عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - صلاح سليم علي

صفحات: [1]
1
مع الجيش العراقي في عنفوانه



صلاح سليم علي

يتطلب بناء الأمبراطوريات جيوشا قوية..وكانت أولى امبراطوريات العالم التي تأسست في العراق ترتكز على جيوش قوية تتمحور عقيدتها العسكرية على التوسع في الأرض والهجوم درءا للشرأكثر من اعتمادها على التحصينات الدفاعية والدفاع لعدم وجود تحصينات دفاعية طبيعية تحمي العراق من العدوان في حدوده الشرقية والغربية والشمالية..وهذا لايعني ان هذه الدول اهملت التحصينات الدفاعية كما يتضح عيانا في مدنها العظيمة [ان نظرة الى الصخور العملاقة في قاعدتي بوابتي شمس وسنحاريب المستظهرتان جزئيا تؤكد تركيز الآشوريين على ضرورة تحصين الضلع الشرقي لنينوى وطبيعة توقعات الآشوريين لجهات الهجوم على نينوى]..وتعد الأمبراطورية الاشورية من أعظم امبراطوريات بلاد الرافدين والعالم وأقواها وأكثرها توسعا في الأرض وأطولها عمرا..وهنالك جملة اسباب لذلك من أهمها تمحور الدولة كإدارة على الجيش بحيث اصبحت ادارة الدولة هي ادارة الجيش وادارة الجيش هي إدارة الدولة، ويتبع ذلك ان اقتصاد الدولة الآشورية هو اقتصاد عسكري تتجه فيه موارد الدولة وقنوات انفاقها الى الجيش والتصنيع العسكري وتطوير التجارة والمواصلات التي تيسر التصنيع العسكري وتسهل حركة القوات المسلحة..فكان سيل الأخشاب والخيول الذي ترتكز عليه العجلات العسكرية لايتوقف من الشرق والغرب ..وبدلا من الأعتماد على قوى أجنبية لأستيراد الخيول وألأخشاب عمد ألاشوريون الى السيطرة على المصادر الرئيسة للخيول والأخشاب والمعادن في ايران ولبنان والأناضول على التوالي..وكان لابد لعسكرة الدولة عسكرة المجتمع ولكي يكون المجتمع مجتمعا عسكريا اي يكون الجيش هو الشعب، لابد من تيسير انتقال الأوامر من أعلى الى اسفل وليس العكس مما يستوجب ان يكون المجتمع طبقيا يحتل المراتب الدنيا فيه الفلاحون واقرانهم في قاعدة الهرم الذي يحتل رئيس العشيرة والكهنة والملوك القمة..وفي مجتمع كهذا يصبح انتقال ولاء الناس من ولاء لشيوخ العشيرة او ولاء للأب الى ولاء للدولة امرا يسيرا وبخاصة ازاء تحالف الشرائح العليا في المجتمع ازاء الشرائح الدنيا فيه ...وهو تحالف ضمني يحتكر المشروعية وصياغة القوانين وفرض الألتزامات والتشريعات التي تصدر من الملك ولاتعوزها المشروعية التي يصدرها الكهنة باعتبارهم ممثلين لإرادة الآلهة في الأرض..وفي الواقع فإن وظيفة الكهنة تتجاوز التشريع الى إضفاء المبررات ألايديولوجية للدولة متمثلة بالملك والنبلاء وكبار التجار والمزارعين [الإقطاعيين] لأي عمل عسكري يقومون، أو يزمعون على، القيام به..وفي دولة يتجه كل شيء فيها الى الحرب يتحول الدين نفسه الى واجهة عسكرية ويكون الإله او ألآلهة المهيمنة كلها آلهة حرب..وهكذا نجد آلهة آشور كلها حتى عشتار ربة الحب آلهة مقاتلة..وبينما تفضي معظم الحروب الى تعزيز قوة الملك وتضاعف ثروته وتديم مصالح الطبقات المهيمنة في المجتمع وتتمثل فوائد الناس في مثل هذه الحروب بغنائم افتراضية..كتحقيق إرادة الآلهة بسحق العدو وتحقيق الأمن من عدو اجنبي  بالإنتصار عليه وضم اراضيه بل واذلال آلهته، تأتي حروب أخرى تلبية لضرورات امنية وتعبيرا عن حيوية الأمة وحاجتها الى المجال الحيوي لنمو ابنائها وتأمين حاجاتهم الحيوية..فالحرب في العصر الآشوري حتمية إلهية  من واجب الملك والأمة بأسرها تنفيذها.. وترتب على الحروب الكثيرة التي خاضها الآشوريون تشكيل اول جيش دائمي يرتكز على الصنوف ..وتوجيه اقتصاد الدولة بأسره الى خدمة الجيش..وقد تحقق تشكيل الجيش الاشوري الدائمي خلال حكم الملك الآشوري مؤسس أقوى امبراطوريات العالم القديم تكلاثبليزر الثالث..وكان تعداد الجيش يتراوح بين 150.000 و 200.000 رجل يتوزعون على الصنوف العسكرية المختلفة ..وكان ثلث هذا العدد يكرس لحماية المقاطعات ..ويطلق حوالي 50.000 مقاتل من صنوف المشاة والعجلات والخيالة وصنفي الرماة [في القوس والنشاب والمقاليع] في المعركة [أي مايعادل  خمس فرق ثقيلة في الجيش الأميركي أو ثماني فرق ميدان حديثة في الجيش الروسي]..وعندما يتم نشر هذه القوة في الميدان فإنها كانت تغطي مساحة تقدر بميل ونصف طولا وبضع مئات من الأمتار عمقا ..وكان الآشوريون أول من ابتكر كتائب خيالة كبيرة مدعومة بصنف خدمي مهمته تجهيز الخيول البديلة للخيول التي تسقط أو تصاب في المعركة أو تنشأ الحاجة اليها مع اتساع نطاق المعركة..وكان هنالك 3000 حصان احتياط تجهز شهريا لتلبية الحاجة اليها في المعارك..مع ابقاء قوات ساندة في ظهير الجيش تتناسب مع حجم القوات المعادية وتجهيزاتها..وكانت قوات الصولة في الجيش الآشوري تتألف من بضعة آلاف من النخبة تشكل قلب الجيش..وتسند قوة الصولة مجموعة من المشاة يطلق عليها الظهيراوالأصدقاء تقوم بإسناد الصولة من الظهر..وكان الجيش الآشوري يتحرك وفق خطة عسكرية تتفق مع طبيعة طوبوغرافيا ارض المعركة والهدف او الأهداف القتالية المطلوب تحقيقها..إذ تختلف حرب حصار المدن عن المواجهات الميدانية وتختلف معالجة المناطق الجبلية عن معالجة مناطق الأهوار والغابات..وكانت العجلات [المركبات] الآشورية كبيرة وثقيلة أعتمد في بنائها الآشوريون على النموذج الحيثي مما جعلها اُثقل وأكثر صلابة مقارنة بالعجلات المصرية الخفيفة والسريعة التي يجرها حصانان..ولكن للعجلة الاشورية قدرة على حمل ثلاثة مقاتلين من المشاة أحدهما يحمي الحوذي والآخر يقوم برماية النشاب واستعمال الرماح في حال اقتراب العدو راجلا او راكبا عجلة أخرى او فرسا من عجلته، وتجر بعض العجلات الآشورية أربعة خيول بدلا من حصانين..كما عمل آشورناصربال على اكثار عدد برامق العجلة [اطار العجلة] من ستة الى ثمانية للعجلة الواحدة [ للعجلة الحيثية اربعة برامق وللعجلة المصرية ستة برامق] مما ييسر سيرها في الجبال وحملها للمقاتلين..و يماثل صنف العجلات قديما صنف الدبابات في الجيوش الحديثة..

ومن المدن العظيمة التي حاصرها  الآشوريون بابل على عهدي توكولتي نينورتا ألأول عام 1239 ق.م. وسنحاريب عام 689 ق.م. ودمشق على عهد تكلاثبليزر الثالث وصيدا وممفيس على عهد أسرحدون وسوسة وبابل مجددا وطيبة على عهد آشوربانيبال، هذا فضلا عن المعارك الكبرى التي سحق فيها ألآشوريون قوى اجنبية ابرزها أورارطا [ارمينيا] وعيلام وضموا الى امبراطوريتهم معظم اراضي بلاد فارس وآسيا الصغرى حتى اصبحت اسرائيل تحت الحكم الآشوري ومعها قبرص ومصر.. وقد عمد تكلاثبليزرالثالث الى تقليص الإعتماد على العجلات واحل محلها الخيالة تدريجيا وبخاصة أزاء تحول وجهات القتال نحو ميديا في زاكروس واورارطو في آسيا الصغرى..

ولاريب ان قيام الاشوريين ببسط سيطرتهم على الطرق التجارية وتوسعهم شمالا في الأناضول، والتوغل في الأراضي الواقعة شرقي زاكروس وهيمنتهم على مدن سواحل البحر المتوسط كان بهدف توفير الموارد الضرورية للجيش كالمعادن والخيول والمواد الأولية والغذائية ..وكان مردود هذا التوسع  في الأرض ضمان الأمن المائي بحيث تمتد القوة الآشورية من منابع الأنهار وروافدها وحتى مصباتها النهائية في البحار..فضلا عن ضمان الأمن الإقتصادي بتأمين استمرار تدفق الحبوب  والأعلاف والمنتجات الزراعية من الغرب وآسيا الصغرى...فبات من الضرورات الحفاظ على جيش قوي دائمي وادارة مركزية حازمة لتأمين استمرار الأمن في المركز الآشوري وفي الأطراف وتامينهما بما يؤمن سلامة طرق المواصلات البرية والنهرية والمنافذ المفتوحة على البحار..ويتفق البحاثة في التاريخ الآشوري على ان انتقال الفينيقيين الى شمالي افريقيا، كان بسبب الضغط الآشوري المتواصل على مدنهم في الساحل الشامي...وان جانبا كبيرا من تقنيات الحرب اخذه الفينيقون والرومان من الاشوريين الذين يعدون اسياد العالم القديم بلامنازع..

وقد ورث الاشوريون التقاليد الأمبراطورية وبناء الجيوش الدائمية القوية من الأمبراطورية السرجونية التي اسسها سرجون الأول او سرجون العظيم المعروف في عصره والعصور التي تلته بملك المعركة، ويعني اسمه [شروكين] الملك المشروع او الملك الحقيقي..ويشبه سرجون الأول النبي موسى (ع) في قصة مولده..وكان رئيسا لبلاط الملك السومري أورزوبابا ملك كيش..ويعد أول ملك في تبني سياسة توحيدية في شروعه بتوحيد دويلات المدن الرافدينية تحت ادارة مركزية واحدة في خطوة اولى قبل التوسع العراقي ألأول  ليشمل منابع الروافد التي تغذي نهردجلة خلف جبال زاكروس في العمق [الأيراني]، وآسيا الصغرى [تركيا]، وسورية فضلا عن نهري الفرات والخابور..واضعا بذلك التخوم الجغرافية - السياسية للدولة العراقية التي اعتمدها من بعده الملوك الآشوريين ووسعوها، ويعد سرجون الأول أو سرجون ألأكدي أول ملك في العالم يشكل امبراطورية تضم أعراقا مختلفة ضمت عيلام وماري وإبلا وطوروس (جبل الفضة)  في الأناضول، وامتدت جنوبا حتى ديلمون (البحرين) تتم إدارتها من مركز واحد هو العاصمة أكد التي بناها سرجون عاصمة لبلاده قبالة بابل..وقد استمرت الأمبراطورية العراقية الأولى في سلالة سرجون لقرن ونصف..وعلى الرغم من ابقاء الديانة السومرية، ادخل سرجون اللغة الأكدية السامية التي اصبحت لغة الأمبراطورية.. وقد خاض سرجون الأول معارك عديدة انتصر فيها كلها، وكان له جيشا دائميا اعتمد اصناف المشاة والرماة واستخدم الأسلحة البرونزية والسيوف المنجلية والأقواس المركبة والمركبات رباعية العجلات وآلات الحصار. ولابد من ألأشارة الى ان علاقة سرجون الأول بالحوريين كانت ودية بسبب اواصر الزواج التي ربطت بين اوركيش وأكد..
 
ولم يكن سرجون الأول في الواقع اول من اسس جيشا دائميا فقد سبقه في ذلك ملوك دويلات المدن السومرية الذين انشغلوا بحروب شبه دائمية مع العيلاميين وهم من اولى الأمم الأيرانية التي حاربت العراقيين وحاربوها..بل وتمتد هذه الحروب مع هذا العدو الأجنبي حتى العصر الحجري الحديث أي منذ الألف الخامس قبل الميلاد وقبل عصر البرونز واستخدام الأسلحة البرونزية  وقبل التدوين واكتشاف الكتابة من قبل اسلافنا في سومر.. ويظهر اول تسجيل لمواجهة بين اسلافنا وخصومنا العيلاميين بعد اختراع الكتابة في سومر عام 2700 ق.م. عندما خاض اول ملوك سومر وهو ميباراكيزي حربا مع عيلام وحمل اسلحة عيلام غنائم حرب الى سومر.. وكان قد خاض المعركة مع العيلاميين في المنطقة نفسها التي دارت فيها رحى الحرب العراقية الايرانية الأخيرة..وقد حفز الخطر الأيراني المستمر على مدى الفي سنة السومريين لأبتكار تكنولوجيا عسكرية تفوقت على مثيلاتها في عصرها..ومن ابرز ملوك سومر المقاتلين ايناتوم ولوكال- كازيكي واورنمو وشولكي.. ويعود الفضل في تأكيد وحدة العراق في شماله وجنوبه الى سرجون الأكدي الذي وضع الأسس لخارطة العراق وامتداداتها الإقليمية على نحو انتهجته بعده الأمبراطوريتين البابلية والآشورية..

ونتعرف في حمورابي (1792-1750) على بسمارك العراق القديم لأنه انتهج سياسة مماثلة لسياسة التحالفات البسماركية في اعادة توحيد بلاد مابين النهرين تحت ارادة سياسية جزرية واحدة، فامضى حمورابي العقدين الأولين من حكمه الطويل في توطيد مرتكزات حكمه في بابل وبنائها وتحصينها وشق الترع والقنوات واصلاح الزراعة وتشريع القوانين..  ثم بدأ في تشكيل تحالفات دبلوماسية وعسكرية بدءا مع لارسا وماري في الهجوم على عيلام العدو اللد لأكد والمتحالفين معها في آشور وأشنونا، وبعد معارك متكررة استغرقت سنة تمكن من احراز نصر حاسم على العيلاميين ودحر اشنونا فانتقل لمحاربة ريمسين ملك لارسا ومعظم جنوبي العراق بذريعة ان الآلهة هي التي وجهته لحرب لارسا فتغلب على ملكها ريمسين بعد ردم القنوات التي ترفد منطقته بالمياه وحصار لارسا نفسها على مدى ستة أشهر..وكان زيمريليم ملك ماري قد ارسل له 2000 جندي للمساعدة في حربه ضد عيلام..والأرجح ان حمورابي فضل بقاء الجنود للقتال الى جانبه واستمالهم  بالأموال ففضلوا البقاء معه على الرجوع الى ماري مما عكر العلاقات بين حمورابي وزيمريليم الذي تلقى رسالة من حمورابي يؤكد له فيها عدم رغبة الجنود بالعودة وعائدية هيت لبابل التي تعتمد بابل على قيرها في بناء الزوارق والعمائر بينما يريدها زيمريليم لممارسة طقوس عقوبية في نهر الفرات..مما اغضب زيمريليم ودعى حمورابي الى الهجوم على ماري وحرقها وانهاء مملكتها الى الأبد..ثم التفت الى اشنونا (نوزي) في هجوم حاسم مدمر بعد ان ردم موارد المياه عنها فأنهى وجودها عام 1757..مؤسسا لأمبراطورية هي الأمتداد الطبيعي لأمبراطوريتي سرجون الأكدي وأور الثالثة، وكان حمورابي هو اول من وضع الأسس للإدارة الأقليمية بأرسال حكام محليين يحكمون باسمه في المدن التي يتم ضمها لأمبراطوريته ..وهو اول من استخدم المياه في الحرب واسس لمفهوم السيادة السياسية والسيادة على الأرض والمياه ضد اعداء الشرق والغرب بعد ضربهما أحدهما بالآخر وضربهما منفردين واحدا تلو الآخر..

لقد ثبت حمورابي الأسس الجغرافية والسياسية للأمبراطوريات الرافدية اللاحقة معتمدا على النموذج الأكدي..واضفى الى مدينة بابل بعدا طقوسيا من خلال مهرجان بابل السنوي (الأكيتو) المكرس لتقديس مردوخ الذي اصبح إلها حاميا للمدينة التي يترتب على الملوك كلهم السفر اليها لحضور احتفالات انتصار مردوخ على تيامات فيها خلال 12 يوما تبدا في 21 آذار..ومن مفارقات التاريخ الغريبة ان يصادر هذا العيد العراقي الصميمي وهو عيد سيادة حمورابي على اقوام زاكروس، أحفاد اعداء بابل فيعدونه [أي الفرس وذيولهم] عيدا لهم يطلقون عليه النوروز ويلصقون به خرافات لا اساس لها في تاريخ خيالي لايوجد اي نص تاريخي مدون يدل على وجوده خارج اخيلتهم..
 
بيد أن اخطر مايتعرض له العراق عبر تاريخه الطويل هو فراغ القوة او حالة الأستقرار في غياب جيش دائمي يدافع عن العراق في حال تعرضه لحالات عصيان من الداخل او عدوان من الخارج..وكلما تنشأ هذه الحال يتعرض العراق لأنتكاسة وقد حدثت في عام 1585 ق.م. عندما اندفعت القوات الحيثية الى بابل فنهبتها وخربت اسوارها وعمائرها ومعابدها ونهبت تمثال مردوخ واخذته الى حاتوشا [بالقرب من أنقرة العاصمة السياسية لتركيا الحالية]..تاركين المدينة خرائب بلا قوة تدافع عنها مما ترك فراغ قوة دفع الكاشيين الى غزو المدينة وتأسيس سلالة زاكروسية ديلمية في بابل استمرت زهاء 400 سنة..غير ان الكاشيين يشبهون اقوام الجبال في جهالتهم بفنون الحضارة فعمدوا الى تبني الثقافة البابلية واللغة البابلية وتمثل التغيير الوحيد الذي احدثوه ان اطلقوا على بابل اسم [كاردونياش] على عادة الفرس والديلم واذنابهم في تغيير اسماء المدن.. لحين اقصائهم عن عرش بابل من قبل الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول ابن الملك القوي شلمنصر الأول وحفيد ادد نيراري الأول..وكان على بابل ان تنتظر استقلالها ونهضتها الوسيطة على عهد نبوخذنصر الأول..ثم نهوضها بعد نينوى على عهد نبوخذنصر الثاني..

وعلى الرغم من التنافس بين آشور وبابل، فلكلتيهما التقاليد الثقافية والعقيدية والفنية نفسها والتاريخ المشترك نفسه فضلا عن حقيقة كون آشور بعواصمها الكونية وبابل عروس العالم القديم ومعها الحواضر العراقية من منابع دجلة والفرات وديالى والزابين والعظيم كانت ومابرحت مواطن للشعوب والأمم الجزرية والثقافة التي تسودها هي ثقافة متجانسة تعكس روح السهول والصحراء المفتوحة على الأبد وليس ثقافة الجبال المغلقة على بدائيتها عبر العصور..

ولم تختلف اسلحة حمورابي كثيرا عن اسلحة اسلافه فقد عمد الى استخدام الأسلحة نفسها التي استخدمها اسلافه السومريين والأكديين ..ولكنه اضاف اليها تكتيكا استخدمه لأول مرة في التاريخ العسكري وهو ردم قنوات المياه وحرب خصمه مائيا كما في حربه مع ريمسين ملك لارسا وحربه ضد أشنونا..ويختلف حمورابي بطول فترة اعداده للحرب التي أجلها حتى العقدين الأخيرين من حكمه وصبره على الخصم على الرغم من ضيق خلقه ومزاجيته..ومن الأسلحة التي استخدمها الحراب والهراوات ومناجل الآلهة والسيوف ولعله استخدم المقاليع ..غير ان مصادرنا لاتوفر مايؤكد استخدامه لها ...وكان حمورابي اول حاكم بعد سرجون الأول يؤسس للسيادة الرافدية على الأرض باعتبارها تشمل منابع الأنهار ومصباتها ..فالأنهار في نظر الأقدمين مقدسة وهي هبة الآلهة للأمة وان ملك منابعها العدو يكون بمقدوره التحكم بشرايين الحياة التي تغذي الأمة بدمها وحياتها..ولنا ان ننتظر ملوك آشور في القرنين الثالث والثاني عشر ق.م. آشور اوباليت الأول 1353-1381، وأدد نيراري الأول 1295-1264 و شلمنصر الأول 1263-1234 و تكلاثبليزر الأول 1114-1076 و وملوك الألف الأولى ق.م. المؤسس آشوردان الثاني 934-912 والملك العظيم آشورناصربال الثاني 883-859 وشلمنصر الثالث 858-824 وملوك الشرق الأدنى القديم تكلاثبليزر الثالث 744-727 ق.م. وسرجون الثاني 721-705 و سنحاريب 704-681 واسرحدون 680-669 وآشوربانيبال 668-631.. لنطلع على طبيعة نظرتهم الى الأرض والسيادة والجهود العسكرية والعمرانية التي بذلوها انطلاقا من هذا المفهوم..

وأول مايلفت انتباهنا في تلك المرحلة من التاريخ الأمبراطوري في العراق الثورة في تكنولوجيا الحرب والتفكير العسكري الذي صاحب استخدام الحديد بديلا عن البرونز في تكنولوجيا الحرب سواء في صناعة الأسلحة الخفيفة كالرماح والسيوف ذات الحدين بالأضافة الى مناجل الآلهة [السيوف المنجلية] والفؤوس فضلا عن ضخامة حجم الجيش وتطوير اساليب التعبئة والسوق والمواصلات وتيسير المرونة التكتيكية والستراتيجية ..كما طور الآشوريون حرب الحصار الذي يفرضونه على المدن العاصية بابتكارهم للأبراج المتحركة والمناجيق والكبوش ذات الرؤوس الحديدية واعتمادهم الأدارة العسكرية الهرمية والمعسكرات الثابتة والمتنقلة والتدريب العسكري..كما استخدموا كافة اساليب النقل البري والنهري كالخيول والجمال والبغال والحمير والعجلات وطوروا المقلاع الذي يقدم افضلية في الهجوم على المدافعين من الأبراج او المشاة المحميين بالدروع الطويلة لأن الحجارة تكتسب قوة بهبوطها على الخصم بينما تفقد السهام من قوتها في اثناء الهبوط..كما طور الآشوريون اصناف الهندسة العسكرية في اختراق تحصينات العدو من اسفل السور او بطريق الضفادع البشرية واجادوا في استخدام الدعاية والحرب النفسية..مما جعل من العراقيين أمة عسكرية مقاتلة لاسبيل الى قهرها على عهود اولئك الملوك الأقوياء..

وفي كل مرة يبني العراقيون دولة عظيمة يضمر اعدائهم الشر كله لأسقاط دولتهم وغزو اراضيهم وتخريب حرثهم ونسلهم..وغالبا مايدخل العدو في تحالفات عسكرية عدوانية كالتحالف ضد حمورابي والتحالف ضد شلمنصر الثالث والتحالف ضد تكلاثبليزر الثالث والتحالف ضد سرجون الثاني واخيرا التحالف الميدي السكيثي الفارسي الذي اسقط الأمبراطورية الآشورية عام 614-612 ق.م...وقد شهد العراق نهضة وطنية على عهد نبونايداس ابن نبوخذنصر الثاني االملك الآشوري لبابل ..ولكن الفرس هاجموا بابل على عهد ابنه بالشازار واسقطوا بابل الكلدية ليؤسسوا في العراق حكمهم الذي استمر بضعة قرون كالأحتلال الكاشي من قبله..وبات العراق خرائب تنتظر نهضة جديدة وفجرا جديدا يأتي من الصحراء هذه المرة..

وكان دفق الصحراء هذه المرة مصحوبا بعقيدة تؤمن ان القتال و (الأستشهاد) فيه هو الطريق الوحيد للحياة الأبدية..فانطلقت الجيوش العربية الجزرية الى الشرق الأدنى لتكتسح الأمبراطورية الساسانية وتدفع البيزنطين في عمق آسيا الصغرى وتضم اجزاءا واسعة من قارتي آسيا وافريقيا وتمتد في اوربا فتصل حدود الصين شرقا وجنوبي فرنسا غربا..وكان ان كرر التاريخ نفسه مع عبدالرحمن الغافقي في بواتيه حيث لم تسنده التعزيزات الضرورية لمواصلة التقدم في اوربا تماما كما حدث لهانيبال بعد معركة كانيا..فالعرب في حروبهم كلها اعتمدوا على اسلحة خفيفة وبدائية على الأغلب كسيوفهم الشخصية وخناجرهم ورماحهم .. ولم يعتمدوا في حروبهم المبكرة على آلات الحصار كما هو الحال لدى اسلافهم البابليين والآشوريين..وكان العمود الفقري للجيش الإسلامي المبكر المشاة الراجلة والمحمولة على الجمال..ولكن مع توسع العمليات القتالية اصبح للمسلمين جيوشا محترفة واسلحة متطورة تضمنت الزرود والدروع التي تحمي الصدر والذراع والخوذ المزرودة بما يحمي الرقبة  والحراب والتروس صغيرة الحجم والرماح والهراوات والفؤوس والأقواس والسهام مع كنانتين في كل واحدة 30 سهم وقوسين لكل مقاتل..كما طور المسلمون آلات الحصار كالكبوش والمناجيق ..اما في مسائل التخطيط القتالي والتكتيك فتجاوزوا الساسانيين والروم البيزنطيين..ويتميز الحصان العربي بمرونة هائلة يسرت للعربي المجادلة بالرمح والرمي بالقوس والنشاب من فوق ظهر الحصان..

ولكن نظرة المسلمين للسيادة تختلف عن نظرة اسلافهم من ملوك العراق ..كون تصورهم للعالم يرتبط بعقيدة تجعل الأرض كلها لله والسيادة في الأرض كلها للأمة [الإسلامية] وليس للعرب او للفرس او للترك ومااليهم من أمم وشعوب على وجه الأرض ..مما وضع السيادة، من الناحية النظرية والعقيدية على الأقل، خارج الحدود الأثنية والقومية للأمم والشعوب..فالهوية الجديدة للأنسانية ليست قومية او عنصرية بل عقيدية إسلامية والقانون الذي يحكم هذه الأمة هو الشريعة التي ترتكز على القرآن والسنة..وقد ترتب على هذا التحول، شعورا بازدواجية الهوية او الأنتماء الى قومية بعينها والى امة بعينها، وبينما تشترك جملة من العوامل على تحديد الأنتماء القومي كاللغة والتاريخ والتقاليد القومية والعمق الحضاري الذي يمتد لعهود سبقت ظهور الأسلام، لايوجد مشتركات لسانية او تاريخية او حضارية تحدد الأنتماء الى الإسلام ولاتمنع الفروق اللسانية والتاريخية والحضارية اعتناق هذا الدين أسوة بالأديان الأخرى.. وفي مراجعتنا لتاريخ الدولة الإسلامية تبرز مشكلة ازدواجية الأنتساب لدى الفرس والأمم الآسيوية بوضوح، ولاسيما أزاء الأنشقاقات المذهبية والسياسية والطبقية التي ظهرت في الحاضرة العربية الإسلامية في أواخر الخلافة الراشدية وبدايات الدولة الأموية واستمرت حتى العصر الحالي مفرزة تعدديات جديدة في الهوية العقيدية والأنتساب العقيدي نفسه..بحيث لم نحصل في آخر المطاف على إسلام واحد بل على طائفة عريضة من الإسلام: اسلام شيعي واسلام سني واسلام قادياني واسماعيلي ووهابي وسلفي وهي في تهاتر وتناحر دائمين فيما بينها..وبينما يقسم النظر الإسلامي العالم الى دارين دار اسلام حسم فيه أمر السيادة للمسلمين والخليفة الواحد، ودار حرب لم تحسم فيه السيادة بعد للمسلمين..افرزت العوامل التاريخية التي يشترك الآخر العقيدي واللساني والحضاري في تاسيسها وخلقها قوى جديدة وتيارات جديدة بدءا بالموالي وانتهاءا بالعولمة وهيمنة رأس المال ومرورا بالحروب الصليبية والنابليونية والحركات القومية والشيوعية...ومما زاد الطين بلة ان المسلمين انتقلوا الى دار الكفر او الحرب بينما تحرك الكفار الى دار الإسلام من خلال آيديولوجياتهم الجديدة وتكنولوجياتهم الجديدة..على نحو اصبح تقسيم العالم الى دارين مسألة نظرية تنتسب الى التاريخ وليس الى الواقع..فليس من قبيل المعقول فرض جزية على المسيحيين العرب..او مواصلة الجهاد في اوربا والغرب مع تغير العالم وتحول مراكز القوة الى الغرب..

إن العراق بني في الوعي الأسطوري وبالضرورة التاريخية على الحرب..فأسطورة الخلق البابلية [أينوما ايليش] تصف حربا أوائلية بين مردوخ ممثل قوى الخير والحياة والتشريع والنظام والبناء وعمارة الأرض، في صراع دام مع تيامات التي تمثل قوى الشر والموت والفوضى..فينتصر عليها..ويشطرها نصفين يصنع منهما الأرض والسماء ..ثم يقتلع عينيها ليزرعهما في الأناضول ليتدفق منهما نهرا دجلة والفرات..فنهضت أريدو وشروباخ واور وكيش ولاكش وأكد وبابل وآشور وكالخو ودور شروكين ونينوى ودمشق وبغداد..واتسعت الروح العربية وريثة الثقافات الجزرية في المكان لتصل الصين بأوربا حاملة معها روح الشرق وفنونه وتقاليده وذوقه..

على ذلك واصل الجيش العراقي القيام بواجباته في الحفاظ على الحواضر العربية الإسلامية، والتوسع في الأرض بالإتجاهات كلها ..علاوة على اضطلاعه بمهمة التصدي للفتن وحركات العصيان الداخلية ودحرها.. ولقد كانت آخر المعارك الكبيرة التي خاضها الجيش العراقي قبيل معركتي الفلوجة الأولى والفلوجة الثانية، وبعد معركة أم قصر، معركة المطار..وهي من المعارك الكبرى التي تصنف الى جانب معارك بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين..ليس بتأثيرها التاريخي ..بل بقوة المقاومة البطولية في التصدي لعدوان لجأ الى استخدام اسلحة حديثة مدمرة ..مع ذلك واصل الجندي العراقي الدفاع عن ارض العراق دفاعا بطوليا أعجز القوة الأميركية الغازية في تحقيق اي تقدم نوعي ولو بمسافة انج في اتجاه الجيش العراقي او بالأحرى نخبة من هذا الجيش..وهنا لجأ العدو الأميركي وبأعتراف دوائر غربية عديدة الى الحسم بطريق القنبلة النترونية التي استخدمها لأول مرة ضد تلك النخبة البطلة..والقنبلة النترونية من اشد انواع الأسلحة القذرة التي استخدمها العدو الى جانب اليورانيوم المنضب في مقاومة الدبابات العراقية وقوات الحرس الجمهوري..إذ ان لها القدرة على تدمير الأنسجة الحية واتلافها مع ابقاء الجمادات من مبان ومنشئات بدون ضرر غير التلوث النتروني...

وكان لجوء العدو الى هذه القنبلة تعبيرا صريحا عن عجزه في مواجهة الجيش العراقي بالأسلحة النارية والمدفعية ...وهو حسم يذكرنا بلجوء العدو نفسه الى القنبلة الذرية في ضرب اليابان في الحرب العالمية الثانية..

وهنا لابد من التأكيد على الحقيقة القائلة بأن الحروب لاتقاس بحجم التدمير او بالإستخدام المفرط وغير المتكافيء للقوة..بل تقاس بالشجاعة في التصدي للعدوان وما لجوء العدو الأجنبي الى القنبلة النترونية في معركة بغداد او معركة المطار سوى تعبير واضح عن عجزه في مواجهة الجيش العراقي بأسلحة تقليدية...وبذلك لايسجل الإنتصار بالمعنى التاريخي والأخلاقي للعدو بل للجيش العراقي العظيم وهو يسجل واحدا من اعظم انتصاراته وهو في ذروة عنفوانه...

وفي مقارنتنا للعراق القديم بعراق اليوم نذهل إذ نرى أن الوعي السياسي لأسلافنا قد تحول الى لاوعي سياسي لدينا..وهذا تحول تدركه الدوائر المعادية للعراقيين وتحتفل به لأنها تعرف ان عودة الوعي السياسي لدينا تعادل عودة الحضارة..لذا عمدت تلك الدوائر الى فصل العراقيين عن تاريخهم  بدءا بضرب الرموز الحضارية للعراق ونهبها او تخربيها فاغتيال النخب العراقية ..وانتهاءا بالغاء الجيش العراقي..مما يدعونا الى الرجوع الى تاريخ هذا الجيش العظيم في كل مرة تدعونا فيها الحوادث المدمرة والمرة التي تعصف بالعراق الى البحث عن ذكريات حلوة نشعر معها بالكبرياء السيادي وبالوطن الواحد وبالعسكرية العراقية العظيمة التي عشنا جانبا من امجادها في السبعينيات..جنودا في خدمة الوطن والحقيقة والتاريخ..

وهنا لابد من كلمة بخصوص الخدمة العسكرية في العراق الجمهوري المستقل او بالأحرى العراق السيادي: 

تلبي الخدمة الإلزامية في العراق ضرورة تربوية وواجبا وطنيا واجتماعيا وأخلاقيا في المقام الأول..وهي خدمة عامة تشمل العراقيين كلهم على اختلاف اعراقهم وقومياتهم وطوائفهم ومذاهبهم.. وكان النظام الكشفي بما فيه من احياء للفتوة العربية يقدم المهاد التاسيسي لخدمة العلم ...بالإضافة الى الإعداد التربوي والنفسي والمعرفي والأخلاقي من خلال مادة التربية الوطنية التي تصاحب الطالب في المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة ليتلقى بعد دخول الجامعة مادة الثقافة القومية المتممة للتربية الوطنية ومعها مادة تاريخ العلوم عند العرب بما يوسع من آفاق نظرته لتشمل الوطن العربي وتاريخه وبخاصة عندما لايتخصص بدراسة التاريخ..وتجدر الإشارة الى ان النظام الكشفي كان الزاميا في المرحلة الإبتدائية، وإن تاسيسه يعود الى العهد الملكي..وكان الهدف من مراسيم تحية العلم كل يوم خميس من كل اسبوع وعلى مدى العام الدراسي بأكمله في المدارس الإبتدائية غرس حب الوطن وهيبة العلم العراقي في قلوب الطلبة ..حيث يرفع الطالب القدوة العلم على صارية معدة لرفعه ثم نردد جميعا نشيد تحية العلم الذي نظمه شاعر العراق الكبير معروف الرصافي: [ ياعلم الأمة إنا معك  حتم علينا لك ان نرفعك/مرنا بما شئت فتاريخنا  يكفل منا لك ان نسمعك/ وسر الى مارمت من سؤدد   فالواجب الأقدس ان نتبعك/فيك شيات اربع لم تزل  توضح للناس بها منزعك/تعترف الناس لنا بالعلى  اذا رأت اعينهم اربعك/عن رموز لعصور مضت  بالعز للشعب الذي ابدعك/ياعلم العرب وسعت العلى   ما اضيق الدهر وما أوسعك/أودعك الخالق تأريخنا  فاخفق على الأرض بما أودعك ]..لننصرف بعد تحية العلم وعلى نحو منتظم اي بالأرتال الى صفوفنا لبدء الدروس..

وكانت تحية العلم في بعدها التربوي تكرس لدى الطلبة الشعور بمركزية العلم واهميته الرمزية في مرحلة مبكرة وهي في الوقت نفسه اعداد مبكر لخدمة العلم من خلال الجندية العراقية..وكانت خدمة العلم في العراق الملكي تسمى بالخدمة الإجبارية حيث يقوم مختار المحلة بتبليغ الأشخاص ممن بلغ الثامنة عشرة وأسرته بضرورة الإلتحاق في خدمة العلم..اما في العهد الجمهوري وبدءا من ثورة 1958 المظفرة اضحت تسمى بالخدمة الإلزامية ..حيث يتوجب على من يبلغ الثامنة عشرة من عمره الإلتحاق بدائرة التجنيد في مدينته او اقرب مدينة الى الناحية او القرية التي يسكن فيها لأداء خدمة العلم التي تستغرق مدة لاتتجاوز السنتين تعقبها خدمة احتياط بعد مضي عدد من السنوات..وهناك الى جانب الخدمة الإلزامية غمكانية التطوع في الخدمة العسكرية لتلقي التدريب المتخصص في أحد صنوف الجيش العراقي البرية والجوية والبحرية وتفرعاتها فضلا عن الصنوف المتخصصة المهارية الأخرى..ويعود الفضل للعراقيين القدماء في التقسيمات العسكرية للجيش الى فيالق وفرق وألوية وأفواج وكتائب وفصائل..اخذها الغرب عن الشرق ثم عاد الشرق ليأخذها عن الغرب في العصور الحديثة فقد ابتكر العراقيون نظام الإدارة العسكرية لتنظيم السوق والميرة وتنظيم عمل الصنوف العسكرية المختلفة..ولم يبلغ جيش في العالم المستوى التنظيمي للجيش الآشوري الا في العهد الأمبراطوري الروماني وجزئيا في عهد نابليون بونابرت وعصر الوحدة الألمانية عندما اوكلت قيادة الجيش لفون مولتكة الأكبر ومجددا في العراق الوطني في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم..كما وضع العراقيون القدماء المعدات العسكرية الضرورية المحمولة للجندي وتتضمن الخوذة والدرع والجزمة [المقابلة للبسطال] وهو ابتكار آشوري بإمتياز، فضلا عن حقيبة لحمل الأرزاق وزمزمية للماء..كما اسس العراقيون القدماء النظام الهرمي للإدارة عموما وللجيش بوجه خاص.. وكان سرجون الثاني قد ابتكر منصب رئيس اركان جيش الميسرة الى جانب رئيس اركان الميمنة وبينما كانت مهمة الأول ادارة الجيش في الأناضول وكموخ، كانت إدارة الثاني تتمحور في تل الرماح والجيش الاشوري في الغرب والقلب الآشوري..

وعلى الرغم من تأسيس الجيش العراقي الحديث [وهو في الحقيقة اقدم جيش في العالم] في اثناء الإحتلال البريطاني للعراق في مطلع العشرينيات، فقد قاد هذا الجيش ستة انقلابات عسكرية بين عامي 1936 و 1941..وشارك في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، فضلا عن مشاركته في حرب عام 1967 وحرب تشرين عام 1973.. وقام بالتصدي لحركات العصيان المتكررة بين عام 1961 وعام 1975..وكانت للموصل حصة الأسد في مآثر الجيش العراقي االباسل فهي مهاد القادة وأم الإنقلابات العسكرية المجيدة ولاسيما انقلاب عبد الوهاب الشواف الذي اعلن الموصل عاصمة للعراق في ربيع عام 1959 واخيرا بالتصدي للعدوان الفارسي عام 1980 في حرب استمرت حتى عام 1988.. وخرج منها الجيش العراقي واحدا من اعظم الجيوش في المنطقة والعالم..

لقد كانت الخدمة العسكرية الإلزامية بالإضافة الى دورها في تأمين الدفاع عن الوطن من العدوان الخارجي والقلاقل الداخلية، تمثل استمرارا حيا للروح العسكرية لدى العراقيين في عهودهم الغابرة ومدرسة لتاصيل الشعور الوطني من خلال المشاركة الجماعية مع العراقيين من مختلف مدنهم وأديانهم ومذاهبهم واعراقهم في المعسكرات والوحدات حيث يوحد الزي العسكري الشباب تحت خيمة واحدة وتوجه وطني واحدة..وبذلك فانها تحمل في ثنياتها الروح الوطنية ذاتها التي تميز الجيش العراقي منذ العهود الغابرة مرورا بالعصور البابلية والآشورية والإسلامية [الأموية والعباسية والحمدانية] وحتى العصر الحديث..ولاسيما أزاء استمرار القوى المعادية للعراق في الجوار الإقليمي التي زادت في عدوانيتها من خلال تحالفاتها مع القوى الآرية البعيدة والقريبة ومع العدو التقليدي للعراق المتمثل باسرائيل..مما يجعل التاريخ العسكري للعراق متصلا نظرا الى استمرار الوضع الجيوسياسي على الحال نفسها  منذ العهود القديمة وحتى سقوط بغداد عام 2003 ..وبينما ماتزال الأمم المجاورة للعراق محافظة على استقلالها السياسي وجيوشها الدائمية، عملت قوى العدوان في تحالفاتها الجديدة على انهاء استقلال العراق وتعطيل جيشه الدائمي ..مما يجعل استرجاع الخدمة الإلزامية واجبا اخلاقيا ووطنيا وتربويا واحيائيا في المقام الأول..فعنفوان الأمم يأتي من عنفوان جيوشها ..وبدون جيش دائمي وقوي يمسك، بل يشكل، العمود الفقري للبلاد، يحكم على الناس بالشيخوخة المبكرة وعلى الوطن بالموت البطيء..

خاتمة:

لقد كتب الكثير عن الجيش العراقي عبر تاريخه الطويل..وقد كتب أعداء العراق عنه أكثر مما كتب عنه العراقيون انفسهم  كتبا ودراسات وأطروحات أكاديمية ..بل وكانت المعارك الكبرى التي خاضها هذا الجيش وعاد منتصرا فيها مواضيع للدراسة في العديد من الأكاديميات العسكرية وكليات الأركان في العالم..وفي الواقع لايمكن تفسير أختفاء هذا الجيش من البلاد إلا بتأمل الحوادث الأخيرة التي عصفت ببلاد الرافدين ومقارنة التحالف الذي اسقط بغداد بالتحالفات التي اسقطت  نينوى وبابل في العهود الغابرة..فالعدو الذي هاجم نينوى..لم ينو خوض معركة بل إنهاء وجود وحضارة ..الوجود الآشوري والحضارة التي بناها الآشوريون وأسلافهم في سومر وأكد وبابل على مدى قرون...وقد لعبت الخيانة كما هو الحال في كل زمن دورا في اسقاط نينوى حيث تحالف نبوبلاصر وهو قائد آشوري يحكم بابل مع الأجانب الميديين والسكيثيين وغيرهم في الهجوم على المدن الآشورية ..وكان الغزاة يلجأون الى مايعرف اليوم بحرب الأرض المحروقة في مواجهاتهم مع الآشوريين في أثناء مرحلة من الفتور اهملت في اثنائها العناية بالجيش في غياب قيادة عسكرية آشورية قوية كتلك التي ميزت الدولة في عهود ملوكها الأقوياء..فدمرت القوى الغازية الحرث والنسل واعملت السيف والنار بكل مظاهر الحياة..ونحن عندما نتجول حول سور نينوى نلاحظ أن التحصينات الدفاعية في الضلعين الشرقي والشمالي اقوى منها في الضلعين الجنوبي والغربي لأطمئنان ألآشوريين الى الحماية التي يوفرها  نهردجلة الذي اتخذ مجراه قديما بمحاذاة السور الغربي..[اي في محل الشارع المجاور للسوروألأحياء المجاورة له كالحي الزراعي]..وكان هنالك جسر يمتد من بوابة المسقى الى الطرف الآخر الذي تشغله البساتين، [وقد شاهدت بعيني آثار صخور في تلك المنطقة المقابلة لبوابة المسقى على بعد قرابة 500 او 600 متروالتي لايمكن تفسير وجودها بدون افتراض وجود جسر في العهد الآشوري بين النقطتين..وهذا يفترض ان جسورا أخرى أو قناطر كانت تمتد في حلقة التقاء الخوصر الى الجنوب من تلقوينجق بدجلة ووجود جدول آخر الى الشمال من تلقوينجق بمجرى مجاور للتل في ضلعه الشمالي الممتد بين بوابة سين [القريبة من مفرق شارع بوابة نركال وشارع الجامعة] وبوابة أدد (التي استظهرتها جامعة الموصل والكائنة مقابل المعهد التكنولوجي)..ويبدو من طوبوغرافيا السور والنهر في مجراه القديم ان الكسر الذي احدثه المهاجمون في سور نينوى كان في نقطة بين بوابة سين وبوابة المسقى ..انطلقوا منها الى قصر سنحاريب في الضلع الجنوبي الغربي وقصر آشور المطل على مجرى الخوصر في الضلع الشرقي للتل ومعبد عشتار [حيث بيت الحارس الحالي للموقع في وسط الضلع الجنوبي] فأحرقوا البيوت برمي السهام ذات النهايات المعقوفة في اطراف نهاياتها في جانب منها لوضع صوف او كتان ثم غمره بالنفط لحرق السقوف الخشبية للمباني والمعابد فوق تلقوينجق..بينما تسربت قوة معادية أخرى الى السهل المجاور لنينوى خلف بوابة المسقى [حيث موقع قرية الرحمانية المهجورة] لتدمير بيوت الكهنة والقادة العسكريين في تلك المنطقة، والإلتفاف بعدها حول بوابتي شمش وحلزي في الضلع الشرقي وصولا الى بوابة آشور في الضلع الجنوبي [المقابلة لحي الوحدة والقريبة من حي البعث]..بينما تحركت قوة اخرى الى شريف خان [شريخان فوقاني حيث معبد نسروخ الذي بناه سنحاريب] لتدمير المعبد ونهبه..

ولم يختلف الهجوم الميدي البابلي السكيثي على نينوى 612 ق.م.كثيرا عن هجوم الكوتيين الذين اسقطو أكد قبل قرابة  الفي سنة ق.م. من سقوط نينوى  او عن هجوم التحالف الآري الحديث بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في 2003 للميلاد  من حيث أهدافه التدميرية وعنفه وشموليته..فقد استهدف العدو في الهجمات الثلاث الحياة والتاريخ والحيوان والجماد فاتلف الحرث والنسل وجاء على الأخضر واليابس فهدم المباني وقتل الناس واحرق المدن ونهب الثروات..وجلب إرادات اجنبية لحكم العراق بعد انسحاب الجيوش المهاجمة..

ولكن على الرغم من التماثل في المعارك الثلاث وفي حجم الدمار التي تمخض عنها، تعد الحرب الأخيرة الأسوء في نتائجها المدمرة على العراق ..لأن الحروب القديمة لم تعطل الجيش العراقي وتنال من مستقبل العراق بينما تجاوزت الحرب الأخيرة كل التخوم المعقولة للحروب بالأحتلال الدائم لإرادة العراقيين وانهاء تاريخهم الحضاري والغاء جيشهم ونهب ثرواتهم ورهن مستقبلهم بطريق وضع عراقيل (قانونية) تحول دون تشكيل دولتهم المستقلة واستئناف عطائهم الحضاري ثم بنقل خصومهم التاريخيين من خارج الحدود العراقية الى داخلها ..مما جعل مدنهم مراكز طرد مركزي لأبنائهم وفضاءات للذعر والخوف الدائمين لمن لم يغادرها منهم ..حتى اصبح الرجوع الى الماضي السيادي بالنسبة للعراقيين في عداد المستحيل..

أن حجم الدمار الأخير وجسامته أنما يؤكدان حقيقة أخرى يدركها ألعدو أكثر مما يدركها الكثير من الناس ممن عاش تلك التجربة المرة..وهي ان لجوء العدو الى تخريب العراق بكل مفرداته الحضارية ثم مواصلة العنف للنيل من عقل العراق ومستقبله انما يؤكد الخوف العميق الكامن في اعماق القوى المعادية من نهضة هذا البلد والأبعاد التي قد يصل اليها ويتجاوزها في نهضته..وهذا الخوف في جانبه الآخر كما نراه نحن العراقيون يبشر بأمل في امكانية النهوض مجددا ..فالشعوب تحمل بذرة العنقاء التي تتولد من حريق رمادها من جديد..وثمة نهضة نعقد عليها املنا بعودة دماء الفتوة العربية الى الوطن ورجوع الجيش العراقي الى عنفوانه واسترداد الناس وعيهم السياسي وارجاع مادة الثقافة القومية والوطنية الى مناهج الدراسة بعد ان عمل العدوان على الغائها..

ملاحظة حول الصور:

تتناول الصور المختارة نصبا تذكارية تمثل الجندي العراقي في مناسبات عديدة وكانت  تنتشر في بغداد مع عدد من الصور التي تمثل معارك الآشوريين والأكديين والبابليين والسومرين في العراق القديم كما تخيلها فنانون اعتمادا على نصوص تاريخية تصف تلك المعارك..وكان العراق قد شيد 101 تمثالا لجنود عراقيين على ضفة شط العرب يشيرون بسبابات أيديهم اليمنى الى العدو الإيراني عبر شط العرب..عمد ت قوات الإحتلال البريطاني في البصرة الى تخريبها ورميها بالنهر..لأنها تذكر بالجيش العراقي وتوجه النظر صوب اعداء العراق التاريخيين..كما عمل عملاء ايران على اتلاف بانوراما القادسية وتخريب المبنى المشيد لها امام قوس المدائن لأنها تمثل اول انتصار عربي على الفرس بعد ذي قار، فضلا عن صور جميلة للثور الاشوري المجنح وصورة الثائر عبد الوهاب الشواف وأخرى تمثل هدفا لصاروخ عراق في داخل اسرائيل واخرى للجنود العراقيين في الحرب الأخيرة مع الفرس..ونسخة مصورة لنشيد العلم العراقي الشهير لمعروف الرصافي..وهي صور تذكرنا بعنفوان هذا الجيش العظيم وتوغله في التاريخ الحضاري للعالم.. ونلاحظ ان الألوان في العديد من رموز الجيش العراقي هي الأبيض والأسود والأخضر والأحمر في تضمين رمزي لبيت صفي الدين الحلي القائل:
وإنا لقوم أبت أخلاقنا كرما أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا 
والله والحقيقة والوطن من وراء القصد..



2

احتلال الموصل عام 1918

جرترود بيل




ترجمة: صلاح سليم علي

مقدمة المترجم:

تكرر عبر التاريخ غزو الموصل بدءا بغزو نينوى في اواخر القرن السابع ق.م. وانتهاءا بالإحتلال الأميركي عام 2003..وبين هذا وذاك لم تسلم الموصل من الغزوات التي تعرض لها العراق ولعل اكثرها عنفا وتخريبا الغزو المغولي الذي اسقط بغداد فغزوة تيمورلنك والغزو الفارسي على عهد نادر شاه..وفي كل مرة تتعرض الموصل لغزو بربري يهلك الحرث والنسل وينشر الذعر والخوف والفوضى ويخرب التجارة والعمارة، تعود الموصل الى نضارتها وحيويتها فتزرع الارض وتبعث الحياة وتعيد عمارة الارض وازدهارها، بينما لايتبق من الغزو الاجنبي سوى صفحات سوداء في كتب التاريخ وبصمات باهتة دامية في الذاكرة..

وفي كل مرة تتعرض فيها الموصل للغزو نتعرف على ظواهر تتكرر هي الأخرى اولاهما ان الغزاة لايفرقون بين سكان الموصل بل يستهدفون المسيحي والمسلم والعربي والكردي والطفل والمسن والمرأة والرجل والجامع والكنيسة فلايميزون بين الناس في وقع حد سيوفهم وقسوة سنابك خيلهم وعشوائية نار رصاصهم بل يستهدفون سكان الموصل كلهم، والظاهرة الثانية تتمثل بتآزر اهل الموصل وتعاونهم بالتصدي للغزاة، أما الظاهرة الثالثة فتتمثل بالقسوة المفرطة من جانب القوى الغازية التي تستهدف حرق كل شيء وتهديم كل عمارة وإنهاء كل حياة..

وتتشابه اهداف الغزو على اختلاف العصور والغزاة .. فاهداف الغزو هي عينها اهداف الاستعمار وتتلخص بالمصالح الاقتصادية والستراتيجية..فضلا عن الميول التوسعية والامبريالية ... باستناء الغزو الميدي البابلي الذي تدخل فيه الدوافع الوجودية .. اي الحد من الخطر الآشوري الذي قد ينبعث مع اي ملك قوي فيكتسح الشرق الأدنى بأسره....ونلاحظ في حالات غزو الموصل ايضا ان معظم الغزوات تحدث بغتة فتسقط الموصل بيسر والسبب في ذلك عدم استقلال الموصل في حالات الغزو تلك وارتباطها بدولة تمر في حالة افول او ضعف  أو إئتمار دولي واقليمي كما حدث في اثناء الغزو المغولي الاول والثاني والغزو الفارسي الساساني فالصفوي فالتركي ..فالغزو البريطاني فالأميركي البريطاني..وعندما تكون المدينة يقظة ومستقلة ويكون لها جيشها وقيادتها وإرادتها، كما في حالة غزو الموصل على عهد نادر شاه لايتمكن العدو من اقتحام اسوارها اواحتلالها أوالحاق الهزيمة بها..

ويختلف الغزو الأجنبي في العصر الحديث عنه في العصور القديمة والوسطى، في كون الغزو الحديث غالبا مايكون لتحقيق اهداف ستراتيجية تتجاوز المدينة بذاتها الى المنطقة بأسرها أي تكون المنطقة المستهدفة أوسع والأهداف تتجاوز منطقة العمليات الى اقاليم ودول أخرى. وغالبا ماتكون الأهداف المتوخاة من الغزو مركبة اقتصادية وستراتيجية  ووجودية في الوقت نفسه..كما في غزو العراق من قبل قوات التحالف...وفي مطالعتنا التاريخ الحديث نجد ان الغزو البريطاني للموصل يعد نموذجا للغزو ذو الأهداف المتعددة ..اذ هدفت بريطانيا من غزوها الموصل عام 1918 التوسع الى الحدود الفارسية التركية لحماية مصالحها في بلاد فارس والقفقاس من اي هجوم قد تشنه تركيا ضمن دول الحلف [المانيا والنمسا والمجر] عليها، وضمان استقرار الاوضاع في العراق الذي كان محمية بريطانية مهمة في الطريق الى الهند فضلا عن حماية آبار النفط في ايران والعراق وتأمين خط سكك حديد باطوم - باكو..ولكي ترضي كل من تركيا وفرنسا في ضمها، بمساعدة عصبة الامم، الموصل الى العراق، وعدت الجانبين بربع انتاج حقول عين زالة من النفط بمقدار 25% لكل منهما..وبخاصة أزاء التزام بريطانيا بإتفاقية سايكس - بيكو التي قضت بجعل الموصل تحت الإدارة الفرنسية..وتلك فقرة لم تأت في مصلحة بريطانيا لأكتشاف النفط في نينوى بعد التوقيع على تلك الإتفاقية بمشاركة روسيا..مما جعل بريطانيا تمضي قدما في سبيل احتلال الموصل..وكانت سياسة وزير خارجية بريطانيا آنذاك اللورد كورزون تهدف الى السيطرة على منابع النفط من عبادان الى باكو مرورا بالعراق لتأمين  المصالح البريطانية في بلاد فارس وبلاد الرافدين ووسط آسيا والقفقاس أزاء التطلعات الروسية – البلشفية في وسط آسيا وبلاد فارس والطموحات الألمانية بالوصول الى المياه الدافئة.. ولاسيما في أثناء الحرب العالمية الأولى..وكانت بريطانيا قد عقدت اتفاقية مع روسيا عام 1907 قسمت مناطق نفوذ الطرفين في بلاد فارس وبينما كانت روسيا تتطلع الى مكتسبات على الأرض، كانت بريطانيا تريد الحفاظ على مصالحها التجارية والنفطية منذ 1910 في بلاد فارس التي سمتها لاحقا أيران وبلاد الرافدين التي سمتها العراق..وكان اكتشاف النفط جعل بريطانيا تبدل وقود سفنها الى الهند من الفحم الحجري الى النفط..مما اعطى النفط اهمية ستراتيجية وحيوية اولى بالنسبة للأنكليز وتبعا لذلك تغيرت توجهاتهم السياسية جملة وتفصيلا..فاشترت بريطانيا 51 % من حصص شركة النفط الأنكلو- فارسية فضلا عن حصول الشركة نفسها على امتيازات البحث عن النفط واستثماره في عموم بلاد فارس..

