من الساكورا فالهايكو إلى الهايكو العراقي-3
خالد جواد شبيلبَدءً لا بد من الإشارة أن هذه المقالة وما سيليها كتبت باسلوب اعتمد البساطة والاسترسال يهدف الى بلورة هايكو عربي بعد أن شاع كثير من الشعر الذي صنَّفه أصحابه وحتى دارسوه شعر هايكو وهو لا يكون منه في كثير من الأحيان والسبب هو غياب الفهم المنشود للهايكو، ولا أزعم أنني سأقوم بفتح جديد في هذا المجال إنما هي مساهمة قد تفيد في الرسو على مفهوم conceptيكون بمثابة مرجعية لهايكو عربي..
ولابد من التأكيد أن الهايكو وصل العرب صدىً لا صوتاً أي لم يأت من موئله اليابان مباشرة، وإنما عن طريق الغرب، ومن الترجمات الفرنسية تحديداً التي نشطت بها بيروت* ودمشق والرباط، وكان على مرحلتين، مرحلة دراسة المترجَمات واستيعابها وتمثلها، والمرحلة الثانية هي التقليد ومحاولة الانتاج حتى تحول من انشغالات فردانية الى ما يشبه الموجة وانتشر بسرعة حذِرة ليزحف على قصيدة النثر زحف السلحفاة ثم غذّ الخُطى وما زال في تسارع يقارب قفز الأرنب!
وليس صدفة أن تبرز بعض الأسماء في سوريا ولبنان والمغرب والعراق... و بعضها شكل علامات فارقات. ولابد من الإشارة الى أن مسألة الريادة والأولوية لا تنطوي على أهمية كبرى لأكثر من سبب أجده هاماً، وهو أن الهايكو لم يكن محصلة لتطور القصيدة العربية وانسلاخها المتكرر شأن التحول من الشطرين الى التفعيلة الى الحداثة باتساق مع تطور الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ..إنما هو استجلاب وممارسة نمط جديد دخيل من الشعر حتى وإن وجدنا له خطوط تماس هامشية عَرضية مع ديواننا الشعري المعاصر.
وأجد أن مفهوم الريادة يشوبه كثير من الالتباس، حين يختلط بمفهوم الأولوية، فليس السبق هو المهم بل المهم أن يتحول الى حالة مؤثرة معطاء تشق طريقها لتصبح لوناً إبداعيا يستقطب النخبة والجماعة ويخرج عن فردانيته ويكون له رد فعل مؤثر في الوسط الثقافي، ويجذب له مريدين وقرّاء وبذلك يستوفي مفهوم الريادة..
وإلا لاعتبرنا الدكتور لويس عوض الذي أصدر ديوان "بلوتولاند" في بداية عام 1947 حيث كتِبت قصائدُه بين 1938-1940 والذي قوبل بصمت مطبق من الصحافة والنقاد لاعتبرناه هو الرائد! بينما كتبت نازك قصيدة الكوليرا الرائدة والتي نشرت أول ك1/ ديسمبر1947 وكذلك صدور ديوان "أزهار ذابلة" للسياب بعدها باسبوعين والذي ضم قصيدة "هل كان حبّاً"، وكلاهما أثار ضجّةً عراقياً وعربياً، وقد تعزز الاتجاه الريادي بصدورعام 1950 "ملائكة وشياطين" للبياتي وبعده وفي العام ذاته "المساء الأخير" لشاذل طاقة...فليس العبرة بالأسبقية لمن كتب الهايكو وإنما لمن سجل حضوراً هايكوياً بحق!
وبإطلالة فاحصة على الذخيرة المطروحة التي لا تني تتكاثر يجد المتتبع أن هناك تفاوتاً لا في مستوى القصائد – وهو أمر طبيعي- بل وفي انتماء هذه القصائد الى الهايكو! فليس كل من أمطرنا بقصائد تحمل عنواناً به مسمى الهايكو هي بالضرورة من الهايكو. فهي إذن محاولات في بعض منها تحصل المقاربة وفي بعضها الآخر تحصل المفارقة وبين الاثنتين هناك تفاوت بالدرجات. فليس مجرد توزيع العبارات الشعرية على ثلاثة أسطر يجعل صاحبها أنه أدرك المرام حتى ولو انطوت هذه العبارات على شاعرية وبناء محكم من دون اعتبار للخصائص الهايكوية شكلاً ومضموناً.
