عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - Jassim Al Halwai

صفحات: [1]
1
ذكريات
 
القمع الوحشي
( 1 )
 
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
تعرض الحزب الشيوعي العراقي الى حملة قمع وحشية إستهدفت تصفيته عام 1978. وأدت الحملة عمليا الى سحق منظماته في طول البلاد وعرضها خلال العام المذكور. وتواصلت الحملة بعدئذ مستهدفة إحباط أية محاولة للملمة البقية الباقية والمبعثرة من منظماته هنا وهناك. وقد عايشت تلك الحملة منذ بدايتها حتى نهاية عام 1979. ولي الشرف بأني كنت آخر رفيق من أعضاء اللجنة المركزية بقي في المقر العام من بين إثنتا عشر رفيقة ورفيقا مركزي كانوا يداومون يوميا في المقر. ولي الشرف ايضا بأني كنت آخر عضو لجنة مركزية غادر العراق من مجموع خمسة وعشرين عضوا أصيلا، إثنان منهم كانا في الأراضي غير الخاضعة للسلطة في كوردستان. أذكر ذلك مضطرا لأن بعض كتاب المذكرات نسوا أوتناسوا ذكر إسمي في مواقع وفعاليات هامة كثيرة، ولم أهتم بذلك، ولكن ساءني أن تناسوا هذين الموقعين بالذات !؟

كنا مستهدفين، الرفيق* باقر إبراهيم وأنا، بالإسم في المرحلة الأخيرة من بقائنا في العراق. وكانت تهديدات جهاز الأمن تصلنا عبر العناصر التي يطلق سراحها. وكان مما يغيض السلطات هي النشرات الداخلية والإخبارية التى كنا نعممها والتى تتضمن أخبار حملة التضامن مع حزبنا، وأخبار الإعتقالات و التي كنا ندينها ونندد بها وبالقائمين بها بشدة في تعليقاتنا عليها. وقبل هذا وذاك ، فالذي كان يغيظهم أكثر هو مواصلتنا العمل رغم شدة الإرهاب الوحشي، واعتبروا ذلك تحديا كبيرا لهم، ولإرهابهم الفاشي. وواصل ذلك التحدي من بعدنا شيوعيات وشيوعيون آخرون في مدن وأرياف العراق في المنطقة العربية وفي كوردستان - الأنصار الشيوعيون ، وكثير ممن خرجوا من الباب، ما خرجوا إلا لكي يعودوا من الشباك، بمن فيهم غالبية اعضاء اللجنة المركزية . وضحى المئات منهم بحياتهم في سبيل حرية العراق وسعادة شعبه. ويواصل الشيوعيون اليوم أيضا كفاحهم وتضحياتهم من أجل تلك الأهداف النبيلة، متحدين أنواع المخاطر والصعوبات، مستهدين بمصالح شعبهم ووطنهم، أولا وقبل كل شيء. وذلك بتكريس جهودهم لتطوير العملية السياسية الجارية في وطننا الحبيب، والتي تستهدف إقامة نظام ديمقراطي فيدرالي مستقل.

ذكرت في مسلسل سابق بأن الإنتهاكات وحملات الإرهاب البعثية لم تتوقف تماما يوما واحدا ضد الحزب الشيوعي وأعضائه ، كانت تشتد وتضعف بالإرتباط مع أي نجاح يحققه الحزب في تعزيز وتوسيع نفوذه. فبعد فترة قصيرة من المؤتمر الثالث للحزب، المنعقد في نيسان 1976، والذي أضفى زخما قويا على نشاط الحزب ومكانته وعزز نفوذه ، تصاعدت المضايقات والإنتهاكات ضد الحزب وأعضائه. وأخذ ت الخلافات السياسية والفكرية تثار بوتيرة أشد في سكرتارية الجبهة. وقد تعرض الحزب لضغوط كبيرة من قبل البعث لتبني أو تأييد مواقف أو سياسات تتعارض مع نهجه السياسي . وقد رفض الحزب ذلك ورفض إصدار أي بيان بإسم الجبهة يتعرض لمبادئه وعلاقاته بحركة التحرر الوطني العربية أو بعلاقات الحزب الأممية. على سبيل المثال: رفض طلبهم بوصف النظام السوري بالعميل. ورفض طلبهم بالتهجم على منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات عندما إختلف البعث

معهما. وقاوم الحزب ضغوطهم من أجل تغيير موقف الحزب من القضية الفلسطينة. ورفض طلبهم بعدم ذكر إسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي في صحافة الحزب.

كان على اللجنة المركزية أن تدرس تدهور الأوضاع وقد قامت بذلك، ولو إن ذلك جاء متأخرا، ففي إجتماعها الكامل المنعقد في آذار 1978. وضعت النقاط على الحروف في أهم القضايا الملتهبة، وإقترحـت المعالجات الضرورية بما في ذلك المطالبة بإنهاء فترة الإنتقال وإجراء إنتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستورا دائما للبلاد.

كان رد فعل البعث عنيفا على تقرير اللجنة المركزية، بالرغم من إن معالجاته كانت في إطار ما سمي خطأ بالحلقة المركزية - الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، وجند حزب البعث صحيفة "الراصد" للتهجم على التقرير سياسيا وفكريا. وظل يطالب الحزب بسحبه والتراجع عنه، ألا إن طلبه جوبه بالرفض المطلق. وهذا دليل قاطع على خطأ الإدعاء القائل بأن الحزب الشيوعي العراقي كان يمكن أن يسير مئة سنة وراء النظام البعثي لو ترك النظام ، الشيوعيين على ما كانوا عليه، بل ويمكن إعتبار مثل هذه الإدعاءات مجرد تخرصات حاقدة على الحزب.

وجاء وصول الشيوعيين الأفغان في نيسان الى السلطة مدعومين من السوفيت ليثير الهلع في قلوب البعثيين، فدعوا، في صحيفة "الثورة" الى الحيطة والحذر من تكرار ذلك في اماكن اخرى، ويقصدون بذلك العراق.

كانت سياسة البعث قبل قيام الجبهة وبعدها، هي إبقاء الحزب الشيوعي العراقي في دائرة محددة و محاولة إعادته الى هذه الدائرة كلما خرج منها. وقد رسم طه الجزراوي بيده دائرة على ورقة ليوضح مقصدهم للرفيقين الراحلين عامر عبد الله ورحيم عجينة ، وذلك في وقت مبكر، وتحديدا عقب الهجوم على عمال الزيوت النباتية والتجمع الجماهيري في ساحة السباع في بغداد في تشرين الثاني 1968. أما بعد عشر سنوات من التاريخ المذكور، فقد تحولت تلك السياسة الى التخلص من الحزب الشيوعي، أما بإخراجه من الساحة كليا أو تحويله الى حزب كارتوني لا حول له ولا قوة. ينفذ ما تطلبه منه سلطة البعث، إرضاء للرجعية العربية، وخاصة العربية السعودية وإرضاء للغرب، وخاصة أمريكا. وقد أشار المخلوع صدام عن الوجهة السياسية الجديدة في أحد إجتماعات اللجنة العليا للجبهة آنئذ بقوله :

إن تحالفهم مع الحزب الشيوعي العراقي لا يشكل قوة لهم وأنما يشكل عبئا عليهم، فدول المنطقة والدول الغربية غير مرتاحة من هذا التحالف.  [1]
فلا غرو من أن يحمل عزة الدوري معه 500 نسخة من صحيفة "الراصد"، اخذها من المطبعة بنفسه، عند سفره الى السعودية عربونا للحلفاء الجدد. وقد وصلتنا في حينها رسالة تتضمن الخبر المذكور من عامل يعمل في المطبعة التي طبعت الصحيفة المذكورة.

نعود الى رد فعل البعث على تقرير اللجنة المركزية في آذار وعلى الإنقلاب في أفغانستان، فقد إعتقلت سلطة البعث المجرمة وقدمت للمحاكمة عدداً من الرفاق العسكريين والعاملين في القوات المسلحة بتهمة التآمر على نظام الحكم وحكمتهم بالإعدام!! ونفذ حكم الإعدام بواحد وعشرين منهم في 18 و 19 أيار1978. وبعد وصول برقيات المطالبة بإيقاف الإعدامات من برجنيف وغيره من رؤساء الدول الإشتراكية، أعدم عشرة رفاق آخرون في 27 و 28 و 29 أيار!!

في 28 أيار عقد إجتماع طارىء للجنة المركزية وترأس الإجتماع الفقيد زكي خيري لغياب الرفيق عزيزمحمد خارج البلد. لم يكن تدهور الوضع السياسي محل نقاش ويتحمل مسؤليته البعث ماعدا صوت خافت يحمل الحزب قسطا من المسؤولية جراء محتويات تقرير اللجنة المركزية في آذار. ولم يكن هناك خلاف على ضرورة إتخاذ تدابير الصيانة. وكان هناك رأي غالب يدعو الى السعي لإيقاف التدهور في الوضع بخلفيتين مختلفتين، واحدة تدعو لذلك لكسب الوقت وللتغطية على تدابير الصيانة، والآخرى تأمل بعودة المياه الى مجاريها مع البعث. ولم أكن مع القسم الأخير. ولم يصدر من الإجتماع أي بيان. وفي حزيران عقد ثاني إجتماع طارىء للجنة المركزية لم يختلف في نتائجه عن الأول ، سوى إن صوت المطالبة بالإسراع في إتخاذ تدابير الصيانة والرد على حملة البعث الإعلامية كان أقوى.

تولى المكتب السياسي وضع خطة لتدابير الصيانة. عرفت لاحقا إن أهم ما فيها تشكيل قيادة ظل من الرفيق عمر على الشيخ عضو المكتب السياسي مسؤولا وعضوية الرفيق سليمان يوسف عضو اللجنة المركزية والشهيدة عائدة ياسين العضو المرشح للجنة المركزية. وربطت بهم منظمات وكوادر وهُيأت لهم أجهزة طباعة. وتقرر فرز التنظيمات والرفاق المكشوفين وربطهم بالرفاق العلنيين، وإعتماد اللا مركزية في العلاقات التنظيمية. وتقرر كذلك إنتقال ثلث أعضاء اللجنة المركزية الى الخارج. ووزعت سكرتارية اللجنة المركزية ( سلم ) بإقتراح من لجنة التنظيم المركزي ( لتم ) مبالغ من المال على شبكة واسعة من الكادر وإخفاء مبالغ أخرى في أماكن مختلفة ظلت تحت سيطرة المكتب السياسي حتى بعد خروجنا من العراق.

وبغياب سكرتير اللجنة المركزية الرفيق عزيزمحمد، وبغياب مساعده الرفيق باقر إبراهيم، عقد القائم بأعمالهما في ( سلم ) الرفيق عمر علي الشيح إجتماعا لسكرتارية اللجنة المركزية والتي لم يبق من أعضائها سوى ماجد عبد الرضا وأنا، لدراسة تدابير الصيانة. فقدمنا قائمة طويلة من المقترحات ،عرفنا، فيما بعد، بأن المكتب السياسي شطب حوالي 40% منها بحجة إنها تخلق تطيرا في المنظمات.