ووجه سقوط روسيا القيصرية وقيام روسيا الشيوعية ضربة الى الوفاق الثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا في وقت كان تحالف تركيا والمانيا يهدد المصالح البريطانية في منطقة القفقاس مما دعى بريطانيا الى تشكيل قوة بقيادة دنسترفيل سميت بقوة دنستر اوكلت اليها مهمة احتلال حقول نفط باكو وتم لها ذلك مؤقتا  في أيار عام 1918 غير ان القوات التركية ارغمت الأنكليز على الإنسحاب الى بلاد فارس، وبعد توقيع تركيا على اتفاقية هدنة مدروس في 30 تشرين الثاني عام 1918 سيطرت بريطانيا على حقول باكو وكرست فرقة عسكرية كاملة لحماية خط سكك وانبوب نفط  باطوم – باكو خوفا من سيطرة البلاشفة على نفط باكو وهذا ماحدث بالفعل بعد سنتين عندما غزا الجيش الأحمر باكو..وكان انشغال البريطانيين في أئربيجان والقفقاس في رأي جرترود بيل سببا في تأخير غزو الموصل واحتلالها ويبدو ان قرب باكو من الجبهات الألمانية – التركية وضعها على سلم اولويات الخارجية البريطانية..هذا يؤشر الى ان المخطط البريطاني يعتمد على ستراتيجية شمولية في تحركاته مقرنا السياسة بالدبلوماسية والدبلوماسية بالحرب مع اخضاع الخطة للمتغيرات الاقليمية والمحلية كما في حال الثورة الشيوعية وعرض لينين للسلام وانسحاب الجنود الروس من جبهات القتال..وفيما ياتي ترجمة للفصل الخامس من كتاب المندوب السامي البريطاني آرنولد تالبوت ولسون (دراسة في الإدارة المدنية لبلاد الرافدين) والمعنون "احتلال الموصل" ..ونترجمه رغبة بتوضيح قرائن تاريخية محددة تميط اللثام عن ثوابت اجتماعية وحضارية واثنية مهمة تتعلق بسكان الموصل وبطبيعة تعامل المحتل مع اهالي المدينة العزل ولاسيما في ضوء ماتسقطه هذه المعلومات من ضوء على طبيعة الإحتلال الأميركي الغاشم وماحدث بعده من اختراقات محلية ماتزال الموصل تعيش في غمارها...ويبدو ان المندوب السامي كلف جرترود بيل بتأليف هذا الفصل لمعرفتها الجيدة بالموصل وبمنطقة نينوى وشمالي العراق التي زارتها عدة مرات وعرفت بحبها للعراق مما دعاها الى تاسيس مكتبة السلام [المكتبة الوطنية في بغداد] ، والمتحف العراقي والنادي المعروف بإسمها [نادي العلوية] وكانت قد زارت الموصل عام 1909 وصورت معالمها التراثية والحضارية وتشكل تلك الصوراحدى مجموعات ارشيفها المصور عن الموصل عام 1909 .وفيما يأتي ترجمة لوصفها احتلال الموصل، بتمامها:




احتلال الموصل عام 1918

(تأخر المضي بالحملة في بلاد الرافدين قدما في ربيع عام 1918 بسبب ضرورة حماية شمالي بلاد فارس من هجوم تركي [محتمل]، إلا أن هزيمة الترك في غزة في خريف عام 1917 انهى خطر قيام الترك وحلفائهم الألمان بهجوم على بلاد الرافدين، ويسر على قواتنا احتلال خانقين [ اي استئناف الحملة في بلاد الرافدين] في كانون الأول [1917] وفي مطلع أيار عام 1918 تم تحقيق المزيد من التقدم..قد كان القائد العام السير وليم مارشال الذي أعقب السير ستانلي مود بعيد موته في تشرين الثاني 1917 [توفي مود بسبب اصابته بالكوليرا اثر شربه لحليب ملوث في بغداد في 18 تشرين الثاني  1917، ودفن بمقبرة الانكليز في الوزيرية وفي مكان قريب من قبر جرترود بيل التي ماتت بعده بتسع سنوات عام 1926]..يأمل ان يصل الزاب الأسفل قبل تصاعد حرارة الجو ثم يشرع من ذلك الموقع الممتاز بالتوجه الى الموصل في موسم الخريف..وهكذا فقد تم احتلال كفري والطوز [طوزخرماتو] وكركوك بنجاح، كما استقبلت قواتنا بحفاوة من قبل الأهالي وهم باستثناء كركوك أكراد في معظمهم..وقد عمل حميد بيك طالباني في منطقة كفري بتكريس جهوده في صالحنا [ هو الشيخ حميد بن الشيخ عزيز طالباني غادروا مع قبيلتهم  كركوك الى خانقين تفاديا للتصادم مع التركمان الذين يشكلون الأكثرية التالية للعرب والمسيحيين في المدينة ويبدو ان اسرة الشيخ حميد الطالباني فضلت البقاء في كفري]، وسكان كركوك في أكثرهم من الدم التركي، وليس العثماني، كونهم يعودون بجذورهم الى المستوطنين التركمان [الذين وفدوا العراق] على عصر السلاجقة. مع ذلك فإن تأسيس الوجود البريطاني لم يمر بحالة أفضل وأكثر ارتياحا في اي مكان منه وسط هذه الأقوام [غالبا ما تناصب الأقليات العداء لنظم الحكم القائمة في مواطنها وترحب بالأجنبي كمحرر لها] اما العنصر المسيحي المعتبر فقد رحبوا بنا بحماس وتعاون المسلمون معنا بإخلاص في تنظيم المدينة [لم تحدد أية مدينة بالإسم وأرجح انها تقصد كركوك]..والى الغرب في كردستان السورتي [لعلها تقصد أكراد السوران أو أكراد الجنوب تمييزا لهم عن البهدينان او اكراد الشمال في حكاري وسيرت]  فقد تم عقد اجتماع ضم الشيوخ [الأغوات] والأعيان في السليمانية واتخذ قرار بتشكيل حكومة كردية مؤقتة يترأسها الأغا المحلي المعروف الشيخ محمود البرزنجي [هو محمود الحفيد ابن الشيخ سعيد نصب نفسه ملكا على كردستان وشارك في التصدي للإنكليز في جنوبي العراق وقصة منديله الذي وضعه في يده لتفادي لمس يد الضابط الإنكليزي الذي مدها لمصافحته مشهورة في الأدب الشعبي]على ان تتخذ موقفا وديا تجاه البريطانيين.

وكان الشيخ محمود قد ارسل رسائلا زعم فيها انه يمثل الأكراد الجنوبيين وعرض علينا زمام الحكومة او ان يقوم بتمثيلنا في حكومة. وسيان بالنسبة للعسكريين او للأطراف المدنية في القوة [البريطانية] فقد كانت خيبة امل مرة عندما يكون من المستحيل الإستفادة من وضع واعد كهذا.[لايوجد مصدر آخر يوثق موقف الشيخ محمود الحفيد هذا او يؤكد مصداقية ماذهبت اليه بيل وقد شارك الشيخ الحفيد في مقاومة الإنكليز فكيف يطلب ان يكون ممثلا لهم في حكومة كردية! ] وقد بات تحويل وسائط النقل المتوفرة كلها الى الطريق الفارسي [لحماية بلاد فارس من هجوم تركي الماني او تمدد روسي] لايحول دون اي تقدم [لقواتنا] بل ارغمنا على التخلي عن كركوك. وقد اعطينا السكان المسيحيين في المدينة خيار مغادرة المدينة الى ملاذ آمن في بغداد، فأختارت اعداد منهم مغادرة أراضيهم وبيوتهم في كركوك ليقوم الأتراك الذين قاموا باحتلال المدينة بنهبها بعد مغادرتنا لها ، بينما زحفت قوة عثمانية صغيرة باتجاه السليمانية حيث قمنا بتعيين الشيخ محمود ممثلا لبريطانيا هناك. فقام الأتراك بوضع المدينة [السليمانية] تحت الأحكام العرفية وأرسال الشيخ محمود الى كركوك..لكن الأتراك، على اية حال، لم يغامروا في التسبب في إثارة القبائل التي يمثل الشيخ محمود رئيسا لبضع عوائل فيها ويمارس تأثيرا كبيرا عليها فعمدوا الى اطلاق سراح الشيخ محمود فورا..وقد أدى انسحابنا [من كركوك] الى تغيير حتمي في التوازن في كردستان، ولكن الأتراك كانوا قد بلغوا دركا من الضعف لايقدرون معه الإستفادة من الفرصة التي وفرها [انسحابنا ] لهم.غير ان انتصار الحلفاء في فرنسا [معركة برودسيندا في 4 -10-1917] وانتصارالجنرال اللنبي في سورية في تشرين الأول [معركة غزة الثالثة في 31-10-1917]، اعادا التوازن لصالحنا. مع ذلك فإن قواتنا في بلاد الرافدين مازالت معرقلة بسبب النقص في وسائل المواصلات، وليس بمقدورنا التقدم بقوات كبيرة الى الموصل بطريق كركوك..إلا ان وحدة صغيرة تم ارسالها صوب التون كوبري [أي "جسر الذهب" وهي مدينة تركمانية صغيرة تقع على الزاب وتعد همزة وصل بين بغداد وكركوك والموصل وأربيل في قلب المثلث الآشوري] لحماية جناح القوات الرئيسة المتقدمة شمالا بمحاذاة دجلة.. فتم لقواتنا [البريطانية] أحتلال كركوك مجددا في 25 تشرين الأول..وبعد مواجهة عنيفة ارغمت الأتراك على مغادرة مواقعهم المستحكمة في وادي دجلة اسفل قلعة الشرقاط وقد تم اعتراض قواتهم من الشمال فاستسلمت القوة بأكملها في 30 تشرين الأول.وفي تلك الأثناء تمكنت القوة الشرقية [المرسلة الى التون كوبري]من ارغام العدو [التركي] على عبور الزاب الأسفل في الوقت الذي أضحت فيه قوة دجلة [القافلة الرئيسة] على بعد بضعة اميال من الموصل.

وكان القائد العام التركي علي احسان باشا [قائد الجيش التركي السادس] الذي بقي في المدينة [الموصل] مع عدد قليل من القوات قد أمر بإخلاء المخازن والسجلات كلها، ولكن في الأول من تشرين الثاني تم الرجوع عن هذه الأوامر فاعيدت السجلات ورجع الموظفون الى دوائرهم من نصيبين وزاخو ومن حيثما كانوا قد ارسلوا. وبعد عدة ايام من التفاوض حول ما اذا ترتب على علي احسان باشا الإستسلام وفق بنود الهدنة. وكانت اوامر قد وصلت من القسطنطينية [اسطنبول] حول إخلائه. فاحتلت الموصل من قبل قواتنا ورفع العلم البريطاني فوق بناية السراي في 8 تشرين الثاني. [ للإطلاع على مزيد من المعلومات ينظر "التشكيلات العسكرية في الموصل منذ أواخر العهد العثماني الى 1958" بقلم الدكتور ابراهيم خليل العلاف] ..وفي العاشر من تشرين الثاني، غادر علي احسان الى نصيبين وتولى مهام ادارة الموصل اللفتنانت كولونيل [ [جيرارد] لجمن بصفته اول ضابط [حاكم] سياسي لولاية الموصل..غير ان المستقبل السياسي للولاية [الموصل] لم يتضح [يتحدد] بعد فوفق اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916، التي يعددها الفرنسيون ملزمة بغض النظر عن التحول الجوهري للأوضاع التي تم عقدها خلالها بسبب الثورة الروسية، تقع ولاية الموصل بأكملها ضمن مجال النفوذ الفرنسي..وعلى هذا الأساس صدرت من حكومة جلالة الملك تعليمات بضرورة عدم شمول الموصل بنظام الحكومة المركزية المعمول به في ولاية بغداد..ويتوجب وضع [الكلمة التي استخدمتها بيل هي "ربط" ] الموصل تحت إدارة عسكرية [يؤكد الأنكليز في تقاريرهم على ان للموصل هوية عسكرية ولأهلها ميل قوي للأستقلال والقيادة مما جعلهم عصيون على الأنقياد أقوياء الشكيمة ليس من السهل بأي حال إرضائهم، كما في تقرير كرسته بيل لوصف الموصل حصريا، وهي تشاطر في رأيها في الموصل واهل الموصل موقف مارك سايكس الذي كان وراء تخلي بريطانيا عن الموصل لفرنسا ولعله وراء اقتراح وضعها تحت ادارة عسكرية صارمة كونه المسؤول الأول في حلقات صنع القرار الخاص بالشرق الأوسط في ذلك الوقت]..ولكن وبغضون اشهر ساد التفاهم ضمنا ان الإتفاقية [اتفاقية سايكس – بيكو] يجب ان تعدل بما يتعلق منها بولاية الموصل، على ذلك تم دمج الإدارة المدنية فيها بإدارة القسم الجنوبي من الأراضي [العراقية] المحتلة..

من الناحية الفيزياوية [شكل الأرض وتضاريسها]، تطرح ولاية الموصل متناقضات معينة لولاية بغداد. فهي تقع شمالي جبل مكحول الذي يعد امتدادا لجبل حمرين والطريق اليها يمر عبر مسافات طويلة من الأراضي الحجرية وهو تغير محبب بعد الطمي الرسوبي الممثل لجنوبي بلاد الرافدين. ومن الجهة اليمنى لدجلة  أي في الجزيرة، نجد ان الريف بأكمله ارض متموجة لاتقطعها سوى كتلة جبل سنجار..ومن الضفة اليسرى [الجانب الأيسر لدجلة]، تمتد السهول على مسافات متنوعة بدءا من النهر حتى حافات الجبال الكردية. وتقدم السلاسل الأقرب [الى المدينة]  من خلفية المشهد المنظور اليه عبر النهر من مدينة الموصل منظرا محببا لدى المشاهد الذي اعتاد على السهول الجنوبية لبلاد الرافدين..ولايرتفع اعلى جبال تلك المنطقة اكثر من 7000 قدم ولكنها شديدة الإنحدار وجرداء. وتشكل السلاسل المنفصلة وديان ضيقة ومتباعدة يترتب على الطرق فيما بينها اما ان تتسلق معابر عسيرة او تتبع طرقا وديانية متعرجة.. وفي التلال تتوفر المياه في اكثرها على مدار السنة اما الوديان فمكتظة بأشجار الفاكهة كالكروم والجوز واللوز وشجر الحور والصنوبر.. وتكثر على جوانب الجبال اشجار البلوط المتناثرة متمعجة الاغصان..ولكن في الجزيرة نجد ان المياه الوحيدة توجد في تلعفر وفي العيون المتدفقة في سفح جبل سنجار وعدد قليل من الينابيع، ومعظمها، كبريتي،  تنتشر في خط التلال الممتد من القيارة وحتى تلعفر..وهذه الينابيع هي السبب في ثروة تلعفر.وتجري المياه الباقية غير المستعملة بالزراعة من سنجار في منحدر الثرثار على نحو مواز لدجلة لتصب في المستنقعات المالحة شمال – غربي بغداد.. ومياه وادي الثرثار وينابيع الصحراء كلها كانت منذ القدم وحتى الآن مالحة [خضمة، أجة أو مجة: وقد تكون مرة]. وفي الضفة اليمنى من وادي الثرثار تبرز آثار المدينة القديمة الحضر، وتعد الأراضي في تلك المنطقة أراض رعي شهيرة ل [قبيلة] شمر الجربا حيث تكثر عيون المياه المالحة في انحائها، وفي سهول الضفة اليسرى لدجلة تنتشر قرى تحتضن عيون مياه عذبة تيسر الزراعة في موسم الصيف، ولكن ثروة الضفة اليسرى [الزراعية] تعود الى وفرة المياه التي يغدق بها عليها نهر دجلة فضلا عن نهري الزاب الأعظم والخابور..وتنمو اشجار الحور والصفصاف على ضفاف الأنهار..ولكن السهول المتبقية جرداء من الشجر، ولاوجود للنخلة في الأراضي الواقعة شمالي منخفض الفتحة [وهو منخفض يقع بين بيجي والشرقاط يتجه شرقا ويقع من الناحية الجيولوجية في المنطقة الانتقالية بين السهل الرسوبي ومنطقة الجزيرة وقد دارت فيها مواجهات بين الجيش العثماني وجيش الاحتلال البريطاني ..ويبدو ان بيل اعتبرتها بداية الأراضي المتموجة او شبه الجبلية حيث لاتنمو النخيل..ولا ادري اين كانت بيل قد شاهدت نخيلا بين شمال سامراء وحتى الفتحة ان لم تعتبر منطقة طوزخورماتو ضمن المناطق الصخرية]، ويوجد النفط والقير والفحم في المنطقة وكذلك نوع من المرمر الرمادي الناعم سهل القطع  يستخدم كثيرا في المباني ويحفر بنماذج زخرفية تميز معمار المنطقة ويزين الجوامع والكنائس والبيوت الراقية..

ومن جانب آخر نجد ان اعادة تنظيم الإدارة اسهل في الموصل منه في أماكن أخرى..فبينما لم نجد في البصرة وبغداد سجلات [مدنية] سابقة وكان موظفوا الحكومة التركية قد انسحبوا منهما مع الجيش، وجدنا في الموصل السجلات [المدنية] كلها متوفرة وكذلك  معظم الموظفين..وفي اواخر تشرين الثاني قام الكولونيل لجمن بزيارة تلعفر وسنجار وزاخو والعمادية ودهوك وقرية بيرة كبرا وعقرة، فرأى في كل تلك الأماكن العلم التركي مرفرفا وكان في معظمها جندرمة وموظفين أتراك..فعمل على صرف الموظفين والجندرمة الأتراك وأمر بإنزال الأعلام التركية ثم قام بتعيين ضباط سياسيين [اداريين] مساعدين في تلك المناطق الخاضعة لإحتلالنا. والمنطقة باستثناء سنجاق السليمانية كانت تشكل ولاية عثمانية، وسكانها أكثر تنوعا منهم في اي مكان آخر في العراق.

وسكان حوض دجلة وصحراء الجزيرة هم قبائل عربية منها المستقرة ومنها نصف المتبدية ممن اختار زراعة الأرض، أو حافظ على بداوته كما في قبيلتي شمر وطي. وفي الجبال، اخلى العنصر العربي، من سكنة السهول، مكانه للعنصر الكردي.اما في الصحراء الى الغرب، حيث يرتفع جبل سنجار الطويل وكأنه ظهر خنزير بري يبرز فجأة بما يتنافر مع عالم بلاد الرافدين بأرضها المستوية [المفتوحة على الأفق] حيث يوطن اليزيدية الذين نجدهم في شمال – شرقي الموصل أيضا منحدرات [سفوح] هذا الجبل وشقوقه.

ويبلغ عدد اليزيدية الذين يتحدثون الكردية ولعلهم من تحدر كردي ايضا بضعة 18.000 الى 20.000 في هذا القسم [من العراق]. وقد جاء هنري لايرد على وصفهم على نحو مثير للإعجاب، فكان يتعاطف كثيرا معهم بسبب تعرضهم للإضطهاد من قبل المسلمين والمسيحيين على حد السواء. فقد شاع عنهم انهم عبدة الشيطان الذي يسمونه ملك طاووس. إلا أن وصفا منصفا لهم يضعهم في خانة الثنوييين الذين اخذوا معتقداتهم عن الزرادشتية بطريق المانوية. فهم يحترمون روح الشيطان ويعتقدون بأنه ملاك ساقط وأنه في زمن ما في المستقبل سيسترد مكانته الأولى [يعاد ليصبح ملاكا]، كما يمارسون تقاليد دينية تعود في اصولها الى الاشوريين ..كما طعموا دينهم المركب برقع قطعت من اللاادرية [مذهب استسرائي يسعى اتباعه الى تجنب العالم المادي والتعلق بعالم الروح والتوحد به بطريق التسامي الروحي على نحو يماثل المناهج الارتقائية بالنفس عند الصوفية والإشراقية..ويعتقد الأدريون بقوة ان الوجود المادي ومجسماته الجسمانية هما حبس للروح وأن أكتمال الذات يتحقق بالتوحد بالروح الكلية التي صدر عنها الوجود] والمسيحية والإسلام. ويقع مزارهم الكبير، الذي تعرض للتخريب اكثر من مرة من قبل الأتراك، في الشيخ عادي [لاليش] شمال الموصل، ويزوره اليزيدية في الصيف. ويقيم رئيسهم الديني والدنيوي أو المير في باعذرا بينما يعيش المرشد الديني [بابا شيخ] في عين سفني التي تعد مع بعشيقة من اهم مراكزهم بعد الشيخ عادي. ولليزيدية سبعة طواويس ذهبية [أو برونزية]  فقد أحدها في جنوبي روسيا في بداية الحرب. وترسل هذه الطواويس في كل سنة الى المراكز اليزيدية المختلفة بهدف جمع التقدمات للمير ولرجال الدين..ويتالف هرمهم [هرم السلطة الدينية] من 1. المير[الأمير]، 2. البير[وجمعها البيورة]، وهم كبار رجال الدين ممن ينظر اليهم بقدسية في المجتمع اليزيدي، 3. الشيوخ وهم قادة ومعلمين دينيين، 4. القوالين [المرتلين]: ومسؤوليتهم مرافقة هياكل الطواويس [الذهبية] المقدسة، 5. الفقراء: وهؤلاء يرتدون ثيابا سوداء على الدوام وهم من المريدين من بسطاء الناس.

ويقع اليزيديون في سبع طوائف ولكل طائفة ملاك حارس وفيما يأتي اسماء خمس منها: 1. الشيخ عادي وتنتسب اليه شريحة الفقراء، 2. ملك طاووس، 3. شيخ شمس [الشيخ حسن]، 4. شيخ فخرالدين القمر [ملك القمر]، 5. شيخ شرف الدين.. والمرجح ان التزاوج غير مسموح به فيما بين هذه الشرائح [اي لايسمح للمنتسب لشريحة البيورة بالتزوج من شريحة الفقراء او بالعكس]..ومن الشيوخ المبجلين عند اليزيدية الشيخ حسن البصري الذي يسمح للمتحدرين منه فقط بين اليزيدية بالقراءة والكتابة، والشيخ محمد ابو دياك [لم يرد ذكره في المصادر] وخاتون فخيرة [لم يرد ذكرها في المصادر] ووظيفتها الوقوف عند باب الجنة [بمايشبه وظيفة رضوان في التقاليد الإسلامية]، والشيخ الاند [لعلها تقصد الشيخ مند الذي يوجد مزار له في بحزاني وتقام باسمه في كل سنة طوافة لليزيدية في بحزاني وهو غير النبي مندو الذي يقع مقامه في موقع معركة قادش بالقرب من حمص ويزعم ان مندو الأخير هو الأخ الأصغر للنبي يوسف ع] ويقدر المتحدرون منه من اليزيدية من مسك الحيات والثعابين السامة دون ان تؤذيهم..ونجد بينهم جماعة يطلق عليها الكوجك وهم عرافون ومؤلوا احلام..ويوجد في جبل سنجار شق جبلي [شكفتة] عميقة لاقرار لها يقوم الكوجك برمي عشر نتاجهم من الغلال والمحاصيل الزراعية فيها لكي يستخدمها ملك طاووس [طاووس ملك] عندما يعود مجددا الى الأرض..ويصوم اليزيدية في الربيع ثلاثة ايام حيث يصوم احد اعضاء الأسرة بالنيابة عن البقية. ويحدث اعظم اعياد اليزيدية في شيخ عادي في الصيف ويؤمه اليزيدية من مختلف الأنحاء.. وتدور الروايات حول امتلاكهم لكتاب اسود [ ذكر لي ابن احد شيوخ اليزيدية في بيبان ان تسمية الكتاب بالكتاب الأسود هو خطأ شائع والتلفظ الصحيح يجعل عنوان الكتاب هو كتاب الشمس] ويفترض عموما ان هذا الكتاب هو القرآن [الكتاب المقدس عند اليزيدية] وحيثما توجد فيه كلمة الشيطان ترد ممسوحة.. ويعتقد اليزيدية ان اي يزيدي يلفظ كلمة شيطان، يصاب فورا بالعمى، كما يتجنب اليزيدية لفظ او سماع كلمات تتضمن حرفي الشين والتاء [طاء العربية] ك [شط] "نهر" أو [مشط]، وكذلك كلمة "نعل" [استخدمت بيل التصحيف الموصلي لكلمة "لعن"]، وفي هذا الصدد روى  رئيس قساوسة القوش لأحد الضباط السياسيين [البريطانيين] حكاية عن يزيدي اعتنق المسيحية فقال أن ذلك الرجل كان يزيديا وعندما خرج في أحد الأيام لحراثة ارض والده خطرت في ذهنه طائفة من الأفكار من كل نوع فبدأ بالتفكير في تحريم لفظ كلمة الشيطان والعقوبة المترتبة على من يلفظها، فغلب عليه حب الإستطلاع وهو يتأمل في صخرة في الحقل فلفظ حرف [ش] ، وانتظر فلم يحدث شيئا، ثم أضاف [شي] وبالتدريج ذهب الى الحرف التالي حتى تمكن وبصوت حازم صريح من لفظ الكلمة كلها [شيطان]، ولدهشته لم يشعر بأي ضرر يصيب بصره. فشعر بالنشوة وبعد ان عاد الى البيت قال لأبيه: لقد لفظت الكلمة المحرمة [عادة مايستخدم اليزيدية تعبير "كسر الجرة" بمعنى التعرض لممنوع من ممنوعاتهم] ولم اصب بالعمى! فرد الوالد: [ لم تصب؟] ثم تناول بندقيته قائلا: [ستصاب "بالعمى" الآن!] فخرج هاربا من البيت وخلفه والده ممسكا بالبندقية حتى لجأ الينا واصبح مسيحيا..فالقلق من إيذاء الشيطان من غير قصد يشكل احدى السمات الثابتة في الحياة اليومية لليزيدية..وكان احد اليزيدية في زيارة لقنصلية اجنبية في الموصل فدهش لرؤيته متافلا [نفاضات] في دائرة القنصل فقال من الواضح ان هذه المباصق قد وضعت لتفادي قيام احدهم بدون انتباه بالبصاق فيصيب البصاق طاووس ملك [يعتقد اليزيدية ان طاووس ملك غير مرئي وانه يحضر العديد من المجالس وبخاصة تلك التي يتواجد فيها شخص من الطائفة]..وهناك يزيدية خارج منطقة الموصل [تقصد محافظة نينوى وبضمنها المثلث الآشوري والجزيرة والزابين] كماردين ودياربكر وحلب والقفقاس، ويتحدثون الكردية ويبدو انهم لعبوا دورا كبيرا في تاريخ الكرد البهدينان، ويعمل كلهم بالزراعة [وهناك من يعمل منهم بالرعي وبالتهريب ومنهم من يشغل وظائف حكومية مهمة في العراق ومنهم من لديه مصالح خاصة كالمطاعم والنوادي ويشكلون جزءا مهما من الجالية العراقية في دول الغرب]. ويتمسك اليزيدية بقوة بمعتقدهم وحالات الردة عن دينهم نادرة جدا حتى في ازمان الإضطهاد..واجمالا فإن اليزيدية يتميزون بالمرونة والقدرة على التكيف مع السلطة كما يؤيدون بإخلاص النظام البريطاني أما معنوياتهم فمتراخية ولهم صيت سيء بالإدمان على المشروبات القوية [شرب العرق وهي عادة يتشاطرونها مع المسيحيين في سهل نينوى ، ومنهم من يصنع العرق في بيته].ولايكتمون تعاطفهم الكبير مع المسيحيين فقد الجأوا اعدادا كبيرة من اللاجئين الأرمن في جبل سنجار [تعرض اليزيدية للمذابح المتكررة من قبل الأتراك مما دفعهم الى التعاون مع الأرمن ضد عدو شرس مشترك]..ولم يتوقف اليزيدية عند حدود توفير الملاذ الآمن للأرمن، بل تجاوزوا ذلك الى الهجوم على خطوط المواصلات مما دفع الأتراك لإتخاذ اجراءات عقوبية ضدهم عام 1917..فارسلوا قوة كبيرة بالبنادق الى الجبل، وقام الأتراك بتحريض تركمان تلعفر والقبائل العربية بالمنطقة ضدهم..فابدى اليزيدية مقاومة ولكن القوات المهاجمة تمكنت من التغلب عليهم فدمرت قراهم وسلبت قطعانهم..ويبدو انهم على عداوة بالوراثة مع الشمر ولكنهم على علاقة طيبة مع شيخ محمد رئيس قبيلة طي [لعل السبب بذلك التجاور بين شمر واليزيدية وفرض شمر الخاوة على كل سكان البادية ويعرف عن اليزيدية رفضهم للخاوة فضلا عن اغارات شمر المتكررة على قطعان اليزيدية والإختلاف الجذري بالعقيدة والولاء]. ورئيس اليزيدية الديني والدنيوي هو المير [الأمير] من اسرة جول بيك ويعيش في باعذرا بالقرب من مزارالشيخان والمير الحالي هو سعيد بيك، وكان ابن عمه اسماعيل يتصل بنا في سياق احتلالنا للموصل [ اسماعيل بيك هو ابن عبدي بك كثير الترحال وقد لعب دورا في الحوادث التي سبقت احتلال الموصل حيث الجأ كثيرا من الأرمن في قرى اليزيدية في جبل سنجار واتصل بالإنكليز فقابل المندوب السامي ولسن والسيدة بيل التي خصصت له مرتبا وسكنا في بغداد ..وصاحب لجمن في اثناء زيارة الأخير الى سنجار وكان قد أمّن المرور الآمن للأسرى الأتراك الى نصيبين عبر المناطق اليزيدية. تتضمن سيرته التي كتبها بنفسه بعفوية وصدق معلومات متنوعة عن الحياة الإجتماعية في شمالي العراق وسورية والأناضول وطبيعة العلاقات بين الطوائف والعشائر المختلفة في المنطقة والموصل خلال الحرب العالمية الأولى]..فزارنا في بغداد وكان قدم خدمة كبيرة في تنظيم المسح الذي اجراه الكابتن هدسون لجبل سنجار عام 1918. [أجرى الإنكليز دراسات ميدانية لجوانب مختلفة في العراق، وهي دراسات على درجة كبيرة من الأهمية لم يترجم منها الى العربية الا النزر القليل ..وهي متوفرة بدوريات الجمعية الملكية الجغرافية والجمعية الملكية الآسيوية وغيرها ..وقد اجرى هنري فيلد الأميركي دراسة انثروبولوجية لجنوبي العراق ووسطه منشورة بكتاب متوفر في جامعة الموصل، فضلا عن توفره بنسخ الكترونية]..لهذا فنحن ندين له وبخاصة أنه صرح دائما بأنه رئيسا لليزيدية ونحن نعامله على هذا الأساس توخيا للمساواة مع منافسه في الزعامة سعيد بك [وهو ابن عمه علي بيك]، وتمت تسوية الخلاف بأن تعطى  ثلاثة من الطواويس المقدسة [التي يحق لمالكها جمع النذور والعطايا من اليزيدية] لإسماعيل بيك [وأن يحتفظ سعيد بيك بالأثنين الباقيين] [يبدو ان الأنكليز كانوا يميلون الى تفضيل اسماعيل بيك على سعيد بيك بسبب قيام الأول بحماية المسيحيين وبالمبادرة في تقديم المعلومات والخدمات لهم فضلا عن وساطته بين شيخ الدليم وبينهم آنذاك]..غير ان هذه التسوية لم تنجح، كونها تشبه وجود بابوين يتنافسان البابوية أحدهما في روما والآخر في آفنيو "بالفاء الأعجمية" [ بسبب اختيار 7 من البابوات الفرنسيين بالأصل مدينة آفنيو في جنوب غربي فرنسا مقرا لهم بدلا من الفاتيكان في روما بين 1309 و1377]. ولكن سرعان ماتبين ان اسماعيل لم يكن إطلاقا محلا للثقة وكان لاينقطع عن الدسائس من كل نوع فرأينا ان من الضروري ارساله الى بغداد مما جعل سعيد يحتفظ بالزعامة لوحده [وكان اسماعيل يعترض على بقائه في بغداد ويعرب عن رغبته بالعودة الى منطقته غير ان جرترود بيل تخبره في كل مرة ان قومه لايريدونه]..وكان سعيد يتصرف تحت تأثير امه ميان وهي امرأة مسنة قوية لاتتفق مصالحها الشخصية دائما مع مصالح القبيلة [الطائفة]
[ يميز فلاديمير مينورسكي وهو من افضل المراجع في شؤون الأقليات في وسط آسيا وشمالي العراق وأيران بين القبيلة والطائفة على اساس المراتبية الإجتماعية والدينية فيعد الشبك والكاكية والصارلية واليزيدية طوائف لأن تنظيمها يعتمد على تراتيبية دينية. ويميز على هذا الأساس بين الباجلان والشبك عادا الباجلان قبيلة بينما اعتبر الشبك طائفة ولعله اعتمد على مصادر عراقية كالأب انستاس الكرملي في مقالته الممتازة المنشورة في مجلة المشرق وعنوانها "تفكهة الأذهان بالتعريف بثلاثة أديان" فضلا عن كتابات الشيبي والحسني والغلامي ومصطفى جواد حول هذا الموضوع]..وترتب ان يقوم سعيد بيك يساعده مجلس من الكبار بإدارة القضايا المتصلة بالشرعة [الأحوال المدنية والنزاعات] وقد جرت الأمور في البداية على مايرام غير ان شعورا بعدم الرضى ساد في الآونة الأخيرة بسبب قراراته. وقد تسبب موت بابا شيخ الواقف على مزار الشيخ عادي بموجة سخط لتردد سعيد بيك في تعيين خلف له وهو أمر يقع تحت صلاحياته..ويبدو ان اليزيدية، وبسبب الإضطهاد السابق الذي تعرضوا له،  قد فقدوا مساحات واسعة من أراضيهم..وكانت موجة من الغضب تسري في عدة اماكن بسبب ذلك وبخاصة في عين سفني. ولعل هذه واحدة من اكبر المشاكل التي ستواجهنا عند تسوية مشكلات الأرض في منطقة الموصل..

وعند وصولنا الى جبل سنجار وجدنا ان الرئيس هناك هو حموشرو وهو رجل مسن وفقير [من طبقة الفقراء في الترتيب الهرمي اليزيدي] وقد عين رئيسا للجبل بمرتب شهري وله وكيل مأجور في البلد [سنجار].وبسبب الموقع الجغرافي حيث يطل من قلب الجزيرة، وبسبب عداوة حمو شرو واليزيدية الصريحة للأتراك والعرب معا، يشكل جبل سنجار حصنا ستراتيجيا مهما، سيكون ذي فائدة عظيمة عند التعامل مع الشمر أو مع حركات قومية [مسلحة] محتملة قد يقوم بها العرب او الأتراك [التركمان]  لاحقا..

ويوجد في الريف الخصب حول المدينة [الموصل] والى الشرق من دجلة اعداد من المسيحيين اكثرهم من الكلدان على الرغم من وجود جماعات صغيرة من اليعاقبة والنسطوريين ايضا. ويقيم البطريرك الكلداني [مار يوسف عمانوئيل الثاني] في الموصل حيث يشكل الكلدان اكثرية الحرفيين المهرة في المدينة.. بينما يعمل الكلدان الذين يقيمون خارج المدينة  بالزراعة ويشتهرون بمهاراتهم اذ تعد قراهم أكبر القرى في الولايات [العثمانية] واكثرها ازدهارا.  وهنالك رسول بابوي معين في الموصل لرعاية مصالح الكلدان والسريان الكاثوليك فضلا عن اعتناء الآباء الدونوميكان بمدرسة ومستشفى في الموصل وهناك الكثير من مرتادي المدرسة والكنيسة الدونوميكانيتان.كما تحتضن الموصل قساوسة سريان كاثوليك ونسطوريين ويعقوبيين..كما تعزز التنوع المسيحي في المدينة ليشمل جماعات من الرومان الكاثوليك والبروتستانت والأرثودوكس التابعين للكنيسة اليونانية. وكان الرومان الكاثوليك والكنائس الوحدوية البابوية (الكلدان والسريان الكاثوليك)..تحت الحماية الفرنسية كما هو الحال في الأنحاء الأخرى في الأمبراطورية العثمانية.  ولايوجد أدنى شك ان امكانية ضمان محام اوربي [عن مصالح الطوائف المسيحية الشرقية] لدى الدولة العثمانية، كان محفزا قويا للتوحد  [الإنضواء تحت ] مع كنيسة روما [الكاثولوكية]. وكانت سياستنا قبل الحرب تتسم بالميل لحماية الكنيسة النسطورية [الآشورية] أزاء الكنائس المتفرعة عنها كالكنيسة الكلدانية الكاثولوكية.ودافعنا لذلك كان وجود هيئة تبشيرية صغيرة ولكنها مثيرة للإعجاب بين النسطوريين تعرف ببعثة اسقف كنتربري التبشيرية للنسطوريين. [بذل الأنكليز ومعهم الأميركان ومنذ بداية القرن التاسع عشر جهودا جبارة في نشر المذهب البروتستانتي بدون تحقيق نجاح يذكر نظرا لتمسك المسيحيين المشارقة بكنائسهم والنجاح النسبي للكاثوليك والدونوميكان في تحقيق بعض المكتسبات للكنيسة الكاثوليكية]. ومن جهة أخرى عزز وجود البعثة التبشيرية الدونوميكانية بمدرستهم الجيدة ومستشفاهم في الموصل الميل للتطلع الى فرنسا.. فالعلاقة مع روما قوية ويرجح ان تبقى كذلك لأن الكنيسة الكلدانية لا اموال [أو أوقاف] لها وتعتمد في تمويلها على روما.[في الواقع تتمتع الكنيسة الكلدانية بأموال تردها بطريق الهدايا العينية لأتباعها وأكثرهم أغنياء كما توجد في الكنائس الكلدانية مكتبات ثرية بالمصادر النادرة]

وفي تلعفر، وهي قرية كبيرة على حافة الصحراء بين الموصل وسنجار، هناك نسبة كبيرة من السكان من التركمان، ويزعمون انهم تحدروا من عسكر تيمورلنك ، ومعظمهم شيعة. إلا أن المذهب السني هو السائد في منطقة الموصل..وعدد الشيعة في مقاطعة [ولاية] الموصل لايتجاوز 17.000 أزاء 250.000 سني، ولايوجد شيعة في أربيل الى الشمال. ونجد في الضفة اليسرى لدجلة  بين النهر والجبال أغثاء وبقايا ماخلفته كل الغزوات والهجرات ل 2000 سنة اخيرة خلت أوأكثر..فبالإضافة الى اليزيدية والمسيحيين من كل مذهب، هنالك التركمان والعرب والأكراد في واجهات متقاربة..وهناك جماعات كبيرة من الشبك والصارلية الذين يقال عنهم انهم يعتنقون دينا سريا او ينتمون الى غلاة الشيعة..ولهولاء [الشبك والصارلية] صلات مع العلي الهية [في الواقع لا صلة للشبك بالعلي إلهية كما ذهبت بيل الى الأفتراض، ولكنهم كما يذهب الكرملي وحامد الصراف يقدسون الإمام الرابع علي زين العابدين ويسمونه علي رش وله مقامات في قراهم ومزار في قرية بأسم علي رش وفي رأي مينورسكي ان الكوران وليس الشبك يتصلون مباشرة بالعلي الهية] الذين ينتشرون على جانبي الطريق بين قصر شيرين وكرمنشاه [هنا نرى ضمنا ان بيل تفترض صلة توجد او انها تخلط بين الكرد الفيلية واللور في المناطق المذكورة والعلي إلهية ربما لأن الفيلية أكراد  شيعة معروفين بتقديسهم لعلي ع]..وينتشر اليزيدية بمحاذاة التلال [سفوح الجبال] بينما يوطن الجبال باكملها الأكراد الى جانب قرى المسيحيين وقليل من قرى اليهود. والجماعة اليهودية في الموصل صغيرة وليس لديهم الثروة والمكانة اللتان تصفان يهود بغداد. وعندما وصلنا الموصل كانت مليئة باللاجئين الأرمن ولكن اكثرية هؤلاء اللاجئين اخليت الى بغداد مما جعل عدد المقيمين الأرمن في الموصل يقتصر على اسر قليلة.. وقبل احتلال الموصل، كانت لدينا علاقات مع شمرالجربا ويتألف بيت الشيخ من 15 ولدا من ابناء فرحان باشا الذي توفي قبل 40 سنة [توفي الشيخ فرحان الجربا عام 1890].وعندموته تقاسم اولاده المشيخة فيما بينهم، وكان اكبرهم العاصي وهو الرئيس الفعلي للقبيلة..ويقال عنه انه قبل الحرب كان قد جاء الى الموصل بموافقة على تعهد بحسن السيرة من قبل الوالي آنذاك..ولكن الوالي لم يف بتعهده وألقي به في السجن ، وعندما اطلق سراحه اقسم بالطلاق بانه لن يضع قدمه مرة اخرى في الموصل. فإن صدقت هذه الرواية فأنها تلقي ضوءا ساطعا على سلوكه خلال السنة الماضية. [ لم تتحدث بيل عن سلوك الشيخ في السنة الماضية]، وبعد الشيخ العاصي يأتي ابرز أعضاء اسرة الشيخ وهم ابنه هاشم وحفيده دحام أبن هادي ثم حميدي وبدر وبقية اشقاء العاصي، وابن عبد العزيز عجيل الياور الذي يرتبط به اولاد شلال مطني ومشعل ثم محمد ابن محمد عاصي وعبيد، وأولاد مجول وفارس. والشمر لهم عداوة متوارثة مع العنزة كما يوجد عداوة خلال فترة الحرب بينهم والدليم. وقد حاول احد الشيوخ او اثنين منهم خوض غمار الزراعة، وهكذا حاول حميدي وبدر زراعة الأراضي المجاورة لقناة الفرحاتية بالقرب من بلد..كما حاول عجيل الياور تجربة الزراعة بالمشاركة مع محمد النجيفي أحد شيوخ الموصل  في منطقة نجمة بالقرب من الشورة [محمد النجيفي هو والد السيد عبد العزيز النجيفي وجد السيد اسامة النجيفي رئيس البرلمان العراقي]..غير ان الأكثرية الغالبة من اعضاء القبيلة بدو يجوبون الصحراء ويعتمدون في معيشتهم على قطعان الجمال التي يمتلكونها، وكذلك على الخاوة التي يفرضونها على ألقبائل الأخرى وكذلك على القوافل [التجارية] وبخاصة تلك التي تسلك طريق نصيبين منطلقة من العراق او بلاد الشام.

وكان الشمر خلال الحرب، بإستثناء فيصل [الجربا]، الذي يسكن قرب الموصل وليس لديه تأثيرا كبيرا، يقفون بلا تردد الى جانب الأتراك، وبمقدورنا ان نفهم السبب باعتبار موقعهم الجغرافي [تعتبر الموصل في العهد العثماني قلعة تركية متقدمة في المواجهات المستديمة مع الفرس لهذا بذلوا جهودا لتتريك ادارتها وتعيين افضل الولاة واكثرهم ولاءا للباب العالي فيها ويقيم الشمر في اطراف الموصل والجزيرة وفي حوض الخابور وسوريا وهم على احتكاك مباشر مع السلطة التركية فضلا عن طبيعتهم البدوية المناوئة بالفطرة للوجود الأجنبي]. فقد استغلوا [اي الشمر] تقدمنا الى اعالي النهر [دجلة] لينضموا الى الجماعات التي شرعت بنهب القرى الواقعة على دجلة وعلى طريق نصيبين.[ يتعامل الأنكليز مع قبيلة شمر تعاملهم مع دولة مستقلة، ولا سيما في أوقات تسود فيها الدولة الأضطرابات ويتخلخل الحكم.. ولا غرابة في  ذلك فعندما تتحول الدولة الى عصابة وينتشر في مفاصلها الفساد تتحول العصابة الى دولة وهذا مايشهده العراق في الوقت الحاضر].  ولكن عندما دعوناهم للمجيء الينا لبى كل من حميدي وعجيل الياور وعيادة ابن العاصي دعوتنا واعتذر العاصي بسبب تقدمه في السن.فطلبنا منهم البقاء في الموصل لحين الإنتهاء من اجراء ترتيبات خاصة بهم. فوافقوا على ذلك. وبعد عدد من الأيام، على اية حال غادر عجيل الذي يمتلك نفوذا كبيرا بينهم، اما بسبب الخوف او لسبب آخر نجهله، الموصل بدون ان ينتظر ترخيصا بالمغادرة. فاعتبر خارجا على القانون وتمت الإغارة على عائلته وجماله القريبة من الشرقاط والإستيلاء عليها غير ان الجمال اعترضتهم عاصفة رعدية فهربت الى حيث لاندري بينما كانت في طريقها الينا. [يظهر هذا السلوك عدوانية الإنكليز في ارغامهم شيوخ القبائل بالقوة على التعاون معهم] أما حميدي فقد اعلن خضوعه للحكومة وتعهد بالمحافظة على عبدة وجزء من الصايح [عبدة والصايح تحالفين من الشمر ] في جاهزية، فخصصنا له مرتبا شهريا مقداره 500 روبية. أما العاصي فقد بقي في انحاء نصيبين حيث يرسل بين الآونة والأخرى رسائل طاعة ولكن تلك الرسائل وبسبب طابعها الغامض لم تلق قبولا من قبلنا. وقد جاء هاشم خلال الصيف، لكن مبادراته تم رفضها لأنه جاء بمفرده. وحدثت اعمال نهب، نسبت للشمر، بين فترة وأخرى في طريق نصيبين واماكن اخرى، ولكن لم تحدث سرقات كبرى لحين شهر ايلول عندما جردت احدى القوافل من 3000 ليرة تركية في منطقة ابوحامضة على طريق دير الزور [وادي ابو حامضة يقع الى الشمال من دير الزور سكنتها قبائل شمرية من حلف العبدة وللشمر المتواجدين فيها علاقة مع حميدي بن دهام الجربا]، وفي خطوة انتقامية، هوجمت شمر بعربات مدرعة وتم الإستيلاء على اعداد كبيرة من قطعان اغنامهم..وكنا نأمل اعتراض طريقهم عندما يحين وقت رحلتهم السنوية الى الجنوب إلا ان خطتنا أخفقت وتمكن الشمرمن تجاوز مواقعنا والمروق جنوبا. على اية حال، ارسل العاصي حفيده دحام الى الموصل حاملا رسالة يعلن فيها تخليه عن المشيخة له وتتضمن الرسالة تصريحات من هاشم ومطلك الفرحان وآخرين مفادها انهم يقرون بدحام شيخا لهم، فأبلغنا دحام انه وكخطوة أولى، يتوجب عليه جمع مبلغ 3.500 ليرة تركية لدفعها كغرامة عن عملية السطو على القافلة في ابو حامظة [يلاحظ ان الأنكليز أضافوا 500 ليرة على المبلغ الذي سرق في ابي حامضة وكأنهم بلك يمارسون نوعا من الخاوة بأنفسهم]. وبعد تسليمه المبلغ المذكور سيتم تعيينه [الإعتراف به]  من قبل الحكومة شيخا على قبيلة العاصي. فوافق وارسل بعد مدة وجيزة جدا مبلغ 1800 ليرة، ويعتقد أنه جمع المبلغ من القبيلة عندما حدثت عملية دير الزوركما سنروي لاحقا بما يجعله يتسائل فيما إذا كان يراهن على الحصان الرابح [يبدو ان خطأ مطبعيا او تدوينيا حدث هنا والأصح ان نقول [بما يجعلنا نتساءل فيما إذا كنا نراهن على الحصان الرابح]..وقد تسبب هذا [يوجد نقص في النص الأصلي] بتأخير الدفع [لأن دحام لم يدفع المبلغ المطلوب كله] كما عملت الدعاية الشريفية [الدعاية لتنصيب ملكا جديدا للعراق هو فيصل بن الحسين شريف مكة] الى مزيد من التأخير.وفي نيسان قام [دحام] بدفع 1500 ليرة أخرى لينتقل مع قبيلته بعدها خارج الأراضي [المحتلة من قبل القوات البريطانية]..
وقد طرحت القبائل بصورة مباشرة مشكلة الخاوة التي تنتزع منهم.وكانت هذه الأتاوة تعتمد اساسا ثابتا إذ تتضمن كبشين واربع نعجات، وأربعة خراف و6 مجيديات تدفع نقدا على كل قطيع [وكان الشمر يفرضون هذه الخاوة على كل العشائر والطوائف بدون تمييز]، وقد توزع أولاد فرحان فيما بينهم جباية الخاوة..وأخذ الخاوة من القبائل الصغيرة في الجزيرة ليس بدون سبب: فهي لاتعدو ان تكون سوى مبلغ يعطى لقاء ترخيص تمنحه شمر لهم برعاية قطعانهم في مراعي شمر [هنا تفترض بيل ضمنا ان منطقة الجزيرة تعود لقبيلة شمر].إلا أن شمر اضحت تفسر ذلك بأن لهم حق جبايتها [الخاوة] من القبائل على قطعانهم كلها حتى الموجودة منها في الصحراء ولكن بنسب تخضع للمراجعة، مع استثناء الأراضي الزراعية في القرى. ولم يتم الأعتراف بفرض ضريبة [مرور] على القوافل [ولاتحتاج شمر لأعتراف الحكومة لأنها تهاجم القوافل وتقتطع المبالغ التي تريد كما في هجومها على قافلة وادي الحامظة بالقرب من دير الزور]..وتعطي الخاوة لمن يدفعها الحق بالحماية، وفي الوقت الحاضر من الصعب علينا ايجاد طريقة لمنعها..

مع ذلك فإن التنافر [التقابل الضدي] بين اهتمامات [اهداف او مصالح] البدوي والمزارع [الفلاح] او التاجر تتضح على افضل نحو من خلال وضع الشمر. فالشمر اشبه بالهوام [الشر العام] [الذي يعم الجميع] فهم يعيشون على النهب والإبتزاز. غير ان بعضهم أدرك في

3
عقدة الضحية بين التكفير والعنف

"أيران نموذجا"

صلاح سليم علي

تعد عقدة الضحية احدى الإضطرابات النفسية التي تصيب الفرد والجماعة، وتنشا في الأغلب، من جراء تعرض الفرد او الجماعة الى الأضطهاد والظلم أو القمع ومايصاحبه من عمليات قتل او حرق او نفي او تخريب للحرث والنسل او ابادة للجنس وما الى ذلك، فعليا او تصوريا..ويتميز المصاب بعقدة الضحية بالإشتكاء من القوى اوالأطراف التي تسببت بالظلم الذي وقع عليه ..وغالبا ماتتمثل هذه القوى او الأطراف بسلطة خارجية فعلية او تصورية..فالسلطة الظالمة قد تكون متخيلة ولا اساس لوجودها خارج تصورات الفرد او الجماعة اللذان يعيشان عقدة الضحية، وقد تفد بطريق المعايشة والمشاركة والتعاطف مع شخص مصاب او جماعة مصابة بعقدة الضحية..فعقدة الضحية تستوجب وجود قوة مسؤولة عن الظلم او الأذى الذي تعرضت له الضحية وتسبب في تكوين عقدة الضحية لديها..ومن الناحية النفسية يميل المصاب بعقدة الضحية الى اسقاط اخفاقاته على الاخرين الذين يتهمهم بالعجز عن فهمه والتجاوب مع معاناته..ويعد اي اختلاف معه في وجهة نظرته او قناعاته عملا عدوانيا يستهدف شخصه، اي انه يرفض اي انتقاد يوجه اليه وغالبا ما يميل الى التعلق بقضية ما يمحور عليها شعوره بالجور والظلم او يعلق عليها آماله برفع الجور وإزالة الظلم..كما يميل المصاب بهذه العقدة الى جلب الإنتباه الى مايقوم به من افعال ..وفي حالات معينة تتحول عقدة الضحية والإضطهاد الى امتياز يعطي المصاب بها حقا يمنحه لنفسه فردا او جماعة على اضطهاد الآخرين..وبخاصة عندما يكون بمقدوره اسقاط صفات قمعية بهم..

وقد تتكون عقدة الضحية بحكم نشوء الفرد ضمن جماعة تعاني من اضطهاد دولة او حاكم مستبد كما في حالة اليهود اوالأرمن..وهذه الحالة غالبا ماتكتسب طابعا مستديما حتى بعد غياب الإضطهاد الذي تعرضت له الجماعة وزوال العوامل التاريخية التي افضت اليه كما في حالة اليهود في اثناء الحكم النازي اوالأرمن في الدولة العثمانية أو السود في الولايات المتحدة حيث يفسر انتخاب اوباما الى السلطة على انه محاولة تكفيرية لذنوب البيض ازاء السود في اميركا.. وغالبا ما تتطور عقدة الضحية في جانبها الجمعي بطريق التعاطف مع ضحية خارجية لاعلاقة لها مباشرة مع الجماعة المصابة بعقدة الضحية وهناك حالات تصاحب فيها عقدة الضحية مشاعر الذنب، لما فعله او لما لم يفعله الشخص أزاء الأذى او الظلم الذي تعرض له فردا ما او تعرضت  له جماعة ما، مما يولد لدى المصاب بعقدة الضحية دافعا للتكفيرعن الذنب الإفتراضي الذي ارتكبه اسلافه بالعدول عن القيام بعمل ما لدفع الظلم . وغالبا ماتتخذ حالة التكفير صورا وممارسات تكفيرية متنوعة كالنياحة واللطم وما يقع تحت طائلتهما ويصاحبهما..

وبينما تشكل عقدة الضحية على الصعيد الفردي اعتلالا نفسيا، تمثل على الصعيد الجمعي او المجتمعي هوسا اجتماعيا غالبا ماتصاحب التعبير عنه حالات من العنف والتطرف والمبالغة في ممارسة امتيازات تمنحها الجماعة تحت طائلة عقدة الضحية  لنفسها..

وتظهر عقدة الضحية لدى الأقليات كاليهود في المجتمعات المسيحية والإسلامية ..والمسيحيين في المجتمعات الوثنية أوالإسلامية..غير ان ظهور عقدة الضحية وتطورها وتحولاتها لدى الشيعة وبخاصة الفرس منهم جاء نتيجة عوامل تاريخية معقدة اسست للخلاف والإختلاف في الحاضرة الإسلامية..

تعود تقاليد النياحة في ايران الى العهود القديمة التي سبقت اعتناق الفرس للإسلام حيث تشكل جزءا من الطقوس الدينية للمزدكية والزرادشتية وكانت تصاحبها في مراسيم عبادة الشمس وفي معابد النارالتراتيل وضرب الدفوف ..وقد عكست الشاهناما التي الفها الفردوسي جوانب مختلفة للنياحة ومابرحت الشاهنامة تقرأ في مجالس العزاء البختيارية جنبا الى جنب مع واقعة الطف .. حيث يتمثل الفرس قتل رستم لإبنه سهراب على سبيل الخطأ ونعي رستم ابنه على نحو مماثل لتمثلهم لمقتل الحسين..  وغالبا مايمثل للملوك الفرس القدماء في ايران بأسود اوواقفين الى جانب اسد تماما كما يمثل الإمام علي (ع)  بل وحتى النبي محمد (ص) من قبل الفنان الأيراني  بأسد او واقفا الى جانب أسد..وقد تلقت تقاليد النياحة الفارسية، بظهور الإسلام وماتمخضت عنه الصراعات والفتن في الحواضر الإسلامية من مذابح وحروب، زخما هائلا مما جعل ايران بلدا انموذجيا للنياحة ومايتصل بها من مظاهر وممارسات العزاء والتأبين ..وتختلف النياحة الأيرانية في كونها ممارسة جماعية متكررة تتجاوز الإنتماءات الإثنية والأنتماءات الطبقية ويندر ان تصاحبها اعمال العنف على الرغم من امكانية تحول الجماعة الناعية الى جماعة صاخبة وتحول العزاء الى دعوة الى العنف والثأر من قتلة الحسين وأهل بيته..وعلى الرغم من انتساب المذبحة الى التاريخ..والتاريخ العربي تحديدا..غير ان الأيرانيين يشعرون ان التاريخ العربي تاريخهم ايضا في عدد من المفاصل والمواصل المهمة فايران بحكم مجاورتها للعرب وبخاصة العراق كانت الأولى في قائمة الفتوحات الإسلامية..وهي على الرغم من أختلافها عنصريا وحضاريا عن الحضارات القديمة التي جاورتها في بلاد الرافدين والشام ووادي النيل وتركيا والحضارات التركمانية والمغولية والأوردية والصينية غربا والأرمنية والروسية شمالا، تتشاطر مع هذه الحضارات كلها جوانب عديدة من التاريخ السياسي والحضاري وبخاصة حضارات الشرقين الأدنى والأوسط..وماتتشاطره مع العراق اكبر واوسع..ولكن بقدر تعلق الأمر بالنياحة فقد ترتب على تدمير سنحاريب لعيلام شعورا بالضحية ولايستبعد ان العيلاميين ورثوا رثاء المدن المخربة عن السومريين..وهو شعور لاشك في تجدده عند سقوط بيرسيبوليس على عهد داريوس الثالث وقيام الأسكندر بحرقها وتزويج نساء من نبلاء الفرس لمراتب وقادة في جيشه..كما تجدد عندما اسقط العرب دولتهم الساسانية بعد قرابة الف سنة من غزوة الأسكندر المقدوني وتوغله في بلاد فارس وصولا الى الهند..

ولكن الفتح العربي يختلف عن الحروب السابقة في كونه استقدام لثقافة جديدة وديانة جديدة وترتب على الثقافة الجديدة تبني الفرس الثقافة العربية الإسلامية وترتب على اعتناق الديانة الجديدة زوال الديانة الزرادشتية..وكان تأثير الثقافة العربية شموليا وواسعا ولكنه لم يلغ اللغة الفارسية على الرغم من استخدام الحروف العربية لغة للكتابة..
وفي عهد صدر الإسلام لم يكن هناك خلافا بين العرب والعجم ..كما لم يكن هناك اي اختلافات مذهبية..وكانت الإختلافات في معظمها عربية عربية..غير ان الموالي وهي التسمية التي اطلقها العرب على المسلمين من العجم وبدافع عقدة الضحية التي تميزهم مالوا الى الدخول طرفا في الخلافات العربية العربية بدءا ببيعة ابي بكر الصديق (رض) وبحربي الجمل وصفين وانتهاءا بمقتل الحسين (ع) فاختاروا الوقوف الى جانب الضحية في الأسلام وفق تصورهم..فدخلوا طرفا ايديولوجيا في الشجار بين عائشة وفاطمة تبعا لتنافر افتراضي لاوجود له سوى  في رواياتهم بين ابي بكر الصديق (رض)وعلي بن ابي طالب(ع)..ومما زاد الطين بلة تزوج الإمام الحسين بحفيدة كسرى (شهربانو) التي اخذت سبية الى المدينة بعد اندحار الفرس في الحرب مع العرب..وقد ولدت شهربانو للحسين بن علي (ع) الإمام الرابع علي زين العابدين مما يجعل الفرس أخوالا للأئمة من ذرية الإمام علي (ع)..كما تدفق الفرس في الحواضر العربية فاتقن الكثير منهم العلوم الدينية واللغة العربية فكان منهم الشعراء وعلماء اللغة والحديث .. وبلغوا شأوا بعيدا في النفوذ الثقافي والسياسي العربي في اثناء الدولة العباسية فاستلموا دواوين الدولة ووزاراتها مما حدى بالجاحظ الى القول: [دولة العباسيين أعجمية خراسانية ودولة بني مروان عربية أعرابية]..
وكان الفرس فضلا عن دخولهم طرفا في الصراعات العربية العربية اذ اتخذوا جانب اليمانية في التنافس المضري اليماني باعتباره صراعا بين اعمام النبي في قريش واخواله في اليمن، ووقوفهم الى جانب العباسيين في ثورتهم ضد الأمويين فوقوفهم الى جانب العلويين في حركاتهم ضد العباسيين، حاضنة للحركات الهدامة ضد العرب كالديصانية والبيانية والمنصورية والجناحية والبابكية والقرمطية
 والمشعشعية فضلا عن تحويل بلادهم الى بيئات للحركات الأنفصالية على حساب الدم العربي والدول العربية مما افضى الى تشكيل دويلات جديدة منشقة كالدولة الطاهرية في خراسان، والصفارية في فارس، والسامانية في بلاد ما وراء النهر، والساجية في أذربيجان، والزيارية في جرجان، والبريدية في الاهواز، والبويهية في الشرق الادنى كله ،واخيرا الدولة الصفوية التي اعلنت مذهب الشيعة العربي دينا للدولة..موجدة بذلك شرخا في داخل ايران والعالم الإسلامي يمتد ليشكل مقطعا عرضيا يعطل حركة التاريخ الإسلامي ويجمده في محور الخلاف القديم وقد اكتسب ابعادا جديدة على الصعيدين الآيديولوجي والعقيدي..فالتاريخ الذي اعتمده الصفويون ليس تاريخ ايران بل هو تاريخ العرب .. وهو تاريخ لايبدأ بالهجرة الى المدينة بل يبدأ في 12 تشرين الأول عام 680 ميلادية والموافق للعاشر من محرم عام 61 للهجرة.. وفي الصراع الدائر على الخلافة بين البيتين الأموي والعباسي من جهة والعلوي من جهة أخرى اتخذ الفرس موقفا مناهضا للخلافة ومؤيدا للأئمة من ذرية الأمام علي مما ولد مفردة الشيعة التي تعني مشايعة الأئمة من آل بيت النبي محمد (ص)..

