علم الدّلالة والتّسميات : " سورايا " نموذجاً
أنور أتّــو
مقدمة عن علم الدّلالةعلم الدلالة هو أحد فروع علم فقه اللغة وهومصطلح حديث اول من وضعه العالم الفرنسي اللغوي برايل في سنة 1897، وقد اسماه السيمانتيك من الكلمة اليونانية "سيما " وتعني علامة أو إشارة .
يهدف هذا العلم ، إلى جانب البحث في معاني الكلمات واستخراج القوانين المتحكمة في تغييرها ، إلى اتباع المنهج التطوري التأصيلي الذي يقف علـى مـيلاد الكلمـات ويتتبعها في مسارها التاريخي، وقد يردها إلى أصولها الأولـى إذ كلّ ما في اللغة مأخوذ عن أشكال سابقة أو مستعار من لغات دخيلة يصبح استعمالها جزءاً من اللغة مع الزمن ، وهكذا فإن الاستعمال قد يؤدي إلى تغيّر الدلالة بتغيّر التجارب والأحداث وعندما ترثها الأجيال التالية من الأجيال السالفة، فإنها لا ترثها على حالها الأولى، وإنما تتلقاها مع بعض الانحراف في الدلالة، ثم يتعاظم هذا الانحراف مع توالي الأجيال ، وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن تفسير ظهور الترادف في كثير من الألفاظ بسبب التطور الذي يحدث للألفاظ خلال أطوار حياتها فمسألة الترادف في جوهرها مسألة دلالية قبل كل شيء وهي نتيجة التطور الدلالي في الألفاظ.
فقد ينتقل المعنى من العام إلى الخاص فكلمة " ماتا " كانت تعني الوطن تحوّلت دلالتها مع الزمن لتعني القرية في الاستعمال الحديث لها.
وقد ينتقل المعنى من الخاص إلى العام ، فمثلا اسم " قيصر" هو لأحد أباطرة الرومان (يوليوس قيصر) أصبح يدلّ على كلّ حاكم جبار وقد سُمّي بهذا الاسم لأن اسمه مشتقّ من الفعل شقّ باللاتينية حيث وُلد بعملية شق البطن تطوّر مدلول ( العملية القيصرية) لعملية الولادة بشق البطن.
وقد يحدث أيضاً أن يعمّ المعنى تبعاً للظروف الجغرافية والاجتماعيّة والدينية فمدلول " سورايا " تحولّ إلى مسيحي نتيجة البيئة المختلفة دينيّاً دون الأخذ بعين الاعتبار أن الأجنبي المسيحي لا يطلق على نفسه لقب " سورايا ".
علم الدلالة والتّسميات لو وضعنا التّسميات في السّياق التاريخي والحضاري والديني والجغرافي والاجتماعي لوجدنا أن الاختلافات فيها حدثت نتيجة التشابك ما بين أصول الكلمات ودلالاتها المتغيّرة مع تغيّر الظروف الخارجية والداخلية.
ورغم اعتراف الأكثريّة بوحدة " شعبنا " يحاول الجميع اثبات صحة الدلالة بتقديم البراهين التاريخية والواقعية وايجاد الحلول الاصطلاحية بتزاوج الدلالات المختلفة واعتماد الأسماء المركّبة كوسيلة لخلق دلالة جديدة تجمع ما بين الإرث الحضاري والاستعمال الشائع ، ورغم واقعية هذا الأسلوب إلا أنه لا يحل المعضلة خاصة من ناحية التسلسل التاريخي للدلالة ، وقد يؤدّي إلى اعتماد تسمية أعم واقعياً وهي " المسيحي" نتيجة التواجد في محيط مختلف دينياً وهذا ما يؤدي بالنتيجة إل استبدال الهوية القومية والحقوق القومية والثقافية بالهوية الدينية التي تدلّ أيضاً على " المسيحيين الجدد".
إن التسلسل التاريخي للتسمية يبدأ من آشور ويتحوّل " آشورايا " إلى " سورايا " بسبب العوامل الخارجية المعروفة ، وتتحوّل " آشوريا " إلى " سوريا " ثمّ يصبح المنتمي إليها " سوريايا " حيث تدل ياء النسبة "يا" إلى هذا الانتماء ، بينما يعمّ الاستعمال اللغوي " لآرامايا " للدلالة على الهوية الاثنية بدل اللغوية لو افترضنا أن اللغة المستعملة سمّيت " آراميّة " ، فالكلمة لا تشترك مع " سورايا " بحرف واحد ويدحض وجود التسمية " سورايا " قبل المسيحية أن الآراميين تبنوها بعد اعتناق المسيحية ، وإذا كانت الآرامية تعني الوثنية التي تخلّى عنها "السريان" فما السبب لتبنيها الآن! .
