عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - شمعون كوسـا

صفحات: [1]
1
المنبر الحر / شيطان الشعر
« في: 22:46 24/07/2019  »
شيطان الشعر
شمعون كوسا

كنت قد سمعت كثيرا عن شيطان الشعر الذي يُقال عنه بانه يساهم احيانا في إلهام الشاعر . إنه حالة نفسية خاصة تجعل كتّاب الشعر او النثر ، يتدفق داخل عقلهم سيل من الافكار. قلتُ في نفسي ، لماذا لا اجرب إخضِاع هذا الشيطان لاختبار ،  فاذا صحَ الخبر أكون قد عثرت على موضوع او فكرة انسج حولها ، خاصة واني أمرّ هذه الايام بأجواء مضطربة عكرت صفو افكاري ، واذا لم يصحّ الخبر ، لا اخسر شيئا وأكون قد تيقنت من زيف الاشاعة . أغمضتُ عينيّ واختليت ، متّخذاً هيئة من انصرف الى صلاة عقلية.  كنت ، وانا في هذه الحالة ، اشعر ببعض الحرج ، لأني كنت فعلا في مقام من  كانت قد ضاقت به كافة السبل ، ولم يبقَ امامه سوى طرق السحر والشعوذة . 
بعد خمس دقائق فقط  ظهر الشيطان ، وكان فعلا كائنا هزيل البنية ، ذي قرنين وذنب طويل ، لمحته من بعيد فهرعت إليه ، ولكنه ما أن أحسّ بيّ  ، إختفى حالا وبسرعة البرق . تعقّبت مخبأه  وغدوت ابحث عنه في كافة الزوايا ولكني لم أجد له أثراً. بعد هذا وعلى حين غرّة ، أبصرته وقد ابتعد كثيرا واصبح فوق تلّة صغيرة. هممت باللحاق به ، ولكن دون جدوى ، لانه كان قد افلح في التخفي  وراء عوسجة كثيفة هناك .  بقيت أترقبه من جديد ، واذا به قد ترك المخبأ بصورة سحرية، سالكاّ  طريقا وعرا ، مزروعا بأشواك  تضاهي الالغام .  قلت في نفسي هل أخطأت في مناجاتي كي اتورط مع شيطان يلاعبني لعبة الغمّيضة. وقلت ايضا أيُعقل ان يكون طلبي قد سُلّم الى اول ابليس خفر، لا يحمل اية درجة ، فاتاني مرغما ومتورطا ، وبدأ يتجنبني !!!
عندما رأيت نفسي عاجزا عن إدراكه، ناديته من بعيد قائلا : يا شيطان الشعر،  أنا لست شاعرا ، ولكني احتجت الى إلهام بسيط ، كنت اكتفي بومضة  انثرها ولكنكَ خيبت املي.
عندما تأكّدت بان مساعيّ ذاهبة سدى ، قلت في نفسي : ما لي مستنجداً بكائن ينتمي الى كتيبة الاشرار. ألستُ أنا مالكا حواسي كاملة ؟ ماذا ينقصني ، لماذا لا الجأ الى الطبيعة وجمالها التي تتكلم وتبتسم وتغني ؟ ألم يقل عنها احد الشعراء في آواخر أبيات لاحدى قصائده :  (انظر ، فما زالت تطلّ من الثرى ، صور تكاد لحسنها تتكلم) ؟
تركت مناجاتي وذهبت الى مكان تتكلم فيه المياه ، وتتكلم فيه  السماء ، وتتكلم فيه الغيوم ،  وتتكلم فيه الطيور والاشجار .  جلستُ عند حافة بحيرة ازاء منظر خلاب كل ما فيه يتكلم . كان موضعا  إذا رآه أحد الشقلاويين القدامى، كان سيقول عنه عفويا ً، وقد عوج  قبعته قليلا  وأمالها  : ما اجمل هذا المكان ، إنه فعلا مكان يليق بالافتراش والأتّكاء ،  لاحتساء كأس عرق غير مرخّص (قجغ) !! .   جلستُ ،  وانظاري موجهة الى العلى  . بدأت بدوري اتكلم غناءً . انطلاقي كان نابعا من نفس مليئة أنينا ، وحنينا ، وحزنا ، وحيرة ، وشوقا وسعادة تخنقها العبرات. غنّيت من اعماقي مختارا مقاماتي بمنعطفاتها ، ومرتفعاتها ، ومنحنياتها واوقات سكونها .
وأنا في حالة اندماجي هذه، لاحظتُ سرباً راجلاً  من الحمام ماثلا امامي. إعتقدت بان الحمام قادم في طلب خبز او طمعا في بذور سأرميها له، غير اني استغربتُ عندما بدأتْ إحدى الحمامات بالكلام ، وقالت لي : لقد سمعناك ، وعرفنا أنك من العراق لان شدوك كان مشبّعا بالأنين .   وضعتُ حدّا لدهشتي ، لانّي معتاد على محاورة الطيور ، وأجبتُ للفور : نعم هذا صحيح .   أردفتِ الحمامة قائلة : نحن نتابع تطورات بلدكم المنكوب والصعوبات الجمّة التي يمرّ بها ، ولكن ما لم نفهمه لحدّ الان هو : لماذا لم تعد الاضاءة كسابق عهدها  في بلدكم ؟
تأوّهتُ قليلا وقلت : لقد وضعتم يدكم على الوتر الحساس . حيرتي أنا ايضا تتجدد في كل لحظة ، وأزيد فاستفهم مثلكم  : ماذا يمنع إعادة الكهرباء لهذا الشعب ، أليس العراق بلدا نفطيا غنيّاً ؟  إذا كانت تنقصه السيولة النقدية لدفع تكاليف مشاريع اعادة الامور الى نصابها ، فان خزين الذهب الاسود ، المُخبّأ تحت الارض ، كفيل بتأمين أضعاف هذه  التكاليف ، وبوسع المسؤولين  الاستعانة بعشرات الشركات المختصة  لإعادة الوضع كما كان وفي مدة لا تتجاوز الثلاثة  اشهر  . قالت لي الحمامة الكبيرة: وماذا يمنعهم من تحقيق هذا الكلام المنطقي؟  قلتُ لها : إنه حديث ذو شجون . إن بلدنا مُبتلىً بماضيه القريب ، ولقد اصبح الآن كالطفل الذي لم تعد أموره بيده ، فهو مسيّر كالعرائس . خيراته اصبحت فريسة ينهشها الغرباء ، ولقد اضحت هدفا للنهب من قبل من تولّوا قيادتها ، والذين اوكلت لهم هذه المهمة ، بحيث اصبحت عملية ملء الجيوب لا تدع وقتا للتفكير في البناء!!