ولأن آل البيت بدءا بالحسين(ع) راحوا ضحايا بالسيف او السم من قبل الأمويين ومن بعدهم العباسيين، تركزت لدى الشيعة عموما والفرس بوجه خاص عقدة الضحية ..وتطورت لتتخذ طابعا دراميا يتجاوز النياحة الى التطبير والضرب بالزناجير..أي العنف الذاتي المتجه الى ذات الشخص..وهو عنف من شأنه ان يتحول ضد الآخر بسهولة..,لاسيما عندما يخيل للمصاب بعقدة الضحية ان عدوا او حفيدا او مواليا للخصم التاريخي مابرح موجودا ومابرح في السلطة..وبالنتيجة تصبح الحاجة الى الأعداء أكثر حيوية وأهمية بالنسبة للمصابين بعقدة الضحية من الحاجة الى الأصدقاء والمؤيدين.. وتجدر الملاحظة الى ان الفرس لايعدون مقتل الأمام علي (ع) بداية للماساة، على الرغم من ان الأمام علي (ع) هو اول الأئمة وزوج بنت رسول الله ووالد الحسن والحسين، مما يفسر المبالغة في تصوير المذبحة وتعظيم عاشوراء والتهرب خفية من الحقيقة التاريخية القائلة ان عبد الرحمن بن ملجم الذي اغتال الإمام علي (ع) فارسيا في قوميته..

وفي قيام الجماعة التي تتشاطر عقد الضحية بالبكاء والعويل (النياحة) والتطبير والضرب بالزناجير والإمتناع عن الماء تقترب من الشعوربآلام الضحية الحسين (ع).. وهي بالوقوف الى جانب الحسين تجد مشروعية للإنتقام من قاتليه..مما يسهل تحول مواكب العزاء الى افواج حرب..ويعزز الإيمان بظهور المهدي (ع) مفهوم الإنتقام من اعداء الإمام الذين هم اعداء الله في الوقت نفسه فالإعتقاد هنا أن ظهور المهدي (ع) سوف يصاحبه تغيير في نظم العالم وانه سيواجه الظلمة والجائرين ومن ضمنهم مسيح دجال يرى بعين واحدة..وتغيير كهذا لابد ان تصاحبه حرب.. فالمهدي كأجداده يرمز لكل ماهو عدل وخير بينما يرمز خصومه للشر والطغيان اللذان واجههما الحسين (ع) في معركة كربلاء..وهي معركة غير متكافئة تمخضت عن فاجعة كربلاء وانتصار الظلم والطغيان متمثلان (في المنظور الشيعي) بيزيد بن معاوية والدولة الأموية..

غير ان قراءة تلك المرحلة تختلف عن قراءة اية مرحلة اخرى في التاريخ العربي الإسلامي فهي تمثل مفترق طرق كبرى ليس في التاريخ وحده بل في العقيدة وفي تصور العالم، فمأساة الحسين(ع) اصبحت حجر الزاوية الرئيسة في الذاكرة الحضارية للشيعة ومعيارا جوهريا للتفريق بين العدل والجور والحق والباطل والمشروعية واللامشروعية وبالتالي انقسام العالم الإسلامي والتاريخ الإسلامي والعقيدة الإسلامية.. فمأساة الحسين (ع)حدث تاريخي ولكنه عند الشيعة واقع معاش..فالمذبحة ماتزال قائمة والحسين (ع) مازال رأسه مقطوعا امام يزيد وزينب شقيقته ماتزال مسبية في دمشق..وفي زيارة المدن الأيرانية او مدن العراق في الصيف نشاهد حاويات الماء المثلج وأمامها الناس من مختلف فئات المجتمع يقدمون الماء البارد للسابلة ردا على ظمأ الحسين واسرته في صحراء كربلاء..بينما تفد مواكب العزاء حاملة رايات خضراء وسوداء وحمراء ويضرب الرجال صدورهم ورؤوسهم بأكفهم ومنهم من يغمر اجزاء من جسمه في الطين او يضرب رأسه بالسيف وظهره بالزناجير المزودة بالشفرات القاطعة احيانا..وقد اصبحت مواكب العزاء أكثر تنظيما واوسع وباتت النشاطات والفعاليات التي تتخللها اكثر تنوعا..وصاحبت هذا التنوع طائفة من المفردات التي تصف الناس والفعاليات كالحسينيات والتشابيه والرواديد والروزخون والكليدار والكشوان واللطمية التي تسمى في الخليج بالعزاء او الشيلة وغيرها..واتسعت تلك النشاطات بحيث اصبح لكل منها جماعة متخصصة محترفة..وقد وفرت الفضائيات والأنترنت فضاءا جديدا لنشر هذه النشاطات والفعاليات حتى انتقلت الى مجال الدعاية والمواجهات الآيديولوجية...وكان الصفويون اول من ابتدع فكرة مواكب التعزية واعطائها بعدا شعبيا استعراضيا كجزء من دعايتهم السياسية لسحب السنة وكانوا الأكثرية في ايران الى المذهب الشيعي..وكان اسماعيل شاه صفوي مؤسس الدولة الصفوية اعتمد المذهب الشيعي في تشكيل جيش القزلباش [العمائم الحمراء] وفي نشر دعاية سياسية اعتمدت مفاهيم الثأر للحسين..وكان في اشعاره التي نظمها باللغة التركية يقول ان ابوه علي وأمه فاطمة وانه جاء ليثأر للحسين..ويذكرالمؤرخ عباس العزاوي ان لأسماعيل صفوي صلات بالمشعشعين في جنوبي العراق..مما يوضح الإمتدادات الجغرافية للمذهب في بداياته التاريخية..وكان الصفويون يهدفون بالإضافة الى نشر التشيع بين الأيرانيين الى ترسيخ الكراهية للسنة وربط المذهب السني بالعرب..مما يميط اللثام عن الأبعاد العنصرية في الدعوة الصفوية على الرغم من اعتمادها على رموز عربية كالحسين وأخيه العباس (ع) واسرتيهما...

وقد ترتب على انتشار التعزية وتنوع نشاطاتها والممارسات الدموية العنيفة المتصلة بها تأصيل عقدة الضحية لدى شرائح واسعة من الشيعة وتجذرها فيهم لأن ممارسة البكاء واللطم والتطبير والضرب بالزناجير لم يستثن الأطفال والصبيان..وتحمل تلك الممارسات ضمنا مشاعر عداء مضمر للسنة من شأنها تدويم الفرقة بين المذهبين الرئيسين في الإسلام..

وتجدر الإشارة الى ان ملحمة كربلاء ورواية تفاصيلها (التعزية خواني - اي قراءة العزاء الحسيني) هي من مبتكرات الثقافة الأيرانية وليس العربية على الرغم من كثرة الروزخونية العرب  وانتشارهم في العراق ايضا..والتعزية اعادة تصورية لإستشهاد الحسين (ع) ومايتصل بها من حوادث بما يؤكد مشاعر المظلومية لدى المستمعين الذين غالبا ما يسقطون معاناتهم الشخصية من الفقر او الظلم الشخصي على مظلمة الحسين فتتوحد معاناتهم الشخصية بمعاناة الحسين ولاسيما عندما يكون الروزخون فارسيا او محاكيا للفرس يقرأ المقتل بعاطفة شجية مصحوبة بالبكاء مما يثير في بواطن الروح الإيرانية مشاعر حزن اوائلية قديمة كامنة في الطقوس الزرادشتية وفي موت سهراب وزوال ممالكهم المتكرر منذ العهود القديمة وحتى الفتح الاسلامي..

لقد رحل الإمام علي (ع)  ومعاوية منذ القرن السابع ..مع ذلك فإن الصراع بينهما على الحكم مابرح قائما..وهذا مايفسر بوضوح الحوادث السياسية في الشرق الأوسط عموما كالعداوة العميقة بين السعودية وايران والمواقف المتنافرة ازاء الحرب في سورية بل وجانبا كبيرا من خلفيات وتيارات  واهداف الإنتخابات البرلمانية الحالية في العراق..




4
الجذور التاريخية للتعدد الإثني في الحدود الشرقية للعراق

صلاح سليم علي





مقدمة:

تعد منطقة الحدود العراقية مع ايران واحدة من أكثر مناطق العالم تعقيدا من النواحي الأنثروبولوجية  والإثنية والجغرافية والسياسية والحضارية مما اضفى الى تاريخ الأمم التي استوطنت بلاد الرافدين وايران طابعا خاصا أثر ومابرح يؤثر على العلاقات بين العراق وايران ويسقط ظلاله القريبة على الشرقين الأدنى والأوسط والبعيدة على دول الشرق والغرب ممن تؤثر وتتأثر بأقدار البلدين والسياسات التي تنتهجانها...غير أن العلاقات بين العراق وأيران تعد الأكثر تعقيدا وتشعبا عبر التاريخ وذلك لتجاور البلدين بخط حدود يبلغ 1.472 كلم،  فضلا عن وجود ما يقرب من 42 نهرا ورافدا وجدولا كانت تصب في العراق وبضمنها نهر "الوند" الذي يسهم بما يقرب من 40 بالمائة من نهر "ديالى"، بالإضافة الى نهر "الكارون" و "الكرخة" و "دويريج" و"الطيب" التي تصب في الاهوار او نهر دجلة قبل ان يعمد الجانب الايراني الى قطعها..

وبقدر تعلق الأمر بتكوين الأمم، لابد من الإشارة الى أن الشعوب والأقوام والأعراق المختلفة تغير اماكنها من منطقة الى اخرى عبر الأزمنة المختلفة والى ان سكان منطقة ما من العالم ليسوا في الأغلب هم السكان الأصليين لتلك المنطقة..ويصدق هذا على معظم مناطق العالم ..فقد استوطن العالم الجديد أناس غير سكانه الأصليين، واستوطن الأتراك بلادا كانت تتتوزعها امم اخرى كالحيثيين والحاتيين والأرمن والآشوريين والسكيثيين واليونانيين والقفقاسيين وغيرهم..غير ان الأمم التي استوطنت وادي الرافدين وأيران عديدة في كلا البلدين..ودرجة التجانس التي تصف الأمم التي استوطنت وادي الرافدين أعظم منها لدى الأمم التي استوطنت ايران ربما بأستثناء المناطق الحدودية بين البلدين التي شهدت تنوعا اثنيا هائلا سنتطرق اليه في هذه الدراسة..

وتتصف العلاقة بين الجانبين الأيراني والعراقي بالتنافس والصراع وألإحتراب فضلا عن التعاون والتبادل الحضاري والثقافي على الرغم من رجوح كفة الإحتراب والتنافس والصراع على الكفة الأخرى.. وتعود العلاقات الى العهود السومرية الضاربة في القدم اي قبل استيطان الميدين والفرس اراضي أيران بحدود الفي سنة إذ نطالع في  منحوتة الملك نيرام سين المحفورة على واجهة احدى حافات سلسلة جبال قوبي في دربندي كورة على مقربة من قرية قرة داغ الواقعة على بعد 70 كم  الى الجنوب الشرقي للسليمانية .وتمثل الملك الأكدي الذي حكم سومروكيش للفترة 2255 – 2218 ق.م. حاملا مطرقة وعند قدمية يستلقي أثنان من اللولوبي أو الكوتيين الذين يرمزون الى اعداء أكد [تماثل هذه المنحوتة منحوتة تصور الموضوع نفسه في متحف اللوفر]، ويوجد نقش كتابي ربما كان تعريفا للملك الذي أمر بحفره إلا أن النقش ممسوح ربما بهدف تمويه التاصيل الحضاري للمنطقة. وفي موقع اعلى من مكان المنحوتة نطالع بقايا قلعة ومقبرة..وتؤكد هذه التحصينات الدفاعية القريبة من زاكروس وفي مراكز مهمة داخل زاكروس لاحقا الجهد العسكري للأكديين في اثناء حكم سرجون الأول وأبنه نيرام سين في مواجهة الكوتيين وهم أقوام زاكروسية تتواجد في منطقة همدان التي بنى فيها كيخسرو الثاني أجبتانا لاحقا. وكان الكوتيون قبائل همجية لاحظ لها من حضارة ولم يؤثر عنها شيئا يستحق الذكر سوى أنها اجتاحت جنوبي العراق واسقطت السلالة السرجونية على عهد ابن نيرام سين شار- كالي- شاري زهاء 2210 ق.م. وقد تمخض غزوهم العراق عن توقف الزمن وتعطل الحضارة وركود الحياة على مدى 100 سنة ليطردهم منها نهائيا ملك اوروك أوتوهنكال عام 2130 ق.م.

وفي العصر الاشوري الحديث توغل  الآشوريون فيما وراء جبال زاكروس وقاموا بتأسيس مقاطعتين آشوريتين غربي إيران هما (بارسوا) و (بيت همبان) في أثناء حكم الملك تكلاثبليزر الثالث عام 744 ق.م. ثم أردف الملك سرجون الثاني هاتين المقاطعتين ببناء مدينتين عسكريتين اخريتين هما مدينة نركال (كيشيميم)  او (كارنركال) التي تقع اطلالها حاليا في مدينة نجف آباد، ومدينة سرجون او كارشيروكين (هرهر) التي تقع أطلالها على الأرجح بين همدان وملايروتبعد 25 كم عن ملاير في الطريق الى همدان وقد بنى الفرس على الأسس الآشورية معبدا للنار وأعادوا تسمية القلعة فأسموها قلعة نوشيجان.. ويقينا فأن تمركز الحصون الآشورية في منطقتي همدان وكرمنشاه يعود الى كون المنطقة بينهما البوابة الأيسر الى الهضبة الأيرانية التي يعد الأشوريون السيطرة عليها بمثابة مفتاح للسيطرة على الشرق بأكمله قياسا بالمنافذ الجبلية الوعرة الى الشمال او مناطق الأهوار الى الجنوب ومما تنطوي عليه من صعوبات طوبوغرافية وعسكرية خاصة اذا اخذنا بنظر الأعتبار استخدام الآشوريين للعجلات والخيول بالدرجة الأولى..غير أن الاشوريين كانوا قد وقعوا في خطأ كبير عندما استخدموا حرسا ميديين في قصورهم كانوا السبب في تخريب دولتهم وهذا ماكرره بعدهم العباسيون باعتمادهم على الفرس ثم الترك جندا في بلاط الدولة العربية لاحقا.. كما عمد الآشوريون وفي خطأ آخر الى تعيين خصيان من زاكروس حكاما اقليميين على المدن التي اسسوها في زاكروس كانت وظيفتهم بالأضافة الى الإشراف على تجارة الخيل وجمع الأتاوات وجباية الضرائب، التجسس على نشاطات الزعماء القبليين الميديين ك(آىشور- دا-ايناني) الذي كلف بقيادة حملة آشورية على الميديين في زاكروس عام 733 ق.م. وعلى الرغم من القلاقل وتتابع الخيانات في المراكز الآشورية في زاكروس وبخاصة في القرن السابع ق.م. فأن المصادر تؤكد استمرار السيطرة الآشورية على المقاطعات الأربع التي اسسها تكلاثبليزر الثالث وسرجون الثاني حتى عصر آشوربانيبال. وتصور لوحة آشورية مفقودة كان رسمها فلاندين في قصر سرجون الثاني في مدينة سرجون بالقرب من باريما مشهدا لحصار آشوري على قلعة (كيشيميم)  قبل أن يحولها سرجون الى مدينة نركال القلعة الميدية المحصنة على قمة جبل بدليل قشر السمك الذي يستخدمه الفنان الآشوري في تصوير المناطق الجبلية وفي أعلى مسنناتها قرون وعول جبلية وبينما يواصل بعض المدافعين القتال يلقي الآخرون أسلحتهم رافعين أيديهم علامة استسلام امام المهاجم الآشوري. على ذلك  اصبحت  ميتورنات (ديالى) وعرفة (كركوك) وأربا أيلو "مدينة الآلهة الأربعة" (أربيل) جزءا من القلب الآشوري بينما كان العمق الزاكروسي مواقع آشورية متقدمة وظيفتها الحفاظ على أمن القلب الآشوري وسلامته كما نجد تفسيرا لكثرة التلال التي تخفي مراكز مدنية في منطقة ميتورنات [ديالى]..

وتؤكد المدن والقلاع الأكدية والبابلية والآشورية في زاكروس وعبر زاكروس في أقليم كرمنشاه وهمدان واصفهان..وهي قلاع تعود الى ثلاث مراحل تاريخية مصاحبة للعصور الأمبراطورية في بلاد الرافدين أولها العصر الأكدي حيث ضم سرجون الأكدي (2276- 2215 ق.م.) بلاد عيلام الى أكد ويرجح أن تكون زقورة ومعبد أتشكاه في اصفهان بناءا أكديا عمدت السلالات الحاكمة منذ الفترة الميدية الى محو معالمها وازالة الكتابات المسمارية منها ثم بناء برج الضحية او القربان على جانب منها غير أن الفحص الكاربوني اكد ان البناء يعود الى العصور السابقة على الوجود الفارسي والميدي في أيران..كما تؤكد الثوابت التاريخية بناء الآشوريين لأربع مستوطنات او مدن عسكرية في سفوح زاكروس الأيرانية [تامفتوحة على الهضبة الأيرانية] هما بيت همبان (نامار) في كرمنشاه والآخر بارسوا (وتعني المنطقة الحدودية أو الضلع، وهي تسمية لحقت فيما بعد الفرس) في (نيكور) بين أفرومان وسنندج. وكان تكلاثبليزرالثالث قد أسس هذين الموقعين عام 744 ق.م. تلاه سرجون الثاني بتأسيس مستوطنتين أخريتين هما مدينة سرجون (خرخر) أو (هرهر)التي تعرف ايضا بتليسار أو تل آشوري، سيسيري أو سيسيرتي على نهر  خورخورا،  ومدينة نركال كيشيشيم التي حولها سرجون الثاني الى مدينة آشورية بعيد دحر الميدين فيها عام 716 ق.م. وموقعها في مدينة نجف آباد في مقاطعة اصفهان حاليا. وكان الآشوريون يبنون حصونا أو يحولون حصونا ميدية الى آشورية عبر طريق خراسان وبمحاذاة نهري تورنات وخرخورا..وكانوا أحيانا يجدون مدنا عراقية كان قد شيدها البابليون او الأكديون قبل قرون في المنطقة فيجددونها ويعيدون بناءها كمدينة كودين تبة غربي ايران في طبقتها الخامسة حيث كانت مركزا لتجارة اللازورد [اللابيز لازولي] بين بادكشان في افغانستان والمدن السومرية..وهناك مصادر تضع مدينة تل آشوري على نهر ديالى في الحدود بين بابل وزاكروس ويطلقون عليه (سيلحازي) التي سماها تكلاثبليزر الثالث  بقلعة البابليين ..وكان قد شيد فيها معبدا تخبرنا المصادرأنه كان مقرا لعبادة الإله البابلي مردوخ..وكان تكلاثبليزرالثالث قد جلب أسرى [أراميين] من بيت عاديني، ربما بعد معركة قرقر في شمالي سورية، الى تل آشوري..حيث مركز عبادة مردوخ البابلية وهو إله للآراميين من بيت عاديني ايضا... ونلاحظ أن الدول الآرية المتتابعة على حكم ايران تسعى الى طمس معالم الوجود الأجنبي في تاريخ اراضيهم وهذا يفسر سبب اهمال الحصون والمدن الآشورية في زاكروس أو تمويه معالمها ببناء معابد للنار فوقها أو إتلاف الكتابات على حجارتها أو ازالتها وتدميرما يمكن تدميره منها أو استعارة افكارهما ورموزها التعبيرية وإلصاق أسماء ورموز قومية  اخرى عليها. ومن أبرز القلاع الآشورية التي طالتها يد الأهمال أو التشويه قلعة نوشيجان في ملاير بين همدان وخرم آباد حيث بني على الأسس الآشورية معبدا للنار واوقفت السلطات اية تنقيبات في الطبقة الثالثة من التل، وقلعة نهرين التي صحفت الى نيرين في يزد وهي قلعة تشبه في بنائها قلعة بيرتا (تكريت) وقد حولتها السلطات في ايران الى حاوية نفايات وكذلك الأمر في حصون صحنة وسنندج ونكشهر  وغيرها..وبالمقابل قام سكان المناطق المجاورة لقزوين من اسلاف الديلم [الكاشيون] بغزو بابل عام 1531 ق.م. لحين اسقاط حكمهم في بابل على يد الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول عام 1155 ق.م.

ثم قام الميديون بالتعاون مع البابليين والسكيثيين بإسقاط نينوى عام 612 ق.م. وفي عام 539 ق.م. قام قورش بغزو بابل وتدميرها وارجع اليهود الذين كان نبوخذنصر الثاني قد جلبهم الى بابل الى مدنهم مما يؤشر على اول تعاون بين الفرس واليهود في التاريخ القديم..كما قام الفرثيون وهم من امم اسيا الوسطى وتشكل حضارتهم خليطا من العناصر الهلنستية والايرانية باحتلال العراق من 141 ق.م. وحتى 224 م. عندما اسقطهم الفرس الساسانيين الذين حكموا العراق من خلال المناذرة من عام 224 م. وحتى عام 651 م. عندما سقطت دولتهم الى الأبد واصبحت بلاد فارس ومعظم القارة الاسيوية تحت راية الإسلام..وكان الجيش العربي في القادسية يتالف من 30.000 مقاتل في مواجهة 60.000 من الفرس فانتهت المعركة بمقتل 30.000 فارسي مقابل 6.000 شهيد في الجيش العربي ومع موت الملك الفارسي يزدجرد الثالث انتهت الأمبراطورية الساسانية التي استمرت اكثر من 300 سنة ..وابتكر ملوكها لقب الشاهنشاه اي ملك الملوك..على ذلك تشكلت لدى الأيرانيين هوية مزدوجة اولهما قومية اعجمية ترتبط بالعهد الأمبراطوري والثانية إسلامية.. اتخذت على عهد اسماعيل صفوي المذهب الشيعي العربي دينا رسميا للدولة..وكان الإحتلال الثاني للعراق على عهد الديلم او القزوينيين الين احتلوا بغداد وهيمنوا على مقدرات الدولة العباسية خلال الحكم البويهي للعراق..وبعد عهود طويلة تخللها العديد من الحركات الإنفصالية والفتن الدينية منذ عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب (رض) وحتى عهود الإستكبار العثماني، اصبح العراق هدفا للتنافس بين غطرسة الفرس وعجرفة الترك وعلى مدى خمسة قرون بدأت قرابة عام 1500 م. فقد احتل اسماعيل صفوي الشاه الفارسي العراق عام 1508، ليسترد السلطان العثماني سليم الأول السيطرة على العراق عام 1514 بعد معركة جالديران..وفي عام1529 احتل الفرس العراق مجددا فاستعاد السيطرة عليه السلطان سليمان القانوني عام 1543..وفي عام 1555 عقدت اتفاقية اماسيا بين الدولتين واستمرت لعشرين سنة واستمر العراق تحت السلطة العثمانية حتى عام 1623 عندما احتله الفرس مجددا وبقى كذلك عقودا قبل ان يعمد السلطان مراد الرابع الى طردهم واحتلال بغداد عام 1638. وفي عام 1639 عقد الطرفان اتفاقية زوهاب [قصر شيرين] التي انهت الحرب بين البلدين  بمنح ايريفان الأرمنية كلها لأيران مقابل العراق بعاصمته وأهله ورافديه ومعه الكويت التابعة آنذاك  للبصرة للترك وحددت الحدود العراقية الحالية باعتبارها حدودا للأمبراطورية العثمانية..غير ان النزاع حول الحدود استمر حتى العقود المتأخرة من القرن العشرين وبخاصة فيما يتعلق بالملاحة في شط العرب الذي يسميه الأيرانيون اروند رود..وقد تم كل ذلك في غياب دولة عراقية ذات سيادة  [باستثناء عقود متأخرة قليلة] تمنع التجاوزات على اراضيها ومواردها وتراثها التاريخي..

وتضاف الى صفحات التنافس والصراع وألإحتراب بين البلدين على الأرض والمياه والسيادة، مشكلة المشترك والمختلف على الصعيد الديني والمذهبي ازاء الأبعاد القومية والعنصرية في البلدين..فبينما يرتبط الفرس بالهنود اثنيا على الرغم من الفروق التي ميزت العنصرين بسبب العوامل الجغرافية والبيئية، نجد فروقا هائلة بين الهندو اوربيين ومنهم الفرس من جهة والساميين ومنهم العرب من جهة أخرى..فالفارسي في طبيعته ميال الى الأمتثال بالقوانين والى طاعة السلطة الحاكمة بينما لايقر العربي بأية سلطة وبخاصة اذا كان الثمن حريته التي يحل محلها الإستبداد في الحكم إن هو تحول حاكما كما نلاحظ ذلك في فترة الحكم الأموي الذي افرز حكاما اقوياء وبخاصة في العراق الذي تعاقب على حكمه زياد ابن ابيه وخالد القسري ويوسف بن عمر والحجاج بن يوسف الثقفي..وبذلك يمثل الأمويون عرقهم السامي افضل تمثيل..والعربي الأصيل ارستقراطي في طبيعته يرتبط حسه الفروسي بشعوره بالإنتماء الى امته العربية وقد يصل هذا الشعور حدودا من التطرف تصل العصبية الى قبيلته ليس على حساب الأمم الأخرى كالعجم والروم والأحباش والهنود فحسب بل على حساب قبائل عربية أخرى..وكان هذا نصيب قبيلة باهلة وغيرها من القبائل العربية الأقل شانا من قبائل قريش او من التحالفات القبلية القوية الأخرى..وقد انعكست هذه الروح القبلية لدى الأمويين على سياستهم تجاه الفرس ولاسيما تلك العناصر الفارسية التي استوطنت الكوفة والبصرة وواسط ممن اعتنقوا الإسلام وعرفوا بالموالي ..وبخاصة في أثناء حكم الحجاج ..وكان الموالي الفرس قد شاركوا بثورة المختار .. واتخذوا موقفا معاديا للحكومات العربية المتعاقبة في دمشق على العهد الأموي وبغداد على العهد العباسي..ومع مجيء العباسيين الى السلطة، ظهرت الحركة الشعوبية واوكلت الى الشعوبيين دواوين الدولة ومن ابرز الشعوبيين ابو عبيدة معمر بن المثنى الذي كتب في اللغة والأدب وايام العرب اضافة الى كتاب الموالي  وكتاب فضائل الفرس، والهيثم بن عدي الذي مجد الفرس في كتاب الفرس  ازاء تدوينه المتكرر للعرب،وعلان الشعوبي وغيرهم..وقد ولد معظم الشعوبيين في حواضر عربية كالبصرة والكوفة وكانوا مقربين من دارالخلافة..وهم ذو بطانة فارسية ولسان عربي..يمثلون في الفكر والتأليف ماكان ابو مسلم الخراساني وبابك الخرمي وصاحب الحشاشين والأسر الفارسية الثلاث أسرة البرامكة، وأسرة آل سَهْل والأسرة الطاهرية يمثلونه في السياسة والمكر والحرب..وقد توغل الفرس في الجهازين العسكري والإداري على عهد الخلفاء العباسيين، فلم يكتف الفرس بالتناصف بالسلطة بل ضمر الكثير منهم العداء للخليفة العباسي مما تسبب في مقتل الكثير من الوزراء الفرس منذ عهد ابوالعباس وحتى عهد المأمون..وفي بلاد فارس من جهة أخرى استمرت ثورات الفرس واصبحوا حاضنة للحركات الإنقلابية ضد الدولة كحركة سنباذ والراوندية وحركة استاذ سيس والمقنع وبابك الخرمي والمازيار بن قارن وحركات الزندقة وثورة الزط وغيرها..وكان الفرس يسيرون في شوارع بغداد والكوفة والبصرة وواسط بملابسهم الفارسية ويتحدثون بلغتهم الفارسية على الرغم من اتقانهم العربية ..وكانت بلاد فارس وجزء كبير من القارة الآسيوية جزءا من الدولة العربية الإسلامية..

ولم تكن فكرة الحدود الفاصلة بين الأمم ترتكز على فكرة الدولة القومية التي لم تظهر حتى القرن التاسع عشر، فقد كانت الدول أو الأمبراطوريات القديمة وحتى سقوط الأمبراطوريتين العثمانية والروسية  تضم امما وشعوبا واقليات مختلفة وكان المواطنون الذين يطلق عليهم رعية يتحدثون بلغات ولهجات مختلفة ويمثل الإتحاد السوفيتي قبل التفكك نسخة متأخرة لهذه الأمبراطوريات ..ولغة الدولة هي لغة الجماعة الإثنية التي في السلطة وهي لغة الإدارة العامة..والسلالة الحاكمة تنتسب الى تلك الجماعة الإثنية التي هي في السلطة كما في الدولة الأموية..وقد لاتكون السلالة الحاكمة من الجماعة الإثنية الحاكمة..كما هو الحال في الدولة العباسية، حيث  شاركت او استولت قوى اجنبية على مقاليد السلطة كالفرس والبويهيين [الديلم] والترك فالسلاجقة [الأتراك]..مع ذلك تشكل الفواصل الطبيعية كالجبال والأنهار والمسطحات المائية ألأخرى كالأهوار والبحيرات حدودا طبيعية..وليس لبلاد الرافدين حدودا طبيعية محددة في اي من جهاتها مما جعلها عرضة للأختراق من قبل جيرانها لأن سلسلة جبال زاكروس  تقع ضمن الأراضي الأيرانية والأهوار تتداخل بين البلدين بينما يشكل شط العرب في وسطه وفق آخر اتفاقية حدودا بين البلدين لايمكن تعليمها ولا يمنع تعليمها، ان أمكن، من عبور القوارب الأيرانية خط الوسط [الثالوك] الى الجانب العراقي أو اقامة مشاريع في الجانب الأيراني يكون المتضرر منها الجانب العراقي..

ولابد من الإشارة الى أن ايران ومنذ ظهور الدولة الصفوية اعادت رسم خارطتها الروحية لتشمل العتبات المقدسة في العراق .. فاصبح الفرس بحكم هذه العقيدة يعدون زيارة العتبات المقدسة في قلب العراق واجبا دينيا مقدسا يرقى لفريضة الحج الى بيت الله الحرام،وقد صاحب تقديس آل البيت (ع) اضفاء شعائر جديدة انفرد بها الفرس وانتشرت لتشمل اتباع المذهب في كل مكان كما اضفى الفرس بعدا ايديولوجيا على المذهب العربي الذي اتخذوه دينا لدولتهم .. وهو بعد آيديولوجي يشكل مقطعا عرضيا يمتد عبر صدع او شرخ عميق في التاريخ العربي الاسلامي وهو شرخ الأنقسامات المتصلة بين القيسية واليمانية وبني امية وبني هاشم واالأمويين من جهة والعلوييين وحلفائهم من الفرس [الموالي]، وبين السنة والشيعة..مما يجعل التاريخ العربي الإسلامي تاريخا جامدا لايتحرك [على الرغم من ألأضطرابات والقلاقل المتكررة] فالحوادث تدور حول محور واحد وجدلية الحوار اعطت مكانها لجدلية الأصطراع والتحارب..مما يمنح الماضي القدرة على اعادة توليد نفسه..ويكون الشرخ من الإتساع بحيث يتيح المجال لقوى اجنبية من التدخل تماما كما تدخل تيمورلنك في القرن الثالث عشر..ويتدخل الغرب في الوقت الحاضر..ومع تواصل اطراف الصراع واستمرار القناعات والايديولوجيات نفسها اليوم، تكتسب مشكلة الحدود والأقليات الواطنة فيها دورا مهما قد يفاقم من حدة الصراع والتنافس بين القوى الراهنة..وتوخيا للحياد في الحديث عن الإقليات الإثنية بين العراق وأيران، نعمد الى ترجمة أدبيات لمتخصصين في الأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم الإنسان بعد استعراضنا لمجريات احداث بعينها في العهد الآشوري..

العهد الآشوري:

تعود ظاهرة التنوع الإثني في منطقة الحدود الشرقية للعراق الى العهود القديمة ..وتحديدا خلال الأمبراطورية الآشورية التي انتهج عدد من ملوكها سياسة التهجير الجماعي للآراميين واليهود وغيرهم الى المناطق النائية لكي يشكلوا منهم كيانات عازلة ولأبعادهم عن المراكز المدنية في العراق تفاديا للقلاقل التي قد يثيرونها ولأستثمارهم في الإعمار والزراعة في تلك المناطق..وكانت جمبولو هي التسمية التي  اطلقها  الآشوريون على منطقة الحدود بين العراق وعيلام  فاصبحت تعني بوابة عيلام اوارض المياه في اشارة الى منطقة الأهوار التي ارسل سرجون الثاني القبائل الآرامية اليها بعيد ضمه  لبابل وتاسيسه لحكومة اقليمية في شرقي بابل وجنوبي العراق فذكر في احدى حولياته : [لقد اخضعت "انا سرجون" مردوخ ابلا ايدينا الثاني ملك كالدو الذي يعيش على ضفاف الماء المالح "اشارة الى الخليج" وعمدت الى تقسيم بلاده الكبيرة كلها الى اقسام متساوية وسلمتها الى ضباطي حكام بابل وجمبولو]..وتمتد جمبولو من أورونهر الكرخا "اكنو" [الآشورية] بالقرب من الحدود الشرقية لعيلام والتي تحدها بابل من الغرب، جنوبي وشمالي بيت ياقين بوقودو..وتعود تلك الأراضي الى جماعات كلدية مهاجرة ومهجرة عبر مراحل متباعدة من الزمن..على ذلك فإن مصطلح [جمبولو] أو [كمبولو] " بالكاف المنبرة" ، يشير الى المنطقة وهي منطقة البطائح او الأهوار الممتدة بين واسط والبصرة [كسكر الإسلامية] وكان سرجون الثاني قد قسمها الى ست مقاطعات هي تربورغاتي وتيماسونو وباشور وحيريتو وحليمو وعاصمة كمبولو كلها هي آثارا [دور آبيثارا] التي اطلق عليها سرجون الثاني فيما بعد اسم "نبو"  [إله سومري يعبد في بلاد آشور وله معبد في قلب مدينة النمرود]، وكان آشوربانيبال في حملته المظفرة ضد عيلام عام 655 ق.م. قد جلب المتمردين ومعهم بقية اولاد بعل ايقيشا واقربائه واعضاء اسرته ومواشي واغنام ومعيز كمبولو الى بلاد آشور..ويحدثا عالم الآثار الفنلندي سيمو بارابولا عن رسالة ارسلها آشورآلي ماني الحاكم الاشوري لعرفة [كركوك] الى تكلاثبليزر الثالث من مدينة  سابيا  التي يحكمها الحاكم الكلدي مقين زري الذي اعلن عصيانه في منطقة الأهوار يخبره فيها عن تفاصيل القتال بقيادة القائد العام الآشوري [الترتانو] شمش بونايا ضد المتمردين ويبشره بانتصار الآشوريين  على بيت اموكاني ..وتقع سابيا [لعلها ناحية السيب في محافظة البصرة] التي شهدت آخر المعارك مع مدن حليمو وبيلوتو على حدود عيلام..وكان ألآشوريون قد درجوا على سياسة التهجير الجماعي للقبائل الآرامية التي تشكل خطرا على الولايات الآشورية وطرق التجارة عبر بلاد الشام الى جنوبي العراق حيث اختلطت هذه الأقوام مع الكلديين، واتخذت من المناطق الخصبة على الثغور العراقية مع بلاد عيلام موطنا لها..ويبدو ان حصار سابيا ودحر العصيان قد حدث عام 731 ق.م. ويرجح ان رسالة القائد الآشوري كتبت عام 729 ق.م. اي خلال السنة الثالثة من تمرد مقين زري..

نلاحظ من هذه الرسالة ان ملوك آشور القدماء كانوا أول من اسس للتعدد الإثني في الحدود الشرقية للعراق..وأن سياستهم كانت بدافع الضرورة ..غير انهم لم يأخذوا بالحسبان احتمالية عصيان القبائل الموطنة وتمردها على السلطة المركزية او احتمال نشوء تحالفات معادية يكونوا اساسا او طرفا فيها وكان تمرد مقين زري اول تمرد في بطائح الأهوار في تاريخ العراق..ولكن الآشوريين لم يقبلوا بغير الأمن المطلق لدولتهم مما دعاهم لى التوغل فيما وراء زاكروس وبناء حصون وقلاع فيها ثم تمكنوا من اسقاط الدولة العيلامية بصورة نهائية ..

وفي تتبع حال الثغور الشرقية للعراق عبر التاريخ الإسلامي وحتى العصر الحديث لابد من الرجوع الى مصدرين غاية في الأهمية اولهما ل دي غوية ..[هجرة الغجر عبر آسيا]..وهو كتاب باللغة الفرنسية يتناول الغجر في المصادر العربية واستقرارهم في العراق بين واسط والبصرة وفي عربستان وقد نشر الكتاب لأول مرة في لايدن الهولندية عام   1903 ..وبحث فلادمير مينورسكي [قبائل غربي ايران] وهما مصدران غاية في الأهمية للتعرف على الوان الفسيفساء الإثنية في شرق العراق وشرقيه..لأهمية ذلك في تاصيل الأصول والتعرف على دوافع المشكلات التي عصفت ومابرحت تعصف بالعراق بسبب هذه التكوينات المتوزعة في مناطق عديدة على الحدود الشرقية للعراق..ولعل من الضروري ان نترجم هذين المصدرين الرئيسيين ..وهي لعلمي اول ترجمة عربية لهما، قبل التطرق الى الفتن و القلاقل والآثار السلبية التي تركها التنوع الإثني على العراق..

دي غوية: هجرة الغجر عبر آسيا:

( منذ طباعة كتاب بوت [أوغستوس فريزر بوت وكتابه عن الغجر في آسيا وأوربا 1844] حول الغجر منذ قرابة ثلاثين سنة،  بتنا ننظر وبإجماع الى اصل هذه الجماعة الفريدة من الناس على انهم جاءوا من الهند وان الغجر المنتشرين في اوربا كافة يتحدرون من اصل واحد..وقد بني هذا الأعتقاد على اساس دراسة اللغة التي يتحدث بها هؤلاء الغجر..الا ان تاريخ الغجر قبل عام 1417 عندما انطلقوا من هنغاريا الى اوربا عبر الحدود الألمانية يكتنفه الغموض..والدلائل على اماكن اقامتهم في اوقات مبكرة شحيحة ومنها مايذكر انهم استوطنوا جزيرة قبرص والبلدان السلافية.. وما عدا ذلك مجرد تكهنات فكرلمان [هو هاينريش موريتز غوتليب كرلمان الذي كتب اطروحة عن الغجر عام 1783]..حدد مغادرتهم للهند في زمن تيمور حيث افترض رينزر وهايستر ان تيمور استخدمهم كجواسيس وعيون في جيشه وأن الأتراك دفعوا بهم في اوربا للغرض نفسه..وفي حدود علمي فإن هذه النظرية بقيت مجرد افتراض لاتسنده البراهين ، فليس في تواريخ تيمور ما يؤيد أو يدحض هذه المزاعم..
ويرجع آخرون هجرة الغجر الى الماضي السحيق.. ولا اشير هنا الى فرضية ستيور [شارلس ستيور مؤلف كتاب – "إثنوغرافيا الشعوب الأوربية" 1872]،القائلة ان الغجر ربما يكونوا قد تحدروا من سكان القارة الغارقة اطلانطس..إلا أن باتيلارد [بول تيودور باتيلارد مؤلف كتاب "ظهور البوهيميين وانتشارهم في أوربا "1844]  يميل الى الإعتقاد بأن هناك صلة بين الشيكانيين او الزيجانيين، اي المستوطنون الأوائل لصقلية والغجر، غير انه لم يوضح دوافعه لهذا الإعتقاد غير التقارب بالتسميات [يطلق على الغجر باللغة الفرنسية كلمة سيكان "بالكاف المنبرة]..وكبديل لهذه النظريات الإفتراضية او التكهنات.. اعتقد بأني في موقع يؤهلني لذكر روايات ايجابية معينة اريد طرحها للنظر..فقد ذكر بوت في مقدمته لكتابه [الغجر في اوربا وآسيا 1844] وكان يقتبس من الشاهنامة للفردوسي ان الملك الفارسي بهرام كور استقدم في القرن الخامس الميلادي 12.000 شخص  من الهند من كلا الجنسيين من االموسيقيين [ الأرجح العازفين والعازفات والراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات]، وكان هؤلاء يعرفون باللوري  [ وهي كلمة تعني اللور او اللورستانيين الذين يؤلفون احدى القوميات الرئيسة في غربي ايران ويطلق علي الواطنين منهم في العراق (الأكراد) الفيلية] [الهلالين للمترجم]، على ذلك وبما ان هذا الأسم يطلق على الغجر في بلاد فارس حتى في الوقت الحاضر ولأن مؤلف الكتاب الفارسي المعروف ب [مجمل التواريخ] يؤكد أن اللوريين او اللوليين في بلاد فارس في الوقت الحاضرهم احفاد الهنود ال 12.000، فليس ثمة مانغامر فيه ان افترضنا ان لدينا في هذه المصادر اول نص مدون عن هجرة للغجر..ويؤكد ذلك المؤرخ العربي حمزة الأصفهاني [كتابه "تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء عليهم الصلاة والسلام"، وهو ليس عربيا كما يرى دي غوية ولكنه تلقى تعليمه في بغداد وهو من نسل فارسي]..الذي [اي حمزة الأصفهاني] كتب قبل نصف قرن من الفردوسي وكان حسن الإطلاع على تاريخ الساسانيين.ويخبرنا ان بهرم كور طلب 12.000 من القيان ممن يطلق عليهم الزط من الهند ليأتوا ليفيد بهم رعيته..والزط هي الكلمة التي يطلقها العرب على الغجروالتي ماتزال تستخم في هذا المعنى في دمشق في الوقت الحاضر..ونقرأ في القاموس العربي تعريفا للزط مفاده: "الزط كلمة معربة من الجت وهم اقوام من اصول هندية ويمكن لفظ الكلمة بفتح الزاي والواحد منهم يسمى بالزط[ي]".. وترد كلمة الزط في القاموس المحيط بأنهم "أقوام من الهند وان الكلمة معربة من الجت" [وقد تلفظ  التاء طاءا "جط" في العامية] و"هناك ثياب زطية تميزهم القطعة الواحدة منها تسمى زطي[ة]"..وهؤلاء الأقوام هم انفسهم الذين يطلق عليهم في سورية نور وأحيانا "المطربية"في اشارة الى احترافهم العزف على الوتريات والضرب بالطبول والدفوف..كما يعرفون باحتراف الرقص ايضا، ويستخدم اسم الزط تدوينيا عند تحقير شخص ما بأن يقال فلان الفلاني زطي او مباشرة "يازطي"، ويرد وصف الغجر تحت طائلة مفردة النور بإسهاب أكبر وبعبارات تنطبق على ما نعرفه عن الغجر إذ يصفهم بكتور [الياس بكتور القبطي مؤلف اول قاموس فرنسي عربي نشر في باريس عام 1869 وقدم له المستشرق بارسيفال] في معجمه الفرنسي العربي "انهم بوهيميون يتألفون من العرب الجوالة او الجنجان  [الجن كنة - تركية تطلق على الغجر] يحترفون قراءة الفأل والسرقة، الخ ويطلق على احدهم  في كسروان [قضاء في غربي لبنان ووسطه] النوري وجمعها نور، وفي دمشق الزطي وجمعها الزط"..وأخيرا، فإن فولرز [هو يوهان اوكوست فولرز مستشرق الماني ترجم الشاهنامة والمعلقات العربية وله معجم فارسي لاتيني نشر في بون عام 1855]، اقتبس في معجمه الفارسي من مصدر فارسي الآتي: " الجت اسم لثلاث قبائل وفدت من صحراء هندوستان". ولدينا في مكتبة لايدن [كان دي غوية مستشرقا واستاذا للتاريخ الإسلامي في جامعة لايدن في هولندة ومحررا للموسوعة الإسلامية من ابرز اعماله تحقيق تاريخ الطبري وفهرسة البلدانيين العرب والمسلمين وتحقيق ديوان مسلم بن الوليد وكتاب المسالك والممالك لأبن خرداد به وغيرها كثير] كتاب [مخطوط] صغير فريد من نوعه لم ينشر بعد كتب في 1235 للجعبري عنوانه "كشف الأسرار"، يسرد فيه حرف الغجر..كما يتكرر الحديث عن الزط او الجت والبلاد التي وفدوا منها لدى الأصطخري وابن حوقل..اذ يخبرنا ابن حوقل البلداني الشهير من القرن العاشرالآتي: " بين المنصورة [وهي مدينة شيد نواتها محمد بن القاسم الثقفي ابن اخت الحجاج كحصن عسكري تطورت على العهد العباسي وسميت على اسم الخليفة المنصور تقع على نهر السند] ومكران [منطقة تحتل الشريط الساحلي جنوبي بلاد السند وبلوجستان على ساحل بحر العرب وخليج عمان..] شكلت مياه الإندوس [نهر السند] مسطحات مائية [مستنقعات] تستوطنها قبيلة هندية تعرف بالزط..ومن يعيش من افرادها بالقرب من النهر يسكن في اكواخ تشبه اكواخ البربر ويعتمدون في معيشتهم على السمك وطيور الماء بينما يعيش اولئك الذين يقطنون الداخل كالبدو على الحليب والجبن ولحوم المواشي..وهنالك في المنطقة نفسها، قبائل أخرى كالبودا والمي..ويرى ابن حوقل أن قبيلة البودا فرع من فروع الزط او بدقة اكبر أن قسم من بلاد الزط تسوده هذه القبيلة لذلك يتحدث البلاذري عن زط البودا فيقول عن هاتين القبيلتين : "الوثنيين [الكفار] الذين يوطنون حدود بلاد السند هم من البودا واقوام يطلق عليها [المعيد] ويتألف البودا [ربما اشتقت هذه التسمية من ديانة بوذا المنتشرة في الهند] من قبائل تنتشر بين حدود طوران [ آسيا الوسطى حيث تقيم قبائل التركمان]،ومكران وكذلك ملتان [مدينة على نهر السند] واراضي المنصورة وكلهم في الجانب الغربي من السند..ويعيشون على تربية الجمال [الجمال ذات السنامين]، ونجد بعض المخطوطات تسمي البودا بالنودا وهي تسمية ياقوت [الحموي] بينما نجد في العديد من المصادر الأخرى كلمة ميد أو معيد [مي ايد] [ وهنا نجد جذورا جديدة لتفسير كلمة معيدي التي تطلق على سكان الأهوار في جنوبي العراق والأهواز]..وقد تحدرت جمال بلخ وسمرقند من هذه الجمال، ويجلب هؤلاء منتوجهم الى سوق مدينة قندبيل [قندبيل "غندافا"مدينة صغيرة في بلوجستان في السند وهي قصبة ولاية يُقال لها الندهة] وحيث يحصلون على احتياجاتهم..وهم بدو حقيقيين يعيشون في اكواخ كالبربر ويجدون ملاذا في اراضيهم التي تكثر فيها المستنقعات حيث يعيشون على صيد السمك..ويقيم الميعيد في شواطيء [نهر] الأندوس من انحاء ملتان وحتى البحر..وفي السهل الممتد بين حوض الأندوس والكاماهول يجدون وفرة من المراعي والمرابط في الصيف والشتاء..وهم يشكلون جماعة كبيرة من السكان..ويرى كاتب آخر أنهم لايختلفون كثيرا عن الزط ويرى مؤلف "مجمل التواريخ" ان البودا ينتسبون للزط فيقول: " قديما كان هناك قبيلتين فقط هما الميئيد والزط وكلتيهما تحدرتا من حام..ويسمي العرب هذه البلاد ببلاد الزط تبعا لهذه القبيلة..وبمرور الوقت قام الميد كما كتبها السير هنري اليوت [إداري ومؤرخ عمل في شركة الهند الشرقية البريطانية والف كتاب "تاريخ الهند بقلم مؤرخيها" وهو عمل ضخم يقع بثمانية مجلدات] بدحر الزط وعاملوهم بقسوة اضطرتهم على مغادرة بلادهم، فاستقر الزط على ضفاف نهر بيهير حيث اصبحوا بحارة مهرة وبدءوا بشن غارات قرصنة على الميد الذين اعتمدوا في معيشتهم على الأغنام لحين عقدوا اتفاقية سلم مع الزط تبعتها مرحلة ازدهار في بلاد السند واصبح للزط اراض مجاورة للميد وانتهج الميد الذين يسكنون على الساحل القرصنة وباتوا يعرفون بالكورك او الكرك [ومنهم الكورخة الذين جندهم الأنكليز في العدوان على العراق وفي حرب الترك خلال الحرب العالمية الثانية]، فشرعوا بالقيام برحلات فاخترقوا البحر الأحمر وقاموا خلال حكم الخليفة العباسي المنصور بالإستيلاء على ميناء جدة عام 768، وكان منظر سفنهم [البيرة والبوارج] كما يذكرعدد من المؤرخين العرب تثير الرعب بحيث اطلق اسم السفن على القراصنة انفسهم..[حدثنا البلاذري أن قراصنة " من ميد الديبل أخذوا سفينة اسلامية كانت تحمل نسوة مسلمات ولدن في بلاد الحجاج ومات أباؤهن. وكانت هذه السفينة الاسلامية تحمل تجاراً في طريقهم الى جزيرة الياقوت [سيلان] حيث كان الحجاج والياً عليها ، فخرجت حملة بحرية من عُمان، التي كانت ترابط فيها السفن الاسلامية للدفاع عن سواحل عمان من هجمات القراصنة المتكررة منذ عصر الخليفة عمر بن الخطاب، ولحقت بالقراصنة الى الديبل وقتلتهم في أوكارهم البرية"... وتجدر الإشارة، والكلام ل دي غوية، الى ان الغجر يطلقون حتى في الوقت الحاضر كلمة "بيرة" (أو بارجة) على السفينة..ويطلق على جماعات الزط الذين يعيشون في الشمال القيقان [ وفي البلاذري ان " القيقان من بلاد السند مما يلي خراسان"]،ويشتهرون بحيازة الخيول والأهتمام بها..ومن الغريب ان جغرافيينا لم يتطرقوا الى الجاموس الذي شكل في ذلك العصر كما في وقتنا هذا بل ومنذ ازمنة بعيدة جزءا مهما من قطعان ومواشي هذه الأقوام أن لم يكن الجزء الأهم ..فهذه الأقوام التي اعتادت حياة التجوال من ازمنة بعيدة في الهند كانوا كما هو حالهم في الوقت الحاضر بحاجة الى مساحات واسعة من الأرض..ومع تزايد اعدادهم واعداد مواشيهم عمدوا الى ارسال جماعات كما هو الحال بين جماعات مماثلة، الى الأراضي المجاورة التي يعاني سكانها من حكومات جائرة بهدف غزوها وبذلك يوسعون من رقعة اراضيهم..ولكن عندما يجد هؤلاء انفسهم في مواجهة دولة قوية لايقدرون على مواجهتها، فإنهم يجندوا انفسهم في خدمة هذه الدولة ورعاياها..وقد تكرر ذلك في ذروة قوة الساسانيين وإذا استثنينا رواية القيان ال 12.000 الذين وفدوا بلاد فارس في عهد بهرام جور، لايوجد لدينا معلومات أخرى عن حالات مماثلة..غير اننا نجد خلال الحروب العربية الفارسية في القرن السابع [للميلاد] اعدادا كبيرة من هذه القبائل تم تجنيدها في صفوف الجيش الفارسي لمحاربة العرب..ولكنهم عندما رأوا ان حظوظ الشاه [بالإنتصار على العرب] بدأت تتأرجح، انقلبوا الى جانب العرب واعتنقوا الإسلام شريطة ان ينخرطوا في مراتب الجيش ويتلقوا معاشا من الدولة [ويذكر دي غوية البلاذري والمبرد وأبن الأثير مصادرا له في هذه المعلومات]..واتصلوا ببني تميم الذين يقيم الكثير منهم في البصرة..ونعرف من حروب الردة على عهد ابي بكر (رض) ان جماعة من الزط استوطنوا البحرين في الخط [تسمية قديمة للبحرين المدينة ربما تقابلها مدينة الحد الصغيرة على البحر] وهي مدينة على ساحل البحرين.. ولم يكن الهنود الذين جلبوا الى غربي آسيا يتألفون من الجنود فحسب بل كانوا يتألفون من اسر بأكملها نقلوا ومعهم قطعانهم وممتلكاتهم الى ضفتي الفرات وكان الهدف المزدوج من نقلهم على الأغلب توطينهم في احراش الأهوار وللحماية من البدو العرب [من القطيف وبر الأهواز]..على ذلك نقرأ عند البلاذري انه في الوقت الذي تم توطين قبيلة هندية أخرى تدعى السيابية [السيابجة او السبابجة] قبل اسلمة اقوام الساحل، كانت ماشية الزط ترعى في الطفوف في أداني دجلة والفرات وفي نواحي بابل..وهنالك قناة قديمة في البطيحة [أهوار الفرات بالقرب من بابل] تعرف ولوقت طويل بأسم نهر الزط [ويورد دي غوية ياقوت الحموي مصدرا له لهذه المعلومة]، وفضلا عن ذلك فقد كان هناك مستعمرة للزط اقيمت في خوزستان [عربستان] وتصدق رواية الدمشقي وهو بلداني متأخر بعض الشيء ان هؤلاء الزط جاءوا الى هناك [جنوبي العراق] في زمن الحجاج في مطلع القرن الثامن..ولكن، من جانب آخر، يصف البلاذري الزط في معرض كلامه عن حومة الزط او حياض الزط "اراضي الزط" على انها من بين المناطق التي تم فتحها في خلافة عمر(رض) وأن هذه الأرض الواقعة بين رامهرمز وأرجان في نواحي فارساستان [بلاد فارس] حافظت على هذه التسمية [حومة الزط] لأمد طويل حتى بعد اختفاء سكانها الأصليين..[تحت طائلة أسماء أخرى] فلم يعرفوا فيما بعد بالزط..ويحدثنا الأصطخري وابن حوقل عن تلك المنطقة بأنها واسعة ومأهولة وغنية..وليس معروفا ماحل بهذه المستوطنات العديدة بعد الغزوالعربي [الفتح الإسلامي]، فالعديد صاروا عربا، وفي ألأزمنة المتأخرة بمقدورنا ان نجد أحفادا للزط ممن ارتقى الى مناصب عليا كالسري بن الحكم [السري بن الحكم بن يوسف الزطي ، وقد دخل مصر مع الجند الخراسانيين المرافقين لليث بن الفضل عامل الرشيد عام 182هـ ، وحين نشبت الفتنة بين الامين والمامون تزعم الزطي الجند الخراسانية ودعا للمامون بعد استيلائه على الدلتا وصعيد مصر، وبعد موت السري خلفه ابنه ابو نصر محمد الذي مات عام 206هـ واعقبه اخوه عبيدالله بن السري فاستولى على مصر كلها] الذي اصبح حاكما على مصر عام 815 م، ويخبرنا البلاذري ان الخليفة معاوية جلب عام 660م  او 670 م عددا من عوائل الزط والسبابجة [سيابية او سيابجة] من البصرة الى انطاكية على نهر العاصي وعدد من المدن الساحلية في سورية..بل وحتى في القرن الثالث للهجرة نجد حيا من احياء انطاكية يعرف بمحلة الزط ومازال احفاد هؤلاء الزط يسكنون في وادي بيكا بالقرب من انطاكية..وهنا نتعرف على اقرب مستوطنة للزط على حدود الدولة البيزنطية..ويبدو ان أخفاق المحاولات العربية الأولى للسيطرة على بلاد السند كان بسبب مقاومة الميد والقيقان كما يطلق على الأصقاع الشمالية للزط، غير أن هذه القبائل سرعان ما أدركت قوة اعدائهم الجدد..وهكذا، فعندما شن المسلمون تحت حكم الوليد اولى حملاتهم الضخمة ضد الهند، وجدوا بالزط والميد حلفاء وليس خصوما لهم.. ولم يكن الجيش الي ارسله حاكم العراق الحجاج الى وادي الأندوز [بلاد السند] بقيادة ابن اخته محمد بن القاسم كبيرا ولكنه كبر بالتدريج نتيجة انخراط العديد من الزط في صفوفه، ولكنهم [اي الزط]، على اية حال، لم يكونوا اهلا للثقة..مما حدى بالمسلمين الى اتخاذ قرار بضرورة تهجير العديد منهم..وكان ذلك التهجير ضروريا فلدجلة كما للفرات امتداداته في المستنقعات [اهوار الجنوب] وبخاصة في كسكر [أقليم يمتد من البصرة الى واسط وتعد واسط قصبته ابان السيادة العربية] وهي اراض غاية في الثراء على حدود خوزستان [عربستان]..ولزراعة هذه الأراضي لايمكن ايجاد سكان اكثر ملائمة من هؤلاء الزط عينهم فهم ترعرعوا في قلب المستنقعات في حوض الأندوس [تماثل دلتا نهر السند منطقة الأهوار في جنوبي العراق] بينما لايمكن لقطعان الجاموس التي تشكل ماشيتهم الرئيسة ان تزدهر في منطقة ازدهارها في أهوار العراق..ويخبرنا البلاذري ان عوائل اخرى من السند بالأضافة الى الزط نقلوا ومعهم نسائهم واطفالهم وجواميسهم ولكن اكثرهم من الزط لأن المستوطنة كلها سميت بأسمهم..ولابد ان تكون هذه الحادثة [تهجير الزط الى العراق] قد جرت عام 710 م، لأننا نقرأ ان الوليد الذي توفي عام 714 هو من امر بنقل هؤلاء الزط وجواميسهم الى انطاكية وماسيسا  [المصيصة]..وتعطينا معلومات اخرى صورة عن جسامة التهجير اذ يخبرنا أبو نعمان الأنطاكي: "أن الطريق بين انطاكية والمصيصة لم يكن آمنا بسبب الضواري المفترسة وفي أكثرمن مرة تعرض مسافر الى هجوم من قبل أسد[ يبدو ان مصدر هذه الأسود جزيرة العرب قبل ان تتعرض للتصحر، كما نجد في شعر المتنبي قصائد في وصف السود في هذه المنطقة كقصيدته في مدح ابو داوود الأنطاكي مما يدل على استمرار وجود السود حتى العصر الحمداني في تلك المنطقة]..وعندما اشتكى الناس من هذه الحالة الى الوليد بن عبد الملك، ارسل الى هناك 4000 جاموسة من ذكورها واناثها..وبواسطة هذه القطعان، خلصنا الله من هذه الآفة " ويعرف الجميع ان للجاموس شجاعة في التصدي للأسد وكان محمد بن القاسم الثقفي والي الحجاج على بلاد السند ارسل من هناك بضعة آلاف من الجاموس فأرسل الحجاج 4000 منها الى سورية الى الوليد بينما ترك الباقي في أهوار كسكر..وعندما مات الوليد بن المهلب عام 720، صودرت اموال المهلبيين، وكان من بين ممتلكاتهم 4000 جاموسة في كسكر وفي اداني دجلة..فقام يزيد الثاني [يزيد بن عبد الملك بن مروان ويلقب يزيد الثاني ولد سنه 71 هـ. ولي الخلافة بدمشق بعد عمر بن عبد العزيز سنة 101 هـ]، بإرسال هذه الجواميس ومعهم الزط بأسرهم [عوائلهم] من كسكر الى المصيصة [ثغر من الثغور الشامية يقع في قلقيا بالقرب من أدنة]..مما يجعل عدد الجواميس المنقولة الى انطاكية والمصيصة 8000 جاموسة ومعها ذكورها..وفي اثناء الأزمنة المضطربة في أثناء حكم مروان الثاني، آخر الخلفاء ألأمويين [في المشرق ألإسلامي]، قام سكان أنطاكية وقنسرين بأستملاك عددا من هذه الجواميس ..ولكن عندما تولى الخليفة الثاني في الخلافة العباسية الحكم أمرهم بإرجاع الجواميس التي اخذوها الى المصيصة ..على هذا فإن الجواميس الموجودة اليوم في انطاكية ونواحيها قد تحدرت من الجواميس التي كان الزط قد جلبوها معهم عندما هجرهم معاوية ومن بعده الوليد الأول الى الشام..لذا فبينما تاسست اول مستوطنة للزط في شمالي سورية في عصر معاوية تاسست مستوطنة لهم ثانية في عصر الوليد الأول واتبعت بمستوطنة ثالثة على عهد يزيد الثاني..وبما أن المستوطنة الرئيسة بقيت في كسكر [جنوبي العراق]، فلنا ان نستنتج بأن اعداد الزط الذين نقلهم محمد بن القاسم الى هنا [العراق ومنها بلاد الشام] كانت كبيرة..ولانسمع مجددا عن هؤلاء [الزط] إلا عام 820، فقد تكاثر هؤلاء الزط تكاثرا عظيما في بطائح كسكر، واستفادوا من الفوضى التي انتشرت في العراق بسبب النزاع بين ابني هارون الرشيد الأمين والمأمون فصارت لهم اليد الطولى في اداني دجلة وقويت شوكتهم بواسطة لجوء الأقنان الهاربين والعصاة المتمردين [والزنج] الى مناطقهم فسيطروا على الطرق البحرية والبرية وبدءوا بالسطو على السفن والإغارة على القوافل ونهب مخازن الحبوب في كسكر بينما كان اعظم شيء يجرأون عليه كما يخبرنا البلاذري هو استجداء الصدقات من المسافرين او سرقة مايقدرون على سرقته خفية من السفن العابرة..ولكن الأمور الآن في عام 820 وصلت حدا لايجرأ معه الناس على المرور بأراضيهم..والسفن المتجهة من البصرة الى بغداد رست معطلة لاتقدر على المغادرة الى العاصمة..وكان مصير الحملات التي ارسلها الخليفة المأمون في 820 و 821 كلها الإخفاق مما تسبب في الحاق ضرر كبيرا بسمعة الخليفة فعندما عرض قائد المأمون عبد الله بن طاهر على نصر بن شبث العقيلي [وهو قائد عربي اعلن استقلاله في سورية في اثناء القلاقل بسبب نزاع الأمين والمأمون عام 824 وثار على المأمون في الشام بسبب تعصبه للعرب ولتواجد الفرس في البلاط العباسي في بغداد] ألأمان،  عرض شروطا لم ترق للقائد العباسي فرد بقوله: " هل سأرضى بهذا؟ كيف لهذا الرجل (المأمون) ان يتخيل انه يقدر على غلبة زهرة العرب بينما لايقدر على اخضاع بضعة من اربعمائة ضفدع ممن تمرد تحت جناحه؟" ..وفي نص الطبري  "ويلي عليه وهو لم يقوى على أربعمائة ضفدع تحت جناحه يقوى على حلبة العرب" ويقصد نصر بن شبث في سخريته اللاذعة هذه ضد المأمون الزط في اهوار العراق الذ

5
العراق في خارطة مصالح شركة الهند الشرقية البريطانية
واسهامها في رحلات الى الموصل



 

صلاح سليم علي

مقدمة:

يعد العراق البلد الأول في العالم في تأسيس امبراطوريات قوية تمتد خارطة مصالحها في مناطق شاسعة خارج اراضي بلاد مابين النهرين فقد اسس سرجون الأول مستعمرة تجارية في كانيش [قول تبة] في قلب الأناضول كما طورالعراقيون علاقات تجارية  شرقا مع الهند والصين بطريق الحرير منذ العصر السومري..وقد استمرت مستعمرة كانيش حتى العصرالآشوري الحديث حيث اصبحت منطقة الأناضول في مجملها ومناطق في عمق زاكروس جزءا من القلب الآشوري، وتجدد النشاط التجاري نفسه على العهود الإسلامية حيث امتدت ذراع القوة التجارية والعسكرية والحضارية للعراق حيث مقر العاصمة العباسية بغداد من الصين حتى الأندلس..