يدعو الدكتور يوسف حبي في بحثه المنشور في مجلة آرام 3-4 -1992 إلى " تجنّب الخلط بين الآراميين جنساْ والآراميين لغة ، فهؤلاء غير أولئك ، فالآراميون جنساً قبائل رحّل موطنهم الأصلي بادية الشام والآراميون لغة ورثة الحضارات المشرقية القديمة ". إن هذا الرأي هو توضيح لتغير الدلالة وانتقالها إلى العام مما يؤدي إلى الاختلاط. إن الادعاء أن هذه القبائل قد اختلطت بالآشوريين فبقيت ولكن انقرض الآشوريون وحدهم !
إن تعميم اسم اللغة حتى وإن كان صحيحاً على كامل الشعب والبلد قد يؤدي إلى المغالطة وذوبان الهوية نتيجة التبني الثقافي ، فهل يبرر تبني الثقافة العربية أو الأجنبية إلى تغيير الانتماء ؟ لقد تبنت شعوب أمريكا اللاتينية اللغتين الاسبانية والبرتغالية دون أن تفقد هويتها القومية.
لقد استخدمت لغة الرّها " الآراميّة " في الكنيستين الشقيقتين الشرقية والغربية وفي مجالات الكتابة والأدب واللاهوت والفلسفة ، وهي حتى يومنا هذا لغة واحدة موحّدة ، ولكنها مختلفة في تراكيبها وقواعدها عن لغة الشعب سواء كانت " السوادية " أو " الطورية " اللتين يعيدهما بعض الباحثين إلى الأكدية. إن هذه " السورت " تدل على الوحدة على المستوى الشعبي أولاً وعلى عدم دقة الانتماء اللغوي الرسمي ثانياً.
إن انتشار الدلاله واستعمالها قد يولّدان القناعة لدى مستخدميها بحتمية القبول بها كما هي، حتى وإن كانت تشكل مفهوماً منحرفاً عن الأصل وبالتالي الابتعاد عن ضرورة المعرفة بالتطور الدلالي وارتباطه بالتسلسل التاريخي وقد يلجأ المدافعون عنها حتى إلى ابجاد مبررات هزيلة لا لشيئ إلا للابتعاد عن الأصل التاريخي إما تجاهلاً للحقيقة وتعنتاً للأمر الواقع الذي فرضته الدلالة الجديدة أو جرياً وراء رغبات الحريصين على واقع التجزئة القائم ، وخير مثال على هذه المواقف السعي لإيجاد أصل لكلمة " سورايا " بالزّعم أنها مشتقة من " سورس " الملك كنسبة إليه والذي ظهر قبيل النبي موسى وهو من الجنس الآرامي، وقد استولى على بلاد سوريا وما بين النهرين وباسمه سميَّت هذه البلاد سوريا وأهلها سورسيين ثم حذفت السين فصارت سوريين، وكذلك سميت قيليقية نسبة إلى قيليقوس أخي سورس. من الغريب هنا أن هذا الملك لم يكن له دور يُذكر في التاريخ ليُنسب إليه شعب وبلد ، كما أن حذف السين أمر مبرر في حين سقوط الألف من بداية اسم " آشور " يعد أمراً مستبعداً !
التسميات والهوية الطائفيةأما الدلالة الأخرى لتسمية " سورايا " بمعنى " مسيحي " بشكل عام فقد تولّدت في بيئة محددة كما ذكرت سابقاً حيث كان " السورايي " المسيحيون محاطين بالمسلمين فكان كل سورايا مسيحياً والعكس صحيح. وهكذا فإن هذه الدلالة انتقلت من الخاص إلى العام في تلك البيئة المحددة بدليل أن الأجنبي المسيحي خارجها لا يطلق على نفسه لقب " سورايا ". لذلك نجد أن جيراننا يصنفون مكونات الوطن بالعرب والأكراد والتركمان والمسيحيين ، كما أنهم يطلقون اسم المسيحية على لغتنا فيقولون خطأً " إنه يتكلّم مسيحي ! "
أما الدلالة الخاصة لكل طائفة فقد كانت من نتائج الانقسامات الكنيسة التي أُوقعنا فيها ولم نتسبب بها ، تشكيل هويات بديلة اكتسبت دلالاتها على مر الزمن نوعاً من شرعية الأمر الواقع وقد سعت الجهات المسببة للانشقاقات إلى وأد الوعي القومي الشامل واتباع سياسة التجاذب وتثبيت الأمر الواقع.