عند هذا الكلام، أحنتٍ الحماماتُ رأسَها وبدأت بالانسحاب ببطء، طالبةً منّي مواصلة مقاماتي التي كانت تسرد حرقة نابعة من الاعماق.
هذه تجربتي مع شيطان الشعر، بدأت بخلوتي ومناجاته فأخطأتُ، وانتهيتُ معلّقا في الفضاء ، وسط الحان قطعتها ، من اجل الاصغاء  لكلمات شريفة نطقتها طيور تتعاطف مع شعبي.

2
فحص الضمير تحليل لا يحتاج الى دم

شمعون كوسا

ارى من المفيد ان اوضح كيفية وصولي  الى هذا الموضوع وهذا العنوان .
إنّ من اعتاد على خوض مواضيعَ مستقاةٍ من صلب الحياة اليومية أو التطرق الى أحاديث تتعلق بالعادات والقيم والمبادئ والأخلاق ، يبقى دائم التفكير في ما سيتناوله   في كل مرة ، لاسيما اذ كان قد اوشك على استنفاذ جعبته الهزيلة . وفي هذا السياق، تنتهز الأفكارُ الفرصةَ لتُداعب صاحبَها ، فتظهر كالبرق حينا ثمّ تختفي ، وتغريه في زاوية اخرى جارية ببُطء وعندما تراه قد همَّ لملاحقتها ،تعدو مسرعة وتختفي . في غمرة حالتي الفكرية هذه ، زاحمتني الكثير من الخواطر ، كانت تتردّد على شكل عبارات او كلمات او صور او حروف تنساب دون توقف ،   الكثير منها كانت صالحة ولكنها تضمحل بسرعة دون افساح المجال لتثبيتها . كانت تتدفق منحدرة من علوّ شاهق وبكميات هائلة ، فيصبح الامساك بها  أمرا صعبا .   قرّرتُ ان انزوي في غرفة ملاصقة لهذا السيل بغية التلصص ومراقبة ما سأشاهده عـلّني ألمح فيه اشارة . تركتُ شريط الافكار يدور  لمدة ثلاث دقائق  فلاحظتُ لقطات تتكر لحروف وضمائرَ كانت تدنو وتبتعد  ، فتأتي  الضمائر تارة متصلة وأخرى منفصلة وتليها ادوات وحروف أو أسماء مستترة . فقلت في نفسي هل هذه دعوة لكي اتناول قواعد اللغة العربية كموضوع ؟  أبعدتُ الفكرة قائلا : وهل هناك الان من يكتب في القواعد العربية ؟  ومن سيهتم للقواعد العربية لاسيما في ايامنا  حيث قد اعتاد  الكثيرون باستهلال جملهم بمبتدأ منصوب ، او بعضهم يستخدمون  صيغة الجمع ، في فعل يتقدّم الفاعل ، لان مثل هذا الفعل المتقدم لا يأتي إلا مفردا حتى اذا كان فاعله جمعاً ، او آخرون يجزمون فعل المضارع المعتلّ دون حذف حرف العلة ، وآخرون يتخبطون في صرف ما لا ينصرف ، والكثير الكثير من الاخطاء الاخرى التي يقع فيها بعضُ المسؤولين وحتى قسم من الكتّاب. رأيت بأن موضوعا كهذا سيكون طويلا ومملّاً ، فنبذتُ الفكرة واستأنفت استعراض الشريط الذي اعادني الى الضمائر من جديد  ، ولكنه اعقبها برسم واضح لسمّاعة فحص طبية كانت تحوم حول الكلمات وتحطّ  على العبارت والضمائر والحروف ، فاوقفتُ الشريط  حالا ، وقلت لقد وجدتها ، فان الضمائر وجهاز الفحص اشارات واضحة تقودني الى موضوع اسمه (فحص الضمير) . لعل مقدمتي هذ مضحكة ولكنه هذا ما حصل !!

قد يقول البعض : ما لهذا الاخ يقودنا في دهاليز روحية مخصصة لطقوسها ورجالاتها ؟ اليست هذه العملية من واجبات رجال الدين او الرهبان ؟ جوابي هو كلا ، لانه اذا كان هذا الفحص بالنسبة لرجال الدين واجباً ، وإن كان الكثيرين منهم يهملونه !! ، فانه مفيد جدا ، بل ضروري لكل شخص في حياته. الانسان بحاجة الى إعادة نفسه في خلوة يستعرض فيها خلاصة حياته اليومية ويضع افكاره وافعاله واقواله ونواياه في كفة ميزان دقيق جدا ، فيقوم بعملية الوزن والقياس وهو واثق تماما بمعيار الضمير ،  معيار لا تتحرك اوزانه قيد شعرة ، بالرغم من محاولات التلاعب بها او تغييرها بغية غسل بعض الاعمال وتبرير النوايا . فحص الضمير عملية تساعد الانسان في التصالح مع نفسه واصلاحها وتقويم علاقته مع الاخرين .