بعد فترة إكتشف البعث بان الحزب يعتزم التحول الى العمل السري . فقد كانت بعض التدابير تتم في المقرات العلنية - مثل نقل أجهزة الطباعة - التي تخضع لمراقبة متنوعة مثل الإنصات والكامرات الخفية. فغيرت السلطة خطتها من القضم التدريجي بالحواشي والأطراف وبالمنظمات الأبعد كالبصرة والمحافظات الجنوبية الى الإنقضاض على جميع المقرات وقيادات المنظمات، وشملت الإعتقالات أعضاء وأعضاء مرشحين للجنة المركزية مثل عادل حبة وكاظم حبيب وفخري كريم و محمد جواد طعمة ( أبو زيتون) وتعرض بعضهم للإعتداء. واعتقل لاحقا الرفيق ماجد عبد الرضا عضو سكرتارية اللجنة المركزية . وإتبع نظام البعث الساقط مختلف الأساليب الدنيئة والوحشية لتغيير معتقدات المناضلين السياسية والفكرية وإنتزعت في تلك الأجواء الإرهابية الفظيعة تواقيع الألوف من المناضلين على تعهد لا مثيل له في التاريخ، يؤدي بموقعه الى الإعدام إذا ما عاود نشاطه السياسي السابق!! وهكذا فقد تجاوزت الأحداث خطة المكتب السياسي لتدابير الصيانة وصرنا أمام أمر واقع جديد، الا وهو التراجع غيرالمنظم في إطار رؤية غير واضحة سياسيا وتبعا لذلك غير واضحة تنظيميا. واصبحت المهمة هي محاولة إضفاء بعض التنظيم على التراجع. وإعتمدت على الكادر المتطوع لها. وكنت أحدهم فتقرر بقائي في المقر العام كآخر رفيق مركزي.

                                                                            × × ×

في بداية تشرين الأول أخبرتني إبنتي شروق، وكانت في الصف االثاني من المتوسطة، بأن رئيسة الإتحاد الوطني لطلبة العراق في مدرستهم قد إستدعتها وقالت لها:

ـ إنك الوحيدة التي لم تنتمي للإتحاد ، ويجب أن تنتمي!

ـ انا لا أنتمي للإتحاد، إن والدي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وخالي إستشهد تحت التعذيب بيد حزب البعث، أجابت شروق، ما لقنته أمها لها لمثل هذه الحالة، وهي ترتجف من الخوف.

ـ احنا نعرف ... نعرف كل شيء عن أبوك ، سأعطيك فرصة إسبوعين للتفكير.

ذهبت، قبل إنتهاء المهلة، للمدرسة وإلتقيت برئيسة الإتحاد . وقد أخبرتها بأني ولي أمر شروق ولا أوافق على إنتمائها لمنظمتهم. نظرت الي نظرة وعيد، وإنتهى اللقاء. لم تعد رئيسة الأتحاد تضايق شروق ولكن شروق كانت تشكي لى من عزلتها في المدرسة. خفت عليها أن تتعقد. إستفسرت من الفقيد حميد بخش ( ابو زكي) ، الذي كان قد أرسل زوجته البلغارية وطفليه توا الى بلغاريا ، وكان عضوا في لجنة التنظيم المركزي وأنا مسؤولها، عن مدى إمكانية الدراسة لأعمار مثل سن شروق في بلغاريا ، فأجابني: 

ـ أبو شروق الحجي بيناتنا ، لأن أخاف يسمعونه ويعتبروني متطير، البعث ما راح يخلي لا شروق ولا أم شروق ولا أخوشروق ولا عائلة أي كادر حزبي، يجب التهيؤ لإخراج الجميع الى خارج البلاد.

ـ هيجي تشوف؟

ـ بالضبط .

وكما أشرت آنفا فقد رفضت، بعض مقترحات (سلم) واعتبرت تطيرا، من قبل المكتب السياسي وكانت أخف بكثير من مقترح أبو زكي.. وعندما أستحضر الآن أجواء بداية تشرين الأول 1978، أرى بان تعميم مقترح أبو زكي كان من شأنه أن يخلق الرعب في أوساط البقية الباقية من الكوادر والتنظيمات. ولا يساعد على إضفاء بعض التنظيم على التراجع غير المنظم. وفي نفس الوقت كان رأي أبو زكي صحيحا وبالتالي يجب إتخاذ التدابير الضرورية له. كنا في مأزق حقيقي. وهذا مثل واحد على المأزق الذي كنا فيه عند تصدينا لمعالجة تدابير الصيانة في تلك الفترة. هذا على صعيد الموقف العام . أما على صعيد الموقف الشخصي فقد كنت مقتنعا برأي أبو زكي؛ فطلبت من أم شروق أن تجدد جواز سفرها وجوازات الأبناء في أول فرصة. وكانت الجوازات تجدد في بداية السنة، فجددتها في اليوم الثاني من سنة 1979، وأمنتها خارج البيت في مكان لايمكن أن تطالها يد.


يتبع
________________________________________
* انني استخدم كلمة الرفيق مع اسماء الاشخاص الذين كانوا اعضاء في الحزب الشيوعي العراقي في حينه ، بصرف النظر عن مسار تطورهم اللاحق .

[1]ـ  أنظر د. رحيم عجينة، الإختيار المتجدد ص 97  و 134.[/b]

2
ذكريات

الدراسة الحزبية في الخارج
(3ــ 5)
[/size][/b]




جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

في اليوم التالي لوصولي أرسل جيرنيكوف مدير معهد العلوم الإجتماعية ( معهد لينين) في طلبي وكان اللقاء دافئا جدا. طلب مني الإسراع بوصول فريقنا لأنهم بصدد تحديد موعد حفل الإفتتاح الرسمي قريبا. اخبرته بأن حوالي 45 رفيقا ينتظرون في دمشق لعدم وجود أماكن شاغرة على متن الطائرات القادمة الى موسكو، ورجوت مساعدته، فوعدني خيرا. وبالفعل بعد بضعة أيام وصل الجميع الى موسكو!

كان جيرنيكوف  شخصية قوية ومحترمة من الجميع ومتنفذة بحكم علاقته المباشرة بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي وتحديدا بالعضو المرشح للمكتب السياسي بنماريوف مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية. كان قد تجاوز الستين من عمره, شعره رمادي اللون، وجهه أحمر ومدور الشكل وبشوش، ويبدو ضخما نسبيا، كان يحترم حزبنا كثيرا لكفاحيته العالية وتضحياته الجسيمة. وقد حضر في إحدى مناسبات عيد ميلاد حزبنا رغم إنه كان نادر الحضور لمثل هذه الحفلات، رفع نخبا ... مضاعفا عمر الحزب  أمام ممثلي أكثر من إربعين حزبا شيوعيا، نافيا أن يكون كلامه مجاملة، وفسر قوله بان تجربة الحزب الشيوعي العراقي غنية , وتساوي ضعف عمره. كان يعقد لنا، نحن ممثلي الفرق في المعهد، إجتماعات دورية. لم يكن يتساهل في خرق المواعيد إطلاقا، وكان يعتبر من يتأخر عن موعد ما، بأنه لايحترم نفسه لأنه لايحترم الآخرين، فإحترام الآخرين ووقتهم هو إحترام للنفس ايضا. نقلت هذه المقولة لقيادة منظمتنا الطلابية في موسكو، وكنت مشرفا عليها،  إذ كانت تعتبرالتأخر نصف ساعة عن موعد ما أمرا طبيعيا في موسكو لتباعد المسافات ويسمون ذلك " هاي مواعيد موسكو".عالجت قيادة المنظمة هذه الظاهرة السلبية في نشرة داخلية ووضعت مقولة المديرعنوانا لها!

يعتبر معهد العلوم الإجتماعية إمتداد لجامعة كادحي الشرق التي درس فيها الرفيق فهد وقادة آخرون من حيث محتواه وأهدافه. وهو مخصص لتسليح كوادر الأحزاب الشيوعية بالنظرية الماركسية ـ اللينينية. ويفترض بالدارس فيه أن يكون قد أكمل الإعدادية. ومن حق قيادات الأحزاب عدم الإلتزام بالشرط  المذكور إذا ما قدرت بأن الرفيق آهل للدراسة. كان الفريق الذي أقوده يضم رفاقأ ذوي مستوى تعليم متفاوت جدا، فبينهم من أكمل أو لم يكمل السادس الإبتدائي، وبينهم خريجو الجامعة. وبنفس هذا التركيب كانت فرقنا دوما منذ 1964. وكان المعهد يمنح دبلوماً بعد التخرج لمن يشاء من خريجي الدورة الطويلة الأمد. وقد إستلمت في حينه دبلومات الرفاق وأطلعتهم عليها ومن ثم أتلفتها، لأنها من الممكن أن تتحول الى دليل جرمي ضدهم في بلدنا.!!

كان معدل الدارسين في المعهد حوالي 300 دارساً من 40 بلدا أو اكثر، وكانت غالبيتهم من البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهناك مجاميع أوروبية من البرتغال وأسبانيا واليونان وفنلندا، وأفراد من دول أخرى، في حين لم يكن هناك أحد من البلدان الرأسماليةالأكثر تطورا مثل: أمريكا وفرنسا وبريطانيا والمانيا الغربية وايطاليا!؟ كان جو المعهد أمميا وحميميا. وهناك حرية معينة في المناقشات داخل الصفوف. وليس هناك أي مظهر من مظاهر الثكنة العسكرية التي أشرت اليها في مدرسة صوفيا. ففي موسكو ليس هناك رقابة على التحضير الشخصي أو المبيت  خارج المعهد. ولكن أصطحاب أحد الى المعهد ممنوع , ودخول قادة الأحزاب يتم يعد موافقة إدارة المعهد مسبقا. وهذا مفهوم، فكثير من كوادر الأحزاب الشيوعية في المعهد تعمل تحت الأرض. ولكن هناك صرامة في تطبيق النظام، فمثلا لايسمح للدارس الدخول الى الصف لو وصل متأخرا، أي بعد المباشرة بالدراسة، وكان عليه أن يستحصل موافقة رئيس قسم التعليم لكي يدخل. وبإعتقادي أنه لولا تلك الصرامة , , لخربت عادات عالمنا الثالث المتخلفة , أسس الدراسة في المعهد.!!

