لو كان قد تفرغ هؤلاء الطغاة ولو قليلا الى الموسيقى
شمعون كوسا
كنت عائدا من التسوّق مشيا على الاقدام ، وبما اني اجول دوما بأنظاري في كل الاتجاهات ، باحثا عن فكرة جميلة ، عن همسة ، عن لحظة صمت أمام منظر جميل ، أو أيّ شيء يوفر لي بعض لحظات سعادة ، او يعيدني ذهنيا الى حيث كنت قد ذقت يوما سعادة عارمة ولو للحظات. كنت انتقل بين السماء والغيوم والاشجار والطيور والمياه وانا منسجم بموسيقى اخترتها انا بألحانها ومطربيها ، ولكني خشية وقوعي ضحية انظاري مرة اخرى والدخول في غيبوبة او رحلة خيالية سيحاسبني الكثيرون عليها ، اطرقتُ برأسي ، وخفضت انظاري وامسكت بحائط كنت احاذيه كي اتشبث بجسم صلب ، واركز اقدامي على الارض . كانت الموسيقى قد شنفت اذاني وتغلغلت في الاعماق، وبدأتُ اسمع الحانا جميلة اخرى لم اكن قد بوّبتها في جهاز تسجيلي .
وفي اللحظة ذاتها ، أحسستُ بيد خفيّة تمسك بي بقوة وكأنها تقول لي : كفاك بحثا عن المجهول والدخول في عالم المتاهات التي أزعجتَ الناس بوصفها ، تعالَ هنا وأكمل ما تصبو اليه نفسك ، تعال ومتّع نفسك بما تسمعه من أصالة وجمال. فتحتُ عينيّ قليلا هنا ، واذا بي في موقع يعجّ بجمهور متنوع بسحناته وسيمائه. شئ واحد كان يوحّد الحضور ، وهو الصمت ، والخشوع ، والهدوء التام ، والابتسامة التي كانت تعكس سعادة حقيقية.
الموسيقى التي شرعتُ بسماعها هنا ، كانت تنتقل بين اللون العربي القديم الاصيل والمقامات التركية وموشحاتها الجماعية التي تسمو بسامعها ، وايضا المقامات الفارسية التي تعلو وتعلو كي تعوم ، وتحوم ، وتعلّق سامعها بين السماء والارض ، ومن ثمّ تتدحرج بهدوء ، كي تنتقل بين الجبال وقممها ، والمضائق وشلالاتها ، بحيث يهوى سامعها المعاودة والتحليق لفرط سعادته. وبما إني كنت بين الجبال والوديان ، لم يحرمني جوّ الانطراب هذا من بعض الالوان الكردية القديمة. كلها كانت تعيدني أنا شخصيا الى أسعد ازمنة أمضيتها في منطقتنا ، وحتى اعادتني ولو للحظات ، الى جلسات سهر احييتها مع اصدقاء حيث كنت انتهي في اغلب الاوقات باغنية يا نجوم صيرن كلايد لفاضل عواد ، اغنية كنت اجيد غناءها وانطرب. وعندما تحدثت عن اسعد ازمنة في منطقتنا ، برأيكم هل يحلّ لي ان أفكر بمنطقة غير شقلاوا ؟ أوليست شقلاوا اجمل بقعة في نظرنا ، او على الاقل نظري الشخصي أنا ؟!!. كنت مندهشا لما كنت اسمعه ، وأتساءل ، هل كل شخص هنا يسمع نفس ما اسمعه أنا ، ام أن كل سامع يتلقّى ما تهواه نفسه من جمال الاصوات والالحان ؟ وهل حدث معنا هنا ما كان قد حدث للجمهور الذي كان يسمع الرسل عند حلول الروح ، حيث كانت الجنسيات المختلفة تسمع نفس الخطاب باللغة التي تنطق بها ؟!!