الضمير مرتبط بالعقل، فهذا يكشف وينير ، والثاني يُصدر حكمه وينطق به بصوت عالٍ. الضمير يضع الانسان امام الحقيقة التي لا تقبل التغيير ، انه صوت الطبيعة الذي ينطلق كالسهم ولا يخطئ ابدا . هناك الكثير من الاقاويل حول هذا الموضوع مثلَ : فلان قد مات ضميره أو فقده ، وذاك قد وسّع حدود ضميره  أو قام بتخديره او تنويمه او قتله ، انها كلها اقاويل صادرة عن اشخاص لا يعرفون بان الضمير لا يغادر الا بصحبة الروح  .
  ان عملية فحص الضمير هي كالدخول في موضع رسمي او محراب .  على من يعتزم دخول هذا الفحص ،  نزع سلاحه ، والسلاح هنا هو التخلي عن القيود التي فرضها على ضميره . يجب ان يحرّر نفسه ويتجرد تماما من مآربه الشخصية ويحرص على انارة مشاعله كي لا تبقى هناك بقعة مظلمة . كما على كل  من يدخل هذا الفحص التمنطق بالصدق والابتعاد عن محاولات ايجاد  المبررات او الظروف المخففة . لاإن ما ينطق به الضمير ليس غسر كلمة الحق ، فالشخص الصادق المتجرد هو الذي يقبل بما يمليه الضمير ، اما المتشبث بمواقفه ومصالحه سيرفضه ، ولكن صوت الضمير سيبقى مدوّيا في رأسه  ليل نهار . سيقوم الاناني الرافض لصوت الضمير  بالضغط عليه وكبته ، ولكن هذا لن يغير شيئا ولن يُبعد عنه الشعور بندم  شديد لانه كذب ، لانه خان ، لانه سرق ، لانه اعتدى ، لانه وشى ،  لانه جرح بلسانه وبيديه او ارتكب جريمة ، اعمال مهما كانت درجة سرّيتها فانها لا تخفى عن الضمير ، وانه الرافض هذا سوف لن يجد الراحة الا بعد الاستجابة لحكم  الضمير .  كما انه للضمير قوة هائلة ، فهو بمثابة آلة الدكّ الضخمة التي عندما تبدأ عملها بقوة لا تتوقف، فيتحول  نهار المرء الى ليل في لوم لا يتوقف وفي دويّ لا ينقطع الا بقبول الحكم.
من جهة اخرى ، فحص الضمير عملية تُلزِم صاحبَها ، لانها استعراض شفاف لكافة التصرفات ولا سيما المعوجّة منها ، والتي تقتضي ايجاد حلول لتقويمها ، وهذا يتطلب جهودا وتضحيات . والضمير لا يجامل ولا يتنازل ، ولا يملّ من اعادة أوامره لمئات المرات . الضمير هو الحَكم العادل ، وعدالته تكمن بانه لا يعرف غير الحقيقة ويضع الشخص امام هذه الحقيقة . ولاجل هذا نسمع الكثيرين يحلّفون الاخرين بضميرهم في موضوع اختلفوا عليه .
يبقى الضمير صوتا صارخا ، يؤنّب صاحبه مهما تهرّب واختفى وحاول اسكاته. اني اوجز هنا فحوى قصيدة رائعة للكاتب فكتور هيجو الذي تناول موضوع الضمير . انه يصف حالة قابيل ابن آدم الذي قتل اخاه هابيل وهرب من وخز الضمير ، فابتعد عن موقع الجريمة مع افراد عائلته . عندما وصل في رحلة هروبه قرب جبل شاهق توقف عند سفحه وتمدد هناك معتقدا بانه ابتعد بما فيه الكفاية من موقع جريمته فلا يخاف من وخز الضمير ، واذا به يبصر عينا كبيرة معلقة شاخصة اليه . ترك سفح الجبل وركب البحار متجها نحو الحدود  ، ولكنه عند خروجه  الى اليابسة وجلوسه عند نقطة الحدود ، ابصر العين الواسعة نفسها تحملق فيه . طلب من اولاده ان يقيموا له خيمة عالية جدا تخفيه عن الانظار، غير انه بعد ولوجها ، وجد نفسه ازاء العين نفسها تقصفه بنظرات تأنيبها الحادة . ترك المكان وبعد شهر واحد من السير الحثيث باتجاه معاكس آخر  ، توقف في ارض قاحلة وطلب من ابنائه انشاء مدينة محصنه مع قلعة عالية  . دخل قابيل قلعته الحصينة بنفس مطمئنة ،  غير ان  المقام لم يطل به كثيرا عندما ابصر نفس العين التي كانت تقول سأكون وراءك اينما ذهبت. رحل من هناك وغيّر الموقع وتحول الى مواقع كثيرة اخرى ، الى ان طلب من اولاده في النهاية  ان يُنزلوه تحت الارض ، فحفروا له قبرا وادخلوه فيه وغطوه بصورة محكمة ،  عندما جلس  هابيل في حفرته معتقدا بانه قد نجا من ضميره ومن العين الكبيرة التي لم تكفّ عن النظر اليه ، ظهرت له نفس العين ترمقه بنظرات حادة وهو في باطن الارض .
هذا هو الضمير الذي لا سبيل لاسكاته أوكبته أوتنويمه او محوه ، فالاجدر بالمرء ان ينقاد له  ويتجاوب معه في فحص دوري  يوفر له الراحة الحقيقية ، لان راحة الانسان في راحة الضمير.