ولكن سرعان ما شهد العالم تحولا كبيرا في مراكز القوة لصالح الدول الأوربية بعد سقوط بغداد وبدء السيطرة التركية في الشرق الأدنى .. وترتب على هذا التحول ظهور امبراطوريات اوربية طموحة تزامنت مع الأستكشافات الجغرافية الكبرى للعالم الجديد مما تسبب في تنامي حالة التنافس بين الدول الأوربية للحصول على الموارد الأقتصادية الغزيرة للعالمين القديم والجديد معا..ولما كانت الأمبراطورية العثمانية مسيطرة على اراض مهمة في الطريق الى العالم القديم، كان لزاما على الدول الأوربية ايجاد طرق بحرية جديدة والتفاهم مع العثمانيين لتنظيم التجارة معهم وعبر الأراضي التي استورثوها من اولاد عمومتهم الذين اسقطوا بغداد..

الهند الشرقية من شركة الى امبراطورية:
 
وترتب على التنافس بين الدول الأوربية القوية اكتشاف طريق بحري عبر رأس الرجاء الصالح الى الهند وجزر الهند الشرقية الغنية بالموارد التي تحتاج اليها اوربا كالقطن والحرير والتوابل وملح البارود والشاي والقهوة والأفيون [الذي يستخدم لأغراض طبية ودوائية وكمخدر تحشيشي]، فضلا عن الموارد الزراعية الأخرى وغير ذلك كثير..منها ومن اميركا اللاتينية وجزر الكاريبي واماكن اخرى..مما ولد شركات عملاقة تتولى مهمة التجارة والمحافظة على مستعمراتها ومصالحها في سياق التنافس مع شركات اخرى. فكانت اولى الشركات الاوربية العملاقة شركة الهند الشرقية الهولندية تلتها شركة الهند الشرقية البريطانية فشركات اقل حجما كشركة الهند الشرقية البرتغالية ثم شركة الهند الشرقية الفرنسية والشركتين الأخيرتين اصغر كثيرا في مجالات قوتيهما ومديات نشاطاتهما من الشركتين البريطانية والهولندية..والأرجح ان البرتغاليين، على الرغم من سبقهم في الأستكشافات الجغرافية، والفرنسيين  ومعهم الدنماركيين والسويديين انما كانوا يحاكون الأنكليز والهولنديين في تاسيسهم لشركات هند شرقية [وغربية] لم تقدر على خوض غمار التنافس المشتعل بين الهولندين والأنكليز..فقد امتلكت شركة الهند الشرقية الهولندية التي اسست عام 1602 اسطولا تجاريا يتألف من 4.785 سفينة وكان لها سلطات شبه حكومية تتضمن القدرة على شن الحروب واعتقال المخالفين وحبسهم والتفاوض على المعاهدت و اصدار العملة وتشكيل المستعمرات وإدارتها، بينما تاسست شركة الهند الشرقية البريطانية عام 1605 لتصبح قوة امبريالية مستقلة بذاتها فقد حافظت على جيش دائمي يتألف من  200,000 جندي وضابط في مختلف الرتب ولها اسطول يتألف من 130 سفينة حمولتها الف ومائتي طن، وعلى الرغم من ان السفن العاملة في اسطولها كانت أقل عدد من السفن العاملة في الأسطول التجاري الهولندي، فقد تمكنت من احراز انتصارين عسكريين على البرتغاليين ثانيهما بمساعدة الهولنديين الذين يشاطرون الأنكليز عداوتهم للأسبان والبرتغاليين معا ولكن لأسباب مختلفة..وقد استفادت شركة الهند الشرقية البريطانية من دعم الحكومة البريطانية لها في تأسيس علاقة مع ملوك الهند من احفاد بابور[أحد احفاد تيمور ومؤسس االسلالة المغولية في الهند] ، فحصلوا على امتيازت ومواطيء قدم كثيرة في شبه القارة الهندية مهدت لأستعمار الهند بأكملها وبناء اسس الأمبراطورية البريطانية فيما وراء البحار..

ومع تطوراعمال الشركة واتساع رقعة نفوذها عمدت الى تشكيل جهاز  إداري واسع مستقل عن الحكومة البريطانية التي تمكنت في أواخر القرن الثامن عشر من السيطرة التدريجية على هذه الشركة العملاقة فأصبحت تعمل ومنذ  عام 1834 تحت إشراف الحكومة البريطانية حتى التمرد الهندي عام 1857 عندما تولت الدائرة الإستعمارية في الحكومة البريطانية السيطرة التامة على الشركة على الرغم من عدم مشاركتها المالية مباشرة فيها..وقد أنتهى وجود الشركة عام 1873 بعد ان تركت بصماتها في تاريخ العالم ..فقد اوجدت مستعمرات عديدة وخاضت بجيشها حروبا عديدة حددت مصائر مناطق واقاليم كثيرة في الهند وجزر شرقي آسيا..كما ادى توسيع عملياتها الى التصادم مع دول اوربية اخرى مما وسع في مجالات اهتماماتها لتشمل الجوانب الستراتيجة والسياسية بالإضافة الى الجوانب التجارية فكانت تصدر عملتها الخاصة التي تحمل عنوانها وتعين عملاء سياسيين في معظم عواصم المشرق ومدنه الكبرى ...ومنها بغداد والبصرة والموصل، وتلك مهمة تؤكد الجانب الستراتيجي والسياسي التي تتشاطر الأهتمام فيه مع الحكومة البريطانية ويتمثل بالدفاع عن الطرق البحرية والبرية الى الهند وتأمين عمل الحكومة البريطانية المحلية في الهند وغيرها من المستعمرات الآسيوية..فلابد والحال هذه من ان يحتل العراق موقعا مهما في خارطة المصالح الستراتيجية والأقتصادية لشركة الهند الشرقية البريطانية...وكان حكام العراق المحليين يسعون الى تمتين الأواصر الإقتصادية والسياسية مع بريطانيا حتى مع تجاوز رضى او موافقة السلطة العثمانية فسمح والي بغداد بتعيين عميل لشركة الهند الشرقية في بغداد عام 1798 اعقب ذلك فتح فنصلية في بغداد عام 1802 مما عمل على تطوير النشاط التجاري البريطاني في العراق، ثم عين كلوديوس جيمس ريج عام 1808 ممثلا لشركة الهند الشرقية البريطانية في بغداد وكان مهتما بنواحي الحياة كلها في بلاد الرافدين وبخاصة الآثار، فزار نينوى وبابل وعمل على جمع كمية هائلة من المخطوطت واللقى الأثرية التي بيعت للمتحف البريطاني عام 1825 مشكلة النواة الأولى  للقسم العراقي في المتحف البريطاني..وقد استمر كلوديوس جيمس ريج في وظيفته ممثلا لشركة الهند الشرقية في بغداد حتى عام 1821 ليعقبه روبرت تيلر للفترة 1821 وحتى 1843 حيث اعقبه في الوظيفة نفسها هنري راولنسون للفترة 1843 وحتى 1855 ثم أرنولد برويز كمبول للفترة 1855 وحتى 1872، كما وظفت شركة الهند الشرقية عددا كبير من الإطباء في الأختصاصات الطبية المختلفة ومهندسين مدنيين ومعماريين وفنانين وعلماء نبات وأرض وحياة وانثروبولوجيا.. وكان الضباط ممن يعملون في الشركة قد انهو دراستهم في كلية عسكرية متخصصة في لندن تابعة للشركة التي اسست كلية تابعة لها عام 1806 وهي كلية مازالت قائمة حتى الآن بأسم "هيليبري كولج"..كما تحتضن الشركة نخبة متميزة من الأدباء والكتاب والشعراء والمترجمين والمستشرقين منهم من ولد في الهند..ولاغرابة من ذلك فقد استمر الوجود البريطاني في الهند قرون عدة جعلت العديد من البريطانيين يتخذونها موطنا ثانيا لهم ولأسرهم على الرغم من تفضيلهم لتعليم اولادهم في مدارس في بريطانيا.. مما وضع الأساس لطبقة ارستقراطية من ابناء التجار والعسكريين ممن يقيم في الهند ويمتلك العقارات والمصالح التجارية في بريطانيا...وشجع هذا ألأمتياز العديد من الأنكليز والأوربيين الى الإنخراط في خدمة الشركات التجارية واساطيلها...وكان العديد يقومون بالرحلة الى الشرق على حسابهم الشخصي تيمنا باكتساب خبرات تؤهلهم للحصول على منصب في احدى شركا ت الهند الشرقية، فاختار العديد الرحلة بطريق البر مما جعل مرورهم  ببلاد الرافدين ضرورة ..وقد جاء اكتشاف نينوى والنمرود في سياق رحلة هنري لايرد وميتفورد الى سايلون [سيريلانكا] .. وبينما قررميتفورد مواصلة الرحلة الى سيريلانكا، توقف هنري اوستن لايرد في الموصل ليباشر في التنقيب في تلقوينجق والنمرود.. ولكن رحلة لايرد الى بلاد الرافدين لم تكن في سياق العمل في شركة الهند الشرقية، وكذلك الحال في رحلة رالف فيتج وجون نيوبري اللذان  زارا العراق في اواخر القرن السادس عشر وكانا من اوائل الرحالة الأنكليز الى بلاد الرافدين في طريقهما الى الهند. وغالبا مايعمد الرحالة الى تدوين مشاهداتهم وتجاربهم في البلاد التي يزورونها او يمرون بها موفرين بذلك معلومات ووثائق لشهود عيان غاية في الأهمية عن جوانب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والحضارية للأمم التي زاروها ومااليها من تفاصيل عن ظروف الرحلة كالأماكن التي زاروها والناس الذين التقوا بهم ...مم يوفر مادة ثرة ونادرة لطلبة التاريخ والجغرافيا والحياة الإجتماعية والإقتصادية والسكانية وصورة الحياة في الماضي ومعلومات  لايمكن العثور عليها في اي مكان آخر..ومن الرحالة من لم يدون رحلته ومشاهداته ومنهم من توفي في اثناء الرحلة كالآثاري كارل بيلينو الذي صاحب كلوديوس جيمس ريج في رحلته في بلاد الرافدين وتوفي في الموصل عام 1820 وكتب عنه المستشرق الألماني جوزيف فون هامر برغستال، ومن الرحالة الأوائل جون كارتويل واانطوني شيرلي وجون ايلدريد ممن زار الموصل في القرن السابع عشر..غير ان عددا من الرحالة من الضباط العاملين في شركة الهند الشرقية تمكن من العودة الى بريطانيا لينشر تفاصيل رحلته الى آسيا والعراق ومن بين هؤلاء الضباط جيمس سيلك بكنكهام الذي زار الشرق الأدنى واقام في الهند ثم زار العراق والموصل وكتب عن رحلاته عددا من الكتب تناول الموصل في اثنين منها هما [رحلات في بلاد مابين النهرين] و[رحلات في بلاد آشور وميديا وفارس] وجون مكدونالد شينير الذي قام برحلتين الى الموصل اولاهما بعد انتهاء عمله في السفارة البريطانية في بلاد فارس عام 1810 والثانية خلال عامي 1813-1814 ..وكتب تفاصيل مشاهداته في الموصل في كتابه[ مذكرة جغرافية لبلاد فارس]  كما تناول تفاصيل رحلته الثانية بدون التطرق مجددا الى الموصل في كتابه [رواية في رحلات في آسيا الصغرى وأرمينيا وكردستان في 1813-1814] ..

وفي الواقع فإن نشاطات شركة الهند الشرقية البريطانية واهتماماتها كانت الأوسع والأكبر في العالم ..فهي بالإضافة الى نشاطاتها التقليدية في التجارة وتأسيس المستعمرات وحماية الطرق البحرية، فتحت الشرق على الغرب والغرب على الشرق حضاريا فمهدت لحركة الإستشراق والدراسات الآسيوية والإسلامية ولاسيما فيما يتعلق بالشرق الأدنى..فقد ضمت مستشرقين وفنانين كبار كالسير ريتجارد فرانسيس بيرتون الذي ترجم الف ليلة وليلة ب 16 مجلد الى الأنكليزية والمستشرق وليم جونز والمستشرق جيمس برنسيب والمستشرق وليم موير والمؤرخ توماس بابنكتون ماكولي والمنظر السكاني توماس روبرت مالثوس فضلا عن طائفة عريضة من الكتاب والأدباء كريتشارد ستيل ورديارد كيبلينغ ووليم ثاكري ميكبيس وتوماس لوف بيكوك وأدورد جيمس كوربيت وجون ماسترز وجورج اورول وادورد مورغن فورسترو جون ستيوارت ميل وابيه جيمس ستيوارت ميل..هذا علاوة على عدد كبير من الفنانين المصورين والرسامين  كجيمس فوربيز ووليم هوجزوروبرت كير بورتر وتوماس دانيال وهوراس فان رويث وروبرت سميث، والمعماريين كهنري اروين ووليم ويلكينز وماثيو دكبي وايات وغيرهم...ولكن الظروف الدولية سرعان ما تغيرت في اواخر القرن التاسع عشر فقد دخلت دول اوربية اخرى ميدان التنافس على الموارد فيما وراء البحار وكان العداء التقليدي بين بريطانيا وفرنسا قد حرك الأخيرة صوب مصر حتى تمخضت الجهود الفرنسية في حفر قناة السويس التي غيرت خارطة المواصلات في العالم واختصرت المسافة الى الهند جوهرة التاج البريطاني بقرابة ثلاثة اشهر مما دعى الحكومة البريطانية على عهد رئيس الوزراء البريطاني يهودي الأصل بنيامين ديزرائيلي الى الأقتراض من المصرفي اليهودي ليونيل دي روتشيلد الذي تمتلك اسرته شركة الهند الشرقية بأكملها، المال الذي اشترى به حصة مصر في قناة السويس عام 1875، لتأمين طريق اقصر الى مستعمراتها الآسيوية ولتحقيق توازن قوة مع فرنسا والأطراف الأخرى المشتركة في هذه القناة..ويبدو ان دزرائيلي كان يضع باستدانته من روتشيلد قياد الحكومة البريطانية وسياستها بيد اليهود من اسرة روتشيلد ممن سرق اموال الهند ونقل ثرواتها الى مصارف الأسرة في أوربا ..وقد جاء تحرك بريطانيا صوب السويس بعد تأكدها من صعوبة [وليس استحالة] ايجاد طرق نهرية [دجلة والفرات] او حديدية [سكك حديد] بين خليج الأسكندرونة والخليج العربي بعد حملة فرانسيس رودان جاسني ودراسته اللاحقة لأمكانية مد سكة حديد تختصر المسافة الى الهند عبر رأس الرجاء الصالح..


خاتمة:

وعلى الرغم من تلاشي شركة الهند الشرقية وانتقال وظائفها الى الحكومة البريطانية منذ عام 1874، فإن ادارتها الفعلية المتمثلة باسرة روتشيلد في فرعها البريطاني واصلت ادارة المصالح التجارية لبريطانيا وتوجيه السياسة البريطانية في الشرق الاوسط حتى الوقت الحاضر.. وهي، اي شركة الهند الشرقية البريطانية، عملت على تأسيس الثوابت التي اعتمدتها الحكومة البريطانية في سياستها تجاه الشرق الأوسط ..وكانت اهم تلك الثوابت الحفاظ على الهند ومستعمراتها في شرقي آسيا مما وجه انظار الحكومة البريطانية نحو العراق..وترتب على الإهتمام المتزايد في العراق زيادة كبيرة في نسب التبادل التجاري بطريق ميناء البصرة فقد كانت بريطانيا توفر 65% من احتياجات السوق العراقية من السلع والبضائع كما تولت شركة بريطانية هي شركة هنري بلوسا لنج أحد الضباط في بعثة جاسني لأكتشاف صلاحية دجلة والفرات للملاحة مهمة النقل  النهري داخل العراق [  شركة الفرات ودجلة للملاحة] التي اسست عام 1859 وكان للقنصل البريطاني العام في بغداد سفينته البخارية الخاصة به واسمها الكومت  [المذنب] التي كان يسيرها في دجلة وعين على حراستها وحدة عسكرية من الهنود..وقد عزز اكتشاف النفط في اواخر القرن التاسع عشر التواجد البريطاني في العراق والخليج ودفع البريطانيون الى سلخ قضاء الكويت التابع لولاية البصرة عن العراق لصالح الشيخ مبارك بعد تكبيله بشروط تمنعه من التنازل عن اي جزء من ارض الكويت لأي قوة أخرى بدون موافقة بريطانيا..

وخلاصة القول فأن شركة الهند الشرقية البريطانية في استعمارها للهند وسعيها للحفاظ على المسالك البرية والبحرية الموصلة اليها، مهدت للأحتلال البريطاني لبلاد الرافدين ووادي النيل ومنطقة الخليج، واسست للفكر الأمبريالي المعاصر وتسببت بعدد كبير من الحروب والمجاعات المدمرة في الهند بوجه خاص وماالى ذلك من ويلات كان كارل ماركس قد جاء على تفاصيلها في مقالته [الحكم البريطاني في الهند] عام 1853 ، بنص يذكرنا بقوة بما احدثه الأحتلال البريطاني ومن بعده الأميركي للعراق "ان الحروب الأهلية والغزوات والثورات واعمال العدوان والمجاعات على ما فيها من تعقيد وعجالة ودمار لتكرارها في هندستان قد تبدو مظاهر تطفو على السطح فحسب لأن الأدهى من ذلك هو قيام انكلترة بتحطيم الهيكل الذي يقوم عليه المجتمع الهندي..وبدون اية بوادر معالجة في الأفق..فالهندي الذي فقد عالمه (القديم)  [التقليدي] بدون ان يحصل على اي عالم يحل محله يشعر بكآبة قاتلة تضاف الى بؤسه، ويفصل هندوستان [الهند] التي يحكمها البريطانيون عن كل تقاليدها القديمة وعن تاريخها القديم بأسره".
 
هنا يضع كارل ماركس اصبعه التشخيصية الماهرة ليس على الآثار المدمرة التي تسبب بها الأستعمار البريطاني [شركة وحكومة] للهند فحسب بل على الآثار المدمرة التي يستجلبها اي استعمار على اي بلد يتميز بتاريخ وتقاليد حضارية ونمط حياة خاص بأهله وهذا ماحدث في العراق بعيد الأحتلالين البريطاني في مطلع القرن العشرين وألأميركاني- البريطاني في أواخره..

 ويكرر ليو تولستوي في رسالة الى غاندي لاحقا الموقف الماركسي من الإستعمار البريطاني للهند:

(شركة تجارية تستعبد امة تتألف من مائتي مليون نسمة. قل هذا لأي شخص لاتتحكم بعقله الخرافات، سترى انه لايستوعب ماتعنيه هذه العبارة..فما معنى ان يقوم 30.000 رجل..ليسوا رياضيين [اقوياء] بل ضعفاء وعاديين باستعباد مائتي مليون من الناس النشطين، الأذكياء، القادرين، ومحبي الحرية؟ اليست الأرقام وحدها توضح بمافيه الكفاية ان الأنكليز ليسوا من أستعبد االهنود بل أن الهنود هم من استعبدوا انفسهم)..

غير أن شركة الهند الشرقية على الرغم من الأضرار الكثيرة التي تسببت بها على الأمم المستغلة والمستعمرة، حققت فوائد أهمها نقل التمدن الآسيوي الى الغرب بطريق ما جلبته الى الأمم الغربية من سلع كالحرير والجلود والعاج والقطن والأرياش والعطور والتوابل والشاي والقهوة وتنشيط حركة التجارة من الغرب الى الشرق، فضلا عن انواع نادرة من الأخشاب والمنسوجات والطنافس والأفرشة والبسط الفخمة زاهية الألوان، وكانت عاملا مهما في النهوض بحركة الأستشراق وفي ادب الرحلة..

وبقدر تعلق الأمر بالرحلات الى العراق والموصل، نميز رحلات جون سيلك بكنكهام، وكلوديوس جيمس ريج المقيم لبريطاني وممثل شركة الهند الشرقية في بغداد وجون جورج تيلر القنصل البريطاني في البصرة والكابتن روبرت ماجنن وادورد فردريك ووليم كينيت لوفتوس، والكولونيل في شركة الهند الشرقية جون مكدونالد شينير والمساح الميجر جيمس رنل وبيلي فريزر،، وجيمس فيلكس جونز، وهنري جيمس روس التاجر المقيم في الموصل في النصف لأول من القرن التاسع عشرالذي تابع اكتشاف نهر دجلة صعودا من بغداد وحتى تكريت فضلا عن فرانسيس رودون جاسني واعضاء من فريق حملته الفراتية  الشهيرة كالكساندر بيوشر ووليم كولينكوود وهنري بلوسا لنج ووليم سيلبي وغيرهم ممن عملوا في شركة الهند الشرقية قبل انخراطهم في حملة جاسني..وكان من منجزات شركة الهند الشرقية غير المباشرة توجيه انظار العالم لى اهمية بلاد الرافدين في تاريخ البشرية بطريق بعث نينوى وبابل من الأجداث، فقد اسهم كلوديوس جيمس ريج وجيمس سيلك بكنكهام وروبرت كير بورتر وروبرت ميكنان وبيلي فريزر وجيمس فلكس جونز الضابط في شركة الهند وواضع اول خارطة تفصيلية طوبوغرفية لنينوى والكولونيل راولنسون الذي امر بالتنقيب في شريف خان [شريخان- بالقرب من "الرشيدية" حيث معبد نسروخ الذي يرجح أن سنحاريب اغتيل فيه]، وغيرهم كثير الى اكتشاف نينوى وبابل وغيرهما من المدن البائدة واماطة اللثام عن اللغة المسمارية وتظهير الصروح الفنية العظيمة الدفينة في تراب الرافدين.. كما اسهموا في دراسة العراق طوبوغرافيا وجغرفيا واثنوغرفيا وجيولوجيا واركيولوجيا وتاريخيا من خلال رحلاتهم ودراساتهم التي تقدم صورة متكاملة عن العراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ودخولا في القرن العشرين..

وعلى الصعيد المحلي الشعبي فقد تسببت الشركة بإدخال الكثير من جوانب الحضارة الهندية الى العراق بدءا بالعملة الهندية كالعانة والروبية والبيزة الى جملة من المفردات التي تعكس تغييرا في الأطعمة العراقية في اتجاه المطبخ الهندي كالبرياني والتمرهندي والليموندوزي والكجري والعمبة والبرياني فضلا عن  المواد العطارية  والأطعمة والأنسجة والألبسة التي تستخدم لها مفردات هندية في مدن العراق منذ ادخال الهنود الى العراق عام 1914 وحتى الوقت الحاضر ومابرحنا في لموصل نستخدم كلمة [بيبي متو] التي تعني [سيدتي انت قمر] و باللغة الهندية ب"بيبي ماه تو" حيث درج مدربو الببغاوات في الهند على تعليمها مايحببها من كلمات لدى مقتنيها ترويجا لها كما يخبرنا الأب انستاس الكرملي، تستخدم في العامية الموصلية إذ تطلق على الشخص الذي يحاكي الاخرين بتشبيهه بالببغاء او ال[بيبي متو] في اللغة الهندية ..وغير ذلك كثير في العامية الموصلية ..ولعل اعتياد العراقيين على شرب الشاي بكثرة يعود الى عادة هندية فقد اعتاد عملاء شركة الهند الشرقية تصدير كميات هائلة من الشاي السيلاني الأصيل الى العراق بطريق ميناء البصرة وكانوا يضعون في صناديق الشاي نماذج خشبية صغيرة تمثل فيلة ونمورا من الأبنوس على سبيل الهدية ولترغيب العراقيين بشرائها..

وتجدر الإشارة الى ان ادبيات الرحلة [تفاصيلها] لاتتوفر للرحالة كلهم لعدم نشرها من قبل ورثة الرحالة او من قبل المؤسسات التي اشترت عائدات الرحالة وركنتها في رفوف المتاحف الكبرى كالمتاحف البريطانية والفرنسية مما جعلها في عصمة يصعب، ان لم يكن، الحصول عليها في حكم المستحيل، او لأن مانشر يغطي جوانب من الرحلة غير تلك التي يعنى بها البحاثة او تهم القاريء غير المتخصص كما في رحلة كلوديوس جيمس ريج الى الموصل التي زارها اربع مرات خلال اقامته ممثلا لشركة الهند الشرقية في بغداد وكتب عنها ما لم نوفق بالعثور عليه.. وما عثرنا عليه يتناول بابل ومحيط الموصل كالمواقع الأثرية في نينوى وتلالها واسوارها عام 1820، وهو نص يتطرق الى مواضيع لاتخلو من اثارة وطرافة كحديثه عن تنقيبات خفية في قلعة اربيل "مدينة الآلهة ألأربعة"]  وكذلك حديثه عن جامع النبي يونس ووداي الدملماجة وعين الماء ومغارة الجن القريبة منها واالتي تحدث عنها معارف لي في تل النبي يونس بتفاصيل مماثلة قبل اطلاعي على وصف ريج لها

(ويوجد تحت هذا السور الثاني او فيه عين ماء او بئر مغطى بعقد قديم جدا يتألف من صخور ضخمة..يطلق عليه بئر الدملماجة، ويعتقد الأهالي ان مياه الدملماجة هذه لها القدرة على الإشفاء من الأمراض ، ليس بسبب خاصية دوائية فيها بل بسبب معتقدات تتصل بالبئر..ويعتقد الجميع ان المكان مسكونة بالجن فلا يجرأ أحد على الأقتراب منها بعد حلول الليل، وقد اخبرني حسين أغا [دليل ريج] أنه مر مرة في هذا المكان في الليل، فسمع اصوات طبول وفوضى تصدر من البئر فأطلق العنان لفرسه هربا لأن اي شخص يشاهد، حتى ولو بدون قصد، شعائر هؤلاء الجن سرعان ما يفقد حياته او عقله..وقمت بتذوق الماء فوجدته عذبا غاية في الصفاء والنظافة..وبقيت عشر دقائق الى جانب البئر ثم واصلت سيري صوب الموصل مرورا بالنبي يونس )..

وقبل زيارة ريج الآثارية للموصل زارها عدد كبيرمن الضباط في شركة الهند الشرقية ابرزهم جون مكدونالد شينير الذي زارها مرتين الأولى في عام 1810 في طريق عودته من بلاد فارس في ختام عمله ملحقا عسكريا في السفارة البريطانية فيها وملحقا بالممثلية البريطانية في بوشهر [احدى قواعد شركة الهند االشرقية في الخليج العربي]، في طريق عودته الى انكلترة بطريق القسطنطينية ومنها الى اسبانيا والبرتغال، وزارها مجددا عام 1814 عندما وجهت اليه اوامر بالإلتحاق بوحدته العسكرية بقيادة نايل كامبل التي كانت في السويد وفي طريقها الى الهند عبر روسيا فبلاد فارس غير ان انسحاب الفرنسيين من موسكو اضطرهم الى الأتجاه جنوبا نحو بولونيا حيث سار شينير الى القسطنطينية ومنها زار ارمينيا فالموصل فبغداد ومنها الى البصرة فبومباي في الهند..اما جون سيلك بكنكهام فقد زار الموصل عام 1816 في طريقه الى الهند قادما من مصر ففلسطين فسوريا حيث تنكر بزي تاجر عربي والتحق بقافلة من التجار في حلب كانت في طريقها الى الموصل وقبل وصول القافلة نهر دجلة لحق اثنان من الجندرمة العثمانيين القافلة بحثا عن شخص انكليزي يوصلهما الى كلوديوس جيمس ريج المقيم البريطاني في بغداد لأيصال رسالة وجهها له السفير البريطاني في القسطنطينية..فاختار بكنكهام مصاحبتهما الى بغداد طلبا للأمن والسلامة في الطريق ..مما اختصر فترة مكوثه في الموصل بيومين ..وفيما يأتي نتعرض لمشاهداتهما ووصفهما للموصل في مطلع القرن التاسع عشر:

الموصل في رحلة جون مكدونالد شينير:

(على الرغم من ان الموصل تقع في قلب المنطقة الخاضعة لإدارة باشا بغداد، فإنها شكلت من نفسها وبمساحة لاتزيد على ميلين في جانبي دجلة فقط حكومة مستقلة يديرها باشا يتمتع بصلاحيات واسعة يعينه السلطان العثماني، وتقع الموصل في الجانب الأيمن على الضفة الغربية لدجلة..وهي منخفضة بحيث يصل نهر دجلة الذي يبلغ عرضه في الموصل 100 ياردة ويجري بسرعة هائلة الى اعلى جدران بيوتها [وقت الفيضان]..وهي كبقية المدن في الأمبراطورية التركية في وضع متردي فالسور الذي يحيط بها مهدم في أماكن عديدة والقسم الأعظم من مبانيها آيل الى الخراب..والبيوت فيها مشيدة  من الطابوق اوالحجارة.. ولأن الخشب من المواد النادرة والثمينة نجد ان الأسطح وحتى السقوف تعتمد العقود في بنائها..وللموصل سبع بوابات والقلعة الخربة تشغل جزيرة اصطناعية صغيرة في جانب النهر. اما المقاهي والحمامات والخانات والأسواق فهي مبان انيقة والأسواق فيها مجهزة بكل التجهيزاات من كردستان وغيرها..وهنالك قصر قرة سراي او القصر الأسود كان مقرا للباشا ولكنه في حالة خربة الآن ..اما الباشا فيقيم في مجمع من المباني الصغيرة غير الملفتة للنظر تقع في اقذر احياء المدينة..وتتلخص مظاهر الزينة في المدينة بمدرسة وقبر الشيخ عبدالقاسم [ابو القاسم] وبقايا جامع بديع لمنارته التي بناها نور الدين سلطان دمشق تاثيرا أ خاذا عندما ينظر اليها على البعد من مشارف المدينة..ويبلغ تعداد اهل الموصل كما ابلغني الباشا 35 الف نسمة يضمون الترك والكرد واليهود والأرمن والنسطوريين والعرب..ويضرب المثل بمناخ الموصل الصحي.. وهناك العديد من عيون المياه المعدنية على مقربة من المدينة..وفي غربي دجلة توجد اراضي غير مزروعة وبدلا من ذلك تنتشر المقابر الى جوار السور مما يترك انطباعا كئيبا كالحا لدى المشاهد..وهنالك تجارة مع بغداد وآسيا الصغرى اذ ترسل الى بغداد المكسرات والنيلة، والنحاس الذي يردها من ارمينيا على متون الأكلاك لتتلقى بالمقابل منتجات الهند التي تنقلها الى دياربكر واورفا وطوقات [مقاطعة ومدينة في تركيا جنوب البحر الأسود] ومدن أخرى..وفي الجهة المقابلة للموصل وعلى بعد اقل من ميل عن المجرى تقع قرية نونيا وضريح النبي يونس في موقع نينوى التي يرجح انها كانت اكبر مدينة في العالم)..

الموصل في رحلة جون سيلك بكنكهام:

(وصلنا بوابات الموصل مع انبلاج الفجر وكنت قد تخيلت ان اشاهد منظرا صروحيا كما ذكر عدد من الرحالة، إلا انني اصبت بخيبة امل عندما القيت اول نظرة الى المدينة فليس ثمة مايثير الأعجاب على الرغم من وصولنا اياها بعد مرورنا بقرى بائسة وبرار جرداء مما كان سيضاعف تاثيرها..وفي دخولنا المدينة بدا داخلها خلوا من الإثارة..فهي في مجملها أسوء المدن في ابنيتها واقلها اثارة للأهتمام ولاسيما اذا اخذنا بنظر الإعتبار كبر حجمها فهي من اكبر المدن التي رايتها في الشرق..ثم ذهب المرافقون الى قصر الباشا المجاور لمركز سعاة البريد بينما اتجهت الى رئيس التجار المسيحيين في المدينة وكان مسؤولا في احدى دائر الحكومة في الموصل ايضا..وكنت قد جلبت له رسالة من بطريرك ماردين فاستقبلني بحفاوة وجهز غرفة لأقامتي.. وبعد انتهاء مراسيم استقبالي من قبل الأسرة وتناولي للإفطار الذي قدم لي..وجدت خادما في انتظاري لمصاحبتي حيثما اريد في المدينة..فأخذني الى الحمام لنستحم فيه، وكان الحمام افضل ماينعش المرء بعد سفر منهك..
وعند مغادرتنا الحمام، رأيت عددا من المرافقين ارسلهم الباشا الذي سمع من مساعده بوصول مسافر انكليزي الى الموصل فارسل حرسه الشخصي لأصطحابي الى الديوان فتبعتهم الى القصر القريب من الحمام فقادوني الى حضرة الباشا وكان رجلا وسيما في نحو الثلاثين من العمر يرتدي ملابس رسمية زاهية كدأب اعيان الترك وتحف به مظاهر السلطة والفخامة..كان جالسا لوحده على اريكة فارهة في زاوية من زوايا الغرفة بالقرب من نافذة مفتوحة تطل على مشهد جذاب وفي الصالة المفتوحة على غرفة الباشا يقف قرابة 50 من الحرس الخاص من الجورجيين والشركس ومعظمهم "بندقجية"  [الكلمة التي استخدمها كانت "مندقية" وهي لامعنى لها بالسياق والأرجح ان المقصود "بندقجية" التي يعني بها حملة البنادق وليس صناعها كما يفهم من معنى الكلمة العثمانية المعربة] غالبيتهم على قدر كبير من الوسامة ويرتدون بزة غاية في الإناقة يقفون في صمت مطلق واستعداد عسكري مهيب لتلبية اوامر سيدهم..وكان استقبالي محفوفا بالحفاوة واللطف والرقة..فهذا الشاب الذي اسمه حامد سليل اسرة تركية [اسرة حسين باشا الجليلي] توارثت الولاية على باشليق الموصل لبضعة أجيال..وتحدث  شخصيته واخلاقه كما ورد في روايات الناس وكما عرفته شخصيا عن مشاعر ومسلك رجل غاية في اللطف والوداعة محبا للخير بما لايقاس..وقد ابدى خلال حديثنا عن اوضاع اوربا ذكاءا واطلاعا يندر ان أراه في مثل فئته من الأعيان، وقدم لي معلومات متنوعة وغزيرة حول البلدان الشرقية حيث تتجه اهتماماتي، واختتم لقائنا بعرضه لي حمايته وعونه في اي شيء أنوي القيام به..وعندما حدثته عن نيتي في مواصلة رحلتي الى بغداد، نصحني بالذهاب برا اليها بصحبة الساعيين اللذين صاحباني الى الموصل ان كنت انوي السرعة..او بالسفر اليها بطريق الكلك في دجلة أن كنت ابغي الراحة، وفي الحالتين اكد لي مجددا استعداده تقديم النصح والعون وان كل مايريده هو ان يعرف مرادي لكي يلبيه فورا..وعندما استرخصت الباشا بالمغادرة ومعي الحضور انسحبنا الى الوراء وانظارنا متجهة اليه لأن هذا من آداب المغادرة الدارجة في هذه البلاد بعد زيارة القادة والأعيان..وكان هناك اثنان من قواصي الباشا او -حملة عصاه الفضية- في انتظاري نزولا عند اوامر الباشا لمصاحبتي في جولتي في المدينة..فامتطينا خيولا من اسطبل الباشا وانطلقنا الى زيارة الأماكن الجديرة بالزيارة وكان القواصان دليلاي في المدينة) .. ثم يتطرق بكنكهام في هذه الفاصلة الى رحلة الطبيب الألماني ليونهارت راوولف الذي زار الموصل عام 1574 بقوله:

(على الرغم من ان العادات لاتتغير كثيرا بمرور الوقت في الشرق، فأن السمات الشخصية للأشخاص الذين يتولون السلطة "الولاة" تختلف في اسلوب الأستقبال والتعامل مع الرحالة عند زيارة الأماكن نفسها عبر فترات زمنية مختلفة، وفيما يأتي وصف راوولف لزيارته واستقباله من قبل باشا الموصل قبل قرنين ونصف: "عندما دخلنا غرفة الباشا التي كانت غرفة عادية ولكنها مفروشة بالسجاد الفاخر ومزينة بصورة حسنة مبدين مظاهر الأحترام والتبجيل الواجبة، سألنا الباشا الذي كان جالسا يرتدي ثوبا  اصفرا فخما على لسان احد خدمه بالفرنسية التي لايتقنها بصورة جيدة عن المكان الذي جئنا منه والى اي مكان ننوي السفر وماجلبنا معنا من بضائع..فأجبنا بدقة على تلك الأسئلة، لكن الباشا بدا غير مقتنع ..بل طلب الينا ان نخرج وننتظررده..فادركنا مايرمي اليه تماما، فقد كان يريد انتزاع هدية منا..مع ذلك [اظهرنا] جهلنا بمراده واريناه جواز مرورنا مختوما من قبل باشا حلب وقاضيها لنرى ان كان ذلك سيرضيه..فأخذ الجواز ونظر اليه وتطلع بتفحص في الأختام التي كانوا يستخدمونها بعد وضعها في الحبرفيظهر الختم باللون الأسود دون الحروف [التي تترك بيضاء]، فلم يبق له مايقوله لنا وتركنا لنذهب..فبادرنا بتحيته منسحبين من حضرته وظهورنا الى الخلف لأنك ان ادرت ظهرك على اي شخص مهما بلغت مكانته من الوضاعة، فانه سيعد ذلك اهانة كبيرة وسلوكا تدوينيا خشنا يفتقر الى اللياقة ") ..

ثم يعود بكنكهام من استطراده هذا ليخبرنا عن تفاصيل رحلته هو الى الموصل:

(وعند عودتنا في المساء دلني القواصين الى محل اقامتي حيث كان في انتظاري وفد من مختلف الطوائف المسيحية المقيمة في الموصل، جاءوا للترحيب بي .. وكانوا يضمون جماعة من التجارفي غالبيتهم سافر العديد منهم في انحاء مختلفة في الأمبراطورية التركية..وكانوا بوجه عام وكما توقعت اكثر انفتاحا احدهم على الآخر في تسامحهم ومشاعرهم من الكثير من اقرانهم من مسيحيي الشرق لذلك كان الوفد منسجما وبهيجا على الرغم من اشتماله على طوائف مختلفة.. واختتمت مأدبتنا في المساء بتناول كميات كبيرة من المسكرات القوية لأن أي أجتماع مسيحي في هذه البلدان لايعتبر كاملا بدون اختتامه بهذه المشروبات..وقبل منتصف الليل كان العديد في حال من الثمالة بحيث لم يقدر منهم سوى القليل على النهوض من الأرض حيث يجلسون للمغادرة الى بيوتهم ومحال اقامتهم)..
ثم يفرد بكنكهام الفصل الخامس عشر من كتابه [رحلات في بلاد الرافدين] الذي اصدره بمجلدين عام 1827 لوصف الموصل

6 تموز 1816: جاء تحديد موعد سفر الساعيين الى بغداد غدا ليعطيني يوما آخر أكمل فيه جولتي في المدينة، وكنت قد طلبت من قواصي الباشا ان يقدما الي في الصباح الباكر ومعهم خيول مرتاحة فامتطينا الخيل في ضوء النهار وشرعنا بأكمال مهمتنا، وكنت بحكم الحماية الموفرة لي بالحرس من على يميني ويساري أقابل بمظاهر الأحترام والأدب اينما اذهب وكانت كل استفساراتي تلقى ردودا جاهزة..وعدنا من جولتنا في الظهيرة وبعد تناولنا للمنعشات انسحبنا الى مضيفينا لنجد ان اكثريتهم غادروا للقيلولة، فانتهزت غيابهم لتدوين الملاحظت التي جمعتها حول الموصل اعتمادا على معلومات سابقة كنت جمعتها فضلا عن مشاهداتي الشخصية وماذكره الناس لي خلال استطلاعاتي:

وصف الموصل:

تقع  هذه المدينة في الجانب الغربي لدجلة وفي سهل واط ومستو يمتد بضعة اميال من حولها.. وخارطتها كما وضعها [كارستن] نيبور تبدو لي صحيحة في خطوطها العريضة على الرغم من ان ملاحظاتي مكنتني من الحكم على الخارطة بخطوطها العريضة فقط وليس بتفاصيلها..وفي دخول المدينة من شمالها الغربي رأيت من مظهر الأرض ان المدينة كانت محاطة بحفرة وان تلك الحفرة ردمت لاحقا..اما السور عينه فيبدو في حال خربة ولن يعوق في حالته هذه جيشا محاصرا مزودا بالمدافع، مع ذلك فأنه يعد حاجزا كافيا لمنع أي عدو قد يظهر امامه من اختراقه الى المدينة..والأنطباع العام عن المدينة انها بائسة ورتيبة فشوارعها ضيقة وغير معبدة واتجاهاتها [اتجاهات الشوارع او الأزقة] عشوائية وغير منتظمة..وبأستثناء [سوق] واحدة، لايوجد فيها اسواق او جوامع او قصور جيدة كما يتوقع لمدينة بحجمها بما يخفف من تأثير التماثل الرتيب في مبانيها العامة..فالبيوت في معظمها مشيدة من الحجارة الصغيرة غير المهندمة مشدودة الى بعضها بالملاط [الجص] والطين ومن البيوت ماهو مشيد من الطابوق المفخور والمجفف بالشمس..ومن اغرب مايلفت النظر ان هذه البيوت مبنية فوق منحدر ارضي يذكرنا بالمعابد المصرية وزوايا البيوت تتجه نحو الشوارع في اغلبها ولكنها تكون مستديرة كالتي نشاهدها في الفتحات المحسنة في زوايا الشوارع الضيقة في لندن. وبسبب ندرة الخشب وبالتالي اسعاره الباهضة، فالقليل فقط من هذه المادة يستخدمه اهل الموصل في مبانيهم..ولذلك يستخدم معظمهم بدلا من العوارض الخشبية عقودا في تسقيف بيوتهم وغرفها كما يستخدمون السقوف المعقدة [ذات العقود] لإسناد سطوح بيوتهم المستوية ايضا..كما نرى ان معظم الأبواب التي تعد الفتحات الوحيدة المؤدية الى البيوت وكذلك النوافذ مفتوحة على فناء مربع يعلوها قوس مقطوع من الرخام الموصلي الذي يجلب من التلال المجاورة.. ومن الأقواس الرخامية هذه مايشبه القوس القوطي المدبب قليلا ومنها مايشبه القوس النورماندي غير المدبب [حدوة الفرس] ، كما رأيت القوس الشرقي [ وهو قوس يشبه االقبة مدبب هو الآخر، كاقواس ايوانات الجامع النوري حول النافورة التي وصفها ابن جبير أوجامع النبي شيت في الموصل وجامع ابن طولون في مصر] في عدد من أبواب البيوت الموصلية ..وفي بعض الحالات تزين هذه الأطر [الملابن] المرمرية منحوتات زهرية بارزة مقطوعة على نحو تنقصه الخبرة كما شاهدت على إحدى هذه الأطناف وفي وسط العوارض الرخامية العليا لهذه المداخل تصميما زينيا يشبه قرون الكبش والى جانبه في اعلى العمود الآخر مثلثين متداخلين بما يشكل نجمة في الوسط يشبه أحدى الرموز التي يرتديها الفرماسونيون [الماسونيون] في أوربا [يقصد نجمة آشورية قديمة سداسية  استخدمها الرومان كما استخدمت في العصر الأموي على عهد هشام بن عبد الملك ويسميها اليهود نجمة داود التي وظفها الماسونيون شعارا ووضعها اليهود على علم دولتهم في ارض فلسطين السليبة، وهي شكل زيني عام استخدمه اهل الموصل بدون معرفة منهم بمرموزاته التاريخية والسياسية..وقد قدمت في جامعة الموصل أطروحة في الزينة المعمارية للواجهات والأبواب القديمة في الموصل لمن يريد المزيد من ألإطلاع على هذا الجانب من العمارة الموصلية القديمة]..
ورأيت عددا من البيوت الفقيرة التي يسكنها نساجو الأقمشة القطنية شبه غائرة في الأرض [سراديب] والقسم السفلي فيها هو الأبرد في اثناء النهار وتستخدم لدواليب وانوال الحياكة بينما ينام النساجون على السطوح ليلا..والعديد من هذه السطوح مسور [بستائر] تحول دون رؤية الغرباء..وفي بعض  تلك الستائر كوى [فتحات] تكفي لأستخدام السلاح الناري من خلالها وكانها صممت هناك لأغراض الدفاع ومنها ما يحتوي على نوافذ معمولة من أوان فخارية فارغة..[تستخدم الأواني الفخارية على نطاق واسع في المباني الموصلية القديمة وخاصة في العقود والشبابيك، كما توضع في الجدران ك "قاصة" لتوفير المال للأولاد]..اما الأسوق فعلى الرغم من كونها لاترقى الى اسوق القاهرة، باستثناء سوق واحد [سوق باب السراي] فهي عديدة وجيدة التجهيز اذ تردها السلع والبضائع من كردستان وغيرها بوفرة من كل ضروريات الحياة..غير ان هذه الأماكن العامة المفتوحة على الناس والمسقفة، هي بشكل عام وسخة ولاتتصف بالتناسق والنظام المميز لأسواق المدن الشرقية..وهناك في الموصل سوقا واحدة تباع فيها السلع الثمينة وهو سوق افضل كثيرا في بنائها وتصميمها وهي مليئة بانواع السلع والبضائع من أفضل ماتنتجه اوربا والهند..

والمقاهي في الموصل عديدة وكبيرة جدا فمنها مايشغل مساحة حي كامل  اذ  تمتد لمئات الياردات حيث ترى الأرائك [القنبات] على جانبي الممر المحمي بسقف من الحصير. ويبلغ عدد الحمامات في الموصل قرابة 30 حماما، وعلى الرغم من انني اصطحبت الى عدد من اكبر الحمامات فإنني لم اجد حماما ترقى الى نظيراتها من حمامت القاهرة او دمشق او حلب سواء بالمظهر او بالراحة..وعلى الرغم من  ان نمط  الأستحمم يتماثل تماما، فأن الإختلاف يوجد في التفاصيل التي يبدو ان صاحب الحمام وعماله قد ركناها الى الإهمال مقارنة بحمامات المدن الكبرى في مصر وسورية..

وتحصى جوامع الموصل ب 50 جامع في عددها، ثلاثون منها صغيرة الحجم وعادية وعشرون منها كبيرة..ولأبرز هذه الجوامع [الجامع الكبير] منارة تماثل في الحجم  اية منارة كنت شاهدتها بمثل حجمها..وهي مبنية من الطابوق مستديرة في شكلها وترتكز على قاعدة مربعة ..وهي منارة ترتفع كالعمود الهائل عن قاعدتها وهي مغطاة بأكملها بغطاء زيني من الطابوق الواطي والبارز في اشكال زخرفية عربية تؤلف جزءا لايتجزأ من البناء [المنارة] نفسه وهذا ما يترك تاثيرا جماليا عظيما..والجامع المحيط بهذه المنارة كان في زمن بنائه فخما وبديعا ولكنه الآن آيل الى الخراب بأكمله..وتؤكد الروايات الدارجة على ان القسم الأسفل من الجامع ضارب في القدم اذ يعود الى ماقبل الإسلام..إلا ان المنارة، وهي افضل منارة في المدينة، فقد بناها نورالدين سلطان دمشق..وبالقرب من هذا الجامع [الجامع النوري] جامع صغير على شكل هرم مثمن ..مشيد من الطابوق..ويقال أنه أكثر قدما من الجامع الآخر [النوري]، وهذا امر ممكن بسبب هيئته..وهنالك منائر من الطابوق ايضا مزينة بقرميد ملون باللون الأخضر بزخارف بألوان مختلفة، ولكن ليس منها مايتميز بسبب الحجم او الجمال..ومن بين القباب القليلة فيه هنالك قباب مضلعة كتلك التي رأيتها في ماردين.. ولكن بدلا من الأخاديد الأفعوانية ترى الأخاديد هنا مستقيمة نازلة بزوايا قائمة من اعلى الى حافات السقف [في الواقع كان هنالك جامع بقبة مخروطية واحدة مقابل المدخل الرئيسي للجامع الكبير وعبر الشارع..في مكان يصفه رحالة آخرون بأنه موقع بيمارستان ..إلا أن بكنكهام يتحدث عن أكثر من قبة مخروطية وليس قبة مخروطية واحدة مما يدعونا الى تفسير عبارته "بالقرب من" على اساس نسبي..وبمقارنة القبب المخروطية الموجودة في جوامع الموصل نميز قبة أبو القاسم على شاطيء دجلة وقبب جامع النبي شيت وقبة جامع النبي يونس وهي الأبعد عن الجامع الكبير وقبب جامع خضر الياس وارجح ان المقصود بوصف بكنكهام هو هذا الجامع بقببه المخروطية الثلاث..

وهنالك في الموصل 14 كنيسة خمس منها للكلدان واربع لطوائف أخرى وثلاث منها للسريان وواحدة لليعقوبيين وواحدة للرومان الكاثوليك..وقد سنحت لي فرصة كي ارى رسما لكنيسة مريم العذراء الكلدانية من الداخل وهو الرسم الذي كان السيد ريج [كلوديوس جيمس ريج] المقيم البريطاني في بغداد قد اخذه خلال زيارته للموصل [استضاف ريج بكنكهام في بغداد عند مروره بها ويرجح انه رأى الرسم المذكور لدى ريج في اثناء زيارته له، وكان ريج قد زار الموصل اربع مرات وأقام بها اربعة اشهر]، وكنيسة الكلدان من اقدم اماكن العبادة المسيحية وفي المصادر انها شيدت على غراركنيسة القديس جيمس الخربة في نصيبين والأقواس على جانبي الممر مبنية على طراز القوس الشرقي المدبب اما الأقواس الأخرى الاصغر حجما فهي اضيق قليلا وتشبه الاقواس السكسونية بينما يتألف الأفريز العريض حول صحن الكنيسة من زخارف عربية وتركية واعمدة معلقة مدببة النهايات والزخارف الدقيقة على الرغم من تناسقها في الخطوط العريضة غير الواضحة في تفاصيلها..وتشاهد القوس  المسطح المسنن المميز لجامع ابراهيم الخليل في اورفا هنا يضا كما تتكرر الزينة الزخرفية العربية لكن الكتابات حول الكنيسة كلها هي باللغة السريانية القديمة..لذا فأن هذه الكنيسة التي تعد واحدة من اقدم المباني في هذا الجزء من البلاد تعكس تنوعا هائلا في الأساليب الزينية والمعمارية مما يضفي غموضا وليس ايضاحا على السؤال المتكرر دائما حول منشأ العمارة القوطية: أهو الشرق أم الغرب؟

وبقدر تعلق الأمر بالإختلافات فيمابين هذه الطوائف [المسيحية]، فلم اتوصل الى شيء مقنع إذ يبدو ان الأطفال ينتهجون نهج آبائهم ولايهتم اي شخص بمعتقد جاره لأنه مقتنع بوجود اختلافات  بين معتقده ومعتقدات الناس ولا يحاول تغيير معتقدات احد او السعي لجعل الجميع يعتقدون مثله..

ويقدر عدد من اهل  الموصل ان تعدادهم يتجاوز مائة الف نسمة، ولكن في تقديري وبمقارنة المعلومات التي لدي ان تعدادهم اقل من نصف هذا الرقم..والقسم الأعظم من السكان محمديين [مسلمين] يتألفون  بنسب متقاربة من العرب والترك والكرد، وهناك ايضا قرابة 300 اسرة يهودية لديهم معبد يمارسون فيه طقوسهم اما المسيحيين فهنالك طائفتين من الكلدان تختلفان قليلا عن الكاثوليك فيبلغ تعدادهم تقديريا الف اسرة ومن السريان 500 اسرة ومن اليعاقبة، او اليعقوبيين كما يطلق عليهم هنا، 300 اسرة..

ويتولى باشا بمرتبة ذيلي حصان [اشارة الى المرتبة الثانية في سلم الباشوية في الجيش العثماني الأولى باشا بمرتبة ذيل والثالثة وهي الأعلى باشا بمرتبة ثلاثة ذيول وكانت الأخيرة رتبة الباشا اينجة بيرقدار..وهي مأخوذة من البيارق التي يحملها قادة سرايا الجيش العثماني وتتدلى الذيول من أهلة تتجه نهاياتها الى الأعلى كما في نهايات المنائر ..والذيول معمولة من مادة تشد على نحو يجعلها مماثلة للذيول الحقيقية...ويرجح ان المرتبة افتراضية على الرغم من عدم غياب اصولها الآسيوية]
وله [اي  تحت ادارة او سلطة باشا الموصل] اراض تمتد بضعة اميال حول المدينة..ولكنه بحكم تعيينه من قبل السلطان العثماني في القسطنطينية مباشرة، فإنه مستقل في ادارته ولايخضع لباشوات حلب أواورفا أوبغداد..والباشا الحالي للموصل، واسمه حامد، يتمتع بشعبية واسعة ويحترمه الناس على مختلف مذاهبهم وطوائفهم وطبقاتهم..بل وحتى من قبل حرسه الذين  يعدونه حاكما كريما طيب الأعراق.. اما القوة العسكرية المكرسة للدفاع عن المدينة ومحيطها فلاتتجاوز الف رجل اكثرهم من الخيالة..وفي اكثر الأوقات يوجد نصف هذا العدد في حراسة القصر، محل قامة الباشا وهو مكان رديء البناء على الرغم من كونه كوم

6
الموصل في ثلاث رحلات لمارك سايكس



صلاح سليم علي

مقدمة:

زار الموصل العديد من الرحالة ومن العديد من الدول الأوربية والغرب الأميركي..وتنوعت اهدافهم ومراميهم من وراء تلك الرحلات..ومنهم من زارها مرتين وثلاث مرات ..ودون معظمهم تفاصيل رحلته وما تخللها من تجارب ..مما وفر لنا صورة عن المدينة والمجتمع الموصلي منذ القرن القرن الثالث عشر حيث سجل اول وصف ماركو بولو اول وصف للموصل وسماها مملكة الموصل او يوفيميا كما يحلو لأيتالو كالفينو تسميتها في كتابه [ المدن غير المرئية] الي استعرض فيه المدن التي زارها ماركو بولو تخيليا..فكانت الموصل اشبه بمدينة سحرية تنسج الأقمشة النادرة والحكايات الشيقة..ومن الرحالة من احب الموصل فجاء وصفه لها انعكاسا لحبه لها ومنهم من ابغضها ونفر منها فجاء وصفه انعكاسا لبغضه لها ونفوره منها..ومن هؤلاء مارك سايكس الذي زار الموصل ثلاث مرات وجاء على وصفها في كتب رحلة ثلاثة هي [في خمس ولايات تركية]، و[دار الأسلام] و[ميراث الخلفاء الأخير]..وتأتي زيارات مارك سايكس في سياق التطلعات الأمبريالية لبريطانيا في المشرق العربي وفي مضمار خطة بريطانية تهدف تقسيم العالم الإسلامي وفصل العرب عن العثمانيين..وكان يصاحب مارك سايكس في تنفيذ هذا المشروع توماس ادورد لورنس المعروف ب [لورنس العرب]وأوبري هربرت [الوزيرو الحاكم البريطاني على ايرلندة] و جرترود بيل [مؤسسة نادي العلوية والمعروفة في بغداد بالعلوية] وهاري جون بريجر فيلبي او عبد الله فيلبي [أول مدير أمن في بغداد] وكلهم موظفون في المخابرات البريطانية للفترة التي سبقت وتخللت وتلت الحرب العالمية الأولى..وقد لعب مارك سايكس بالمشاركة مع ديفد لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني في اثناء الحرب وتوماس ادورد لورنس دورا مهما في رسم خارطة الشرق الاوسط الحديث وتوزيع اراضيه فيما بين الحلفاء وفق معاهدة سايكس - بيكو التي تخللتها محادثات مع الصهاينة تمخضت عن تنفيذ وعد بلفور وتعيين الصهيوني هربرت صموئيل مندوبا عاما على فلسطين ورئيسا فعليا لدولة اسرائيل مما مهد لصراع طويل الأمد لاتعرف نتائجه بعد..وكان معظم الرحالة وبخاصة الأنكليز منهم يتنكرون خلال رحلاتهم بأزياء عربية وشرقية لأخفاء هوياتهم الحقيقية عن عامة الناس وتيسير حركتهم في الشرق..

