز محمد وعبد السلام الناصري ( أنور مصطفى ) ، ورغم أن الأول رفض ترشيحه أدراكاً منه بضعف أمكانياته الفكرية ومؤهلاته القيادية , لكن كانت ورقته هي الراجحة لرغبة سوفتية تماشياً مع الوضع السياسي العالمي نحو المساومات وبما يمتاز به عزيز محمد من تسووية وتوفيقية وأرضاء الخواطر على مصالح المباديء والعمل الثوري ، فاصبح عزيز محمد سكرتير للحزب من العام ١٩٦٤ الى أيام المؤتمر الخامس ١٩٩٣ ، حقبة تاريخية مهمة تعرض خلالها الحزب الى ردة فكرية ووطنية وضعف في مواجهة الانعطافات كحزب ثوري .
في المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي العراقي العام ١٩٩٣ أصبح حميد مجيد موسى سكرتيراً للجنة المركزية للحزب وفي فترة عصيبة من تاريخ العراق وتهديد كيانه أي نسفه من خلال جريمة الحصار والأطاحة به مرحلة يتوجب على الوطنيين بها دراستها وأستخلاص دروسها .
في المؤتمر العاشر في العاصمة بغداد العام ٢٠١٦ ترأس رائد فهمي سكرتارية اللجنة المركزية للحزب فدشن تاريخه بسابقه خطيرة من التحالفات الخطيرة مع قوى مظلمة وطائفية وخطيرة في تاريخ العراق السياسي الحديث وأدخله في نفق مظلم .

محمد السعدي
مالمو / حزيران ٢٠١٩

95
عامر السعدي .. ذاكرة وطن .
نحن لا نملك أسلحة التدمير الشامل ، وسيثبت التاريخ صدقي . هذا التصريح الخطير ، الذي أعلن عنه أحد بناة القوة العلمية الهندسية العراقية في مطلع ستينيات وسبعينيات القرن الماضي الفريق عامر السعدي ، في لحظة حرجة من تاريخ العراق السياسي , والتي شكلت لاحقاً مفصلاً خطيراً على مستقبل وطن وأرض وشعب . 
 
 في يوم ١٢ نيسان ٢٠٠٣ في بغداد المحتلة سلم نفسه العالم عامر السعدي الى قوات الاحتلال الامريكية بعد ما ظهر أسمه في قائمة أكثر العراقيين المطلوبين ، وترتيبه السابع في الفئة الماسية من شدٌة لعبة الأوراق سيئة الصيت ، أنه الرقم ٣١ . كان عامر السعدي مستهدف من أكثر من جهة مخابراتية لتصفيته بأعتباره من أحد رموز العراق العلمية ، فذهب وسلم نفسه الى قوات الاحتلال ، وطلب من محطة التلفزيون الالمانية ( ZDF ) في مرافقته وتصوير أستسلامه مع زوجته الالمانية الاصل هيلما السعدي ، وأعلن أمام الكاميرا رسالته الواضحة الى العالم كذب وأدعاء الادارة الامريكية في أمتلاك العراق أسلحة دمار شامل لغرض أحتلاله وتدميره ، وأضاف أنه لم يشعر بالندم بأي شكل من الاشكال ، كنت أخدم شعبي ووطني ، وسأبقى طالما بقيت حياً. كتب قبل بدأ الغزو بيومين رسالة الى رئيس المفتشين الدوليين ( رولف إكيوس ) ، السويدي الأصل ، يعلن بها موقفه الرسمي من أحتلال العراق وكذبة أمتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل لغرض أجتياحه وتدميره .
ويعترف البرادعي أحد عرابي الاحتلال وتدمير البلد في مذكراته لاحقاً أن أستنتاجنا الأولي بصدد الأسلحة النووية كان صحيحاً ، لأنه لم يكن لعامر السعدي سبب للكذب . ويضيف معلقاً على رسالة عامر حمودي حسن السعدي كانت أدانة صارخة تجاه كذب أدعاءتنا . والسعدي الذي ينتمي الى أعرق الأسر الشيعية ، ولد يوم ٥ أبريل العام ١٩٣٨ ، ودرس الكيمياء في المانيا ونال شهادة الدكتوراه في لندن ، قاد أصعب المفاوضات السياسية العلمية في تاريخ الأمم المتحدة من أجل أنقاذ بلده من الاحتلال . اليوم يعاني من شلل تام في مدينة ( هامبورغ ) الالمانية ويحظى برعاية خاصة من زوجته الالمانية هيلما السعدي ، تزوجا العام ١٩٦٨ بعد علاقة حب عاصفة ، وطرد من الجندية لزواجه من أجنبية ، وأعيد له الاعتبار في السنوات الاخيرة قبل الاحتلال برتبة فريق في  سلك الجيش العراقي ، لحاجة العراق له في البناء والعلم والتطور ،  وهو من ساهم بأعادة بناء مشاريع الماء والكهرباء والمجاري والجسور بعد أن دمرتها غارات الطائرات الحربية للعدوان الثلاثيني على سيادة العراق بذريعة نظام دكتاتوري وقائد أرعن والتي بلغت مئة ألف غارة على العاصمة بغداد في مطلع التسعينيات ، وتم أعادتها بوقت قياسي وبكلفة ٢٠٠ مليون دولار مما عجز عن تحقيقة خلال ١٧ عاماً ساسة العراق الجدد . لعبت زوجته دوراً مهماً في أطلاق سراحه من زنزانته الفردية في بناية المطار من خلال اللقاءات والمناشدات الى المؤسسات المدنية ومنظمات المجتمع الدولي . وأنجبت له ثلاثة أبناء ولدان قيس وعدنان وبنت ميريام .   

يذكر ذلك جعفر ضياء جعفر، ونعمان النعيمي في كتابهما المشترك ( الاعتراف الأخير ) .
ويعرض الباحثان ( حقيقة البرنامج النووي العراقي ) الذي ساهما فيه مع أكثر من 8 آلاف عالم ومهندس وتقني يمثلون النخبة العلمية والفنية للبلد.
أسماؤهم وألقابهم وتخصصاتهم تعكس فسيفساء الأديان والأعراق والمذاهب والطوائف والجامعات والأكاديميات التي أعدت آلاف الكفاءات العراقية.  والتقى في (البرنامج الوطني) هدف تحقيق (الكتلة الحرجة) والتي تعني بلوغ (المادة الانشطارية) اللحظة اللازمة لإدامة الــــتفاعل المتسلسل للمفاعل النووي، والتي تغذي نفسها ذاتياً ، علمياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً ، وتنقل العراقيين إلى المكانة التي يستحقونها في مصّاف الدول المتطورة .


أستغرب بأندهاش ساكني الحي الهاديء وجيران العالم العراقي عامر حمودي حسن السعدي أثناء أقتحام بيته من قبل الشرطة السرية الالمانية بعد أحتلال العراق حول مكانة ودور هذا الرجل بما كان يتمتع به بالمقابل من تواضع وعلاقات طيبة مع أهالي حييه وجيرانه ، وهو يشغل هذا المركز المهم والدور الذي يضطلع به كبير المفاوضين العراقيين مع هيئات المجتمع الدولي ( أمريكيا ) ، لانقاذ العراق من محنته ، والتي أدت به في نهاية المطاف بتدميره . في تغريده سابقة للشاعر سعدي يوسف أعتبره ( أسطورة عراقية وطنية ) .
أقتربنا بمرور ١٧ عاماً على أحتلال العراق ، ومازالت هناك أسرار لم تظهر بعد على حجم التأمر والتدمير الذي لحق بالعراق والعراقيين ، والدور المخابراتي القذر الذي لعبته ما يسمى لجنة المفتشين الدوليين في تسويق مشروع الحرب على أدعاءات غير واقعية كذبة أمتلاك العراق أسلحة دمار شامل ، ولم تبادر أي جهة سواء ، كانت عراقية أو عربية رسمية أو أهلية في أستنطاق العالم الفريق السعدي في مطرحه بمدينة ( هامبورغ ) الالمانية حول ما حدث ، كان بمثابة زلزال هز أرض المنطقة برمتها وبأعتباره من كبار المفاوضين العراقيين ومسؤول الملف النووي ومستشار علمي لصدام حسين ، فهو خزين أسرار ومواقف تشكل جزء مهم وفعال من تاريخ العراق السياسي ( العلمي ) .

نشر في جريدة الزمان العراقية  في يوم ٧ أيار لسنة ٢٠١٩ مادة بعنوان  ( لا تُعجِّل بالرحيل يا عامر السعدي ) لمحمد كامل عارف .
 
(زوجي الدكتور عامر السعدي مريض جداً ولا يستطيع قراءة مقالاتك، لذلك آسف لأن أسألك رفع اسمه من قائمة بريدك، وشكراً، مع التقدير الكريم، وأطيب التمنيات بالعيد السعيد. هيلما السعدي).
لم أصدق هذه الرسالة المقتضبة بالإنكليزية، رغم أنها مرسلة من العنوان الإلكتروني الشخصي الذي أتراسل عبره مع السعدي منذ غادر العراق...
وكيف أصدق ذلك، وأنا أتوقع منه في كل وقت رسالة عن سير العمل في مذكراته التي تتناول أخطر الصفحات المجهولة في تاريخ العراق الحديث ) .


فكرة الملف النووي العراقي ، ليست جديدة , حيث وضعت اللبنات الأولى لها في زمن النظام الملكي في مطلع الاربعينيات من القرن الماضي ، وفي رحيله يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ , وضع الزعيم قاسم في أولويات أهتماماته , لكون موقع العراق المهم والمحصور بين دولتين من الشرق أيران ( الشاه ) ، وعلاقاته الدوليه وسعي الدائم لبناء منظومة صواريخ متطورة ، ومن الغرب أسرائيل وأمتلاكها الرؤوس النووية وصراعها مع الجيران وأحتلال فلسطين ، لم تكن أمكانيات العراق أنذاك على كافة الأصعدة كافية ولا تسمح له بتطوير تلك الاسلحة بالسرعة حتى البطيئة . في مطلع السبعينيات ومجيء حكومة البعث وتأميم النفط وتدفق عوائده اليومية ، أستفاد منها حكام العراق لبناء مفاعل نووي عراقي بخبرات أوربية وبملاكات محلية وطنية من علماء وخبراء ، الذين بعثوا للدراسات بخصوص هذا الشآن ، لكن حكومة البعث أساءت في أستثماره ، حيث جيٌر سياسيا مما تحول الى شؤوم وأساءة الى البلد وأهله ، ودفع العراقيين ثمناً كبيراً في حياتهم وعيشهم جراء سوء أستخدام هذا الملف … الملف النووي العراقي .