كان في المعهد مطعم كبير , والأكل فيه ممتاز ومتنوع ورخيص. وكان راتب الدارس يغطي جميع مصروفاته ويزيد. كان القسم الداخلي مريحاً وهو مجاور للمعهد . هناك قاعة كبيرة تتسع لجميع الدارسين والعاملين في المعهد , وهي مجهزة تقنيا للترجمة المباشرة بعدد من اللغات. تعرض في القاعة الأفلام وتقام فيها الحفلات العامة. وتلقى فيها صباح كل يوم اثنين محاضرة من قبل أحد قادة الأحزاب الشيوعية أو دراسات جديدة ذات علاقة بإهتمامات المعهد تلقيها شخصيات  سياسية وعلمية من خارج المعهد.

تبدأ الدراسة في الصف بقراءة نشرة أخبار عالمية, ويخصص بعض الأساتذة وقتا محددا للتعليق عليها . وتكون لكل صف أو صفين متشابهين ,علاقة بمنظمة حزبية في أحد المصانع للتزود بالمعارف التطبيقية. كما يحضرالمستمعون بعض الاجتماعات الحزبية أو الإنتاجية . وتنظم سفرة للمعهد الى لينينكراد , وتتوج الدراسة بعد الإمتحانات برحلة لإحدى الجمهوريات السوفيتية. كما كان هناك استوديو للبث المباشرخلال فرصة الظهيرة وأتذكر بأني ألقيت من خلاله كلمة بمناسبة العيد التاسع والثلاثين لميلاد حزبنا.

كان فريقنا يتكون من 50 رفيقة و رفيقاً وشكلت للفريق هيئة قيادية كان في قوامها الرفاق عائدة ياسين وقادر رشيد وملا علي... وتوزع فريقنا على أربعة صفوف. كان معي في الصف أحد عشر رفيقا ومن بينهم الرفيقتين عائدة ياسين ولينا ( إسم مدرسي ) وهما الفتاتان الوحيدتان في الفريق العراقي كله ، ولأول مرة بعد إستئناف الإرسال الى المعهد في النصف الثاني من عام 1964. وسامي عبد الرزاق وآخرون أتذكرأسماءهم المدرسية وهم: سردار وسمير وصادق وعادل ورافد ومحجوب ومجيد ونبيل. كنا ندرس أربع ساعات قبل الغداء أحدى مواد البرنامج الذي مر ذكره آنفا. وبعد الغداء مباشرة، اي في وقت القيلولة، لدينا ساعتان للغة الروسية. وفي بعض الأيام هناك ساعتان اضافيتان ، وعادة ماتكون محاضرة عن حركات التحرر الوطني. كان معظمنا يغفو مرارا في هاتين الساعتين. وفي المساء كنا ننجز تمارين اللغة و نحضر لليوم التالي. كان الإسلوب المتبع في دراسة العديد من المواد هو الأسلوب النشط ، أي إن الدارسين هم الذين يحاضرون والمحاضر يكمل أو يصحح. كانت مارينا، الشابة الجميلة ، المتمكنة من اللغة العربية ، أستاذتنا في الفلسفة ومتخصصة بتاريخ الفلسفة ، وتحضّر أطروحة في هذا الميدان. وقد درستنا سنة كاملة تاريخ الفلسفة وبالإسلوب الكلاسيكي ، وبدون ملازم أو مصادر. وأكثر من مرة طالبنا بالإكتفاء بذلك والتحول الى المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، فكان جواب الأستاذة وكذلك المشرفين هو، تذكيرنا بمقولة إنجلس " إن دراسة تاريخ الفلسفة ينمي لدى المرء ملكة التأمل الفلسفي." وكان بعض الرفاق يعلقون على ذلك بالإشارة الى رفيق أسمر وسيم شعره مجعد ، بالقول بأنه الوحيد الذي إكتسب ملكة التأمل الفلسفي!! لأن الأستاذة مارينا كانت تمدحه على إستيعابه الجيد أمام المشرف، في حين كان الآخرون يعتقدون بان للمدح دوافع أخرى!!

كان أستاذنا في الإقتصاد السياسي دانتسوف شاب في الخامسة والثلاثين متوسط القامة قصير الشعر وجهه مثلث وصارم , وهناك إنتفاخ مبكر تحت جفنيه ويمشي منحنيا قليلا بحقيبته اليدوية. كان متمكنا من اللغة العربية ويعرف الإنكليزية، ومتفتحا فكريا. ومنه سمعت لأول مرة " إننا لم نر الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها الرأسمالية في تجديد نفسها ذاتيا " كان مثل هذا الكلام في بداية السبعينيات كلاما مثيرا، لأن الوثائق الرسمية للحركة الشيوعية كانت تتحدث عن الأزمة المستعصية وغير القابلة للحل التي يعاني منها النظام الرأسمالي العالمي! 

كان دانتسوف  يبالغ في حزمه الى حد التجاوز، فكان يؤنب المقصر تأنيبا لاذعا، وكنا نتحمل ذلك. وفي أحد الأيام اخطأ أحد الرفاق  في الإجابة على سؤال فمسك دانتسوف الرفيق من ظهره وظل يدفع به من بداية الصف الى نهايته حيث يجلس الرفيق. إستغربنا تصرفه وتمنينا أن لايتكرر.

كان وضعي كمسؤول فريق يتطلب أن أكون قدوة للآخرين في الدراسة، وهي مهمتنا الأساسية من وجودنا خارج الوطن. ولم أكن أقصر في ذلك. وفي أحد الأيام لم أتمكن أن أحضر جيدا للإقتصاد السياسي ، لسبب طاريء وخارج عن إرادتي . فجلست مبكرا وتمكنت أن أقرأ ثلاثة أسئلة من أربعة. سألني دانتسوف السؤال الرابع أجبته بناء على معلوماتي القديمة ولم يكن الجواب كاملا ، وإنطوى على خطأ ما ، فصحح الخطأ. بعد فترة أخذ يتحدث عن القيمة الإستعمالية للسلعة ، فقد كنا في بدايةالمنهج الدراسي، فقال: "هذا الكرسي الذي بيدي مثلا ، فيه قيم إستعمالية كثيرة . فإني أتمكن أن أجلس عليه، وأتمكن أن استخدمه كحطب للمدفأة، ومن ثم رفع الكرسي الى الأعلى وقال" اتمكن أن أهوى به على راس واحد لا يعرف إقتصاد سياسي" كان واضحا بأنه يقصدني أيضا.

قررت أن اتحرك لوضع حد لهذا الوضع الشاذ،  فإتصلت بالأستاذة الأقدم، مسؤولة صفنا اوليانوفا الحائزة على مدالية لينين. عندما عرفت بالوضع طلبت مني أن أخذ ساشا رئيس قسم المترجمين( وليس مترجمنا لأنه صديق دانتسوف) وأشتكي عليه عند جيرفينكوف، مساعد المدير لشؤون التعليم ومرجعي الإداري. وأشارت لي بأن دانتسوف مغرور, وذلك برفع أنفها بسبابتها الى الأعلى . لم أجد ساشا، وبالتالي لم أتمكن القيام بأي عمل في ذلك اليوم.

كان الرفيق عزيز محمد يرقد في المستشفى. إتصلت به تلفونيا وأخبرته بتفاصيل سلوك الأستاذ، وأخبرته بان مترجم صفنا صديقه. وجيرفينكوف صديقه أيضا. فطلب مني الرفيق عزيز أن أذهب الى مدير المدرسة وأشتكي عليه. لم أخذ مترجم صفنا آرتينوف، وأخذت المترجمة تمارا ( صديقة العراقيين) والتقيت بمرجعي جيرفينكوف، طلبت منه مواجهة مع المدير. عندما عرف السبب ألح علي أن أتحدث معه في الموضوع فرفضت. فما كان منه الا الإستجابة لطلبي . في طريقنا الى المدير قالت لي تمارا " زين سويت ما إتكلمت وياه لأن دانتسوف وجيرفينكوف... فد لباس".

قيمت إيجابا مستوى دانتسوف وطريقة تدريسه النشطة، في لقائي مع المدير، وإنتقدت أسلوب تعامله معنا وقلت له، فحوى ما أوصاني به الرفيق عزيز محمد.

ـ إنه يتعامل معنا وكأننا تلاميذ مدرسة في حين إننا كوادرحزبية وضعنا دمنا في راحة أيدينا ونناضل من أجل حرية وطننا وشعبنا ولرفع راية الشيوعية في بلدنا. وعرضت علي المدير تفاصيل تصرف الأستاذ وأضفت:

نحن موجودون في هذا المعهد للتعلم، ولوكنا نعرف ماندرسه  لما أتينا الى هنا، فلماذا يتعامل معنا بهذه الطريقة. كانت المترجمة تمارا تترجم بحماس أما جيرنيكوف فقد شحب وجهه. قال لي المدير ووجهه محمرا: 

ـ إسمع سامر ( إسمي في المعهد) إعطني مهلة شهر واحد إذا ما عجبك الأستاذ تعال الى هنا وإخبرني وسوف لن يبقى في المعهد!!

كنت أتوقع موقفا متعاطفا من المدير معنا، ولكن لم أتوقع أن يصبح مصير الأستاذ في المعهد متعلق بقرار منا. تمارا ركزت نظرها علي تريد رصد رد فعلي، ولم تتمكن أن تكتم الفرحة في عيونها. إهتز كياني فرحا لشعوري بإزالة ما لحقني ورفاقي من حيف. وقد حاولت أن أكتم ذلك بكل ما أوتيت من قوة لكي لا ابدو شامتا ولكي لا أجرح مشاعر جيرفينكوف، صديق دانتسوف، لأنني كنت معجبا به وبتعاونه وكانت علاقتنا دافئة. شكرت المدير على موقفه وودعته.

ذهبت الى الصف واخبرت الأستاذ بأن تأخري جري بمعرفة الرفيق جيرفينكوف. بعد فترة وجيزة جاء رسول على دانتسوف وسلمه رسالة فغادر دانتسوف الصف. أخبرت الرفاق في الصف بمحتوى لقائي مع المدير وقد إندهشوا للنتائج. وكنا ننتظر عودة الأستاذ بتلهف.


يتبع


3
ذكريات
سنتان مختفيا في الكوت!
( 3 ــ 4 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
في نهاية عام 1960 أو في بداية عام 1961 صدر قرار من الهيئة العليا للإصلاح الزراعي يقضي بإعادة اراضي ثلث الجزرة للإقطاعي مهدي بلاسم الياسين، بحجة وجود نواقص فنية في إجراءات الهيئة المذكورة عند إستيلائها على تلك الأراضي؛ وان قسمة الحاصلات يجب أن تتم مع الإقطاعي !! وجاء هذا الإجراء في سياق إرتداد عبد الكريم قاسم ومحاباته للقوى الرجعية ولكسر شوكة الحركة الفلاحية التي يقودها الحزب الشيوعي العراقي. وكان هذا الإجراء هو الأول من نوعه في إقطاعية كبيرة كثلث الجزرة التى كانت تضم 800 عائلة فلاحية.

