1
المنبر الحر / شيطان الشعر
« في: 22:46 24/07/2019 »شيطان الشعر
شمعون كوساكنت قد سمعت كثيرا عن شيطان الشعر الذي يُقال عنه بانه يساهم احيانا في إلهام الشاعر . إنه حالة نفسية خاصة تجعل كتّاب الشعر او النثر ، يتدفق داخل عقلهم سيل من الافكار. قلتُ في نفسي ، لماذا لا اجرب إخضِاع هذا الشيطان لاختبار ، فاذا صحَ الخبر أكون قد عثرت على موضوع او فكرة انسج حولها ، خاصة واني أمرّ هذه الايام بأجواء مضطربة عكرت صفو افكاري ، واذا لم يصحّ الخبر ، لا اخسر شيئا وأكون قد تيقنت من زيف الاشاعة . أغمضتُ عينيّ واختليت ، متّخذاً هيئة من انصرف الى صلاة عقلية. كنت ، وانا في هذه الحالة ، اشعر ببعض الحرج ، لأني كنت فعلا في مقام من كانت قد ضاقت به كافة السبل ، ولم يبقَ امامه سوى طرق السحر والشعوذة .
بعد خمس دقائق فقط ظهر الشيطان ، وكان فعلا كائنا هزيل البنية ، ذي قرنين وذنب طويل ، لمحته من بعيد فهرعت إليه ، ولكنه ما أن أحسّ بيّ ، إختفى حالا وبسرعة البرق . تعقّبت مخبأه وغدوت ابحث عنه في كافة الزوايا ولكني لم أجد له أثراً. بعد هذا وعلى حين غرّة ، أبصرته وقد ابتعد كثيرا واصبح فوق تلّة صغيرة. هممت باللحاق به ، ولكن دون جدوى ، لانه كان قد افلح في التخفي وراء عوسجة كثيفة هناك . بقيت أترقبه من جديد ، واذا به قد ترك المخبأ بصورة سحرية، سالكاّ طريقا وعرا ، مزروعا بأشواك تضاهي الالغام . قلت في نفسي هل أخطأت في مناجاتي كي اتورط مع شيطان يلاعبني لعبة الغمّيضة. وقلت ايضا أيُعقل ان يكون طلبي قد سُلّم الى اول ابليس خفر، لا يحمل اية درجة ، فاتاني مرغما ومتورطا ، وبدأ يتجنبني !!!
عندما رأيت نفسي عاجزا عن إدراكه، ناديته من بعيد قائلا : يا شيطان الشعر، أنا لست شاعرا ، ولكني احتجت الى إلهام بسيط ، كنت اكتفي بومضة انثرها ولكنكَ خيبت املي.
عندما تأكّدت بان مساعيّ ذاهبة سدى ، قلت في نفسي : ما لي مستنجداً بكائن ينتمي الى كتيبة الاشرار. ألستُ أنا مالكا حواسي كاملة ؟ ماذا ينقصني ، لماذا لا الجأ الى الطبيعة وجمالها التي تتكلم وتبتسم وتغني ؟ ألم يقل عنها احد الشعراء في آواخر أبيات لاحدى قصائده : (انظر ، فما زالت تطلّ من الثرى ، صور تكاد لحسنها تتكلم) ؟
تركت مناجاتي وذهبت الى مكان تتكلم فيه المياه ، وتتكلم فيه السماء ، وتتكلم فيه الغيوم ، وتتكلم فيه الطيور والاشجار . جلستُ عند حافة بحيرة ازاء منظر خلاب كل ما فيه يتكلم . كان موضعا إذا رآه أحد الشقلاويين القدامى، كان سيقول عنه عفويا ً، وقد عوج قبعته قليلا وأمالها : ما اجمل هذا المكان ، إنه فعلا مكان يليق بالافتراش والأتّكاء ، لاحتساء كأس عرق غير مرخّص (قجغ) !! . جلستُ ، وانظاري موجهة الى العلى . بدأت بدوري اتكلم غناءً . انطلاقي كان نابعا من نفس مليئة أنينا ، وحنينا ، وحزنا ، وحيرة ، وشوقا وسعادة تخنقها العبرات. غنّيت من اعماقي مختارا مقاماتي بمنعطفاتها ، ومرتفعاتها ، ومنحنياتها واوقات سكونها .
وأنا في حالة اندماجي هذه، لاحظتُ سرباً راجلاً من الحمام ماثلا امامي. إعتقدت بان الحمام قادم في طلب خبز او طمعا في بذور سأرميها له، غير اني استغربتُ عندما بدأتْ إحدى الحمامات بالكلام ، وقالت لي : لقد سمعناك ، وعرفنا أنك من العراق لان شدوك كان مشبّعا بالأنين . وضعتُ حدّا لدهشتي ، لانّي معتاد على محاورة الطيور ، وأجبتُ للفور : نعم هذا صحيح . أردفتِ الحمامة قائلة : نحن نتابع تطورات بلدكم المنكوب والصعوبات الجمّة التي يمرّ بها ، ولكن ما لم نفهمه لحدّ الان هو : لماذا لم تعد الاضاءة كسابق عهدها في بلدكم ؟
تأوّهتُ قليلا وقلت : لقد وضعتم يدكم على الوتر الحساس . حيرتي أنا ايضا تتجدد في كل لحظة ، وأزيد فاستفهم مثلكم : ماذا يمنع إعادة الكهرباء لهذا الشعب ، أليس العراق بلدا نفطيا غنيّاً ؟ إذا كانت تنقصه السيولة النقدية لدفع تكاليف مشاريع اعادة الامور الى نصابها ، فان خزين الذهب الاسود ، المُخبّأ تحت الارض ، كفيل بتأمين أضعاف هذه التكاليف ، وبوسع المسؤولين الاستعانة بعشرات الشركات المختصة لإعادة الوضع كما كان وفي مدة لا تتجاوز الثلاثة اشهر . قالت لي الحمامة الكبيرة: وماذا يمنعهم من تحقيق هذا الكلام المنطقي؟ قلتُ لها : إنه حديث ذو شجون . إن بلدنا مُبتلىً بماضيه القريب ، ولقد اصبح الآن كالطفل الذي لم تعد أموره بيده ، فهو مسيّر كالعرائس . خيراته اصبحت فريسة ينهشها الغرباء ، ولقد اضحت هدفا للنهب من قبل من تولّوا قيادتها ، والذين اوكلت لهم هذه المهمة ، بحيث اصبحت عملية ملء الجيوب لا تدع وقتا للتفكير في البناء!!
عند هذا الكلام، أحنتٍ الحماماتُ رأسَها وبدأت بالانسحاب ببطء، طالبةً منّي مواصلة مقاماتي التي كانت تسرد حرقة نابعة من الاعماق.
هذه تجربتي مع شيطان الشعر، بدأت بخلوتي ومناجاته فأخطأتُ، وانتهيتُ معلّقا في الفضاء ، وسط الحان قطعتها ، من اجل الاصغاء لكلمات شريفة نطقتها طيور تتعاطف مع شعبي.