محمد السعدي
مالمو / آيار ٢٠١٩

96
مهمة من بغداد .Mats Ekman . ( ح ٨ ) .

البعثيون … في أستيلاهم على السلطة ، أي عودتهم ثانية العام ١٩٦٨ وفي تداعيات وضع سياسي مربك ، الوضع الداخلي والصراع الدائر بين الاحزاب حول الظفر بكرسي الحكم ونتيجة وضعهم الصعب وخوفهم من فقدان هيبة الكرسي ثانية ، ألتجأؤوا الى مغازلة الشيوعيين رغم حمامات الدم بينهم ، كانت مازالت دماء الشيوعيين ملطخة على حيطان اللجنة الاولمبية وسراديب قصر النهاية ومركز المأمون بمشاركتهم برجلي الكرسي من أجل تثبيته ، حيال خطوات ونيات أراد بها البعثيين التخلص من عقدة الماضي الدموي في الذاكرة الشعبية العراقية . تمكنوا وبسرعة قياسية من بناء منظومة قمع كاملة بميزات وخبرات متفردة في التعامل مع الملفات الأمنية لقوى وتحركات خصومهم السياسيين ، وملفات دول الجوار .
كانت أجهزتهم القمعية تتعامل مع قوى المعارضة بنفس طويل وهاديء , وينم عن تجربة وتخطيط وتوجيه ودراسة , ومن خلال تجربتي البسيطة والمحدودة في العمل الحزبي السري ، كانوا يتعاملون معنا بدراية ومعرفة حيث يتابعوا الخطوط الحزبية الى آخر نفس ، حتى وأن فلتت من بين أياديهم ، ومتابعة الرفيق الناشط ، أي يصبرون عليه ويتحملون تحركاته وعلاقاته وأن كانت مؤذيه لهم ، لحين معرفة كل خطوطه وتحركاته ولا يعني شيء لهم أذا أختفى عن دائرة سيطرتهم وتمكن من تجاوز الحدود أو ألتحق الى الجبل مع الثوار حامل السلاح ضدهم .
كان موضوع الاندساس ودس رجالهم داخل تنظيمات القوى المعارضة لهم ، من أولويات أجهزتهم القمعية والامنية داخل قوى المعارضة لتفتيتها من الداخل ، وفعلاً أخترقوا بعض التنظيمات وجندوا قادة وكوادر ، ومنهم ما زالوا يعملون ويزاودون للتغطية على ضعفهم في الهجوم على المناضلين وألحاق الحيف بهم ضمن وضع عام مربك وخطير .

بعد سقوط  نظام البعث في العراق على يد الاحتلال وعملائه ، روى لي رفيق ( عتيق ) بالنضال والعمل السري ، العمر المديد له من نهاية الخمسينيات الى أيام سقوط البعث نيسان العام ٢٠٠٣ ، وفي هذا الشهر والسنة بادر بعض الشيوعيين  من خلال تلقيهم معلومات مهمة عن مكان ملفات الشيوعيين المخبأة وقصص أعتقالهم في وضع أمني وسياسي متداعي  ، تمكنوا في الاستيلاء على أرشيف مديرية المخابرات العامة المدفون في مخازن الأسواق المركزية في المنصور ، وكانت الاوراق التي تخص أرشيف حزبنا الشيوعي يقدر وزنها الى ( طن واحد ) من الاوراق المنضدة والمرقمة ، نقلت بعناية الى مقر الحزب العام الجديد في ساحة الأندلس ، وكان الحديث الشائع أن تنقل الى مدينة شقلاوة في بيوت الشيوعيين وتختار لجنة للتدقيق في المعلومات والاسماء وتشخيص المتعاونيين ، ولكن الذي حدث خارج أرادة العقل والمنطق والضمير، حيث شاهدوا تلك الوثائق في اليوم الثاني تحترق في ساحة متروكة خلف مقر ساحة الأندلس ؟ .

يروي ماتس إيكمان على صفحات كتابه ( مهمة من بغداد ) ، حول حياة ضابط المخابرات العراقية ماجد عبد الكريم في السنتيين الاولتين من وصوله لمملكة السويد ، حاول تهديد المخابرات العراقية بفضح ملفاتهم من خلال أعطاء معلومات عنهم لحكومة السويد , وذلك أعتقاداً منه سوف يخلص عائلته من الخطر ويحررهم من قبضة النظام العراقي في بغداد ،  هدد بفتح ملف الحرب ، ومن بدأ بها ، وكيف ، وعن تجهيزات العراق للحرب ، والعلاقات الدولية ضمن هذا الأطار ، والدول المانحة والداعمة لمشروع الحرب ، والحديث عن موقعه داخل جهاز المخابرات والمهام التي كلف بها ، وحيثيات أسرار أعدام رجل الدين الشيعي محمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة العام ١٩٨٠ ، وقربه من عملية الاغتيال ضمن المجموعة التي أشرفت على التحقيق معه وتعذيبه ومن ثم أعدامه ، كما تحدث قبل أسبوع من مقتله من أعطاء المخابرات السويدية وعد له بمنحه اللجوء السياسي ، أذا أدلى بمعلومات عن نشاط المخابرات العراقية في السويد وأوربا ، كما ذكر من خلال تصريحاته لاحدى الصحف مقابل ٦٠٠٠ دولار أمريكي . في بداية قدومه الى السويد سكن بشقة مشتركة في أستوكهولم مع شخص عراقي أسمه ( مراد ) ، وكانت فاتورة التلفون للخط الارضي للشقه ب ٤٣٠٠٠ كرونه سويدي ، في الوقت الذي كان راتب ماجد عبد الكريم ب ١٤٠٩ كرونه سويدي ، في الوقت ذاته وصل له مبلغ من جهة مجهولة ب ٤٠٠٠ دولار ، الاعتقاد السائد أنذاك أن هذا الثمن مقابل تسريب معلومات الى صحف وقنوات ، أي بيع معلومات سرية الى جهات مختلفة ومجهولة . كان القتيل ماجد عبد الكريم يقضي جلٌ وقته مع صديقه مراد وبعض العراقيين في منطقة ( Märsta ) في أستوكهولم ، في خضم تلك الاحداث زار ماجد عبد الكريم السفارة الانكليزية في العاصمة السويدية من أجل منحه فيزة الى لندن ورفض طلبه . كما أن ماجد عبد الكريم ، كان يرتاد النوادي الليلية في العاصمة السويدية ، وفي أحدى الحفلات ألتقى بأمرأة سريانية أسمها ( ماريا ) ، وأقام علاقة عاطفية معها ، وحدثها عن خلفيات علاقاته مع الحكومة العراقية ومشاكلها ، لكن ماريا شكت به وبأحاديثه ، وحاولت مرة التفتيش في أغراضه وملابسه عندما كان في الحمام ورأها وقتها ، لكنها وضحت له ، أنها تشك به أذا كان على علاقة مع أمرأة أخرى . بدأ ماجد يزداد قلقه يوماً بعد يوم من وجوده في السويد ، وكان مع صديقه مراد عندما يخرجوا من الشقة يتركوا علامات في باب الشقة وزواياه للتأكد من أن لم يدخل أحد الى الشقة في غيابهم ، ودائما كان مراد يدخل الى الشقة أولاً ، من أجل أطمئنان أكثر  .
في شهر أيلول من العام ١٩٨٤ قاموا بسرقة ستة بناطيل بقيمة ٧٧٤ كرونه سويدية في سنتر ( سودرمالم ) من محل (  H.M ) ، هنا الجالية العربية في السويد تطلق على تلك المحلات ( حجي محي ) . المدعي العام في محكمة سويدية صدر حكم بحقهم بتاريخ ٢٩ آذار ١٩٨٥ ، وفي يوم أصدار القرار ، كان ماجد عبد الكريم مقتولاً ، أما صديقه مراد ألقي القبض عليه بسرقه أخرى في محل ( Domus ) في منطقة ( Kista ) ، بتاريخ ١٧ تموز ١٩٨٥ . روى عن ماجد عبد الكريم أنه ألتقى بشخص أسمه عصام خضير الجميلي في العاصمة السويدية , وقال لصديقه مراد ، أن هذا الشخص خطر جداً ، ووقتها عرف أن فاضل البراك مدير المخابرات وضع ماجد عبد الكريم في لائحة خاصة لقتله .

محمد السعدي
مالمو / آيار ٢٠١٩ .


97
مهمة من بغداد . Mats Ekman . ( ح ٧ ) .

في أتصالاتي المستمرة مع الكاتب ( ماتس إيكمان ) صاحب كتاب ( مهمة من بغداد ) توصلنا الى أتفاق أولي أن يكون ضيفاً على مؤسسة بيدر في حوار مفتوح حول طيات كتابه وتداعياته في أوساط العراقيين , من حيث المبدأ رحب بالفكرة وأبدى موافقته الأولية , فقط متوقفه على آلية التنفيذ ضمن الوقت المسموح به للطرفين .
سيكون حوار مباشر مع النخب العراقية في تداول المعلومة ومدى واقعيتها وردود الافعال حولها والتي مازالت تشغل مساحات ليس قليلة من أهتمام العراقيين في داخل العراق من خلال البيانات الاولية في قراءة ومتابعة تفاصيل الكتاب .