وشخصية مارك سايكس مركبة انعكست ومنذ طفولته في سيرة غاية في التعقيد والتشابك والتنوع..فهو ينتسب الى الأرسقراطية البريطانية ويتمتع بالوراثة بلقب بارون ..وكان بمقدوره ان ينصرف الى حياة من الدعة والرفاهية في مقاطعته في يورك [ سلدمير] غير انه كما يخبرنا ونستون تشرشل في مقدمة كتاب [مارك سايكس: حياته ورسائله] الذي الفه ابن اخت تشرشل شين ليزلي عام 1923..

(انصرف مارك سايكس الى السفر في الشرق الأدنى بدونما اي امل في ايجاد كنز دفين او تطلع لتغيير المعتقدات الدينية والأنتماءات الاثنية في اراضي الأمم التي تجول بينها..فتعرف على المشارقة والفلسطينيين وتعمق في معرفة العرب والترك..ووصل الى مناطق لم يصل اليها سوى القليل من قبله هذا ان كان قد وصل اليها احد على الأطلاق ووضع خرائط لطرق ولبلدان لم تتمكن وزارة الحرب ولا الجمعية الجغرافية في جهودهما المشتركة من تغطيتها او استيعابها..وكانت تلك سنوات من الصبر والعمل الشاق كرس لها مارك فكره وامواله في ارض قد تبدو عقيمة..فقد عقد العزم ليجعل من نفسه مرجعا من الطراز الاول في هذا الجزء الذي اختاره من العالم، وقد حافظت كتبه الأصلية والحيوية على التقدم الذي احرزه لمن جاء بعده ممن ثمن منجزاته، وعلى الرغم من قراءة كتبه على اوسع نطاق ونفادها من المطابع، فأنها تحتضن مقاطع يشعر الكتاب الأنكليز والرحالة ايضا بالأفتخار عند قراءتها..فقد تفرد للخدمة في الشرق..واصبح عاملا جوهريا في السياسات المعقدة والمتميزة كلها التي فصلت العرب عن الأتراك وقسمت العالم الإسلامي في واحد من أكثر المفاصل التاريخية الحاسمة بالغة الأهمية..فتمكن في الحلقة الأخيرة من تجهيز قوات مهمة في جبهة الصحراء لدعم جيوش اللنبي، حتى اصبح عنصرا فاعلا في حل المشكلات الناجمة فيما بين الحلفاء بخصوص الشرق الأوسط بعد الأنتصار)..

ان مراجعة لتفاصيل حياة مارك سايكس تؤكد ان الأمم العظيمة بنخبها الوطنية والقومية وسعي تلك النخب الى حماية المصالح الستراتيجية والاقتصادية لبلدانهم..ومارك سايكس واحد من نخبة صادف وجودها مرحلة مهمة من تاريخ بريطانيا والعالم ..هي مرحلة انتهاء العالم القديم ومعه مراكز القوة الآسيوية وبدء العالم الجديد ومعه مراكز القوة الغربية..وكانت للنخبة البريطانية في تلك المرحلة سمات وقواسم مشتركة ..أهمها الوعي التاريخي والجغرافي والفكرة الأمبريالية التي تتمثل في شعورهم ان بريطانيا هي مركز العالم وفي كونهم محافظين في انتمائهم السياسي وارستقراطيين اثرياء ينتسبون لأسر قوية فضلا عن اهتمامهم بالعالم الخارجي وتأكيدهم على ضرورة الأبقاء على بريطانيا امبراطورية قوية ومجيدة..ومارك سايكس كأقرانه في المخابرات البريطانية من المعجبين حد التقديس برئيس الوزراء البريطاني يهودي الأصل بنيامين ديزرائيلي الذي اشترى لبريطانيا الحصة المصرية في قناة السويس عام 1875 ..ويشاطره افكاره التاريخية واهتمامه بالأدب والكتابة [ كتب دزرائيلي عدد من القصص ذات المضامين الفكرية والتاريخية وبخاصة رواية تنجريد "القائد النورماندي للحملة الصليبية الأولى"يؤكد فيها دور الأفكار او القوة الناعمة في التغلغل في العالم وضرورة استخدامها لأخضاع الشعوب]..

ولابد من استعراض حياة مارك سايكس وسيرته قبل الدخول في وصفه للموصل ومقته الشديد لها ثم السبب في ضمها للإدارة الفرنسية في اتفاقية سايكس - بيكو سيئة الصيت..

مارك سايكس:

سير مارك سايكس هو البارون السادس لأسرة من البارونات الأثرياء، واسمه الكامل تاتون بنفينوتو مارك سايكس ولد في 16 آذار 1879     وهوسياسي ودبلوماسي وكاتب ورحالة وعميل مخابرات بريطاني متخصص بالشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى ويرتبط ذكره بالمبعوث الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والإتفاقية التي تحمل اسم سايكس- بيكو وهي اتفاقية وضعت خلال الحرب لأقتسام تركة النظام العثماني في الشرق الأوسط فيما بين بريطانيا وفرنسا وروسيا..وقد امضى مارك سايكس جانبا من طفولته في لندن بصحبة امه وجانبا آخر في يورك في صحبة ابيه وذلك بسبب انفصال ابويه..وقد اعتنقت امه المذهب الكاثوليكي الذي اصبح مذهبا لسايكس وهو في الثالثة من عمره..وكان والده الثري يصطحبه في رحلات شتوية الى الشرق الأوسط..وكانت نتيجة زياراته المتكررة لسورية ولبنان دراسة كتبها عام 1898 وكان عمره 19 عاما عنونها دروز لبنان .. ويخبرنا في هذا الصدد: (عندما كنت طفلا في العاشرة اخذني ابي الى جبلهم، ومرة اخرى اخذني ابي الى جبل الدروز عندما كنت في الحادية عشرة، ومرة ثالثة عندما بلغت الثالثة عشرة واخيرا وبعد خمس سنوات زرتهم بمفردي)..وبينما غرز فيه ابيه حب المغامرة والرحلات من المكسيك وحتى مصر، زرعت فيه امه حب اللغات والآداب الأوربية فاصبح بلزاك وديكنز وسويفت من كتابه المفضلين..وفي رحلاته غالبا ماكان يحمل في حقيبته عددا من مسرحيات شكسبير..وليس من الصعوبة ان نعثر في كتاباته وكاريكاتيراته تأثيرا واضحا للمسات سويفت وبخاصة رحلات جلفر..فقد زاوج مارك معرفة واسعة متنوعة ببساطة شخصية متميزة وصبابة دائمة.. وتمخضت ثقافته متنوعة المصادر والواجهات عن معرفة واسعة بالأدب الأنكليزي واللغتين العربية والفرنسية واطلاع واسع على الأمم والشعوب والسياسة والتاريخ وسير القادة والمفكرين ولاسيما فوبان [مركيز دي فوبان احد ابرز مصممي التحصينات الدفاعية في اوربا] وساكس [مارشال موريس ساكس قائد فرنسي احرز انتصارات كبرى لصالح فرنسا في القرن الثامن عشر] الذي كتب عن حياته  ..فضلا عن اهتماماته العسكرية وبراعته في رسم الخرائط...وعندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره كان مارك سايكس قد الف اكثر من اربعة كتب تناول في احدها فن اعداد المجلات وفي آخر اساليب التدريب العسكري للمشاة فضلا عن [دار الإسلام] و[رحلة في خمس ولايات تركية] و[ميراث الخلفاء الأخير: موجز تاريخ الأمبراطورية التركية]، وهو كتاب في الرحلة اكثر منه في التاريخ..وعندما بلغ مارك السادسة عشرة من عمره ارسلته امه الى امارة موناكو حيث تربطها بأميرتها صداقة ومنها غادر مارك الى بروكسل حيث درس الفرنسية في جامعة سانت لويس..وفي 1900-1902 سافر الى جنوبي افريقيا للمشاركة في حرب الباور الثانية  [وتعني الباورالمزارعين المتحدرين من اصول هولندية في جنوبي افريقيا]، وكان واجبه ينحصر بالحراسة مع قليل من المشاركة القتالية، وعمل للفترة 1904 و1905 نائبا للحاكم البريطاني العسكري على ايرلندة جورج ويندم وعين بعد خدمته في ايرلندة ملحقا في السفارة البريطانية في القسطنطينية. وفي عام 1913 اعقب ابيه في لقب البارونية في مقاطعة يورك بينما كان ومنذ 1912 عضوا محافظا في البرلمان عن مدينة هل. وشكل مارك خلال عمله في لندن علاقة حميمة مع اوبري هربرت وجرترود بيل وتوماس ادورد لورنس وبيرسي كوكس [المندوب السامي البريطاني في العراق 1920- 1923]..وكان سايكس في سياسته يتعاطف كثيرا مع الأرمن والعرب واليهود والترك حيث صمم غرفة من غرف قصره في سلدمير على طراز الزخرفة التركية وصممها له المعماري الأرمني ديفد اوناسيان..وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، كان مارك سايكس بمرتبة لفتنانت كولونيل [مقدم ] في الجيش البريطاني وقائدا للكتيبة الخامسة المعروفة بالهواردز الخضر[ كتيبة للمشاة من منطقة يورك]، غير انه لم يقد كتيبته في اي عمل عسكري لأن اللورد كيشنر وزير الحربية آنذاك استدعاه للخدمة في وزارة الحرب [الدفاع]للعمل مستشارا حول السياسة البريطانية في الشرق الأوسط ضمن لجنة دي بنزن [ وهي لجنة يرأسها البروسي موريس دي بنزن الذي خدم بريطانيا بصفة سفير لحين تعيينه رئيسا للجنة تحمل اسمه وكان هدف اللجنة دراسة مصير الأمبراطورية العثمانية وتقسيمها بعد الحرب]..وقد شارك مارك سايكس في تأسيس  المكتب العربي [وهو مكتب استخباري وظيفته متابعة وتنسيق  السياسة البريطانية في الشرق الأدنى وتقديم المشورة لوزارة الحربية والخارجية والأدميرالية والإدارات التابعة لبريطانيا بالتحركات العثمانية والألمانية خلال الحرب فضلا عن الدعاية لصالح بريطانيا في الأوساط العربية]..وقد عمل مارك سايكس وفريقه في المكتب العربي على احياء مصطلحات يونانية ورومانية قديمة في وصف الشرق الأوسط كسورية والعراق وفلسطين وميسوبوتاميا، كما صمم علم الثورة العربية من الألوان الأخضر والأحمر والأسود والأبيض [وهي الألوان التي مازالت تزين الأعلام العربية في الأردن وسورية والعراق  ومصر والسودان وليبيا ودول عربية اخرى مع تحولات واضافات طفيفة] ولعله كان يفكر بألوان سكان البحيرة المسحورة في الف ليلة وليلة قبل ان تحولهم الساحرة الى سمك عندما صمم ألوان علم الثورة العربية.. مما يؤكد بصمات مارك سايكس في تشكيل الشرق الأوسط الحديث..
 
ويعد مارك سايكس ممثلا بأمتياز للسياسة البريطانية التقليدية التي تبناها المحافظون والليبراليون معا وتتمثل بمنع التوسع الروسي جنوبا في اتجاه البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي..وقد تبنى كل من بالمرستون ودزرائيلي وسالزبري وجهة النظر البريطانية هذه بينما ناصب رئيس الوزراء الليبرالي كلادستون الحكومة العثمانية العداء لما اصاب المسيحيين من رعاياها من ويلات ومذابح، ويشاطر الزعيم الليبرالي وصديق مارك سايكس ديفيد لويد جورج المحافظين وجهة النظر السياسية هذه بقوة ، فلا غرابة ان يتبنى مارك سايكس الموقف البريطاني المحافظ نفسه..وعندما نشبت الحرب برزت جملة من المشكلات انقسم السياسيون البريطانيون ازاءها..ومن ابرز المشكلات مصير الأمبراطورية العثمانية والأمم التابعة لها بعد الحرب من جهة وكيفية تسوية المصالح مع الحلفاء مما وضع مارك سايكس في قلب التحرك الدبلوماسي والسياسي المكرس لحل هذه المعضلات..وكان الوضع العربي يحظى بأهتمام كبير في السياسة البريطانية فمن الأنكليز من يفضل تأييد القضية العربية على حساب تركيا ومنهم من يؤيد تعزيز تركيا جديدة قوية وحليفة تكون منطقة عازلة تحول دون التغلغل الروسي في الشرق الأوسط ..وكان لورنس وجرترود بيل يميلون الى تشكيل دولة عربية واحدة تكون صديقة لبريطانيا بينما  فضل مارك سايكس ايجاد دول عربية مستقلة صديقة تضمن سلامة الملاحة الى الهند ولاسيما بعد اعتماد النفط بديلا للفحم الحجري وقودا في السفن..

ومن جهة ثانية كانت فرنسا تتطلع الى الحصول على اراض في سورية حيث توجد اقلية مسيحية بينما طالبت ايطاليا بجزر في بحر ايجة وبحماية المسيحيين في تركيا ..وكانت روسيا تتطلع الى بسط نفوذها على المضايق التي تصل البحر الأسود ببحر أيجة وحماية المسيحيين في ارمينيا التركية وفي ساحل البحر الأسود..في الوقت الذي تقدمت اليونان في طلباتها في ضم ثراسيا وجزر في ايجة مما تسبب في تصادم مصالح مع روسيا وايطاليا وتركيا الجديدة..ومما زاد الأمور تعقيدا مطالبة الصهاينة البريطانيين بوطن قومي في فلسطين...وكان مارك سايكس يؤيد آرثر بلفوروزير خارجية بريطانيا في اثناء الحرب في وعد قطعه لليهود عام 1917 وبتأثير حاييم وايزمان الصهيوني البريطاني آنذاك، ويتضح موقف مارك من رسالة ارسلها لاحقا الى الملك فيصل الأول ملك العراق قال فيها ( ان هذا العنصر[اليهودي] المحتقر والضعيف يوجد في كل مكان ويتمتع بالقوة ولايمكن اهماله)، وموقف مارك يتفق مع سياسة حكومته كما ينسجم  مع مواقف عدد من زملائه في المكتب العربي وفي المخابرات البريطانية وبخاصة الصهاينة منهم..وتوفي مارك سايكس..
عام 1919 وعمره 39 سنة  في اثناء مشاركته في مؤتمر باريس في غرفته في فندق لوتي بين حدائق تويلري ومتحف اللوفر وساحة الكونكورد..وقد وصف الدبلوماسي الأنكليزي الشاب هارولد نيكولسون تأثيره في المؤتمر بقوله: (وبسبب دفعه ومثابرته وحماسه وايمانه اصبحت القومية العربية والصهيونية اثنتان من انجح قضايا الحرب التي خضناها)..ووصفه ناحوم سوكولوف الزميل الصهيوني الروسي لحاييم وايزمان واحد المشاركين في مؤتمر باريس (لقد سقط كبطل يقف الى جانبنا) مما يؤكد تاييده للصهاينة..وكان قد توفي بسبب الإصابة بالأنفلونزا الأسبانية ونقل جثمانه الى يورك ليدفن بالقرب من قصره في كنيسة انجليكانية على الرغم من كونه كاثوليكيا..وبعد 88 سنة على وفاته فتح قبره عام 2008 واخذت عينات من رفاته لأغراض البحث العلمي في الأنفلونزا التي تسببت في موته..

وعلى الرغم من كون مارك سايكس واحدا ممن عملوا على تقسيم العالم العربي الى دول مستقلة يتبع اكثرها السياسة البريطانية وبخاصة السعودية ودويلات الخليج والأردن وسعيه في تكوين دولة يهودية في فلسطين ..وعلى الرغم من موقفه المعادي للإسلام، ومقته الشديد للموصل فإنه قدم من خلال كتبه معلومات متنوعة عن الشرق الأدنى في مطلع القرن العشرين وعمل على فصل العالم العربي عن السلطة العثمانية مما مهد لعصر جديد ولحركات التحرر العربي [ التي انكفأ معظمها للأسف]..وتحتوي كتبه على خرائط طوبوغرافية متنوعة للمناطق التي زارها من الشرق الأوسط ولاسيما العراق.كما قدم مسردا بالقبائل الكردية ضمن ألإدارة العثمانية..وفي الحكم عليه كموقف، لابد من ان نأخذ بنظر الإعتبار أنه يمثل وبقوة الآخر الأجنبي على افضل وجه، فقد خدم وبأخلاص منقطع النظير مصالح بلاده في مناطق مختلفة من العالم وعلى صعد مختلفة جنديا ودبلوماسيا وكاتبا ورحالة ومنظرا عسكريا واستخباريا..وهو بذلك افضل من يمثل جيلا ضم لورنس العرب وجرترود بيل وهربرت صمويل واوبري هربرت ولويد جورج وونستون تشرشل وغيرهم..وهو بذلك يقدم نموذجا للجندية والوطنية والإقدام في خدمة البلاد..يتجاوز حدوده القومية والزمانية كرمز وطني وقومي عالمي تماما كنابليون بونابرت وفون مولتكة وغاريبالدي وغيرهم..ولعل من المفيد ان نستعرض عددا من مواقفه من قضايا مهمة في عصره قبل الإنتقال الى وصفه للموصل ..فقد كان مارك سايكس يتمتع بصداقات كثيرة مع شخصيات عسكرية ودبلوماسية واكاديمية وكان كثير المراسلات مما جعله واحدا من ابرز كتاب الرسائل في العصر الحديث..ومن ابرز صداقاته استاذ الدراسات العربية والفارسية في جامعة كمبردج ادورد كرانفيل براون مؤرخ الأدب الفارسي الذي تميز ايضا بانتقاده الشديد لسياسة الحكومة البريطانية الإستعمارية في مقالات عديدة..يبدو انه تطرق في احدها الى حادثة دنشواي [ وتتمثل بقيام ضباط الإحتلال البريطاني في مصر بمداهمة قرية دنشواي في المنوفية بدلتا مصر لصيد الحمام الذي يربيه المصريون مصدرا للغذاء وقتلهم لأمرأة مصرية وحرقهم لمخزن حبوب..وعندما هب المصريون في القرية للدفاع عن انفسهم سقط احد الضباط بسبب توقف في قلبه مما تسبب في تشكيل محكمة كان من قضاتها القبطي بطرس غالي تمخضت عن اعدام عدد من المصريين وتبرئة الأنكليز..وهي حادثة تعكس سياسة انكليزية خبيثة تعتمد خلق النقائض النوعية في البلدان المستعمرة .. وانتقد العديد لجوء الأنكليز الى العنف ..ولم اعثر على مقال براون ولكن الأرجح انه مر على ذكر الحادثة فحسب فجاء رد مارك سايكس عليه برسالة في 3 كانون الأول عام 1907 قال فيها:

(شكرا جزيلا لمقالتك الممتعة جدا..فقط تمنيت لو انك لم تذكر دنشواي لأنها لطخة كبيرة في سجل الإدارة الأنكليزية، جلبت علينا السخرية والإستهجان في غربي آسيا بأسرها..فقد كان اعدام القتلة حماقة كبيرة لأن كبيرهم هو المسؤول اي ليس الفلاح بل العمد [جمع عمدة] الذين كانوا في اسرتهم [بتشديد الراء]عندما قتل رجال سود الضباط الإنكليز..ومن احترمه شخصيا من الأمبريالييين الأنكليز فقط هم رجال ك  [روبرت]كليف[مؤسس شركة الهند الشرقية] و[جون] نيكولسن[ محام وقائد بريطاني في الهند] و[ريتجارد فرانسيس] برتون [ضابط في شركة الهند الشرقية ومحارب في حرب القرم ومترجم الف ليلة وليلة ومستشرق شهير] و [تشارلس جيمس] نابير[القائد العسكري البريطاني في الهند وصاحب المقولة "ان البشر في ضلال  بحيث تجد ان اية جماعة تفضل ان يساء اليها من قبل حكامها على ان يحسن اليها من قبل حكام من غير بلادها] و[تجارلس جورج] كوردن [القائد البريطاني في معركة الخرطوم]،لأنهم تمكنوا من معالجة الشرق بدون إثارته..وثمة حقيقة بارزة هي ان السفراء في تركيا ممن يحافظ على النظام عسكريون يقدرون من التحرك على خيولهم والصيد واصدار الأوامر بدون اقلاق الناس المحليين بوعود زائفة و بهراء حقوق الأنسان..ولهذا اصبح الناس ينظرون اليهم بأحترام ويعدونعهم بني آدم وليس بني [اولاد] كلاب)..

كما نتعرف في رسائله على موقفه من سكة حديد برلين بغداد التي اثارت في الفترة السابقة للحرب مخاوف البريطانيين وكانت احدى مهام لورنس العرب تخريبها بنسف الخطوط المنجزة في اماكن مختلفة..ولكن مارك سايكس له موقف مختلف:

(ليس من الممكن التنبوء بتأثير سكة الحديد على البلاد..ولكن بمقدوري أن اتخيل نتيجتين ولعلي مخطيء في ذلك: اولهما تمليها الرغبة على الفكر..انها [اي سكة الحديد ألألمانية] ستجلب السلام والإزدهار والنظام ثم نهضة تدريجية للسكان العرب من جراء الثروة والتعليم، فيتمكن الأكراد والبدو من جلب أصوافهم ولحومهم [اغنامهم ومعيزهم ومنتجاتها] للبيع..وتتزايد المصنوعات المحلية ثم يصار الى تطوير الثروات المعدنية للبلد بدون مساعدات اوربية.وتترتب ارباح على الصادرات وتجارتها أكثر من تلك المستحصلة من الأستيراد والنقل [التجارة ] الأوربي..
ومن جهة أخرى تتمثل امامي صورة رهيبة للناس وقد اتخذوا موقفا معاديا لسكة الحديد، للألمان يتدفقون على المدن العربية بنفايات منفرة وانهيار كبير بالصناعات المحلية والحرف المتبقية..لسكة الحديد تخدم المصالح الآوربية فقط مثقلة البلاد بضمانات باهضة ثم بإحتلال للأرض في آخر المطاف من قبل عنصر [الألمان] لايتعاطف مع المشارقة تماما كما لايتعاطف معنا فيتعاملون مع الناس معاملة الأسياد للعبيد بخشونة وطغيان مما يمكن لذوي الرؤوس الثخينة والأنوف المنفوخة كأنوف الخنازير..ممن يميليون الى الصخب والأمتثال لروح القطيع من التيوتونيين..وفي مثل هذه الحال أراني جاثما أصلي على ركبتي المنثنيتين أن يقوموا [الألمان] بأستعمار البلاد [سورية والعراق] وأن يطيل [الله] في عمري لأرى الجيل التالي [من الألمان] موبوءا ومتراخيا وبدينا ومتشرقا [اصبح مشرقيا] والله "ي"[القسم لمارك وبأسلوب العامية الموصلية] ! سيكون الزمن قد انتقم [من الألمان] انتقاما كاملا)..

وفي مكاان آخر: ( ان المسألة الشرقية الوحيدة الحقيقية هي سكة حديد بغداد ودخول الأسطول الألماني مياه الأسطول البريطاني..والمركزين المهمين هما الموصل والبصرة..مع ذلك لم يجر اي ذكر لألمانيا ولا لتركيا في حقيبة فضلات الأوراق اللعينة التي كتبها غراي [ادورد غراي وزير خارجية بريطانيا الذي وعد الروس بالمضايق التركية] وزملائه بالمشاركة مع عصابة منبوذة فاسدة من الهون [كلمة تدوينية لوصف الألمان والروس] الرسميين..اللعنة على قبعاتهم المسطحة وشواربهم الطويلة المعقوفة وانفاسهم التي تزخر برائحة الفودكا)..

ولمارك سايكس آراء بالأدب الأنكليزي الذي أثر في كتاباته بوضوح اذ نلمس في كتاباته أسلوب ديكنز وسخرية جوناثان سويفت..ففي مقارنته لديكنز بثاكري يقول:
(في مقارنتي لديكنز بثاكري..يخال لي أن ديكنز ذائع الصيت لأنه يبتكر شخصيات غريبة لايمكن تخيلها اما ثاكري فلأنه يرسم الحياة كما هي تماما)..وهو رأي نقدي صائب ...

ونلاحظ اسلوب ديكنز من خلال التكرار الذي استخدمه في النص الآتي عندما شاهد خارج قلعة شرقية عظيمة قبرا لقاطع طريق كان هو من شيدها:
( الضريح اصبح مأوى للمشردين وحوائجهم، فما اغرب ان يتحول ضريح لص سارق الى ملجأ من اللصوص..بعد مغادرتي لخرنوب [قرية في الطريق الى البتراء] باتجاه الجنوب دخلت صحراءا مخيفة رهيبة ومرعبة صحراء تتخللها جبال كبيرة من الصخور الحمراء والبيضاء صحراء بلا تخوم اشجارها ميتة ذاوية ومنكمشة كانها مصابة بطاعون نخرها وقمعها..حيث تكثر الصخور الناتئة والأكوام التي نبت فوقها الفطر وبقايا مجاري مياه ضحلت وجفت وآبار مهجورة ناضبة وتلال بلا نهاية لم تمر عليها اقدام بشر..صحراء كانت مأهولة يوما إلا ان أهلها ماتوا عن بكرة ابيهم، ماتوا كالعشب الذاوي، ماتوا كالحصى المتقد من حرارة الشمس، ماتوا كالحجارة السوداء الكالحة، ماتوا كالمجاري الخالية المحترقة المهجورة في هذه التلال والمرتفعات الميتة..وإن جاء زمان يموت فيه العالم،  فأن جثته المتفسخة ستبدو تماما مثل هذا المكان! )

الموصل كما وصفها مارك سايكس في ثلاث رحلات:

زار مارك سايكس الموصل ثلاث مرات الأولى في ربيع عام 1899عندما كان طالبا في جامعة كامبردج حيث اخذ اجازة الصوم الكبير قبل عيد الفصح وفي نيته امضاء ثلاثة او اربعة اشهر في الشرق زار فيها الصحراء السورية ودمشق فحلب فبغداد فالموصل فوان وعاد بطريق جبل ارارات فأريفان فباطوم..ونشر رواية رحلته في عام 1890 بكتاب اسماه [رحلة في خمس ولايات تركية]..وكانت رغبته الرئيسة ان يصبح مكتشفا فجاءت زيارته الثانية للشرق في تشرين الثاني عام 1902 وبصحبة زميله جون هوف سميث فزار لبنان وسورية وتركيا والموصل قبل ان يعود في شهر آب عام 1903
ونجح في هذه المرة في وضع خرائط عديدة لأصقاع مجهولة وجمع مادة لكتابه الثاني في ادب الرحلة وهو[ دار الإسلام] الذي كتب مقدمته المستشرق ادورد كرانفيل براون..والذي ظهر عام 1904..وجاءت زيارته الثالثة للموصل بطريق الجزيرة فسنجار فتلعفر فالموصل عام 1906 ودون تفاصيل رحلته تلك في كتاب اسماه [ميراث الخلفاء الأخير] الذي لم يظهر حتى عام 1915..وكان مارك قد القى تفاصيل رحلته في محاضرة في الجمعية الجغرافية الملكية في آذار عام  1907 مؤكدا على الجزيرة الفراتية التي فقدت وظيفتها كحد فاصل بين الشرق والغرب منذ ان انهى اكتشف فاسكو دي جاما الطريق البري لتصبح منطقة فاصلة بين الجنوب والشمال..

الزيارة الأولى(1899):

( الحدث الوحيد الذي يستحق الإشارة بين أربيل والموصل هو عبور الزاب  بوساطة قارب والقارب كبير ومربع يمكن ان يحمل ستة خيول وعشرين رجل..وكان نقل البغال الى القارب عملا شاقا وكان المرافقين برابرة في قسوتهم..ففي أحدى الحالات قاموا بربط ارجل البغل  ورموا به الى الأرض وسحبوه من راسه وكادوا بذلك يخنقون الحيوان المسكين في حمله الى القارب..وكان معي ثمانية بغال وأربعة خيول استغرق نقلهم بواسطة القوارب قرابة ثلاث ساعات..ولم يكن تنزيلهم في الضفة الثانية باسهل من أدخالهم القارب..وبعد يومين وصلت الموصل..وكان أول شيء أثار انتباهي جسر بديع..وهو عمل متقن لولا خطأ واحد ..فالمهندس الذي صممه  بدأ فيه على مسافة تبعد عن الضفة حوالي مائة وسبعين ياردة، فبنى 24 ركيزة قبل ان يصل الى ضفة النهر..ثم وبعد تفكير ارتأى أن يتمم الجسر بطريق جسر آخر من القوارب ثم ربط تلك القوارب بسلسلة من الحديد بالجسر الحجري..وعلى الرغم من ان هذا البناء لافائدة منه كجسر فقد تحول الى مأوى للشحاذين والمجذومين وباعة المعلاق والحليويات [ وكان رحالة أخرون قد أشاروا الى ان هذا الجزء من الجسر قد تحول مكانا لشذاذ الآفاق والخمارة واضرابهم وبخاصة في اثناء الليل].. وعندما وصلت الموصل كانت الأوضاع مضطربة فيها..فقد توفي الوالي الأخير [حسين حازم باشا] منذ ستة اشهر ولم يعين وال يخلفه لذا لم يوجد من يرخص بإطلاق النار على السراق..وكانت النتيجة حبس ضابطي شرطة لأطلاقهما النار دفاعا عن النفس على سراق.زوكانت السرقات ترتكب في الأسواق في وضح النهار..وتصبح المدينة في فوضى بعد الساعة السادسة فلا يغامر أحد بالخروج من بيته بعد غروب الشمس.. ويبدو لي ان التاثير الأوربي هو الأضعف في الموصل منه في المدن التي زرتها حتى الآن..اما الأسواق فممتعة والباعة المتجولين لايزعجون المارة بالحاحهم كما هو الحال في بغداد. ولفرنسا قنصل يمثلها في الموصل ولكن حكومتنا ولسبب غير واضح من اول نظرة، تفكر ان مكانا بهذه الأهمية يمكن ان يخدم في افضل الأحوال بوكيل قنصل.. والشخص الذي يشغل هذا المنصب مسيحي من اهالي الموصل هو نمرود رسام [الأخ الأصغر لهرمز رسام] ويقول الناس في الموصل ان عم نمرود [كريستيان رسام] ارسله الأنكليز لحراسة آثار نينوى]..وقد اجرت بيتا في الموصل وبقيت فيها خمسة ايام ثم غادرتها في 16  آذار متجها الى زاخو ومنها الى بتليس)..

الزيارة الثانية (1902) :

 (وبعد انتهاء رحلتي في الجبال، اتجهت الى الموصل بأقصى سرعة ممكنة وبذلك عبرت من كردستان الى أرض العرب..وتقيم بين العنصرين [الأكراد والعرب] اقوام نصفية [اي لاعرب ولا أكراد ربما يقصد بهم الشبك والجرجرية]، وهؤلاء لايشبهون أطلاقا الأقوام المتدنية التي رايتها في اورفا..فهم عنصر راق يتميزون بالنظافة وبالمثابرة التان لانشاهدهما لدى المشارقة ..ولابد لي أن اقر بأني سررت في رؤيتي مرة أخرى بدويا اشعثا وبربريا يعنى بقطعانه خارج الموصل..لقد صدق أوديسيوس [ هو السير تشارلس اليوت اوديسيوس مؤلف كتاب تركيا في اوربا]عندما ذكر في كتابه الممتاز يستلزم ان يكون الشخص ذكيا جدا لكي يميز عنصرا عن آخر بطريق الفراسة في تركيا الأوربية..وكذلك الأمر في المنطقة المحيطة بالموصل فهنالك قرى يزيدية وقرى مسيحية وقرى عربية وقرى لبدو اكراد وأخرى لبدو عرب ولبدو شمر وشبه بدو وشيعة ززوفي الواقع تجد حول الموصل العقائد كلها والعتاصر كلها.زوعلى الرغم من امكانية تمييز كردي من الجبل عن بدوي تماما كتمييز زنجي من انكليزي..فإن العناصر الوسطية تحتضن موالفة من العنصرين..فقد رأيت اناس يعرفون بأنهم أكراد إلا ان لديهم خصائص العرب كلها فهم يرتدون العقال وملامحهم خشنة كملامح البدو بما يترك لنا ان نتساءل اذا كان عنصر العرب من الوسامة بمكان؟ ولكن هناك جميع الأنواع من الوجوه المحيرة في تركيا.. فكيف لك ترى ان تشاهد بين اولئك الأوغاد مستديري البطون سمر السحنات من المتمرغين بالرمال في قرية من الفلاحين طفلا سرح الشعر ازرق العينين وبوجه يسر ميليس [ المصور الأنكليزي جون ايفرت ميليس صاحب لوحة اوراق الخريف الشهيرة] ان يلقي نظرة عليه؟ والسير ركوبا الى الموصل مبهج بعد ان تبدو المدينة على مسافة ميلين لأن مظهرها يكذب قذارة شوارعها وفقر اسواقها.. وسكان الموصل من عرب المدن المعروفين بكبريائهم وتعصبهم وغرورهم تماما كعرب حماة وحمص ودمشق ..وهم ملسونون ، ماكرون وسريعوا الإثارة ورعاديد..فهم يمثلون في عقلي واحدة من اسوء الصور التي يمكن للمرء ان يراها في الشرق: فهم موبؤون من جراء سنوات من العيش الرديء، يسخرو من ألقرويين بكل الإزدراء المنفر الذي يسقطه لندني مقزوم "كوكني" [تشير الكلمة الى طبقة عمالية تسكن في شرقي لندن في عصر ديكنز] على ريفي جلف صادف ان زار لندن..ولديهم القدرة على تضمين ابيات من الشعر، يكرهون الأتراك – وهؤلاء افضل منهم بما لايقاس – وينعتونهم بالبرابرة، وهم كسالى لا أمل فيهم، ميالين الى الشر بقدر ماتسمح لهم به اجسامهم الضعيفة، مستعدون في اية لحظة للهرج والمرج والذبح بدافع التعصب بقدرما يضمنون خلو المكان من الخطر..ويكرهون الأوربيين كراهية تنبثق من تعصب وحماقة وانعدام احساس..وتراه [الموصلي] وقحا ووضيعا..ومستعدا للهتاف بكلمة "كافر" على اي غريب ثم يلوذ بالفرار حالما يدير هذا الغريب رأسه..وعقولهم عقول كناسي الأوحال بحثا عن لقى اما مظهرهم فمظهر الفلاسفة..انهم يحزنون من يشاهدهم ويثيرون نفوره..ترى اي سقوط هذا حقا! أن هذه الكائنات البائسة هم احفاد العرب الذين حكموا، في عهود الخلفاء، امبراطورية يعد تاريخها، الذي لم يدون [بتفاصيله] بعد، أحد أعظم التوايخ في العالم فأدبهم هو الأنبل وعلومهم هي الأكثر تقدما وفلاسفتهم كانوا ألأفضل  في عصرهم، مع ذلك يتجه اعتقادي الى ان السقوط لم يكن بسبب إنحلال عنصر فقد طاقته بل هو نتيجة البيئة والوسخ..فالكبرياء المتغطرس الذي لامعنى له في الوقت الحاضر، سيحول مع التعليم والثقافة، كما ينبغي أن يكون، دون تحولهم الى أوربيين [تغريبهم] على نحو يتخنثون معه كالكوزموباليت [ انسان "عالمي" فاقد الهوية يشعر انه ينتمي لأمة افتراضية]، فالأضافات الشعرية [التي يستخدمها اهل الموصل] في المحادثة تؤكد أن شيئا قليلا من تلك الروح [روح النهوض كأمة سيدة تملك قدرها] مازال باقيا، فلنأمل خيرا في رجال الموصل...
ويمثل لمصالح بريطانيا العظمى بعلم وممثل من مسيحيي الموصل اسمه نمرود [رسام]، وهذا الشخص الذي لايتحدث الإنكليزية ومايعرفه من الفرنسية نزر يسير هو الموظف الرسمي الوحيد الممثل للحكومة البريطانية في مدينة كبيرة مضطربة يديرها والي لاتصل صلته ابعد من مقر حكومته [السراي] وهو الأضعف من بين الولايات التركية كلها..ويبدو ها الشيء عصي على التصديق، ولكن هذا هو الواقع ونمرود افندي هو الحامي الوحيد للعديد من الرعايا الهنود البريطانيين..ونجد طبعا ان لفرنسا قنصلية في الموصل وهناك موظف يرتدي قبعة مسطحة يمثل  نفوذ روسيا المقدسة..
وقد سررت للغاية لعثوري على عدد من مجلة السبكتيتر [المراقب او الراصد وهي مجلة اسبوعية تمثل وجهة نظر المحافظين الأنكليز مازالت تصدر في بريطانيا] في الموصل، فقرأتها من الغلاف الى الغلاف وبضمنها الأعلانات...ولأني كنت راكبا على مدى ثلاثين يوم في اراض هي الأغنى والأخصب من اية أرض شاهدتها في جنوبي أفريقيا أرى أن عبارة "صحاري آسيا" في معرض الحديث عن خط حديد بغداد، تبدو غير صحيحة..والتقيت عالم الاثار الأنكليزي  السيد [ليونارد وليم] كينك، يجري تنقيباته بجهد كبير..وعلى الرغم من اهتمامي [بالآثار] فأنا لست آثاري، لذلك فإن اي شيء قد أقوله في هذا الخصوص لن يكون ثانويا فحسب بل تدخلا غير لائق..ولكن هنالك نقطة، على اية حال، مفتوحة للمناقشة  تخص الدقة الملفتة للنظر للمنحوتات إذ نجد تفاصيل تشريحية في نحت الأطراف غاية في الدقة والجمال بما يذهل حقا اي شخص اعتاد على تماثيل ربات وملوك بأطراف مسطحة وأنوف اشبه بالبصل مما يزين المتحف البريطاني..ومن المثير حقا ان نلاحظ ان عددا من التفاصيل في المنحوتات الاشورية ماتزال موجودة في الوقت الحاضر كالكلك والقبعة الكلدانية والحذاء مدبب النهاية فضلا عن طريقة البناء باعتماد الزاوية المائلة قليلا في بناء جدران البيوت حفاظا على ثباتها واستقرارها وتحضين الطابوق في الواح رخامية وتحصين الأسوار بابراج ملصقة بارزة)..
ويعود مارك سايكس بطريق بغداد مارا بحمام علي وقلعة الشرقاط...

الزيارة الثالثة (1906):

(ومدينة سنجارمهمة لأنها ابعد المدن العراقية في اتجاه الغرب يستخدم فيها طراز بناء مماثل لعمارة الموصل..كما نشاهد فيها العديد من العادات المألوفة في العراق..وبخاصة استحمام النساء امام انظار المارة، وهي عادة شاهدتها في زاخو وراوندوز بينما تعد في الموصل فضيحة تحولت الى مضرب مثل يتندر به..وغادرنا في اليوم التالي سنجار في طريقنا الى الموصل..وتركت فكرة السفر الى الحضر بسبب انتشار عصابات قطاع الطرق وذيوع دعايات عن حرب على الحدود الفارسية...فوصلنا في اليوم الأول قرية الخان حيث وجدنا قبلة تركمانية [من القرج] قد نصبت خيامها..ولكن أهالي قرية الخان معظمهم من اليزيدية وهناك اسر مسلمة فيها ايضا بيد ان اهل القرية يعدون انفسهم قبيلة واحدة..ولأنهم عوملوا بقسوة من قبل الحكومة في الآونة الأخيرة، تراهم أكثر لطفا من أقرانهم القاطنين في انحاء ضاربة في اتجاه الغرب [يقصد جبل سنجار ومناطق غربي سنوني..ويرى سعيد الديو جي ان خانا يوجد في القرية اعطاها اسمها وأن بدر الدين لوءلوء هو الذي بنى الخان في القرية] ..وعلى الرغم من بدائيتهم وجلافتهم، يبدو انهم لم يوطن نفوسهم الشر المتأصل الذي يكمن في اقرانهم..ويوجد بالقرب من القرية خان خرب يزين اعلى المجاز في مدخله رجلين تحيط براسيهما هالة يقتلان تنينين ويرتدي الرجلان حذائين طويلين مدببي النهايتين مشدودين بأربطة على ارجلهما بينما يشبه التنينان التنانين التقليدية في الصين..وبينما كنا مع الشيخ، وصلت انباء مفادها ان الهادي ابن فرحان قد قتل من قبل رجال تابعين لخاله..وتلك حادثة مهمة تسببت بإضطراب سادّمنطقة الجزيرة بأكملها..وقررت بسبب دعايات الحرب والتحشيد على الجبهة الفارسية الأسراع بالذهاب الى الموصل لأجراء تحقيقات لمعلوماتي الشخصية.فتحركت من الخان الى تلعفر وهي قرية صغيرة تسكنها اقوام تتحدث بلغة تركية..ذكروا لي انهم عبيد لجأوا الى خرائب مدينة قديمة بعد مغادرة المغول في جيش تيمور..وترى فيهم النوع التركي من خلال عظام الوجنتين البارزة ومخاجر العيون الضيقة والوجوه العريضة المسطحة ..وهي ملامح ليست متكررة بكثرة لأن اكثرية السكان لايمكن تمييزهم من الفلاحين المحليين العرب..واخبرني المسنون في تلعفر انهم كانوا يعيشون في الماضي في استقلال وادارة خاصة بهم وكان لهم قائد يتصدون معه لغزوات الشمر وانهم لم يدفعوا للشمر ضرائب [خاوات] حتى عندما تكون الموصل خاضعة للشمر، وان مصدر قوتهم يكمن في قلعة كبيرة متينة البنيان تغطي خرائبها الآن التل المطل على القرية.. وكان هذا الملجأ [القلعة] قادر على احتضان حصن يضم 2000 رجل بالإضافة الى النساء والأطفال وهو افضل مأوى في اوقات الشدة كما يقدم مكان تجمع للقرى العديدة المتصلة بتلعفرإلا ان هذه القلعة اليوم خربة ومهجورة [كانت قلعة آشورية اصلا اسمها نيميت عشتار ثم جدد عمارتها الرومان وبعدهم العرب على عهد مروان فسميت بقلعة مروان]، وفي عهد رشيد باشا [التنظيمات] ابدى سكان تلعفر بعض المقاومة [لجباية الضرائب والتجنيد الإلزامي] مما دعى الأتراك الى انهاء استقلال المدينة بشنها حملة عسكرية عليها مما ادى الى تدمير قلعتها وضمها للإدارة العثمانية، لكن هذا الحكم لم يكن بفعالية الحكم الذي سبقه حيث تعرضت القرى المجاورة لها للتخريب من قبل العرب وتحولت تلعفر نفسها من مدينة كبيرة الى قرية بائسة ثم اجتاح المنطقة وباء الكوليرا منذ فترة قصيرة فاصبح كل مايشاهده الرحالة في تلعفر عددا قليلا من البيوت المنكمشة على نفسها وسور مهدم عليه بقايا مسننات قديمة يضم مديرا يعيش في [شكفتة] صغيرة في الخرائب..
والطريق من تلعفر الى الموصل حزين وبائس خرائب حديثة العهد واراض معطلة هي كل مايلقى العين..فالحكومة دمرت النظام الإقطاعي القديم ولم تحل محله اي نظام آخر..والشيء الوحيد الذي ادخل بعض الرضى الى نفسي هو اختفاء الأحديداب المشؤوم لجبل سنجار وراء الأفق في وقت مبكر من النهار ومعه ارتحل العديد من الأنطباعات غير المحببة التي لم تفارق فكري منذ اول يوم دخلت فيه منطقته اللعينة..

وفي الموصل وجدت العش القذر نفسه للفساد والرذيلة والفوضى والمرض تماما كما اعرفها دائما..فخلال ثماني سنوات لم تحقق اي تقدم منظور ولا تحسن من اي نوع...فقد كانت الموصل مرة مدينة اعظم مما آلت اليه الآن..ولكني لا اجد سببا لنأسف ان نرى اماكنها القذرة اقل حجما مماكانت في السابق.وليس عسيرا ان نفهم اسباب عدم ازدهار الفن والصناعة في الموصل خلال القرنين الماضيين..فالبيوت الجديدة [المشادة حديثا] متداعية وغير صحية وكريهة الرائحة تماما كالبيوت القديمة، والبيوت القديمة قبيحة وعقيمة ومنفرة كالبيوت الجديدة..والسماء الصافية لاتظفي مسحة جمال على هذه المدينة من الطين والملاط [الجص]..فأزقتها العمياء ضيقة ترسل روائحا كريهة وهي منفرة تماما كازقة وايتجابل [حي من احياء لندن تكثر فيه الجرائم على زمن مارك سايكس] وجوامعها [اي جوامع الموصل] خالية من اي خاصية معمارية تماما كمحطات القطار.. والناس يبدون ثقال فاقدين للفضائل والوعي [مسطولين] بسبب بيئتهم..ومن صفاتهم اللامبالاة والطمع فقد توالف فيهم جمودالبدوي وروح المخاتلة المميزة للبائع المتجول لتكوين شخصية راكدة غير محببة لايمكن ان تبشر، بالنسبة لمراقب عابر،  بالخير فيما يتعلق بخط سكة الحديد الجديد..ولكن لابد من الإشارة الى ان المسيحيين والمسلميين تواقين لمد خط سكك الحديد في المدينة..وإن معظم سلبيات اهل الموصل انما جاءت بسبب عزلتهم الطويلة في مناخ موبوء..ومن الناس في الموصل من يرى ان الزراعة في وضع افضل مقارنة ببضع سنوات خلت وذلك على الرغم من اغارات البدو والجراد ورداءة النقل، واخبرني تاجر معروف من اهل الموصل ان هناك زيادة بمقدار 150 قرية في الولاية.. مع ذلك فمدينة الموصل موطن شر إذ يتجول السراق في اثناء الليل من بيت الى آخر بدون ان يلمسهم احد ويصبح الوقت المكرس للراحة في المساء ذعرا بسبب اطلاقات النار من المسدسات وصراخ المتشاجرين وصخبهم، اما في النهار فيكثر تعاطي الخمور والدعارة بشكل علني..فقد افسد نكد المزاج الناس وجعلهم الشراب عاجزين وغيبتهم [غيبت وعيهم] الرذائل التي اعتادوا عليها.. وانحلال الناس في المدينة ليس انحلالا ماديا فقط بل عقليا ايضا حيث تكثر الروايات عن انواع من السحر الذي يستخدم السحرة فيه بقايا الموتى وذلك من آثار الوثنية البائدة التي حاربتها المسيحية والإسلام معا ولكنهما لم يزيلانها تماما..

وفي رأيي فإن الموصل تمثل تهديدا لمستقبل الأراضي المحيطة بها، بل وتذهب توقعاتي بقوة الى ان القائمين بمشروع سكة الحديد سوف يقومون بشيء حسن ان هم تجنبوا [المرور] بالمدينة لأن الإزعاج الدائم لهذه البؤرة من المرض والخوف سوف لن يتخفف بل سيزداد بالأحرى بالثروة [التي قد تتحقق بسبب النشاط التجاري المترتب على مرور سكة الحديد بالمدينة]، وإذا ما أصبحت الموصل، بوضعها الحالي، المدينة الرئيسة في شمالي بلاد الرافدين [وقد اصبح] مزدهرا، فأنها سوف تنقل عدواها بالتأكيد الى المناطق المحيطة بها بتأثيرها الشرير نفسه تماما كأنطاكية القديمة التي انتشر تأثيرها في شمالي سورية [ يبدو ان مارك سايكس ينتهج في رأيه حول أنطاكية نهج المؤرخ الأنكليزي كيبون الذي وصف انطاكية الوثنية بقوله:" القانون الوحيد في انطاكية هو الأزياء الحديثة، والمتعة هي نهجها الوحيد وكل مايميز الناس فيها ترف الثياب والأثاث..فالمدينة تحترم كل فنون الترف وتسخر بكل الفضائل الرجولية والإهتمامات الجادة، فضلا عن احتقار الناس لأحتشام المرأة والمسنين مما يميز الفساد الشامل لعاصمة الشرق"]..وعلى الرغم من ان الفكرة تبدو ضربا من الخيال، فأني اقترح بقوة ان من المربح في آخر المطاف لجيب المستثمر اذا انشأت الشركة  سكة الحديد محطة القطار على مسافة عشرة اميال عن موقع المدينة [الموصل] الحالي وبذلك تضع الأساس لموصل أحدث وأنظف، يتجه الإهتمام فيها الى تنظيم الصحة العامة والسلوك المحتشم ..فالمدينة الحالية مكتظة جدا وبناء المنازل لايكلف شيئا بحيث لايطرح هذا المشروع [بناء موصل جديدة] سوى القليل من المشكلات العملية..

ونظرتي الأخيرة للموصل انموذجية تصلح لوصف المكان بأكمله [اي الموصل] ففي وسط المدينة هنالك عنقود [مجمع] من 300 بيت عند ضفة النهر. و[تشغل] هذا المكان المذبحة والمدبغة والمصبغة الخاصة بالمدينة بأكملها والممرات فيها مملوءة باحشاء الحيوانات وفضلاتها التي تصل الكعب..وتجري فيها سواقي من الدم المتجمد الممزوج بالأصباغ منفرة الرائحة في مجاري راكدة متعددة الألوان ينفر منظرها العين وتقرف روائحها الكريهة النفس وفي الهواء تنتشر هبات من روائح اللحوم المنتنة وفي الأزقة القذرة  تتوزع أكوام روث وقرون [حيوانات ذبيحة] واظلاف [أغنام وعجول]..بينما ترى هنا وهناك جثة حيوان ميت [لشة] رماها القصابون لتستلقي نافثة قبحها تحت ضوء الشمس..
وتلتصق على جدران البيوت وابوابها اوساخ متكتلة بينما يتنقل رجال عراة جيئة وذهابا في ممارسة اعمالهم القبيحة المنفرة هذه..ولعل مما لايصدق فيما قد يبدو ان تجد هناك عوائل تعيش في قلب هذه المنطقة الكريهة [جوبة البكارة]..فتجد رجال ونساء وأطفال يسكنون في هذه الأوكار المكتضة بالشحوم ، ليس بسبب الفقر او عدم وجود سكن افضل بل بسبب الخمول واللامبالاة)..

واخيرا يخبرنا مارك سايكس في كتابه [ميراث الخلفاء الأخير] عن بدء رحلة العودة الى بريطانيا:

(من الموصل تحركنا نحو برطلة بحثا عن سلام او حرب..في الموصل كانت الأنباء والإشاعات متنوعة ومتضاربة ومنها ان أنكلترا اعلنت الحرب بدون ذكر للجهة التي اعلنت عليها الحرب، وأن ملك انكلترة في القسطنطينية بدون ان نعرف ان كان ضيفا ام اسير حرب،  وان امبراطور المانيا اعتنق الإسلام، وان شيخ الكويت قتل رجلا انكليزيا،  وان ابن رشيد متعاون مع الفرس وان الكرد في ثورة على الأتراك او انهم ثاروا على الفرس، وأن الأنكليز وراء المشكلات كلها، وان القوات التركية تحتشد لذبح الأرمن، وأن السلطان مات، او ان السلطان يحتضر وأنه تخلى عن العرش لأبنه..وان صنعاء سقطت وان الأنكليز احتلوا اليمن!

وعندما يغادر الرحالة الموصل و تصبح خلفه فأنه يمر في اراض غاية في الخصب والثراء)

ثم يرحل مارك سايكس الى المناطق الكردية بطريق برطلة وبعد جولة واسعة بين العشائر الكردية في الجبال يرجع الى الموصل عبر الزاب  ليبحث عن مرافقين ثم يعود بطريق زاخو فبيشخابور فجزيرة ابن عمر فميديات فدياربكر وهو في كل مكان يصف سكانه وعمارته باسلوب ادبي ودقة شاهد عيان..وقد دون كل ذلك في كتابه [ميراث الخلفاء الأخير] الذي ظهر عام 1915..

واخيرا:

فبالوصول الى خاتمة الرحلة الأخيرة لمارك سايكس لابد من كلمات بخصوص انطباعاته عن الموصل ولاسيما وان ماذكره عن المدينة لايتفق مع توقعات كثير من القراء عن مدينة الموصل  في العقود الأخيرة للحكم العثماني ..والحق ان ما وصفه لم يكن مجافيا لواقع المدينة باي حال من الأحوال وحسبي مترجما ان انقل النص بأمانة، غير أني اوضح هنا واشرح هناك [بين قوسين مربعين] مستعينا بقراءات سابقة وحضورية ومعرفة بمدينتي وهنا لابد ان اضيف بأن مارك سايكس رجل انطباعي يميل في وصفه الى الأساليب الأدبية  متأثرا بديكنز وسويفت وثاكري وغيرهم.. فضلا عن اطلاعه على ادبيات الرحلة لرحالة سبقوه في زيارة المشرق..وفضلت تجاوز موقفه [المعادي] للإسلام

7
رحلة رئيس اركان الجيش الالماني المارشال هلموت فون مولتكة الاكبر الى الموصل عام 1838




صلاح سليم علي

مقدمة:

في مراجعة تاريخ الرحلات الى الشرقين الادنى والأوسط، تشغل الرحلات الى العراق والموصل بوجه خاص نسبة كبيرة  من مجمل تلك الرحلات مما يؤشر الى نمط معين اي تكرار تلك الرحلات الى العراق والموصل تحديدا مما يدعونا الى التفكير بالاسباب والدوافع على محاور الزمان والمكان والاهداف المتوخاة من الرحلة.. فقد شغل الشرق الادنى بصفته حاضنة تاريخية للحضارات القديمة والأديان الرئيسة وبيئة للغرائب والعجائب ومركزا للمدن الغابرة الدفينة  خيال الاوربيين منذ القرون الوسطى ..وقد عززت الترجمة المبكرة لألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر هذا التوجه التخيلي للمشرق..وهو توجه تجسم من الناحية الفنية بحركة الاستشراق اي محاولة تصوير الشرق في الاداب كالشعر والرواية والفنون الاوربية كالموسيقى والتصوير بينما تجسد من النواحي العملية بتاسيس المراكز التجارية في المدن الشرقية كالقسطنطينية وبغداد والقاهرة والموصل والبصرة ودمشق وحلب وغيرها..وعزز حركة الرحلات الى الشرق الادنى الحكم البريطاني للهند او الراج البريطاني 1858-1947..فالشرق عموما وبلاد الرافدين بوجه خاص هما بالنسبة للاوربيين بيئة للمغامرات والتجارب الفائقة للعادة.. فبلاد الرافدين  مكان احتضن منذ العصور القديمة آثار المحاولات الاوربية الاولى لاستكشاف العالم اوغزوه فهي المكان الذي سارت فيه جيوش الاسكندر المقدوني والجيوش الرومانية وهي المكان الي زاره زينوفون وهيرودوتوس.. وهي مهاد الاديان السماوية الرئيسة  وتجري في الشرق الأدنى وديان الانهار الكبرى التي ترعرعت على ضفافها الامبراطوريات القديمة في وادي النيل وبلاد الرافدين التي قدمت للانسانية اعظم اختراعين هما الكتابة والعجلة.. وطبيعة الحياة في المدن الشرقية تزخر بالحيوية والاثارة اذ يحدث كل شيء في وقت واحد وبمقدور الشخص ان يتنقل وياكل ويبيع ويشتري في اي وقت من اوقات النهار الذي يحدث فيه كل شيء..فالشرق يختلف بطعامه والوانه وبشره وتاريخه وعمارته وبأيقاعه الزمني وبكل شيء عن الغرب مما يجعل من مجرد الاختلاف دافعا يثير حب الاستطلاع لدى الاوربيين لزيارته.. اما تركز الرحلات في القرن التاسع عشر فيعود الى تظافر العوامل السالفة فضلا عن انتشار الوعي الجغرافي ووجود جهات داعمة تمول الرحلات كالمتاحف والجمعيات التاريخية والجغرافية والتبشيرية.. وقد تكون اهداف الرحلة عسكرية او لمجرد حب الاستطلاع كما في رحلة رئيس اركان الجيش الالماني المارشال هلموت فون مولتكة الاكبر الى الموصل عام 1838..وهي من الرحلات التي يندر التطرق اليها في المصادر والمصدر الوحيد الذي تناولها كان رسالة للمارشال مولتكة نفسه عثرت عليها باللغة الالمانية ضمن كتابه [رسائل حول اوضاع وحوادث تركيا منذ عام 1835 وحتى عام 1839] يتطرق فيها الى اقامته في كنيسة الكلدان في الموصل ويصف المدينة وفيما يأتي ترجمة لحديثه عن رحلته الى الموصل ووصفه لها بعد تقديم تعريفي به وبعصره ومنجزاته:


فون مولتكة الاكبر:

وردت صفة [الاكبر] على اسم مولتكة تمييزا له عن ابن اخته المعروف باسم مولتكة [الأصغر] ايضا والذي كان يشغل منصب رئيس اركان الجيوش الالمانية للفترة 1906-1914 ويماثل خاله باهتماماته الستراتيجية والعسكرية..ومولتكة موضوع دراستنا هذه ولد عام  1800 في اسرة المانية موسرة انتقلت الى هولشتاين عندما كان مولتكة في الخامسة من عمره فتعرضت ممتلكات اسرته هناك للحرق والنهب عندما اقتحمت القوات الفرنسية المنطقة في اثناء حرب التحالف الرابع 1806-1807 فارسل مولتكة الى هوهنفيلد الحدودية وكان عمره التاسعة وبعد سنتين دخل مولتكة المدرسة العسكرية في كوبنهاكن بهدف الانخراط بالجيش الدنماركي فواصل تعليمه العسكري سبع سنوات وتخرج بصفة ملازم ثان عام 1818..وبعد خدمته في وحدة مشاة دنماركية، عاد مولتكة الى المانيا ودخل في خدمة الجيش البروسي..وفي المانيا عين مديرا لمدرسة عسكرية في فرانكفورت اودير ومنها امضى ثلاث سنوات في دراسة مسح عسكري لمقاطعتي  سيلسيا وبوسين..ونقل الى رئاسة الاركان العامة في برلين عام 1832 لأمتيازه على زملائه..وبحبه للفنون والموسيقى..
وقد الف مولتكة كونه دارسا مولعا بالتاريخ اعمال عديدة في الرواية وبدأ عام 1832 بترجمة كتاب جيبون [تاريخ تدهور الامبراطورية الرومانية وسقوطها]، الى الالمانية. وفي عام 1835 منح اجازة لستة اشهر زار خلالها دول اوربا الجنوبية الشرقية وتركيا. وبينما كان في القسطنطينية، طلب منه السلطان محمود الثاني المساعدة في تحديث الجيش العثماني.. فحصل على ترخيص من برلين ليمضي سنتين في تحديث الجيش العثماني قبل ان يصاحب الجيش في حملة ضد محمد علي حاكم مصر في معركة نزيب 1839 التي قادها من الطرف المصري ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا ومعه الكولونيل الفرنسي سليمان الفرنساوي [چوزيف انتيلمى سيف].. بينما قاد الجيش التركي حافظ باشا وكان على رأس المدفعية العثمانية المارشال مولتكة ومعه عدد من الضباط الألمان..غير ان المرونة التكتيكية لأبراهيم باشا تفوقت على الاحتياطات التحصينية لمولتكة وكانت النتيجة اندحار الجيش العثماني وانتصار العرب المصريين في معركة حاسمة يبدو ان مولتكة تعلم منها البعد الاجرائي في القتال وضرورة تغيير الخطة الهجومية الدفاعية على ارض المعركة في اثناء القتال..