فقد بلغ الأمر أن أحد الذين ترجموا عن الهايكو تعريفاً ونماذجاً راح يعد الكلمات المتوزعة على الاسطر الثلاثة معتبراً كل كلمة معادلاً لمقطع هايكو في محاولة منه لتقعيد الهايكو العربي!! والحقيقة إن وحدة الشعر العربي هي التفعيلة الناجمة من انتظام المتحرك والساكن بأنساق ثابتة في تفعيلات معينة معروفة ينشأ عنها الوزن، ولا توجد وحدات للمقاطع إنما يمكن توليفها بين أجزاء التفعيلات في نسق معين يقابل الهيكو الأصلي وهو أمر صعب قد يكون مُتكَلَّفاً على حساب القيم المعنوية للهايكو!
السؤال المهم: هل بالوسع إيجاد هايكو عربي؟ إن الهايكو العربي ينبثق من لغة العرب نفسها ومن ثقافتهم ومن حياتهم. ويمكن للإيقاعات الناتجة من الألفاظ والتجنيس أن تلعب دورا هاماً وكذلك الاستفادة من البلاغة العربية في التورية أي مفارقة المعنى مما يعززالجانب الصوتي والمعنوي معاً، وأذهب أكثر من ذلك بأنه يمكن الاستفادة من البحور القصيرة كالمتدارك و المنسرح وغيرهما بل حتى يمكن إدخال القوافي بشكلها البسيط (المقصورات مثلاً)، عند ذلك يمكن الحديث عن هايكو عربي، وعند ذلك ستحصل حالة الفرز بين من له شاعرية حقيقية وبين الطارئ الدخيل، وبين الذي يمكث في الأرض وبين الذي يذهب جفاءً؛ وعند ذلك أيضاً سنتخلص من التداخل بين قصيدة النثر والهايكو كما هو شائع الآن!
فالهايكو هو بطبيعته القصيدة المقتصدة التي تبدو كمَركب سائر في لُجّة بحر قد تغرقه أية كمية زائدة من حمولته حتى وإن كانت قليله وتخرجه عن كونه هايكو، هو محمول لأقل كلمات ولأكبر مدرك فلسفي أو تهكمي أو وصفي يحمل مفارقة ومفاجأة تبعث على الصدمة والإندهاش وهو يريك اليومي العادي الذي تمر عليه ولا تأبه به في لوحة غير مؤطَّرَة تستوقفك لتتأملها بانبهار لا يخلو أحيانا من سذاجة ظاهرة وعمق معنوي يكون على دفقات تقول شيئا وتترك الباقي للمتلقي..
هو يقف بخلاف مع قصيدة النثر التي تنطوي على بوح وسرد فني تكثر فيها التعابير البلاغية والزُخرف اللفظي والاختلاجات الداخلية والرؤى العاطفية المنفلتة من عقالها وتموج بها الأفكار والصور الخيالية التى طالما تتكرر، إن القصيدة النثرية طالما تكون مشروعأ مخططاً له أي أن الصنعة فيها واضحة وأجد أنها اليوم قد ضاقت مساحتها وكررت نفسها وربما أنجزت مهمتها، وأصبحت تُعَد من قراءات قبل النوم!! ومن الطبيعي ألاّ يشمل هذا الحكمُ الشعراءَ المتمكنين الذين يشكلون أعمدة ترفع بهو قصيدة النثر.
***
قبل الانتقال الى الهايكو في العراق لا بد من جولة سريعة على الهايكو في ديار العرب.
