رزوق عيسى
خردل القصة العراقية
بقلم: إدمون لاسو (*)
((حبة خردل... هي أصغر البزور كلها.
فإذا نمت كانت أكبر البقول،
بل صارت شجرة حتى ان طيور السماء
تأتي فتعشش في أغصانها)) السيد المسيح في مت 13: 31-32هكذا هو رزوق عيسى وقصته (الخردلية) الرائدة (فتاة بغداد) المنشورة عام 1910 في مجلته (خردلة العلوم). وسنأتي على المجلة والقصة بعد أن نتكلم قليلاً على حياته ، معتمدين في هذا على مقالة نجله جوري رزوق عيسى((الأديب رزوق عيسى)) في مجلة
بين النهرين العدد 109-110 (بغداد، 2000)، ومراجع أخرى.
أولاً: حياته:ولد رزوق عيسى زكريا في محلة رأس القُرية، في بغداد، في 6 حزيران 1881. من أسرة موصلية المنبت. لما بلغ الثامنة من عمره ارسله والده الى (مدرسة الاتفاق الشرقي) حيث تلقى مبادئ اللغتين العربية والانكليزية والحساب، ثم تدرج فولج قسمها العالي واستمر يدرس اللغتين المذكورتين بجد واجتهاد، حتى نال رضا مديرها الخوري ميخائيل شعيا واساتذتها، فرنسيس جبران وداود صليوا. وفي سنة 1896 انتقل إلى (المدرسة الانكليزية الثانوية)، ليتلقى العلوم العصرية، ويتقن آداب العربية والانكليزية مدة اربع سنوات. حيث نال الشهادة المدرسيةعام 1900. ثم يمم شطر البصرة، وانتظم في سلك كتبة احدى الشركات، وبعد بضعة اشهر قفل راجعا الى بغداد لأن هواء البصرة أضر بصحته. وفي شهر شباط من سنة 1901 دعاه (مدير المدرسة الانكليزية) ليعلم فيها اللغتين العربية والانكليزية فلبى الدعوة وانخرط في سلك التعليم، وكان ينتهز الفرص للدرس والمطالعة ليزيد معرفته، واستمر معلما فيها إلى شهر تشرين الثاني من سنة 1914 حين تعكر جو السياسة بين الدولة العثمانية وانكلترا إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى فأغلقت ابواب المدرسة.
وفي 10 اذار 1915 اجري التحري في داره، والقت السلطات التركية القبض عليه، وزج في السجن مدة ستة اشهر بتهمة نشر دعاية مضادة للسلطنة العثمانية. إلا ان ذلك لم يثبت عليه، فاطلق سراحه في 14 أيلول من تلك السنة. اما اوراقه وبعض من تصانيفه فأخذها الاتراك لفحصها من غير اعادتها، فذهبت بذهابهم.ثم عمل رزوق معلما في بعض المدارس الأهلية، حتى دخول الانكليز بغداد عام 1917.
وعلّم اللغة العربية الفصحى أيضاً لجماعة من الانكليز قبل الحرب العالمية وبعدها.كما علّم اللغة الانكليزية لكثير من العراقيين وبعض الادباء ومنهم صديقه المؤرخ عبد الرزاق الحسني. وفي عام 1918 تزوج رزوق، ورزق بأربعة ابناء وبنتين.وفي عام 1920 انتدبته مجلة (الجمعية الملكية الشرقية) اللندنية، ليكون عضوا فيها. توفي رزوق في بغداد يوم الاثنين 23 ايلول 1940.
ثانياً: خردلة العلوم:انشأ رزوق عيسى مجلته الاولى (خردلة العلوم) في تشرين الثاني عام 1910، ويقول:((انه لم يكن في خلده انه سيكون يوما ما صحافياً او منشئاً بيد ان اعلان الدستور في السلطنة العثمانية عام 1908 اثار عزيمته، وفك عقال نشاطه، وولد فكرة الحرية في تلافيف دماغه)).