3
هل كان يحتاج الانسان فعلا لكل هذا العقل ؟
شمعون كوسا

في هذه المرحلة من حياتي يعجبني ان الاحظ الكثير من تصرفات الناس في الحياة  ،  وبعض هذه التصرفات التي تشملني انا ايضا ، تدعوني بصورة خاصة للتفكير والتحليل  والمقارنة والتعليل . لست هنا في صدد تناول مواضيع خارقة ، ولكني سأنطلق من عبارات عادية جدا اصبحت منذ اقدم العصور من مكونات أغلب الجمل التي يتألف منها حديثنا العادي في كل أمر . إنه ردّ على الاقوال او الافعال او الحركات التي نقوم بها جميعا ، فنقول مثلا : هل فقد فلان عقله ؟ هل فكّر فلان جيدا قبل اتخاذ قراره هذا ؟ هل كان فلان فعلاً بكامل قواه العقلية ؟ هل يتصرف العاقل بهذه الصورة ؟ انه فعلا تصرفُ وحشي . هل كان في تصرفه ذرة من العقل؟ اين كان عقله عندما قال او فعل ذلك ؟ لا اعرف كيف طار عقلي من رأسي ! . كن عاقلا يا ابني ولا تتهور . لو عرف الانسان قيمة عقله !، هل هذا منطق ؟ والمئات من مثل هذه المصطلحات التي يلعب فيها العقل دور الفعل والفاعل والمفعول .
كل هذه الملاحظات وعبارات الاستغراب والتأسّف والتأفف أوالتأنيب نابعة من حقيقة ان الانسان قد أتى مميّزا عن كافة المخلوقات ، لانه خُلق حيوانا ناطقا ، اعني مخلوقا يحمل عقلا ، والعقل يتيح له التمييز بين الصواب والخطأ وبين النافع والضار وبين ما يليق وما لا يليق . وهذا العقل ، بغضّ النظر عن العجائب التي يجترحها ، فانه يقود تصرف الانسان الحسن واللائق والمفيد في علاقته مع الغير ويحقيق السعادة له ولغيره.
ان العقل جوهرة ثمينة لا تقدّر بأموال الدنيا كلها ، لانه يجعل كل انسان يمتلك العالم المنظور وغير المنظور ، فباستطاعة الانسان تحقيق اعظم الابتكارات ، كما بوسعه استيعاب وتخيّل ما قد يكون بحجم الكون كله او اكثر ، عقل الانسان كالفضاء لاتحدّه حدود . انه قابلية غير منظورة يتميز بها الانسان ، في خلق مصدر سعادته اذا احسن اسخدامها ، لان العقل نور في الظلام ، وهوقادر على خلق نفس المناخ في اوقات تبتعد ظروف السعادة ، فينطلق في ايجاد لحظات ارتياح خيالي وروحي ، وهذا لا يوفره غير العقل .
العقل المتطوّر ، اعني العقل الذي نما في بيئة سليمة وانفتح على معارف واسعة اخرى ، يصبح القوّة التي لا تتوقف عند اية معضلة ، فمثل هذا العقل كفيل بايجاد حل لكل مشكلة مهما بلغ تعقيدها ، لان له من قدرة الفهم والاستيعاب والتخطيط والحكم على الاشياء واتخاذ القرار ، ما لا يترك مجالا للحيرة أمام اي امر .
هناك من وُلدوا بعقل عبقري ، وآخرون يُشهد لهم بذكائهم ، وآخرون اكتفوا بمستواهم المتوسط ، وفئة اخرى لم يُحرموا من العقل ، غير انهم جاؤوا بقابلية ضعيفة . وهكذا يلد العقل الفكرة خلاّقة ، شاملة ام ضعيفة سطحية . العقل ليس وسيلة تسعفنا في مباريات مخصصة لابراز مدى تفوقنا وذكائنا ، ولكنه وبصورة اساسية وسيلة مجانية متاحة لمن يجيد استعمالها في التصرف الصواب وتجنب الخطأ ، وهكذا ، يغدو المرجع الذي لا بدّ من العودة اليه في كل تصرف وفي كل قرار .
العقل وسيلة تمنع الحيوان الناطق من الانحدارالى نصفه الاول ، اي الانقياد الى التصرف الغريزي الذي هو من خاصية الحيوان . كل هذا الكلام المكرر والمملّ ، اتيتُ به لكي انتهي الى القول وبجملة واحدة : هل كان يحتاج انساننا الحالي الى كل هذا الكنز الثمين والجوهرة التي لا يعرف قيمتها ، كي نراه احيانا وقد انحدر الى مستوى دون مستوى الحيوان . لقد بات الانسان يستعين بكنزه هذا لابتكار الاحابيل وسبل الشرّ والايذاء .
الم يكن من الافضل ان يُولدَ بعضُ الناس محدودي التفكير والعقل ، فيأتي تصرفهم محدودا او منعدما فيجنّبوا الالوف والملايين من الناس الدمار والتهلكة . لقد عشنا تحت ضلّ قادة لم يستخدموا عقلهم لغير الخصومات والحروب والاقتتال ، بسبب تصرفهم الحيواني ، بسبب اهوائهم ، بسبب غضبهم ، بسبب كبريائهم وانانيتهم ، بسبب عدم استخدام عقلهم كما يجب او لعدم الرجوع اليه في اوقات مصيرية . ما الفائدة من عقل هؤلاء ، الم يكن الكلب مثلا افضل منهم ، الكلب هذا الكائن الوديع الوفي والمفيد . ما الفائدة من عقل ذكي يبتكر اساليب لاخفاء الحقيقة لانها تخدمه ومصالحه الشخصية.