وبعد عودته الى برلين نشر كتابا عام 1840عن رحلته وتزوج ربيبة شقيقته، الانكليزية ماري برت..ثم عين في رئاسة اركان الجيش الرابع في برلين حيث ابدى رغبة قوية في السكك الحديد ودرس توظيفها في المواصلات الحربية وفي عام 1848 عين رئيسا لهيئة الاركان العامة للجيش الرابع وبقي في وظيفته هذه سبع سنوات ترقى بعدها الى مرتبة كولونيل ونقل عام 1855 مساعدا شخصيا للامير فردريك الذي نصب لاحقا بصفة الامبراطور فردريك الثالث..
وقد عين مولتكة رئيسا لهيئة الاركان العامة عام 1857 تقديرا لجهوده ومهاراته العسكرية.. وبصفته تلميذا لكلاوسفيتس[كارل فيليب كوتفريد فون كلاوسفيتس: جندي ومنظر عسكري الماني الف كتاب "حول الحرب" اعتمد مولتكة على العديد من آرائه بخصوص الحرب ومنها ان الستراتيجية هي توظيف الوسائل العسكرية لتحقيق الاهداف المطلوبة ويؤمن مثل كلاوسفيتس ان اية خطة عسكرية لن تستمر بعد الاشتباك مع العدو] على ذلك تركز جهد مولتكة على تاكيد فرص النجاح في الحرب بطريق ضمان المرونة العالية وتأمين الجوانب السوقية والمواصلات
(طرقا ووسائل ) لجلب القوة الضرورية الى النقاط الرئيسة للمعركة في الوقت الملائم..اي بمعنى ان الخطة العسكرية ليست هيكلا جامدا بل عملية متغيرة ودايناميكية وان المعارك تتفتق عن امكانيات غير منظورة قد تاتي من العدو نفسه من الممكن الاستفادة منها لتحقيق الهزيمة بالعدو..

وبعد استلامه لمنصبه مباشرة عمد مولتكة الى احداث تغييرات كبيرة في المناهج العسكرية والتدريبية وفي مفاهيم الاركان المتصلة بالتكتيك والتعبئة والستراتيجية .. وبدأ بالعمل المثابر لننهوض بالمواصلات والاتصالات والتدريب والتسليح.. وفي سياق اهتماماته التاريخية اجرى دراسة لتحديد الاعداء المستقبليين لألمانيا ثم شرع بوضع خطط عسكرية لأخضاعهم..وفي عام 1859 حرك الجيش في ممارسة تعبوية للحرب النمساوية السردينية بدون خوض اية معركة  ولكنها خطوة مفيدة لتوسيع الجيش وتنظيمه..

وفي عام 1862 دارت مجادلات حول عائدية شلزفيك-هولشتاين مع الدنمارك فوضع مولتكة خطة حربية في حال نشوب الحرب مع الدنمارك.. وكان مولتكة يعلم ان الدنماركيين سيكونون في وضع تصعب معه هزيمتهم اذا تراجعوا للأعتصام بحصون جزيرتهم فوضع خطة يتم وفقها تطويقهم لمنعهم من التراجع.. وعندما بدأت المعارك في شباط عام 1864، لم تنجح خطته وتمكن الدنماركيين من الهرب.. مما دعاه الى الحضور شخصيا الى المعركة التي انتهت لصالح الالمان فعزز نصره هذا مكانته لدى الملك  ويلهلم ورئيس وزراءه اوتو فون بسمارك  اللذان بدءا بوضع خطط لتوحيد المانيا .. وعهدت المهمة العسكرية لتوحيد المانيا سياسيا لبسمارك وعسكريا  لمولتكة.. وعندما بدأت الحرب مع النمسا تمكن مولتكة من الانتصار على النمساويين على الرغم من كثرة جيوشهم وتعدد حلفائهم..ووضف مولتكة الخطوط الحديدية لنقل الجنود الى مواقع القتال..وكانت المعركة الأولى التي استخدم فيها مولتكة اسلوب الحرب الخاطفة [بلتزكريكة] فتمكن من سحق العدو خلال سبعة اسابيع..ثم اشرف مولتكة على تدوين تاريخ الصراع مع الدنمارك الذي نشر عام 1867. وفي عام 1970 املت التوترات المتنامية مع فرنسا ضرورة تحريك الجيش البروسي [الألماني]وكان مولتكة رئيسا لهيئة الاركان العامة وهي مرتبة تخوله اصدار الاوامر باسم الملك..وكان مولتكة قد امضى سنوات في التخطيط للحرب ضد فرنسا.. فحشد قواته جنوبي ماينز ووزعها على ثلاثة جيوش وكان هدفه التحرك في اراضي فرنسا بهدف دحر الجيش الفرنسي والزحف نحو باريس..وكانت الخطة تقضي بتغيير حركة الجيوش المهاجمة صوب مكان تواجد الجيش الفرنسي الرئيسي ولكن بالإلتفاف الى اليمين لدفع الفرنسيين الى الشمال وقطع اتصالهم بباريس وباتباع خطة مولتكة تمكن الالمان من دحر الجيش الفرنسي في معركة سيدان التي سقط فيها الامبراطور نابليون الثالث ومعظم وحدات جيشه بالأسر، ومع مواصلة الزخم تم اسقاط باريس بعد حصار دام خمسة اشهر مما انهى الحرب وافضى الى الوحدة الالمانية. وقلد مولتكة بعد الحرب مرتبة كاونت او كراف بالالمانية كما رقي الى قائد ميداني بالمقام الاول او فيلد مارشال عام 1871 تقديرا لخدماته واصبح نائبا في الرايخستاج او البرلمان الالماني في السنة نفسها وبقي في منصبه رئيسا لهيئة الاركان العامة  حتى عام 1888 ولكنه استقال من هذا المنصب بينما بقي في البرلمان حتى وفاته في نيسان عام 1891.


ولعلي اسهبت بعض الشيء في سردي لسيرة حياة هذا الرجل على الرغم من ايجازي الشديد لها غير ان اهميته تنبثق من دوره المهم في توحيد المانيا ولكونه نموذج جيد للعسكري المثابر والبطل القومي الذي احب بلاده وعمل على توحيدها فهو ليس رحالة بالمعنى الوظيفي للكلمة غير ان تضمين زيارته للموصل في سياق الحديث عن الموصل في سرديات القرن التاسع عشر يكتسب اهميته من كون هذه الزيارة نادرة من نوعها ولأني لم اجد مصدرا يتطرق اليها كونها جاءت خلال اقامته في تركيا العثمانية ووردت الاشارة اليها في معرض حديث الرحالة السويدي سفين هدين الى الموصل خلال الحرب العالمية الاولى..كما ان الاصل الألماني للزيارة ورد في كتب مولتكة [رسائل حول اوضاع وحوادث تركيا منذ عام 1835 وحتى عام 1839] وهو كتاب مطبوع ومتوفر بنسخة الكترونية الا ان الخط المستخدم في طباعته هو الفراكتور [المكسر او الالماني القديم] الذي تصعب قرائته ويتطلب ان يترجم مرتين الاولى الى الالمانية الحديثة ثم الى الانكليزية قبل نقله الى العربية وهي مشكلة واجهتها عند ترجمتي لرحلة سفين هدين الى الموصل..غير اني حصلت على نص مترجم الى الانكليزية يغطي رحلته الى الموصل مما وفر علي مشكلات النص الالماني..وهنا لابد من الاشارة الى توفر معلومات كثيرة في كتب باللغة الالمانية القديمة تتناول العراق والشرقين الادنى والأوسط ماتزال ضربا من ضروب الهيروغليفية المخزونة في رفوف غابرة في مكتبات العالم.. وفيما ياتي ترجمة لرحلة مولتكة الاكبر الى الموصل:

مولتكة في الموصل:

رحلة الى الموصل ترجمها من الالمانية الدكتور ادمند فون ماخ

هذه الرسالة هي الثالثة والأربعين من تركيا وهي مؤرخة من جزيرة على نهر دجلة في الاول من مايس عام 1838:


(كنت اخبرتك في رسالتي الاخيرة بان علينا القيام بحملة ضد العرب [استخدمت بالمعنى العام والمقصود بها القبائل العربية التي تغير على القوافل المتجهة غربا والكردية التي تغير على القوافل المتجهة شرقا فضلا عن منطقة جزيرة ابن عمرعلى عهد الوالي اينجة بيرقدار محمد باشا في الموصل]، ولكن ذلك لم يتحقق..مع ذلك فلقد توفرت لي فرصة للتعرف على جزء غاية في الأهمية من البلاد..فقد شرعت بصحبة فون ميلباخ واغوين تركيين مدججين بالسلاح ارسلهما الباشا ومعنا خدمنا ومترجمينا برحلة على نوع من الزوارق يستخدم منذ زمن قورش وهو طوف [كلك] تسنده جلود اغنام منفوخة..وينزل الترك الصيد منزلة المحرمات ولهذا فهم لايأكلون لحم الغزلان والثيران ولكنهم يتناولون كميات كبيرة من لحوم الاغنام والمعيز.. ويقطعون جلود هذه الحيوانات من جهة الامام [البطن] قطعا صغيرا قدر الممكن، ويزيلون الاحشاء باعتناء بالغ ثم يخيطون مكان القطع ويشدون بحبال النهايات المفتوحة من الجلد باحكام وعندما ينفخ الجلد ويحدث ذلك بسرعة وبدون ان يلمس الجلد الفم..يطفو فوق الماء ولايمكن اغراقه..ويربط الكلاكون مايتراوح بين 40 و60 قطعة بخمسة او اربعة صفوف من الجلد المنفوخ تحت لوحة خفيفة من اغصان الاشجار..ويضعون ثماني قطع غالبا في مقدمة الكلك و18 قطعة في مؤخرته..ويتوسط الكلك هيكل اشبه بالمحفة المعمولة من الاوراق تغطيها الخرق او السجاجيد المتهرئة وتفرش من الداخل وتوضع فيها وسادات..وبجلوسنا في الكلك انحدر بنا بيسر وراحة .. ولأن التيار كان سريعا لم نحتاج الى مجاذيف وتقتصر الحاجة اليها لغرض توجيه الكلك بابقائه وسط التيار وتجنب المناطق الصخرية الخطرة والضحلة في المجرى..لذا ترتب علينا الانتظار كل ليلة لحين ظهور القمر لنتمكن من رؤية معتورات المجرى، وكنا  قد قطعنا على الرغم من ذلك مسافة يستغرق قطعها برا 88 ساعة، خلال ثلاثة ايام ونصف.. على ذلك كان النهر يجري بسرعة اربعة اميال في الساعة تقريبا ويكون سريعا في اماكن وبطيئا في اماكن اخرى..ويغادر دجلة الجبال بالقرب من ارغانا-مادان [معادن ارغانا وهي منطقة مناجم النحاس والحديد والفضة كانت تابعة للأمبراطورية الأكدية والآشورية قبل ان تتحول للسيطرة العربية وبعدها للأقوام التركية المهاجرة اليها من وسط آسيا]، ليجري عبر اسوار دياربكر حيث يرتفع منسوب المياه في الصيف لأنه يتلقى مياه نهر باتمان المتدفق صوب الجنوب، ثم ومباشرة بعد التقاء هذين النهرين يدلف دجلة في اراض جبلية تتكون من الصخور الرملية عندئذ تحولت المنحنيات الهادئة للنهر العريض طفيف العمق الى زوايا ومتعرجات واد عميق حيث تبدو الشطئان اشبه بالجدران الصخرية شديدة الانحدار وقد تنتهي العين الى بساتين داكنة الخضرة في اعالي المرتفعات على جانبي النهر حيث يقيم قرويون بما يشبه الكهوف والمغائر التي توفرها الطبيعة في مثل هذه المناطق النائية..ثم مررنا بمدينة حسن كيف [حصن كيفا] التي تقع على صخرة عالية تتصل بالنهر بطريق درج ضيق وتقدم مشهدا نادرا فالمدينة القديمة في الاسفل قد دمرت ولايوجد سوى منائر قليلة مدببة باتجاه السماء بما يدل على ان بيوتا وجوامع كانت توجد في هذا المكان، ويبدو ان الناس قد ارغموا على الصعود الى القمة حيث شيدوا سورا دفاعيا يحمي الجهة المكشوفة الوحيدة..وفي الوادي الضيق رأيت كتلا هائلة من الصخور التي دحرجت من المرتفع وقد قام الناس بحفر هذه الصخور لاستخدامها بيوتا يقيمون فيها.وتشكل هذه (الأكواخ) اليوم مدينة صغيرة تكونت كيفما اتفق وعلى نحو غير منتظم تماما مع ذلك نجد ان لهذه المدينة سوقا صغيرة.. وابرز معالم المدينة بقايا جسر عبر دجلة وهناك قوس عملاق يتراوح طوله بين 80 و100 قدم ولاادري لمن يعود الفضل في تشييد هذا المنجز المعماري الجريء ألملوك ارمينيا ام لملوك اليونان ام ربما للخلفاء المسلمين؟

من المستحيل ان يسافر المرء سفرا مريحا كالسفرة المتاحة لنا على هذا الكلك..فنحن نستلقي فوق وسادات من الريش والى جانبنا مانشتهي من اطعمة ونبيذ وشاي فضلا عن منقل نضع فيه الفحم عند الحاجة وكنا ننحدر في النهر بسرعة عجلة سريعة وبدون ايما اجهاد..غير ان العنصر الذي حملنا سرعان ماتحول لايذائنا في شكل آخر فقد كانت السماء تسح كأفواه القرب بدون توقف بعد مغادرتنا دياربكر..فمظلاتنا لم تعد تحمينا من المطر بينما تغلغلت المياه في معاطفنا وثيابنا والبسط التي نجلس عليها. وفي يوم عيد الفصح الذي وافق مغادرتنا الجزيرة، تدفق ضوء الشمس من بين الغيوم باعثا الدفء في اطرافنا المتشنجة..وبعد ميلين من المدينة بدث خرائب جسر آخر عبر دجلة وكانت احدى دعاماته تتسبب بدوامة عنيفة حيثما يرتفع مستوى النهر..ولم تجد جهود رجال المجاذيف نفعا فسحبت كاريبديز[اشارة الى وحش في مسينا تقوم مع سيلا وهي وحش آخر بسحب السفن وسحقها في الاساطير اليونانية وقد تحول معناهما  في الوقت الحاضر لتصبحا دوامتين كبيرتين مهلكتين]  مركبنا الصغير بسرعة سهم فاصبحنا على حين غرة تحت الماء بينما غطتنا موجة عملاقة .. وكان الماء باردا كالثلج..وبينما واصل كلكنا طريقه بدون ان ينقلب في اللحظة التالية وكأن شيئا لم يحدث لم نقدر حبس ضحكاتنا احدنا على الآخر لأننا كنا في وضع بائس حقا فقد انقلبت المناقل وضاعت في المياه واسرع الجميع لألتقاط شيء اسقطته الدوامة في الماء.. فتوقفنا عند جزرة صغيرة.. ولأن حقائبنا كانت مثلنا مبللة تماما، ترتب علينا خلع ثيابنا ونشرها في الشمس لتجف قدر الممكن..فرأينا على البعد سربا من  البجع وقد هبط للراحة على شاطيء رملي فارشا اجنحته تحت ضوء الشمس وكأنه يسخر مما حل بنا من معضلات..وفجأة راينا الكلك يجري مع الماء فقفز احد الاغوات بسرعة خلفه ولحق به لحسن الحظ.. ولو انه اخفق لكنا قد تركنا على تلك الجزرة النائية عراة لاغطاء لنا غير السماء..[يبدو انهم تركوا ثيابهم لتجف على ظهر الكلك]..

وعندما جفت ملابسنا بعض الشيء، واصلنا رحلتنا..غير ان تجدد زخات المطر افسد علينا النتائج المتواضعة لمحاولتنا السابقة [تجفيف ثيابنا]..وكان الليل شديد الظلمة بحيث توجب علينا التوقف وربط الكلك بالشاطيء خوفا من الأنجذاب في دوامات أخرى..وعلى الرغم من البرد القارص ولكوننا مبللين حتى الجلد، لم نجرأ بأيقاد نار خوفا من جلب انتباه العرب [لاتخلو الكلمة من تعميم لأن اقوام مختلفة كانت بالإضافة الى البدو، تغير بهدف السرقة، على القوافل والأكلاك ومنها الأكراد والأيزيدية وغيرهم]..فسحبنا بصمت كلكنا تحت صفصافة وانتظرنا بشوق الشمس لكي تبزغ من وراء جبال الحدود الفارسية لتبعث الدفء فينا..

وعلى مسافة غير بعيدة عن الجزيرة، دخل دجلة سهلا آخر مغادرا جبال [جبل] جودي الشاهقة بديعة المنظر ذلك الجبل الذي تدور الروايات على ان نوح هبط بصحبته من الاجناس المختلفة على قمته البيضاء المكسوة بالثلوج..لكن المشهد منذ غادرنا ذلك الجبل اصبح رتيبا فنادرا مانشاهد قرية مأهولة والقرى التي نراهاعند الشاطيء اما مهجورة او خرائب..من الواضح اننا دخلنا ارض العرب..إذ لاتوجد اشجار وحيث تجد شجيرة فأن المكان مزار او ضريح [هذا ينطبق على مناطق الأيزيدية لأن العرب لامزارات لهم في المنطقة].. ويكون الضريح او المزار مغطى برقع ممزوقة لاتحصى من الثياب لأن المرضى هنا يعتقدون انهم سيتشافون من المرض ان هم نذروا جزءا من ثيابهم للولي بطريق وضعها على الضريح او القبر.ثم شاهدنا على قمة جبل منعزل معتدل الارتفاع خرائب مدينة قديمة وعندما اقتربنا منها عبرنا بمحاذاة ثلاثة جوانب لهذا الجبل، ولعل هذه المدينة هي [بيزبدا] التي تذكر المصادر انها تقع في صحراء ويحيط بها دجلة من ثلاث جهات وان سابور [شابورالثاني المعروف لدى العرب بشابور ذي الأكتاف] حاصرها بعد استيلائه على عاميدا [دياربكر] وانه بعد استيلائه عليها  بنى فيها حصنا فارسيا [تقع جزيرة ابن عمر وقلعتها التي شيدها الآشوريون واعاد اعمارها الرومان في المثلث العراقي السوري التركي ويحيط بها دجلة من الشمال والشرق والجنوب..ويذكر الرحالة توديللا ان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قد شيد مسجدا من بقايا سفينة نوح فيها وذكر المسعودي ان آثار السفينة كانت موجودة فيها على وقته]..

وبعد تجاوزنا خرائب الموصل القديمة [اسكي موصل] لاحت قبل المساء منائر الموصل. وتلك ابعد نقطة وصلتها شرقا وقد استدار رفاق سفري الأتراك  تجاه الغرب عند اداء صلاتهم بينما يستقبل المسلمون في القسطنطينية القبلة في اتجاه جنوبي شرقي..والموصل محطة مهمة تقع وسط الطريق بالنسبة للقوافل بين بغداد وحلب. وتقع في واحة وسط الصحراء مما جعلها في حيطة دائمة ازاء القبائل العربية [البدوية المغيرة]..والاسوار التي تحيط المدينة ضعيفة ولكنها عالية وتوفر حماية كافية ضد الجماعات غير النظامية من الخيالة البدو..وكان الباب العمادي الذي ورد ذكره منذ الحملات الصليبية، مايزال قائما على الرغم من كونه قد بني ليصبح جزءا من السور..والبيوت مشيدة في معظمها من الطابوق المجفف في الشمس مع نوع من الملاط [جص] يتصلب في غضون ثوان..ويعلق اهل الموصل، اسوة بالمشارقة،  اهمية كبيرة على الأبواب الكبيرة والمزينة بالزخارف..فقد رأيت ابوابا ترتكز على عقود معمدة من الرخام الذي يستخرج من اماكن قريبة من بوابات المدينة .. اما سقوف البيوت فمسطحة تحيطها ستائر واطئة..ورأيت في معظم البيوت الكبيرة آثار ضربها بالقذائف [الرصاص] وتشبه هذه البيوت التحصينات بما يذكرنا بقصور فلورنسا غير ان البيوت هنا اصغر وابسط واقل اكتمالا من الناحية المعمارية..

ويتألف سكان الموصل من خليط متنوع فبالأضافة الى السكان الكلدان وهم سكان المدينة الاصليين،هنالك العرب والاكراد والفرس والترك الذين توالوا على حكم الكلدان على نحو متعاقب [العبارة غير دقيقة لأن الفرس والكرد لم يحكموا كلدان الموصل ولاتؤيد المصادر وجود اسر فارسية في الموصل].. واللغة التي يتحدث بها اهل  الموصل العربية..
وقد استقبلنا اينجة بيرقدار والي الموصل بحفاوة بالغة وامر بطريرك الأرمن [الكلدان] بأستضافتنا. ولاحظت ان النسطوريين واليعقوبيين لديهم اجمل الكنائس التي رأيتها في تركيا ولكنهم يعيشون في خلاف وكراهية..ورأيت ان احدى تلك الكنائس تعود ، ولأسباب اجهلها،  لجماعتين مختلفتين ولأن اي شيء تقوم به الجماعة الأولى يعد كفرا في نظر الجماعة الثانية، عمدوا على تقسيم القوس الجميل وسط الكنيسة بجدار من الطابوق وفي مركز الكنيسة مباشرة..
وكان مضيفنا البطريرك اليعقوبي في حال من الاضطراب لاتوصف لاستضافته هراطقة [يقصد هو وزميله فون ميلباخ كونهما ينتسبان لمذهب مختلف]، ولكنه فضلّنا كثيرا على النسطوريين والأورثودوكس ولأن مسيحيا لم يستقبل بمثل مااستقبلنا به من حفاوة من قبل الباشا وكان وجهاء المسلمين يتوافدون لتحيتنا والترحيب بنا، فكان يعاملنا بلطف كبير بل انه باعني نسخة من الانجيل باللغتين العربية والسريانية..

وفي الزاوية الشمالية الغربية للمدينة تنحدر الهضبة فجأة نحو النهر..هنا ترفع مياه النهر بوساطة برج عال من الخشب وخرطوم من الجلد وحبل يجره حصان ويفرغ الماء في احواض كبيرة من الطابوق ليوزع على البساتين والحدائق..ولكن المناطق الخالية داخل الاسوار والحقول المجاورة فقط هي المزروعة..ولو يستخدم جزء فقط من مياه دجلة المارة في الموصل لأغراض الري،  لأصبح هذا البلد بأكمله من اخصب مناطق العالم..وقد حفزت هذه الفكرة بدون شك الناس منذ عصور لبناء سدود صخرية تعترض مجرى النهر لبضع ساعات فوق المدينة [كمشاريع سنحاريب الإروائية].. ومن المؤكد ان ارواء الحقول بمحاذاة دجلة كلها ليس بالامر الصعب، غير ان العرب [البدو] الذين يغيرون بصورة شبه دائمية حول المدينة يجعلون من الحصاد وجناية الغلال امرا غير مؤكد..

وكان هناك سوق مخصصة للعرب خارج سور المدينة مباشرة يبدو ان الهدف منها الحيلولة دون دخول تلك الشخصيات المثيرة للشكوك الى المدينة..

ويمتد فوق فوضى العديد من الاكواخ الطينية عدد من اشجار النخيل دقيقة الجذوع بسموق بهي تبدو انها آخر ملامح الصحراء.. وتشبه تلك النخلات القصب النامي الى ارتفاعات شجر..فهي الى الجنوب اقرب منها الى الشمال غير انها تعطي العرب ثقة الذين يشعرون انهم في أعالي بلاد الرافدين على الرغم من انهم لم يبتعدوا كثيرا عن المر [الكندر] والبخور في مواطنهم القديمة.. هنا يتجمع ابناء الصحراء جالسين القرفصاء راكزين رؤوس رماحهم في الرمال ليبدوا اعجابهم بالمدينة التي تثير لدى الاوربيين مشاعر متناقضة تماما لتلك التي تثيرها لدى العرب..والتي لايوجد مايماثلها عبر مئات من الاميال..

ولربما لانجد بين الامم امة حافظت على شخصيتها وعاداتها [تقاليدها] وأخلاقياتها ولسانها بدون تغيير عبر القرون كالعرب..وتمكنوا من ذلك على الرغم من التحولات العديدة الكبرى في العالم..فقد كان العرب امة من البدو والرعاة والصياديين يجوبون صحار نائية ومجهولة بينما نهضت مصر وآشور واليونان وبلاد فارس وروما وبيزنطة وسقطت تباعا..ثم وبدافع فكرة ملهمة نهض العرب بدورهم فجأة ليصبحوا ولعهود طويلة اسياد اجمل الوديان في العالم القديم فأصبحوا حملة الحضارة والعلوم.. فبعد وفاة النبي بمائة سنة، تمكن خلفائه المشارقة من بسط حكمهم من جبال  الهملايا وحتى جبال  البرنز ومن الهند وحتى المحيط الأطلسي..ولكن المسيحية بما فيها من اكتمال روحي ومعنوي بل وبما فيها من تعصب كان يترتب على اخلاقياتها الرفيعة ان تجعل منه امرا مستحيلا، تمكنت من اخراج العرب الى ديارهم مرة اخرى من اوربا [هنا ينتقد مولتكة التعصب اوحالة انعدام التسامح التي يرى انها ميزت المسيحية في العصور القديمة ويرى ان الوجود العربي تكرر في أوربا ربما في مقارنة مع توغل الفينيقيين بزعامة هنيبعل في روما وتأسيسهم لحواضر ومدن عديدة في اسبانيا وايطاليا وجزر البحر المتوسط]..وعملت القوة الغاشمة للترك على تقويض الحكم العربي في المشرق لذا وجد ابناء اسماعيل انفسهم في الصحراء مرة أخرى..

هؤلاء العرب الذين بلغوا شأوا عظيما في الحضارة والتمدن واستقروا في متابعة الزراعة والتجارة والصناعة انحدروا بسبب هيمنة الإستبداد لحكم الحديد..فقد تظافرت ممارسات اصطناعية لحكومة تحاول تقليد الطرائق الاوربية وبمساعدة الفرنجة انفسهم كاستقدام الإحصاء السكاني وفرض الضرائب والرسوم والاحتكارات وفرض التجنيد الإجباري وبناء الجيوش الدائمية ومقايضة المناصب وانشاء الكمارك والعبودية ومااليها من رذائل الشرق بالإضافة الى طاقة محمد علي وإرادته الجامحة وحظه الوافر، اقول تظافر كل ذلك بمنجز كبير واحد هو الطغيان الصروحي، وهو طغيان لانظير له حيث يرزح تحت نيره الفلاح المصري بأوجاعه وينوء تحت وطأته العرب في سورية والذي تحول تحته بلدا باكمله الى ملكية خاصة وامة كاملة الى عبيد شخصيين..[ منطق مذهل يذكرنا بالكواكبي وبدعاة الثورة العربية اكثر منه بجنرال الماني..إلا ان مولتكة يعبر عن روح حرة ترفض القيد ومن هنا جاء انتقاده اللاذع للحكومتين العثمانية والألبانية في مصر]..
وعموما فإن العرب في معظمهم ، على اية حال، بقوا متمسكين بتقاليدهم القديمة ولاسبيل للإستبداد من السيطرة عليهم..فقد عملت الصحاري العربية في آسيا وافريقيا وسمائهم اللاهبة وارضهم المحترقة بل وفقرهم على حمايتهم على الدوام فلم يكن حكم الفرس والرومان واليونان سوى شيء عابر وجزئي بل كان حكما اسميا فحسب..فالبدوي اليوم يشبه اسلافه في الماضي السحيق مازال يعيش حياة العوز والكد والإستقلال..يرعى في الوهاد نفسها ويسقي قطيعه من الآبار نفسها التي استخدمها اسلافه في زمن موسى او زمن محمد..

إن اقدم الروايات في وصف العرب  تنطبق على البدو في يومنا، فمابرحت النزاعات تصف الحال السائدة بين العديد من القبائل ومازال الاختلاف على اماكن الرعي  او عائدية بئر من الآبار سببا للحرب بين العديد من الأسر،ومابرح الثأر من جهة والكرم من جهة ثانية يمثلان رذائل العرب وفضائلهم..وحيثما احتك العرب في حدود بلادهم مع امم اجنبية فالحرب هي النتيجة الحتمية لهذا الإحتكاك.. فقد اقتسم اولاد ابراهيم الاراضي الغنية والخصبة فيمابينهم ورموا اسماعيل  وقومه في الصحراء لذلك عزل العرب عن الامم وباتوا ينظرون الى الاجانب والاعداء بعين واحدة..ولانهم  يعجزون عن تدبير منتجات الصناعة لأنفسهم صاروا يعتقدون بأن لهم الحق في انتزاع هذه المنتجات حيثما يجدونها [في هذا النص تعميم يحاكي بعض النصوص الاستشراقية فليس العرب كلهم بدو وليسوا كلهم من سكنة الصحراء وماينطبق على البدو لاينطبق على سكان المدن]

لكن باشوات مقاطعات [ولايات] الحدود يواجهون إغارات البدو المستمرة باجراءات قمعية وعلى نطاق واسع ولايولون ادنى اهتمام بالمعاناة الي تلحق افراد لاناقة لهم ولاجمل بما يحدث، فعندما يتقدم الجيش بخيالته النظامية ومشاته ومدفعيته يشتت حتى اكبر العشائر ويشيع الفوضى في مضاربها..فالعربي لايريد ان يصمد في ارضه امام نار البنادق وان يتعرض لهجوم بالمدفعية لايقدر طبعا ان يرد عليه..وهو لايخاف على حياته قدر خوفه على حصانه او مهرته فالفرس الأصيل غالبا ماتشكل ثروة ثلاث او اربع اسر..وبينما يكون الحصان الذي يملكه ثلاثة او اربعة بيننا في اسوء حال، يختلف الامر لدى العرب فكلما تعدد ملاك الحصان، كثر الاهتمام به..

وعندما ينجح الأتراك في هجوم مباغت على عشيرة من عشائر العرب، فأنهم يسوقون الاغنام والمعيز والجمال القليلة التي للعشيرة وربما يأخذذون رهائن يحتجزونهم كالعبيد في سجون بائسة..فقد وجدت في كوخ اشبه باسطبل في سراي اورفا تسعة رجال مسنين مقيدين بسلسلة من الحديد تتصل بسلاسل اقصر تمتد من حلقات حول اعناقهم.. ويخرجهم الأتراك مرتين في اليوم الى مكان السقاية تماما كالمواشي..وقد طلب الترك من قبيلتهم فدية باهضة مقدارها 150.000 بياستر تمكنت القبيلة من جمع ثلث الكمية..وعندما رأيت هؤلاء الرجال المسنين كانوا في وضع بائس ولاأمل في افتدائهم إطلاقا..وكان الباشا قد وعدني بإطلاق سراحهم ولا أدري أن حافظ على وعده ام لا..

غير ان مثل هذه الممارسات لاتردع العرب فهم لايعرفون الإستقرار مادامت لخيولهم القدرة على حملهم والتنقل بهم فالمنطقة الكائنة في جنوب طوروس باسرها تحمل شواهد اغاراتهم فقد اشتركت في هذه المنطقة جداول مذهلة تتدفق من الجبال ووفرة كبيرة من المياه والغدران وسماء ساطعة تبعث شمسها الدفء فضلا عن تربة هي الأخصب في جعل هذه المنطقة ضربا من الجنائن هذا فقط اذا تفادى الناس تخريبها..فالثلوج غير معروفة هنا وفي اي مكان تشق فيه ترعة ماء مهما بلعت من الصغر تنبع من الارض شجرة زيتون او عريشة كروم او شجرة توث او شجرة رمان و فاكهة من كل نوع..بينما تعد غلال الحبوب والرز والقطن الافضل في هذه المنطقة من اية منطقة اخرى في العالم..ولكن لم يبق من كارات [الأسم الروماني] حران مقام ابراهيم سوى تل من التراب واجزاء من السور خربة.. ولم يبق من دارا تلك المدينة الرائعة التي بناها جوستينيان سوى خرائب وفي موقع نصيبين المدمرة بالكامل بنى حافظ باشا ثكنات للخيالة في الآونة الأخيرة كلفت حمايتها  المدينة والقرى المجاورة حصيلة جديدة من ارواح الناس فلم يبق سوى اورفا والموصل مدينتان كبيرتان تبدوان وكأنهما المعلمان الوحيدان لبلاد الرافدين [ تمتد بلاد الرافدين في جغرافيتها الطبيعية من أعالي طوروس وحتى البحرين ومن جبال زاكروس وحتى حوضي الخابور والعاصي])..
 
ثم يحدثنا مولتكة قبل عودته الى المانيا عن عادة الغزو عند البدو وعن الجمال والخيول على نحو يماثل حديث فيليب حتي عن الجمل العربي والخيول العربية ويروي حكاية عن عربي باع حصانه لأحد أغوات الترك وانصرف به بدون سرج الى الصحراء  ومعه الثمن الذي تقاضاه ليعود مجددا الى اورفا مخيرا التركي باسترجاع نقوده او بأخذ الفرس.. ثم يحدثنا عن قبيلة شمر قائلا:

(اتجهت الأنظار في الآونة الأخيرة على عرب قبيلة شمر ممن يوطنون الاراضي مابين دجلة والفرات ويقدرون على تحشيد 10.000 فارس في اية لحظة وذلك لقيامهم  بالإغارة على القوافل ونهبها ولرفضهم الأعتراف بالشيخ الجديد الذي عينه السلطان العثماني عليهم..مما جعل حافظ باشا يقرر توجيه ضربة لهم فطلب من باشا اورفا وباشا ماردين التحرك ضدهم وحاول اقناع باشا الموصل الذي لايقع تحت سلطته بالتحرك ضدهم ايضا ولو تحقق ذلك لأرغم الشمر على الانسحاب نحو الفرات حيث تقيم قبائل العنزة المعادية لهم..لكن انجة بيرقدار لايمكن ان يقوم بحملة مكلفة وقليلة المغنم..وعندما جاءت الأوامر من ولاية بغداد كانت نوايا واليي اورفا وماردين قد وصلت الشمر الذين تلاشو في مناطق  مجهولة مما حال دون حصول اية مواجهة..

وبعد اقامة قصيرة وممتعة في الموصل، قررنا العودة عبر الصحراء في قافلة كانت توشك على المغادرة..ولأن الهجمات الأخيرة كانت قد اغضبت العرب ..زودت القافلة باربعين خيال..فالتحقنا بها عند المساء على مسافة ساعتين عن الموصل بالقرب من دجلة حيث يتزود الجميع بالماء وكان باشا الموصل قد ابلغ الكروان باشي بوصولنا فاستعد للقائنا وطهى جديا لعشائنا)..

ثم يسترسل مولتكة في وصف تفاصيل الرحلة ليلة اثر أخرى حتى يخبرنا بعد اربعة ايام من رحلة العودة:

(وصلنا في اليوم الخامس سفح جبل وبالقرب من ترعة ماء رقراق قرية تلاجة او شلاكا وهي على الارجح تيلسافاتا القديمة حيث وجد جوفيان وجيشه الجائع في طريق عودته من بلاد فارس الى نصيبين الميرة التي يحتاج اليها جيشه [هنالك قرية اسمها ثلاجة في محافظة الحسكة السورية ربما كانت هي المقصودة] وهناك وصلتني انباء مفادها ان محمد باشا [اينجة بيرقدار والي الموصل]  يقود حملة ضد الأكراد في الشمال فقررت فورا الإلتحاق به وغادرت القافلة ووصلت معسكره في المساء..فأبلغني ان حافظ باشا ارسل فرقة من الحرس تتألف من 50 فارس لملاقاتنا ولكننا لم نلتق بهم لأنهم كانوا يبحثون عنا في اتجاه سنجار)..

نستدل من جاهزية مولتكة واستعداده للإلتحاق بل والتحاقه فعلا بجيش اينجة بيرقدار[ المتجه ضد الأغوات الأكراد] أنه كان في مهمة عسكرية [سرية] في زيارته للموصل وان المشكلات والقلاقل التي كانت تشغل الدولة العثمانية لم تكن بعيدة عن اهتماماته..واي كانت دوافع مولتكة وأهدافه من زيارته الموصل واختياره العودة بطريق الصحراء، فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار زيارته تلك سفرة ترفيهية وبخاصة ازاء مااعتورها من مخاطر في نهر دجلة..ولا ندري ماحدث لمولتكة بعد التحاقه بإينجة بيرقدار في الحملة ضد بيكوات الكرد..لأن روايته تنتهي في المقطع السابق..وكان لابد من تضمينها في السرديات التي تناولت الموصل ومحيطها الاقليمي في القرن التاسع عشر لكونها من نوادر الرحلات ولأنها تميط اللثام عن حوادث تاريخية وتفاصيل مهمة عن الموصل ومهاد الدور الألماني في الحروب العثمانية..

ملاحظة حول الصور المرفقة والمصادر: تتنوع المصادر عن الحروب التي خطط لها مولتكة وقادها في مقالات وكتب عديدة وهي جزء من تاريخ المانيا واوربا ..والمصدر الوحيد المعتمد عن رحلته الى الموصل هو روايته عن رحلته الى تركيا التي قادتني اليها اشارة للرحالة السويدي سفين هدين الى الموصل اذ ذكر ان مولتكة اقام في كنيسة الكلدان  في الموصل واشترى نسخة نادرة من الانجيل..والصور المنتخبة لاتوجد في كتاب مولتكة بل موزعة في مصادر عديدة الهدف منها اعطاء صورة عن العصر والموصل في القرن التاسع عشر..وقد لاحظت ان معظم كتب الرحلات الألمانية تخلو من الصور وأن وجدت فهي صور شحيحة ورديئة النوعية مقارنة بكتب الرحلات الفرنسية والأنكليزية..













































8
أنياب التنين  

دراسة في مذابح الآشوريين في منتصف القرن التاسع عشر



صلاح سليم علي

اثار الزملاء ألاشوريين في تعقيباتهم على مقالتي حول البعثة الفراتية وحديث الرحالة اينزوورث عن رحلتيه الى الموصل وتطرقه الى الموصل المسيحية المنشورة في موقعي بيت الموصل وعين كاوة  مسألة مسؤولية التبشيريين في مذابح بدرخان 1843-1846، وكنت قد ذكرت ان تلك المذابح تقتضي تغطية خاصة في مقال يفرد لها...وفي متابعتي للمادة التاريخية والنقدية ذات الصلة بتلك المذبحة على وجه التحديد لاحظت اختلافات كبيرة في عزو الأسباب والدوافع فضلا عن أدوار الأطراف المختلفة في تلك المذبحة ..ونتائجها على المديات المحلية والأقليمية والعالمية..مع اختلاف في أرقام الضحايا من النصارى ممن راحوا ضحيتها...كما لاحظت ان تلك المذبحة اثارت اهتمام الأوربيين والعالم في وقتها وفي الوقت الحاضر...وميزت في الكتابات الكثيرة التي تناولتها نوعين من المصادر قريبة ومتأخرة .والمصادر القريبة في رايي أفضل من ناحية المصداقية لأنها توثق للحادثة الأليمة تلك من خلال شهود عاشوا تفاصيل المذبحة عيانا وسماعا، أما المصادر البعيدة مكانيا فوردت على لسان الإعلام الغربي نقلا عن مصادر اولية كتقارير السفراء في العواصم المختلفة وتتمثل  المصادر البعيدة زمانيا بالأدب النقدي والأكاديمي في العقود الأخيرة من القرن العشرين .. وتلك تأتي بالدرجة الثانية في مصداقيتها ولا تخلو من التحيز ضد الضحايا احيانا..مع ذلك لابد من الإطلاع على وجهات النظر كلها ومنها الكردية للوصول الى اجابات تبقى تقريبية في افضل الأحوال بقدر تعلق الأمر بدور التبشيريين حصريا ..

والمنهج المتبع هنا لايتوخى الحقيقة [المعروفة] او الصدق[المحض]  بل العرض الأنطولوجي المحايد اي ذكر النصوص القديمة كما وردت على لسان شهود العيان ثم مقارنة تلك النصوص الوثائقية بآراء نقدية محددة وترك الحكم النهائي للقاريء باعتباره شاهدا ثالثا على الحدث ومشاركا فعالا في عملية اصدار حكم اخلاقي على القاتل والضحية والشاهد في الوقت نفسه...

ذكر أينزوورث في معرض تعقيبه أول حكم قابل للمناقشة حول دور التبشيريين في المذبحة:

(ان هذا الإهتمام المفاجيء الذي ابدته بوضوح واهتمام  بارزين امم مسيحية اخرى بجماعة من الناس [النسطوريين] وضعهم تحت طائلة من الأهمية غير المسبوقة في نظر المحمديين [المسلمين]، وسيكون [ذلك الإهتمام] بلا شك الخطوة الأولى التي ستودي بهم، مالم تقدم لهم المساعدة بمثل هذه الظروف الطارئة بمشورة صائبة او بتدخل ودي وأخوي من قبل ممثلين لأمم مسيحية في القسطنطينية..وسيكون من القسوة بمكان لايمكن تخيله ان يثار مثل هذا الإهتمام من قبل القوى المحيطة [اوربا وروسيا والغرب الأميركي] بهؤلاء الجبليين [الآثوريين والسريان في مواطنهم الجبلية] الشجعان والورعين ثم يصار الى تركهم تحت رحمة المحمدية [ المسلمين من الكرد والترك]..)

نلاحظ من هذا النص  المبكر [1840] إشارة ضمنية الى دور التبشيريين في لفت انتباه الحكومات الغربية الى معاناة النسطوريين في المناطق الجبلية من الأمبراطورية العثمانية.. وفي الواقع فإن نشاط البعثات التبشيرية في المناطق الجبيلية المحصورة بين الدولتين  العثمانية والفارسية قد بدأ منذ أكثر من عقد من حدوث مذابح الأكراد عام 1843..فقد وصل التبشيريون البريطانيون والأميركان  الى الحدود الفارسية العثمانية في مطلع الثلاثينيات من القرن التاسع عشر..وكان المجتمع القبلي آنذاك في وضع غير مستقر بسبب تلاعب العثمانيين بتوزيع المناصب وحكرها بين النسطوريين والأكراد وإطلاق العنان لولاتهم في فرض التجنيد الإلزامي وجمع الضرائب على الأكراد مما ساهم في خلق ولاءات مزدوجة وأفرز رغبة لدى زعامات الأمارات الكردية بتوسيع مناطق نفوذهم على حساب الآشوريين والسريان من السكان الأصليين في جبال العراق وتركيا وأيران..وساهم تزايد العداء بين السلطان العثماني ومحمد شاه قجار الفارسي من حال عدم افستقرار في المنطقة الحدودية..وكان الأكراد في تلك المناطق معروفين بميولهم للعصيان والتنافس والأقتتال القبلي..ولابد من التأكيد على طبيعة المنطقة من النواحي الجغرافية والتاريخية والإثنية باعتبارها منطقة ثغور وماتشكله منطقة الثغور من خصوصية كونها بيئة تحتضن حالة من انعدام التجانس والتعددية حتى بين الجماعات المستقرة وشبه المستقرة المقيمة فيها فلم يكن الأكراد ولاجيرانهم النصارى متجانسين في عقيدتهم او في اثنيتهم فهناك بالإضافة الى الأكراد السنة أعداد كبيرة من القبائل الشيعية الإمامية والعلوية الغلاة كأهل الحق فضلا عن اليزيدية والفرق الصوفية والى جانب النسطوريين نجد الأرمن والسريان الأرثودوكس [اليعاقبة] الذين يتحدثون باللغة العربية والآرامية..كما ان الأكراد انفسهم ينقسمون على اساس ألأنتسابات العشائرية ويحكمهم الولاء لشيخ عشيرة بينما يحكم اليزيدية والشبك والعلي إلهية الولاء الطائفي والعلاقات الطائفية...ويختلف أكراد ايران عن اكراد العراق وأكراد العراق عن أكراد تركيا..وفي الوقت الذي تشكل المسيحية جزءا من الهوية القومية للآشوريين والسريان، لايلعب الإسلام دورا في تشكيل هوية الأكراد..كما لايشكل الإسلام بعدا آصريا يربطهم بالعرب او الأتراك على الرغم من كون العرب والترك مسلمين في غالبيتهم العظمى..ونلاحظ ان الأتراك الذين يعتنقون المذهب الحنفي غالبا ماينعتون العلوية من القبائل التركية والتركمانية بتسميات تدوينية ك [تركمان يوخ ايمان] او [تركمان بي ايمان]..كما كانوا يتشككون في امكانية قيام العلويين في آسيا الصغرى بدور الطابور الخامس لصالح الفرس في اي صراع قد ينشب بين الدولتين العثمانية والفارسية ..

هذا بالإضافة الى كون منطقة الثغور تقدم ملاذا آمنا للخارجين عن القانون والهاربين من العدالة في الدول الكبرى التي تشكل الثغور حدودا لها وذلك لكونها مناطق محمية طبيعيا ولايمكن للقوات النظامية وصولها الا بصعوبة بالغة ..كما يتميز الأقوام القبلية القاطنة فيها بحبهم للنجدة وايواء الغرباء ممن يستنجد بهم وبزعاماتهم...فهي البيئة الملائمة للعصيان والتمرد وظهور التشكيلات العاصية على الدول المركزية وهذا الحال مستمرة حتى الوقت الحاضر..ولكن لابد من التأكيد على ان دوافع بدر خان، كما يجمع عدد كبير من المؤرخين كمارتن فان برنسن وروبرت اولسن ووديع جويدة، لم تكن قومية وان دافعه كان لتوسيع إمارته والحفاظ على امتيازاته أزاء  التدخل العثماني على الرغم من تحريض رجال الدين الأكراد الكرد على التضامن ضد الهيمنة العثمانية [ ويبدو ان تحرك رجال الدين كان بتحريض الزعامات القبلية وليس العكس] ولاسيما بعد تدخل الولاة العثمانيين في الموصل وأرضروم وماردين وديار بكر وبغداد في شؤونهم بهدف اخضاعهم للضرائب والتجنيد الإلزامي..وعلى حساب المسيحيين من سكان المنطقة التاريخيين ممن بدأ [الأكراد] ينظرون اليهم كمتعاونين مع الدول الغربية وممثليها من التبشيريين ...وهو حال تجدد في الوقت الحاضر عندما أخذت الجماعات التفكيرية بتفجير الكنائس واغتيال النصارى لأعتبارات مماثلة ولكن بصياغات وتسميات جديدة..ويبدو ان الصاق الصفة القومية ببدر خان جاء بسبب سعي الأكراد المعاصرين الى تأصيل ميولهم القومية  بطريق وضع اسماء معينة لاعلاقة لها بالقومية والفكر القومي تحت طائلة القومية والنضال القومي...
وفي دراستنا لشخصية بدر خان وتحالفاته وحلفائه تبرز صورة مغايرة تتناقض مع مفاهيم القومية والنضال القومي تناقضا يصل حد التنافر..إذ تؤكد المصادر بانه كان مزواجا وان عدد اولاده يتراوح بين 40 و60 بين ولد وبنت ولكن المعروفين منهم لايتجاوز 22  ولدا ..وانه كان على الرغم من ميوله الدينية مغامرا يطمح لتوسيع امارته بأي ثمن حتى ولو اقتضى ذلك قتل المسيحيين والعرب والترك كلهم ...وهو بميوله هذه لايختلف عن نورالله بيك أمير حكاري الذي تحالف معه ضد النسطوريين...

وقد سبقت المذبحة خلافات ومشكلات عديدة فقد  هاجم نور الله بيك امير حكاري البطريرك النسطوري مارشمعون في بيته في كوشانيس التي تقع الى الشمال قليلا من حكاري [جوله ميرك] كما حدثت نزاعات في اماكن مختلفة بين الأكراد والنسطوريين بخصوص الأراضي المخصصة لرعي قطعان الماشية، على نحو يذكرنا بحرب البسوس، ولكن ماحدث ان قام الأكراد بالإستيلاء على اغنام تعود لمسيحيين في تياري، فاقتحم المسيحيون المكان الذي سيقت اليه اغنامهم بهدف استردادها فحدثت مناوشات..وبدلا من قيام الحكومة التركية بمعالجة المشكلة تركت الشرارة لتتحول الى لهيب يحرق كل شيء..كما وردت روايات عن تحرش الأكراد بالنسطوريين وتجاوزهم عليهم في اماكن عديدة اخرى..

ففي تموز عام 1843، قام بدر خان ومعه حلفائه اسماعيل بيك و نورالله بيك وآخرين بمداهمة القرى المسيحية المنتشرة في جبال  حكاري وقتل اكثر من 10.000 مسيحي نسطوري بدون رحمة او تمييز بين الأطفال والنساء والشيوخ... وهنا افضل النقل من  نص لتبشيري بريطاني مقيم في الموصل جاء بصحبة جورج بيرسي باجرهو جوزيف فليجر حول حوادث عام1843 ننقلها من كتابه [ملاحظات من نينوى]:

( عند بدء حزيران عام 1843 وصلت الموصل اخبار محزنة وغريبة من منطقة النسطوريين في تياري مفادها ان عددا من الهاربين ممن تمكن من الإفلات حيا من الهجمات المميتة للأكراد ذكروا ان بلادهم الآمنة غدت ساحة لحرب وحشية مدمرة..وكان المزيد من الأخبار الكوارثية تصل لحين اعلن في الموصل ان البطريرك نفسه وبصحبته عدد كبير من رجال الدين في طريقهم الى الموصل لوضع انفسهم تحت حماية نائب القنصل البريطاني ولكي يلتمسوا من خلاله تدخل الحكومة البريطانية والباب العثماني..ولكي اوفر على نفسي وعلى القاريء تفاصيل غير ضرورية، سأحاول تتبع اسباب المذبحة النسطورية منذ بدايتها..وإني تائق للكتابة في هذه القضية بدافع معارضة التصريحات الأفترائية والأكاذيب التي ظهرت في بعض الصحف الإنكليزية خلال الأسابيع المتأخرة من عام 1843..وهاكم التفاصيل: تقع مدينة الجزيرة في جزيرة صغيرة تشكلت بسبب نهر دجلة الذي يجري في سفوح جبال كردستان ويسكنها الأكراد [وأرجح هنا ان فليجر توهم خلال مروره بالجزيرة بالزي الذي يرتديه النسطوريين من سكانها فاعتبر سكان الجزيرة أكرادا وهذا يتناقض مع وصف أينزوورث الذي زار الجزيرة مرتين من قبله ويقول نصا (وجزيرة ابن عمر سميت كذلك لأن دجلة تحيط بها شمالا وشرقا وجنوبا ويقطنها السريان والكلدان والآشوريين وأقليات أخرى كالكرد والترك والعرب]
..وهي على الرغم من كونها تخضع اسميا لباشا ارضروم،فإن حكومتها الفعلية وجانبا من الجبال المجاورة لها قد نسبت لأغوات أكراد يحملون القاب بيكوات الجزيرة[ وكان منحهم هذا اللقب من قبل والي بغداد بدافع تأهيلهم وخرطهم في خدمة الدولة العثمانية]..

وكان حاكم المدينة الجزرية في أثناء زيارتي يدعى بدرخان وهو رجل يتمتع ببعض الذكاء ولكن طموحه اكبر من ذكائه فهو نوع من كرومويل شرقي بأسلوبه الخاص..وقد حصل على قوة كبيرة ونفوذ بسبب تحمسه لتعاليم القرآن ولكراهيته منقطعة النظير للمسيحيين فكان الكرد المتشددين والملالي المتعصبين يلتفون حوله ويؤيدون ضلالاته ويشجعون طموحاته في جعل كردستان مملكة مستقلة، وكانت العقبة الوحيدة في طريق طموحاته القوة المسيحية في قلب الجبال ممن تتعارض مصالحهم السياسية مع تتطلعاته تعارضا حادا. وكان الحليف الذي اختاره من أمراء الجزيرة أمير حكاري واسمه نورالله بيك..وقد حصل على صيت سيء لتدبيره مقتل الرحالة الأوربي شولز [قتل الرحالة الألماني شولز من قبل الأكراد بالقرب من باشقلعة وقد سرق كل مايحمل من اوراق ووثائق يذكر ان بعضها نسخ لكتابات آشورية مسمارية كان قد عثر عليها]، ونور الله بيك هذا كالح الملامح اغبر السحنة بالغ الوحشية..ويتميز فوق كل الأغوات الأكراد بكثرة افعاله الوحشية القاسية..وكان يكلاه المسيحيين بشدة  ولا يأمل بأي شيء سوى ان تتاح له فرصة يبرهن فيها عن كراهيته بالأفعال....ويقال ان محمد باشا حاكم الموصل كان طرفا في هذا ألأئتمار المشين..حيث شغل نفسه ليتيح المجال للزعامتين الكرديتين بمتابعة مخططاتهما بدون مضايقات، شريطة ان يستلم جزءا من الغنائم..ويرجح ايضا،أن شقيقه والي أرضروم لم يكن غافلا عن المؤامرة التي يخطط لها الأكراد كما تظاهر لاحقا بأنه كان يجهل ما حصل..وبعد وضع خططهما قام الأغوان الكرديان بترتيب ذريعة للعدوان..ولم يكن صعبا ايجاد ذريعة..فقد حدثت مشاجرة بسيطة بين قرى ديز وبعض القرى المجاورة اتخذاها ذريعة للشروع بحرب ابادة دموية..فبعد محاولة للحصول على ترخيص بأمر من باشا ارضروم للتدخل، عمد بدرخان على رأس قوة كردية  الى غزو اراضي النسطوريين بينما هاجمهم نور الله بيك من الجهة الأخرى فوجد المسيحيون انفسهم محاصرون فجأة من قبل اعداء لم يتهيأوا لهم..وكان المسيحيون يعتمدون على التقارب الذي استمر لفترة بين البطريرك واغوات الأكراد فلم يعنوا بتجهيز انفسهم بالسلاح فقام الأكراد مع بداية الحرب بذبحهم بالمئات بدون اية مقاومة..ولكن وبعد مرور ذعر المباغتة عمد النسطوريون بقوة اليأس هذه المرة، وبشجاعة الى الدفاع عن انفسهم، فقام الفلاح بشحذ سيفه الصديء الذي ترك مهملا لمدة طويلة في ركن من اركان كوخه ليتهيأ لحرب مميتة ولجا آخر الى بندقيته التي لم يستخدمها لغير صيد الغزال البري في الجبال..وعمد راعي الماشية الى تغيير استعماله لأدواته البسيطة ليستخدمها في الدفاع عن حياته وحريته..وعلى الرغم من الفوضى والإرتباك بسبب احابيل الأكراد عمد النسطوريين الى الدفاع عن انفسهم ببسالة ورجولة..وكان الصراع يائسا ودمويا فقد كانت حرب ابادة بالسكاكين..وعامل الأكراد اسراهم المسيحيين ببربرية بحيث ادرك المسيحيون ان من العبث رجاء او توقع اية رحمة او شهامة من قبل آسريهم..فاختاروا في اغلب الحالات الموت واسلحتهم بايديهم على الوقوع اسرى رهائن التعذيب الوحشي الذي يتلذذ الأكراد بأيقاعه عليهم..وعمد البرابرة عديمو الرحمة في العديد من القرى التي سيطروا عليها الى الترامي فيما بينهم بالأطفال الصغار والرضع برؤوس حرابهم وكأنهم بذلك يلعبون لعبة شيطانية..وابقوا على الشباب ممن هم بأعمار يافعة الى شناعة تعذيب أسوء من الموت..فملأ أنين الرجال المحتضرين من التعذيب المروع وصياح النساء المساء اليهن وعويلهن المنطقة كلها، بينما تساق مجاميع كبيرة من ألسرى ممن لاحول ولاقوة لهم كثيران الحصاد عبر الممرات حادة الأنحدار في الجبال الكردية..وفي أحد الأماكن حاصر النسطوريون قلعة استمكنت فيها قوة من الأكراد ممن قاوموا زحف النسطوريين تجاههم لوهلة في انتظار تعزيزات من الجيش الكبير الذي يقوده بدرخان بيك..وأدركهم عطش شديد فأقسموا بالقرآن انهم سيستسلمون أذا سمح لهم النسطوريون بالتزود من ماء بئر تقع تحت سيطرتهم [اي في سيطرة النسطوريين]، فقبل المسيحيون بدافع حسن النية بعرض الأكراد بل وقاموا بمساعدتهم في سحب أدلاء الماء من البئر..وبعد ارتوائهم تراجعوا عن وعدهم بالإستسلام وبتسليم القلعة، وفي اليوم نفسه وصلت الأمدادات الكردية المتوقعة فأعقبها قتال ضار اندحر على اثره المسيحيون وسقط من بقي منهم على قيد الحياة في الأسر..فأمر الزعيم الكردي الذي غضب لفقده عدد من الأكراد في القتال بإشعال نار عظيمة في ساحة سوق في قرية مجاورة..فاشعل اتباعه النار واجلسوا أسراهم المسيحيين موثقين حول الكومة الملتهبة وطلب من جنوده بغدخال ارجل السرى بالنار التي امتدت الى اجسامهم ليحرقوا أحياء..واستمر القتال سجالا بين الطرفين في البداية ولكن سرعان ما تبين أن المسيحيين كانوا الطرف الأضعف الذي يترتب عليه الإستسلام في آخر المطاف. وقد اشتركت عوامل عديدة في أندحارهم أولها كون الزعماء النسطوريين منقسمين على انفسهم وكانوا يشعرون بالغيرة من القوة البطريركية.. وفي وقت الحرب أيضا نلاحظ ان حكومة اكليريكية [دينية] يندر ان تنهض بمسؤوليات الدفاع والمقاومة الضرورية لسلامة الدولة..وكان الزعماء الروحيون للتياريين  قد درجوا على الحفاظ على مراكزهم واتباعهم باللجوء الى اساليب السياسة وفنونها وليس الحرب ..ووجد المالكون [زعماء النسطوريين] انفسهم بدون قائد يدير شؤون القتال في المعركة، فكانوا لايقيمون وزنا لحاكم يشعرون ان افتقاره الى فنون الحرب، التي يجيدونها، يصبح سمة تطغى على سماته الأخرى كلها..