وقد قرظ مجلته، مع صغر حجمها،إذ كانت بحجم الكف في 32 صفحة، قرظها طائفة من الصحافيين والكتاب منهم أستاذه داود صليوا (1852-1921) صاحب جريدة (صدى بابل) فقد كتب عنها في العدد 66 يقول:((هي
حبة خردل من العلم زرعها صاحبها.. الاديب في روضة علوم العراق، فنتمنى لها النماء فتصير
اكبر بقلة من بقلات المجلات العلمية، الادبية)).كما قرضها عدد من الشعراء والكتاب منهم عبد الرحمن البناء، والاديب عمر فهمي، الذي قال فيها:
و"خردلة" في روضة (العلم) اينعت كمالا ومنها الغرس قد طاب مذ نما
سقاها ابن (عيسى) من مناهل فهمه كأن قد سقـاها من نداء ابـن مريما بيد ان البعض انتقدها منهم الأب انستاس الكرملي،إذ إنتقد مقالا ورد فيها، وذلك في مجلة (المسرة) اللبنانية. كما انتقد بعضهم أغلاطها المطبعية والنحوية مع الإشادة بها،منهم محمد صادق الاعرجي في جريدته (الرصافة) العدد (22) الصادر يوم الثلاثاء 9 تشرين الثاني 1910م بقوله:((خردلة العلوم، لصاحبها وطنينا رزوق عيسى افندي . وردنا الجزء الاول منها فتصفحناه، فرأيناه مشتملا على الفوائد العلمية والادبية والطبية.. ولم نجد فيها عيبا سوى مخالفة كلماتها لعلم العربية)). ولكن الأعرجي عاد وصرح في العدد (30) من صحيفته الصادرة يوم 7 كانون اول 1910بما يلي:((نُشر الجزء الثاني من مجلة "خردلة العلوم" فبرز يرفل ويميس بجلابيب الألفاظ العربية البديعة على المعاني الفلسفية والتأريخية والطبية، وقد اخذت المجلة المنيفة من هذا العدد، في الترقي والتقدم وما ذلك الا لحسن نية منشئها وفقه الله وحباه النجاح والفلاح)).
وبعد ان صدر من المجلة جزءان أو عددان وكان الجزء الثالث على وشك الصدور، اوقفت الحكومة العثمانية نشرها لأن صاحبها كتب مقالة في صدرها بعنوان ((نهضة البلاد العربية ومطالبتها باللامركزية)). فقامت قيامة الاتحاديين من ترك وعرب واتهموه بالمروق من الجامعة العثمانية، وإثارة الرأي العام العراقي على السلطة التركية. وقد دافع رزوق عن نفسه دفاعا ًسليماً، إذ قال: ((ان فكرة الاستقلال الداخلي للاقطار العربية نشأت اولا في الاستانة وقال بها (البرنس صباح الدين) ابن شقيقة السلطان عبد الحميد الثاني)).لذا برئت ساحته من التهمة التي نسبت اليه.
وأصدر رزوق مجلة أخرى عام 1932 باسم (المؤرخ) واستمرت مدة سنة واحدة، ثم توقفت لأسباب مالية، وقد أعاد اصدارها عام 1938-1939.
اما الكتب التي أصدرها فهي (مختصر جغرافية العراق) 1922 و(مرشد الطلاب الى قواعد لغة الاعراب) 1922 و(القراءة العربية الحديثة) مع الأب يوسف بحودة 1930.و(معجم مفردات عوام العراق) نشره في (لغة العرب) ولم يتمّه عام 1911-1914.و(تاريخ الصحافة في العراق) نشر فصوله في مجلة (الحرية) عام 1924-1926 وفي (النجم) 1934، وفي (المؤرخ) 1939، أشار فيه إلى (جورنال العراق) كأول صحيفة صدرت في العراق عام 1816 في عهد الوالي داؤد باشا.وله مؤلفات أخرى لم تطبع، منها، (حضارة بابل وآشور)،و(تاريخ العراق قديما وحديثاً)،و(تاريخ العراق الاجتماعي)، و(الفتيات العراقيات الثلاث)،و(دليل الصواب إلى بيان أغلاط الكتاب)، وغيرها.
ثالثاً: فتاة بغداد خردلة القصة العراقية:تحتل ((فتاة بغداد)) التي ننشر نصها في (الملحق) أدناه، ثمان صفحات الأخيرة من العدد الأول من (خردلة العلوم). ومجموع كلماتها ( 1488) كلمة ، فهي إذن قصة قصيرة.