في ايامنا هذه ، فَقَدَ الكثير من الناس قيمة عقلهم ، الذي هو مصدر سعادة وارتياح للنفس ووسيلة لخلق اجواء السعادة والخير . لم يعد يهتمّ انساننا العاقل الحالي بالبحث عن السعادة الحقيقية ، لانه قد حوّل هذا الامتياز العظيم ، الذي يمكن أن يرفعه احيانا الى مرتبة الاله ، فأخضعه لخدمة  مآربه الشخصية الدنيئة   ، اعني  وسيلة لاشباع أهوائه وأنانيته ونزعاته الحيوانية . ما فائدة المشاعر النبيلة التي يوفرها العقل إذا انحدر الانسان واستغنى عن عقله وغدا همّه الوحيد  البحث عن كل ما هو دنئ و قبيح وواطئ . ما فائدة العقل اذا استخدمه للمقت والكذب والحسد والتفنّن في كافة اساليب الشرّ ولاكتشاف طرق سرية وخبيثة للايقاع بالغير والاعتداء على المظلوم ؟
لماذا ، وبالرغم من وجود هذا العقل ، لا نرى في ايامنا غير الانقسام والتهديد والذبح والظلم. الم يكن الأولى بمسببّي هذه الويلات ألا يُخلقوا او يُصنَّفوا ضمن فصيلة الحيوانات المفترسة ، على الاقل يكون تصرفهم حينذاك وفق نظام الطبيعة. هل كان يستحق الانسان ، او على الاقل قسم كبير من الناس ، هل كانوا يستحقون هذ الامتياز الجميل العظيم والسامي ؟ لقد تسبب بعض الوحوش من بين المتنفذين من البشر ، بتصرفهم البعيد عن العقل ، في تعذيب بشر آمنين تمنّوا لو كان خلقهم الله دون عقل وشعور لانهم يتعذبون ، يتمنّى هؤلاء لو حرمتهم الطبيعة من الاحساس لان وحشية البعض تجرحهم في اعماقهم وتعذبهم ولا حول لهم ولا قوة  في ذلك . لقد غدا الانسان وحشا ، اعني عاد الى طبيعة حيوانية لانه اهمل عقله .
هل كان الانسان فعلا يحتاج الى هذه الثروة الروحية التي يفترض ان توفر له سعادة حقيقية ، توفر له الهدوء والراحة والرضى ؟ هل كان فعلا يحتاج انساننا الحالي الى هذه القيمة التي يصعب تقديرها ، القدرة لايجاد المبادئ السامية  وتطبيق المثل العليا التي تؤمّن له الحقيقية وتساهم في اسعاد الغير لاسيما الضعفاء منهم ، هل فعلا كان يحتاج الكثير من اخوتنا لمثل هذه الجوهرة ؟
لقد تورطتُ في تناول موضوع هو بسعة الفضاء . قد اكرر القول على هذا المنوال الى ما لانهاية ، غير انه يبقى في حدود البديهيات  . كنت افكر بامر هذا المقال ، وذات ليلة ذهبت بعيدا في تفكيري في امكانية ايجاد نظام عالمي خيالي  يتيح لسلطة ما في الحياة تحمل صلاحيات في رفع بعض الحيوانات الى مرتبة انسان ، واتخذت بعض الكلاب مثلا . اقول هذا لاني التقي كل صباح جارا يصطحب كلبا صغيرا نظيفا جميلا ، يتمنى كافة المارّة دون استثناء الوقوف عنده لملاطفته لانه يجامل الجميع .  فهمت من صاحبه بانه كلب وفيّ جدا ، ويؤدي له الكثير من الخدمات ، فقلت في نفسي : أليس هذا الكلب الوفي والخدوم افضل من فلان وفلان من الذين نعرفهم والذين بالرغم من عقلهم تسببوا في كثير من الاذى؟ الم تكن ترقية هذا الكلب الى مرتبة انسان عاقل أمرا يرحب به الجميع  ؟!!




4
المنبر الحر / هذه بعض اعترافاتي
« في: 19:30 04/12/2013  »
هذه بعض اعترافاتي
شمعون كوسا

كنت احصي الايام في كل صباح ، إلى ان بلغت اليوم العاشر من مناجاتي للقبّة الزرقاء ، كنت اتوسل اليها كي تستعيد حقوقها في ارتداء ثوبها الازرق الصافي ، غير ان الطبقة الداكنة السوداء كانت قد لازمتها والتحمت بها . كانت نفسي بحاجة الى فضاء يُنسيني كربي من فترة حداد أمضيتها قرب صديق فقد أخاه . كنت ارفع انظاري بحثا عن بصيص من نور الشمس وفي كل مرة اعود خائبا فأزداد كرباً . حاولت رؤية السماء في داخلي ، ولكن الضباب كان قد استولى على الداخل والخارج . وانا في هذه الحالة سمعت صوتا خفيّا يناديني قائلا : أنا سأنقذك من الوطأة التي تعاني منها وسأرفعك الى فضاءات تحلم بها ،  ولكن رحلتك هذه ستكلفك الكثير . وافقت حالا على شروطه ، وانطلقت معه في رحلة صعود نحو الاعالي خِلتها قصيرة ، ولكنها طالت كثيراً ، إذ كلما كان يعتقد قائد مركبتي بانه اوشك على الوصول ، يرى بانه لم يتجاوز منتصف الطريق ، إلى ان اصابه الدوار وقال لي : لقد أخطأتُ في حساباتي  وأضعت الطريق . اتركك هنا لتكمل طريقك لوحدك ولدى وصولي سأعيد اليك نصف ما تقاضيتُه. رأيت نفسي كاللاجئ الذي اعتمد على مهرّب شريف تركه في منتصف الطريق او في وسط البحر . عندما شعرت بنفسي عائما اسبح في الجو عرفت باني خارج منطقة الجاذبية ،  فصرخت باعلى صوتي : هل هناك من يسمعني ؟
لم يَطُلْ بي المقام داخل طبقات الضباب الكثيفة ،  لاني أحسست  بيد تمسك بكتفيّ ، وسمعت شخصا يقول : لقد تجاوزتَ حقك وحدودك ، سأقودك الى قيادة المنطقة لغرض استجوابك . لم تستغرق المسافة بين حارس الحدود والقيادة أكثر من دقيقة . قال لي : توقفْ هنا لقد وصلنا . وقال ايضا : يجب ان تعلم بان جلّ اهتمام المحققين هنا هو البحث عن الحقيقة . سوف لا يطالبونك باداء القسم لانهم على بيّنة من كل شئ ، لذا يجب أن تتقاطع اعترافاتك ، بصراحتها ، مع الحقيقة المدونة لديهم .