كان رد فعل الفلاحين في ثلث الجزرة قويا جدا. فقد صمموا على مقاومة الإجراء بمختلف الوسائل بما في ذلك إستخدام  السلاح، وكان بحوزتهم حوالي 400 قطعة سلاح ناري خفيف. درسنا الموضوع في المحلية ورفعنا تقريرا الى قيادة الحزب وكان المسؤول الأول آنئذ الفقيد زكي خيري. وخلا صة رأينا ، هو مساندة الفلاحين في موقفهم وقيادتهم للكفاح بمختلف الوسائل السلمية من أجل الغاء القرار الجائر. وفي حالة لجوء السلطة للقوة لفرض القرار الرجعي ، فيجب الوقوف بجانب الفلاحين. وقد إستبعدنا خوض السلطة معركة دموية ضد الفلاحين لصالح إقطاعي يُعد واحد من أكبر إقطاعي العراق وأسوأهم سمعة  . إقترحنا صيغة بيان بإسم محلية الكوت يندد بالإقطاعي وأساليبه الخبيثة في الإلتفاف على القوانين وسردنا تاريخه الأسود في مساندة النظام البائد للبطش بالجماهير في إنتفاضة الحي وأساليبه الوحشية في إستغلال الفلاحين... ويساند البيان الفلاحين في مطالبتهم بإلغاء القرار ويدعوهم الى توحيد صفوفهم و... الخ.

وأجرينا جملة إجراءات تنظيمية منها: ربط منظمة ثلث الجزرة مؤقتا بلجنة محلية الكوت ، نقل الكادر الفلاحي الشهيد هلال سلمان ، العضو المرشح للجنة المحلية، من الصويرة الى ثلث الجزرة، كمشرف ثابت على اللجنة الفلاحية والتي كانت بقيادة منعم الحاج جاسم. ونسب الشهيد عبد الأمير رشاد، عضو اللجنة المحلية، لاحقا، ليتناوب المسؤولية مع هلال . وكان الأثنان  في حركة مكوكية بين ثلث الجزرة والكوت ومرتبطان بي مباشرة ، فكنا نتابع الوضع بتفاصيله عن كثب ونزودهم بالتوجيهات الضرورية.

وعقدنا أثناء تلك الفترة كونفرنسا فلاحيا للواء ، في حي الأكراد في مدينة الكوت، حضره أبرز الكوادر الفلاحية من جميع مناطق اللواء، وحضره كذلك مشرفا من لجنة التوجيه الفلاحي. وكانت قضية ثلث الجزرة فقرة مستقلة في جدول العمل، ونالت حقها من الإهتمام والمناقشة. ودعم الكونفرنس تقديرات ومواقف اللجنة المحلية من المشكلة.

طبعت قيادة الحزب البيان، بعد أن خففت من لهجته قليلا! ولكن لم تجبنا على التقرير الذي يتضمن خطتنا وتقييماتنا. وبدلا عن ذلك وصلنا، بعد فترة، الرفيق هاشم الحكيم من لجنة التوجيه الفلاحي لزيارة ثلث الجزرة، وقد وفرنا له جميع متطلبات زيارة ناجحة. عند عودته وإلتقائه بنا أكد قناعته التامة بتقديراتنا، خاصة فيما يتعلق الأمر بإستعداد الفلاحين العالي للدفاع عن حقوقهم. ويظهر بأن هذه النقطة بالذات كانت موضع شك قيادة الحزب أو بعض المختصين في الحركة الفلاحية( لجنة التوجيه الفلاحي المركزي). 

كان إستعداد الفلاحين وحماسهم للدفاع عن حقوقهم موضع إعجاب كل من زار المنطقة. وقد  إستقبلوا بيان المحلية بغبطة وإعتزاز كبيرين. وقد شد بعضهم البيان على عضده على شكل( باز بند) معتزين بالبيان لورود اسم ثلث الجزرة فيه، شاعرين بأنهم ليسوا وحدهم  في صراعهم ضد جور الإقطاع والسلطة.

نظمنا لهم مذكرة ووفدا لزيارة المسؤولين والأحزاب والصحف الوطنية في بغداد. ووجدت قضيتهم تفهما  وتعاطفا، ومن بين من تعاطف معهم الحزب الوطني الديمقراطي ـ جناح الجادرجي، الذي نشر مذكرتهم في صحيفة " الأهالي " وعلق عليها متعاطفا مع مطاليب الفلاحين. أما قائم مقام قضاء الحي فقد إعتقل الوفد الفلاحي. وقد وتر هذا الإجراء التعسفي الأوضاع، فقرر الفلاحون منع أي شرطي أو عسكري او شخصا من حوشية الإقطاعي من  دخول منطقة ثلث الجزرة. وقد نظمت الحراسات والدوريات المسلحة لتنفيذ ذلك. في هذه الفترة جرت اعتقالات واسعة في صفوف الشيوعيين واصدقائهم في مدينة الحي، شملت من المعلمين كل من حميد جاسم، زويد خلف، إبراهيم عريبي، ماجد عبد الأمير، على الحاج كاظم وعبد عداي. وشملت من العمال والكسبة كل من عجيل صبر واخيه ثامر صبر، حسين عليوي وأخيه حسن عليوي، هويدي الحاج عكار وأخيه نعمة الحاج عكار ومحمد دخين.

اخبرت السلطات الفلاحين بأن قرارإعادة الأرض للإقطاعي سيلغى شريطة أن تتم قسمة الحاصلات لتلك السنة فقط مع الإقطاعي. كانت خطة الإقطاعي والسلطات، هي دخول الإقطاعي وحوشيته الى المنطقة لكي يفتتوا بأساليبهم الخبيثة وحدة الفلاحين. كان وعي الفلاحين السياسي في ثلث الجزرة وشجاعتهم وحماسهم في الدفاع عن حقوقهم مثيرا للإعجاب. لقد أدركو المؤامرة المحاكة ضدهم فرفضوا التعامل مع الأقطاعي أو أي من حوشيته. وبعد مناقشة هذا الموضوع من جميع النواحي بيننا وبين الكوادرالفلاحية في المنطقة، تقرر الموافقة على تسليم حصة الإقطاعي من الحاصلات لتلك السنة الى جهة محايدة، يقبل بها الطرفان، على أن يلغى قرار إعادة الأرض للإقطاعي ويطلق سراح الفلاحين المعتقلين.

 أستمر الوضع متوترا في ربيع 1961، وكان لابد أن يحسم قبل قسمة الحاصلات في تموز. وكان هناك تعتيم إعلا مي، على الوضع الذي إستجد في المنطقة، من قبل الجميع. في آذار توجهت قوة من الشرطة الى المنطقة وأحرقت بيتين متطرفين ومهجورين، وتقدمت سيارات جيب مسلحة فتصدى لها الفلاحون، فأحرقواسيارة وإستولوا على البندقيتين اللتين تركهما الشرطة ورائهم عند فرارهم مع بقية قواتهم المهاجمة !!

لقد أسعدتنا هزيمة الشرطة، وفي نفس الوقت أقلقنا إتجاه تطور الأحداث، خاصة وإننا إستبعدنا خوض السلطة معركة دموية ضد الفلاحين لصالح إقطاعي مكروه. لقد كنت متوترا لشعوري بأني أتحمل المسؤولية الأولى إذا مانجمت عواقب وخيمة جراء إصطدام واسع بين السلطة والفلاحين.
 
بعد حرق سيارة الجيب ببضعة أيام شوهدت وحدة عسكرية من الجيش العراقي متجهة نحو المنطقة. شددنا على توجيه سابق بعدم البدء بإطلاق النار، ومحاولة كسب عواطف الجيش. تموضع الجنود وتموضع أمامهم الفلاحون. هذا آخر خبر وصلني قبل أن يصلني ، في اليوم التالي، خبر إنسحاب الجيش، بعد أن أكد الفلاحون للجيش، بما معناه، بأنهم غير عاصين على الحكومة بل على الإقطاعي. وإنهم مخلصين للزعيم عبد الكريم قاسم والجمهورية ومستعدين للتضحية بأرواحم من أجل الدفاع عنهما، و لكنهم غير مستعدين لإعادة الأرض للإقطاعي. وإن الجنود إخوتهم ويجب أن يقفوا الى جانبهم وإن لاتراق دماء الجانبين لصالح إقطاعي معادي للجمهورية والزعيم عبد الكريم قاسم... لقد تنفست الصعداء بخبر إنسحاب الجيش، بعد ليلة من القلق الشديد.

لقد جرت تفسيرات عديدة لأسباب إنسحاب الجيش، دون خوض معركة مع الفلاحين. فمنهم من عزى ذلك الى الضابط الذي كان يقود الوحدة العسكرية بإعتباره إنسانا واعيا. ومنهم من أشار الى التأثير الإيجابي لنداءات الفلاحين على الجنود. يمكن أن يكون لكل ذلك دورا إيجابيا مؤثرا. ولكن العامل الأساسي، في نظري، يكمن في الرؤية الطبقية الصحيحة للجنة المحلية، هذه الرؤية التي تتطلب، ضمن ما تتطلب، معرفة أين تكمن، بالضبط، مصالح الطبقات الأخرى. وقد كانت هذه الرؤية في صلب تقديرها الذي إستبعد، منذ البداية، خوض السلطة البرجوازية  لمعركة دموية ضد الفلاحين لصالح إقطاعي، يُعد واحد من أكبر إقطاعي العراق وأسوأهم سمعة. وموقف الحزب الوطني الديمقراطي ـ جناح كامل الجادري المساند للفلاحين والمذكور آنفا يؤكد ذلك ايضا.
 
بعد بضعة أيام بلغ الفلاحون بإلغاء قرار إعادة الأرض للإقطاعي؛ وطلب منهم إنهاء عصيانهم. فرفضوا ذلك قبل تلبية مطلبيهما الآخرين وهما إطلاق سراح المعتقلين وتحديد جهة غير الإقطاعي في قسمة الحاصلات. وكان هذا رأينا ايضا .

كانت الأمور على هذه الشاكلة عندما وصلني في مساء أحد الأيام  ستار مهدي معروف، سكرتير لجنة التوجيه الفلاحي المركزي ، من قبل قيادة الحزب، ليخبرني يضرورة إنهاء العصيان ،على إعتبار إن الهدف الأساسي من العصيان قد تحقق؛ وإن الهدفين الآخرين ثانويين. أما ماهو مصير الوحدة الفلاحية عند دخول الإقطاعي في المنطقة ؟ وما هو الضمان لعدم إستحصال قرار جديد بإستعادة الأرض بعد تفتيت وحدة الفلاحين ؟ ولماذا على الحركة الفلاحية التراجع وهي في ذروة إنتصارها ؟ ألا يعتبر الفلاحون بأننا خذلناهم في منتصف الطريق؟ نقاش ثنائي عقيم إستغرق ساعات دون نتيجة. وفلتت مني كلمة" يمينية " وصفا للموقف، إعتبرها ستار وصفا لسياسة الحزب، فنفيت ذلك وحصرت الوصف بالموقف من حركة فلاحي ثلث الجزرة!
 