من المؤكد أن التسميات الكنسية قد أسبغت هويتها على مؤمنيها حيث حلّ الخاص محل العام إلا في الحالات التي ذكرتها سابقاً حيث تجاوز الوعي حدود الخاص إلى العام وهذا الموقف يستحق التقدير ولكنه لم يستطع أن يصل إلى درجة التغيير الشامل لتبني الدلالة المعرفية للانتماء وتجاوز الدلالات الراسخة في النطاق الطائفي ، وقد يرى البعض أنه نتيجة تبني كنيسة المشرق التسمية الآشورية ، ولكن رغم منطقية هذا الطرح فإنه يدل أولاً على ايجاد الأعذار لقصور الوعي المعرفي من الوصول إلى شريحة أوسع من أتباع الطوائف نظراً لهذا الرسوخ في الدلالة والمحاولات الطائفية لإبقاء الأمر الواقع ، فالوعي القومي بشر به أبناء الكنائس الشقيقة قبل تبني كنيسة المشرق رسمياً التسمية الآشورية كنعوم فائق وآشور خربوط وفريد نزهة وآغا بطرس وهرمز أبونا وسعدي المالح وغيرهم .
والأمر الآخر هو خطورة تخلي كنيسة المشرق عن التسمية الآشورية فقد يبقى الخاص الكنسي عاماً مما قد يؤدي إلى فقدان هذا الجزء أيضاً للانتماء القومي دون تحقيق الهدف الأعم ألا وهو تعميم الانتماء القومي حيث يمكن أن تصبح المشرقية أو النسطورية الهوية البديلة دون الاتفاق الشامل على التسمية الآشورية .
أما الأمر الثالث فقد أسفرت النقاشات ومحاولات التوحيد عن انطباع عام وايجابي نسبياُ بوحدة الانتماء رغم اختلاف التسميات.
ترادف دلالة التسميتين الآشورية والسريانية إن الاستعمال ، كما أسلفت ، قد يؤدي إلى تغيّر الدلالة بتغيّر التجارب والأحداث وعندما ترثها الأجيال التالية من الأجيال السالفة، فإنها لا ترثها على حالها الأولى، وإنما تتلقاها مع بعض الانحراف في الدلالة، ثم يتعاظم هذا الانحراف مع توالي الأجيال ، وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن تفسير ظهور الترادف في كثير من الألفاظ بسبب التطور الذي يحدث للألفاظ خلال أطوار حياتها فمسألة الترادف في جوهرها مسألة دلالية قبل كل شيء وهي نتيجة التطور الدلالي في الألفاظ.
رغم أن الحقائق التاريخية والجغرافية تؤكد أن الاسم الآشوري يجسّد الانتماء القومي والحضاري إلا أنّ تبني دلالته محصور في الحاضر بأتباع كنيسة المشرق الآشورية ومجموعات أخرى تابعة لكنائس شقيقة تجاوزت بوعيها الدلالة الطائفية إلى البعد القومي الشامل ، إلا أن تسمية " سورايا " بدلالاتها المختلفة أصبحت عامة تشير لدى مستعمليها إلى هذا التعدد الذي قد يوحّد الشعب رغم اختلاف الدلالات ولكنه قد يسقط الحق القومي والحضاري إلا عند الإعتراف بترادف الأصل الآشوري باستعماله " سورايا " اللاحق والحصول على الشرعيّة الشعبية ومن ثمّ الوطنية والدولية.
لقد احتوت الصخرة المكتشفة مؤخراً في جنوب شرق تركيا بالقرب من مدينة أضنة على كتابة تعود إلى 800 سنة قبل الميلاد ألقت الضوء والمكتوبة باللغتين الفينيقية واللوفيان-الحثية أن أن كلمة آشور في النص الفينيقي مذكورة سور في النص اللوفياني – الحثي ، وقد أكّد البروفيسور روبرت رولينغر من جامعة (ليوبولد فرانسيس ) في انسبروك بالنمسا والذي يعتبر أبرز عالم في تاريخ لغات وثقافات الشرق أن هذا الاكتشاف قد حلّ لغز التسميتين وأن هذا الاكتشاف سيضع حدّا للنقاشات حول موضوع التسمية! للأسف مرّ هذا الاكتشاف دون أن يغيّر المواقف ويضع حدّا لهذا النقاش.
الخاتمةإن دلالة الكلمة قد تتغير حسب الظروف المختلفة وقد تفرض مفهوماً منحرفاً عن الأصل يبتعد عنه قليلاً أو كثيراً ، وقد تعمّ الدلالة الجزئية لأسباب عدّة داخلية وخارجية قد تؤدي إلى الاختلاف والتخبط وربما الاستغلال من الغير.
إن الفرق بين المفهومين هو الفرق ما بين الواقع والحقيقة حين لا يتطابقان فيصبح الإيمان بالواقع ابتعاداً عن الحقيقة وخيانة لها والعكس صحيح.
إن انتشار تسمية " سورايا " قد يكون مفهوماً في إطار الترادف المذكور لتسمية " آشورايا " الحضارية والقومية لا بربطها بدلالتي " الآرامي " و " المسيحي " .