ذكر فلاديمير إيليتيش لينين مفجر ثورة أكتوبر ١٩١٧ في معرض حديثه على ضوء مؤتمرات البلاشفة الشيوعيين حول طبقة المثقفين ( الانتليجيسيا ) يصفهم هم الاكثر قدرة على الخيانة لأنهم قادرين على تبريرها .
في تجربتنا العراقية القريبة الأرعن ( بوش الأبن ) وحملته على العراق تحت قانون تحريره السيء الصيت وقع ما يقارب ٥٠٠ مثقف عراقي في تأييد على تلك الوثيقة ( العار ) بتدمير البلد  . ومازال المشهد يكرر يومياً في عراقنا وما أريد أن أفيض في ذكر وقائع حقيقية يومية لا تطاق في تدمير مجتمع كامل , تستهدف الانسان هو نفسه وسط صمت مرعب من قبل الشريحة الواعية في المجتمع والاحزاب العلمانية واليبرالية والمؤسسات المدنية وما تسمى بهتاناً الاتحادات والمنظمات الديمقراطية  , مازالت بدون مراجعة نقدية تذكر, أمام قدرات تدمير البلد , نحن بشر , والبشر بطبعهم خطاؤون , على حد تعبير فولتير . 

يروي ماتس أيكمان في كتابه ( مهمة من بغداد ) . بعدما دفن ماجد حسين في العاصمة ( أستوكهولم ) بثمانية أيام قتل أولف بالمه رئيس وزراء السويد المشهود له في مواقفه مع قضايا الشعوب نحو الحرية والتحرر , وفي الحقيقة هو قتل بعد عام من مقتل ماجد حسين , لكن الاحتفاظ بالقتيل لمدة عام تقريباً في ثلاجة أحدى المستشفيات في العاصمة السويدية لأجل أكمال التحقيقات حوله قتله وملابساته والجهات المنفذة , ومازال ملف الجريمة مفتوحاً أمام لجان سويدية قانونية وأمنية مختصة .
ماجد حسين ولد في يوم ٢٧ أكتوبر العام ١٩٥١ والده كان ضابط كبير في الجيش العراقي تقاعد العام ١٩٨١ عن سلك الجيش العراقي لأسباب تتعلق بوضعه الصحي . أنتسب ماجد حسين الى تنظيمات حزب البعث العام ١٩٦٦ , بعدها دخل دورة مخابرات سرية العام ١٩٧٤ في مطار بغداد , ومن ثم فيما بعد أرسل الى دولة يوغسلافيا في زمن الرئيس ( تيتو ) للتدريب على أساليب وطرق المخابرات في التعامل وملاحقة وقتل خصومه .
عند وصوله الى العاصمة السويدية وطلبه اللجوء السياسي , أدعى أنه من المساهمين في أحداث ١٩٧٩ في معارضته لتسلم صدام حسين دفة الحكم من الاب القائد أحمد حسن البكر فيما عرفت فيما بعد بمجزرة قاعة الخلد الشهيرة , والتي راح ضحيتها مجموعة من أعضاء وكوادر حزب البعث ( العقائديين ) أن صحت التسمية , بذريعة مؤامرة على رفاقهم والتخاطب مع دولة جارة وشقيقة . مهامه المخابراتية وتحركاته للقتيل ماجد حسين كانت محصورة ومحددة له في أوربا , ولكن بمعزل عن دول أسكندنافيا .

ماجد حسين كان مع صدام حسين وبعض رفاق القيادة من ضمنهم طارق عزيزعندما سافروا الى المملكة العربية السعودية بطائرتين يومها ألتقوا بالعائلة المالكة في أحدى القواعد الامريكية وضمن ماطرح في الاجتماع موضوعة الحرب العراقية / الايرانية وتداعياتها العربية والعالمية أن وقعت . كان مسؤول ماجد في العمل المخابراتي برزان التكريتي الاخ غير الشقيق لصدام حسين , والذي كان مدير المخابرات العراقية آنذاك. وبعد أربعة أيام من نشوب الحرب بين الجارتين اللدودتين الاسلامتيين تلقى ماجد حسين آمراً بالانتقال الى دولة الكويت برفقة ضابط آخر يدعى جبار عبد الراضي الموسوي للعمل سويةً في محطة المخابرات العراقية في دولة الكويت , وجبار من أهالي الكاظمية وهو شيعي والده أسمه عبد الراضي , كان ناشطاً دينياً , لكنه كان يعمل لصالح المخابرات العراقية تحت الغطاء الديني , حيث كان له علاقة مباشرة مع سبعاوي أبراهيم الاخ غير الشقيق للرئيس صدام حسين . عندما غادروا الى الكويت من بغداد بسيارة مارسيدس تابعة لجهاز المخابرات العراقية ووصلوا أراضيها لم يبلغوا بطبيعة مهمتهم والمهام الملقاة عليهم , في الكويت وبعد أيام من وصولها تلقوا التعليمات وطبيعة مهامهم على الاراضي الكويتية . الأمر الاول كان أعطاء معلومات كاذبة ومظللة عن عدد ومكانات الطائرات العراقية وقدراتها لرجل دين شيعي يعمل مع المخابرات الايرانية في الكويت وبدوره أعطائها الى السلطات الايرانية , تحسباً لاستهدافها في حالة نشوب الحرب .

في الكويت ألتقوا برجل يدعى ( عبد ) يعمل في السفارة العراقية ومسؤول محطة المخابرات في الكويت . أعطى هذا الرجل آمر لماجد حسين بأخذ أربعة لترات ويسكي وصندوقين بيرة لأحد العملاء الكويتيين الذي يعرفه ماجد لانه هذه لم تكن السفرة الاولى له , حيث سبقتها سفرات ومهمات سريعة , فكان ملماً بتفاصيل عدة حول العمل والتحركات والعلاقات في الكويت . وقال رجل المخابرات عبد الى ماجد حسين (( سوف تعرف غداً لماذا أعطيتك الويسكي والبيرة )) ؟.
برزان التكريتي أتصل من بغداد وآمر رجل المخابرات ( عبد ) , أن مهمة ماجد حسين سوف يشارك بعملتيين الاولى هي قتل القنصل الايراني في الكويت وذلك خلال حضوره في أحدى ملاعب كرة القدم في بطولة أسيا . ومهمة ماجد حسين في العملية هي تسهيل دخول المنفذين الى الملعب عن طريق الجاسوس الكويتي الذي منحوه الويسكي والبيرة .

العملية الثانية لمهمة ماجد حسين هي تفجير أنبوب نفط كويتي وأعطاء فكرة وبث الاشاعة عبر عملائهم أن المنفذين أيرانيين وذلك عن طريق أستعمال السلاح الايراني في العملية وآمرهم برزان بقتل المنفذين بعد تنفيذ العملية بنجاح لابعاد أي أحتمال سيء يتهم العراق به وأحراجه أمام المجتمع الدولي .

رفض ماجد حسين بتنفيذ العملية الثانية ولذلك حسب أدعائه لعدم تلقيه الأوامر قبل الذهاب الى الكويت , وبلغ بوضوح أذا لم ينفذ العملية يحول ملفه الى حاكمية المخابرات العامة في شارع ٥٢ في بغداد بتهمة عدم تنفيذ الأوامر وبعد أن عصي عن التنفيذ بلغ بعودته حالاً الى بغداد , وبعد تلقيه هذا الآمر قرر ماجد حسين بعدم العودة الى بغداد وهروبه الى أوربا ووجهته كانت مملكة السويد , الذي ألقي مصيره الآخير في عاصمتها  .

محمد السعدي
مالمو / آيار ٢٠١٩

98
مهمة من بغداد . Mats Ekman . ( ح ٦ ) .
في أكثر من محادثة تلفونية مع الكاتب ماتس إيكمان صاحب كتاب ( مهمة من بغداد ) . كان في البدء متوجساً في الحديث معي بتوجيه اللوم نحوي باعتقاده الشخصي أو ضمن المعلومة الخاطئة  التي تسربلت له وهي .. أنا من قمت  بترجمة كتابه بدون الرجوع له وأخذ موافقته حسب أصول دور النشر والطبع والقوانيين المعمول بها ضمن العمل الطباعي والنشر وحقوق الناشر ودار النشر , وبعد أن شرحت له , أنا لست بمترجم , وأنما بادرت بقراءة نقدية وبمثابة أستعراض حول ماهية الكتاب والمعلومات المنشورة على جنباته من واقعيتها والسقطات التي تخللته من مبالغات من جملة أحداث مهمة , وكوني عراقي وسياسي ويعنيني هذا الآمر . لهذا توقفت عند محتويات كتابك ( مهمة من بغداد ) لتسليط الضوء على بعض التفاصيل المهمة لاطلاع القاريء العربي عليها .

الكتاب رغم أهميته في كنز المعلومات التي يحويها على صفحات جنباته , لكن هناك سقطات من المعلومات على صفحاته بعيده عن الواقع ومبنية على أفتراضات أساسه الأشاعات والأخطر في تكذيب الاشاعات أو بعض المصادر المبالغ بها رغم أعتماد الكاتب بمادته الاساسية على مديريات مهمة وخطيرة في مملكة السويد المخابرات السويدية سيبو ( Säpo ) . ووثائق في وزارة الخارجية السويدية المتعلقة بالملفات الامنية والعلاقات في السلك الدبلوماسي . شغل الكتاب حيزاً ليس قليلاً من الاهتمام والمتابعة والقراءة والمساءلة وتحديداً في أوساط العراقيين المعنيين بشؤون بلدهم وقضاياه وصناديقه السوداء , والتي ظلت مغلقة ومحظورة لسنوات طويلة من عمر الدكتاتورية  . 
أرادت أكثر من دور نشر عراقية في طبع الكتاب وترجمته , لكن يبدو لي ومن خلال متابعاتي أصطدمت بشروط الكاتب وطلباته المادية الخيالية وطموحه الامتناهي في الحصول على المال , وكان أخرها في مدينة أربيل بمبادرة من دار نشر هناك بترجمة الكتاب الى اللغتين العربية والكردية . وذهب الكاتب ماتس الى هناك لغرض توقيع العقود والبدء بالعمل ومنح مبلغاً من المال ليس قليلاً لكنه لم يرضيه فطلب مبلغاً مبالغاً به حسب تلك المصادر وفي الأخير تدخلت جهات عليا مسؤولة في مدينة أربيل , لكنها لم تفضي الى أتفاق نهائي , وأنتهى المشروع بالفشل .

