دردشة يابانية مع الحضارات الرافدينية
د. صباح قيّا
سألني زملائي من فرع الطب الباطني في كلية طب بغداد بعد عودتي من مدينة كيوتو اليابانية حيث شاركت في تقديم بحثي الموسوم "حالة العلاج بالعقاقير في مجموعة من السكان المصابين بفرط ضغط الدم" ألذي سبق وأن تم قبوله كملصق في المؤتمر الدولي السادس والعشرون للطب الباطني الذي انعقد في مدينة كيوتو- اليابان- للفترة 26-30 مايس 2002.
سألني الزملاء: كيف وجدت اليابان؟. أجبتهم: وجدت الله هنالك... وجدت الإيمان وما ذكرته الأديان السماوية من فضائل وخصال إنسانية عند اليابانيين. أضفت: إنهم لا يؤمنون بالرب السماوي الذي نؤمن نحن به, ولكنهم أشد التزاماً وتطبيقاً لتعاليمه من أي واحدٍ هنا.
بدت الدهشة على أوجه زملائي التي سرعان ما انقشعت بعد أن سردت لهم القليل من تجربتي مع الجنس الاصفر.
صعدت الباص مع من صعد من المسافرين بعد مغادرتي باحة مطار كيوتو الدولي لينزلني مع الجميع إلى وسط المدينة والساعة تجاوزت منتصف الليل. عثرت, لحس الحظ, على من يتكلم الإنكليزية بين المجموعة, وكانت فتاة من أصول كورية. رجوتها ان تستأجر لي تاكسي لإيصالي إلى الفندق الذي سبق وأن حجزت للمكوث فيه علماً بأني حاولت مع أكثر من سائق بدون جدوى لعدم فهم السواق اللغة الإنكليزية. أوقفت الفتاة إحدى سيارات الاجرة وبعد أن تكلمت مع السائق أخبرتني انه يرفض إيصالي. سألتها لماذا؟ قالت: أخبرها السائق بأن الفندق قريب وأستطيع ان أصل إليه مشياً على الاقدام بمجرد عبور أنفاق القطارات... بصراحة, ساورني القلق وخاصة بعد أن تذكرت الجرائم التي كانت تحصل في اليابان خلال مشاهدتي أفلام جيمس بوند, فتساءلت مع نفسي كيف لي أن أعبر الأنفاق شبه المظلمة وحيداً وأنا غريب لا أفقه اللغة ولا أعرف المكان ومن فيه من البشر وماذا سيحصل لي في تلك الليلة الحالكة؟... ثم اضافت الفتاة بان عداد التاكسي يستوفي عشرة دولارات قبل الحركة والسائق لا يرضى بأن يقبض مثل هذا المبلغ لإيصالك خلال دقيقتين أو ثلاث إلى مكان من الممكن أن تصل إليه مشياً ولا يكلف ثمناً. قلت للفتاة: أخبريه بأنني راضٍ عن ذلك. جاءني الجواب: حتى لو أنا راض فهو يصر على الرفض كونه يعتير ذلك عملاً غير عادل... وبين ذهولي وصمتي بدأ أحد الشباب الواقفين في موقف الباص بتبادل الحديث مع الفتاة. بعدها توجهت الفتاة لي بابتسامة مشرقة لتخبرني أن ذلك الشاب يعمل بالفندق المجاور لفندقي وهو مستعد للسير معي عبر الانفاق إلى الفندق. شكرتها على حسن صنيعها. ثم مضيت مع الشاب الذي حمل حقيبني الكبيرة لنعبر الأنفاق صعوداً ونزولاً إلى أن وصلنا الفندق بعد حوالي عشر دقائق. عندها نطق لأول مرة باليابانية التي لم افهم منها ولا كلمة إطلاقاً, وأشار إلى الفندق المجاور لفندقي فاستنتجت أنه يعمل فيه. أخرجت من جيبي عدداً من أوراق الين الياباني, ولكنه رفض بشدة حسب فهمي لتعابير وجهه وإشاراته لا لكلماته... إستعرضت هذا المشهد وقارنته بما حصل لي في الهند, وأيضاً بما حصل لي في مصر, حيث سأعرج على الحدثين عند سردي "دردشة هندية" و "دردشة مصرية" إن سمح الظرف.