وتعد هذه القصة باكورة القصة العراقية القصيرة وخردلتها الاولى. ومن الغريب ان معظم الذين ارخوا للقصة العراقية لم يقفوا عند هذه القصة الرائدة . فها هو عبد القادر حسن امين لا ياتي على ذكرها في كتابه القصص في الادب العراقي الحديث (بغداد 1956), وكذلك جعفر الخليلي في كتابه القصة العراقية قديماً وحديثاً (بيروت1962). وكذلك عبد الإله أحمد في كتابه الواسع نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939 (بغداد، 1969)، ط2 (بغداد، 1986)، مع انه يذكرها في فهرست القصة العراقية (بغداد، 1973). وهيثم بردى ايضاَ لا يذكرها في كتابه قصاصون عراقيون سريان في مسيرة القصة العراقية ط1 (أربيل، 2009)، ط2 (دمشق، 2012)، مع ان كتابه مكرس أساساً لموضوع الاسهام السرياني في القصة العراقية. أما د. عمر الطالب فيمر بـها مر الكرام في كتابيه، الرواية العربية في العراق ( النجف 1971) ص14، والقصة القصيرة الحديثة في العراق (الموصل 1979) ص30. بيد أن التاريخ يسجل للدكتور يوسف عزالدين ذكرها في كتابه القصة في العراق: جذورها وتطورها (القاهرة، 1974). اذ يقول: ((عالج الكاتب موضوعاً اجتماعياً انسانياً تظهر حدته في الشرق عندما لا يجد الغني من يرثه في أملاكه، ويحمل اسمه، وعندما يقال انه عقيم، ويزداد رعبه كلما تقدم به العمر، وفزعه كلما أحس بمرض أو اقتراب الموت. ثم ينجب بنتاً لتكون وريثته. وفكرة وراثة البنت وحمل اسم والدها فكرة غربية. فالغربي لا يكترث كثيراً بأن يخلّف بنتاً أو ولداً)). ص26. ويضيف د. عزالدين في نفس الصفحة، مع بعض التصرف : (( والقصة عمل ادبي ، على الرغم من تطوره الفني المحدود ، إذ أثرت فيه الرواسب التقليدية، وظهر فيه السجع )) .
كما نوه بها خالد حبيب الراوي في كتابه من تاريخ الصحافة العراقية (بغداد، 1978) إذ يقول: ((هي أول رواية عراقية تنشر في العصر الحديث، رغم انه ليس لها تتمة)). ص14. و(فتاة بغداد) هي قصة بل قصة قصيرة، وليست رواية. وربما انقاد الراوي إلى ما ذكر تحتها:((رواية أدبية اجتماعية لمنشئ المجلة))، أو أن الأنواع الأدبية في ذلك الوقت لم تكن واضحة ومصنفة كما هو الحال في الوقت الحاضر. أو ان رزوق عيسى كان يخطط فعلاً لأن يجعل من قصته، قصة طويلة أو رواية.إذ يذكر في الغلاف الداخلي الأخير من العدد الثاني من مجلته، بعد نشر قصة أخرى غير كاملة ليوسف رزق الله غنيمة (1885-1950)، بعنوان ((الأوهام))يذكر: ((تعتذر فتاة بغداد من قرائها الكرام لأنها على وشك الاحتجاب عنهم مؤقتاً، وستجلس على منصتها غادة حسناء لا تقل عنها طلاوة ولذة وفكاهة لناسج بردها وموشى طرزها حضرة الأديب الفاضل يوسف غنيمة الكاتب الاجتماعي المجيد، وستقضي (الفتاة) أيام احتجابها في الدرس والمطالعة، وإجتناء الفوائد من رياض المدارس العالية وتعود إليهم متسربلة بثوب العلم والأدب)).
وعن((الأوهام)) يقول خالد الراوي: ((هي ثانية الروايات العراقية الرائدة، ونشرت المجلة ما يقارب من نصفها)) ص14. هذا وليوسف غنيمة قصة أخرى طويلة ناضجة بعنوان ((غادة بابل)) نشر (
حلقات منها في مجلة (لغة العرب) 1927-1928،ولم يتمها. وقد نوه هيثم بردى بقصتي غنيمة تينك تنويهاً فهرسياً فقط ، في كتابه الأخر روائيون عراقيون سريان في مسيرة الرواية العراقية ( دمشق 2012 ) .
