188
هذه بعض اعترافاتي
شمعون كوسا
كنت احصي الايام في كل صباح ، إلى ان بلغت اليوم العاشر من مناجاتي للقبّة الزرقاء ، كنت اتوسل اليها كي تستعيد حقوقها في ارتداء ثوبها الازرق الصافي ، غير ان الطبقة الداكنة السوداء كانت قد لازمتها والتحمت بها . كانت نفسي بحاجة الى فضاء يُنسيني كربي من فترة حداد أمضيتها قرب صديق فقد أخاه . كنت ارفع انظاري بحثا عن بصيص من نور الشمس وفي كل مرة اعود خائبا فأزداد كرباً . حاولت رؤية السماء في داخلي ، ولكن الضباب كان قد استولى على الداخل والخارج . وانا في هذه الحالة سمعت صوتا خفيّا يناديني قائلا : أنا سأنقذك من الوطأة التي تعاني منها وسأرفعك الى فضاءات تحلم بها ، ولكن رحلتك هذه ستكلفك الكثير . وافقت حالا على شروطه ، وانطلقت معه في رحلة صعود نحو الاعالي خِلتها قصيرة ، ولكنها طالت كثيراً ، إذ كلما كان يعتقد قائد مركبتي بانه اوشك على الوصول ، يرى بانه لم يتجاوز منتصف الطريق ، إلى ان اصابه الدوار وقال لي : لقد أخطأتُ في حساباتي وأضعت الطريق . اتركك هنا لتكمل طريقك لوحدك ولدى وصولي سأعيد اليك نصف ما تقاضيتُه. رأيت نفسي كاللاجئ الذي اعتمد على مهرّب شريف تركه في منتصف الطريق او في وسط البحر . عندما شعرت بنفسي عائما اسبح في الجو عرفت باني خارج منطقة الجاذبية ، فصرخت باعلى صوتي : هل هناك من يسمعني ؟
لم يَطُلْ بي المقام داخل طبقات الضباب الكثيفة ، لاني أحسست بيد تمسك بكتفيّ ، وسمعت شخصا يقول : لقد تجاوزتَ حقك وحدودك ، سأقودك الى قيادة المنطقة لغرض استجوابك . لم تستغرق المسافة بين حارس الحدود والقيادة أكثر من دقيقة . قال لي : توقفْ هنا لقد وصلنا . وقال ايضا : يجب ان تعلم بان جلّ اهتمام المحققين هنا هو البحث عن الحقيقة . سوف لا يطالبونك باداء القسم لانهم على بيّنة من كل شئ ، لذا يجب أن تتقاطع اعترافاتك ، بصراحتها ، مع الحقيقة المدونة لديهم .
بدأ المحقق دون مقدّمة وطلب مني قائلا : هل لك ان تروي لنا حادثة الاغتيال التي تعرض لها شقيق أحد أصدقائك ؟
قلت له : أرى فعلا بان مساحة رؤيتكم واسعة جدا وبانكم مطلعون على آخر أنبائي الشخصية . إنها جريمة قتل اقترفها شقيق ضد شقيقه من أجل قطعة ارض . كان للمقتول كامل الحقّ في الارض . كان الجشع قد اعمى قلب اخيه وقتله ، ولكي يُبعد الشبهة عن نفسه ، استأجر يداً آثمة لتنفيذ الجريمة ، ولكي يخفي الادلّة الجنائية عن المحاكم ويشوش طرق مباحثها ، استأجر يدأ آثمة اخرى ، لتصفية القاتل ومحو آثار الجريمة كاملا . كان الاخ المجرم شخصا متمكنا ، استطاع جمع شهود من بين الاقرباء ، أفرادٍ مأجورين اجادوا في كذبهم وفي تزوير الواقع ، فاخرجو الجاني بريئا طاهر الذيل . هذا باختصار ما حدث .
إن اهل ارض لم يعودوا يهتمون في ايامنا إلا بمصالحم الشخصية . قادت الانانية القاتلة الغالبية العظمى منهم للابتعاد عن الاخلاق الحميدة ، ولتحقيق مآربهم هذه ، لا يتراجعون عن استخدام كافة الوسائل . فالكذب قد أدرج الان في قائمة الوسائل المشاعة ، والاعتداء والتجاوز، والتزوير ، والاهانة ، والضرب ، والفساد وحتى القتل ظهرت جميعها في حلتها البهية في قائمة يتبناها أنانيّو العصر الحديث . لقد تغيرت تعاريف الرذيلة والفضيلة وانعكست معانيها ، وطول الحديث لم يعد ينفع ، لان المبدأ السائد يقول : حجة الاقوى هي الفضلى ، والقوي الان يلتهم الضعيف ويمحوه اذا اصبح عقبة أمامه .
توجه إليّ الضابط بسؤال جديد وقال : نحن نعرف بانك امضيت فترة شبابك في معهد كهنوتي ، وكان يفترض ان تتخرج كاهنا ، ماذا جرى لك ، هل لك ان تحدثنا عن اسباب توقفك وعُدولك عن انجاز الشوط ؟
نظرت اليه باستغراب شديد وقلت ، وما علاقة وجودي معكم بما قمت به قبل ما يقارب خمسين سنة ؟ قال لي : انه اختبار للحقيقة ، ورغبة في سماع اعترافاتك .