وفي تقدير الكثير من المتابعين للشأن العراقي يتطلعون الى ترجمة هذا الكتاب وأظافته الى المكتبة العربية ليكن مصدر مهم وأظافي في المعلومة والدراسة والقراءة , وحقاً هذا الكتاب يعد مصدراً مهماً لرصد نشاطات المخابرات العراقية لبقايا النظام السابق في الخارج وكشف وفضح من أرتكب الجرم والأذيه وتطفل على حياة الناس الهادئة مشكلاً لهم ولمحبيهم الازعاج والخوف ولا يزالوا بعيدين عن أيادي العدالة وخاصة في البلدان الذي أستقروا فيها كلاجئين سياسيين أو أنسانيين مستغلين أحزاب المعارضة ومؤسساتها وجمعياتها الهشة في الانضمام اليها وتحت ظلها في حماية تاريخهم العتيق في النذالة بتصعيد العداء نحو الأخرين في التوجه الى مهاجمة المعارضين الحقيقيين للنظام السابق الذين كانوا جزء منه ومن ماكنته القمعية لغرض تزكيتهم من قبل تلك المنابر الركيكة والمشرفين عليها . بل ان كثير منهم يحتلون حالياً مواقع مهمة في مايسمى الدولة العراقية من سفراء , ضباط في الاجهزة الامنية ضمن قانون الدمج ورتب عسكرية بالجملة ضمن المحاصصات بين الاحزاب والكتل تحت أمرة الاحتلالين الامريكي والايراني , موظفون كبار في مواقع وزارة الخارجية العراقية والأجهزة الاخرى . 

لاينسى العراقيون تلك السنوات العصيبة والتي مروا بها مراراً وتكراراً منذ نهاية الخمسينات الى يومنا هذا من سنوات قحط وعوز وظلم ورعب كلفتهم أثمان كبيرة في الارواح وقلق دائم وزكم العيش , حيث مرت عليهم سنوات غيبوا بالكامل وغيب وعيهم الجمعي من أثر قسوة الحصار وأثاره وسياسة قمع النظام ومازالت الى وقتنا الحالي المعاناة مستمرة من خلال الأدمان على  رداء البكائيات . 
ومن خلال مروري على شكل حلقات لمحتويات الكتاب ( مهمة من بغداد ) وزخم المتابعين والمهتمين للاحداث , يؤكد عطش العراقيين لمعرفة فترات مظلمة مروا بها خوفاً من بطش النظام وسياسته العدوانية تجاه شعبه ووطنه . الملاحظ منذ صدور الكتاب في نهاية ٢٠١١ في العاصمة السويدية ( أستوكهولم ) وكتب ومصادر أخرى محط أهتمام شريحة واسعة وكبيرة من مجتمعنا العراقي . أذن هناك تحول في العقلية العراقية بنبش التاريخ مجدداً وبقراءة متأنية  .
في عشية الاحتلالين الامريكي والايراني لأرض العراق الوطنية , أستولت وزارة الدفاع الامريكية ( البنتاجون ) على ٤٨ ألف صندوق من الوثائق , ووضعت وكالة الاستخبارات الامريكية ( سي آي ايه ) يدها على ملايين الأوراق , كما فعلت الاحزاب السياسية العراقية فضاعت تحت ألغام أجندتها الطائفية وصراعات الطوائف , ليس مثلما حدث في المانيا بعد هزيمة هتلر وجيشه وأعلامه , حيث تم أختيار لجنة مهتمة ونزيهة ومحايدة لمعالجة وثائق الشرطة السرية ووضعها في نصابها الصحيح لخدمة الشعب الالماني مما أنعكس على بناء المجتمع ومقومات أقتصاده وغلبت روح التسامح والسلام والعفو على لغة الثأر والانتقام .

ماتس إيكمان يطرح في كتابه جملة تساؤلات حول تقاعس وغض النظر من قبل الجهات السويدية المعنية في حماية الناس الهاربة من جحيم الدكتاتورية وفي الحد من نشاط المخابرات العراقية وهذا يرجح الى مستوى التعاملات والعلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين وفق المصالح الضيقة على حساب حرية الناس وحمايتهم . يشير الكاتب في كتابه الى أنه المخابرات السويدية بحثت طويلاً في أجتماع محمد سعيد الصحاف برئيس وزراء السويد ( أولف بالمه ) في العاصمة السويدية قبل يوم واحد من أغتياله عام ١٩٨٦ . كانت الدكتاتورية تقبض بقبضة حديدية على أرادة ومشاعر الناس الى حد الخوف من خيالهم . في العام ١٩٨١ المكان الاداب / جامعة بغداد وفي اليوم الذي تلاه من خروج صدام حسين على شاشة التلفزة العراقية ليعلن عن خيانة وزير الصحة العراقي ( رياض حسين ) وعقوبة الاعدام لاستيراده أدوية مسمومة لجرحى الحرب العراقية / الايرانية , حدثتني زميلتي في الاداب أنعام هنيدي أنكاته حول خيانة الوزير والدعوة الى أعدامه ليكن عبر لمن أعتبر . نحن العراقيون ماهرون في صنع الاشاعة والترويج لها , وهذه تمتد لسنوات غابرة من التاريخ , النظام العراقي تمكن من توظيفها وأستغلالها لاجندته الخاصة .

محمد السعدي
مالمو / أذار ٢٠١٩ . 



99
مهمة من بغداد . Mats Ekman  . ( ح ٥ ) .

النظام العراقي السابق بنى منظومته وأجهزته المخابراتية بأموال طائلة درت على العراق في مطلع السبعينيات من عائدات النفط بعد تأميمه من الشركات الاحتكارية , وهذا جاء منسجماً مع عقلية وسياسة النظام ونهجه في الحكم واساليبه في أدارة دفته . في تجربة شخصية لي العام ١٩٨٧ . كنت معتقلاً في بناية الشعبة الخامسة التابعة الى مديرية الاستخبارات العسكرية لانتمائي الشيوعي , وكان الذي يجري تحقيقاً معي في ساعات متأخرة من الليل الموحش والمخيف ( خليل العزاوي ) , وكما عرفت لاحقاً ومن خلال الوثائق التي سربت بعد احتلال العراق , كان رجلاً مهماً ومدير الاستخبارات العسكرية في لحظات الخوف والموت بدهاليز الشعبة الخامسة , ما اعرف الى الان كيف لاح أسمه لي أنه أحمد العزاوي وليس خليل . هناك أطنان من الوثائق تركها النظام مركونه ومغبرة في دهاليز الاعتقال والموت فسيطر عليها الامريكان في دوائر القمع وسلموها الى الاحزاب التي أتت تحت أجنحتهم تحوي على أسرار وصفقات وعمالات خطيرة تهم عمل المعارضة العراقية السابقة وحجم الاندساس ووكلاء أمن ومخابرات واستخبارات داخل تنظيمات أحزاب المعارضة وممن تبوأ مراكز قيادية مهمة وشاركوا في اعدام ناس وتحطيم عوائل كاملة وتدمير عقلية مجتمع كامل وهو يئن تحت سيطرة الخوف والرعب مما حطموا من بنائه الداخلي في قوته الايجابية وبناء مجتمع سليم ومعافى  .. لماذا لم تطالب منظمات مجتمع مدني ودوائر حقوق أنسان ولجان نزاهة وأحزاب سياسية بالإفراج عن تلك الوثائق  المخفية وفضح محتوياتها الخطيرة امام الملأ ؟؟. في مساء يوم صيفي رطب , كنت منهكاً من اليوم الذي سبقه وما لاقيته من تعذيب وحش ومرعب , نقلت الى مديرية الأمن العامة وفتحوا معي أضبارة جديدة بتحقيق جديد لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب باساليب ورعب ومعلومات التحقيق في الشعبة الخامسة في مدينة الكاظمية , فكانت ألية وعمل تلك الاجهزة مركبة على بعضها وتسعى كل واحدة منها على حساب الاخرى بتحقيق انجازات على حساب قتل الانسان . فهذه التركيبة المخابراتية المعقدة في أليات عملها وتحركاتها أمتدت الى محطاتهم المزروعة في دول العالم . فاكثر من جهاز ومديرية تتحرك على أرض بلد معين ولا هناك تنسيق بينهم بل لايسمح أن يتعارفوا على بعضهم , وان تمت ذلك سوف يقومون باجراءات التنقلات اللازمة لتفادي الفضيحة . مره سألت رجل الاستخبارات العسكرية علي منصور الدايني في مدينة مالمو عن موقع الكاظمية ففادني أن في هذا الموقع توجد فيه ١٦ شعبة من مجموع ١٧ شعبة تابعة للجهاز ولم نعرف بعضنا بل لايسمح لنا بإقامة علاقات مع بعضنا وهذا ضمن القسم الذي قسمنا عليه في انتمائنا للجهاز , إضافة الى ذلك في حالة تسريب أي معلومة مهما يكن حجمها أو يبلغ ضررها ستلاقي عقوبة الإعدام في حالة افشائها .

بعد أن قضيت أيام من التعذيب والخوف في مديرية الامن العامة أعادوني ثانية الى بناية الشعبة الخامسة في مدينة الكاظمية وبنفس الزنزانة رقم ثلاثة , ألفت تلك البطانية السوداء ودبيب القمل عليها , وبعد أن أنهوا مجريات التحقيق الأخيرة معي في بناية الشعبة الخامسة ونتائجها التي لم ترضيهم من مؤشرات تهديدهم لي بسحقي وقتلي مع أهلي , بعد فترة قصيرة  أحالوني الى ( محكمة الثورة ) السيئة الصيت مع مجموعة يقدر عددهم ١٢ معتقلاً من تنظيمات حزب الدعوة , نقلونا من بناية الشعبة بسيارة مغلقة ومظلله مقيدي الايادي بسلاسل حديدية كل معتقلين مع بعض ومعصوبي الأعين , كانت مجموعة جاسم ونهاد مما تختزنه ذاكرتي من أسماء , دفعونا الى أقفاص الاتهام وجهاً لوجه أمام رئيس المحكمة ( عواد البندر ) . وبدأوا بقراءة لائحة الاسماء مع كل واحد والتهمة الموجه اليه , وفي موقف لم يمر على البال أدى الى  فوضى مفاجئة عمت قاعة المحكمة صرخ أحدهم سيدي مخاطب رئيس المحكمة .. أشلون يصير ومحكمتكم الموقرة تستند في ادعاءاتها على واحد لوطي وساقط خلقياً ؟. قال عواد البندر .. ولك من هذا الوطي. سيدي جاسم وجاسم هو المعترف على المجموعة في الانتماء لحزب الدعوة والتخطيط في تفجير معسكر عراقي .