ولو كان البطريرك النسطوري ليحاكي افعال رجال الدين الأوربيين في القرون الوسطى لاستبدل قلنوسته بخوذة ورفع راية الصليب ودعى قومه الى الهجوم على الكفرة بجرأة باسم الله والقديس جورج [يولي الكلدان اهمية خاصة للقديس  المقاتل جورج "ماركوركيس"(ع)  بدلالة تعدد الكنائس التي تحمل اسمه في العراق، ونرى تمثالا له في كنيسة ماركوركيس القريبة من المدخل الشرقي لجامعة الموصل يحمل رمحا يطعن به تنينا يرمز للشر، كما تتكرر في روايات الرحالة حكاية ظهوره بكامل عدته بصحبة النبي الياس والخضر (ع) مدججين بالسلاح وهم يقاتلون  بأيعاز من مريم العذراء (ع) التي تجلت من فوق سور نينوى جيش نادر شاه الذي حاصر الموصل ويعزى اندحار الفرس الى هذا التدخل الإعجازي لسيدتنا مريم (ع) والأولياء الثلاثة (ع)..مما يؤكد الصفة القتالية لمسيحيي الموصل وهي خصيلة متجذرة في دمائهم منذ العهود الأمبراطورية القديمة ويشاطر المسلمون المسيحيين تقديسهم لماركوركيس الذي يعدونه نبيا له جامعا يعود الى القرن السادس للهجرة في سوق الشعارين وكان ابن جبير قد زاره ووصفه خلال رحلته الى الموصل]..ولكن ليس للبطريرك النسطوري الدهاء نفسه والحماس نفسه الضروريان لإثارة عنفوان اتباعه القتالي على الرغم من ان لدينا سببا قويا للأعتقاد بأنهم كانوا سيستجيبون لدعوته الى القتال  لو انه كان الى القتال منه الى السلم أميل..
ومع استمرار الصراع، تظاهر باشا الموصل، الذي كان على إطلاع تام بالحوادث كلها التي حدثت في الجبال، بالذهول ازاء تحركات الأكراد.. غير ان تاسفه المفتعل، على اية حال،  كان من الوضوح بحيث لايمكن لأولئك الذين يعرفون شخصيته جيدا أن ينخدعوا به لأنهم يعرفون كما يعلم هو جيدا ان قوة تركية مسنودة برعيل من الألبان، مع قطعتين او ثلاث قطع ميدانية [مدفعية] بمقدورها انهاء الحرب [المذبحة] فورا.
وكان تراجع المسيحيين يتضح يوما بعد آخر لحين اصبح البطريرك نفسه هدفا للمطاردة فكان يتنقل وثلة من أنصاره المخلصين، ممن رفض التخلي عنه في المحنة، من قرية الى أخرى حتى وصل الى قرية [مسيحية] صغيرة مؤلفة من عدد من الأكواخ تقع على ضفة الزاب حيث شاءت الأقدار ان تقع على رأسه فيها مصيبة مروعة ومؤلمة بما لايقاس..ففي مكان في اعالي النهر نجح الأكراد بالإمساك بأم البطريرك وأحد أشقائه ..وكان يفترض أن عمر وجنس المرأة [كونها انثى] ، ومكانتها ستشفع لها، غير ان هذه الإعتبارات لم يكن لها مكان لدى هؤلاء البرابرة المتوحشين  الذين بعد توجيههم أقسى الإهانات الأسراهم العزل، عمدوا الى ذبح المرأة المسنة [أم البطريرك] وقطعوا جسدها الى اربع قطع ووضعوا الأجزاء على كلك وارسلوه مع مياه الزاب..فرأى عدد من المسيحيين في القرية التي لجأ اليها البطريرك الكلك..وسحبوه الى الشاطيء فأنحنى القائد سيء الحظ منكسر القلب بعذاب صامت على الأجزاء المهانة من جسد ألمرأة التي ولدته..وهكذا غمرت رحه المصائب فقرر التوقف عن مواصلة الكفاح والبحث في الموصل عن ملاذ من مطارديه..

وعندما علم المسيحيون في الجبال بمغادرة البطريرك لتياري، عدوا تلك اشارة لهم بالمغادرة ايضا فنزلوا بمد هائل من الجبال الى السهول.فاكتظت القرى في سهل نينوى بالرجال والنساء والأطفال المثخنة اجسادهم بالجراح والكدمات التي اصيبوا بها في شعب الجبال ومنحدراتها الناتئة..ومنهم من غلب عليه الإنهاك في الصخور فسقط ولم ينهض لمواصلة السير..بينما  حظنت النساء فلذات اكبادهن جامدين من شدة البرد على صدورهن ذاكرة من أزواجهم الذين قضوا في القتال دفاعا بطوليا وغاضبا من العدوان...لقد اصبح الحزن والأسى من نصيب النسطوريين.ولابد ان يكون البطريرك قد لجأ الى اللغة الباكية للنبي إرميا [ النبي الباكي] للتعبير عن مصيبته والمصائب التي حلت بقومه..
وفي صباح احد الأيام كنت جالسا مع صديقي (ب) [ويقصد به [جورج بيرسي باجر، زميله في الرحلة الى الموصل ومؤلف كتاب (النسطوريون وطقوسهم)]، في فناء بيته، سمعنا ان المار شمعون قد دخل الموصل وانه سيصل قريبا الى القنصلية الإنكليزية. فأسرعنا فورا الى القنصلية وبعد بضع دقائق رأينا البطريرك وكان طويلا حسن البناء يبدو جنديا اكثر منه رجل دين..ويرتدي ملابس تختلف كليا عن الملابس التي تميز اساقفة الشرق..إذ يبدو بنطلونا قرمزيا ومعطفا قصيرا ثيابا غريبة بالنسبة لكاثوليكوس شرقي إلا ان مثل هذه الثياب قد تكون ضرورية في الجبال حيث تتسبب الثياب الفضفاضة الطويلة  بالمضايقات ان لم تتسبب بالخطر ايضا..وكان سلوك البطريرك يتسم باللطف والوداعة..وتقرأ على ملامحه إمارات الكآبة وكان شعره رماديا بسبب الشيب على الرغم من انه لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره..وجاء في صحبته رئيس الشماسين[ قس اوراها] أو ابراهيم وإثنين من أشقائه ايضا كانا في مرتبة الشماسة من بين من تمكنوا من الإفلات من المذبحة..وقد منح البطريرك ومرافقيه غرفا في القنصلية بينما فتحت بيتي للعديد من الهاربين ممن يتوافدون يوميا الى الموصل...فاقاموا في الأقسام الأرضية [السراديب] التي كانت واسعة جدا وكانوا يصعدون الى السطوح للتطلع الى الجبال البعيدة حيث موطنهم وبيوتهم..وكان ضيوفي في غاية الأدب في سلوكهم على الرغم من سمات الضراوة التي تركتها  البيئة القاسية بادية على وجوههم..

مارثا:

وكان بين الهاربين الآشوريين إمرأة اسمها مارثا كانت تقاتل في شجاعة بطلة عظيمة منقطعة النظير وفي ظروف هي الأقسى على الإطلاق..وببسالة لانجد مثلها حتى عند الرجال الأشداء..وقصتها مثيرة وتستحق أن نسجلها..ففي إحدى قرى تياري، كانت مارثا تعيش بسلام لخمس سنوات مع زوجها دانيال وهو رجل يتمتع بمكانة معتبرة بين رفاقه القرويين..وقد انعم الله عليهما بطفلين وطدا اتحادهما بحيث لاتتكرر الا في القليل من الأكواخ مثل تلك السعادة والوداد الذي يصف عشهما..ونلاحظ ان نساء تياري [في الجبال] يتمتعن بحرية اكبر من قريناتهن في السهل..وقد تدربن بحكم ظروف حياتهن على نحو يقدرن معه على مواجهة الخطر بشجاعة وتصميم يرقيان الى شجاعة الرجال وتصميمهم..
في أحدى الأمسيات كانت مارثا جالسة مع زوجها في كوخهما يتحدثان عن الإشاعات التي وصلت الى القرية في الآونة الأخيرة..وكان الحديث بينهما عن الحرب والعديد من المسيحيين ممن راح ضحيتها وأن مجموعةمن الأكراد يكمنون في مكان قريب في نيتهم شن هجوم على قريتهم..فتبلد فكر دانيال بسحابة من الإكتئاب والحزن فالتقط بندقيته وبدأ بتنظيفها واعدادها للصراع وشيك الحدوث..وأخذ يتطلع الى زوجته وطفليه النائمين عاقدا العزم على الدفاع عنهم حتى آخر نفس في حياته..اما مارثا فقد عمدت بطاقة إمرأة جبلية وحيويتها الى سيف زوجها تشحذه وتلمعه عندما انعكس عليه ضوء أحمر من خلال النافذة الصغيرة للكوخ.. ففتح دانيال الباب واصغى..لأن كوخه يبعد بضع ياردات عن القرية..فسمع اصوات اطلاقات نار وصراخ وشاهد النيران تنبعث من كوخ او كوخين على مسافة غير بعيدة كثيرا من كوخه..فاغلق الباب وأسنده بألأخشاب على افضل نحو ممكن.. ومضت دقائق من التوقعات القلقة شد دانيال في أثنائها حزامه وعبأ بندقيته..بينما سمع صوت أقدام تقترب من الباب وانطلق صوت بالكردية يطلب منهم فتح الباب فجاء رده: لن افتح الباب لغرباء!   فصاح احدهم عليه في جلبة خارج الكوخ : افتح الباب فورا ايها الكلب المسيحي! وإلا فاننا سنحرق بيتك فورا! فلم يرد النسطوري [دانيال] بينما حاول المهاجمون اقتحام البيت ودفع الباب بالقوة..فلم يتمكنوا من فتحه فبدأوا بضرب الباب بقوة لفتحه لكنهم وجدوا ان الباب كان محميا بشخص عقد عزمه على الحفاظ على ارضه والدفاع عن بيته بتصميم اب يدافع عن اطفاله وزوجته..فأطلق دانيال رصاصة من بندقيته أسقط بها أحد الأكراد وسلمها لمارثا لتعبئتها من جديد بينما لجأ الى سيفه للدفاع عن نفسه ضد المهاجمين فأخترقت رصاصة قلبه ليسقط عند عتبة داره..فقال القائد الكردي: لقد مات الدب عليكم بصغاره..فوجه احد الكراد المهاجمين مسدسه صوب الأبن الأكبر وقتله فورا...فرأت مارثا زوجها يسقط ميتا  فانصدعت بذعر اليم شل حركتها وارسلها في غيبوبة للحظات، غير ان مشهد الدماء الجارية من ابنها جعلها شبه مجنونة فأطلقت رصاصة على الكردي الذي إغتال ابنها بوحشية ورمت البندقية لتلتقط سيف زوجها الذي غادر يد زوجها المرمي عند عتبة الدار..وبهياج نمرة فقدت صغيرها ، التقطت ابنها الاخر وهاجمت الأكراد بكل مايمكن لليأس ان يضخه من بسالة وعنف فتراجع الأكراد منذهلين عاجزين عن مقاومة المهاجمة الباسلة التي اسقطت اربعة منهم بين قتيل وجريح بينما وصل عدد قليل من المسيحيين في الوقت المناسب لإنقائ الأرملة المقاتلة من أسر مهين ومخز على يد الأكراد..
ولكن اختبارا صعبا كان مايزال في انتظارها..فقد كان المسيحيون يخشون من البقاء في القرية تحسبا لهجوم كردي جديد بقوة اكبر، فقرروا عدم اضاعة الوقت والإتجاه الى السهول للحماية..وبعد عناق زوجها وابنها الملقيان ميتين، حملت طفلها الناجي وغادرت بيتها الهانيء ولم تذرف دمعة واحدة تميط اللثام عن حزنها..ولكن رفاقها الجبليين ممن صاحبوها لاحظوا صمتها العميق ونظرتها الثاقبة عبر الطريق الشاق والطويل بدون ان تنبس بكلمة شكوى..وبينما انهار العديد بسبب الإنهاك بدت مارثا وكأن قوة غير طبيعية تسندها في مواصلة الطريق...
وفي ىخر المطاف وهل المنفيون من ديارهم مدينة الموصل، وكانت تعبيرات وجوههم تفصح عن شعورهم بالأمان اما مارثا فقد بدى عليها شعور من البرود وعدم التأثر..فمن الواضح، على الرغم من عدم معرفتهم بحالها، ان قلبها كان محطما تماما..وقد تمت مداواة الجروح التي لحقت بطفلها إلا أن سوء الطالع كان فيما يبدو يطاردها حتى في المنفى فقد انتشر وباء بين الهاربين وكانت المرأة البطلة أحدى أولى ضحاياه...فبكاها الرجال الصلبين وكأنهم أطفال وهم يشيعونها الى القبر فيما اهتم الجميع بالطفل اليتيم ورعوه بحنان ورفق..
وقد ادت التقارير التي كتبها ستراتفورد كانينغ [السفير البريطاني في اسطنبول] بخصوص المذابح التي تعرض لها النسطوريين إهتمام الحكومة العثمانية التي عزمت على النظر في هذه القضية..ولم يكن بدرخان مرغوبا فيه في اسطنبول كما كان نفوذ محمد باشا في أفول هناك فقد نبهت تقارير عديدة عن الأموال المنتزعة من قبله الى اعتقادهم ان خزائنه مكتظة بالأموال ويجب ان تحجم قليلا لصالح جلالة السلطان..وبعد العديد من تعبيرات انشاءالله وسوف نتوكل..وافقت الحكومة على ارسال افندي من المدرسة الإصلاحية لأستقصاء القضية..والتحق وكيل القنصل الأنكليزي في سامسون باللجنة فوصل الرجلان الموصل في الوقت المناسب)..

ويواصل فليجر الحديث عن الموصل ومحمد باشا الذي توفي بعد ايام من لجوء النسطوريين الى المدينة بدون ان يتطرق مجددا الى المذبحة ويظهر ان الهدف من اللجنة التي ارسلتها اسطنبول لم يكن التحقق من جرائم بدرخان واتباعه بقدر ضمان وصول خزينة محمد باشا بعد موته بأمان الى اسطنبول..مما يوضح بجلاء ان دماء المسيحيين الأبرياء ومعاناتهم لم تكن لتعني شيئا بالنسبة للسلطة العثمانية...

ونطلع في شهادة فليجر عن المذبحة على تفاصيل كثيرة تؤكد ان الأكراد هم الطرف الذي بدأ بالعدوان ..ونقرأ ايضا حكاية البطلة الاشورية [مارثا] وكيف انقذت واحد من ابنائها من موت شنيع لم يفلت منه زوجها وابنها الآخر..كما اطلعنا من هذه الشهادة على القسوة والفضاضة  والوحشية التي تصف الأكراد ممن ارتكبوا المجزرة الدموية..وهنا ننتقل الى شهادة رحالة آخر هو توماس لاوري الذي صاحب الدكتور كرانت في بعثته التبشيرية الأيفانجيلية الأميركية في الأراضي المسيحية بين الموصل واورومية وماردين..وتتضمن شهادته تفاصيل لشاهد عيان عاش الحوادث الدموية واولياتها فقد كان بصحبة الدكتور كرانت الذي كتب هو الآخر عن تلك المرحلة العصيبة في كتابه [النسطوريون او القبيلة التائهة] ..ونسرد شهادة لاوري من كتابه [د.كرانت ونساطرة الجبل] وهو من افضل المراجع حول النشاط التبشيري في المنطقة النسطورية والبدايات التي قادت الى المذبحة الأليمة للمسيحيين الأبرياء في موطنهم التاريخي..وكان عدد من التبشيريين الأميركان قد وصلوا الى المنطقة قبل الدكتور كرانت ومات منهم ثلاثة فأرسل كرانت لاوري لجلبهم الى [آشيثا] القرية النسطورية التي اشترى فيها الدكتور كرانت قطعة ارض لبناء مدرسة ومقرا للبعثة التبشيرية ومسكنا للتبشيريين..فقامت الدنيا عليه ولم تقعد بتهمة انه يريد ان يبني قلعة تمهد للإستعمار الغربي للمنطقة...تماما كالتهمة التي وجهها اينجة بيرقدار محمد باشا لبوتا حيث كان يبني كوخا بالقرب من باريما للأشراف علىالتنقيبات في مدينة سرجون...ونلاحظ في متابعتنا لتقارير الرحالة والآثاريين ورواياتهم ان تنافسا حادا ومضمرا كان يوجد بين الفرنسيين والبريطانيين على الآثار..وتنافس مماثل بين التبشيريين البروتستانت الأميركان والأنكليز من جهة وبين البروتستانت من جهة واللاتين البابويين من جهة أخرى..وهنا نباشر في رواية توماس لاوري للحوادث التي سبقت المذبحة وتخللتها:

(في 11 مايس  [1843] عاد السيد "ل" [لاوري] الى الموصل لجلب اسر التبشيريين ذلك لأن مشهد اسرنا في الجبال سيؤكد للنسطوريين دوافعنا الودية ويسقط عن الأكراد شكوكهم بنا ...ولكننا لم نكن متشوقين بمفردنا فقد تبلدت السماء بغيوم كالحة سوداء لم تقوض جهودنا فحسب بل هددت بإبادة الناس الذين جئنا من اجلهم...وعندما وصل السيد [ل] الموصل، وجد ان الباب [الحكومة التركية] قد رفضت منح فرمانات للدكتور سميث وللسيد بليس بذريعة انها [اي الحكومة التركية] لم تعد تحتمل وجود فرنجة في الجبال..ولأنهم [الترك] كانوا قد عقدوا العزم على اخضاع كردستان، فإنهم يريدون القيام بذلك بدون احراجات قد يتسبب بها حضورهم..
وفي الجبال لم يتمكن مار شمعون من التوصل الى اتفاق سلام مع الأمير [بدرخان]، فدعى محاربيه الى التهيوء للقتال، لكنهم لم يلبوا دعوته..وهكذا فأن البطريرك مع النفر القليل ممن وقف معه لن يتمكن من الحاق ضرر ملموس بالأكراد على الرغم من شغل انتباههم باحتمالات المقاومة..و قد أثار حرق الجسر في جوله ميرك، والإغارة التي قام بها اشقائه خارج المنطقة الى إثارة غضب الأكراد وتأجيج رغبتهم بالإنتقام، وكان بدرخان ينتظر امدادات عسكرية لم تتأخر اذ كان الف مسلح في طريقه للإلتحاق به بالقرب من الخابور القريبة من [آشيثا] مما اثار حالة من الهيجان في تلك القرية..وكان هناك اربعون عامل يشتغل في بناء المجمع التبشيري عند وصول الأخبار..فتوقف العمل فورا وهرع الجميع الى بنادقهم بينما انتقل 80 من الشباب النشطاء لمراقبة مشارف القرية، وتحرك آخرون لجلب الأغنام من المراعي النائية..وبات الجميع على اهبة الإستعداد لمواجهة العدو..غير ان الجماعة التي ارسلت للأستطلاع عادت بدون اية معلومات عن العدو..وفي الليلة التالية اطلقت رصاصة انذارمن قبل الرعاة في الجبال رد عليها من القرية برصاصة مماثلة..وكان الليل مظلما واتبع اطلاق الرصاص تبعته انباء اقتراب العدو غير ان احدا لم يعلم حجم الخطر او مدى اقترابه من القرية....ولكن الجميع كانوا يتهيأون للأسوء..فأخفى بعضهم حاجاته الثمينة في كهف سري..ودفن آخرون حاجاتهم في حفر بالقرب من بيوتهم..ولأن الدكتور كرانت كان يعلم ان جيشا قويا فقط بمقدوره اختراق الوادي، وان جماعات صغيرة بمقدورها نهب المراعي فحسب، قرر البقاء حتى النهاية.. وقبل منتصف الليل جاءت اشارة تبشر ان كل شيء على مايرام..وفي اليوم التالي كان الجميع في عملهم المعتاد على الرغم من غضبهم من جيرانهم في هلمون وجيرامين بسبب الإنذار الزائف ..وتلك قرى تقع كمراصد حراسة الى الغرب من تياري لم يحم سكانها  انفسهم وكانوا قد عانوا الأمرين من الأكراد والأتراك، فقد هاجمت مجموعة من المرتزقة وقطاع الطرق في هذا الموسم نفسه قرية هلمون فقتلت 14 رجل وسبع نساء قبل ان يتمكن القرويون من الهرب او الإستسلام، وتم نهب ىخر قطعانهم..ولما فرغت القرية من كل شيء قام الباشا ببيعها مجددا للبطريرك..وسرعان ماسحب القرويون عتبهم على هاتين القريتين عندما علموا ان القوة التي انذروا بقدومها قد مرت فعلا..ولكن الأكراد بدلا من مهاجمة زوزان او آشيثا لتوقعهم بأستقبال ساخن، توجهوا الى قرية مالك بالقرب من مالوطا، حيث كان الدكتور كرانت قد غادرها واهلها في منتهى السعادة قبل اقل من سنة..وكان فخا كرديا قتل الأكراد فيه العديد من الرجال والنساء والأطفال وساقوا اربعة او خمسة آلاف راس من الغنم قبل ان تتهيأ قوة انجاد..وكانت اكبر الخسائر في مالك بسبب تأييدها لمارشمعون ضد الأمير..والجزاء لم يكن بالحسبان لأن احدا لايقدر على معاقبة بيك بوتان [بدرخان]..وكان مالك [كبير زعماء القرية النسطورية] ينعى خسارته متوقعا شرا اكبر..وعلى الرغم من ان الجميع كانوا يتوقعون ماحدث، بسبب الأفتقار غير المسؤول الى الوحدة، لم تتخذ اية اجراءات لتفادي المجزرة..أما مار شمعون فقد ارسل  المتبقى من اتباعه الى بيوتهم ورجع لوحده الى آشيثا..مفعما بالغضب من الأميركونه السبب في الكارثة..كما كان ثائرا مع اتباعه لرفضهم حمل السلاح..فالتفت الى الأتراك وطلب النجدة من باشا الموصل الذ ي كان يتوقعه [بسبب طبيعة العلاقة التي تربطه به]..ولكن شروط خضوع تم التأكيد عليها قادت الى رد الباشا بقوله: ( نحن لسنا ثعالب لكي نخاف بل أسود تقدر على القتال..ولم يكن البطريرك يريد مثل هذا الرد..وأحال باشا الموصل البطريرك الى متسلم الداوودية كحلقة وصل بينهما..وكانت ردود الباشا،على اية حال، ترسل بالسريانية [التي يجهلها]  وتحمل ختمه الرسمي..وكان يمني البطريرك بأمان غامضة  تخفي رغبة بالإخضاع ..فقد اخبر البطريرك ان بدرخان لن يسمح له بالتحرك ضده ثم عاد ليكتب له "إذا ارسل جيشا من تلك الجهة سأرسل جيشا من هذه الجهة" وهي عبارة مشوشة يريد من البطريرك ان يفهمها على نحو مختلف غير مقصود فيها ويتناقض مع مجريات الحوادث..وكان أحتجاز السيدين سميث وبليس في الموصل على الرغم من انفاذه صبرنا في البداية من قبيل العناية الإلهية الراحمة لأن الجميع يعرف ان اولئك الذين في الموصل يجب ان لاغادروا الى الجبال على الرغم من ان الدكتور كرانت يرى ان ليس من واجبه ان ينسحب [الى الموصل]

وقد آن أوان زيارته الموعودة لبدر خان فقد كان يأمل  ان يلقي لقاؤه هذا ضوءا جديدا على النهج الذي يتوجب اتخاذه في الأزمة الراهنة....فعقد العزم على الذهاب..فاعترض مارشمعون على ذهابه لكي ليبدو توسلا منه للسلم ..فاقر الدكتوركرانت " في دخيلة قلبي غالبا ماتمنتيت لو اني لم اقطع وعدا [بزيارة بدرخان] ولكني قطعت عهدا ولعل خيرا ينبثق عن الزيارة، على الأقل، لابد ان اثبت له اننا رجال نلتزم بالحقيقة والصدق وغذا خامرته الشكوك فبمقدورنا ازالتها.زعلى اية حال ، شعرت بإني يجب ان اذهب..وعندما وجد البطريرك انه عاقد العزم، قبل في آخر المطاف بأتخاذ الخطوة [القيام بالزيارة]..
وفي يوم الثلاثاء حزيران 1843 غادر كرانت آشيثا في الساعة السادسة صباحا وبحضور عدد كبير من الناس ممن تمنوا له السلامة وكان الجميع يأملون الخير في زيارته فعلى الرغم من انه كان يؤكد لهم مرار انه لايتدخل بالسياسة، كانوا يعلمون ان جهوده تؤتي ثمارها في اوقات السلم..وترك الرعاة قطعانهم وهرعوا لوداعه متمنين له السلامة ولرحلته التوفيق)..

وبعد حديث طويل عن الصعوبات والقرى التي مربها في طريقه الى زاخو ومنطقة الخابور وصل الدكتور كرانت اراضي بدرخان بعد صعوبات جمة واستطرادات كثيرة أنسب هي بكتاب منها بمقالة او دراسة لذا أرتأيت تجاوزها:

(في واد تكسوه الحشائش عند ضفة جدول صاف تتدفق فيه المياه بالقرب من سفح تل تعلوه قلعة تنتشر الخيام الخضر لأسماعيل باشا [حاكم العمادية] والأمير بدرخان..فاستقبل اسماعيل باشا طبيبه [د.كرانت] عند بوابة القلعة بملامح استفهام معبرا عن دهشته لرؤيته هناك..وعندما اخبر انها زيارة حرفية [طبية] رحب به وأضاف بنبرة تأكيد: "لاتتدخل بخططنا"..فكان يخشى احتمال ان يكون الدكتور قد قدم للتوسط في تسوية مع النسطوريين، وبذلك يمنع حدوث الإنقلاب الشامل الذي يرغب بشدة في المضي فيه..وبعد ان شعر بالرضى برد الدكتور كرانت ذهب للتعريف بحضوره الى البيك [بدرخان] وعاد بسرعة ليقدمه بصفته صديقه الحميم وطبيبه وكان هناك رئيس تشريفات طلب من الدكتور كرانت أن ينحني لتقبيل يده وفق مجريات العادة، فرد الدكتور بحزم بأنه لن يقوم بتقبيل يد احد..لذلك لم اعفي من ذلك مع التأكيد بان لايوجد له الآن مايعاتب به في استقباله او في معاملته من قبل الكرد لاحقا..وعرض عليه البيك [اسماعيل باشا] غرفة في القلعة مضيفا ان الأمير[بدرخان] يرغب في ان يأخذ أحدى خيامه..وله ان يختار بين الغرفة في القلعة والخيمة عند مدخلها..فاختار الدكتور القلعة مكانا لأستضافته وامضى جانبا من الوقت في كل يوم مع الأمير مشاركا اياه المائدة..وكان اسماعيل باشا هنا ايضا بعد ان حصل على إفراج عن زوجاته اللاتي كن محتجزات بصفة رهينات في الموصل على مدى 16 شهرا لقاء  وعد للباشا بإيقاف اعمال النهب والسطو التي يقوم بها زينر بيك [وهو قاطع طريق من اغوات الأكراد له قرية تجنب كرانت المرور بها في طريقه الى بدرخان]، ويعد نهج بدرخان في احتوائه لعاص مثل هذا [زينربيك] يقاوم الحكومة التي يحمل لقبها باعتباره موظفا لديها بمنصب [بيك] بينما يقوم ببناء قلاع عاصية بيد ويعطي اتاوة [لبدرخان] بالأخرى مؤشرا على شخصية هذا الرجل [بدرخان] ومكانته..والواقع ان ولائه المعلن [للحكومة العثمانية] منحه نفوذا عظيما في بوتان..ولهذا نرى ان لديه رغبة في دفع مايترتب عليه لقاء ذلك..وكان الحفاظ على السلم مع جار لايقدر على خوض حرب معه واحدا من اهدافه ايضا..وعندما دعي للمثول امام باشا الموصل،كان منصبه العسكري الخاص ذريعته للبقاء مع جيشه فمازال يدفع الإتاوة المناطة به ويرسل الهدايا الى العاصمة [اسطنبول]، فأن الباب [الحكومة العثمانية] لن يبالي بشن حرب مكلفة وطويلةززكما كان جاهزا لخوض معارك من اجل السلطان..والآن برزت الحاجة لذراعه القوية [جيشه] لمغامرة صعبة ولكنها محببة منذ امد بعيد)

يظهر هذا النص بسطوره الأخيرة ان الحكومة العثمانية كانت تسعى لفرض سلطتها على الجبال بضرب الأكراد والنسطوريين معا واستخدام أمير الموت بدرخان لهذا الغرض..كونه وعصابته المؤلفة من امراء الحرب كانوا موظفين في الحكومة العثمانية بالإضافة الى مراكزهم المستقلة كأغوات قبائل يديرون دفة العنف بطريق قطاع طرق رسميين كزينر الذي يحمل هو الآخر لقب بيك واسماعيل الذي يحمل لقب باشا ونور الله الذي يحمل لقب بيك ايضا وميركور الأعور [امير راوندوز] قاتل علي بيك امير اليزيدية والمتخصص بقلع عيون خصومه الذي يحمل الألقاب كلها ..وبذلك يستوي قطاع الطرق والقتلة بالباشوات والبكوات..ويستخدم اللقب لتجميل صورة قتلة متوحشين مما يميط اللثام عن تواطوء واضح جلي للسلطة العثمانية بالمذابح التي راح النصارى المسالمين ضحيتها في اراضيهم التاريخية..
ولنعد الى توماس لاوري وروايته عن  الدكتور كرانت:

(كان وجود امة مسيحية مستقلة في قلب الإسلام [ الأراضي العثمانية] سبة لايمكن تحملها [من قبل خصومهم]..ولكن لم يكن بمقدور الجيش النظامي اي خيالة الأنكشارية ولا للمدفعية الثقيلة معالجتهم [اي شن حرب على النسطوريين] في معاقلهم الجبلية..لهذا توجب استخدام رجال يماثلونهم في عاداتهم ممن تمرسوا على ظروف البيئة وعادات القتال نفسها القيام بالمهمة..وكان تحرك رشيد باشا وحروبه في المنطقة قد هيا الظروف للقيام بمثل ذلك العمل، وعلى الرغم من أن الأكراد لم يكونو موالين للباب [للحكومة العثمانية]، فأنهم كانوا متحمسين لدينهم..ويتطلعون لسفك الدماء مرات ومرات..فإن كانت الحكومة التركية ترغب بغزو النسطوريين..فليس لنا ان نتعجب بعد كل مارأينا من العلاقات القائمة بين النسطوريين وقبائل حكاري [الكردية] ان تجد في تلك القبائل ضالتها المتحمسة المستعدة للقيام بتلك الحرب..وحقا فإن الأمير [بدرخان] كان المحرك الرئيسي للقضية كلها..وبقدر تعلق الأمر بصلة الأتراك بالغزوة، أبلغ الدكتور كرانت بأن باشا ارضروم [شقيق اينجة بيرقدار محمد باشا] الذي تعود إدارة منطقة النسطوريين اليه اسميا كان يتراسل مع الشيوخ المجتمعين [الزعامات الكردية]، وانه اصدر موافقته على الحرب..فقد غامر في احد الأيام في ان يقترح للبيك [ربما المقصود اسماعيل باشا او بدرخان نفسه] بأنه قد سمع ان باشا الموصل قد يساعد النسطوريين..ولكن الكردي [اسماعيل باشا او بدرخان] وبابتسامة هازئة رد بالنفي القاطع، وهو رد شخص متأكد تماما بما يقول..وهنا نجد تفسير رفض السلطة العثمانية منح فرمانات [تراخيص للتبشير] للسيدين سميث وبليس [اي لعلم السلطات العثمانية مسبقا بالحرب التي سيشنها الأكراد على النسطوريين وتفادي حضور شهود اضافيين لمشاهدة الحدث]، وكان خان محمود وهو زعيم كردي من وان [فان الآشورية الأرمنية] هو ايضا في دركولة [معقل بدرخان] نزولا عند طلب من بدرخان بيك..
وكان اخضاع النسطوريين الكامل الموضوع الوحيد الذي يتحدث به زعماء الكراد حتى امام الدكتور كرانت وبحضوره وبدون اي تحفظ..واكد له البيك والأمير كلاهما انه سيكون في حمايتهم اذا بقي في آشيثا، واكدا بان سوءا لن يمس شخصه وممتلكاته ، وأن كل من يلجأ الى بيته سيكون بأمان..وانهما سوف يتجنبان الدخول في وادي لاشيثا وحتى ليزان من اجله إذا استسلم الناس ووافقوا على دفع الإتاوة [الجزية]، فشكرهما على هذا اللطف [؟]، واخبرهما بانه سيعتمد على الحفاظ على تعهداتهما حول بيت البعثة التبشيرية، سواء أكان في القرية ام لم يكن، اما بخصوص الناس فإنه وعد بأنه سيبلغهم بالعرض الذي قدم له سواء اقبلوا به ام رفضوه، فاعتبر الأكراد انه يبالغ في مخاوفه وشكوكه ولكن ، قال الدكتور: افترضا ان شرورا ستنبثق من ذلك، الن يقولوا بأنني انا من تسبب في ذلك؟ ماذا؟ اجاب البيك: هل تشك بتعهدنا؟ هل تشك بتعهدنا؟ .فجاء رد الدكتور في شرح مسهب اكد لهما فيه نهجنا القاضي بعدم التدخل في الشؤون السياسية بما يتجاوز مايتعلق منها بحمايتنا الشخصية..ثم ابرز لبدرخان الفرمانات والوثائق  التي لديه، غير ان البيك لم ينهض كالمعتاد ولم يسمح بقراءة مضامينها بل اعطاها الى ملا وقال لاحاجة لمثل هذه الأوراق هنا انت ضيفنا ولايهمنا اجئت بفرمان ام لم تجيء به فكلمتنا تكفي امانا لك هنا في بوتان..

وكراهية الأمير لمارشمعون لايمكن اخفائها، ففي احدى مقابلاته مع الدكتور كرانت اظهر جزعا بسبب تاخر الحملة وكان منزعجا غاية الإنزعاج عندما سمع ان (حيو) [احد اغوات أكراد خرطوش من القفقاس] قد رد له اعتباره.زوعلى الرغم من انه الإرادة القائدة بقدر تعلق المر بالغزوة المزمعة، فأن مركزه بين القادة أدنى من مركز البيك [اسماعيل باشا حاكم العمادية]، فهو واسماعيل باشا قد يزعمون ان لهم الزعامة على اعتبار ان نسبهما يعود الى الخلفاء العباسيين، إلا ان النفوذ الشخصي لبدرخان وضعه في موقع افضل من الزعامات الكردية كلها على الرغم من مزاعمه  بالأنتساب الى أسلاف محترمين من الخلفاء العرب [وهذه كذبة واضحة فلاصحة لأنتساب الأكراد الى بيت النبوة ولاسيما الخلفاء العباسيين المتحدرين من عم النبي العربي (ص) العباس (رض) ..كما لم يتحدث اي من قريش اللغة الكردية ... ولاصلة بالغرباء من اتباع النبي (ص) كصهيب الرومي او سلمان الفارسي بالعباسيين ولا بالأكراد مما يؤكد ان مزاعم بدرخان كانت كذبة الهدف منها خداع الناس بانه متحدر من الخلفاء العباسيين]. وهو [اي بدرخان] في ميوله الإسلامية يأتي بالدرجة الثانية بعد الدراويش والملالي الذين يتفاخر عندما يحسب ع

9
الحملة البريطانية لأكتشاف دجلة والفرات ومدى صلاحيتهما للملاحة النهرية
مع وصف للموصل ومحيطها الجغرافي لوليم فرانسيس أينزورث




صلاح سليم علي

مقدمة:

كان انحسار النفوذ العربي في الأندلس والبحر المتوسط سببا في نشوء أمبراطوريتين اوربيتين  قويتين أعتمدتا على فكرة الغزو المضاد [الريكونكويستا] وتمديدها لتشمل الإستكشافات الجغرافية عبر المحيط الأطلسي وفي المحيط الهادي على اساس الأعتقاد ان غزو اراض غير مسيحية وفرض الكثلكة واللغة الإسبانية على سكانها يعد امرا مشروعا من منظور الغزاة سواء اتم الإستيلاء على تلك الأراضي ام لم يتم..فكان تراجع العرب من الأندلس بداية العصور المظلمة العربية التي تزامنت مع عصور النهضة الأوربية.. وكان الأسبان والبرتغاليين يؤسسون لمملكتين مستقلتين حتى قبل طرد اليهود والمسلمين من الجزيرة ألأيبيرية [الأندلس] 1492، بطريق التوسع الإستعماري في افريقيا وتدفق الثروات الطائلة من القارتين ألأميريكيتين حديثتي الأكتشاف ..وكان اكتشاف العالم الجديد 1492 دافعا قويا للدول الأوربية للتنافس ولم يكن العالم القديم بمنأى عن هذا التنافس الإستعماري الأوربي على الرغم من وجود امبراطوريات قديمة في آسيا  وأفريقيا..وعلى الرغم من دخول بريطانيا ميدان التنافس الإوربي على المستعمرات في مطلع القرن السابع عشر وبالتحديد مع تولي اليزابيث الأولى عرش المملكة، فأنها بلغت اقصى مجالات توسعها الأمبريالي في القرن التاسع عشر وكان الهاجس وراء توسع بريطانيا الإستعماري في القرن التاسع عشر حماية الطرق التجارية لمستعمراتها الآسيوية وبخاصة الهند..إلا ان تحول اهتمامها لينصب على الشرق الأوسط جاء بعيد فتح قناة السويس التي قلصت الكلفة واختصرت الوقت للوصول الى الهند ومستعمراتها في شرقي آٍسيا، فعمدت الى خداع السلطان العثماني بأطلاق يدها في قبرص بذريعة حمايته من روسيا في الوقت الذي كانت تريد الهيمنة على قبرص لحماية قناة السويس..وفي عام 1875 اضطر الخديوي اسماعيل على بيع حصة مصر من اسهم قناة السويس لتسديد جانب من ديونه لأوربا لقاء قرابة اربعة ملائيين جنيه سترليني لبريطانيا مما فتح الباب على مصراعيه للتدخل البريطاني في الشؤون المصرية والسودانية (كون السودان كانت ملحقة بمصر)، وقد تمخض هذا التدخل عن احتلال مصر عسكريا بعد مواجهة الجيش المصري في تحالف ضم فرنسا وبريطانيا ومرتزقة هنود عام 1882..وبذريعة مواجهة التيار القومي الإسلامي بقيادة زعيم اول ثورة عربية ضد الهيمنة الأجنبية  في العصر الحديث [عراقي الأصل] أحمد عرابي باشا..
ولعل اخفاق بريطانيا في حملة جاسني لأستكشاف مدى صلاحية نهري دجلة والفرات للملاحة كان واحدا من الأسباب  التي دفعت بريطانيا الى وضع اوراقها كلها تقريبا في السلة المصرية..غير ان قناة السويس لاتعني نهاية المصالح البريطانية الستراتيجية والإقتصادية في بلاد الرافدين..وهي مصالح سرعان ماعادت الى التوقد من جديد إثر أكتشاف النفط في العراق ودخول المانيا كقوة تنافسية جديدة ميدان صراع  المصالح في الشرقين الأدنى والأوسط وتمويلها لخط سكة حديد برلين بغداد بهدف الوصول الى الخليج وتعزيز قوة تركيا المتحالفة معها ضد بريطانيا وروسيا.. لذلك تلقت حملة استكشاف دجلة والفرات دعما خاصا وقويا من الملك وليم الرابع والبرلمان الأنكليزي وشركة الهند الشرقية، فضلا عن تشجيع شخصيات ادبية معروفة كالروائي والشاعر [توماس لوف بيكوك] صديق الشاعر [شيللي] وكان يعمل في شركة الهند الشرقية..ويتبنى فكرة جاسني حول امكانية تحويل الفرات الى ممر مائي الى الهند..

وفي سياق البحث عن ممرات مائية تعوض الأنكليز عن المرور عبر رأس الرجاء الصالح [رأس الأعاصير] لتصل الى الهند ، وضعت بريطانيا نصب اعينها استخدام نهري دجلة والفرات قبل البدء بحفر قناة السويس بثلاثة عقود.. [ولابد من الإشارة هنا الى ان فكرة ربط البحر الحمر بالمتوسط كان قائد الحملة الفراتية جاسني هو من اقترحها على فرديناند دي ليسيبس الذي اوكلت له مهمة تنفيذ مشروع قناة السويس]..وكان هدف الحملة استخدام نهري دجلة والفرات للملاحة النهرية وصولا الى الهند..فضلا عن وضع خرائط للمنطقة ودراستها من النواحي الجغرافية والإقتصادية والجيولوجية والتعرف على مواردها وامكاناتها بالتفصيل فكان فريق العمل المؤلف من ضباط ومتخصصين في العلوم المختلفة يعملون بانسجام لجمع المعلومات وتوثيقها فتم وضع خارطة لشمالي سورية ودراسة نهر الفرات من النواحي كافة لتحديد عمقه على امتداد مجراه وحتى الخليج العربي كما تمت دراسة شمالي بلاد الرافدين و دراسة نهر دجلة صعودا من القرنة الى مسافة 400 ميل شمالا ومن بغداد الى سامراء ثم مجددا من اعالي دجلة وحتى بغداد بقيادة هنري بلوسا لنج الذي وضع خارطة تفصيلية لنهر دجلة، وتمت دراسة الأراضي الممتدة بين نهري دجلة والفرات، وقام اعضاء من فريق الحملة بدراسة جيولوجية شاملة لحوض الفرات بدءا من جبال طوروس بينما قام فريق آخر بجمع العينات البيولوجية ودراسة انواع الحياة النباتية والحيوانية والموارد المعدنية المتوفرة في الأرض وانواع الصخور في الأراضي المحيطة بنهري دجلة والفرات كما قاس عدد من  اعضاء الحملة ارتفاعات الجبال ودرسوا خليج الأسكندرونة والأسكندرونة نفسها ونهر العاصي والأراضي المحيطة بهما ..وكان جاسني يدون الملاحظات عن المواقع الأثرية والتاريخية في الطريق كبئر يعقوب والبوابات القليقية التي عسكر عندها الأسكندر المقدوني ومر بها زينوفون ووصفها، وعدد من القلاع القديمة والبوابات كبوابة الحديد او بوابة تيمور، ثم مرت الحملة بجيحون ودرست مستويات الغرين فيه وعادت الى قرة طاش لتمر بالبوابات البيلينية قبل عودتها الى انطاكية وقام اللفتنانت كليفلاند والسادة أيدن وكارلوود وفيتزجيمس بأستكشاف نهر العاصي ودراسته ..وكانوا بالإضافة الى الضابطين هكتور وبيل يقومون بأصلاح وتوسيع الطريق بين مصب العاصي وانطاكية بينما قام الميجر ايستكورت والدكتور ستاونتون بزيارة الوالي في دمشق.. وكلف اللفتنانت لينج والميجر ايستكورت، فضلا عن ذلك، بتصليح الطريق بين انطاكية وجسر الحديد.. وقبل عودتهما مرا ببعلبك وقاما بدراسة غابات السدر اللبناني ..

وبذلك تم فتح واستقصاء بلاد جديدة امام الملاحة والتجارة، ولم تكن المهمة سهلة لأن القاربين البخاريين (دجلة) و (الفرات) والمصنوعين من الحديد ومعهما المعدات توجب نقلهما مفككين من البحر عبر طرق نهرية وبرية وعرة وتوجب استخدام ثيران قوية وبغال وجمال وعربات وطوافات (أكلاك) عند الحاجة ولاسيما وان سخانات الماء المولدة للبخار ثقيلة وكذلك جرس الغوص المستخدم لسبر المناطق العميقة وقعور الأنهار...وكان حملها ونقلها وجرها بعربات صنعت لهذا الغرض وبلغ عددها 27 عربة، فضلا عن استخدام 841 جملا و 160 بغلا وعددا كبيرا من الثيران يتطلب جهودا جبارة ..وترتب على جاسني ورجاله قطع طريق في مرتفع متعرج يحول دون بلوغ سهل حلب بأستخدام رافعات وهيمات احيانا لرفع العربات بضعة انجات فحسب أو الحبال والسلاسل من الجانب المنحدرللمرتفع..وكانت القوافل توقف هنا وهناك من قبل سلطات الباشا بهدف التأخير لأن الحملة توافقت مع الحرب المصرية بقيادة محمد علي باشا وابنه من جهة والسلطان العثماني من جهة ثانية ..فاصبحت سورية [كما هو الحال في معظم العصور أرض معركة]، وكانت السلطات المصرية في سورية تشك بنوايا الحملة وبخاصة ازاء رفع العلم العثماني الى جانب علم بريطانيا على السفينتين [ولا أدري ان كان الأنكليز قد أخفوا العلم التركي في سورية]..ولكون الحملة تتألف من 85 ضابطا ومتخصصا بريطانيا..بما يترك انطباعا ان المهمة عسكرية او شبه عسكرية، وهي في جوهرها مهمة تهدف بريطانيا من ورائها الى تحقيق أهداف جيو سياسية وستراتيجية بطرق تكنولوجية..بينما تصورالعديد ان هدف البريطانيين [الفرنج] هو نقل جنود من مصر لأحتلال بغداد وانهم في خدمة الوالي المصري في الوقت الذي كانت عيون الوالي المصري، الذي لايرحب بفكرة ممر مائي عبر الفرات يقلل من اهمية الطريق البري عبر مصر، يبذلون قصارى جهودهم لعرقلة الحملة على نحو غير مباشر كتحريض العمال على ترك العمل او تأجير الحيوانات المستخدمة للحمل ونقلها الى اماكن اخرى ..وتنضيب موارد تحتاجها الحملة من الأسواق..وغير ذلك..



بدء الحملة:

بدأت حملة جاسني ببناء قاربين بخاريين في مدينة نيوكاسل البريطانية وتمت تسمية القاربين [الفرات ودجلة] حتى قبل نقل اجزائهما الى  مستودع عند مصب العاصي اسماه البحارة [اميليا ديبوت] ومن ثم الى قرية [قزل برج] على العاصي ومنها الى نهر [قرة صو] بواسطة اكلاك ..وترتب على الفريق حمل القاربين على عربات مسافة أكثر من 110 اميال قبل الوصول الى نقطة انطلاقهما عبر الفرات من مدينة البيرا[ بيره جيك] في 16 آذار عام 1836 في مكان كان تدفق المياه في مجرى الفرات غزيرا وبتوديع حافل من قبل اهالي البيرا وممثلين من الحكومة العثمانية ومن حلب ودمشق مع اطلاق 21 إطلاقة مدفع من القاربين الفرات ودجلة بالمناسبة ردت عليهم الحامية العثمانية باطلاقة مدفع على سبيل التحية ...فاتخذ القاربان سبيلهما في الفرات حتى عبرا الحدود التركية الى جرابلس [قرقميش] التاريخية ..ثم بقلعة نجم الشهيرة القريبة من منبج وصولا الى بالس ليمروا بقلعة جعبر ومنها الى الرقة التي نزلوا فيها حيث قام اللفتنانت مورفي باجراء قياسات فلكية محاكاة لقياسات قام بها من قصر هارون الرشيد في المكان نفسه الفلكي العربي البتاني قبل قرون ..وقام الدكتور هلفر وزوجته بجمع عينات نباتية وحشرية كما درجا على ذلك في كل المحطات التي تمر بها الحملة،ثم مرت الحملة بدير الزور ومنها الى قلعتي حلبية [ قلعة الملكة زنوبية على الضفة الغربية للفرات] وزلبية [مدينة آشورناصربال الثاني "نيبارت آشور" على الضفة الشرقية للفرات] المتقابلتين ، ثم بقلعة الصالحية قبل الوصول الى البوكمال بعشرين كيلومتر ..وكان اعضاء الحملة يغادرون القارب في كل هذه المدن والقلاع والخرائب التي يمرون بها لأجراء دراسات وأخذ ملاحظات عليها وتدوينها كجزء من متطلبات الحملة..وبدافع حب الإستطلاع لأن كل مايصادفهم يعد جديدا ومثيرا بالنسبة لهم ولتنوع اهتماماتهم واختصاصاتهم الشخصية والعلمية..وبعد تجاوز الحملة للقائم واقترابها من عانة وراوه في الأنبار، تبلدت السماء بالغيوم من جهة واختلطت الأمطار الغزيرة بزوبعة ترابية من جهة الصحراء صاحبتها عاصفة رعدية ادت الى ارتفاع امواج الفرات وغرق [دجلة] بمافيها وعليها من معدات وبحارة  في مكان مقابل [لقرية عزرا] [التي يحتمل ان يكون الاشوريون قد ارسلوا اليها اسرى يهود في طريق عودتهم من غزو لمملكتي  جودا أواسرائيل مما يفسر سبب تسميتها بقرية عزرا] ..وكان من بين الغرقى 20 بحارا ومن ضمنهم اللفتنانت كوكبورن وريجارد بلوسا لنج شقيق هنري بلوسا لنج قائد السفينة دجلة والثاني في طاقم القيادة بعد جاسني في حملة الفرات ..وقد عومت الأمواج العالية جثامين 14 بحارا ورمتهم في حقل للذرة حيث عثر عليهم وقد شوهت النسور ملامحهم ثم دفنوا في المكان نفسه.. [ولم اتمكن من تحديد موقع غرق دجلة  بين القائم وعانة لعدم ورود اي ذكر لتلك القرية "عزرا" او مايقارب تصحيفا لها وعنها  غير مصادر الحملة الفراتية، وهي بالتاكيد غير "خربة الدنيا" التي تشير الى موقع اثري قريب من المنطقة نفسها ولعلها قريبة من "العبيدي" إذ يذكر مصدر أن غرق السفينة دجلة حدث في نقطة في الفرات تبعد 85 ميلا الى الغرب من عانة  وراوة..وتذكرالمصادر ان عاصفة مماثلة كانت قد ضربت الجيش الروماني بقيادة جوليان في المنطقة نفسها]...وكان جاسني الأكثر حزنا لأنه أخفى على البحارة امرا من الحكومة البريطانية تلقاه قبل يوم من غرق دجلة يقضي بأيقاف الحملة غير ان رغبته القوية بمواصلة الرحلة دعته الى ابقاء الأمر سرا ..وقد سلمت سفينة الفرات  لتواصل رحلتها الى هيت فالفلوجة فالحلة فالديوانية ومنها سوق الشيوخ [بما يؤكد ان التسمية جاءت قبل ولاية مدحت باشا على العراق]..وصولا الى القرنة ومنها الى البصرة في 18 حزيران 1836 .. قاطعة بذلك اكثر من 1400 ميلا من بيراجيك في رحلة شاقة ومأساوية وجميلة في الوقت نفسه استغرقت ثلاثة أشهر.. وكانت السفينتين تحملان على متنيهما 85 بحارا وعالما فكانت الفرات تحتضن 13 بحار عربيا وطباخ زنجي اميركي، ومترجم عراقي موصلي هو كريستيان رسام الذي اصبح فيما بعد قنصلا لبريطانيا في الموصل، وقد التحق بالسفينة مسافران غايتهما الوصول الى بوشهر للحاق بأميرين أفغانيين مزعومين كانا قد باعاهما مجوهرات لقاء اموال ظهر ان المجوهرات مزورة..وهما الدكتور هلفر وزوجته الكونتيسة نوستيز التي كتبت عن الرحلة على لسان زوجها في المجلد الثاني من كتابها [رحلة في بلاد الرافدين وبرنيش واراض أخرى] وكذلك في كتابها [الممر الفراتي الى الهند]..وهي المرأة الوحيدة في الحملة الفراتية وكانت تصاحب زوجها في جولاته لجمع عينات من النباتات والحشرات طيلة الرحلة واهتمت بوصف الناس المقيمين على ضفتي الفرات وبخاصة النساء..ونزلت وزوجها في ضيافة القنصل البريطاني في البصرة ومنها الى بوشهر فكلكتا ثم واصل الدكتور هلفر رحلته الى بورما البريطانية حيث قتل بسهم مسموم وجهه اليه احد المتوحشين في جزيرة كان يجمع فيها الحشرات والبذور ونماذج نباتية..وكان هلفر قد اقترح على الحكومة الهندية تربية دود القز لأنتاج الحرير لملائمة مناخ الهند لنمو اشجار التوث وتطوير دود القز..اما السفينة دجلة فكان على متنها 12 ملاحا عربيا وعشرين ضابطا وعالما بريطانيا وبضمنهم هنري بلوسا لنج قائد السفينة، وشقيقه ريجارد الذي غرق مع دجلة، واللفتنانت كوكبورن الذي غرق ايضا مع دجلة وجون بيل المعروف برجل تيودوروس الإنكليزي الذي تمكن من النجاة سباحة بعد غرق السفينة دجلة ليرحل من البصرة الى اثيوبيا ويلتقي بامبراطور اثيوبيا ثيودوروس الذي قربه وعينه رئيسا لوزرائه وكان جون بيل هذا قد انقذ الأمبراطور ثيودوروس من محاولة استهدفت حياته ولكنه دفع حياته هو ثمنا لذلك..

وقد اختار جاسني الرجال الذين صاحبوه في حملته الفراتية من ذوي الخبرة في الملاحة وفي الشرق الأدنى فقد عمل الكابتن هنري بلوسا لنج في الأسطول الهندي ثم في فريق لمسح الشاطيء العربي من الخليج العربي وكان مترجما باللغات العربية والفارسية والهندوستانية ومفاوضا مع القبائل العربية وعمل مساعدا للجنرال جاسني في حملته الفراتية ومسؤولا للبريد عبر دمشق وبغداد وعين مساعدا للمشرف على الأسطول الهندي وقبطانا للسفينة هاستينغ في الأسطول البريطاني بعد عودته الى بريطانيا من الحملة الفراتية..اما شقيقه ريجارد بلوسا لنج فكان لفتنانت في قوة المشاة البنغالية وقد غرق في اثناء خدمته على متن السفينة دجلة..وكان عمل بصحبة اخيه في اعداد رسو الحملة في أنطاكية ثم اختار  هنري لنج الموقع الذي اطلق عليه [مرسى وليم] في بيراجيك على الفرات لأستلام السفن المرسلة قطعا من انكلترة لأعادة تجميعها هناك..وكان يقوم بوظيفة التفاوض مع شيوخ القبائل العربية على ضفتي الفرات وهي مهمة تتطلب مرونة عالية ولباقة وحكمة..وبعد عودة جاسني الى انكلترة عام 1837، تولى لنج زمام قيادة الحملة  وبطاقة متميزة ارتقى دجلة حتى سامراء ثم نجح في الوصول الى منابع دجلة وقام بقياسات فلكية ورياضية وطوبوغرافية من نينوى حتى بابل منجزا خارطة دجلة ومحيطها الجغرافي مائيا وطوبوغرافيا عام 1839، كما كتب لنج مقالا عنوانه [ملاحظة حول جانب من نهر دجلة بين بغداد وسامراء]..وينبهنا جاسني الى ضرورة التمييز بين هنري بلوسا لنج رفيقه في الرحلة  والكابتن وليم فرانسيس لنج الذي درس نهر الأردن والبحر الميت وينتسب للأسطول الأميركي وليس البريطاني ..وكان السير هنري راولنسون قد اثنى على هنري بلوسا لنج بقوله (ان ملاحظاته دقيقة ورائدة ويتميز بمواهبه عالما ولسانيا ويتمتع بلطف المعشر والمرونة والقدرة على التفاهم وكسب احترام اصعب المتفاوضين وثقة المشارقة المتشددين)..وقد انتقل ليعيش في باريس حيث وافته المنية عام 1873..ومن الضباط الذين اعتمد عليهم جاسني في حملته الفراتية ادورد كارلوود الذي بذل جهدا كبيرا في نفل السفينتين عبر المسارالشاق[ 140 ميلا] والخالي من الطرق الممهدة من منطقة انطاكية الى بيراجيك وبجهده في انقاذ الفرات بعد غرق مرافقتها دجلة في الطريق الى عانة. ومن الضباط الذين اعتمدهم جاسني جيمس فيتزجيمس الذي تطوع بعد انتهاء الحملة في حمل بريد شركة الهند الشرقية الى لندن..وبعد الوصول الى لندن التقى بكارلوود وريجارد كليفلاند زميليه في الحملة وحصلا على ترقية من الأدميرالية البريطانية بعد جهود جاسني لأن الأدميرالية لم تعتبر عملهم في الحملة الفراتية جهدا بحريا...ومن الضباط الكابتن هنري ايدن الذي خدم في البحر المتوسط والتحق بالحملة الفراتية ليصبح عام 1864 ادميرالا في البحرية البريطانية..

وضم طاقم الحملة الفراتية علماء متميزين: فبالإضافة للدكتور الألماني هلفرعالم الحشرات والنبات واللفتنانت مورفي عالم الفلك، هنالك الجراح والرسام اندرو اتلمر ستاونتون غير ان العديد من رسومه ومخططاته ضاع في مياه الفرات عندما ضرب الإعصار دجلة وأغرقها..وتمكن هو وشقيقه من السباحة والصعود الى الفرات التي نجت من الحادثة المميتة لتواصل طريقها الى البصرة، والمترجم كريستيان انطونيو رسام الذي يخبرنا جاسني عنه ان جده كان قد هاجر الى الموصل من ساحل المالابار وان ابيه من كبار رجال الدين في الكنيسة النسطورية، وانه الأبن الأكبرله وعندما كان يافعا صاحب قافلة تجارية الى جزيرة العرب ثم عمل في كلية مالطا لاحقا في ترجمة المخطوطات العربية، والتحق بعدئذ بالحملة الى الفرات للعمل بصفة ترجمان للحملة ..وبعد عودته الى بريطانيا كلفته الجمعية الجغرافية الملكية وجمعية النهوض بالمعرفة المسيحية برحلة الى شمالي العراق بصحبة اينزوورث، الجراح والجيولوجي وعالم الأحياء والرحالة الشهير الذي درس الجراحة وعلوم الأرض في أدنبرة وباريس..ودرس مرض الكوليرا وقدم دراسة رائدة في هذا المجال، قبل ان يصار الى اختياره جراحا وجيولوجيا للحملة الفراتية لما يتميز به من قوة الملاحظة وتعدد الإختصاصات والإهتمامات..وتجدر الملاحظة الى ان رحلة اينزوورث بصحبة كريستيان رسام الى شمالي العراق والموصل تلك هي الثانية إذ كانت الأولى بعيد انفراط عقد الحملة الفراتية في البصرة وانتقال اعضائها في اتجاهات مختلفة كما اسلفنا..وكانت تلك الرحلتين الى العراق فضلا عن خدمته في الحملة الفراتية سببا في  تعيين كريستيان رسام قنصلا بريطانيا في الموصل ونائبا للقنصل البريطاني للفترة من 31 كانون الأول 1839 ولغاية عام 1865.

