ألواقع الكلداني والطموح الآشوري ( ألجزء 1 )
د. صباح قيّا
أعود بالأحداث إلى سبعينات القرن الماضي وأتذكر لقائي خلال تجوالي في شارع " أبو نؤاس " بأحد أقربائي من حملة الأفكار اليسارية الذي كانت تربطه علاقة عاطفية مع فتاة آثورية ’ حيث بادرني مستفسراً إن كنت قد سمعت عن تنظيم آثوري يهدف إلى إعادة مجد آشور ... أجبته حينها بالنفي ... وربما في نفس تلك الفترة , إن لم تخونني الذاكرة , أخبرتني إحدى قريباتي تدرس في " جامعة السليمانية " عن قيام عدد من الطلبة الآثوريين من نفس الجامعة بالإتصال بها وبزميلاتها من الكلدان للترويج للفكر والأمل الآشوري .... وما يستدل من الخبرين بأن بعض الأخوة الآثوريين بدأ العمل الفعلي منذ ذلك الوقت لتمهيد الطريق بغية تحقيق الطموح القومي وتأسيس كيان يحمل الإسم والعلم الآشوري , والذي بدوره أدى إلى بزوغ الحركة الديمقراطية الآشورية المسماة " زوعا " عام 1979 .
أثار دهشتي واستغرابي قيام أحد أصدقائي من أصول آثورية , والذي هو أيضاً زميلي في المهنة الطبية والعسكرية بانسحابه الفجائي من كافة اللجان التي يحسده على موقعه فيها الكثيرون , ووجدت حججه آنذاك لقراره هذا غير مقنعة . حصل ذلك في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي , وقد سرت أيضاً إشاعة بأنه سيحال على التقاعد . بصراحة , لم أجد تفسيراً لذلك في حينه , ولكني اليوم أستطيع أن أبرر موقفه الغريب بتزامنه مع شهداء قيادة الحركة الآشورية عام 1985 , وربما أراد أن يبعد نفسه عن الأضواء في ظل سلطة قد تحرق الأخضر مع اليابس إن تطلب الأمر .
كما أتذكر في مرحلة دراستي الأعدادية في كركوك , دخول أحد الموظفين إلى الصف يسأل الطلبة عن قوميتهم . من هو عربي بينكم ؟ ينهض العرب وبينهم الصابئة وبعض الكلدان .... من هو كردي ؟ ينهض الأكراد ومعهم عدد من الكلدان أيضاً .... من هو تركماني ؟ ينهض التركمان ومعهم كافة كلدان منطقة القلعة والذين يطلق عليهم جوراً " كاور " أي " مشرك " .... من هو آثوري ؟ ينهض كافة الآثوريين بلا استثناء , وكذا الأرمن عند سؤاله من هو أرمني ؟ ... ولم يبقَ غير عدد محدود من الكلدان الذي يصر على كلدانيته .... والجدير بالذكر , أن كافة الكلدان أعلاه بغض النظر عن انتمائهم القومي الطوعي أو القسري هم من رواد الكنيسة الكلدانية . حصل ذلك في الماضي من الزمان , ولو قدّر أن يتكرر المشهد اليوم , لنهض عدد غير قليل من الكلدان مع الآشوريين عند السؤال : من هو آشوري ؟ .
ما هو المغزى مما جاء آنفاً ؟ سآتي على ذلك في سياق المقال . وسأستخدم كلمة " آشوري " للدلالة على الآثوريين , وليس المهم كون التسمية مكتسبة أو حديثة وما شاكل , وإنما مقبولة كحقيقة واقعة وعلى الإنسان العلمي التعامل مع الحقائق والظواهر السائدة.