ما كان أمامي سوى تنفيذ وجهة الحزب رغم تحفظاتي الجدية . في صباح اليوم التالي التقينا، ستار وانا، بالرفيق هلال سلمان، وأبلغته بموقف قيادة الحزب ،وطلبت منه عقد إجتماع سريع للجنة القيادية في المنطقة وشرح الموقف الجديد وتنفيذه. ولم ينطق ستار بكلمة واحدة إضافية. ذهب هلال ليعود في اليوم التالي ليخبرنا ، بأن القضية إنتهت بتلبية المطلبين الآخرين ايضا. وإن الأفراح والولائم قائمة على قدم وساق بهذه المناسبة، وقد التقى بالفلاحين المطلق سراحهم من التوقيف. وسمع ستار كل ذلك من فم هلال.

عاد ستار معروف الى بغداد. وفي أول بريد وصلنا، وكنت متوقعا تثمينا لجهودنا  وتقديراتنا الصحيحة، واذا برسالة تتضمن نقدا لموقفنا المتشدد، وإشادة بالتوجيهات المرنة التي حملها لنا المشرف  ستار معروف والتي أدت الى حل المشكلة ؟! لم أكن أتوقع مغالطة بهذا الحجم. اخذت الرسالة معي وسافرت في الحال الى بغداد. كانت إمكانية صلتي بقيادة الحزب يسيرة؛ فبيتنا في الكاظمية، كان بيتا حزبيا رئيسيا ﻟ (لتم). في اليوم التالي لوصولي التقيت بباقر إبراهيم وكان سكرتيرا ﻟ (لتم) وشرحت له القضية بالتفصيل. واخبرته بأن ما يؤلمني هو ليس فقط المغالطة، بل  إعتبار القضية مشكلة تبكي على حل ! وليس عملا ثوريا يجب أن يدخل تاريخ الحركة الفلاحية بإعتباره إنتفاضة مجيدة ظافرة تحققت بفضل وحدة الفلاحين ووعيهم الطبقي ووعي قيادتهم السياسية .

لم يعلق باقر على كلامي وقد أخذ الرسالة مني ووعدني بجواب قريب. بقيت في بيتنا.. لم يتأخر باقر علي. وقد أخبرني بأن قيادة الحزب تتفق مع مطالعتي، وسيشير الحزب في ادبياته للحركة كما وصفتها آنفا. بقيت أتابع ثلث الجزرة وعرفت بأنها كانت مأوى آمنا للشيوعيين في إنقلاب شباط الفاشي وبقيت المنطقة قاعدة للحزب وتدين بالولاء له. وبقيت أشعر بالإعتزاز متى ما ذكر إسم ثلث الجزرة لمساهمتي بجانب العديد من الكوادر في قيادة وتوجيه الحركة توجيها صحيحا أدى الى إنتصارها؛ بينها كوادر ميدانية سطعت كالنجوم ليس في  سماء ثلث الجزرة فحسب، بل في سماء كل الحي، ريفا ومدينة مثل: كاظم الخويلدي ولطيف مشكور، الملقب ـ دينار روسي!

لم يصل علمي صدور قرار مماثل ( إعادة إقطاعية كبيرة الى إقطاعي ) بعد نجاح فلاحي ثلث الجزرة على إلغاء القرار، لا في عهد قاسم ولا في العهود اللاحقة، وهنا تكمن الأهمية التاريخية لإنتفاضة فلاحي ثلث الجزرة الخالدة. والتي لم تنل مع الأسف الشديد، إهتمام المؤرخين.

يتبع[/b][/size][/font]

4
سنتان مختفيا في الكوت!
( 1 ــ 4 )

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
في النصف الثاني من عام 1959، رحلت من كربلاء الى لواء الحلة ( محافظة بابل ) وأنيطت بي مهمة سكرتارية لجنتها المحلية ( الهيئة القائدة لمنظمات اللواء ). وفي خريف العام المذكور، رحلت الى لواء الكوت (محافظة واسط) وأنيطت بي مهمة سكرتارية لجنتها المحلية ايضا حتى خريف 1961، أي لمدة سنتين. وكنت، كما هو الحال في الحلة، أعيش مختفيا في الكوت تحت إسم أبو أمين، وسط ظروف غير ملائمة، لكوني أعزب، وليس لدي معارف هناك، والمدينة صغيرة لا يوجد فيها ما يؤنس. أضف الى ذلك ان طبيعة علاقتي التنظيمية لم تكن مريحة، كما كان الحال في منطقة الفرات الأوسط.
عندما كنت مسؤولا في كربلاء أو في الحلة، كنت عضوا في لجنة منطقة الفرات الأوسط . كنا نجتمع في فترات متقاربة نسبيا، ويتاح لي من خلال الإجتماعات الإطلاع على تجارب المنظمات الأخرى والإستفادة من المناقشات السياسية والفكرية والمساهمة فيها بحدود إمكانياتي الفعلية. هذا فضلا عن متعة اللقاء بالرفاق وجلهم معارف وقدامى الاصدقاء. وكان لدي مرجع حزبي محدد وهو سكرتير المنطقة، وعادة ما يكون عضو لجنة مركزية، التقيه وأتشاور معه في المشاكل التي تواجه منظمتي ونشاطها. وبشكل عام كان العمل ممتعا، رغم منغصات بوادر ومظاهر إرتداد عبد الكريم قاسم التي كانت تثير القلق لدينا. 
وفي الحلة لم يكن إختفائي محكما ، فقد القي القبض علي في الشارع وارسلت الى كربلاء مخفورا، بعد قضاء ليلة واحدة في موقف الحلة، حيث إلتقيت الفقيد معن جواد لأول مرة، وكان موقوفا بتهمة ملفقة. وفي كربلاء اطلق سراحي بكفالة عادية فورا، وعدت الى الحلة لأختفي بشكل أفضل في هذه المرة.
أما في الكوت ، ففد كانت علاقتي غير مباشرة مع لجنة التنظيم المركزي( لتم) وهي لجنة إختصاص ليس لديها صلاحيات تنفيذية مرتبطة بالمكتب السياسي. وخلال مدة وجودي التي طالت سنتين في الكوت لم يكن لدي مسؤول حزبي محدد وهو وضع، إن وجد في الحزب، فهو شاذ بحكم بناء الحزب الهرمي. وجرت محاولات عديدة لتشكيل لجنة المنطقة الوسطى ، قبل وبعد وجودي في الكوت، من محافظات ديالى والرمادي (الأنبار) والكوت ولجنة أطراف بغداد، ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل في ظروف العمل السري. وكانت إحدى تلك المحاولات  بعد سحبي من الكوت في نهاية 1961، حيث جرى تشكيل لجنة المنطقة الوسطى وكنت سكرتيرها. وأحد أسباب الفشل، هو إن مقر قيادة المنطقة الوسطى لايمكن أن يقام إلا في بغداد لسهولة إتصال المحافظات بها. في حين إن وجودها في بغداد يجعلها معلقة في الهواء. فليس للقيادة أية منظمة في مقرعملها تعينها على أن تتنفس مناخ حياة الحزب اليومية ؛ وتساعدها على إنشاء جهاز للمراسلة ، وما يتطلبه ذلك من مراسلين وعناوين وبيوت حزبية، و كذلك جهاز، ولو متواضع ، للطباعة و... الخ.
كانت لجنة محلية الكوت تتكون، عند إستلامي لها، من الرفاق إبراهيم عبد الكريم ورشيد طاهر وغازي صلال وجبار عبود وعباس الطبطبائي ، جميعهم معلمين ماعدا الرفيق الأخير. كان سكرتير المحلية بعد الثورة مباشرة حسين سلطان عضو اللجنة المركزية ، وبعد حسين سلطان تولى المهمة الشهيد أحمد محمود الحلاق وهو رفيق كوردي، لم يتمكن من العودة للكوت، على الأرجح لتعرضه للإعتقال، فكلف بتولى المهمة مؤقتا الفقيد جبار عبود ، وهو شيوعي قديم ، سبق وأن عمل في " رابطة الشيوعيين العراقيين" وهي منظمة منشقة عن الحزب تأسست عام 1944،  وكانت برئاسة داود الصايغ . كان مستواه السياسي والفكري جيدين الا إن إمكانياته التنظيمية ضعيفة ومزاجه حاد يخدش هذا ويجرح ذاك مستندا في ذلك على عكازة الصراحة. كان لديه شعور عميق بالغبن ، وجاء إستلامي لمسؤولية المنظمة ، بدلا عنه ، إستفزازا له. فأخذ يماحكني . و المماحكات غير مرغوب بها، وحتى إنها غير جائزة، إن لم تكن عابرة،  في العمل الحزبي ، لأنها تعرقل العمل . ولكن لايمكن تجنبها أحيانا، فعند ذاك يجب أن يستعد المرء لذلك ، فيحافظ على يقظته، ويضع حدا لها في أول فرصة ملائمة.
في إحدى المرات تجاوز جبار عبود حدوده . وقال في الإجتماع : " هذا...[ مادا يده بإتجاهي ، كأني لا أحمل إسما ولا لقبا  ] يقول..." قررت إستثمار الفرصة لوضع حد لمماحكاته. فسجلت في المحضر ما معناه: " ان الرفيق جبار لم يكتف بمماحكاته منذ إستلامي المسؤولية منه ( وأوردت أمثلة على ذلك ) فتعدى ذلك في إجتماع اليوم الى محاولة إستصغاري والتقليل من شأني " و إقترحت على الإجتماع توجيه عقوبة  التوبيخ بحقه . كان الطلب مفاجئا، ووقع وقع القنبلة في الإجتماع. وكان موقف أعضاء اللجنة محرجا. أما جبار فصرح بإنه لم يكن يقصد ما ذهبت اليه . فترجى الرفاق سحب مقترحي، فرفضت ذلك، وأكدت حقهم بتثبيت آرائهم في المحضر. ولم أسحب مقترحي إلا  بعد أن إعتذر جبار عبود عن تصرفه ، ولم يعد لمماحكاته لاحقا.
لم يجر ولا إشراف واحد من المركز على لجنة محلية الكوت خلال السنتين. وحصل  إشرافين من قيل لجنة التوجيه الفلاحي بمناسبتين سأتي على ذكرهما. والإشراف الوحيد الذي جرى على المنظمة تم من قبل الشهيد صبيح سباهي وعصام القاضي وكان على منظمات تابعة للمحلية. فقد وصلا في أحد الأيام بشكل مفاجىء! لقد جلبتهما الى البيت الذي أقيم فيه. وبعد أن دخلا غرفتي، لا أعرف لماذا جلبت إنتباههما رواية ديستوفسكي "الأخوة الأعداء" على مكتبي. وقد تبادلنا التعليقات حول الكتاب والكاتب.
كان لديهما يوم واحد، وكانت هناك العديد من الإجتماعات لهيئات حزبية مختلفة في ذلك اليوم، لأنه يوم جمعة. حضرا معي إجتماعين كان لدي موعد إشراف مسبق معهما، أحدهما للجنة مدينة الكوت، وكان مكرسا للتثقيف بتقرير للجنة المركزية، والثاني إجتماع عادي للجنة النشاط المهني والديمقراطي. عند مغادرتهما أخبراني بأن إنطباعهما جيد عن وضع المنظمة ، فهناك حركة ونشاط وحماس... ولمحا لي بأن إسلوب تثقيفي بتقرير اللجنة المركزية كان سرديا. وكانت ملاحظتهما صحيحة. وحاولت الإستفادة منها لاحقا.
نظرا للطابع الفلاحي لمحافظة الكوت كنت أدعى لحضورالكونفرنسات الفلاحية التي تعقد لعموم القطر، وكانت تنظم من قبل لجنة التوجيه الفلاحي المركزي سنويا، وكان سكرتيرها الشهيد ستار مهدي معروف العضو المرشح للجنة المركزية. وقد حضرت إجتماعين، وحضر الفقيد زكي خيري، كمشرف، كلا الأجتماعين. في الإجتماع الأول والذي عقد في ربيع 1960، طرح التقرير المعروض للمناقشة مشكلة الجمعيات الفلاحية غير المجازة ، وخلاصة هذه المشكلة هي:
شجع عبد الكريم قاسم، قي سياق محاولته لعزل الحزب الشيوعي عن الجماهير الفلاحية ، عراك الزكم، نائب رئيس الإتحاد العام للجمعيات الفلاحية ( وطني ديمقراطي ) على تشكيل هيئة مؤسسة، غير قانونية، منافسة للإتحاد العام للجمعيات الفلاحية الذي كان برئاسة الكادر الشيوعي كاظم فرهود، أخذت هذه الهيئة تمنح الإجازات للجمعيات الفلاحية متجاوزة بذلك على صلاحية الإتحاد العام المنصوصة في قانونه المجاز من السلطات. ولأن الخطة المذكورة لم تحقق النجاح المطلوب، ولم يهرع الفلاحون ولا جمعياتهم وراء عراك الزكم، أصدر قاسم القانون رقم 139 لسنة 1959، والذي يعطي حق إجازة الجمعيات الى أجهزة الإدارة الحكومية المحلية، التي قلما كانت نزيهة، لاغيا بذلك صلاحية الإتحاد العام الذي لم يكن قد مرعلى صدور قانونه أربعة أشهر! وطالب القانون الجديد حتى الجمعيات المجازة سابقا بإستحصال إجازاتها من جديد من الأجهزة الحكومية. وقد رفضت هذه الأجهزة إجازة أكثر من ثلاثة آلاف جمعية، بأعذار مختلفة [1]، بعضها مثير للسخرية. وأتذكر كيف علق الكاتب الشيوعي الساخر الشهيد عبد الجبار وهبي ــ أبو سعيد في عموده الشهير في صحيفة "إتحاد الشعب" تعليقا ساخرا ولاذعا على رفض إجازة جمعية فلاحية، لأن الطابع الملصق على عريضة الطلب كان منحرفا !!
تقرير لجنة التوجيه الفلاحي كان يؤكد على الإلتزام بقانون الحكومة الجديد، ولا يطرح حلا لمشكلة آلاف الجمعيات غير المجازة. طرحت في الإجتماع رأيا مفاده: الإبقاء على الجمعيات غير المجازة ومواصلة مايمكنها من نشاطات وذلك للحفاظ على عشرات الألوف من الفلاحين المنتظمين فيها. ويمكن أن يكون مبرر بقاءها " قانونيا "، هو إنها بصدد إستكمال متطلبات إجازتها. لم يرتح للمقترح سكرتير لجنة التوجيه الفلاحي والذي كان يدير الجلسة، ولم يطرح المقترح للمناقشة والتصويت. وعندما عمم المكتب السياسي خلاصة بمحضر الكونفرنس وتوصياته، أفرد مربعا ثبت فيه رأيي بإسمي الحزبي ناهض، وكان لذلك الرأي أهميته في الحفاظ على آلوف الجمعيات الفلاحية.
يتبع
 ________________________________________
 [1] ـ للمزيد، راجع حنا بطاطو، الجزء الثالث، ص 261. وكذلك عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، الجزء الثاني ص 319.
[/size] [/font]