جدير بالذكر ان هناك قصة أخرى طويلة بنفس اسم قصتنا (فتاة بغداد) نشرت عام 1922، مسلسلة بعدة حلقات في مجلة (الزنبقة) لعبد الاحد حبوش ، غفل من الاسم، بيد أن
د. يوسف عزالدين ينسبها في كتابه المار الذكر (ص55) إلى توفيق السمعاني (1904-1983).
و(فتاة بغداد) الرزوقية قصة إجتماعية ذات طابع إنساني وجداني. وهي رغم بساطة لغتها، إلا أنها سلسة الأسلوب، عفوية الحركة والإداء. ورغم أنه ليس فيها شيء من التحليل النفسي، إلا أن شخصياتها مفعمة بالانفعالات، كما ان الوصف فيها جيد مع شيء من السجع غير المتكلف. نقرأ وصف الطفلة عندما تولد: ((ورزقه المولى بإبنة آية في الجمال، لأن الطبيعة لم تبخل عليها بشيء من محاسنها، فأعطتها من الوردة حمرتها، ومن المهاة مقلتها، ومن البان قوامه، فدعاها والداها المحبة)).وعندما توشك الأم أن تموت بعد الولادة، كما حذر الطبيب زوجَها ابراهيم توصيه بالطفلة : أن ((يزرع بذار التقوى والصلاح في تربة قلبها السليم ويجعله كجنة عدن في النقاوة والطهارة، وأن يقلع الأشواك الخبيثة التي تنمو حول سياجه)). وبعد موتها نلمس شدة حزن الزوج عليها: ((ولا تسأل عن حزن ابراهيم وبكائه المر وانتحابه عند موت زوجته فلعن تلك الساعة التي قابله بها الطبيب، وكان يفضل أن يبقى بدون نسل من أن يفقد تلك الزوجة الفاضلة)).
تلك هي حبة خردل القصة العراقية التي نمت تدريجياً، فصارت بقلة، ثم شجرة تعشش في أغصانها طيور القصة العراقية، مع نمو وتطور الفن القصصي العراقي عبر قرن من الزمان.
رابعاً: الملحق:فتاة بغداد
كان في مدينة بغداد رجل اسمه ابراهيم عريق في الحسب والنسب وكان ساكناً في قصر على جانب الرصافة وكان ذلك القصر واسع الأرجاء أمامه المروج الخضراء حيث حفيف الأشجار وخرير الأنهار وتغريد الأطيار تطرب الناظر وتسر الخاطر ولكن هذه المناظر الأنيقة لم تكن إلا لتزيده كربة وتنغص عيشه لأنه كان قد طعن في السن وشعر بقرب الأجل ولم يكن له خليفة فأحب أن يموت مطمئن القلب بوجود من يحيي اسمه من بعده ويقوم بسياسة أملاكه الواسعة وثروته الطائلة.
فبقي مدة من الزمان وهو على ذلك الحال مضطرب البال قلق الخاطر لا يهنأ له عيش. وكان له زوجة اسمها أديبة فكانت تلك المسكينة عندما يقع نظرها عليه وتراه كئيباً حزيناً متشرد الأفكار تجلس إلى جانبه وتأخذ بتخفيف أحزانه وأشجانه بعذوبة كلامها التي كانت تنزل على فؤاده المتصدع كمرهم شاف وكانت أيضاً تسرد على مسمعه أخباراً شتى سارة تحمله على الاعتقاد برحمة الله الواسعة. ولأنه كان يحبها محبة الآلهة كان يتظاهر كمن سرى عنه.
وفي ذات يوم بينما هو جالس في حديقته الغناء مر به طبيب نطاسي فرأى علامات الحزن والكآبة بادية على محياه، فبعد التحية سأله قائلاً: مالي أراك أيها الشيخ الجليل مصفر اللون هزيل الجسم خائر القوى قلق البال مضطرب الأفكار وعهدي بك من الأغنياء العظماء الكبار الذين لا ينقصهم شيء من أمور هذه الدنيا.