بدأ جاسم وبكل جرأ وشجاعة يتحدث عن أنحرافه الاخلاقي وعم الهرج والاستهزاء والتصنيف وقهقهات الضحك , كنا جزء من العرض المسرحي .. مما دعا رئيس المحكمة الى تأجيل جلسة المحاكمة .. وهنا كتب لي عمر جديد . أعادوني الى نفس الزنزانة المخيفة والتي تحمل رقم ثلاثة . أنتظر قرار الموت باي لحظة حسب تبليغات الحراس لي , أنه سيتم اعدامي , ولم يعد هناك مخرج ينقذك بعد أن دنت بخيانة الوطن . كنت متمسك بموقفين أما الموت وهذا ما كنت أتمناه بأي لحظة أو الخلاص من قبضتهم نظيف القلب واليدين والضمير , فلم أسبب أذى للعوائل والأصدقاء الذين ساعدوني في الاختفاء والتنقل , بيت عبد الخالق مطلك الدليمي في مدينة الشعب , وعائلة الحاج غازي في مدينة الكاظمية , وعائلة بيت منصور في مدينة الشعلة , وعائلة عبد الرحمن دبش في مدينة الحرية الثالثة , وبيت علي وعالية في مدينة الدوره  , وبيت سعد البياتي في شارع ٥٢ خمسين , وبيت قصي ( أبو نغم ) في مدينة النهروان . وعشرات عوائل أخرى .
قرأت سلسلة حلقات برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام حسين , والذي رافقه منذ كان عمره ١٢ عاماً وفي انقلابات البعثيين المعٌرة في القصر الى أن أصبح رقم مخابراتي مخيف في العراق . يكتب اليوم مذكراته يتنصل بها عن أي مسؤولية لحقت بالعراقيين الحيف والظلم وكأنه ذاكرتهم مثقوبة , يطلع علينا السيد برزان أنه كان حمامة سلام وسط صقور جارحة , وكان هو يحلق ضدها أي كان ضد سياسة أخيه صدام ونظامه , ربما نسى من كان يصدر الاوامر الى المجرم جاسب السماوي في قسم الاعدامات في سجن أبي غريب . الى الأن برزان لم يتحفنا في أوراقه الغابرة حول ملف الشيوعيين والغدر بهم وقتلهم وشواهد قبورهم . والى الأن لم يكشف لنا , وهذه مسؤولية أخلاقية وتاريخية حسب ما يدعي كان نهج ممارسات السلطة ورموزها في تعاملهم مع الشعب العراقي . كانت هناك صحف عربية ومجلات مشتراة من البعث وبتمويل كامل لتلميع وجه النظام والاف من العملاء والجواسيس والوكلاء الموجودين  في الخارج وشخصيات ومنظمات وأحزاب راحوا مع عورتاهم بذهاب النظام . قرأنا أجزاء مهمة من كتاب ( مهمة من بغداد ) بمساعدة صديق يجيد اللغة السويدية بشكل جيد بمدلولها السياسي ووجدنا في صفحات الكتاب معلومات مبنية على أراء وأحتمالات وتقديرات بعيداً عن الحقائق أي ضمن سياقات حبكة الهدف والاشاعة وتوجد دلائل ايضا تفقأ بها الارض .   


محمد السعدي
مالمو / شباط / ٢٠١٩


100
مهمة من بغداد . Mats Ekman . ( ح ٤ ) .


كشف المؤلف ماتس في كتابه ( صفحة ٨٤ ) . طبيعة وحجم التعاون الوثيق بين جهاز المخابرات في بغداد والدكتور ( فوزي طبو ) طبيب من الموصل يعمل في شمال العاصمة بمدينة ( أوبسالا ) وبالتعاون مع مسؤول تنظيمات حزب البعث في السويد ( عبد المهيمن تقي العريبي ) الذي يشرف على خلايا التنظيم للبعث ومنها خلية ( ستوكهولم ) والتي كانت تضم بين صفوفها ( صلاح سليمان , نزار باز , حسين غالب , هادي حبش جراح دماغ , وطبيب بيطري أسمه جبار وأخرين ).
في صفحة رقم ( ٢٠٨ ) يتوقف المؤلف ماتس عند نقطة مهمة حول ما يسمى ( استئصال الرحم ) . كلمة السر في تنفيذ العملية . بعد ثلاثة أيام من عملية ازالة الورم الخبيث , أي تنفيذ العملية بنجاح بتقطيع جسد ماجد حسين في العاصمة السويدية  في يوم ٤ أذار العام ١٩٨٥ حصل اتصال هاتفي مع موفق عبود على رقم هاتف البيت الذي يعيش فيه  ٦٥٣٠٧٣ . وكان يسكن في شقة الطابق السابع وهو يمارس عملاً تجارياً ايضاً, وهو قريب جداً من حادثة القتل المذكورة وهو يعمل بنفس خلية تنظيم البعث مع محمد سعيد الصحاف في بغداد . أجابت زوجة موفق ( جهينة ناصر ) بأن موفق في الحمام الآن . أذن أبلغيه يتصل بنا بعد خروجه من الحمام ) . لأمر هام ومهم يتعلق بطبيعة عملنا وشغلنا  , لقد وجدت جثة الرجل الذي أختفى مقطعة ومتروكة في الشارع .
لم يتصل موفق في ذلك اليوم , وانما أتصل في اليوم الثاني , وكان قلقاً ومتوتراً , وأتصل به أكثر من صحفي وصحيفة لمعرفة معلومات عن الموضوع وجريمة القتل لكنه لم يجب ولا يرد على أسألتهم واستفساراتهم , باعتباره القائم بأعمال السفارة ووجهها المكشوف وممثلها الدبلوماسي المعترف به في السويد , وكان يلف ويدور ويماطل الا أن وجد له مخرج مؤقت , حيث أصطحب زوجته  في سفرة سريعة داخل أوربا لعدة أيام عسى ولعل تهدأ الامور , متنقلاً بين عدة بلدان مجاورة لعل الصحافة السويدية ومنابر الأعلام الاخرى تكف عن نشراتها اليومية في متابعة ملف هذه القضية والتي باتت لغة الشارع وتساؤلات الناس وحديث الصحافة ومتابعة التلفزة عن تفاصيل ما حدث عن واقعة مروعة هزت هدوء طبيعة المجتمع السويدي , فمن الطبيعي أن القتلة قد غادروا السويد وبدون رجعة بتخطيط مسبق ومدروس وبوثائق يكفلها العرف الدبلوماسي  , كما تأكد من ملفات التحقيقات السويدية التي أعلنتها فيما بعد بجزئها المهم أمام الرأي العام , أنهم غادروا بنفس اليوم , وتركوا الاراضي السويدية بعدة اتجاهات ومن ذلك اليوم ولم يعد أثراً لهم يذكر.. وما زالت السلطات السويدية تخاطب العراق من أجل تسهيل مهمتها في التحقيق مع موفق عبود لإنهاء هذا الملف الشائك والمعلق في أضابير أروقة الشرطة السويدية , ومن أجل الحصول على معلومات اضافية  حول اللقاء الذي تم بين ( أولف بالمه ) رئيس الوزراء في الحكومة الاشتراكية وبين محمد سعيد الصحاف وموفق مهدي عبود , الذي صادف بنفس اليوم الى اغتيال رئيس الوزراء ( أولف بالمه ) ومازال ملفه مفتوح ولم يغلق . تحاول الشرطة السويدية بين الحين والأخر بأثارته لكنها لم تحصل على نتائج كافية ومعلومات كاملة  . ولد بالمه عام ١٩٢٧ لأسرة من الطبقة الثرية في مدينة ستوكهولم , وأستطاع أن يتحدث أربع لغات بطلاقة الى جانب لغته الأم السويدية , وهي الإنكليزية , الفرنسية , الألمانية . كما كان ملماً بقواعد اللغة الإسبانية . أصر بالمه على إبقاء النموذج الاقتصادي السويدي مصمماً خصيصاً لتلبية احتياجات الشعب والوطن , لذا فقد عارض الدعوات الى عسكرة الاقتصاد السويدي . دعا بالمه في عام ١٩٨٢ إلى تطبيق سياساته الاقتصادية الاشتراكية التي تسعى لتحقيق دولة الرفاه الاجتماعية لجميع أبناء الشعب  . كان بالمه كذلك من أشد المعارضين لدخول السويد في مجموعة السوق الاوربية المشتركة, مبرراً موقفه بالحفاظ على الحياد الذي تميزت به السويد لسنوات طويلة قبل دخولها الاتحاد الأوربي في منتصف التسعينات من القرن الماضي . لكن بالمه كان يسعى في نفس الوقت لتمتين أواصر الصداقة والعلاقات الطيبة بين دول السوق نفسها , لأن يدرك الذنوب الأخلاقية للأنظمة الاستعمارية . فقد كان من أوائل من طالبوا عبر البرلمان بدعم الشعوب والدول الفقيرة بمشاريع التطوير والبناء  والتنمية . ويتذكر العرب بالمه باعتباره مناصراً للقضية الفلسطينية ومن الأمور التي جلبت غضب قوى غربية له دعوته لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات لزيارة ستوكهولم عام ١٩٨٣ . لقد جعل بالمه الولايات المتحدة تغضب عندما أنضم الى تظاهرة ضد حرب فيتنام مع سفير فيتنام الشمالية في ستوكهولم عام ١٩٦٨ , وليؤكد على مواقفه المبدئية متصدراً مظاهرة شعبية مشابهة في مدينة مالمو ثاني أكبر مدن السويد, وكانت التظاهرة هذه المرة ضد دخول جيوش الاتحاد السوفيتي مع قوات حلف وارسو إلى تشيكوسلوفاكيا . كما ساند كفاح شعب افريقيا لإنهاء نظام الفصل العنصري . وكان الرئيس بالمه يوصف في أفريقيا بأنه صوت السويد في عالم الرجل الابيض . في منتصف ليل الثامن والعشرين من فبراير ( شباط ) عام ١٩٨٦وكان بالمه لازال يشغل منصب رئيس الوزراء وزعيم في الحزب الاشتراكي الديمقراطي والذي يعتبر من اقدم الأحزاب السويدية في مملكة السويد , وأثناء خروجه من دار السينما في شارع ( سفيافاجين ) ليستقل قطار الانفاق المحلي بالعاصمة ستوكهولم برفقة زوجته ومن دون حراسه , تعرض بالمه للاغتيال بطلقتين من مسدس قديم عمره أكثر من نصف قرن . القاتل بقى مجهولاً الى يومنا هذا , ما فتح باب الاتهامات والنظريات حول جريمة الاغتيال . وأن المتهم الرئيسي في الاغتيال ( كريستر بيترسون ) تم إطلاق سراحه بعد عام من الاغتيال بسبب عدم كفاية الأدلة رغم تعرف أرملة بالمه ( ليزبت ) عليه أثناء المحاكمة باعتباره الشخص الذي أطلق النار على زوجها , وحفظت ملامح وجهه وهو يطلق النار على زوجها , ليلقي مصرعه لاحقاً في ظروف غامضه في عام ٢٠٠٤ ولا سبب يذكر , وهذا يدخل ضمن سيناريوهات عمل المخابرات  الدولية . أن سياسات بالمه كانت تقف في تلك الفترة الحساسة في العلاقات الدولية بشكل واضح الى جانب الحقوق المشروعة للشعوب حول العالم . مما رجح نظريات المسؤولية عن الاغتيال طابعاً دولياً باتهام جهات عدة صاحبة مصلحة في ابعاد بالمه عن مسرح السياسة الدولية مرة واحدة والى الابد . ويعتبر ملف قتل الضابط ماجد حسين من أقدم الملفات في أضابير الشرطة السويدية الذي لم يغلق الى يومنا هذا بسبب ضياع الخطوط المهمة في الملف ووضع العراق الحالي المرتبك سياسياً زاد من عمليات التعقيد في متابعة الملف وتحقيق خطوات تذكر , رغم أن هناك أكوام من الاوراق حبيسة في أدراج خزانة المخابرات السويدية ووزارة الخارجية . ولنشاط محطات المخابرات العراقية وسطوتها وقوة أنتشارها في أوربا استعانت المخابرات السوفيتية ( KGB ) بالمخابرات العراقية في كشف القواعد الامريكية وحجمها في اسبانيا , بسبب طبيعة العلاقات المتوترة بين الاتحاد السوفيتي ودولة اسبانيا ضمن سيناريوهات الحرب الباردة والتي كانت تحدد طبيعة وألية العلاقات بين الشعوب والأمم , كان من الصعوبة على المخابرات السوفيتية التحرك على الاراضي الاسبانية فاستعانت بالمخابرات العراقية لحجم قوتها في أوربا . كان برزان التكريتي مدير المخابرات يتباهى فيما وصل له حال العراقيين في الخارج من مشهد تراجيدي , وقد نقل على لسان ضابط عراقي عن قول برزان التكريتي عندما كان مديراً للمخابرات العراقية ’’ يكفينا فخراً أن المعارض العراقي الموجود في واحدة من مقاهي باريس أو براغ , عندما يحاول أن ينتقدنا سيلتفت يميناً أو شمالاً خوفاً من وجود ضابط مخابرات عراقي بجانبه ’’.  وهذا هو حال الواقع الذي كان ينتهجه العراق تجاه معارضيه بالقتل والاغتيال وشراء الذمم , وفي المقابل هناك صمت مطبق عالمياً وعربياً ومن مؤسسات مدنية معنية بحقوق الانسان . السويد نموذجاً كانت تغض النظر عن تلك التحركات ضد حقوق الانسان مقابل المقايضة في مصالح تجارية وأرباح عمل شركات .