ليس من الهيّن معرفة زمن ورود الهايكو في العربية، ولكن الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة (المولود في عام 1946 في الخليل) في ديوانه "يا عنب الخليل" المطبوع عام 1968 قد ذيّل قصيدة (هايكو-تانكا) بتاريخ 1964 :
هايكو:
ياباب ديرتنا السميك
الهاربون خلف صخرك السميك
افتح لنا نافذة الروح
تانكا:
أجاب شيخ يحمل الفانوس في يديه
يوزع الشمعات
على نثار دمنا المسفوك
وحين سلّمنا عليه
بكى...واصفرّ وجهه... ومات
1964
ويلاحظ أن أسلوب المناصرة (ابن الثامنة عشرة) يحمل سمات قصيدة التفعيلة الستينية الفلسطينية معنىً ووزناً (الكامل) وإيقاعا وإن لامس الهايكو ملامسة خفيفة في المفارقة بين الباب السميك والصخر وبين نافذة الروح وقد ووزعها على ثلاثة أسطر أدت المعنى، ولا يختلف الأمر في التانكا* Tankaحين وزعها على خمسة واستخذم الصدمة في العبارة الشعرية الرابع والخامسة ببراعة. لم يستمر الشاعر في مسعاه هذا للأسف، ويبدو أنه انصرف عن الشعر -ألذي برع في الستينات- لشؤونه الأكاديمية.( قارن هذه الذكريات مع الفلسطيني محمد الأسعد في نهاية هذه المقالة).
وإذا تكلمنا عن روّاد الهايكو العربي فلا بدّ من ذكر أهم العلامات البارزة، وسأختار عيِّنات قبل الولوج الى الهايكو العراقي وشعرائه الأبرزين..
الشاعر المغربي أحمد لوغليمي هو الأكثر تميزاً وهو من القلائل الذين خصصوا ديوانا لشعر الهايكو، والهايكو عنده لا يكون عنده مجرد اسم بل هو الأكثر مقاربة من بين زملائه للياباني لدرجة أن مفردات الطبيعة اليابانية حاضرة في شعرها لاسيّما زهورها، وما يؤكد زعمنا هو أن ديوانه الصادر من دار غاوون في بيروت موسوم ب " رسائل حب الى زهرة الأرطانسيا" وزهرة الأرطانسيا Hortensia flower(حرف الهاء لا يُلفظ بالفرنسية) هي زهرة مركبة متعددة الألوان بالأزرق والوردي والأبيض منتشرة في اليابان وكوريا والصين جنوباً إلى إندونيسيا . تتسم أشعاره أيضا بالجودة وحسن الصقل والإحكام معنىً ومبنىً وهاكم بعضاً من ديوانه الذي احتوى على مائةً وثمانٍ وعشرين مقطعِيَّة** من الهايكو:
استحياء:
لشدّة الأزهار/عدلتُ عن / عبور الغابة.
قمر البركة:
القمر في البركة/ تبعثره/ ضفدعة.
غفلة:
نطراتي/ تُدهش شقائقَ النعمان/ في طريقها إلى الكرز.
ويرى القارىء أن أجواء هذه المقطعيات مستوحاة من الطبيعة وأن مفرداتها وصورها شائعة في الشعر الياباني وأذكّر أن الكرز هو الساكورا.
وأنتقل الى مقطعية أخرى تختلف عن سابقاتها فهي غوص على المعنى مستمد من خارج الطبيعة، من معاناة الشاعر الذي يرى أن قصائده هي نزيف الروح وانعكاس لعوادي الزمن، وقد بدأها بكم العددية:
نزيف:
كم طعنةً تكفيك/ كي تنزف /قصائد.
كما أود أن أشير أن الشاعر استخدم العناوين ما يسّهل على المتلقي استبطان المعنى، وقد وُفِّق أيّما توفيق في ربط العنوان بالمضمون.
