خطاب البطريرك في مؤتمر الوئام: من البديهيات إلى الأولويات؟
عماد هرمز
ملبورن - استراليا
لو صادف أن تعثرت بنص كلمة غبطة أبينا البطريرك مار لويس روفائيل ساكو، الخطاب الذي القاه في يوم السبت المصادف 31 يناير/ كانون الثاني 2015، أثناء انعقاد مؤتمر الوئام في العراق ضمن فعاليات أسبوع الوئام العالمي بين الأديان الذي نظمه مؤسسة الحكيم الدولية تحت شعار "ديننا وئامنا" وحضره كبار الشخصيات السياسية والدينية في العراق بضمنهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، لو كنت تعثرت بهذا النص من دون معرفة شخصية كاتب هذا الخطاب لكنت قلت بأن من كتب هذا الخطاب لابد أن يكون شخص مبتدأ في السياسة، أو شخص بدأ في التو مشواره في المعقل السياسي أو هو مجرد هاوي جديد في مجال السياسة أو نستطيع القول أنه تحت التدريب في الشؤون السياسية وعليه فهو لا يفقأه الكثير عن الأمور السياسية والاجتماعية وحتى الدينية الأساسية. ليس حُكّمي هذا بسبب الأسلوب الذي كُتب بموجبه هذا الخطاب أو طريقة تناول الكاتب للموضوع أو أسلوب طرحه لمثل هكذا مسائل أو قضايا سياسية ودينية واجتماعية، بل لأن ما جاء فيه يعتبر من البديهيات السياسية والدينية والاجتماعية التي يعرفها كل شخص بسيط فكيف بقائد سياسي كان أو ديني أو اجتماعي حيث يتوقع منهم أن يعرفونها عن ظهر قلب، وعليه اعتبر أحتواء أو ضم مثل هكذا بديهيات في الخطاب الذي يبدوا شبه بالخطاب الرسمي إلى حد ما قد يعتبرها البعض استهزاء بالمتّلقي لأنه سيتم فهمها على أنها القاء محاضرة في الاخلاق والمثاليات على مسامع الحاضرين.
لكن عندما يكتشف القارئ هوية الكاتب، وأنه غبطة مار لويس روفائيل الأول ساكو، وعن هوية المتلقي لكلمته أو خطابه، القادة السياسيين والدينيين واخرين المتقاتلين على السلطة والمنقسمين على بعضهم، مع خالص وكامل تقديري واحترامي لهم جميعا، والمكان الذي ألقيت فيه الكلمة، العراق المجروح المريض المُدمر بسبب الفساد وسرطان الطائفية والعراك السياسي الدائر فيه على السلطة والقوة والمركز، ستتغير وجهة نظرنا عن النص وعن الكاتب ويتغيّر حكمنا على الخطاب وعليه وبدلا من القول بأن الكاتب هو لا يفقأه شيء في السياسة وبديهياتها أو قليل الخبرة في الشؤون السياسية، سنقول بأن المتلقي، وليس القارئ، هو أو هم الذين لا يفقهون الكثير عن السياسة والدين وبديهياتهماأو تخلوا عنها أو على اقل تقدير نسوها، وعليه كان لابد، بل من الضروري، على الكاتب أن يعيد اعتباراته ليجعل من أو يحول البديهيات والمسلّمات السياسية والأخلاقية والدينية (المنسية أو المتناسية) إلى أولويات سياسية وأخلاقية ودينية في جدول اعمال الساسة ورجال الدين. وعليه كان على غبطته الكلي الطوبة أن يعيد صياغة البديهيات المفقودة، المنسية، المهملة، المتناسية، أو المُتخلى عنها وطرحها بشكل يجعل منها أولويات سياسية واجتماعية ودينية للمتلقي، الذي وللأسف اعمى الجشع والطمع والصراع على السلطة البصيرة الفكرية والعقلية والذهنية للبعض، أن لم تكن الأغلبية منهم، فضاعت البديهيات والمسلّمات بين طيات الدولارات الأمريكية فكان لابد من غبطته أن يستغل أي مناسبة يلتقي بها بأولئك القادة ليذكرهم بها مرارا وتكرارا، عسى ولعلى تصبح يوما ما، بسبب التكرار، بديهيات لدى ساسة العراق وقادته السياسيين والدينيين فيأخذوها على محمل الجد ويتصرفون إزائها بالشكل الصحيح.