توجهت في المساء إلى موقع انعقاد المؤتمر. إستقبلتني موظفة التسجيل ببشاشة. فتشتْ عن إسمي ضمن قوائم المشاركين, ثم طلبت مني تسديد ثمن الإشتراك في المؤتمر بعد ان عثرت على الإسم. أكدت لها بأن الشركة المكلفة بإيفادي قد حولت المبلغ عن طريق المصرف من عمان قي الأردن. إنهمكت في البحث والتمحيص, ثم رفعت رأسها قائلة: لم يصل المبلغ. أكدت لها دفع المبلغ من قبل الشركة وإني لا أحمل وصل المصرف لإثبات ذلك. عندها سلمتني حقيبة المؤتمر وأومأت لي بالتوجه إلى قاعة افتتاح المؤتمر. سألتها: وماذا عن مبلغ الإشتراك؟ قالت لي: أنت تمتع بوقائع المؤتمر ولا تشغل بالك, ونحن سنتابع الامر. لا أعلم ماذا حصل ولم يتطرق أي من مسؤولي التسجيل لبدل الإشتراك طيلة فترة المؤتمر... قارنت الأسلوب الحضاري المضياف الذي تعاملت به موظفة التسجيل معي وبين نفس التجربة التي صادفتني في تونس و سأسردها عند كتابة "دردشة تونسية".
في أحد أيام المؤتمر, إقتربت مني فتاتان لا يظهر من جسميهما إلا وجهيهما. عرفت من النظر إلى بطاقة المؤتمر التعريفية المعلقة على صدر كل منهما بأنهما من جمهورية إيران الإسلامية. والظاهر بانهما انتبهتا إلى بطاقتي التي تشير إلى كوني من العراق. علمت بأنهما من سلك التمريض, وذلك ما اثار عندي بعض الشكوك حيث ان المؤتمر طبي تخصصي ولا أجد تفسيراً مقنعاً لتواجد ممرضتين في مؤتمر بهذا المستوى. ما قالته أحداهن خلال الحديث العمومي الذي دار بيننا بأن اليابانيين أناس سيئون. إستفسرت منها: لٍمً هم سيئون؟. أجابت: لأنهم يحتسون الكثير من الخمر. سألت: وهل الخمرة هي المقياس للإنسان الجيد أو السيْ؟. قالتا سوية: طبعاً. عبرت لهما عن رأيي الصريح باليابانيين من خلال مشاهداتي في المدينة وتجربتي في المؤتمر. ألظاهر أن رأيي قد أذهلهما وفعل فعله المثمر بحيث أنهما لم يقتربا مني بعد هذا اللقاء وإلى الأبد.
حزمت حقائبي وأنا أهمُّ بمغادرة الفندق والرحيل. توقفت عند أمينة الصندوق لأسدد ما بذمتي. لاحظت من خلال تدقيق قائمة الحساب أن المبلغ الذي عليّ دفعه يتضمن اليوم الأول أيضاً والذي سبق وأن تم تسديده من قبل الشركة المكلفة بإيفادي حسب تعليمات الفندق بدفع مبلغ اليوم الأول عند الحجز. شرحت لأمينة الصندوق ذلك. أخبرتني بعد التدقيق والمراجعة بأن المبلغ لم يصل. بالرغم من ذلك لاحظت أسفها بادٍ على تعابير وجهها ونبرات صوتها. إعتذرت أكثر من مرة. ثم اتصلت بالمصرف الياباني, وبعد اتصالات بين هذا الجانب وجوانب اخرى متعددة تأكد تحويل المبلغ من عمان. تكلمت معي إحدى موظفات المصرف الياباني فأخجلتني بعدد مرات اعتذارها. ثم ودعتني امينة الصندوق وكلمات الإعتذار تتكرر بلا انقطاع... أسأل نفسي: من أي كوكب جاء هذا الشعب؟. يعتذر ويعتذر وهو لا ذنب له بل لمجرد شعوره بأنه ربما قد قصّر تجاهي أو جرح مشاعري. حقاً كما كتب الناقد الساخر داود الفرحان عن اليابان: بلد صاعد بلد نازل.
بعد هذا الإستعراض الوجيز لكل مدهش غريب في بلد استفاق من اندحاره في الحرب الكونية ليصنع كل ما هو عجيب, لا بد وأن أعرج على الدقائق المخصصة لتقديم ومناقشة بحثي المشار إليه أعلاه.