قلت له : إنك تدعوني الان للتحدث عن جروح كنت قد افلحت في تضميدها . وبما انك تضع صرحتي في المحكّ ، سأقصّ عليك باختصار كلاما لم ابح به كثيرا قبل الان :
لقد امضيت فعلا إحدى عشرة سنة في دراستي هذه وكنت قد بلغت المرحلة الاخيرة. بكل تواضع اقول باني كنت ضمن الاوائل في الدراسة ، ومن الناحية الروحية ، حافظت بكل أمان على ما هو مطلوب ، ولكني في قرارة نفسي لم اكن مقتنعا تماما بهذه الرسالة لانها كانت رغبة والدي الملحّة . لقد حاولتُ كثيرا إقناع نفسي ولقد مررت بحالات سعادة روحية حقيقية وعرفت أيضا اوقات جفاف في صحراء قاحلة لا ترى فيها غير الرمال . كنت احاول ان ارى جمال الله في كل شئ ، فكنت افلح احيانا وافشل في اغلب الاوقات . ومن جهة اخرى ، وبحكم طبيعتي الحساسة ، وانقيادي الاعمى الى المنطق والحقيقة المطلقة ، كنت اقارن كثيرا ، واعتمد على ما أتلقاه من تعليم واقرأه في الاناجيل ، فكنت اجد فرقا شاسعا بين تصرفات رجال الدين وما يطلبه المسيح . أنا كنت اعتقد آنذاك ولا زلت اعتقد بان رجل الدين يجب ان يكون قديسا ، بمعنى آخر أن يكون منقادا بالكامل الى ما يُمليه عليه الانجيل ، فرأيت هذا صعبا بالنسبة لي ، وهذا ما بيّنته لرئيس المعهد عند مفاتحتي إياه ، وقلت له : باعتقادي أنا ، يجب على الكاهن ان يسير باستقامة كاملة وضمير صارم ، وهذه المتطلبات صعبة عليّ ، وبالاضافة الى ذلك لا استطيع ان اخون المقدسات ، هذه طبيعتي ولا يهمني ما يقبله الاخرون . دعاني المدير آنذاك الى التروّي والصلاة وإمضاء مهلة في التفكير . استجبت لطلبه ، وامضيت فترة الانتظار ، غير ان استعدادي لم يتغيّر . هذه هي باختصار شديد قصتي مع الكهنوت .
قال لي المحقق : أهنئك على صراحتك لانه فعلا هذه هي نفس الرواية المقيدة في سجلاتنا ، ولكن قل لي ، هل ترى بان رجال الدين الحاليين يسيرون باستقامة في طريق خشيتَ أنت الانخراط فيه ؟
قلت له : ارجوك ان تُبعد عني هذا الاستجواب وهذا السؤال بالذات ، لاني قد تحدثت كثيرا عن رجال الدين وانتقدتُ تصرفاتهم وكنت اقوم بذلك بنية حسنة . اخشى الان اذا استخدمت نفس الصراحة ، أن اغدو هدفا لسهام البعض منهم . ساتكلم باختصار ، ولكن أرجوك ألا تدرج كلامي هذا ضمن الاعترافات . قال لي : تكلم ولا تخف .
قلت ، هناك رجال دين لا زالوا يؤمنون برسالتهم ويقومون بواجباتهم بروح حقيقية . وهناك من قد تقبلوا الكهنوت كمهنة يقومون بها ، يقومون بواجباتهم ويتمتعون بما توفره لهم من امتيازات . وهناك عدد آخر يقومون بها كموظفين ، لايأبهون بمضمونها وبروحيتها ، وكأنهم مكلفون بترتيل بعض الصلوات وإداء بعض حركات معتمدين على ايمان البسطاء من الناس . مشكلة هؤلاء هو نسيان رسالتهم الحقيقة والانجرار وراء العالم واهوائه وإغراءاته . بصورة عامة ، يعتبر رجل الدين نفسه أرفع مرتبة من كافة رعاياه ، في الوقت الذي يجب ان يحدث العكس ، فرجل الدين عند تقبله رسالته يجب ان يرتدي وزرته ليخدم اصغر رعاياه ، ولكن الذي يحدث هو العكس ، فرجل الدين هو السيد الذي يجب مراعاته واحترامه وتوفير الراحة والرفاهية له ، والمؤمن المسكين ، ينتظر احيانا نظرة رأفة من بعض هؤلاء الاخوان . لقد اطلق عليهم قداسة البابا فرنسيس اسم رجال المطارات ، لانهم يحبون التفرغ للسفر ، وكأن السفر هو من ضمن واجباتهم الروحية . لا اريد الاطالة في فقرة تحتاج فعلا الى كتاب كامل . بكلمة واحدة ، لقد اسقط الكثيرون ، من تعهدهم أمام الله ، كلمة مهمة جدا وهي التجرد في حياتهم الكهنوتية .
بعدما رجوت المحقق ألا يضع هذه الفقرة الاخيرة في محضر اعترافاتي ، طلبت منه ان يطلق سراحي لاني ابصرت السماء وقد افلحت في انتزاع الطبقة الداكنة عنها.
قال لي ، لقد تيقّنت من صراحتك ، اذهب بسلام . تركته وبدأت بالهبوط مستنيرا باشعة الشمس ، غير اني في طريقي تلوت فعل الندامة لعدة مرات خشية الا يصيبي سهم طائش يفلت من يد تكون قد سمعت اعترافاتي الاخيرة ولم تصغي الى فعل ندامتي .