كنتُ منطربا حقّاً لحدّ الانخطاف بما كنت اسمعه من ألحان في غاية الجمال ، كنتُ أرى نفسي سائحا يجول في فضاء منطقتنا بالذات . أو لم أكن أنا ابن المنطقة قبل ان اكون سائحا ؟ ألم أكن أبصر يوميا من فوق سطوحنا جبال تركيا المغطاة بالثلوج ، ومن جهة اخرى وباستدارة خفيفة نحو المشرق ، وبعد قطع مسافة معينة محدودة ،ألم أكن بجوار بلاد فارس؟
كانت الالحان تتوالى بتسلسل منطقي ، فكانت تساير الاغنية المقامَ الذي سبقها ، وبالإضافة الى ذلك ، كانت الاصوات بمجملها تخرج بنغمات اعذب من التي قبلها . كنتُ في جوّ جعلني ان ارى كل شئ جميلا ، كنت ارى كل شيء سهلا ، كنت اشعر بحب وسلام داخليين. كان هذا الشعور الهادئ الخاص قد رفع كافة القيود من داخلي ، وازال عنّي الحزن والكرب والخوف ، لأنها كلها كانت قد اختفت ليحلّ محلّها الحب والسلام والفرح والهدوء والطمأنينة .
خرج الجميع ووجوههم تتهلل . كنت انا ايضا مثلهم متغيرا تماما ، كنت متشوقا لألقاء التحية على كل من اراه ، ومستعدا لتقبيل اول من اصادفه حتى لو كان عدوّي ، كان الحب الذي اوجدتْه الموسيقى داخلي يدفعني من كل الجهات كي اهبّ لمساعدة الاخرين وتلبية حاجاتهم . كنت كالذهب الذي تخلص من كافة شوائبه ، لأني لم اكن احسّ الا بالفرح الحبّ والخير.
عندما استعدت وعيي ، رأيتُ نفسي في نفس المكان الذي كنت قد توقفت فيه في محاولة لاجتناب الارتحال خياليا . نظرتُ الى نفسي معاتبا اياها ، ولكني قبل الاسترسال في المعاتبة ، فكرت وقلت :
إذا كانت الموسيقى والالحان الراقية قد سَمَت بنفسي ، ورفعتها ، وازالت عنها الانانية والحقد ، لماذا لا يفكر المسؤولون عن الشعوب بهذا الاسلوب كي تمتلئ نفسهم حبّا وفرحا وسلاما ويجنّبوا رعاياهم الويلات ، فيهبّوا لتلبية حاجاتهم وتوفير كافة اسباب السعادة ؟ لماذا لا يقوم مستشاروهم او المقربون منهم بنصحهم بهذا الاتجاه، فيجعلوهم يخففون من غطرستهم وأنانيتهم وغضبهم ورغبتهم في الانتقام ، لان الاستماع الى ما يلذّ للنفس من موسيقى راقية ، يمحو من داخلهم ، ودون ادنى شكّ ، كلّ ميل الى الشر؟ لماذا لا يرشدونهم الى هذا الطريق ؟
قناعتي كاملة بانهم لو فرّغوا أهواءهم وجنحوا ولو قليلا ، ولكن بصدق، لسماع الموسيقى الجميلة والالحان الاصيلة والاصوات العذبة ، ستتغير نظرتهم الى الدنيا والى الناس وتختفي استعداداتهم العدوانية ، وهكذا يجنّبون رعاياهم والعالم اجمع ويلات الخصام والاقتتال والحروب ، كما نشهده الان. الموسيقى هي كالمحبة تطهر ذهن الانسان ، وتغسل قلبه وتملأه فرحا ، وتغير مشاعره تجاه الاخرين . الموسيقى تستبدل الشرّ بالخير ، والغضب بالحلم ، والكراهية بالحب ، والحسد بدعاء الخير، والكذب بالصدق ، والكبرياء بالتواضع ، والانتقام بالتسامح ، وكل الرذائل بالفضائل . انها كالصلاة او التأمل العميق الذي يزيد النفس هدوءً وعيا وطمأنينة .
بقي لي ان اعترف باني قد تطرقتُ كثيرا الى هذا النوع من الحديث ، ولا اريد الاكثار منه خشية ملل البعض ، ولكني مع هذا اؤكد بان كلمة الحق يجب ان تقال وتكرّر ، ولو لمئات المرات. ألسنا نسمع نفس الامثال يوميا ، ونفس المبادئ في احاديثنا ، ونفس النصائح كل صباح ومساء ، ونفس الدروس في كل مناسبة ولعدة مرات في اليوم ؟ ألسنا نسمع بخشوع كل يوم وفي كل مناسبة، كلمات سامية تفوّه بها معلم عظيم ، قبل الفي سنة !!! فيا ايها المسؤولون اخلدوا لسماع ما يطرب أنفسكم ، كي تجنبوا رعاياكم الويلات .