بدأ المحقق دون مقدّمة وطلب مني قائلا : هل لك ان تروي لنا حادثة الاغتيال التي تعرض لها شقيق أحد أصدقائك ؟
قلت له : أرى فعلا بان مساحة رؤيتكم واسعة جدا وبانكم مطلعون على آخر أنبائي الشخصية . إنها جريمة قتل اقترفها شقيق ضد شقيقه من أجل قطعة ارض . كان للمقتول كامل الحقّ في الارض . كان الجشع قد اعمى قلب اخيه وقتله ،  ولكي يُبعد الشبهة عن نفسه ، استأجر يداً آثمة لتنفيذ الجريمة ، ولكي يخفي الادلّة الجنائية عن المحاكم ويشوش طرق مباحثها ، استأجر يدأ آثمة اخرى ، لتصفية القاتل ومحو آثار الجريمة كاملا . كان الاخ المجرم شخصا متمكنا ، استطاع جمع شهود من بين الاقرباء ، أفرادٍ مأجورين اجادوا في كذبهم وفي تزوير الواقع ، فاخرجو الجاني بريئا طاهر الذيل . هذا باختصار ما حدث .
إن اهل ارض لم يعودوا يهتمون في ايامنا إلا بمصالحم الشخصية . قادت الانانية القاتلة الغالبية العظمى منهم للابتعاد عن الاخلاق الحميدة ، ولتحقيق مآربهم هذه ، لا يتراجعون عن استخدام كافة الوسائل  . فالكذب قد أدرج الان في قائمة الوسائل المشاعة ، والاعتداء والتجاوز، والتزوير ، والاهانة ، والضرب ، والفساد وحتى القتل ظهرت جميعها في حلتها البهية في قائمة يتبناها أنانيّو العصر الحديث . لقد تغيرت تعاريف الرذيلة والفضيلة وانعكست معانيها ، وطول الحديث لم يعد ينفع ، لان المبدأ السائد يقول : حجة الاقوى هي الفضلى ، والقوي الان يلتهم الضعيف  ويمحوه اذا اصبح عقبة أمامه .
توجه إليّ الضابط بسؤال جديد وقال : نحن نعرف بانك امضيت فترة شبابك في معهد كهنوتي ، وكان يفترض ان تتخرج كاهنا ، ماذا جرى لك ، هل لك ان تحدثنا عن اسباب توقفك وعُدولك عن انجاز الشوط ؟
نظرت اليه باستغراب شديد وقلت ، وما علاقة وجودي معكم بما قمت به قبل ما يقارب خمسين سنة ؟  قال لي : انه اختبار للحقيقة ، ورغبة في سماع اعترافاتك .
قلت له : إنك تدعوني الان للتحدث عن جروح كنت قد افلحت في تضميدها . وبما انك تضع صرحتي في المحكّ ، سأقصّ عليك باختصار كلاما لم ابح به كثيرا قبل الان :
لقد امضيت فعلا إحدى عشرة سنة في دراستي هذه وكنت قد بلغت المرحلة الاخيرة. بكل تواضع اقول باني كنت ضمن الاوائل في الدراسة ، ومن الناحية الروحية ، حافظت بكل أمان على ما هو مطلوب ،  ولكني في قرارة نفسي لم اكن مقتنعا تماما بهذه الرسالة لانها كانت رغبة والدي الملحّة . لقد حاولتُ كثيرا إقناع نفسي ولقد مررت بحالات سعادة روحية حقيقية وعرفت أيضا اوقات جفاف في صحراء قاحلة لا ترى فيها غير الرمال . كنت احاول ان ارى جمال الله في كل شئ ، فكنت افلح احيانا وافشل في اغلب الاوقات . ومن جهة اخرى ، وبحكم طبيعتي الحساسة ، وانقيادي الاعمى الى المنطق والحقيقة المطلقة ، كنت اقارن كثيرا ، واعتمد على ما أتلقاه من تعليم واقرأه في الاناجيل ، فكنت اجد فرقا شاسعا بين تصرفات رجال الدين وما يطلبه المسيح  . أنا كنت اعتقد آنذاك ولا زلت اعتقد بان رجل الدين يجب ان يكون قديسا ، بمعنى آخر أن يكون منقادا بالكامل الى ما يُمليه عليه الانجيل ، فرأيت هذا صعبا بالنسبة لي ، وهذا ما بيّنته لرئيس المعهد عند مفاتحتي إياه ، وقلت له : باعتقادي أنا ، يجب على الكاهن ان يسير باستقامة كاملة وضمير صارم ، وهذه المتطلبات صعبة عليّ ،  وبالاضافة الى ذلك لا استطيع ان اخون المقدسات ، هذه طبيعتي ولا يهمني ما يقبله الاخرون . دعاني المدير آنذاك الى التروّي والصلاة وإمضاء مهلة في التفكير . استجبت لطلبه ، وامضيت فترة الانتظار ، غير ان استعدادي لم يتغيّر . هذه هي باختصار شديد قصتي مع الكهنوت .
قال لي المحقق : أهنئك على صراحتك لانه فعلا هذه هي نفس الرواية المقيدة في سجلاتنا ، ولكن قل لي ، هل ترى بان رجال الدين الحاليين يسيرون باستقامة في طريق خشيتَ أنت الانخراط فيه ؟
قلت له : ارجوك ان تُبعد عني هذا الاستجواب وهذا السؤال بالذات ، لاني قد تحدثت كثيرا عن رجال الدين وانتقدتُ تصرفاتهم وكنت اقوم بذلك بنية حسنة  . اخشى الان اذا استخدمت نفس الصراحة ، أن اغدو هدفا لسهام البعض منهم . ساتكلم باختصار ، ولكن أرجوك ألا تدرج كلامي هذا ضمن الاعترافات  .  قال لي : تكلم ولا تخف .