محمد السعدي
مالمو / آذار ٢٠١٩


101
مهمة من بغداد .Mats Ekman   ( ح٣ ) .

يذكر ماتس إيكمان في طي صفحات كتابه .. أن المخابرات العراقية جندت موظفاً في الشرطة السويدية للتجسس على العراقيين . وفي بداية العام ٢٠٠٠ قامت المخابرات العراقية بتكليف أحد عملاء النظام وهو سويدي من أصل عراقي لتصفية أحد قادة البعثيين , الذي كان قد أنشق عن نظام صدام حسين منذ عام ١٩٧٥ وأنشأ منظمة معارضة لنظام صدام حسين في لندن . ويستغرب المؤلف ويتساءل بتعجب ؟ .. كيف أن العراق في تلك الفترة الذي كان يرزخ فيه تحت وجع الحصار المفروض عليه وآثار حروب مدمرة ومستمرة , ونظامه ما أنفك يخطط لعمليات الاغتيال ضد معارضيه وتحديداً ممن أنشق عنهم ضمن أجهزة وتنظيمات حزب البعث .
في العام ٢٠٠٣ وعلى أثر سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق حين بحثت قضية مقتل الضابط العراقي المنشق ماجد حسين من جديد , أذ تم رفع وثيقة تذكير الى البوليس السري تتهم وزير أعلام النظام السابق محمد سعيد الصحاف , الذي كان سفير العراق في السويد بين عامي ١٩٨٥ / ١٩٨٧ بوقوفه وراء مقتل الضابط العراقي ماجد حسين , وفي أواخر العام ٢٠٠٧ نشرت الشرطة السرية السويدية ( سيبو / Säpo ). ورئيس الادعاء العام ( توماس ليد نستراند ) في صحف عراقية وسويدية وفي بلدان أخرى صورة المرأة ( جميلة الشافي ) المشتبه ضلوعها في جريمة القتل مع شخصين أخرين . آملين الاستدلال عليهم والسبيل في الوصول لهم , لكن البوليس لم يصل الى نتيجة الى الآن .ويعتقد ماتس ايكمان مؤلف كتاب ( بمهمة من بغداد ) : مخابرات صدام حسين في السويد هي المسؤولة وأن الحقيقة ستظهر فيما بعد وأن تقادم الزمن عليها .
أخيراً .. تمكنت الوثائق السرية السويدية ونشرتها على العلن بتحديد العناصر الذين كانوا وراء تخطيط ومتابعة تنفيذ عملية الاغتيال ومنهم .
< فاضل البراك ..  مدير المخابرات العراقية , الذي أعدمه النظام العراقي بتهمة التجسس لصالح المانيا الشرقية والاتحاد السوفيتي من خلال علاقته المشبوهة مع شخص لبناني يدعى ( صباح الخياط  ) بتهريب معلومات مضللة عن نشاط المخابرات العراقية , وتهمته الثانية إثراؤه المالي وطريقة البذخ في العيش من خلال أمتلاكه  قصر كبير في المنصور وكوميشينات من تجار ورجال أعمال عراقيين , أعدم عام ١٩٩٢ في منطقة ( سلمان باك ) بحضور سبعاوي أبراهيم الحسن عندما كان مديراً لجهاز المخابرات الأخ غير الشقيق للرئيس صدام حسين , وعندما طلب سبعاوي من أحد الاعضاء العاملين في الجهاز ( عصام شريف ) باطلاق النار من مسدسه ضعف وسقط المسدس من يديه فأتخذ الجهاز قراراً بعقوبته وطرده متهماً إياه بالضعف والجبن , لكن فيما بعد أعاده الجهاز الى صفوفه ليصبح سفيراً للعراق في دولة تونس , وبعد سقوط النظام أغتيل في منطقة العامرية ببغداد العام ٢٠٠٤  ضمن حملة التصفيات السياسية بعد سقوط النظام والثارات الاجتماعية والعشائرية  , وفي سنوات لاحقة تزوج برزان أبراهيم الحسن زوجة فاضل البراك ( جنان ) . وأعدم برزان وسبعاوي وفاضل البراك في تهم مختلفة وتحت واجهات سياسية متصارعة وماتت زوجاتهما . وفاضل البراك حاصل على شهادة دكتوراه من معهد الاستشراق السوفيتي عام ١٩٧٣ في رسالته الموسومة عن حركة رشيد عالي الكيلاني ورغم الاعتراض من معهد الاستشراق على فحوى المادة باعتبار المركز متخصص بدراسات الماركسية اللينينية , لكن طبيعة العلاقات بين الحزب الشيوعي السوفيتي وحزب البعث في العراق مررت على مضض . وقد لفت بتحركاته المريبة وعلاقاته المتنوعة الجانب السوفيتي مما دفعت المخابرات السوفيتية فتاة سوفيتية جميلة أسمها ( لودا ) على علاقة بالمخابرات لترتبط بعلاقة عاطفية معه وأشترى لها شقة وسيارة في موسكو , وكشفت طبيعة علاقاته للسلطات السوفيتية مع المرحوم خليل الجزائري وحميده سميسم . وعندما عاد خليل الجزائري الى العراق في مطلع التسعينيات عثر عليه مقتولاً في شقته في بغداد .

< موفق مهدي عبود .. القائم بأعمال السفارة العراقية , يشغل حالياً رئيس دائرة ملف أمريكيا الشمالية والجنوبية والبحر الكاريبي في مبنى وزارة الخارجية العراقية بعد تسعة سنوات من سفير عراقي في باريس من ٢٠٠٤ / ٢٠١٣ . وهو من أهالي مدينة الكاظمية  ينضح طائفية ويلعب على أوتارها الحساسة حسب وصف معرفة القريبين منه .

< فاضل فراق .. مواطن عراقي , كان يصدر جريدة ( الحوار ) في مدينة ( أوبسالا ) السويدية , ثم أنتقل الى مكتبه الجديد الفاخر في ( أستوكهولم ) . ولم يعد أي أثر له .