ابراهيم- لقد نطقت بالصواب أيها الطبيب الحاذق لأن الله قد خصني بقسم كبير من حطام هذه الدنيا ولم ينقصني منها شيء سوى من يقوم بعدي ويخلد اسمي بنسله ويحييه بذريته. وبما أني شيخ كما تراني الآن وقد كادت شمس حياتي تغيب فمن جراء ذلك أذوب حزناً وغماً.
الطبيب- ولماذا لا تذهب إلى أحد الأطباء الماهرين وتعرض عليه داءك هذا لعله يجد له دواءً.
ابراهيم- اسمح لي يا حضرة الطبيب أن أقول أن دائي عضال وليس يوجد له دواء البتة وبعبارة أخرى هل يوجد يا ترى دواء للعقر والعقم؟
الطبيب- لا تيأس من رحمة الله ولا تقنط من جوده بل اصغِ لما أقول.
ابراهيم- كلي آذان صاغية لكل كلمة تخرج من فمك.
الطبيب- قد درست الطب في الأصقاع الأوربية على أحسن أساتذتها ولي مهارة تفوق التصور بهذا الفن فإذا أردت أن تحصل على ولد فتعال بكرة أنت وزوجتك إلى محل الطبابة وسترى صدق مقالي.
ابراهيم- إذا صدق فألك وصحت نبوتك فسأغمرك بالعطايا النفيسة ولن أنسى فضلك وأفضالك ما حييت.
الطبيب- ليس ذلك مرادي بل جل قصدي هو أن أفرج عنك كربتك تلك التي أضرت ضرراً بليغاً بصحتك وبعقلك ولا أريد منك سوى أجرتي العادية.
ابراهيم- هذا مما يدل على حسن طويتك واخلاصك واني أشكرك سلفاً ثم ودعه الطبيب ومضى في سبيله.
فاستحوذ على ابراهيم القلق والنصب طول ذلك النهار وأخذ يفكر في قول الطبيب تارة بصدق ما حدثه به ويعلل نفسه بالآمال ويبني القصور والعلالي، وطوراً يكذب ما سمعه منه ويهدم ما بناء ويحسب ذلك اضغاث أحلام فلما ضاق ذرعاً ولم يتمالك عن أن يضبط نفسه فاتح إمرأته بذلك الفكر الذي كان يجول في خاطره وقص عليها ما وقع له مع الطبيب وما دار بينهما من الحديث فسرت غاية السرور وحمدت الله على ذلك الذي لم تكن تتوقع أن تحصل عليه ولم تكن تحلم به أيضاً وطلبت منه تعالى أن يكمل تلك الأمنية بأسرع وقت.
فلما وافى الليل هجمت عليهما الهواجس والتخيلات فبقيا طول تلك الليلة يتجاذبان أطراف الحديث ولم تكتحل عيناهما بالنوم، فلما لاح الفجر نهضا وذهبا إلى بيت الطبيب وهناك رأياه جالساً على كرسي وأمامه مائدة فوقها كتاب كبير الحجم يقلب صفحاته. وعندما رآهما رحّب بهما وأجلسهما إلى جانبه وما زال ينثر على مسمعيهما الأقوال الحاملة على الاطمئنان والتصديق بأن سيولد لهما ولد بعونه تعالى الذي لا يعسر عليه شيء، ويسرد عليهما القصص والنوادر المضحكة ثم أمر الخادم أن يهيء الترويقة، ففعل كما أمره سيده. وبعد أن أكلوا قام وأدخلهما في غرفة خاصة وبعد الفحص والتنقيب عرف علتهما وأعطاهما دواء للشرب. ولكن قبل أن يذهبا أخذ الطبيب بيد ابراهيم وانفرد به وقال له ان زوجتك ستحمل وتلد ولكن يوجد خطر على حياتها في حبلها لأن أليافها التناسلية قد تصلبت لكبر سنها. فتظاهر ابراهيم من شدة فرحه كأنه لم يسمع انذار الطبيب وتنبيهه على مسألة تتعلق عليها حياة مالكة فؤاده. ثم أخذ زوجته ورجع مسرعاً إلى بيته حامداً الله هلى هذه النعمة السنية والعطية المجانية. ولم يمض شهر على ذلك إلا وزوجته حامل فدعى الطبيب وأسداه بعطايا سنية تليق بشأنه وأولم الولائم ودعى الأهل والأصحاب وفرح معهم فرحاً يكل عن وصفه اللسان ووزع ربع ماله على الفقراء والمساكين في ذلك اليوم ولم تكد تنتهي التسعة أشهر إلا ورزقه المولى بابنة آية في الجمال، لأن الطبيعة لم تبخل عليها بشيء من محاسنها، فأعطتها من الوردة حمرتها، ومن المهاة مقلتها، ومن البان قوامه، فدعاها والداها المحبة وأيقنا أنها ستكون فريدة عصرها ووحيدة زمانها، لما رأياه على وجهها من امارات النجابة والعفة والطهارة، فلنترك الطفلة تنمو في القامة والجمال ولنرجع إلى والدتها.