يبدو أن للهايكو في سوريا حضوراً منذ أوائل الثمانينات بفعل الترجمات التي نشطت في تللك الحقبة حتى برزت أسماء من الشعراء أمثال محمد الأسعد ولؤي ماجد سليمان ورامز طويلة وكانت صلة البعض منهم بالهايكو الأوربي وقد مارس الترجمة، إن ممارسة الترجمة في مجال الشعر عموماً ستتيح دراسته وتذوقه وتوسع من أفق الرؤية الشعرية وتعمِّق ممارسته شعراً، وفي سوريا وجد الهايكو شعبية كبيرة من خلال مترجميه ودارسيه ونقّاده وزاد الأمر على ذلك بوجود جمعيات له زادت من شعبيته مثل جمعية أصدقاء الهايكو، ومجاميع في مواقع التواصل مثل الفيسبوك كمجموعة "عشاق الهايكو"، ومجموعة "الهايكو سوريا"..
هايكو لرامز طويلة:
على جرف صخري/ تتلاطم الأمواج متلاحقة/ لا تطال ظلّي.
يتناثر الرذاذ منعشاً وجهي/ بألوان الغروب الزاهية.
لقد قارب في مقطعيته الأولى الهايكو؛ ونأى عنه في الثانية، فقد غابت عنه مزايا الهايكو، وغدا أقرب الى المقابلة التصويرية.
ونختار له أيضا:
قوسه يحز/ صدر الكمان/ وتسألًني لِمَ الأنين.
لو قال الشاعر: قوسه يحز أوتار الكمان لجعل العبارة الشعرية عادية، إنما القوس تجاوز الأوتار الى الخشب، وهذا هو الذي يستوقف القارىء، وببراعة استخدم الفعل: تسأُلُني، فيحتمل فاعلين: هي أو أنت إن المفارقة جميلة وعميقة في هذه المقطعية.
ونزيد له اثنتين لتكتمل الصورة عن شاعرية رامز طويلة:
رغم الأشواك/ متعانقتان/ صبّارة وجورية.
هل أراد الشاعر أن يجمع النقيضين في وحدة وفق الديالكتيك؟ أجد المفارقه هنا عادية وستتحول بنفس المعنى ولكن إلى إطار التشبيه البلاغي في هذه المقتطعة:
حبة زبيب/ حلاوة وتجاعيد/ تُطلُّ جدتي.
ومن الشعراء المبرزين شاعر فلسطيني المولد (في حيفا 1944)عراقي المنشأ (قدم البصرة 1948) طفلاً وراشداً وهو الشاعر محمد الأسعد، الذي يجمع بين الشعر والنقد والترجمة والدراسات الأكاديمية في الأدب والآثار ما عمق تجربته التي انعكست في شعره، ولكون هذا الشاعر قد كتب عنه أكثر من غيره سأورد له هذه النماذج من مطولته "أفاريز النويِّر":
أزهار النويِّر...!/ زقزقة عصافير الدوري/ تتباعد في الضباب الخفيف.
يا لهذه الاشجار!/ لاتعرف/ إنها تلقي/ظلّا.
إنها وصف الطبيعة مغلف بحنين الماضي حتى وإن كتبت بصيغة الحاضر، إن الحاضر هو الماضي، وللشاعر عبد الرحمن طهمازي مجموعة شعرية "ذكرى الحاضر"..ولكن أيصحُ أن نستخدم زقزقة بدلاً من سقسقة؟! لكن أجده محقا في القطع المقصود الذي تكلمنا عنه في الحلقة السابقة حين قال: لاتعرف/ إنها تلقي..والنحو يقول لاتعرف أنها..ولنواصل مع الشاعر الاسعد:
منذ صبانا/ نتبادل الأحجار/ والنجوم/ الصمت وحده.
بيوت وتلال/ وجبال بعيدة/ تتذكر دائما.
لا يفتر الشاعر وهو يستحضر ذكريات قلسطين بيوتاً وتلالاً وجبالاً بعيدة لا يتذكرها وحده بل يستنطقها ويجعلها هي الأخرى تتذكر بل ويجعل منها معادلا موضوعيا لقضيته فالحجارة في الطفولة لم تكن له في الحاضر سوى انتفاضة أطفال الحجارة..