5
ذكريات

الهروب من معتقل خلف السدة
(1 ــ 3 )

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
عندما قلت لزوجتي ماجدة وبثقة تامة " لاتقلقي إنني سأهرب لو القي القبض علي"، كان بودي أن لا يتسرب اليأس الي قلبها ولكي تبقى ، في حال إعتقالي ، بمعنوية عالية ، و تنتظر عودتي اليها في أية لحظة . وماذا لو طال أمد إعتقالي؟ وهل من الصحيح وهي شابة دون العشرين أن تبقى تنتظر ، ربما ، لسنوات طويلة؟ أليس في ذلك أنانية في موقفي ؟ لم تخطر ببالي تلك الأسئلة آنئذ . وعندما خطرت ببالي لاحقا ، أرضيت ضميري ، معللا الأنانية بحبي لزوجتي ، والحب لايخلو من الأنانية .

في خريف 1964، وعندما كنت سكرتيرا مؤقتا للجنة التنظيم المركزي للحزب الشيوعي العراقي ، إلتحق بأجهزتها الشهيد جواد عطية منتقلا ، مع اختيه ، من مدينة النجف الى بغداد ، وهي مكان إقامتهم ، قبل إنتقالهم الى النجف للإختفاء فيها على أثر إنقلاب شباط الفاشي . كانت ماجدة ، تلي جوادا في تسلسل اخوته، تنشط  كمراسلة بين منظمة النجف وقيادة منطقة الفرات الأوسط التي أقامت في الريف بعد إنقلاب شباط ، ولاحقا ، بين الأخيرة والمركز الحزبي في بغداد . كل ذلك وهي لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها! تعرفت عليها وطلبت يدها من أبيها وأخيها وبعد موافقتهما عقد قراننا في بيت جابر الحكيم (أبو عادل) في بغداد ـ كرادة خارج ، بحضورعائلتي أبو عادل وباقر إبراهيم ومرجعي الحزبي صالح الرازقي ، وبحضور السيد الذي قام بمراسم عقد القران ، وفقا لسنة الله ورسوله . ذكرت هذه التفاصيل ، متعمدا، ردا على الدعايات والتخرصات المعادية للشيوعيين والتي تدعي ، زورا ، إستهتارالشيوعيين بالعادات والقيم الإجتماعية. الملاحظة الوحيدة التي سمعتها من السيد هي إن لبس خاتم (حلقة) الذهب حرام ، فخلعت الخاتم ووضعته في جيبي . وبعد خروج السيد لبست الخاتم ثانية ، لقناعتي بأنه غير مخالف للقيم الإجتماعية . وتزوجنا بإقامة حفل بسيط لم يتعد الضيوف فيه أصابع اليد الواحدة ، ولم يكلف زواجنا الحزب أكثر من مئة دينار.. وعندما أعتقلت كان عمر إبنتنا البكر شروق شهرا واحدا.

في مساء 21 تشرين الأول 1965 عندما كنت قادما من مدينة الثورة متوجها الى بيتنا في الكرادة ـ  خارج، مستخدما سيارة أجرة (فورد) تسع 14 راكبا، كان علي تبديلها باخرى من نفس النوع في ساحة التحرير. وقد قمت بذلك فعلا وكنت الراكب ما قبل الأخير في السيارة، اما الأخير فصعد مسرعا وهو يلهث وجلس في المقعد الفارغ الوحيد أمامي مرتبكا. شككت في أمره، وفكرت بأن أرشيه وكنت قد إستلمت للتو مالية منظمة مدينة الثورة. تحركت السيارة، وما أن وصلنا الى مكان هو الأقرب الى مديرية الأمن العامة، حتى طلب الراكب الأخير من السائق التوقف وطلب مني الترجل قائلا:

 ـ تفضل أخي إنزل وياي. ترجلت وسألت:
ـ شتريد مني؟ تعرفني؟
ـ إمشي وياي للأمن.
ـ شراح إتحصل لو وديتني للأمن؟ أنطيك 50 دينار واتركني لحال سبيلي.
ـ تريد ترشيني إمشي إمشي وياي. ( بصوت عال)   

كنت اجرجر نفسي واجرجره معي الى منعطف قريب لكي أحاول الهرب ، فعرف قصدي فسحب مسدسه وأطلق إطلاقة واحدة في الهواء، فتجمع الناس وبينهم أفراد أمن راحوا يدفعونني ويحثونني للذهاب معه، وأنا أصيح محتجا على إعتقالي مسببا ضجيجا بودي أن يصل الى أوسع دائرة، لعله يصل الى الحزب. كان معي بعض الورقيات من لجنة منظمة الثورة رميتها بعيدا عني، عندما يأست من الهرب. أغلق أفراد الأمن فمي ووضعوا الأصفاد  في يدي. وبعد دقائق معدودة أصبحت وجها لوجه أمام مدير الشعبة الثالثة الخاصة بالشيوعيين، والذي عرفت إسمه لاحقا محمد صالح، والورقيات التي "تخلصت" منها أمامه على المكتب.

 كانت العلاقة بين الحزب وسلطة عبد السلام عارف عدائية. ففي نيسان من نفس العام كنا قد رفعنا شعارأ يدعو لإسقاط السلطة ، بإعتبارها سلطة عسكرية ودكتاتورية ورجعية. وذلك في إجتماع للجنة المركزية، حضره كل من سلام الناصري وعامر عبد الله وآرا خاجادور وحميد الدجيلي وناصر عبود وتوفيق أحمد وصالح دكلة وحسين سلطان وبهاء الدين نوري وأنا ، أقر رفع الشعار بالأغلبية ، وقد تحفظ على ذلك بهاء الدين نوري الذي طالب بالإكتفاء بطرح البديل ، وهو إقامة حكومة إئتلاف وطني ديمقراطي .

قبل خمسة أشهر من القاء القبض علي ، وجهت للحزب ضربة قوية بكبس المطبعة الرئيسية وإلقاء القبض على سليم إسماعيل والعاملين معه في الجهاز، ومن ثم القي القبض على عضو اللجنة المركزية صالح الرازقي ، الذي إنهار في التحقيق وأرشد على بيت توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية ، حيث القي القبض عليه . ونصب الأمن كمينا في البيت إنتبه اليه عضو اللجنة المركزية الشهيد حميد الدجيلي ، فهرب محاولا الفرار فقتلوه رميا بالرصاص . لم تؤثر تلك الضربة على منظمات الحزب وخاصة منظمة بغداد التي اعيد بناؤها ، وكنت سكرتير لجنتها القيادية ، عند إلقاء القبض على صالح الرازقي. وأصبحت عضو مكتبها عندما نسب سلام الناصري، عضو المكتب السياسي ، سكرتيرا لها . 