ان تلك الوالدة المسكينة كانت قد تألمت عند الولادة من جراء تصلب ألياف الرحم كما أشار الطبيب في حينه. وبعد ذلك ببضع أسابيع اشتدت عليها وطأة المرض حتى قطع الرجاء من شفائها فلما رأى ابراهيم ذلك دعى الأطباء من وطنيين وأجانب لأجل المشاورة ووعدهم أن يعطيهم نصف أمواله إذا استطاعوا أن يجدوا لدائها دواء فيعد الفحص المدقق والوقوف التام على علتها قر رأيهم أن لا علاج لمرضها وقالوا ذلك لها ولقرينها شفاهاً فلما رأي ابراهيم أن حيل الأطباء لم تنجع معها سلم أموره إلى الله تعالى. ففي ذلك النهار دعته زوجته وأوصته لكي يعتني بالطفلة المنكودة الطالع ويلقنها منذ نعومة أظفارها الآداب الدينية والأخلاق الحسنة ويزرع بذار التقوى والصلاح في تربة قلبها السليم ويجعله كجنة عدن في النقاوة والطهارة، وأن يقلع الأشواك الخبيثة التي تنمو حول سياجه فأجابها بالإيجاب ووعدها بأنه يفعل أكثر مما طلبت وابتغت ثم قالت له لقد علمت بأنك تحبني لأنك لم تكسر وصيتي بل قبلت ما أوصيتك به فالآن أموت قريرة العين مطمئنة القلب.
وفي اليوم الثاني عندما علمت أن منيتها قد قربت لتترك هذا العالم الفاني استدعت الطفلة وقبلتها ثم ركعت على سريرها وصلت من أجلها قائلة يا إلهي لقد قضت إرادتك الأزلية أن أفارق هذه الدنيا وابنتي صغيرة جداً ولم تسمح لي بأن أتمتع برؤيتها عندما تترعرع لكي القي عليها الإرشادات والنصائح التقوية حتى تشب على الفضيلة وتشيب عليها ولكن أسألك اللهم أن تمنح والدها العمر الطويل لكي يمكنه عوضي أن يدربها في سبيل خوف اسمك ولا يكون للشر والفساد نصيب فيها. وعزّه برحمتك لكي يستطيع أن يحتمل لوعة الفراق وأطلب من جودك أن تجمعني وإياه وطفلتنا هذه في دار البقاء حيث لا بكاء ولا حزن ولا مرض وحيث يد الموت لا تقوى على تبديد شملنا فاسمعني واستجبني لمجد اسمك القدوس.
ثم التفتت إلى الطفلة وقبلتها ثانية والدموع تهطل من عينها وقالت لها أستودعك يا عزيزتي ومهجة قلبي بيد العناية الإلهية لكي تراقبك من المهد إلى اللحد ثم تلجلج لسانها وثقل ولم تعد قادرة على الكلام فجاء ابراهيم وأسندها بصدره فلما رأى صفرة الموت علت وجنتها، وعيناها الجميلتان غارتامن حجاجهما وفقدتا بهائهما وضعها على سريرها لكي تستريح فنامت وبعد بضع ثوانٍ فتحت عينيها السوداوين فنظرت ابراهيم واقف عند رأسها فمدت ذراعها وقبلته ثم رفعت يديها نحو السماء قائلة لتكن مشيئتك يا الله فأنا أخضع لقضائك احفظ زوجي الشيخ الحزين وابنتي الطفلة ثم ضمت ذراعيها وبعد ذلك ببضع ثوان لفظت روحها وهكذا ذهبت شهيدة الحبل والولادة.