في الحلقات القادمات ستكون للهايكو العراقي وشعرائه.
*من أهم كتب الهايكو المترجمة: كتاب الهايكو،ت محمد عضيمة، كوتاكاريا؛ السحر الآسيوي، ت محمد منير؛ تاريخ الهايكو الياباني، ت سعيد بوتراجي.
**أسميتها ب مقطعية وليس مقطعاً حتى لا يحصل الالتباس مع المقطع الصوتي الذي مرّ معنا في الحلقة الثانية.
من الساكورا فالهايكو.. الى الهايكو العراقي-4
خالد جواد شبيل سألني سائل: كيف تكون المفارقة المدهشة التي تبعث على التأمل خارج الهايكو؟ وفي الحقيقة إن تراثنا الشعري لايعدم جواباً، وسأعطي أمثلة علّها تكون مُدخَلا، من دون الاستغراق في شرحها.
عرف الشعر الإنكليزي في القرن السابع عشر شاعراً ذا شخصية مدهشة متناقضة انطبعت في شعره، هو John Donne فهو قس كاثوليكي تحول الى الانجليانية وهو شاعر المتناقضات، ميتافيزيقي وعلماني يكتب أشعارأ دينية ودنيوية إيروتيكية وهو في جميع الأحوال ساخر وجاد وفيلسوف تعنينا منه قولته: أيها الموتُ إنك لمائتٌ قطعاً! Death, thou shalt die!.
ويقول الشاعر ابن الرومي وهو على فراش الموت والسُّم يسري في جسمه ليقربه من أجله:
الناس يلْحون الطبيبَ وإنما – غلطُ الطبيب إصابةُ الأقدارِ
والمتنبي:
فما حاولتُ في أرض مُقاما- ولا أزمعت في أرض زوالا
على قلقٍ كأن الريح تحتي- أوجِهها جنوباً أو شمالا
ويقول شاعر آخر:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمةٍ- إلى أين يسعى من يغص بماءِ
يقول الياباني شيكي: وبلٌ في الصيف/ المطر يهطل/ على رؤوس أسماك الشبوط. وفي تراثنا : البليلُ لا يخشى وابلاً، أو (المبلل ما يخاف من مي المطر).
ولو استغرقت لملً القارىء ولخرجت عن فحوى الموضوع؛ ولكنني راغب في أن أرويَ حكاية من طه حسين ألخصها جداً: كان الطلاب في الجامعة المصرية قد سئِموا من أَستاذ الفرنسية المخلص الشديد، فأضربوا عليه، والأستاذ الفرنسي في كل يوم يحضر الى القاعة الفارغة حتى ينتهي الوقت فيخرج..فسئِم الطلاب وعرَفوا أن لا أستاذ غيره، فدخل القاعة ووجدها تغصّ بالطلاب فقال لهم قوْلةً ثم استأنف درسَه: " أراد رجلٌ أن يغيظَ امرأته فقطع ذكَره!" ولكم أن تتصورا وضع الطلاب الذين أطرقوا خجلين واجمين! فلنجعل هذه القولة هايكو:
رجل يغيظ أمرأته/ فيقطع.../ذَكَره!
ولو استحضرنا أشعار النساء التهكمية "المكشوفة" في العراق وباللغة الدارجة وتأملناها لوجدنا فيها ما يُثير الدهشة ويبعث على التأمل والسخرية والتمرد بعفوية صادقة، وبلغة عليها غشاوة خفيفة أو بلا غشاوة! يذهب الشاعر عبد الإله الياسري والشاعر لطفي شفيق سعيد كلٌ على رسله أن مفارقات الهايكو ومعانيه لها في الدارمي حضور وأنا متفق معهما ويزيد الثاني أن الحسجة(الجيم معجمة بالثلاث) هي تحمل تلميحات هايكويه، ويزيد
الأول: "ان شعر الهايكو يذكرني بشعر النتفة ذي البيتين". وقد كتب لي أستاذ مهتم بالهايكو، المغربي/الفرنسي مصطفى الرياحي أن للهايكو حضور في الشعر الشعبي الاندلسي وفي الغناء المغربي ودعم دعواه بمرسول من الغناء الشعري، وغيرهم من الشعراء كتب وجهات نظر متقاربة ومهمة..