أصعب إمتحان في حياتي

عندما أصبحت في المكتب وجها لوجه أمام مدير الشعبة محمد صالح كان عدد من جلاوزة الأمن يحيطون بي ويشيعون جوا إرهابيا . بعد أن فتشوني تفتيشا دقيقا ، وجدوا عندي حوالي 60 دينار ، ولم يجدوا عندي أي مستمسك ، قال محمد صالح:

ـ إسمع جاسم إحنا نعرف كل شي عنك . انت عضو لجنة مركزية وسكرتير لجنة منطقة بغداد . أحسن لك إتصير عاقل وتعترف من هسَ (الآن) قبل ما يروح جلدك للدباغ ، أو تالي هم تعترف ، لأن أحنا ما ممكن إنجوزمنك .

لم أشك بأن الإمتحان الذي سأمر به سيكون مختلفا عن كل الإمتحانات  التي مررت بها ، سابقا ، أمام الجلادين . فأنا صيد دسم بالنسبة لهم . فمفاتيح أكبر وأهم منظمة للحزب عندي . والطريق الوحيد لإجتياز هذا الإمتحان الأصعب في حياتي هو أن يقتنع مسؤولي الأمن بأني صلب وغير قابل للإنكسار. قررت إتباع نفس الإسلوب الذي إعتدته أمام الجلاوزة ، الإجابة على قدر السؤال ، عدم إستفزاز الجلادين بدون مبرر، عدم إظهار أية نقطة ضعف بما في ذلك " أن لا أدعهم يرون الخوف في عيني". أجبت على سؤال محمد صالح:

ـ ما عندي شيء أعترف عليه .
ـ وين إتقيم ؟
ـ في غرفة عند عائلة متعهد ما أسبب إلها  إزعاج .

ما ان أنهيت كلامي ، حتى إنهال علي الجلاوزة شتما وضربا بالأيدي و ركلا بالأرجل ، مطالبين أن أدلهم على مكان إقامتي . عندما توقف الجلادون السفلة عن الضرب والشتم ، سأل محمد صالح: تعترف لولا ؟

ـ ما عندي شيء أعترف عليه .
ـ أخذوه خلي يشوف نجوم الضحى .

أخذني  شرطي ، رئيس عرفاء ، ماسكا معصمي بقوة ومعه حوالي خمسة جلاوزة آخرين . أدخلوني ممرا طويلا وواسعا نسبيا إنعطفنا فيه مرة أو مرتين الى اليمين وإنتهى بفسحة صغيرة . دفعوني اليها وبيدهم هراوات وصوندات خاصة للتعذيب .
 
قبل إنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 كانت لدينا بعض التقاليد عند تعرض المناضل للتعذيب نعتبرها حميدة، على سبيل المثال لا الحصر عدم التفوه بكلمة (آخ).  بعد الأنقلاب لم تعد تلك الإعتبارات ذات قيمة تذكر . المهم عدم التفوه بأسرار الحزب أو ما يسيء اليه .
 
لذلك ما أن نزلت الهراوات على جسمي النحيل حتى بدأت بالصراخ ، صراخ قوي وصل الى آذان فؤاد الركابي وزميله أحمد الحبوبي ( وكانا معتقلين في دائرة الأمن العامة آنئذ )، رغم إنني لم ألحظ أي منفذ في القبو! وقد أوصلا الخبر للحزب . كان الصراخ وسيلتي للدفاع عن نفسي ويخفف الآلام عني ويزودني بطاقة للمقاومة. وعندما إشتد الألم وأصبح هائلا حاولت أن أمسك إحدى الهراوات لادافع بها عن نفسي . وفعلا أفلحت أخيرا أن أمسك بقبضتي على إحدى الهراوات فقرفصت نفسي عليها بكل قوة محاولا إنتزاعها ، بدون جدوى . ولم ينتزعوها مني الا بعد إنهيارمقاومتي ووقوعي هامدا لنفاد طاقتي ، ولكن لم أفقد وعيي . توقف الضرب ، وقبل أن يتوقف لم أكن أحس بألم الضربات لتخدّر جسمي . كنت قد سمعت بنظرية ، إن الجسم يتخدر بالتعذيب وبعدها لايشعر المرء بألألم ، ولم أصدقها إلا بعد هذه التجربة!!               

أوقفوني ، وتأبطني أحدهم ليساعدني في السير. وفي الطريق قال لي رئيس العرفاء  "إحمد ربك ما وكعت بيد عقائديين"  يقصد بيد البعثيين . وضعوني ، مدميا ، في غرفة لوحدي . وبعد فترة قذفوا علي كمية من القطن. وعندما كنت مشغولا بتنظيف جروحي ، وإذا بشرطي يدخل صالح الرازقي الى الغرفة ويغلق الباب خلفه . تظاهرت بأني لا أعرف بإنهياره ،  في الوقت الذي ساورتني الشكوك بأن يكون هو الذي ساعد الأمن لإلقاء القبض علي . وقد تأكد لنا لاحقا، بأنه كان يخرج يوميا مختبئا في سيارة الأمن ويترصد الكوادر في ساحة التحرير . قال لي صالح الرازقي أسوء مايمكن أن يقال لي وأنا في تلك الحالة :

ـ ما راح يجوزون منك .
ـ أدري .

في صباح اليوم التالي أخذوني للتحقيق ثانية . المكان مكتب معاون المدير . الأجواء نفس الاجواء الإرهابية، عدد من الجلاوزة واقفين على أهبة الإستعداد للإنقضاض علي . والمحقق معاون المدير .

 ـ إنت عضو بالحزب الشيوعي العراقي ؟
 ـ نعم
ـ إحجي لنا شنو مسؤولياتك ؟ شنو تنظيماتك ؟ منو يشتغل وياك ؟ إذا حجيت وتعاونت بالتحقيق ، أحنا نساعدك . والعناد ما يفيدك ، تأذي روحك بالبلاش . صير خوش ولد وإحجي .
ـ آني عضو بالحزب ومن واجبات العضو الحزبي أن يصون أسرار الحزب . والمعلومات اللي تريدها أسرار حزبية .
ـ شوف.. شوف كام يتفلسف براسنا إبن ... يبين بعده معاند . اخذوه خلي يشوف عناده وين يوصله . 

يتبع
------------------------------------------                                           
الهروب من معتقل خلف السدة
(2 ــ 3 )
[/b]

 


جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
أخذوني تحت درج ، وثقوا يدي من الخلف بحبل وراحوا يسحبون الحبل الى الأعلى تدريجيا ، وطوال الوقت يطلبون بإلحاح أن أعترف (إعترف أحسن لك) إنطوت يداي الى الخلف وراح كتفي يؤلماني . وإشتد الألم عندما إرتفعت قدماي عن الأرض. مع مرور بعض الوقت دخلت في حالة نفسية صعبة جدا، بعد أن ترك الجميع المكان وحل فيه سكون تام .  كنت مستعدا أن أعطي أي شيء أملكه حتى لو كان الف قصرا! أو مئة مليار دولار! لكي تلامس قدمي أي شيء صلب. كنت أرمي بجسمي الى الأمام عسى أن تلامس للحظة الجدار الذي أمامي ، ولكن دون جدوى، فقد كان الجدار أبعد من أن تلامسه قدماي. وعندما إقترب مني أحد أفراد الأمن، ( نفس الشخص الذي القى القبض علي ) محاولا أن يكويني بسيكارته، ربما ليتأكد من إني لم أمت بعد، تلقفته برجلي مشبكا إياها عليه بكل قوة . كنت مستعدا أن أخرج روحه من جسده ، على أن لا أرجع للوضع السابق . إستنجد بالجلاوزة ، فساعدوه وأنقذوه مني ، وإبتعدوا مرة أخرى. في ذلك السكون كنت مستعدا ان أموت فعلا، بدلا من الوضع الذي كنت فيه، فأية آلام عاناها الشيوعيون الذين إستشهدوا تحت تعذيب أقسى على يد البعثيين الفاشست؟ قفز هذا السؤال الى ذهني ، ومرت في خاطري وجوه الشهداء الذين سبق وأن إلتقيت بهم وتعرضوا للتعذيب حتى الموت ـ  سلام عادل ومحمد حسين ابو العيس وجمال الحيدري وحسن عوينة ونافع يونس، ومحمد موسى وعبد الأله الرماحي ، وقد ساعدني ذلك على الصمود .
عندما كنت معلقا لخص الجلاوزة مطلبهم بان أرشدهم الى مكان مواعيدي الحزبية، لكي ينزلونني الى الأرض. عندما لم يحصلوا على نتيجة ، طلبوا إسمي الحزبي فقط ، لم ألب طلبهم ، رغم أنني أعرف بأن ذلك لم يعد سرا، بعد إعترافات صالح الرازقي ، لأنني كنت أعرف بأنهم سيحاولون إستدراجي . قد يعتبر البعض بأن موقفي متزمتا أولا ينم عن ذكاء. ولكن التجارب تشير، كما ذكرت ذلك في هامش إحدى مقالاتي ، بأن العلاقة بين الأجهزة القمعية والقوى التي تتعرض للقمع لم تكن ولايمكن أن تكون لعبة ذكاء وغباء كما يظن بعض مدعي الذكاء. إنها صراع بين قوة غاشمة بإمكانيات غيرمحدودة تريد أن تجبر المرء على المساومة، بأي شكل من الأشكال، وحدها الأدنى إخراج المناضل من حلبة النضال أو كسر شوكته من جهة، وإرادة إنسان حريص على مصائر رفاقه ويأبى المساومة على أسرار حزبه ومعتقداته وقضية شعبه وكرامته وعلى حريته كإنسان ، من جهة أخرى .
في اللحظة الأخيرة من تعليقي تحت الدرج ، إقترب مني أحد أفراد الأمن وقال لي "إسمك ناهض مو؟ " في تلك اللحظة لم أكن قادرا على لفظ أية كلمة ، مستسلما لقدري أعاني ، بلا مبالغة ، من سكرات الموت . وإذا بالذي تلفظ إسمي الحزبي يصرخ "إعترف.. إعترف يكول إسمي ناهض". عندما أنزلوني شعرت للحظات بأني بدون أيدي ، فقد كان القسم العلوي من بدني مخدرا. أخذت أتلفت يمينا وشمالاٌ قبل أن يدير الجلاوزة يداي المخدرتين ليعيداهما الى محلهما.