حضرت اللجنة العلمية المكلفة بمناقشة وتقييم البحث. بعد أن انهيت عرض البحث والإجابة على استفساراتهم المقتضبة. بادرني أحدهم معاتباً بابتسامة لعدم إشارتي للصور الملصقة اسفل متن البحث وطلب مني شرح مضمونها... بدأت التعريف بحضارات وادي الرافدين: ألسومرية, ألاكدية, ألبابلية, ألآشورية , والكلدانية. أخبرتهم عن أصل الكتابة, وعن مسلة حمورابي والجنائن المعلقة وعن مكتبة آشور بانيبال. كنت اشعر بالزهو والفخر كلما ألاحظ تعابير الإعجاب وشوق الإستماع على وجوه الحضور. بعد أن انهيت ما تذكرته عن مهد الحضارات علّق أحد أعضاء اللجنة قائلاً: ينبغي أن نأتي نحن لنتعلم منكم ونستمتع بهذه الآثار التاريخية في بلد الحضارات... أجبت أهلاً وسهلاً.
حينما طرقت فكري لصق ما يشير إلى حضارة وادي الرافدين حاولت أن أجد ما يدل على كل الحضارات. ربما لم افلح في العثور على ما رميت إليه كاملاً لكن ما عرضته كان كاف لجلب الإنتباه. لم يخطر ببالي إطلاقاً أن أغفل حضارة وأبرز أخرى أو أميز بين هذي وتلك. ماكان يهمني هو إظهار تأثير بلدي العراق بتاريخه الحضاري على التقدم الإنساني والتطور البشري. لم يختلف عندي اسد بابل عن الثور المجنح, ولن تفرق عندي إن كان الحديث عن أور أو أكد أو بابل أو آشور. جميعها من تربة بلدي العراق, وأهلها هم شعب العراق... هذا ما كان في العام 2002, فإن تغيّر ذلك المفهوم في العام 2003 وبعده إلا أنه لم ولن يغير من وجهة نظري بأن الإنسان ليكن أصله ونسبه ما يكن لكن المهم أن يظل متمسكاً بفضائل الإنسان.
ألإعتزاز ظاهرة صحية وضرورية للتمسك بما جُبل عليه المرء, أما التعصب أو التطرف فإنه مظهر مرضي بامتياز.
وكما قال الشاعر:
كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَباً يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ
فَلَيسَ يُغني الحَسيبُ نِسبَتَهُ بِلا لِسانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ
إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي
(https://i.imgur.com/QydINPE.jpg)
(https://i.imgur.com/nuk1CQN.jpg)
(https://i.imgur.com/aGnRVb7.jpg)
(https://i.imgur.com/M9MS9h9.jpg)
هدية يابانية للسيد صباح قيا
تحية
مقاللتك (دردشة يابانية مع الحضارات الرافدينية) جميلة وفيها عِبرْ كثيرة، والحقيقة أن كثيراً من الكتاب يكتب موضوع يعتقد أنه إيجابي وهو الدواء ولا يدري أنه سلبي وهو الداء ومنها موضوعك هذا الذي هو الداء وسبب تخلفكم ككلدان وآشوريين وما وصلتم إليه، كما يثبت عدم وطنيتكم لبلدكم، وسأثبت لك ذلك.
https://ankawa.com/forum/index.php/topic,1013611.0.html
أنت في اليابان اعتزيت بقسم من حضارات بلدك العراق الذي يبدو أن حضاراته توقفت عندكم سنة 539 ق. م.
وأنا لن أقول لك أين الحضارة الميدية ولا الآرامية- السريانية المتمثلة بالملك بلادان الآرامي، ولا مدينة الحضر، ولا ملايين المخطوطات السريانية ومنها في ألقوش، ولا أقدم أديرة المسيحيين في التاريخ كدير متى وبهنام، ولا الحضارة العربية المسيحية في المناذرة ولا غيرها.
بل أقول لك أين اعتزازك بالحضارة العربية العباسية التي لم تصل إلى رقعة توسعها الجغرافي حتى بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس؟ وأين اعتزازك بهارون الرشيد الذي تسمى عاصمة بلدك بغداد الشهيرة باسمه؟، و90 بالمئة من كتب التاريخ واللغة والفقه والشعر وغيرها التي كتبها العرب المسلمون ودار الحكمة، والجامعة المستنصرية الشهيرة، وغيرها هي بنت الحضارة العباسية العربية ، لا كلدانية ولا آشورية ولا سومرية.