< كامل سليم .. الملحق الدبلوماسي في السفارة العراقية . وهو أيضاً لا ذكر له ومصيره مجهول .

< جميلة الشافي .. امرأة عراقية وعنصر مخابراتي تحمل جواز لبناني مزور , وهناك تسريبات ربما تكون مغربية الاصل , استخدمت كطعم للايقاع بالضحية , وهي محور رئيسي في ملفات التحقيق , والبحث عنها قائم من خلال نشر صورها ومعلومات عنها للاستدلال عليها . تمكنت جميلة وضمن سيناريو معد لها بمتابعة تحركات المقتول ماجد حسين والاماكن التي يرتادها , فتعرفت عليه بعلاقة أعجاب مشبوهة , وبعد فترة دعته الى الشقة , وكانوا في انتظاره شخصين على الأقل داخل الشقة , ونفذوا مهمتهم بنجاح , وتركوا السويد بنفس اليوم , الذي نفذوا العملية به يوم ٩ كانون الثاني ١٩٨٥ . وعثرت الشرطة السويدية على جثته يوم ١٧ آذار ١٩٨٥ في العاصمة ستوكهولم .


< علي موفق حسين .. عنصر المخابرات والقاتل الذي وصل الى السويد في يوم ١٤ كانون الاول ١٩٨٤ وغادر في ٩ كانون الثاني ١٩٨٥ يوم تنفيذ العملية برفقة جميلة الشافي الى العاصمة الدانماركية ( كوبنهاغن ) ومنها الى مدينة ( نيس ) في فرنسا . وأختفى أثرهما والى الان .

< علي عبد الحسين .. عنصر مخابراتي والقاتل الذي وصل الى السويد في يوم ١٤ كانون الاول ١٩٨٤ بجواز دبلوماسي كحامل للبريد الحكومي , وغادر الى اليونان في يوم ٩ كانون الثاني ١٩٨٥ وأختفى أثره هناك ومصيره مجهول تماماً .
أضافة الى محمد سعيد الصحاف سفير العراق في مملكة السويد اللاعب الأساسي في ملف القضية  .

<  نزار الباز … شاب من أهالي مدينة البصرة وصل للسويد للدراسة وعمل مترجماً في مبنى السفارة العراقية في ستوكهولم براتب ٣٥٠٠ كرونه . عندما أستقر سمير جعفر ( ابو جعفر ) في العاصمة السويدية , والذي رافق هانس ميلين في بغداد وقام بتنقلاته في المدن العراقية بسيارة ( التاكسي ) . دعا نزار على وليمة عشاء برفقة طبيب الاسنان العراقي ( فائز حطاب ) في مطعم صيني في العاصمة ( ستوكهولم ) . فاجأ أبو جعفر الشاب نزار بوثائق دامغة على عمل المخابرات العراقية وعلاقاتها الواسعة وتحركاتها على أرض السويد فوضعه تحت الأمر الواقع للعمل والتعاون معهم , وهدده في حالة تسريب أي معلومة سوف تقطع رقبتك , مثل ما فعلنا مع الأخرين . فلم يكن أمامه خيار الا التعاون مع المخابرات العراقية .

محمد السعدي
مالمو / أذار  ٢٠١٩ .


102
مهمة من بغداد .. Mats Ekman . ( ح٢ ) .


 يشير ماتس إيكمان في كتابه حول أغتيال رئيس وزراء السويد ( أولف بالمه ) اليساري النزعة والاشتراكي الهوى بعد ثمانية أيام من العثورعلى جثة ماجد حسين عبد الكريم مقطعة ومرمية في شارع بالعاصمة السويدية . أولف بالمه الذي كان وسيطاً دولياً في مهمة أنهاء النزاع العراقي الايراني في العاصمة السويدية ( أستوكهولم ) وممثلاً شخصياً لرئيس هيئة الامم المتحدة ولاعب أساسي في الملف الفلسطيني الشائك , فبعد ساعات من لقائه بالسفير العراقي محمد سعيد الصحاف المعروف لاحقاً ( أبو العلوج ) , عقب إحتلال قوات المارينيز للأرض الوطنية العراقية وموفق مهدي عبود القائم باعمال السفارة العراقية والمتهم بالتخطيط لاغتيال الضابط العراقي ماجد حسين والذي عين سفيراً للعراق في باريس بعد ٢٠٠٤ ولمدة تسعة أعوام , وعندما زار هوشيار زيباري وزير الخارجية العراقي السابق العاصمة السويدية في عام ٢٠٠٧ . طلبت منه الجهات السويدية الامنية عبر القنوات الدبلوماسية بالمساعدة بغلق هذا الملف عبر تسليمهم موفق مهدي عبود أحد المتهمين في أعمال قتل وتجسس على الاراضي السويدية , أو تشكيل لجنة مشتركة من خبراء أمنيين مختصين عراقيين وسويديين لأستجوابه في بغداد . سارع هوشيار زيباري الى تحرير خطاب الى وزارة الخارجية العراقية بنقل موفق من سفارة العراق في فرنسا الى منصب مسؤول دائرة أمريكيا الشمالية والجنوبية والبحر الكاريبي في مبنى وزارة الخارجية العراقية وما زال الى يومنا هذا, يشغل هذا المنصب , وحاولت الجهات السويدية بأستجوابه عدة مرات عن ما حدث عبر وسطاء , لكنه كان يستغرب من السؤال والاستفسار والتظاهر بعدم معرفته وبدون أي تعاون عراقي واضح حول ملف هذه القضية . تختزن ملفات السويد في أضابيرها حول شخصه وسلوكه تهمة التحرش الجنسي رغم أنه متزوج عدة مرات أحداهن ( جهينه ناصر) أخت القاص العراقي موفق خضر . تمكن بعد أحتلال العراق أن يحشر نفسه مثل عشرات غيره مع طابور جيش من الخونة والمتعاونين مع المحتل ضد بلدهم , فذهب ضمن لجنة أعمار العراق وأعادة بنائه التي سرقت البلد ودمرته تدميراً . وحسب رواية الباحث ( ماتس إيكمان ) في كتابه الذي صدر في نهايات ٢٠١١ مهمة من بغداد , والذي أثار الآن أهتماماً واسعاً على صفحات تواصل العراقيين وأهتمامهم . يقول تمكنت المخابرات العراقية من تجنيد شرطة سويدية لصالح تحركاتها المشبوهة في أستهداف العراقيين المعارضين لسياسة النظام والهاربين من جحيمه , وكان واحد من هؤلاء يشغل مفوضاً في أجهزة الشرطة السويدية ( هانس ميلين / Hans Melin) , ويعمل في قسم حساس جداً في قضايا اللجوء في السويد , بل هو مسؤول قسم خطير جداً أستغله بتقديم تقارير الى محطة المخابرات في مبنى السفارة العراقية حول القادمين الجدد والهاربين من العراق أسمائهم وعناوينهم في العراق وفحوى أدعاء أقوالهم في التحقيق أثناء طلب اللجوء ومنافذ خروجهم وطرق وصولهم . وقام شاب عمره ٢٤ عاما ً أسمه ( صلاح سليمان ) يعمل ضمن جهاز المخابرات العراقية والده كان ضابط كبير أصبح فيما بعد سفيراً للعراق في دولة ( سريلانكا ) بدعوته لزيارة العراق مع زوجته بل رافقفهم من العاصمة السويدية ( أستوكهولم ) الى العاصمة بغداد . وفي بغداد توفرت له سيارة وسائق يدعى ( سمير جعفر ) أيضاً ضمن جهاز المخابرات ورافقوهم لمدة عشرة أيام في المدن ( الموصل , كركوك , بابل , أربيل ) أضافة الى العاصمة بغداد في حسن ضيافة مبالغ بها مع هدايا ورعاية كبيرة , ورداً على تلك الزيارة قام سمير جعفر ( أبو جعفر ) بزيارة السويد وجمعته لقاءات وجلسات مع مستر هانس وعائلته , وفي ملفات التحقيق السويدية رفض مستر هانس أمام المدعي العام في أروقة المحاكم السويدية بأي لقاء بسمير جعفر في بغداد قد حصل . ووجهت المحكمة السويدية له عدة تهم تتعلق بالتجسس والتعاون مع المخابرات الامريكية  ( CIA ) والمخابرات الروسية ( KGB ) لكن محاميه طعن بجميع تلك التهم , لكن هذا لم يساعده في تبرئته من حكم القضاء فحكمت عليه المحكمة العليا أربعة سنوات سجن بتاريخ ٢٣ أيار العام ١٩٧٩قضى منها ثلاثة سنوات سجن وخرج بعد أن قدم محاميه طعن في القرار . فالمحكمة العليا نزلت الحكم عليه الى ثلاثة سنوات بتاريخ ١٨ أيلول من نفس العام , فاطلق سراحه في حزيران العام ١٩٨١ بسبب حالته الصحية التي تدهورت في السجن وتوفى عام ١٩٩٣ في العاصمة السويدية . واحدة من الأدعاءات التي قدمها محاميه الى هيئة المحكمة الوضع النفسي لمستر هانس وهو جالس في مكتبه ينتابه الضجر ويحتصر نفسياً من شكل مكتبه ولون جدران غرفته . في نفس هذه الفترة من عام ١٩٧٩ ألقت المخابرات الاسرائيلية في ( تل أبيب ) قبل مغادرته , على شخص سويدي يدعى ( Steg bergling ) يعمل في المخابرات السويدية لكنه أيضاً متعاون ويعمل لصالح المخابرات السوفيتية ( KGB ) وفي التحقيق كشف لهم خطة الدفاع السويدية تجاه تحركات السوفيت , مما أجبر السويديين بتغير هيكلية وخطة الدفاع والتي كلفتهم الملايين من الدولارات في تغير هيكلتها وخططها .  وفي مشهد درامي تقع صدفة عينين الموظفة السويدية في السفارة العراقية على ثمة أوراق مرسلة من دائرة الشرطة الى السفارة العراقية تتضمن عدة أسماء من القادمين الجدد من العراق أو دول الجوار الى السويد طلباً للجوء وبحثاً عن الأمان . فقدمت تبليغ رسمي الى الجهات المعنية وأعتقل وتعرض للتحقيق عدة أشخاص . وبعد شهرين من تلك الجريمة عين الصحاف سفيراً للعراق في ( إستوكهولم ) . وقد لعب دوراً في محو أثار الجريمة بقتل الضابط ماجد حسين , وكافأ مادياً السويديين الذين تعاونوا مع المخابرات العراقية في نشاطاتها المحمومة على أرض السويد . والعراق كان يمتلك سلاح المال حيث مكنه تجنيد ناس وشراء ذمم لمصلحة أجهزته في ربوع العالم , حتى تمكن لسطوة أمبراطوريته المالية أن يشتري مواقف دول وصحف . مازال ملف أغتيال ماجد حسين مفتوحاً في أروقة المخابرات السويدية ( سيبو Säpo ) رغم مضي فترة طويله عليه ويعتبر من الملفات الشائكة . والسويد لاترغب بغلقه قبل ما تكشف الجناة الحقيقيين والمتعاونين معهم والمتسترين . وحاولت في السنوات الاخيرة من العمل المتواصل حوله في كشف حيثيات وتفاصيل الجريمة في الاسماء والوقائع والشهود , لكنها تصطدم بعدة معوقات هو عدم الوصول الى الفاعلين وسكناهم , أنهم يختبئون بواجهات سياسية وبأسماء مستعارة وعناوين سرية .
محمد السعدي
مالمو / شباط ٢٠١٩