كان غبطة البطريرك مار لويس روفائيل ساكو الكلي الطوبة من الشخصيات المهمة التي مثلت الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق في هذا المؤتمر الذي يجب أن يثمن وبالطبع كل الشكر والامتنان لمؤسسة الحكيم الدولية على هذه المبادرة الرائعة والقيمة والتي تدل على نية المؤسسات الدينية في العراق وحرصها على التعايش المشترك بين مكونات الشعب العراقي بمختلف فصائله وأطيافه وطوائفه وانتماءاته ومعتقداته وتوجهاته. مع ذلك يبدوا بأن البعض من القادة لم يكونوا على استعداد كامل للمشاركة الفعلية في هذا المؤتمر.
باشر غبطته كلمته بمداخلة عاتب من خلالها الرؤساء الثلاثة الذين بحسب قول غبطته حضروا المؤتمر وألقوا بكلماتهم ورحلوا تاركين المكان للأخرين لكي يتلوا كلماتهم ويغادروا المؤتمر، إذا شاءوا هم أيضا ً، وكأن الندوة كانت مجرد ملتقى شعبي يأتي القائد ليلقي بكلمته ويخرج تاركا المنصة لقائد اخر هو الأخر يلقي بكلمته ويخرج وهكذا على التوالي وعلى الجمهور البقاء في مكانه متسمرا ووظيفته تكون الاستماع إلى ما يقوله القادة. ويبدوا وبحسب غبطته بأن الحاضرين للمؤتمر من القادة، من بينهم غبطته، انتظروا القادة الثلاث لمدة ساعة (بحسب قول غبطته) حتى انتهوا من خطبهم وكلماتهم ولما جاء دور القادة الأخرين، الدينيين وغيرهم فأن السادة رؤساء الحكومات (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب) لم يولوا الاهتمام المطلوب للحاضرين أو تقاعسوا عن البقاء والاستماع إلى كلمات وخطابات القادة الأخرين، الأدنى مستوى منهم (بحسب تصورهم)، من القادة الدينيين وممثلي الأحزاب والأديان وغيرهم. ولهذا عاتب غبطته القادة وأعرب عن اسفه قائلا " في البداية أود ان أعرب عن عتبي على الرؤساء الثلاثة الذين انتظرناهم ساعة، فجاءوا واسمعونا ما يريدون وخرجوا من دون ان يسمعوا ما نريد. هذا مؤسف حقا" (بديهية 1).
بالطبع انا أشارك رأي غبطته في عتبه هذا على القادة الثلاث وبرأي ما قام به الرؤساء الثلاث هو إساءة للحاضرين واستهانة بهم ويمكن حتى القول بان ما قاموا به كان إهانة للحاضرين. ويبدوا بأن حضور القادة الرؤساء كان مجرد حضورا شكليا يهدف منه تسجيل حضورهم ومشاركتهم في الندوة، وهو شيء قد يبدوا وكأنه كان حضورا روتينيا، وعليه لم يكن الهدف من حضور الرؤساء الثلاث هو الاستماع إلى آراء وما يطرحه بقية القادة، قادة المجتمع الكبار من الساسة والدينيين وغيرهم، واخذ آرائهم هذه وطروحاتهم ومخاوفهم على محمل الجد.
في مقدمة كلمته رسم غبطته وبخطوط سوداء قاتمة خريطة العراق الراهنة والمرحلة الصعبة التي يمر بها العراق الذي يتعرض إلى عاصفة عنف تدمر بنيته التحتية، بل أستطيع القول بنيته الإنسانية، وهذا يبعث الخوف والقلق والرعب في المواطنين. ووضح غبطته كيف أن الشعب العراقي بكل فئاته وطوائفه وانتماءاته هو معرض للقتل والنهب والتهجير القسري. وكان الهدف من مقدمة غبطته هذه هو وضع خلفية سوداء للمسرح العراقي لإبراز الصورة القاتمة للمشهد المأساوي السياسي في العراق، وليعكس الدور الهزيل والمتردد والمتردي لقادة وممثلي الشعب وإظهار الوضع البائس للشعب المسيحي في العراق بشكل غير مباشر.
وبعد إعطاء هذا التصور المخيف والقاتم عن وضع العراق ومصيره ومستقبله غير الواضح، ناشد غبطته قادة العراق، السياسيين منهم بالتحديد، وهم الذين اخذوا على عاتقهم مسؤولية حماية الشعب وكرامته وصيانة عرض العراق وحماية ممتلكاته والدفاع عنه من اعتداء أي مجرم غاشم يود بالعراق سوءا. ناشدهم غبطته إلى التحرك من اجل انقاذ ما تبقى من العراق (بديهية 2) وهذا لن يتحقق، وقد حان وقته الأن، إلا عن طريق " ردٍّ جماعيٍّ في توطيد مشروع المواطنة المتساوية وتعزيز اللحمة الوطنية؟ اما حان الوقت لنرفض العنف والموت، وننبذ النزاعات، ونتجاوز الخلافات، ونتوب الى الله وننقي القلوبَ، ونتسامح ونتصالح ونقدم تنازلات شخصيّة وحزبيّة ومذهبيّة خدمة لشعبنا ولبلدنا؟ انها قضيّة وجود ومستقبل".