***
لا نعرف متى بدأ الشعراء العراقيون في كتابة الهايكو، ولكنني أرى أن هناك إشارات من الهايكو لدى بعض شعرائنا من دون أن يسموه ضمن قصائدهم التي تأتي دائما في نهاية القصيدة كصدمة مثل: موفق محمد وعواد ناصر وكَزار حنتوش ووئام ملا سلمان، وجمال مصطفى ..وكذلك لدى سعدي يوسف في عدة قصائد..
ووفقاً للشاعر جمال مصطفى فإن هناك كتاباً مترجماً الى العربية عن الهايكو الياباني صدر عن وزارة الثقافة العراقية ترجمة عدنان بغجاتي، ولعله يقصد به: أزهار الكرز: أشعار يابانية، صدر في بغداد في السبعينات، وأذكر أن المترجم السوري نفسَه قد ترجم: رؤية شرقية: أشعار يابانية، في مجلة المعرفة السورية عدد يوليو/تموز 1973.
ولعل الشاعر محمد الأسعد يكون أول من ساهم و روّج لمثل هذا الشعر، ومارسه بعض الشعراء في الثمانينات مثل الشاعرين الهامين حسين عبد اللطيف وسعد جاسم..وحيث أن المبدع الراحل حسين عبد اللطيف يمثل حالة متفردة، فقد بدأ في الستينات مع شعر التفعيلة صوتا متميزا له ثقافة متنوعة من قديم الشعر وحديثه، واطلاع واسع على الأدب العالمي المترجم مثلما استفاد من ثقافته في الفن التشكيلي وقد تجلى هذا في ديوانه الأول " على الطرقات أرقب المارة" الصادر في بغداد عام 1977 حتى ظهر له عام 1995 "نار القطرب" وفي هذه المجموعة تتعمق لديه تجربة الحداثة وتتسع رؤيته للأدب العالمي وفي هذا الديوان يبدو اطلاعه على الهايكو من خلال مفرداته وصوره، حتى أن "القطرب" الذي هو الضوء المتوهج في الحشرات كالذبابة المضيئة أو النارية fire fly باللون الأخضر الناري متداول جداً في الهايكو العالمي ومثاله للياباني اون تسونيوكس :
جوفي/ مترع بذباب ناري/ وأحياناً لاشيء غير النار.
أما في ديوانه " متوالية هايكو" صدر 2012 والذي جعل له عنواناً آخر "بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة" تدل على معرفة جيدة بالهايكو، لا أود الإطاله فمن يُرد الاستزاد فليذهب الى (موقع بصراياثا) حيث ملف واف شارك فيه لفيف من الشعراء والنقاد،عن الراحل الشاعر حسين عبد اللطيف ولنا أن نتوقف لماماً مع بعض مقطعياته:
كل ليلة على مدى الخريف/ أحضر الحفل الموسيقي/ الذي تقيمه الجعلان/ هلاّ سمحت لي بإطفاء السراج.
هذا الهايكو ينم عن نظرة ثاقبة حين يفضل العزلة والهدوء على صخب الجعلان حتى ليَوَد ألا يراها!يصفه زملاؤه بالشاعر الصامت، وأنا أقول: إن بعضاً من السكوت كلامُ.
كل شيء مفعم بالضياء، شجرة الكرز، الثلج/أغنية طائر الليل و../ وعاء الحليب.
يبدو في هذه المقطعية ياباني المفردات والصور مشرقا متوهجاً عكس الأول حين تتلوث الطبيعة الخريفية بصخب الجعلان يكون الظلام منقذاً!
وله أيضاً هذه المنوعات:
كم هي رقيقة أزهار الكرز هذه/ حتى أنها تسقط متناثرة من/ قرع الأجراس.