ولا تسأل عن حزن ابراهيم وبكائه المر وانتحابه عند موت زوجته فلعن تلك الساعة التي قابله بها الطبيب، وكان يفضل أن يبقى بدون نسل من أن يفقد تلك الزوجة الفاضلة ولكن ماذا ينفع الندم بعد ما زلت القدم وكان كلما يتذكر ما كانت عليه من الصفات الجليلة والمزايا الشريفة يزداد بالنحيب والعويل والنوح فجميع من حضر أخذ يقاسمه أحزانه ويشاطره كآبته حتى ان الجماد شاركه مصابه والدار شاطرته في رد صدى اشجانه.
فما انتشر خبر منعاها إلا وتقاطر الأهل والأصحاب وشقوا الجيوب وقرعوا الصدور على تلك البلية الدهماء والنازلة الشعواء والداهية الدهياء. فاحتشدت الجموع عقيب ذلك في دار ابراهيم لنقل الجثة فلما أتموا كل ما يلزم حملوا النعش المزين بالورود والرياحين إلى المقبرة وكانت الطرق غاصة بالناس وشرفات البيوت والشبابيك والأبواب مفتوحة لترى ذلك الموكب المحزن المشيع من الجمهور. فوقف ذلك الحشد في ساحة المقبرة العظمى ثم سار من هناك إلى المحل المعد لدفنها ورأى أن الرمس حاضر فوارى تلك الجثة الهامدة في التراب على رجاء قيامة الأجساد وأخذ الناس يستمطرون وابل الرحمة على روحها الطيبة العنصر ويطلبون من الله أن يلهم قرينها الصبر والعزاء لكي يمكنه أن يحتمل ذلك المصاب الأليم وهكذا أرفضّ الجمهور ورجع كل منهم إلى بيته يحدث ما سمع عن مزايا تلك الفاضلة ومناقبها الأثيلة وأفعالها الصالحة المجيدة تلك التي بلا شك ستكون لها خير زاد للآخرة وقصّوا كيف أبّنها بعض الكتبة وبينوا أفضالها وفضائلها وما كانت عليها من دماثة الأخلاق ولين العريكة ورقة قلبها وشفقتها على المساكين والفقراء والأخذ بساعد المظلومين وكيف بكتها الأغنياء والفقراء.
فعاد ابراهيم إلى البيت حزين القلب مكسور الخاطر منحني الظهر والدموع تتساقط على خديه وهو لا يعي على شيء من شدة الغم والكدر فكان الناس يعزوه ويسلوه بحوادث وأقوال تشفي صدأ القلب ولكن لم تكن تلك تغني عنه فتيلاً لأنه كان قد فقد أكبر مسل وأعظم معزٍ وأعز رفيق على وجه هذه الأرض. وكان فقط يردد هذه الأبيات:
ضاق السبيل على الباكي الحزين فلا عاد الحبيب ولا قلـب المحــب ســـلا
يهيج للحزن فــي أحشـــائــــه لـهـب وكلما رام اخماداً لـــــــه اشتعـــــــلا
كل الجراحات يشفيها الــدواء سـوى جرح الفؤاد فلا يشفــى وكـــم قتـــلا
****
نفذ القضــــــا من أوج ذاك المنبـــر فاصبر على بلواك أو لا تصبــــــر
ولقد أتى ما لســــت تملـــك بعـــده غير البكاء ولوعـــــــة المتحســــر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) بحث القي في عنكاوا يوم السبت 26 \ 10 \ 2013 ضمن الحلقة الدراسية الرابعة التي اقامتها المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في فندق عنكاوا بلاص بعنوان (( دور السريان في الثقافة العراقية – دورة رفائيل بطي )) . ثم نشر البحث في مجلة سفروثا العدد 9 – 10 ( عنكاوا 2018 ).