مما لا شك فيه أن الإضطهاد قد طال الآشوريين لسبب أو آخر ولأكثر من مرة عبر التاريخ الحديث , ولم يتعرض الكلدان إلى إضطهاد عرقي كما تعرض له الآشوريون , وإنما حصلت حملات الإبادة وحلت عليهم المظالم كجزء مما كان يقاسي منه المسيحيون عموماً عبر الأزمنة المتعاقبة . ويسجل التاريخ الحديث بأحرف من نور ما لاقاه العديد من الكلدان من تعذيب وتشريد وقتل ودمار دفاعاً عن المبادئ التي آمنوا بها ضمن الأحزاب الوطنية والقومية المنتمين إليها والتي تستهدف بجوهرها إسعاد المجتمع العراقي بكافة أطيافه وخير الوطن من أقصى الشمال إلى أبعد نقطة في الجنوب . ومن الممكن القول باختصار أن ما أصاب الآشوريين نتج كتحصيل حاصل للحس القومي والنزعة الإستقلالية عندهم , وما حدث للكلدان نتج كتحصيل حاصل للمشاعر الوطنية الشمولية عندهم وبأنهم جزء لا يتجزأ من الوطن الكبير الذي ساهموا في بنائه ورفد تقدمه منذ تاسيسه ولحد اليوم ... وهذا يعني تحلّي الآشوريين بالنزعة القومية والتمسك فيها على أمل إعادة المجد الآشوري القديم , وتشبث الكلدان بالنزعة الوطنية التي تعكس كونهم من أهل البلاد الأصليين وأن كنيستهم هي كنيسة بابل على الكلدان والعالم .... ويدل السلوك الآشوري بأن الآشوريين مجموعة متجانسة في الفكر والطموح ولهم لغة مشتركة ولكن تجمعهم أكثر من كنيسة واحدة للأسف الشديد , أما السلوك الكلداني فيدل على كون الكلدان مجموعة متباينة في الفكر والطموح وتتكلم لغات متعددة وتجمعهم من حسن الحظ كنيسة واحدة في الوقت الحاضر . إذن الآشوريون هم قوميون سابقاً وحاضراً أي أن قومبتهم آشورية فقط , أما الكلدان فهم كنسيون سابقاً وأيضاً حالياً إلى حد ما ومن غير الواضح هم قوميون حاضراً أي أن قوميتهم هي حقاً كلدانية فقط .
يتوهم من يقلل من أهمية اللغة في التكامل القومي . لقد حافظ الآشوريون وما زالوا يحاولون الحفاظ على لغتهم بالرغم من تيار الذوبان النابع من المهجر ’ أما الكلدان , فأقولها بكل صراحة بأن الكثير منهم وخاصة من ترعرع في المدن الكبرى أو المهجر يسخر من لغة آبائه ناهيك عن الذي يعتبر نفسه عربياً أو كردياً أو تركمانياً , أما الذي ما زال منهم يعتز بلغته فهو الذي لم يقطع الإرتباط بجذوره المناطقية الكلدانية أو من الذين يدعي نفسه آشوري القومية ... تحضرني الآن محاورة مع إحدى السيدات من أصول تلكيفية , مع جلّ احترامي وتقديري للإخوة التلاكفة الملتزمين , خلال حفلة زفاف حيث استهزأت بلغة السورث وادعت أنها عربية ولا تعترف بالقومية الكلدانية ولا تستسيغ لغتها المنقرضة حسب تعبيرها . وليست هذه هي المرة الأولى التي أسمع أو أقرأ مثل هذا الإستفزاز حيث سبق وأن طرق سمعي مراراً وقرأته تكراراً , وللأسف الشديد يصدر أحياناً ممن يحسب ذاته كلداني القومية .... جوابي لمن يشكك بحيوية لغته ويزدريها بأن اللغة العبرية لم تكن يوما لغة الأم ولم تكن سوى لغة محدودة التداول لألفين عام مضت , وكانت في طريقها للإنقراض لولا تمسك رجال الدين اليهود بها واستمرارهم بممارسة الطقوس الدينية باللغة العبرية لا غيرها .... ومن ثم تمت هندسة إحيائها كلغة محكية في القرن التاسع عشر وبالتحديد عام 1881 ببراعة المهاجر من لتوانيا إلى أورشليم المدعو "أليعازر بن يهودا " والمتوفي سنة 1922 أي قبل إعلان ولادة الدولة العبرية بربع قرن . ومن الجدير بالذكر بأن سلطات الإنتداب البريطاني اعترفت بالعبرية كلغة يهود فلسطين عام 1922 أيضاً . إذن من الممكن إحياء اللغة الكلدانية إذا كان هنالك من يؤمن يكلدانيته بصدق ونقاء , ويقع الدور الأول والاساسي على رعاة الكنيسة الكلدانية بالإستمرار في ممارسة الطقوس الكنسية بها من جهة وبنشر تعليمها بطريقة أو أخرى من جهة أخرى , ويبقى الدور التكميلي لأبناء الرعية . ولا يختلف إثنان بأن الطقس الكلداني بلغته الأصلية من أرقّ وأجمل الطقوس ويتمتع بلحنه حتى الذي لا يفهم لغته ..... حضرت قبل بضعة أشهر حفل زفاف يهودي في الكنيست . بدأت وانتهت مراسيم " البراخ " الطويلة نوعاً ما باللغة العبرية , وقد علمت من العروس بأن العديد من الحضور اليهود لا يتقن العبرية ورغم ذلك تتم الطقوس بأنواعها باللغة العبرية ,,,, فهل سيتعلم الكلدان من الدرس العبري ؟ ومتى يولد مهندس إحياء اللغة الكلدانية ؟ .... يتبع ....