أمام الخريف تقف الأشجار موديلاً عاريا.
في المقطعيتين نلمس لغةً رقيقة وتصويراً جميلاً يحمل لغة الهايكو لكنه ينأى عنه، ثم:
في باطن الأرض/ ينقبون عن الياقوت/ وهو يتوهج في عذق النخلة.
وفي هذه المقطعية يلامس الشاعر البصري الهايكو ملامسة خفيفة بمفارقة بين الياقوت الذي يتهافت الناس عليه؛ بينما ياقوت البصرة (حبات التمر) لا يعبأ بها الناس!
أورد هاتين المقطعيتين المتشابهتين، لا حظ التجنيس البلاغي:
مالك الحزين/ يطير فرحاً/ بكتلته الثلجية.
ندبة سوداء/ غرابٌ يحطّ هناك/ في الثلج.
الملاحظة التي أود أن أقولها أن الشاعر لم يجرب القصيدة العمودية قط فهو مشبع بروح الحداثة؛ بعد أيام تمر ذكرى وفاته الأولى أتمنى أن يحظى بتكريم من وزارة الثقافة بما يتناسب وقامته الشعرية السامقة.
***
وجمال مصطفى حالة نادرة يسجل حضوراً في القصيدة العمودية تحديداً ينم منذ بواكير قصائده عن قدرة ملفتة وموهبة واعدة، صقلها اطلاعٌ واسع على ديوان العرب قديمه وحديثه، ومتابعة جيدة للنشاط الأدبي مذ كان في البصرة شاباً مرهفا يتابع نشطاء الأدب والفن ويحضر ملتقياتهم مستفيداً من تجاربهم، والبصرة تَمورُ بالشعراء والقصاصين والفنانين، لهم منتدياتهم ومقاهيهم...
والدنمارك الصغيرة(وصلها 1985) شكّلت للشاب البصري-ذي السابعة والعشرين عاماً- نافذة لا للاطلاع على الأدب الدنماركي بل وعلى الأدب العالمي، حتى تعمقت تجربته الشعرية والإنسانية والثقافية، كل هذا انعكس في عطائه الشعري ( راجع: موحيات ترمي يواقيتها؛ لكاتب هذه السطور). تتسم القصيدة عند شاعرنا بأنها حالة وجدانية مركبة ومنفلتة تقود صاحبها الى مسالك غير مألوفة فيها إيماءات فلسفية وصوفية وتأريخية موغلة في القِدَم السومري ولمحات وجدانية صافية وغنائية عذبه؛ قصائده تسبح على أديم لغة ثرة وعبارة شعرية متينة ومصقولة، في تضاريسها الهايكوية الذي جاءه عفو خاطر فلنبحث ونتلمس في ما كتب فهل سنكتشف ما قلناه في هايكو جمال؟
مركب الهايكو ضيق، على ربانه أن يحمله بما يتناسب وحجمه ومن ثم يبحر الى جزر صغيرة لم تطأها قدم بحار غيره في معظم الأحوال فهاكم من "شقائق الهايكو" العامرة رياضه بمائتي مقطعية كتبت بين 2010-2011:
زُغْبُ الحواصل/ في بساتين الطفولة/ دشاديش ملطخة بالرُّمّان.
هذا هايكو عربي الطعم فيه من الحطيئة الذي استعطف الخليفة الثاني حين ألقاه " في قعر مظلمة" لا لأجله وإنما لأطفاله الذين وصفهم بكناية بلاغية آسرة "زغب الحواصل" وقد عمل جمال مفارقة رائعة فبدلاً من " لا ماء ولا شجر" عند الحطيئة أصبحت الصورة إنسانية، محض عراقية بتعبير "دشاديش" وليس جلابيب التي تعطي معنى "الكِبَر" وزادها بأنها ملطخة بالرمان! ولا ننسى الالتفاتة في التوقيع الزمني فالرمان خريفي..