قلت ، هناك رجال دين لا زالوا يؤمنون برسالتهم ويقومون بواجباتهم بروح حقيقية . وهناك من قد تقبلوا الكهنوت كمهنة يقومون بها ، يقومون بواجباتهم ويتمتعون بما توفره لهم من امتيازات . وهناك عدد آخر يقومون بها كموظفين ، لايأبهون بمضمونها وبروحيتها ، وكأنهم مكلفون بترتيل بعض الصلوات وإداء بعض حركات معتمدين على ايمان البسطاء من الناس . مشكلة هؤلاء هو نسيان رسالتهم الحقيقة والانجرار وراء العالم واهوائه وإغراءاته . بصورة عامة ، يعتبر رجل الدين نفسه أرفع مرتبة من كافة رعاياه ، في الوقت الذي يجب ان يحدث العكس ، فرجل الدين عند تقبله رسالته يجب ان يرتدي وزرته ليخدم اصغر رعاياه ،  ولكن الذي يحدث هو العكس ، فرجل الدين هو السيد الذي يجب مراعاته واحترامه وتوفير الراحة والرفاهية له ، والمؤمن المسكين ، ينتظر احيانا نظرة رأفة من بعض هؤلاء الاخوان . لقد اطلق عليهم قداسة البابا فرنسيس  اسم رجال المطارات ، لانهم يحبون التفرغ للسفر ، وكأن السفر هو من ضمن واجباتهم الروحية .  لا اريد الاطالة في فقرة تحتاج فعلا الى  كتاب كامل . بكلمة واحدة ، لقد اسقط الكثيرون ، من تعهدهم أمام  الله ، كلمة مهمة جدا وهي التجرد في حياتهم الكهنوتية .
بعدما رجوت المحقق ألا يضع هذه الفقرة الاخيرة في محضر اعترافاتي ، طلبت منه ان يطلق سراحي لاني ابصرت السماء وقد افلحت في انتزاع الطبقة الداكنة عنها.
قال لي ، لقد تيقّنت من صراحتك ، اذهب بسلام . تركته وبدأت بالهبوط مستنيرا باشعة الشمس ، غير اني في طريقي تلوت فعل الندامة لعدة مرات خشية الا يصيبي سهم  طائش يفلت من يد تكون قد سمعت اعترافاتي الاخيرة ولم تصغي الى فعل ندامتي .

5
أتانا المطران  رمزي كَرمو  زائراً رسولياً
شمعون كوسا

لم نكن نعرف ما هو الزائر الرسولي ولم يخطر ببالنا يوماً حتى خيالُه . كنا نسمع مِن حين لآخر عن رجل دين قابعٍ في روما يحمل هذا اللقب ، كان يتجه بين فينةٍ وأخرى الى بعض المدن الكبيرة لا سيما الاسكندينافية منها . كانوا يحدثونا عن زياراته للسويد مثلا ، حيث كان يعتلي المنبر بعد قراءة الانجيل ، ويبدأ بالتوبيخ والتأنيب والتقريع ، وبعد سرد سلسلة من تقصيرات الحاضرين الذين لا يعرفهم اصلا ، يدعوهم الى التبرع ، كالرجل السياسي الذي بعد كلمته امام الناخبين يدعوهم الى الاقتراع . يوعز الى هؤلاء الخطـأة المساكين بتحريك اياديهم السخيّة نحو جيوبهم للخروج باوراق نقدية ،تستقر في الطبـق دون إحداث دويّ ، وليس قطعاً حديدية قيمتها تتوقف عند الرنة التي تحدثها !!  أنا شخصيا لم اتشرف بمعرفة هذا المسؤول ولكني سمعت هذا الكلام ، كما سمعه غيري ، من أكثر من مصدر ، والعُهدة تبقى على الألسنة التي تفوّهت بما سمِعَتهُ آذانُها ، ونقلت ما شاهدَته أعينُها .
وفي نفس السياق ، قيل حتى ان البعض كانوا يقاطعون الكنيسة عند علمهم بمجيئه لانهم بكل بساطة لم يكونوا على استعداد لتلقّي توبيخ مجاني لا يستحقونه ، فهُم لم يكونوا يوماً عالة عليه ولا مدينين له بشئ . أنا أرى بأن الزائر الرسولي هو كاهن قبل كل شئ ، وهذا هو حال المطران والبطريرك وحتى الكردينال . هؤلاء جميعا هم في خدمة رعيتهم ، ويجب عليهم ان يكونوا رعاة صالحين قبل كل شئ محبّين لرعاياهم ، كما كان معلمهم المسيح .
والان سابدأ موضوعي بالقول :  في الخامس من شهرنا الجاري ، إستقبلتْ مدينة نانت في فرنسا ، بمجموع مسحييها العراقيين ، الزائرَ الرسولي الجديد المعيّن من قبل الفاتيكان ، سيادةَ المطران رمزي كرمو  . كان الاستقبال حارا جدا وبمستوى اندفاع المطران رمزي بالتوجه نحو مدينة ، تبعد عن باريس بحوالي اربعمائة كيلومتراً غرباً ، مدينة مهمة بالنسبة لفرنسا ، غير انها رعية متواضعة لا تضمّ أكثر من ثلاثين عائلة مسيحية عراقية معظمهم كلدان .
بدأ المطران رمزي كَرمو زيارته ، كما فعل في المدن الفرنسية الاخرى ، بالتوجه الى مقرّ ابرشية نانت للقاء اسقف المدينة ، المطران جان بول جام . كان اللقاء ، الذي استغرق زهاء نصف ساعة ، مناسبة لتبادل الحديث حول كنيسىتي العراق وايران ، لان المطران رمزي هو مطران ايران ، وايضا حول وضع الكلدان والاقليات الشرقية الاخرى في فرنسا وفي اوروبا .