الاستاذ الدكتور صباح قيا المحترم
تحية طيبة،
برغم انتمائي العميق للكنيسة الكلدانية، لكنني اؤمن بان:
الكلدانية كنيسة والآشورية قومية.
ورب معارض لي ان يسأل ويعترض على قولي هذا الذي تصارعنا عليه من بداية عام 2003، ونتج عنه ما يسمى بالنهضة، وهي برايي كبوة. اما لماذا ؟
بما انكم قد ذكرتم العبرية وكيف نهضت وتم احيائها، فلي ايضاً مثال على قيام دولة اسرائيل، فمؤسسو اسرائيل كان لهم ايضاً اختلافات فيما يتعلق باسم دولتهم وقوميتهم ولغتهم، بالضبط كما نحن الكلدان السريان الآشوريين. لكنهم في النهاية اتفقوا على ان تكون اسم دولتهم اسرائيل، ولغتهم العبرية، ودينهم الدين اليهودي.
اما نحن، وبما ان التاريخ الذي كما ذكرتم يجب ان نتعلم منه، قد اسمى لغتنا بالسريانية، وعرفها العالم بالسريانية، فما المانع من استغلال هذا الانتشار الواسع والمعروف لبناء قاعدة لغوية نرتكز عليها بقوة بسبب متانة اسسها، بدلا من الخوض تحت الاعماق وبداعي المذهبية وسيطرتها على عقول المنتمين الى الكنيسة الكلدانية، والالحاح على ان لغتنا هي كلدانية، اي المباشرة ببناء لغة او ادعاء لغة غير معروفة تاريخيا، ومن تحت الصفر، في حين ان لنا ما يعرفنا العالم به الا وهو السريانية. هذا من ناحية اللغة. اما قوميا، فالعالم والتاريخ ايضاً، يعرف الآشورية تمام المعرفة كاولى الحضارات واستمرت لقرون، لذا يزيدنا فخراً على فخر ان ننتمي الى هذه الحضارة التي يتغنى بها العالم ويتغنى بها العراقيين كلما ارادوا ان يرفعوا رؤوسهم في المحافل الدولية، ومن يقول ان العالم يعرف الكلدانية ايضاً، اقول العالم يعرف البابلية اكثر من الكلدانية، ولا اريد الخوض في هذا كي ابتعد عن الموضوع.
اذاً الاتفاق على مقومات اساسية لتوحيد شعبنا يجب ان ينطلق من على الاسس التي ذكرتها اعلاه، واولها التاريخ الذي تتفقون مع البابا بضرورة التعلم منه. والاصرار على تكرار اللغة "الكلدانية" سيعيدنا الى ما تحت الصفر لبناء لغة قد اعطاها التاريخ اسم السريانية، والذي لا يود المؤمنين بكنيستهم الكلدانية الاستغناء عنها برغم عدم معرفة العالم بها، ومحاولة فرضها عنوة. اي بمعنى لا يوجد في التاريخ لغة اسمها الكلدانية، ان اردنا التعلم من التاريخ. وطوال حياتي ومنذ نشوئي في عائلة وعشيرة تابعة لكنيسة كلدانية لم افهم الكلدانية لا قومية ولا لغة، وانما فهمتها ككنيسة، وفهمت الآشورية قومية، ولغتنا السريانية.
انني مع دعم لغتنا، واستنهاضها وبقوة ولكن بمنطق التاريخ الذي تتفقون عليه ويتفق عليه البابا الكاثوليكي صاحب الكنيسة الكلدانية، وليس من منطق المذهبية. السريانية هي كمصباح خافت، معروف عالميا، كل ما يحتاجة الى زيادة التيار الكهربائي كي يضئ اكثر واكثر. فلنكون اكثر جرأة ونتعلم من التاريخ. مع تحياتي وتقديري لمقالك الرائع هذا.