توقفوا عن تعذيبي وزجو بي في موقف مديرية الأمن العامة التي تحوي مجموعة زنازين، تفتح أبوابها نهارا وتغلق ليلا. كان الشيوعيون يحتلون جهته اليمنى والبعثيون جهته اليسرى. التقيت هناك بعمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأحمد الستجري وجورج يعقوب . كان الجو العام أفضل بكثير من سجن بعقوبة الإنفرادي في العهد الملكي . فهنا تدخل الصحف والمجلات بما في ذلك المجلات المصرية كالكاتب والطليعة ويسمحون بالأوراق والأقلام  ولدينا شطرنج وطاولي. وكان إحتكاكنا بالبعثيين محدودا.
بعد حوالي إسبوع إستدعوني لتسجيل إفادتي . وإستغربت في البداية أن يجري ذلك يوم الجمعة ، ولكن ظهر إن ذلك طبيعي في هذه الدائرة . كان المحقق ملازم حازم وحده . إستقبلني بشيء من الإحترام وقدم لي قهوة وسيكارة، وشرع يكتب بيده إفادتي . أنكرت المبرزات التي "تخلصت" منها عندما القي القبض علي . أنكرت سبع رسائل بإسمي الحزبي ، وأنكرت إسمي الحزبي معها . واجهني المحقق بمقتطفات من إفادة صالح الرازقي وكانت في ملف أمامه. كذبت إدعاءات الرازقي، وطلبت مواجهتنا. كنت أتمنى أن يتم ذلك ، لكي أأنبه على خيانته للحزب . أكدت مجددا بأن واجبي كعضو في الحزب هو أن أصون أسرار الحزب، ردا على بعض الأسئلة . أخيرا قال لي المحقق:
ـ إشلون أقدم مثل هالإفادة للحاكم؟
ـ بسيطة ، قدمني وي الإفادة لحاكم التحقيق .
لقد أغراني السلوك المؤدب والإيجابي للمحقق وخلو الدائرة بسبب العطلة وثقتي بالنفس بعد إجتياز الإمتحان الصعب في اليومين الأولين من إعتقالي ، الى محاولة  كسب المحقق للتعاون معنا!؟. وقد قطعت شوطا معينا في التمهيد لذلك . وردا على رأيه بأن الحكومة قوية والحركة ضعيفة قلت له: " تصور إن جلستي هذه مع أحد مسؤولي هذه الدائرة في يوم 13 تموز 1958، فهل كان يقول غير الذي تقوله أنت الآن ؟ ولكن يوم 14 تموز برهن إن الحكومة ضعيفة والحركة قوية. وبعد أن عرف نواياي ، عندما قلت له من الممكن أن يقدم أي إنسان ، من موقعه ، خدمة للحركة ، إخشوشن وذكرني بأني في جلسة تحقيق ، وطلب مني عدم التدخين! ومن ثم أنهى اللقاء ، بعد أن طلب مني أن أوقع إفادتي . قرأت الإفادة ووقعتها . 
كان كبس مطبعة الحزب الرئيسية في صيف 1965، وإلقاء القبض على الكوادر العاملة في هذا الجهاز وإنهيار صالح الرازقي وكبس بيت توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية ، والذي كان مركز عمل لجنة التنظيم المركزي( لتم )، وإلقاء القبض على توفيق وإغتيال حميد الدجيلي عضو اللجنة المركزية ، بمثابة أقوى ضربة للحزب بعد إعادة بنائه. فجاء موقفي الجيد في التحقيق، حيث لم تمس لا تنظيمات بغداد ، ولا ما أعرفه من أسرار أخرى بأي سوء بعد إعتقالي ، بلسما شافيا للحزب. لذلك أشاد الحزب بموقفي في نشرته الداخلية المعروفة "مناضل الحزب" مبرزا قولي في التحقيق: " إن واجبي كعضو في الحزب، هو صيانة أسرار الحزب."
كان توفيق أحمد متحمسا للهروب حتى أكثر مني ، فبين فترة وأخرى كان يعرض علي مشروعا للهرب من مديرية الأمن العامة!؟ ورغم خيالية مشروعاته فقد كنت أستمع إليه وأناقشه بجدية وأأمل بإيجاد مشروع واقعي فيه نسبة معقولة من النجاح. وعندما سجل الحارس أسماء من يرومون مراجعة العيادة ، سجلت إسمي ، بإقتراح من توفيق في القائمة ، لمعالجة بعض أصابع يدي التي كانت شبه مشلولة من التعليق تحت االدرج . وايضا ، عسى أن تتوفر لي فرصة للهرب ، ولكن المسؤولين رفضوا خروجي للعيادة وأبلغوني بأن ذلك ممنوعا علي ، بدعوى إني خطر، في حين سمحوا للآخرين.
عندما كنا في هذا الموقف وضعوا معنا شابين صغيربن من مدينة الثورة وهما نعيم الناشيء ولطفي حاتم ( أبو هندرين) من منظمات حزبنا في مدينة الثورة. وكان موقفهما جيدا في التحقيق. لم يكن لطفي يتجاوز السادسة عشر من عمره. وعندما هددوه في التحقيق بالإعتداء الجنسي عليه ، رد عليهم ردا واعيا وفريدا من نوعه، فلم يكرروا تهديدهم ذاك مرة أخرى! وكان لطفي موضع ثقتنا . وعندما نقلوه الى معتقل خلف السدة ، وضعوه في قاووش آخر، كنت أزوده ، سراً ، بأدبيات الحزب وبعض المساعدة المالية .
كان لدينا في الموقف راديو صغير سري، نسمع منه الأخبارمساء، عندما تغلق أبواب الزنزانات علينا، ونعممها على الاخرين صباحا. ومن الذين كنا نزودهم بهذه الأخبار شاب بعثي إسمه وهاب من الناصرية. كان موقفه جيدا في التحقيق، خلافا للآخرين من حزبه الذين كانوا يبررون مواقفهم الضعيفة ، كأمر طبيعي ، بشدة التعذيب. وتحول إعجاب وهاب بمواقفنا الصلبة في التحقيق الى صداقة وثقة متبادلة الى حد ما .
كان يسألنا من أين نحصل على الأخبار، كنا نعطيه إجابات مبهمة . في إحدى المرات قلنا له: " بأن مصدر أخبارنا رئيس العرفاء صيوان وإن غدا دورك للحصول على الأخبار منه وتزويدنا بها . وما عليك سوى إخباره بأن توفيق أحمد أرسلك اليه . وكان صيوان حارسا علينا وهو فض الطباع . وقد ذهب وهاب الى صيوان في اليوم التالي . فما أن سمع صيوان طلب وهاب ، حتى أعطاه دفعة قوية ليبعده عنه . وعندما عاد الينا بررنا موقف صيوان بعدم ثقته بالبعثيين! أعدم وهاب ضمن مجموعة من قبل قيادة حزب البعث ، على الأرجح ، في عام 1974، ولم أتمكن من معرفة الأسباب ، ولكن الذي أعرفه بأنه كان إنسانا نظيفا. 
بعد فترة وجيزة نقلنا جميعا الى معتقل خلف السدة. وكان مدير المعتقل العقيد إبراهيم السلامي . كان هذا المعتقل معسكرا للجيش بالأساس، وهو غير محاط بالأسوار، بل بالأسلاك الشائكة. وعندما كنا نتجول في الساحة، في الأوقات المسموح بها لنا، كنا نشاهد حركة المرور في الشارع الرئيسي ، عندذاك تمر لحظات على المرء ينسى فيها كونه معتقلا، تماما كما هوالحال عند إستغراق المرء في لعبة الشطرنج في المعتقل. وكان المعتقل يحوي العديد من القواويش ( القاعات) الكبيرة الذي يتسع الواحد منه لحوالي 60 شخصا. وفيه حانوت صغير ومكتبة أيضا.
حراسة المعتقل تتم من قبل شرطة القوة السيارة ( شرطة عسكرية) وهي غير ثابتة، فسرية الحراسة تتبدل كل ثلاثة أشهر. وخلال التبديل ، الذي يستمر وقتا لا بأس به، يختلط الحابل بالنابل، لعدم معرفة أفراد السرية الجديدة بالسرية القديمة. فحينذاك يتمكن أي معتقل مرتديا ملابس الشرطة أن يحمل (يطغ) بضع بطانيات ملفوفة على كتفه ويخرج من المعتقل بدون سؤال وجواب. تقررهروب أربعة وهم كل من عمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأنا بملابس الشرطة. في أول مواجهة لزوجتي مع إبنتنا الصغيرة شروق جلبت لي فراش (دوشك) فيه بدلتين كاملتين من ملابس الشرطة ، ودخل (دوشك) مماثل في نفس المواجهة .
وقام بإخفاء ملابس الشرطة في الدوشكين، بعد إستلامها من أحد الرفاق ، أخي حميد ، الذي كان يعمل ندافا آنئذ. توفرت لدينا أربع بدلات شرطة، ولكن بعد فوات الآوان. فتنفيذ الخطة بات مستحيلا، فقد هرب عبد الحسين مندور، وهو من جماعة سليم الفخري، بنفس خطتنا، من أحد القواويش؛ فإتخذت إدارة المعتقل جملة من الإجراءات، أدت الى إنعدام أية إمكانية لإستخدام الخطة المذكورة مرة أخرى.
كانت هناك خطة أخرى إستبعدناها لأنها لاتتسع لأكثر من شخصين. وعندما وصلنا خبر يفيد بأن السلطات تنوي نقلنا الى سجن نقرة السلمان الصحراوي، قررت اللجنة الحزبية، وكانت تتكون من عمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأحمد الحلاق وحسين علوان وأنا، وضع الخطة موضع التنفيذ. وتقرر تهريب اثنين وهما عمر علي الشيخ وأنا.
كانت الخطة تقتضي التنفيذ في أحد أيام المواجهة وذلك بالخروج من أحد الشبابيك. وإجراء بعض التغيير على مظهرنا والإختلاط بالمواجهين الذين يتجمعون عادة، بعد إنتهاء المواجهة، لفترة قصيرة، خارج القاعات وراء الشبابيك ، ريثما يجري تعداد المعتقلين في جميع القاعات.
ولكي يأخذ الحرس وطاقم إدارة السجن مواقعهم في نقاط التفتيش العديدة، التي يمر بها المواجهون عند خروجهم، مادين أيديهم ليظهروا أثر الأختام عليها. وكانت أخطر هذه النقاط ، هي النقطة الأولى ، حيث يقف طاقم الإدارة بما فيهم المدير والضباط والمراتب والعديد من الحراس، وبينهم بالتأكيد بعض عناصر الإستخبارات العسكرية، في صفين متقابلين ويركزون على الوجوه، فيما تركز النقاط الأخرى على رؤية الختمين اللذين يختم بهما المواجهون عند دخولهم المعتقل، والختمان أحدهما بيضاوي على اليد اليمنى والآخر مربع على اليد اليسرى.

يتبع[/size]

صفحات: [1]