103
مهمة من بغداد . Mats Ekman . ( ح ١ ) .   
ماتس إيكمان … صحفي سويدي وباحث مختص بقضايا الشرق الأوسط وتحديداً العراق وقضاياه . شاع صيته مؤخراً في وسائل الأعلام والتواصل الاجتماعي وتناقل المعلومة عقب صدور كتابه الذي يحمل عنوان ( مهمة من بغداد )  ( På uppdrag från baghdad ) .
الكتاب يتناول حقبة مهمة ومرحلة حرجة من تاريخ السويد وحساسية العلاقة بين جمهورية العراق والملف الأمني حول قضايا الاجئيين العراقيين والمخابرات على حد سواء منذ مطلع السبعينيات . في صباح يوم ٤ أذار العام ١٩٨٥, أستيقظت السويد والسويديين على جريمة قتل مروعة , هزت الرأي العام , حيث تشهدها أرض السويد لأول مرة , هزت وسائل الاعلام وحيرة المعلقيين ودوخت المحللين عبر شاشات التلفزة وأروقة المحاكم والتي ما زالت تبحث عن أدلة وشهود لأنهاء هذا الملف الخطير . في صبيحة ذلك اليوم عثرت الشرطة السويدية عبر مخبر عارض بوجود حقيبتين سوداوتين متروكتين في منطقة ( سودرتاليا ) في جنوب العاصمة السويدية ( أستوكهولم ) . لتجد الشرطة في داخلهما أكياس بلاستيكية لاشلاء أنسان مقطعة بعناية وخبرة الى ٤٨ قطعة حسب وصف المذيع السويدي المذهل لوقع الجريمة  . أنها جثة رجل ضابط الاستخبارات العراقي ماجد حسين عبد الكريم , الذي فر من العراق عام ١٩٨٣ متجهاً الى مملكة السويد طالباً اللجوء السياسي حسب أتفاقية ( جنيف ) المعمول بها وضمن أتفاقيات الدول الموقعه على لائحتها القانونية والانسانية , أراد أن يكون بعيداً عن أيادي وعيون وخطورة الجهاز الذي ينتمي له , هكذا كان معتقداً من خلال تصريحه الأول للصحف السويدية ( سفينسكا داغبلادت ) , مهدداً بهز وفضح أربعة خلايا مخابراتية تعمل على أرض السويد ونشاطهم التخريبي وشبكة العلاقات داخل أوربا , وتفاصيل لقاء مناحيم بيغن رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق مع برزان التكريتي عندما كان مديراً للمخابرات وقصة ضرب المفاعل النووي العراقي ( تموز ) في منطقة الزعفرانية أطراف العاصمة بغداد العام ١٩٨١من قبل سرب من الطيران الاسرائيلي يضم ١٨ طائرة حربية بناءاً على معلومات حول المكان وهيكلة بنائه وزواياه قدمها لهم عملائهم من الفرنسيين , الذين كانوا يعملون في موقع المفاعل الذري , والطيران الذي خرق أجواء دول مجاورة وعطل كل الرادارات عبر الحدود الاردنية الى العاصمة بغداد منطقة ( سلمان باك ) ليحقق مهمته في تدميره , كان المقتول ماجد حسين حاضراً وشاهداً على هذا اللقاء وهدد بكشف تفاصيله الى وكالات الانباء العالمية ودوائر أستخباراتية . وفي خطوة أستباقية قام النظام العراقي في بغداد بحجز زوجته وأطفاله الثلاثة وسيلة للضغط عليه من أجل عودته الى العراق أو تحييد موقفه في ألتزام الصمت , لكنه لم يعير أعتباراً لذلك التهديد أو حتى لم يأخذه على محمل الجد . أثارت عملية قتله وطريقتها الهلع والخوف بين صفوف العراقيين على أراضي مملكة السويد والدول المجاورة , الذين هربوا من العراق بسبب قمع النظام وسياسته وحروبه . ودب الهلع والخوف بين أوساط العراقيين وتذمرهم من برودة الموقف السويدي الرسمي في أتخاذ الاجراءات الرادعة والسريعة في حمايتهم من نشاط رجال المخابرات العراقية , مما زاد من توجساتهم الأمنية , وأضطر قسم غير قليل منهم ترك الاراضي السويدية الى دول مجاورة , وقسم أخر أنتقلوا وغيروا عنوانيهم وألقابهم الى مدن سويدية أخرى بعيداً عن متناول أياديهم وهواجس الرعب والخوف تطاردهم في أبسط تفاصيل حياتهم  .
أستند إيكمان في كتابه الذي يحوي ٣٤٠ صفحة على وثائق المخابرات السويدية ( سيبو / Säpo ) وعلى ملفات وزارة الخارجية السويدية بهذا الشأن تحديداً ( الشأن العراقي ) .  ستة وسبعون صفحة من الكتاب مكرسة للتغطية على أغتيال ضابط الاستخبارات ماجد حسين عبد الكريم وتفاصيل تنفيذها وتداعياتها والتي ما زالت طاغية على المشهد الأمني السويدي . وذكر الكاتب ماتس معاناته بعدم تجاوب المعنيين بهذا الملف من الجانب العراقي حيث خاطب عشرين جهة رسمية ومدنية ولم يتلقى جواباً واحداً مما أحزنه كثيراً , لهذه اللامبالاة , بعيداً عن المسؤولية الاخلاقية والتاريخية والقانونية .
 
السويد كمركز قرار وعلاقات دولية كانت تغض النظر عن نشاطات المخابرات العراقية على أراضيها رغم معرفتها الكاملة والمؤكدة بالتضيق والتجسس على حياة العراقيين ومسببة لهم هلع وخوف في منظومة علاقاتهم وحياتهم الطبيعية أرتباطاً بالمصالح السويدية ( الاقتصادية ) . تنظر السويد لمصالحها الاقتصادية بعين الاعتبار وتضعها في الاولوية , حيث لها عدة شركات تعمل بالعراق وخبراء ومستشارين فلا تريد تفرط بتلك الميزات والهبات على حساب ضمان حياة جمهرة من الناس الهاربين من جحيم نفس تلك الاجهزة . الدول والانظمة بكل أنماطها وشكل حكمها لا يهمها الا مصالحها وأجندتها الخاصة . في نهاية السبعينيات أصبحت السويد من المحطات المهمة للمخابرات العراقية وثقل دبلوماسي وعلاقات أقتصادية وتجارية , كان معمل الأسمنت في مدينة ( مالمو ) الجنوبية أعتماده الاساسي على التصدير الى العراق , وعندما تأزمت العلاقات في السنوات الاخيرة بين البلدين وضعف التبادل التجاري والاقتصادي بينهما , ومن أولويات أسبابها الحرب والحصار  أغلق هذا المعمل وتحولت أرضه الى عمارات سكنية للساكنيين , وشهدت العلاقات والزيارات المتبادلة على مستويات عالية جداً , حيث زوجة النائب صدام حسين زارت السويد مرتين , وكان يفترض واحدة من المرات أن تلتقي بزوجة الملك ( كارل السادس عشر  كوستاف ) , لكن يبدو سفرة مفاجئة لزوجة النائب ( ساجدة خيرالله طلفاح ) الى لندن لموعد مهم مع طبيب حال دون ذلك , وفي العام ١٩٧٩  تقاطر الى مملكة السويد عدد من القادة البعثيين والوزراء محمد عايش وزوجته ومحيي الشمري مشهدي وعائلته وتجولوا في المدن السويدية في أهتمام رسمي وزاروا العاصمة الفلندية ( هلسنكي ) . وفي عودتهم الى بغداد ذبحوا على مسلخ قاعة الخلد الشنيعة بسيناريو معد مسبقاً بأخراج فاشل ومفضوح أنها مسرحية ( المؤامرة ) راح ضحية عرضها ٢٣ وزيراً وقائداً حزبياً أنها مساعي في السيطرة على الحكم وتصفية حسابات .  فاغتيال رجل الاستخبارات ماجد حسين عبد الكريم نتاج تلك الارباك في العلاقات العراقية / السويدية وعلى ضوء مساحتها الخضراء تتحرك أجهزة المخابرات بحصانات دبلوماسية , وحسب وثائق وملفات جهاز المخابرات السويدية ( سيبو / Säpo ) لحين سقوط نظام صدام حسين على يد المحتلين الامريكان  عام ٢٠٠٣ يوجد حوالي مئة منتسب للاجهزة المخابراتية العراقية يعملون على الاراضي السويدية . والبعض منهم عاد وتعاون مع الوضع الجديد في العراق تحت عباءة الغطاء الطائفي وأجندة المحتل الامريكي .
محمد السعدي
مالمو / شباط ٢٠١٩ .

صفحات: [1]