وبعد ذلك وجه غبطته نداءه لرجال الدين في العراق بكافة انتماءاتهم الطائفية والذين أشار إليهم غبطته بكونهم "رجال الدين وقد حملهم الله رسالة المحبة والسلام؟" (بديهية 3) فناشدهم إلى التحرك أيضا ً من اجل نبذ الخلافات الطائفية والتسامح والمحبة من اجل العراق وشعبه وارضه .
وكقائد مسؤول كان لابد من غبطته أن يأتي بمقترحات تهدف إلى إخراج العراق من أزمته الكارثية. وجاء في كلمة غبطته بعض الحلول لأزمة العراق الكارثية التي تنم عن حرص غبطته على مستقبل العراق وشعبه. ولأن مشكلة العراق مركبة، سياسية ودينية، كانت حلول غبطته أيضا ً مركبة، مقسمة إلى سياسية ودينية، أي قضية حكم وسلطة سياسية وطائفية دينية. فمن الناحية السياسية اقترح غبطته بأن يعمل الساسة العراقيون (بديهية 4) على "بناء دولة شراكة حقيقية، دولة القانون والمؤسسات"، بالتأكيد يا غبطة ابينا البطريرك فأن العراق بحاجة إلى رجال يقدمون تنازلات سياسية وسلطوية من اجل الوطن والحل الأمثل لهذا المأزق السياسي هو حكومة شراكة حقيقية. وبالتأكيد نوه وأشار غبطته في أكثر من مناسبة إلى هذا التوجه وهو الذي صرح يوما بأن العراق بحاجة إلى "غاندي" ينقذه من مأزقه، غاندي يضحي بكل ما لديه من اجل وطنه.
ومن القضايا التي فقدت بديهيتها وتم إزالتها من قائمة المسلّمات، هو تشكيل جيش وطني (بديهية 5) من أجل حماية العراق من الشر الخارجي والداخلي وهكذا صرح غبطته بأن العراق بحاجة إلى "بناء جيش مهني ولاؤه للوطن، مدرب ومجهز بكفاءة عاليّة وحصر السلاح بيده لتحقيق الامن والاستقرار". يبدوا من كلام غبطته بأن هناك مشكلة في تركيبة الجيش العراقي وبأن الجيش في العراق هو جيش غير وطني أو على الأقل يمكن القول بأنه جيش غير كامل ولا يشمل كل فئات الشعب العراقي وبالتالي قد يكون ولائه ناقص أو على أقل تقدير محصورا تجاه قادته السياسيين أو الدينيين. هذه الحاجة إلى جيش شمولي ووطني هو مطلب مشروع وحقيقي وبديهي لكل عراقي وطني. وعليه يجب العمل على رفض جيش يعلن قادته ولائهم فقط لقادة معينين وقادة ذو توجهات دينية طائفية. إن الصراحة مؤلمة لكنها يجب أن تقال، فأن الخلل في تكوين جيش وطني شامل وكامل سبب في التشتت وأحدث انقسام في الولاء للوطن وأضعف الإخلاص للعراق ولشعبه. وهذا الانقسام في الولاء والإخلاص كان الدافع وراء قيام فئات وطائفة عراقية بتشكيل مليشيات أو دولة خاصة بها مثل ما فعل تنظيم داعش الإرهابي ودولته الإسلامية الإرهابية.
أما بخصوص الانقسام والتناحر الطائفي في العراق فكان لغبطته قولا فيه. ففي خطابه شخّص غبطته الدين على أنه أصبح داء ومشكلة في العراق ووضّح غبطته كيف أن الدين أصبح عامل يولّد الانقسام بدلا من أن يكون عامل توحيد ولم شمل. ففي كلمته قال غبطته: " دينيا: عدم ترك الدين او المذهب يتحول الى شماعة وذريعة للتفسيرات والطموحات والجرائم والارهاب. يكفي أن نُقَوَّلَ الله ما نُريد، لنترك الله بنفسه يقول لنا ما يريد: لا تقتل، لا تسرق. لا تعتدي، لنسمع صوته" (بديهية 6). في كلماته هذه وضع غبطته بأصبعه على مكان الجرح. فمعنى كلام غبطته هو أن المشكلة لا تكمن في الدين وتعاليمه، أي دينا كان، بل تكمن في البشر الذين يفسرون الدين وآياته على هواهم وبحسب رغباتهم وطموحاتهم. بالطبع إذا تكلمنا عن الله في الإسلام أو المسيحية فأن هناك الكثير من التقارب فيما يقوله الله عن المحبة والتسامح بين ابناءه، فكلنا أبناء الله، وهو يحبنا ويريد الحفاظ علينا وإذا اخطأنا فأنه الوحيد الذي في يده الحكم وأما يعاقبنا أو يسامحنا وهو غفور رحيم. لكن وفي أغلب الأحيان يتم تفسير الدين وما يريده الله بحسب أهوائنا وتصوراتنا ونتصرف وكأننا نعرف بالضبط ما يريده الله منا ونتصرف بحسب فهمنا بدلا من اخذ مطالب الله وتوصياته ببساطة تامة ونسمع ما يريده هو منا بالتحديد ونطبق تعاليمه.