نباتي/ يكتفي بالماء.../والمارجوانا
في اسكندنافيا يطلق على ثلة المتسكعين المنغمسين في سكرهم ب A-laget أما ثلة الحشاشة فيطلق عليهم B- laget وكلتا الثلتين لايكاد أفرادها يأكلون شيئا لأن مالديهم يرصدونه لما يلبي حاجتهم في الإدمان ما يحمل البعض أن يعطف عليهم أحياناً بما يسد رمقهم..أظن، انجلت الصورة الإنسانية لهذا الإنسان الذي أصبح نباتيا مكرها لا بطلاً! لقد رسم الشاعر ببراعة وبأقل الكلمات هذه الصورة من المشاهد اليومية التي نمر عليها من دون أن نلتفت لها!
أمام القس/ في باحة الكنيسة، فحل حمام/ على أنثاه
والمفارقة جميلة وتبعث على التأمل في مفارقة الدين والحب، ولتعميق المفارقة تمنيت ياصديقي لو أن الانثى اعتلت الذكر!! ولنأخذ نظيراً له:
الديك في أعلى الكنيسة/ تصفعه الرياح على الخد الأيمن/ فيدير لها الخد الأيسر.
هذه مقطعية محض أوربية، ففي أعلى البنايات يوضع الديك من صفيحة معدن، ليحدد سرعة الرياح واتجاهها.. فهو مطيع لها، ممتثل لنصيحة السيد المسيح: من صفعك على خدك الايمن أدر له خدك الأيسر. وهناك نظير لمشهد زوج الحمام العاشق:
أواخر الخريف/ غرابان على الثيّل/ المنقار في المنقار.
الحب هنا يحمل مفارقة وهو أن موسمه الربيع!
أول الشتاء/ تفاحٌ على الغصون/ دودٌ في التفاح.
وهو مشهد أوربي مألوف حين يترك الناسُ في حدائقهم أشجار التفاح يتساقط منها التفاح حتى تتعفن في الارض وعلى الشجرة، وهناك أطفال "يسرقون" التفاح يسمى هذا الطقس في اسكندنافيا وهذا ما يغضب أصحاب البيوت اللؤماء! Palla äpple
الصبيرة الضخمة/ هدية الأحياء الى الموتى/ سرقت البارحة من المقبرة.
تمنيت لو زالت "البارحة" لتكون مدركاً يحدث في كل زمان؛ الأحياء يهدون الموتى والأحياء يسرقون حتى الموتى!
شجرة العائلة/الأحفاد فقط/ بالأخضر.
رائع يا جمال، الأحفاد عود أخضر غض الإهاب، الآباء يبس عودُهم يقول الشاعر:
إذا ما المرءُ شاب له قذالٌ – وعالجه المواشط بالخضاب
فقد ذهبت نضارته وأودى – فقم ياصاح نبكي على الشباب
أختار للشاعر جمال متنوعات لكي تتوسع دائرة الضوء على الهايكو لديه:
ذات عطر/ هذه الوردة الاصطناعية/ ولا تذبل.
ي ع ق و ب / أخ(على الحدود بين العراق وإيران1982)ي.
الصخرتان/ أرتال من النمل/ عبور الوادي,
يبدأ المطر/ تحت الأشجار المتشابكة/ حين ينقطع المطر.
البطريق واقف/ الجزيرة تتحرك:/ ذوبان الجليد.
سهمٌ في قلب/ على جذع شجرة / في شاحنة أخشاب.
أظن أن الحب استحال منضدة أو كرسياً، جدُّ رائع!
أختتم بهاتين المقطعيتين ذاتي الطعم الياباني وقد مرّ عليّ ما يشبههما في النصوص الانكليزية:
الهلال الذي/ يتلامع في غابة الخيزران/ مجرد منجل.
رقصة البرغش/ كي تعبرها طأطىء رأسك/ واغلق فمك.
لقد استمتعت حقاً برحلتي مع الشاعرين المبدعين حسين عبد اللطيف و جمال مصطفى؛ في الحلقة القادمة ستكون مع شاعرين عراقيين أو أكثر.
خالد جواد شبيل