بعد هذا وعند الساعة الثانية عشرة والنصف ، اقام سيدنا المطران قدّاسا احتفاليا تخللته موعظة تناول فيها شرحا لانجيل اليوم عن براءة الاطفال والويلات التي وجهها المسيح الى من تأتي علي يده الشكوك . حرص على تذكير الحاضرين باصولهم الشرقية وبانتمائهم الى كنيسة اشتهرت بعدد شهدائها وقديسيها. ومستخدماً اسلوب  الراعي الصالح ، حذر الناس من مخاطر الحرية التي يتمتعون بها هنا وقال : فرنسا كانت البنت المدللة للكنيسة غير انها لم تعد كما كانت في سابق عهدها . الكثير من قوانينها تناقض تعاليم الله والكنيسة لا سيما في موضوع الاجهاض والزواج الحرّ ، وابسط مثال هو الحرج الذي يسببه لنا الاجابة على السؤال التالي : اذا كانت امهاتنا قررن في حينه قتلنا في بطونهن ، هل كنا سنلتقي معا اليوم ؟ قال :  إنّ ما فقد قدسيته هنا ، يجب علينا ان نعيد اليه قدسيته بالنظر اليه بعيون آبائنا واصول ايماننا الشرقي . وختم موعظته بالقول : انكم جميعا شهود ، انتم نور العالم ، وعليكم التبشير باسم المسيح لان التبشير لا يقتصر على رجال الدين .
كانت فعلا موعظة نوعية خرجت من فم مسؤول يتحدث بغيرة وقناعة ، ولقد أنصت اليها المؤمنون النانتيّون بخشوع وانتباه لانهم كانوا متعطشين الى كلام ، قد سمعوه حتما قبل ذلك ، ولكنه اليوم كان له وقع آخر في نقوسهم .
بعد القداس ، تمّ الانتقال الى صالة كبيرة جمعت المطران مع رعيته الصغيرة . عند الانتهاء من تناول وجبة الغداء الذي تنوعت اصنافه العراقية بتنوّع الايادي الطاهية ، توجّه الزائر الرسولي من جديد الى الحاضرين بكلمة للتعريف عن نفسه فقال : 
لقد بدأتُ مسيرتي الكهنوتية بالدخول الى معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل سنة 1957 ، وبالمناسبة كان بمعيتي في نفس الصفّ الشماس شمعون كوسا الذي ترونه هنا .  بعد اربع سنوات فقط ، رجوتُ مديرَ السمنير ، الاب يوسف اوميه ، ان يسمح لي بترك المعهد لاني احسست باني لم اكن مدعوّا للكهنوت . تركتُ المعهد وتوجهت الى بغداد لمواصلة دراستي الاعدادية ومن ثَمّ انتقلت الى فرنسا لاكمال دراستي الجامعية . في مدينة مونبلييه جنوب فرنسا أحسستُ بالدعوة ، التي كانت قد هجرتني في حينها ، وكأنها تطرق باب قلبي قائلة : (يا رمزي ، انهض لقد دقت ساعة رسالتك . إن دعوتك كانت  قد استترت مؤقتا ولكنها لم تمت ). بعد هذا النداء ، انخرطتُ مع مجموعة كهنة برادو في ليون بفرنسا ، وبعد ان ارتسمتُ كاهنا ، إنتقاني البطريرك روفائيل بيداويد للارتقاء الى درجة الاسقفية ، وهكذا بعد فترة ، حللت محل المطران حنا زورا على كرسيّ ابرشية طهران .
بعد هذه المقدمة الموجزة ، أجاب المطران رمزي على اسئلة الحاضرين عن ابرشيته في ايران وعن مهمته الجديدة كزائر رسولي . قال بانه يتوقع ان يتم تعيين مطران رسمي للكلدان في اوربا في السنة القادمة . في نهاية حديثه طلب المطران وبالحاح من الاباء والامهات التفكير بتشجيع ابنائهم للانخراط في سلك الكهنوت قائلا بان الكنيسة بحاجة ماسة الى كهنة .
التقى الزائر الرسولي بكافة الموجودين وحرص على سماعهم فردا فردا . اقترح الحاضرون في القاعة وضع مبلغ صغير من المال في جيبه غير انه رفض رفضا قاطعا ، ولم يقبل حتى اقتراح بعض من جاؤوا بمبالغ اخرى يقدمونها كقداديس . أمام تعلّق الناس الشديد به ، وعد المطران رمزي بزيارة ثانية الى هذه المدينة في شهر شباط من العام المقبل ، وقال بانه سيحاول اصطحاب غبطة البطريرك معه . غادر الزائر الرسولي مدينة نانت في الساعة السادسة بعد الظهر بعد تلبية رغبة العوائل في التقاط صور تذكارية معه .
لم أعتد على تخصيص مقال عن زيارة رجل دين او كتابة تقرير بهذا الخصوص ، ولكني فعلت ذلك  للمطران رمزي ، بسرور عظيم ، لانه زميل صفّي ، وإن لقائي به في ذلك اليوم كان الاول بعد أكثر من خمسين سنة . لقد استقبلتُه بشوق واستعدت معه ذكريات الماضي . وانا الذي لم أخدم قداديس كثيرة ، قمت بمعيته في إحياء قداس بكامل صوتي ، حيث كان مقاما الرّست والصبا يقوداني في مسايرة ، صوته الجميل المحمّل بنبرات تقطر حناناً وتدعو لحنين عميق ترتاح له النفوس .
لقد أحبّ اهل نانت زائرهم الرسولي ، وسيبقى يوم السبت ، الخامس من تشرين الاول تأريخا حيّا في اذهانهم لانهم تعرفوا على رجل دين بسيط ، مسؤول متواضع ، واسقف حريص على الوقوف الى جانب افراد رعيته .

kossa_simon@hotmail.com

صفحات: [1]