أخيرا يأخذنا غبطته في رحلة إلى الواقع المرير الذي وضع أساسه الخلافات السياسية والانقسامات الطائفية وكيف أن الإرهاب لا دين له وهمه الوحيد هو القتل والتدمير فجاء تصريح غبطته قائلا: "الديانات كلها ضحايا: المسيحيون يموتون، والمسلمون يموتون والإيزيديين يموتون والصابئة يموتون" (بديهية 7). وما يقوله لنا غبطته هو ان الانتماء إلى دين معين أو طائفة معينة أو دين معين لا يحمي أي شخص وليس كافيا في أن يقف بوجه الإرهاب وعليه فلن ينفع الشخص إن كان مسيحيا أو مسلما فكلنا ضحية لأننا كلنا كفار أمام هذا التيار التكفيري الإرهابي. وفي نفس الوقت يقول غبطته بأنه لا يسلم من قبضة الإرهابيين أي عراقي سواء كان عربيا أو كرديا أو تركمانيا أو كلدانيا اشوريا فان خارطة الإرهاب ليس لها حدود لا سياسية ولا دينية. فجاء تصريح غبطته بهذا الخصوص قائلا ً: "العرب يموتون والاكراد يموتون والتركمان يموتون والشبك يموتون!" (بديهية
.
وفي النهاية يعرب غبطته عن عدم رضاه على المستوى غير المرضي الذي قدمه القادة المسلمين في رفضهم ووقفتهم ضد الاعتداءات الوحشية والإرهابية على الشعب العراقي ومسيحيو العراق بالتحديد. فصرح غبطته قائلا "التنديد وحده لا يكفي، بل المطلوب هو البدء بالمعالجة من خلال تجفيف منابع تمويل التطرف والارهاب، وتفكيك هذه الثقافة-المنظومة المرعبة ومنظريها ومروجيها بثقافة وسطيّة منفتحة تحترم التنوع والاختلاف وتغيير برامج التربية الوطنية والدينية بشكل ايجابي يحترم معتقد الاخرين ولا يسيء الى الديانات، كذلك اعتماد خطاب ديني معتدل يعزز العيش المشترك. ماذا ينفع خطابُنا ان لم يساعدنا على العيش معا في هذا الزمن الصعب؟ ينبغي ان ننتبه ونتحد ونعمل بمعيّة قبل فوات الاوان. لقد قال المسيج: طوبى للساعين الى السلام فانهم ابناء الله يُدعون، فما احوجنا الى السلام والوئام!" (بديهية 9). بالفعل ما يحتاجه العراق اليوم إلى فعل أو أفعال وليس مجرد أقوال استنكار وشجب ورفض، بل يحتاج إلى أفعال معادية للتطرف والتفرقة السياسية، يحتاج إلى تدخل الجيش العراقي من أجل حماية الأقليات التي تعرضت لأبشع أنواع الترهيب، يحتاج إلى جيش يتجه إلى المدن المحتلة من قبل تنظيم داعش الإرهابي لينقذ سكان تلك المدن، الموصل أولها.
قالها المسيح " طوبي للساعين إلى السلام فأنهم أبناء الله يُدعون" ويكررها غبطته مرارا. لكن من منطقي الشخصي أنا كانسان أرضي فأنا أقول " طوبى للساعين إلى السلام فأنهم أبناء العراق يُدعون" وهذا ما يريد توصيله غبطته لقادة العراق (بديهية 10). فهل يقبل ربنا صلوات غبطته ليبارك شعبه العراقي بالنعم واهمها نعمة السلام. هل سيستجيب ساسة العراق وقادته الدينيين من المسلمين إلى دعوات غبطته. هل نشهد عودة البديهيات والمسلّمات الأخلاقية والإنسانية وفضائل الدين إلى مسرد المصطلحات السياسي والديني العراقي؟ آمين.