أم أن اعتزازك بالأشوريين والكلدان الوثنين، باعتبارهم حمائم سلام الإنسانية، أفضل من العرب العباسيين المسلمين!!!!!!!! وهل تعلم أن الآشوريين والكلدان بعدم اعتزازهم بالحضارة العباسية يثبتون عدم وطنيتهم؟ فلماذا المسلمون يفتخرون بكل حضارات بلدهم القديمة منها الآشورية والكلدانية، إلى جانب حضارتهم العربية الإسلامية، بينما لم نجد يوماً أن افتخر أحدكم بالحضارة العباسية، عدا إنكم تتجنبون ذكر اسم العراق فتذكرون بلاد الرافدين وبين النهرين، والحضارات إلى سنة 539 ق.م. فقط، وتشبثكم بتلك الأسماء القديمة فقط، والزعم زوراً إنكم تنحدرون منها؟ أليس هذا دليل على عدم وطنيتكم العراقية؟.
ما قلته أنت عن اليابانيين أنهم مؤمنون ومتطورون أكثر من بعض المسيحيين والشرقيين رغم أن إلههم يختلف عن إلهنا هو صحيح، لكن هل تعلم انك تمثل رمز هذا التخلف المسيحي؟ وسأقول لك لماذا
أنا سابقا كنت انتقد بعض الإخوة المسلمين عندما أرى مثقف كطبيب أو مهندس يؤمن بالخيرة أو يقول إن إبراهيم شيَّد الكعبة وغيرها، لكن منذ أن تعرفت على شخص مثلك جنرال عسكري وطبيب وشاعر يؤمن ويروج لخرافات غير علمية مثل إني كلداني وأور السومرية كلدانية لأن البطريرك الفلاني أو المهرج العلاني قال إنها كلدانية، وتقدم وتشجع من يزور حتى كتابك المقدس.
وعليه لقد ثبت لي أن أغلب المسلمين متطورون ومثقفون أكثر من بعض المسيحيين مثلك وأكثر وطنية أيضاً
رغم أن المسلمين ليست لديه الحرية والفسحة الكبيرة لنقد المفاهيم والتقاليد الدينية كالمسيحيين ورغم أن هؤلاء المسلمين من جنوب العراق الذين كانوا سيهللون بوجود بيت إبراهيم في منطقتهم أور أكثر ممن يُسمون أنفسهم اليوم كلداناً ويسكنون زاخو وألقوش في الشمال، لكن هؤلاء المسلمين لأنهم علميين وأكاديميين فقد رفض أغلبهم ذلك لأنه يتنافى مع الأكاديمية والعلم، ومنهم أستاذ السومريات وعضو المجمع العلمي وعميد كلية الآداب فاضل عبد الواحد الذي قال في كتابه من سومر إلى التوراة: إن الباحثين يشكون في صحة التوراة، وأور الكلدان هي في الشمال وهي حارن- الرها كما أكّدنا نحن ذلك سابقاً.[/size]
(https://f.top4top.io/p_1918rnzb61.png) (https://top4top.io/)
(https://g.top4top.io/p_1918vxbtr2.png) (https://top4top.io/)
العلمية والأكاديمية أيها الجنرال الطبيب الشاعر هي أن يؤمن الجميع بحقيقة تاريخية موثقة علمياً، فاليابانيون البوذيون والمسلمون العرب وغير العرب، والصابئة الآراميون، والمسيحيون السريان والفرنسيون، واليهود العبريون، والهندوس الهنود، والملحدين، وكل أمم العالم تؤمن بسهولة أن حمورابي ملك حكم العراق ولديه مسلة وآثار وتؤمن أن هناك ملك آشوري اسمه بانيبال، لكنك لا تستطيع أن تقنع الآخرين أن أور الكلدان في العراق وأن النبي يونان زار نينوى أو أن الآشوريين والكلدان الحاليين ينحدرون من القدماء، أو أن القوش تاريخيا كلدانية، لأن هذه خرافات لا يدعمها دليل علمي واحد.
https://ankawa.com/forum/index.php?topic=1013111.0
مع تحياتي