زيارة أينزوورث للموصل 1837:

تعد زيارة وليم فرانسيس اينزوورث بصحبة كريستيان رسام الأولى للموصل 1836- 1837جزءا مكملا لحملة جاسني الفراتية وقد تناولها ضمن كتابه [حملة الفرات: رواية شخصية 1888]، وهي غير زيارته الثانية بين عامي 1839و 1840التي غطاها في كتابين اولهما [رحلات وبحوث في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين وارمينيا (ب. ت)]، والذي يتضمن دراسة جيومورفولوجية للموصل ضمنها ملاحظات سابقة.. كما الف كتابا ثالثا عن رحلته عنونه: [بحوث في بلاد آشور وبابل وكالديا كجزء من جهود الحملة الفراتية 1838]، وتناول ادبيات الرحلة الفراتية في كتاب رابع عنونه:[رحلات في أثر العشرة آلاف يوناني، 1844]، وفي كل زيارة يضيف معلومات جديدة على المعلومات التي غطتها زيارته السابقة او كتابه السابق..وفيما يأتي وصفه للموصل كما ورد في كتابه [حملة الفرات: رواية شخصية والذي يحمل تاريخ اصدارعام 1888 كما ورد في نسخة الكترونية..وتجدر الإشارة الى ان هذه الكتب متوفرة بنسخ الكترونية لمن يرغب في الإستزادة من المعلومات حول الحملة الفراتية وما صاحبها وانبثق عنها من ادبيات رحلة وتقارير وخرائط..ويبدو ان تأخر نشر كتابه عن حملة الفرات كان بدافع انتظار ظهور كتاب جاسني عن الرحلة وللسبب نفسه جاء انتظار السيدة هلفر قبل نشر كتابها الذي تضمن في الجزء الثاني منه وصفا عن الرحلة، وفيما يأتي حديث أينزوورث عن الموصل:

(كان السيد رسام من أهالي الموصل، وكان غائبا عنها لسنوات عديدة فاستقبلنا في بيت عمه [وربما  يقصد خاله لأن الكلمة الأنكليزية قد تعني عم او خال] وكان يشغل وظيفة مهمة لدى الباشا، في افضل احياء المدينة..ولم اكن بسبب ظروف الزيارة، ارغب بالضغط على صديقي الطيب [كريستيان رسام] لنغادر [الموصل] باسرع وقت [ ليتيح المجال لكريستيان في رؤية اسرته ورؤية اسرته له]، فاسترحنا على الرغم من اني لم اجد من احدثه مما تسبب بإزعاجي قليلا ..وكان السيد رسام [هرمز رسام] شقيق السيد [كريستيان رسام]  الذي ساعد فيما بعد السير اوستن هنري لايرد في تنقيباته في نينوى وتميز هو ايضا بأستكشافاته، شابا صغيرا واعدا بالغ الوسامة، ولم اكن أفكر في ذلك الحين ان قدري سيقتضيني امضاء اشهرا في انتظار ذوبان الثلوج في الجبال في مكان ضيق كهذا...حيث يترتب الحصول على حاجات الحياة اليومية كاللحم والطيور [الدجاج] والبيض والحليب، والخضراوات كالبيذنجان والباميا والرز والذرة والقمح والطحين والشوفان وكل ذلك من زراعة الريف الموصلي، ولكن شيئا من النبيذ أوالبيرة أوحتى العرق لم يكن متوفرا..والشراب الوحيد المتوفر هو الحليب بتحولاته واشكاله المتنوعة [لبن شنينة، الخ] والقهوة والنرجيلة.
وبعد زيارة روتينية للباشا، اخذني رسام الى كنائس الموصل الكلدانية والسريانية الكلدانية والرومانية الكاثوليكية واليعقوبية..ولأنهم طوائف مضطهدة فإن كنائسهم تقع تحت مستوى الأرض ويدخل اليها بدرج وبعد تجاوز ازقة متعرجة ضيقة، وذلك للحيلولة دون دخول الخيالة الأتراك اليها لأنهم [الأتراك] غالبا مايستخدمون المقابر الموجودة فيها كاسطبلات لخيولهم.. ولاحظت ان الكنائس كلها تعترف بسيادة البابا ماعدا اليعقوبيين ونجد فيها صورا وزخارف اما الكنائس اليعقوبية ففيها قليل من ذلك..والكنائس عينها صغيرة جدا وكل منها تتفاخر، بسبب عدم وصول الطباعة، بنسختها من الكتاب المقدس..ورأيت مخطوطة للكتاب المقدس تعود الى 609 للميلاد ومازالت في حالة جيدة ويسيرة القراءة..وكنت اتشكك بتاريخها ولكني لم أشأ تشويه حسن استقبالهم لي بشكوك منبوذة ولأن ذكريات المسيحية المبكرة تحفها عواطف شجية..وكنت قد تأثرت كثيرا بمشهد امرأة حفرت على قبر ابنها حزامه وهو رمز لعبادة اهوارامزدا [المجوسية] وخنجره الصغير ومحبسه وكتابه...وكان المحبس ومابرح تعويذة او رقية من السحر..ونحن نفترض بأننا قد تجاوزنا تلك المعتقدات بصفتها خرافات قديمة ، ولكنها مازالت تربط الناس احدهم بالآخر من خلال لمسات صغيرة مألوفة وهي من الصغر بحيث تغيب كثيرا عن ملاحظتنا مع ذلك فلها وزنها الهائل بما لها من دلالة وقوة..وليس لمثل هذه الأشياء صلة او ان صلتها طفيفة بعبادة الله بل وتعتبر مشؤومة ان هي وضعت فوق تلك العبادة فتعد لذلك السبب مجرد خرافات..ونحن نؤكد اننا لانتأثر بتلك الخرافات القديمة، ولكن مع ذلك لا نقدر ان نتقدم للخطوبة بدون خاتم زواج...فانا احب الخرافات لأنها تربط الناس بأواصر غير مباشرة ولكنها قوية في الوقت نفسه..والمسيحي الذي يموت خارج اسوار الموصل، لايسمح لأهله بأن يدفنوه داخل المدينة..ولعل السبب يعود في جانب منه بالأرجح الى احتياطات صحية، ولكن جانبا من السبب [نصفه] يعود الى الإزدراء بالنصارى..فعندما توفي المرافق الطبي لكلوديوس ريج في مخيمه دفن خارج اسوار المدينة
[ المقصود الشاب كارل بيلينو مساعد كلوديوس جيمس ريج ورائد العلوم الاشورية معه وليس مرافقا طبيا لعدم وجود مرافق طبي لكلوديوس جيمس ريج]، ولكن المحمديين [المسلمين] لايدفنون، كقاعدة، موتاهم في المدينة ولكن هناك استثناءات لأن في كل جامع مقبرة ملحقة حتى في القسطنطينية..ولكنهم يفضلون تخصيص ارض خاصة في ضواحي المدينة وجعلها مدفنا لموتاهم..ويفضل الأتراك ان تكون مدافنهم على الجانب الآسيوي بدافع توقع طبيعي جدا لديهم..[ربما لشعورهم ان الجانب الآخر يقع في أراض اوربية مسيحية وبذلك يكون ابعد عن القبلة]..ولايدفن المسلمون ميتا في مكان خصص لميت آخر..مما يجعل المقبرة أوسع كثيرا أحيانا من المدينة نفسها..

وفي يوم 21 آذار قمت بإختبار مقالع الرخام الشهيرة في الموصل بل وحتى في بغداد فرأيت انها من الجبس ولكنها ليست بالدرجة نفسها من النقاء والشفافية كرخام مدينة زنوبية.. وأفضلها الرخام الأبيض بلون الثلج وهناك ايضا الرخام الأبيض الضارب الى الزرقة والرخام الأبيض الضارب الى اللون الرمادي، ولكن رخام الموصل محضن بأرضية صلدة وليس مصدعا ومشققا  كالجبس الخشن الذي يحرق ليصنع منه مسحوق الجص [بلاستر باريس]، وتجد فوقه طبقة أحفورية قشرية من الحجر الجيري تحتوي على قواقع من الصدف القمعي..وهناك، على اية حال،  وبغض النظر عن المهاد  الجيولوجي الثلاثي [الذي يقابل عصر الطوفان] المميزلأرض الموصل، هناك تماثل في تركيب الأملاح الطبيعية والأحفورية للموصل مع  التكوينات التريتونية لأحواض باريس وبوردو..

وكان هناك في الموصل في ذلك الوقت [بالنسبة الى وقت الكتابة] ديرا ومصلى يعود للآباء الدومنيكان [ويقصد بها كنيسة الطاهرة للسريان الكاثوليك "البيعة العتيقة"  في محلة حوش الخان وهي غير كنيسة الساعة لللاتين التي شيدت لاحقا 1866]، وقد لحق الخراب في ذلك الدير [البيعة] ولم يعد مأهولا ولكنه موضع احترام وبقي كل مافيه على حاله..ولربما بسبب ماتحقق من شهرة لنينوى بسبب الأكتشافات الآثارية، عاد الرومان الكاثوليك لتأكيد وجودهم في الموصل..ولكني لا أدري، لأن المكان [البيعة] يبدو وكأنه قد هجر البارحة، فالورود الإصطناعية مابرحت في مكانها على المصاطب والشموع والشمعدانات مازالت في مكانها..وتوجد مكتبة تحتوي قرابة مائة مجلد أكثرها كتب دينية بالأيطالية..وبعضها كتب طبية. وهناك صيدلية صغيرة ملحقة بالمكتبة..ولكن الأدوية لم يمسها أحد..واكثر الملامح المثيرة للأهتمام مقصورات القسسة، إذ تبدو في منتهى البساطة والفقر، وأكثرها تاثيثا مقصورة رئيس الكهنة التي تحتوي على أريكة [كنبة] خشبية ومنضدة وبساط مساحته حوالي ياردتين مربعتين مع وسادة يستقر فوقها الكتاب المقدس..وفوق هذا المكان المنفرد المخصص للراحة  لوحة منقوشة للقديس دومينيك تحيط بجبينه هالة من نور..

وفي الرابع من آذار زرت آثار نينوى ووضعت خريطة للمكان والأماكن المحفورة فيه والتلال المختلفة التي قدمت للمنقبين في الآونة الأخيرة أثرى حصاد من اللقى والتحف الأثرية..

 وفي الخامس [من آذار] قمت بزيارة عددا من عيون الماء الكبريتية شمالي الموصل، بالقرب من الضفة اليمنى لنهر دجلة [عين كبريت]..وهناك في جانب من حافة صخرية يوجد مالايقل عن أحدى عشر طبقة صخرية مختلفة اكثرها قوة الطبقة الجبسية..ويبلغ عدد العيون تسع في قاعدة حافة الصخرة حيث يكثر الحجر الطيني القيري مع تكوينات هايدوكسيدية وبيروكسيدية تتحلل لتصبح كبريتا بسبب وجود الهايدرو سلفريت الذي يتفاعل مع الهواء..والزاوية الشمالية الشرقية من الموصل، بالقرب من هذه العيون والواقعة ضمن الأسوار خالية من السكان على الرغم من كونها مرتفعة على المدينة. وفي هذا الفضاء المفتوح هناك، مع ذلك، عدد من المواقع الخربة المهمة وابرزها برج أو حصن مربع يشكل جزءا من السور المواجه للنهر[باشطابيا] ولكنه في وضع خرب للغاية. وهناك ايضا كنيستان الأولى للكلدان والثانية للسريان وكلتيهما في وضع جيد ففي كنيسة القديسة مريم [الطاهرة في الشفاء] جدار حسن الصنع من مرمر الموصل، وتقع خرائب دير على البعد هو دير مار كبرئيل [ولعله الخربة التي  يسميها اهل الموصل "تل الشويطين" لبعدها وعدم ارتياد منطقتها ليلا وهي غير دير مار ميخائيل الذي اشار اليه المؤرخ أزهر العبيدي ويقع في حاوي الكنيسة ومنه تسمية الحاوي المجاور لدجلة، ويبدو ان أينزوورث لم يكن واثقا من التسميات إذ يخبرنا في كتاب آخر في زيارته الثانية للموصل أن باشطابيا وهي هيكل غريب غير مأهول في الطرف الشمالي الشرقي من السور شيدت فوق خرائب كنيسة مسيحية هي مارجبريل]، (غير أن الطابع المسيحي لموصل القرن التاسع عشر يتأكد من كثرة الكنائس والأديرة التي حول العديد منها الى جوامع)..وهناك ، والحديث لأينزوورث، منارة تسمى الطويلة [منارة الحدباء] وفيه ميل واضح في استقامتها..
ويحتضن سور نينوى تلا كبيرا يحتوي كل شيء وتل النبي يونس الذي يحتوي ضريح النبي يونس والذي لم يكتشف وهو يؤلف [مع تلقوينجق] القسم الملكي والمسور للمدينة..ولا تتفق هذه الأبعاد بالأبعاد التي قدمها ديودوروس سيكولوس قطرا يعادل تسعة اميال و760 ياردة، والمدينة خارج السور لعلها كانت تمتد بمحاذاة النهر باتجاه يارمجة [ وهذا صحيح فقد كان نهر دجلة يجري الى جانب السور الغربي لنينوى]،وفي السهل الممتد باتجاه خرسباد [مدينة سرجون الثاني]،وفي اعالي النهر تكتلات من الحجر الجيري لم يبنى فوقها شيء..ولكن يمكننا رؤية آثار القنوات القديمة المنشقة من نهر الخوصر..والإشارة في الكتاب المقدس الى رحلة يونس التي استغرقت ثلاثة ايام حول المدينة هي من غير شك الى مايمكن ان يستغرقه التجوال في المدينة باقسامها المختلفة وليس الدوران حول سورها فحسب..

وفي السابع من آذار، قمت بجولة في مكان بعيد في جنوب-غربي المدينة حيث يوجد عدد من العمائر وبضمنها قوس يسمى ايوان علي القدوم بالقرب من مرقد محمد الغزلاني [دير الغزلان] حيث يوجد عين ماء قريبة [ربما كانت تلك العين في اسفل تل الذهب  في منطقة الطيانة]، وبعد الغزلاني يوجد نبع ماء وجسر يسمى بالسهل وفي منخفض من التلال المؤلفة من الحجارة الجيرية [المرمر] ديرا مكرسا لمار إيليا.وفي المنطقة نفسها خربة قصر السيرامين وكان مقر اقامة صيفي يقصده باشوات الموصل..وتقع الى الأسفل على ضفة النهر قرية الشمسيات أو [القرية في الدغل] كما تقع على الضفة اليمنى لدجلة وعلى مسافة تسعة اميال من الموصل قرية البوجنوي [لعل المقصود البوجواري] وهم عرب يقيمون في خيام في الصيف، وعلى مسافة منهم قرية قرة كوي [القرية الخربة] التي تقع الى جوارها مناجم كبريت مهجورة قد اغلقت بسبب تراكم الحجارة عليها، ولكني اجد صعوبة في فهم السبب وراء ترك مثل هذه المناجم المفيدة..

وكان في نيتي القيام بسفرة الى الحضر، وقمت بمساعدة رسام بالترتيبات مع عدد من العرب لمرافقتي ولكن الشمر كانوا في عصيان ضد رشيد باشا وقد ساقوا قطعان الغنم من اسوار المدينة مما جعل العرب الذين اتفقنا معهم لمرافقتي يرفضون الرحلة المزمعة مما اضطرني على تغيير خططي وعبور جسر القوارب في اليوم نفسه الثامن من آذار فسرت بمحاذاة الضفة صوب النمرود..وبعد ميلين اسفل الجسر مررنا بقرية يارمجة المشيدة على اوابد خرائب قديمة تمتد حتى النهر وتدخل فيه في مكان كان يشكل يوما وبدون ادنى شك ضاحية من ضواحي نينوى ان لم يكن جزءا لايتجزأ من مركزها)..

يبدو من قراءة ادبيات الرحلة في الموصل ان معظم الجوامع ومنها الجامع الكبير وجامع النبي يونس، كانت كنائس او اديرة قبل ان تشاد عليها جوامع، مما يشير الى ان القبائل العربية ومنها قبيلة تغلب كانت نقلت مظاهر مسيحيتها الى الموصل في بداية الفتوحات الإسلامية، وان وجودها قد تعزز لاحقا بطريق هجرة النسطوريين الى الموصل من آسيا وبخاصة الهند وأيران فضلا عن آسيا الصغرى.. ولعل كثيرا من المنشقين على الجيوش الصليبية وردوا الموصل في القرن الثاني عشر للنجاة بأرواحهم ولكون الموصل كانت آنذاك مهادا آمنا للطوائف والأديان المختلفة..كما نواجه في مطالعتنا للأدبيات نفسها اسماء لاوجود لها في الوقت الحاضر كمنطقة الحراقية الممتدة بين الدندان والشهباز والجوسق والدواسة، او أيوان علي القدوم او الجدوم الذي ورد في معرض حديث كرانت ولاوري عن الموصل وكنت خلته انه في منطقة بستان الفستق أمام المستشفى العسكري او الثكنة العثمانية سابقا، واليوم يضعه أيزوورث في منطقة الغزلاني بالقرب من مرقد محمد الغزلاني ويسمي المنطقة المجاورة "دير الغزلان" [فمن هو او ماهو علي القدوم اوالجدوم؟ هل هو احد المجذوبين ام الصوفية ام شيخ عشيرة ام هو مكان لمسجد او لتكية بدليل كلمة ايوان او هو اسم حي سكني بأسم شخص شهير لقبائل وفدت الموصل من الريف المجاور، سبق احياء النبي شيت والبقارة والعكيدات أم هوشيء آخر أو ان الكلمة تصحيف لكلمة أخرى؟ المصادر هنا صامتة تماما ولاسيما العربية منها!]...وفي قراءتنا لرحلة اينزوورث الثانية الى الموصل التي وصلها في ربيع عام 1840، نلاحظ انه اضاف الى المعلومات التي اوردها في رحلته الأولى [1836-1837]، تفاصيل جديدة كحديثه عن قرة سراي وعن تفاصيل الإدارة والإقتصاد والزراعة والتجارة في الموصل وجوانب من تاريخها وأوابدها.. وعن تنفيذه لرغبته بزيارة الحضر التي لم يتمكن من زيارتها خلال رحلته الأولى، وهنا ننتقل الى كتابه الثاني [رحلات وبحوث في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين، وكالديا وأرمينيا] الذي يصف فيه رحلته الثانية الى الموصل لتغطية رحلته الى الحضر قبل العودة مواصلة رحلته الأولى الى الموصل:

(وصل الموصل عرضا اثنان من الرحالة الإنكليزهما السيد لايرد والسيد [ادورد] متفورد [وكانا يقصدان سيريلانكا لايرد ليعمل محاميا ومتفورد ليجد حظوظه في التجارة] مما يسر علينا تشكيل مجموعة قوية لزيارة آثار قلعة الشرقاط،اور الفرس، [وتلك تسمية لا أدري كيف وردت في نص وذهن اينزوورث، واي صلة للفرس بالشرقاط العربية او بآشور]، على نهر دجلة وحضر الكلديين او أترا الرومانية في صحراء بلاد مابين النهرين..وهذه المواقع كان قد زارها الدكتور[جون] روس [المقيم البريطاني في بغداد وكان قد التقى بواليس بج في اثناء اقامته في الموصل وكتب مقالا عنونه [رحلة من بغداد الى اوبيس"الحويش او القيارة" ]، والكابتن لنج [قائد الحملة الفراتية خلفا لجاسني..وكان لنج بصحبة الدكتور ايدن قد واصل رحلة السفينة فرات بعد غرق السفينة دجلة من عانة الى الموصل مرورا بالحضر أما د. روس فقد قدم الحضر من بغداد فهاجمه بعد وصوله مباشرة الشمروكانوا سيقتلونه ورفقته لولا ان احدهم تعرف عليه وقال انه حكيم "طبيب" بغداد ] وهكذا فقد أضطر روس الى قطع رحلته فجأة بسبب مضايقات العرب، اما الكابتن لنج فقد مر بالموقعين فحسب ومالدينا من تفاصيل عن مرورهما يكفي للإثارة فحسب..ولكم يعد امرا محببا ان يقوم عالم آثار مخضرم يصاحبه رسام بزيارة هذه الآثار [الحضر وقلعة الشرقاط] فيقدمان للعالم تصويرا صحيحا للمنحوتات والصور المختلفة ذلات الهمية التاريخية الكبرى، لذا كان لرغبتنا الحثيثة للأستقصاء ومعرفة المزيد دافعا قويا يعطي رحلتنا الى تلك الأوابد معنى خاصا يدعو الى الأرتياح والرضى..وكانت جماعتنا تتألف من السيدين المذكورين [لايرد وميتفورد] والسيد [كريستيان رسام] وانا وجاء برفقتنا صديقنا القديم العربي التونسي الذي كان قد صاحبنا في رحلتنا من أورفا الى الحدود التركية بالقرب من ماردين ليغادرنا هناك في طريقه الى راس العين، التي حدثت بقربها حادثة بعد وقت قصير مع الشمر الذين تمكنوا من الحاق الهزيمة بفرقة مصرية من الخيالة ..وقد تخلى صديقنا الحاج علي عن فرسه لينجو بحياته ولجأ الى الموصل حيث دخل في خدمتنا كسائس للخيل، كما صاحبنا قواص ارسله محمد باشا [بيرقدار] معنا وكان باشا الموصل قد اهداني حصانا قويا نشطا لقاء مساعدتي الطبية له..وقد خدمني هذا الحصان خدمة كبيرة في رحلتي هذه وفي رحلتي الكلدانية.. شرعنا بالسفر يوم السبت الموافق 18 نيسان [1840] عبر سهل مزروع جنوبي الموصل..وفي هذا الوقت من السنة كانت سنابل الشعير الربيعي قد نضجت وابرزت اشجار التين واللوز والتوث اورادها ولكن اشجار الفستق كانت في مرحلة التبرعم..وعلى الضفة الرملية للنهر تتفلق نباتات الرقي عن ازهارها ..وكانت طيور القطا والحمام قد عادت من مهاجرها..ولأن مياه النهر كانت مرتفعة، اضطررنا على الدوران حول المرتفع الصخري الى الغرب من القصر كما في خارطة لنج والذي يعرف في الموصل بقصر السيراموم..[ويقابل في الجهة الثانية من النهروالى الأسفل قليلا قرية يارمجة التي يسكنها الشبك والتركمان] وهو قصر ريفي قديم كان باشوات الموصل يقيمون فيه وربما يستخدمونه لسفراتهم في مواسم الربيع..والمرتفع الصخري الممتد في هذا المكان بمحاذاة دجلة يشكل النهاية الجنوبية الشرقية لسلسلة تلال واطئة تستمر في اتجاه شمالي غربي وتعرف بالجبيلة [الجبلة] ويتراوح عرضها بين ستة وتسعة أميال. ويوجد على حافة هذه التلال المجاورة لضفة دجلة مخزون من الكبريت في حواضن من الحجر الجيري..وتكسو حوافي الصخور والوديان في هذه [الجبلة]نباتات زاهية في وفرة الأعشاب وتنتشر في المفازات الخضراء أزهار الحوذان [شقائق النعمان] وأعشاب أخرى مركبة صفراء ذهبية تنشر بتعارض ألوانها في هذا الوقت من السنة الحيوية في ضفاف دجلة والفرات حيثما تكون اطرافهما صخرية..وبعد عبورنا الجبلة ومغادرتنا لقرية البو جواري أي والد العبيد من النساء[ وهذه ترجمة حرفية مغلوطة لكلمة البوجواري التي تعني في اصلها التجاور وتعود الى هجرة هذه القبيلة من اليمن واستقرارها الى جوار ضريح النبي "ص" في المدينة المنورة] الى يسارنا، انحدرنا في سهل غريني آخركتلك السهول على ضفاف دجلة والفرات وتسمى ، سواء أكانت مزروعة ام تغطيها الأدغال، بالحاوي.والحاوي الذي نحن فيه مزروع ويحتوي قرى العريج اي مصغر الأعرج [وهذه ترجمة حرفية ومغلوطة ايضا لأن العريج تسمية لأحدى القبائل القاطنة في القرية وأكثرها العكيدات]، وكبر العبد أي قبر العبد [والترجمة حرفية ايضا ولكن التسمية صحيحة وربما تعود الى عبد دفن في المنطقة او الى آثار عثر عليها فيها]..ويوطن القريتان عرب يرعون الآن قطعانهم في [الجبلة]..
وفي نهاية هذا السهل [الحاوي] ترتفع الأرض حيث يقع حمام العليل وقرية حمام العليل التي أسكن فيها باشا الموصل عددا من الكلدان ليقوموا بزراعة الأرض [ والأرجح انهم من النازحين من شمالي العراق هربا من مذابح ميركور الرواندوزي عام 1838]..

وتغطي عين الحمام بناية تكفي لأناس انصاف همج على الرغم من ان المكان يرتاده اشخاص من طبقات راقية من الموصل وبغداد..ويبدو ان العين قد تغير مكان خروجها من بناية خربة تتدفق تحتها على مسافة 150 ياردة من موضعها الحالي [ الأرجح ان هناك أكثر من عين واحدة] والمياه وفيرة جدا تحتوي على حامض هايدروكبريتي وتعطي الكثير من القير..وطعمها باهت اما درجة حرارتها فتبلغ 84.6 فهرنهايت [ مايعادل 29 درجة مئوية]، وتصدر عين الماء الساخن من حجر جيري خشن الحبيبات.. والى جانب حمام علي [حمام العليل] تل يبلغ ارتفاعه حوالي 60 قدم يسمى تل السابق اي تل المنتصر في إشارة الى معركة حدثت بقريه [ وهذا نقل سماعي مغلوط فيما يبدو، لأن التل اسمه تل السبت كما ذهب المؤلف..وهو تل تحيطه خرافات منها ان الصعود اليه ييسر للعذارى فرص الزواج والأرجح انه تل أثري آشوري يقع في الجهة اليمنى لدجلة في مواجهة النمرود التي تشاهد بوضوح من حمام العليل]..ومن ذلك التل تمتد سلسلة من التلال الواطئة لمسافة 300 ياردة صوب الجنوب الغربي حيث ترتبط بخط آخر يتألف من صفين من التلال الواطئة تتوسطهما خفضة من الأرض تستمر باتجاه شمالي غربي حتى الحاوي، ويبدوأن هذه الخطوط  الشبيهة بالدفاعات الطبيعية مانت تحتضن يوما قرية او موقعا مهما أخذت مكانه مجموعة من الأكواخ المتواضعة ولعلها كانت مدينة تيسلفتا التي ذكرها أمانيوس وجاء الميجر رنل على ذكرها بأسم تيساسفلتا اي مكان الأسفلت..ولكن تتبع مصادر أخرى يقودنا الى ان هذا الأسم يشير الى مكان شمالي الموصل وليس جنوبها [ربما عين زالة]..
وفي 19 نيسان غادرنا حمام العليل وعبرنا حاويا واسعا تتوسطه قرية صفاطس التي يسكنها عرب من قبيلة الجحيش اي صغير الحمار، ومن هنا تسمية القرية في خارطة لنج "جيوش" [مرة أخرى نلاحظ ترجمة حرفية لقبيلة الجحيش العربية وتصحيف للكلمة في خارطة لنج لدجلة]، ثم دلفنا الى يمين القرية الخربة جهينة او جهنم وهو اسم أثار توقعاتنا، ولكن كل ماوجدناه بضعة بيوت قديمة أفضل من غيرها تقع الى جانب خاصرة الحاوي من جهة الغرب. [ لا ادري من اين جاء اينزوورث بكلمة جهنم سوى التماثل الصوتي بين جهينة القرية والكلمة المستخدة باللغة الإنكليزية ل"جهنم" حيث تكتب وتلفظ بدون حرف الميم، وجهينة اسم لقرية غربي حمام العليل تقع الى الغرب منها اطلال مدينة عباسية كان كاتب هذا المقال اول من أكتشفها بصحبة الدكتور الشهيد صباح عبد الوهاب الجبوري من قبيل الصدفة وحب الإستطلاع في اثناء مرورنا بالمكان]،وواصلنا طريقنا لثلاث ساعات فوق الحقول البرية الخضراء على هضبة من الحجر الجيري "الرخام" تتخلله مفازات من الحجارة الرسوبية الرملية حتى وصلنا وادي القصب، وهو مكان جدول راكد نمى على جانبيه القصب. وكان رسام وحجي علي قد تخلفا عنا فتركت الجماعة واتجهت الى الجدول قد اجد فيه شيئا ما لأني اعرف ان مثل هذه الأماكن المهجورة تكون الجداول مخابيء ملائمة للحيوانات وتوفر فرص صيد جيدة. ولم امض بعيدا في سيري عندما اثار وجودي انثى خنزير اتجهت نحوي بدلا من الهرب مما جعل الحصان يقف على قائمتيه الخلفيتين بخوف فناديت بتصفيرة الصيد لأجلب انتباه متفورد ولايرد على بعد قرابة نصف ميل مني واطلقت رصاصة من مسدسي في وجه مهاجمتي كثة الشعر مما جعلها تغير اتجاهها..وسرعان ماوصل أصدقائي فنزلت عن الحصان الذي تناول اصدقائي مقوده، وجريت في الدغل، ولم يكن لدي ادنى شك ومن غضب الخنزيرة بوجود خنانيص،ومع وصولي حافة الماء، كان آخر الخنانيص قد دخل المجرى الذي لم يكن عميقا على اية حال فطاردته وامسكت به من خاصرته بينما كان يريد الصعود على الضفة الأخرى للجدول، وجلبته جائزة قذرة ولكنها ثمينة..فبدأت ومعي السيد ميتفورد [لأن لايرد أراد توفير طاقة حصانه الذي لم يكن جيدا للرحلة] بمطاردة بقية الخنازير..ومع خبب خيولنا بمحاذاة الجدول اثرنا عددا من الخنازيرالتي جاءت في اثر الخنزيرة وخنانيصها، ونجحنا بطردها من منخفض الجدول الى الحقل المفتوح وتمكن كل منا من الإمساك بخنزير..فأصبح لدينا ثلاثة..ولما {اينا أن أثنين فقط يكفيان لطعامنا تركنا الثالث يهرب باتجاه الجدول..وعندما رجعنا راينا حجي علي وقد عاد وبيده ارنبا بريا كان قد صاده، وبذلك نكون قد تجهزنا على نحو جيد لإمضاء الليل في الصحراء..فغادرنا هذا الوادي واتجهنا صوب دجلة الى الجنوب ببضعة اميال من قبر السلطان عبد الله [وتوجد قرية بالإسم نفسه] حيث ابعد نقطة وصلتها الفرات عام 1839، وبعد عبورنا جدولا وافرا ملأت مياهه الهواء برائحة حامض الهيدروكبريت، وصلنا مكانا مستويا تحيطه صخور جيرية يتدفق فيه عدد لايحصى من عيون الزفت او القير تنضح به الأرض من خلال عيون دائرية صغيرة تتراوح اقطارها بين ستة وسبعة انجات معظمها مدفون او تحيط به طبقة من القير المتجمد وتغطي هذه العيون مساحة من الأرض طولها 500 ياردة وعرضها 100 ياردة.وإلى الغرب منها تلال واطئة يطلق عليها القيارة..ووجدنا على مسافة غير بعيدة من هذه الحفر عيون أخرى تنضح بكميات مماثلة من القير..وهذه هي الحالة الوحيدة التي رايت فيها قيرا نقيا ينبع من الرض في غربي آسيا بافضافة الى عيون قير هيت ودالاقي في بلاد فارس وكذلك في حمام علي..وتقع عيون القير على دجلة بالقرب من النهاية الجنوبية لتكوينات الصخر الجيري [المرمر] تتلوها الصخور الرسوبية [الرملية]..
كان المساء يقترب بسرعة..وكانت قطعان الخنازير البرية تسرح في الحاوي بينما مر ذئب على سفح التل وآخر قابلناه في الطريق..وعندما اقتربنا من اجمة وفي نيتنا المبيت الى جوارها، أجفلنا عددا من طيور الدراج الجميلة التي تنتشر في العراق والمناطق العربية الأخرى فطارت في اتجاهات مختلفة..بينما نأت قطعان الخنازير بنفسها ثم استدارت لتتظر الى الغرباء في مناطقهم..وعندما اقتربنا من النهر، وجدنا الضفاف عالية عن مستوى مجرى الماء بحيث لم نتمكن من سقي خيولنا، ولم نقدر ان نبتكر طريقة نقدر بها على سقي الخيول مما اضطرنا على مو

10
رحلة ارنست واليس بوج "بج" الى الموصل في اواخر القرن التاسع عشر



صلاح سليم علي


مقدمة:

لقد كانت الرغبة في زيارة بلاد مابين النهرين ووادي النيل وغيرهما من مهاد الحضارات القديمة في الشرق الأدنى هي الأقوى لدى أعلام الغرب من مبشريين وآثاريين وتجار ومغامرين..مما تمخض عن كم هائل من الكتابات في ادب الرحلة يتميز بوفرة المعلومات وغزارتها وتنوعها وصدقها فيما يتعلق بالشرق الأدنى...وكان تدفق الرحالة متصلا منذ بواكير القرن الثامن عشر..غير أن الرحلات وصلت ذروتها في القرن التاسع عشر..لأسباب أهمها ذيوع انباء اكتشاف المدن الغابرة في وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد الشام في الأوساط الغربية..والتنافس فيما بين الملل المسيحية الغربية  لنشر المسيحية بين المسيحيين المشارقة فضلا عن التوسع الأوربي الأستعماري وتنافس الدول الغربية في الشرق سعيا وراء المصالح الستراتيجية والإقتصادية التي تنامت مع تزايد الإنهيار في السلطة العثمانية و زيادة وتيرة الثورات التحررية في اوربا والشرق ضدها..وجاء السبق الفرنسي في فتح قناة السويس محفزا قويا للسياسيين البريطانيين في التحرك صوب الشرق بطريق البحث عن ممرات اخرى غير قناة السويس ..فارسلوا بعثة استكشاف دجلة والفرات على خطى زينوفون بقيادة الجنرال [فرانسيس راودون شيسني]، ونشطوا في تاسيس السفارات والقنصليات في الولايات العثمانية، وتضافرت جهود الكنيسة الإنكليزية والمتحف البريطاني ووزارة الخارجية في وضع الخطط وتحديد الأهداف وتخصيص الأموال لتغطية رحلات مزدوجة ومتعددة الأغراض..كأن تكون دينية [تبشيرية] وآثارية [تنقيبية]  يضاف اليها الهدف الدبلوماسي والسياسي والمعلوماتي فضلا عن الهدف العلمي المعرفي والأهداف الإنسانية ..وعلى الرغم من التعارض الحاد بين الهدفين السياسي والتبشيري، فقد تمكن التبشيريون من توجيه انتباه الجهات الغربية الى معاناة النصارى والإيزيدية والمذابح التي راحوا ضحيتها بسبب طموحات الأكراد والباشوات العثمانيين ومعهما السلطة العثمانية في اسطنبول التي متنت الذراع الضاربة لولاتها في المناطق الاشورية ومعهم أغوات الكرد لضرب النصارى المسالمين في موطنهم التاريخي طمعا باراضيهم وممتلكاتهم، كما ساعدت البعثات التبشيرية بنشر الثقافة والتعليم من خلال تاسيس المدارس والمطابع واخيرا الإسهام في تدوين التاريخ الحديث للموصل والأراضي الاشورية التاريخية الممتدة من عمق جبال زاكروس وحتى منابع دجلة والفرات والخليج العربي بما يشمل منطقة الشرق الأدنى باسره..وهي اراض اختلب معظمها من الآشوريين الذين تركزوا في قلبها في شمالي العراق والأناضول وغربي ايران ومنطقة الخابور وسهل نينوى على العهود الأخيرة..وعلى الرغم من التقلص الهائل للأراضي الآشورية، ظهر من ينافسهم عليها من ألأقوام الآسيوية المتبدية من الرعاة والمرتزقة  ألألتواوراليين والزاكروسيين ممن لا حظ لهم بتاريخ مدني او تراث فني او حضارة تاريخية...وما أخذوا من ذلك جاء بطريق محاكاة التمدن الرافدي أو سرقة مظاهر هذا التمدن عبر التاريخ...كما اهتم عدد من التبشيريين بمعالجة الأمراض ومقارعة الأوبئة المنتشرة في الموصل وأطرافها كالدكتور كرانت الذي لاقى حتفه في الموصل من جراء اصابته بالعدوى..ومن الرحالة آثاريين متخصصين ودبلوماسيين كبوتا الذي عمل طبيبا لمحمد علي باشا قبل انتقاله قنصلا لفرنسا في الموصل وشروعه في التنقيبات في نينوى ومدينة سرجون..التي يطلق عليها على سبيل الخطأ اسم [خرسباد]..والعلماء كوليم فرانسيس أينزورث عالم النباتات والأحياء الذي زار العراق مرتين الأولى ضمن فريق استقصاء الفرات ودجلة بصحبة  الجنرال والمستكشف البريطاني فرانسيس راودون شيسني. والأخرى بمفرده حيث ألتقى برسام ولايرد وميتفورد وقام معهم برحلة فريدة الى حمام العليل والحضر..

وتتميز كتابات التبشيريين والآثاريين بالحيادية وعدم التحيز وذلك بحكم أخلاقيات تنشأتهم في بيئات تعد التحيز والكذب من اسوء الرذائل ولأن لاصلة لهم أو مصلحة في أراض غريبة ومع أقوام اجنبية تحكمهم مصالح وعلاقات قوة لاناقة لهم فيها ولا جمل..فهم يقفون على مسافة واحدة من الأكراد والعثمانيين والعرب ومن ألأيزيدية والمسلمين..وتركزت اهتماماتهم بمحاولة نشر مذاهبهم وإن كان ثمة تنافس لينشأ بينهم فقد كان تنافسا أدبيا أو بالأمتناع عن مشاركة في مناسبة او حضور مراسيم جنازة كما حدث بين البروتستانت واللاتين..وكانت رحلة  ارنست واليس بوج "بج" الى العراق بهدف تحقيق عدد من المهام المرتبطة بمصالح المتحف البريطاني ومواصلة الجهد الآثاري والتنقيبي للرواد الأوائل كلايرد وجورج سميث وأقرانهما..فقد اغرق المهربون السوق البريطانية باللقى والرقم الطينية مما أضطر المتحف البريطاني الى شرائها بأسعار باهضة وبدون معرفة بمنشا تلك اللقى والرقم ..اي بسياق اكتشافها في مواقعها الصلية مما يتسبب بجهد غضافي ويفقد تلك الرقم واللقى معلومات مهمة تتعلق بمهاداتها ولاسيما أزاء اتساع رقعة الأمبراطوريات العراقية القديمة..فكانت مهمة بج التوغل في الأسواق المحلية في مدن العراق لإكتشاف مصادر تسرب الآثار..والتعامل مع المهربين وتجار الاثار بصورة مباشرة وايجاد سبل للتصال معهم بحيث يمكن شراء القطع الأثرية ومنها الرقم باسعار محلية زهيدة قبل تهريبها الى الخارج..ثم استحصال موافقة من السلطات العثمانية في اسطنبول لأجراء التنقيبات في المواقع الأثرية بحثا عن المتبقى من تلك الرقم في المواقع الأثرية عينها وجلبها الى المتحف البريطاني..كما أنيطت به مهمة شراء المخطوطات من البردي ورق الغزال والورق المتوفرة في الجوامع والكنائس و المكتبات الشخصية  والمعروضة للبيع في اسواق مصر والعراق وجلبها الى المتحف البريطاني..وبذلك يوفر على المتحف جهودا تنقيبية واستقصائية هائلة ومايصحب ذلك من أموال..وهكذا اوفد بج الى مصر ومنها الى العراق لخمس سنوات للفترة (1886-1891)..لإنجاز المهام الموكلة اليه ..وتمخضت رحلته الى مصر والعراق عن كتابه [على ضفتي النيل ودجلة] الذي ضمنه وصفه التفصيلي للموصل في أواخر القرن التاسع عشر..وقد حمل بج الى المتحف البريطاني عند عودته الى لندن مجموعة هائلة من المخطوطات المكتوبة على الرق والبردي والورق ومعها عدد كبير من الرقم الطينية النادرة وتضمنت مخطوطات سريانية وقبطية ويونانية وهيروغليفية اهمها بردية آني [كتاب الأموات] الذي عثر عليه في طيبة ونسخة ارسطو لدستور ىثينا المفقود ورقم تل العمارنة وبذلك قدم بج للمتحف البريطاني افضل مجموعة في العالم للنصوص القديمة التي توثق لتاريخ الشرق الأدنى..وقد عقب على ذلك الاثاري المتخصص بالاشوريات الدكتور اركيبالد سايس شخصيل لبج عام 1900 بقوله: "اية ثورة احدثتها في قسم الشرقيات في المتحف..لدينا الان تاريخ فعلي للحضارة في مصفوفة مواضيع متسلسلة"..."

ارنست واليس بوج "بج" حياته وسيرته:

ولد الأنكليزي السير ارنست الفرد ثومبسون واليس بج المستشرق واللساني والكاتب المتخصص بالمصريات والاشوريات وفي دراسات الشرق الأدنى عموما عام 1857 في بودمين في كورنوول [انكلترة] من امرأة تعمل في فندق واب لم تحدد هويته ابدا ..وابدى منذ العاشرة من عمره رغبة قوية في دراسة اللغات وذلك عندما انتقل للمعيشة مع جدته وعمته في لندن  فباشر في دراسة اللغتين السريانية والعبرية عندما بلغ الثانية عشرة بمساعدة شخص متطوع عمل معه في شركة خاصة في لندن. وفي عام 1872 درج على الذهاب الى المتحف البريطاني حيث ابدى رغبة بتعلم اللغة الاشورية وساعده معلمه السابق في التعرف على أمين قسم المتحوفات الشرقية في المتحف عالم المصريات الرائد صموئيل بيرج وكذلك عالم الاشوريات جورج سميث الذي ساعده عند توفر الوقت في تعلم اللغة الاشورية  بينما اتاح له بيرج دراسة الرقم المسمارية في مكتبه والحصول على كتب تخص الرحلة الى الشرق الأوسط ككتاب هنري لايرد [نينوى وأوابدها] من مكتبة المتحف  لقرائته..وكان بج يدرس اللغة الآشورية في كاتدرائية القديس بولس كلما سنحت له الفرصة فتعرف على عازف الأرغن في الكنيسة جون ستينر الذي تطوع لمساعدة الشاب بج بتحقيق أحلامه فخاطب صاحب الشركة التي يعمل فيها وهو عضو محافظ في البرلمان ورئيس الوزراء الليبرالي الأسبق وليم كلادستون وطلب منهما المساعدة المالية لدعم بج في دراسة اللغات السامية في جامعة كامبردج وحصل على الدعم المطلوب فتمكن واليس بج من تعلم اللغات العربية والعبرية والسريانية والأثيوبية للفترة بين عامي 1883-1878 فيما واصل دروسه الخاصة في تعلم اللغة الاشورية وكان يعمل بمثابرة مع استاذ اللغات الشرقية وليم رايت [مؤلف كتاب قواعد اللغة العربية الذي مازال قيد الأستعمال كواحد من افضل مراجع القواعد العربية باللغة الإنكليزية]..عمل واليس بج في القسم الآشوري في المتحف البريطاني لينتقل منه الى القسم المصري حيث بدأ بتعلم اللغة الهيروغليفية مع رئيس القسم بيتر لابيج رينولف حتى تقاعد الأخير عام 1891 في اثناء زيارة واليس بج لبلاد مابين النهرين.وقد عين واليس بج  مساعدا للأمين العام  للقسم المصري في المتحف البريطاني منذ عام 1891 وحتى عام 1924..في وقت يعد اكتساب الاثار والمخطوطات الشرقية وحفظها بالمتاحف مسالة شرف قومي بالنسبة للأمم الأوربية مما دفع العديد من موظفي المتاحف الأوربية وعملاء آخرين الى تهريب الآثار الشرقية بطريق الحقائب الدبلوماسية..ومنهم من عمل على إرشاء الموظفين في الكمارك اولجأ الى اصدقاء ومعارف  في إدارة الآثار المصرية للتوسط لديهم في تمرير حقائبهم في نقاط التفتيش في الكمارك بدون فتحها وكان واليس بج  مخولا ومعه الحارس على بوابة المتحف البريطاني في إطعام قط المتحف البريطاني الشهير [مايك] الذي ساعد في حراسة البوابة الرئيسة للمتحف من عام 1909 وحتى عام 1929 ..وكان واليس بج قد كتب عنه مقالا ثم تأبينا عند موته نشر في صحيفة [الأيفنينغ ستاندردز] اللندنية..

وكان واليس بج كاتبا غزيرا فقد الف كتبا كثيرة عن الحضارة المصرية القديمة كما ألفَ معاجم باللغتين العربية والهيروغليفية..ويرى ان ديانة أوزيريس ألأنبعاثية نشأت من جذور افريقية سودانية وذلك بما يتنافر مع الأفتراض القائل ان ديانة اوزيريس متطورة عن معتقدات امة قفقاسية غزت مصر[ في إشارة للغزاة من البحرفي العصر البرونزي]..ويشمل قراء واليس بج المثقفين والبحاثة عن معلوات اثنية مقارنة كجيمس فريزر الذي ضمن معلومات من بج في كتابه الشهير [الغصن الذهبي]..وكان واليس بج يؤمن بوجود الأرواح وبالجن والشياطين وبأمكانية وجودهم في العالم وأن اماكن كثيرة مسكونة بهم مما دعى العديد من اعضاء [نادي ألأرواح] في لندن الى عقد صداقة متينة معه..ونادي الأشباح أو الأرواح في لندن مكرس لدراسة الأديان البديلة والظواهر الروحية ..فكان العديد من اعضاء هذا النادي وممن فقدوا اعتقادهم بالمسيحية ينهمكون في دراسة مؤلفاته وبخاصة ترجمته ل[كتاب الأموات] المصري الذي يعد مرجعا مهما لشعراء وكتاب من طراز [وليم بتلر ييتس] و[جيمس جويس]..ومابرحت كتبه تصدر في طبعات جديدة حية منذ ظهورها لأول مرة في المكتبات..كما كان واليس بج، على الرغم من عدم انتسابه للطبقات الموسرة، عضوا في نادي سافيل وضيفا مرحبا به في الدوائر الأدبية والأرستقراطية في لندن..

وقد نال واليس بج لقب سير عام 1920 لأسهاماته المتميزة لعلوم المصريات وخدماته للمتحف البريطاني..وفي السنة نفسها نشر كتابه السيري الكبير [على ضفتي النيل ودجلة]..وتقاعد من منصبه في المتحف البريطاني عام 1924 ليكرس وقته في طباعة مؤلفاته وكان آخر كتاب له هو [من الطوطم الى الإله في مصر القديمة] عام 1934ن وهي سنة وفاته ..وكان قد طلب في وصيته تأسيس زمالة بأسم زوجته هي زمالة السيدة واليس بج للبحوث التاريخية تخصص للشباب وكذلك بعثات مماثلة في جامعتي كامبردج وأوكسفورد لدعم المتخصصين في الدراسات المصرية في بداية حياتهم العملية..ومابرحت هه الزمالات قائمة حتى الوقت الحاضر..




مختارات من مؤلفاته:

كتب واليس بج العديد من الكتب [كالمقيمين على نهر النيل] عام 1885، وهو كتاب يتناول حياة المصريين وأدبهم وتاريخهم وعاداتهم في العهود القديمة، ونشر [شهادة القديس جورج الكابادوكي ومعجزاته] في نصها القبطي عام 1888، ومؤلف يتناول [تعليم اللغة الهيروغليفية] مع قائمة بالرموز الهيروغليفيةعام 1889، وكتاب [الحياة البابلية والتاريخ البابلي] عام 1894، وكتاب [الحكام] ويتناول التاريخ الكنسي لتوماس قس مارغا، في مجلدين، وقد حققه وقدم له عن اللغة السريانية من مخطوطات محفوظة في مكتبة  المتحف البريطاني ومكتبات أخرى، كتاب [المومياء] عام 1989 ( وهو غير كتاب ثيوفيل كوتير بالعنوان نفسه)، ويتنال هذا الكتاب آركيولوجيا الجنائز المصرية، وترجم [كتاب الموتى] عن بردية آني المحفوظة في المتحف البريطاني وتعد ترجمته هذه الرائدة لاقدم مخطوطة على البردي عثر عليها بنفسه في طيبة المصرية (ممفيس) عام 1895، فكتاب [خطوات تمهيدية لتعلم اللغة المصرية للمبتدئين] عام 1896، [الحكايات المضحكة التي جمعها المار جريجوري جون بار هيبرايوس]، ويتناول نوادر ألقس والمفريان والمؤرخ السرياني الشهير ابو الفرج هارون الملطي  المعروف عربيا بأبن العبري الذي يوجد رفاته حاليا في دير مار متي للسريان الأرثوذكس القريب من الموصل، ثم نشرالكتب [حول مصر وكالديا] عام 1899، [السحر المصري] 1900، [الديانة المصرية] عام 1902،وكتاب [ تاريخ مصر منذ نهاية العصر الحجري الحديث وحتى موت كليوباترة عام 30 ق.م.]، وكتاب [مصر وأمبراطوريتها الآسيوية] 1904،  فكتاب [آلهة المصريين] او [دراسات في الأساطير المصرية] بمجلدين صدرا عام 1904،وكتاب [الفردوس] عام 1904 ويتضمن تواريخ واقوال قساوسة الصحراء ومتصوفيها ويقع بمجلدين،فكتاب [الجنة والنار عند المصريين القدماء] ويقع بثلاثة مجلدات عام 1905، وكتب عن [السودان المصرية: تاريخها وصروحها] عام  1907،و [ نهر النيل: ملاحظات للرحالة الى مصر] عام 1908، وكتاب [ملوك مصر من السلالة الأولى وحتى السلالة التاسعة عشرة ومن السلالة عشرين وحتى السلالة ثلاثين]، عام 1908، فكتاب [أوزيريس والأنبعاث المصري] وهو كتاب مزود بصور من البرديات والصروح المصرية  يقع  بمجلدين، عام 1912، [أساطير الآلهة] ويتضمن أسطورة دمار الجنس البشري، اصدره عام 1913، [قاموس الهيروغليفية المصرية مع فهرست باللغة الأنكليزية وقائمة باسماء الملوك والأماكن واخرى برموز اللغة الهيروغليفية وقائمتين بالحروف القبطية والعربية]،عام  1922، فكتاب [ملكة سبأ وابنها الوحيد منيليك] ويتناول اصول اليهودية في اثيوبيا، 1928، وأصدر في مجال التداوي بالعشاب [الأصول الإلهية لطب الأعشاب]، 1928وكتاب [النحلة]، ف [تاريخ اثيوبيا والنوبة والحبشة] 1929،ثم [حجر رشيد في المتحف البريطاني مع ترجمة انكليزية للنص الثلاثي] ،1929، وكتاب صغير عنونه:[القط مايك الذي ساهم في حراسة البوابة الرئيسة للمتحف من عام 1909 وحتى عام 1929]، وأخيرا [تاريخ أبو الفرج هارون الملطي]،..وهو تاريخ ابن العبري المعروف، ترجمه واليس بج عن السريانية بمجلدين عام 1932 واعيدت طباعته في هولندة عام 1976، وقد قام كاتب هذا المقال بالبحث عن هذه الترجمة في مكتبات امستردام ولاهاي ولايدن فلم يوفق بالعثور على نسخة منها!

اما الكتاب الذي تضمن رحلته الى لموصل ووصفه لها فهوكتابه [على ضفتي النيل ودجلة بين عامي 1886- 1913] ..ويقع بمجلدين يتناول في الأول مصر وفي الثاني العراق..وفيما يأتي ترجمتي لرحلته الموصلية بعد تقديم موجز:

وصل واليس بج الموصل في فترة لاتخلو من الإضطرابات فقد تتابع على ولاية الموصل ثلاث عشرة وال عثماني للفترة بين عامي 1886 و 1913، وهنا لابد من الإشارة الى ان اهتمامات الرحالة واختصاصهم [دراساتهم] غالبا ماتنعكس في كتاباتهم...ولأن واليس بج يعد أكاديميا وآثاريا ولسانيا  إختص بالفيلولوجيا [علم اصول الكلمات] فإن عنايته تتجه الى التاريخ واللغة بالمقام الأول فجاء وصفه لنينوى والموصل في سياق متابعة تاريخية ولسانية فأولى اهتمامه بتسمية الموصل ونينوى ثم عرج على توصيفات تاريخية للمدينة اعتمدها من قراءات سابقة له خلال عمله في المتحف البريطاني قبل ان يبدأ هو بوصفها..فتناول وصف بنيامين التوديلي وابن بطوطة فراوولف فتافينير فضلا عن اشاراته المتكررة الى سابقيه من التبشيريين كباجر والآثاريين كلايرد والمؤرخين كغاي لسترانج وغيرهم ..لذا بدلا من الشروع في الحديث عن الموصل بمتابعة رحلته جغرافيا، نراه يبدا حديثه عن ام الربيعين في تاريخها المبكر فيقول:

( الموصل أو موصل بصفتها مدينة جميلة وكبيرة تكثر فيها الأسواق الجيدة وتنتشر حولها الحدائق الغناء سرعان ما قام العرب بعدما اصبحوا اسيادها بربط جانبيها بواسطة جسر من القوارب يصلها بآثار نينوى في الضفة الشرقية للمدينة مما عجل في إزدهارها..وبيوت الموصل قوية مشيدة من المرمر الرمادي الذي يجلب من محاجر في جبل مقلوب..ويذكر أنها بثلث حجم البصرة. و يعد الجامع الذي بناه مروان الثاني قرابة عام 749 واحدا من افضل المباني في عمارته وزخرفته..أما القلعة القوية المعروفة بالمربعة والتي تقف على مرتفع من الأرض فتوفر الحماية والهيبة للمدينة..فقد وصفها بنيامين التوديلي الذي زار الموصل  عام 1173 بقوله: " تقع هذه المدينة التي ذكرها الكتاب المقدس باسم آشور العظيمة على حدود بلاد فارس وهي ذات مساحة عظيمة وهي ضاربة في القدم .. تقع على نهر دجلة وترتبط بنينوى بواسطة جسر ...وعلى الرغم من ان نينوى خرائب، هنالك العديد من القرى المأهولة ومدينة صغيرة [قرية النبي يونس] في موقعها..وتبعد نينوى فرسخا واحدا عن مدينة أربيل [الآلهة الأربعة] وتحتضن الموصل حسب توديلا قبور الأنبياء أوباديا [عبدالله، عبدي او عبدال] ويونس بن متي وناحوم الألقوشي. وكانت الموصل في ذلك الوقت مسورة بسور عال ويحيطها خندق عميق..اما ضواحيها فمكتظة بالسكان وفيها العديد من الجوامع ودور العبادة والكنائس وتشتهر بمستشفاها..
وقد زار ابن بطوطة الموصل في منتصف القرن الرابع عشر فذكر انها [قديمة وثرية، ويطلق على قلعتها "الحدباء" لأنها مشيدة فوق مرتفع دائري، وهي قلعة حصينة بسبب اسوارها العظيمة المسندة بالأبراج. وهنالك شارع كبير"طويل" عريض يتوسط مباني الحكومة من جهة والمدينة من جهة أخرى ويربط بين الجانب المنخفض والمرتفع من المدينة..ويحمي الموصل سوران سميكان قويان تسندهما ابراج على مسافات متقاربة احدها عن الآخر تشبه ابراج السور في مدينة دلهي في الهند. وتكثر في الموصل الجوامع والحمامات والخانات والأسواق..واعجب ابن بطوطة ، والحديث لواليس بج، السياج [المحجل] الحديدي الئي يحيط بجامع مروان الثاني [الجامع الأموي]، والمصطبات المطلة على النهر..وفي الجامع الذي بناه نور الدين توجد نافورة رخامية مثمنة الأضلاع ترتكز على اعمدة رخامية ويندفع ماء النافورة على ارتفاع يصل طول رجل..اما المارستان او المستشفى  فتقع مقابل هذا الجامع..ولسوق الموصل [القيصرية] بوابات حديدية ودكاكين فوقها غرف تتكرر على الجانبين.. ويقع جامع صغير يحتضن ضريح القديس جورج [النبي جرجيس] بين الجامع الجديد وباب الجسر..ويقدس المسلمون والمسيحيون على حد السواء القديس جورج..وفي الجانب الآخر للنهر ترى تل يونس عليه السلام وتتدفق على مسافة ميل منه عين ماء تستخدم للتداوي من الأمراض يطلق عليها الناس [عين يونس] تذكر الروايات ان النبي يونس دعى اهل نينوى الى الأغتسال بمائها..وانهم عندما اغتسلوا بمائها صعدوا معه الى التل وصلوا معه الى الله فتاب عنهم وغفر لهم خطاياهم..وتوجد فوق التل بناية كبيرة تحتضن غرفا عديدة وقاعة واماكن للوضوء ونافورات ماء والمدخل اليها كلها من باب واحد. وفي وسط هذه البناية غرفة مستورة بستارة من الحرير ويدخل اليها من باب تزينه الحجارة الكريمة..ويقال ان [النبي] يونس كان يقيم في هذا المكان، وأن محراب الضريح الموجود في تلك البناية [الجامع] كان المكان الذي يصلي فيه النبي يونس..وبالقرب من تل يونس قرية كبيرة على مقربة منها خرائب يقال انها موقع مدينة نينوى [لعله يقصد التل شمالي النبي يونس والذي اصبح مقبرة فيما بعد] أي مدينة [النبي] يونس عليه السلام..ومن الممكن رؤية بقايا السور الذي كان يحيط بالمدينة وكذلك اماكن البوابات في السور بوضوح..ويسمي [المقدسي] الذي كتب في النصف الثاني من القرن العاشر تل يونس [تل التوبة]..وقال ان عين يونس تبعد نصف فرسخ عن التل..ويقع عندها جامع وشجرة يقطين..ومن الجدير بالملاحظة ان أبن بطوطة لم يلاحظ آثار الدمار الذي الحقه جنكيزخان [المغول] في المدينة عندما غزاها عام 1256 الموافق لعام 654 للهجرة..حيث قتل مابين سبعماائة وثمانمائة ألف من سكانها..كما اصاب الموصل وبال كبير على يد تيمورلنك عام 1393 الموافق لعام 796 للهجرة الذي تعمد تخريبها..وسقطت المدينة تحت النفوذ الفارسي في السنوات الأول من القرن السادس عشر ليستولي عليها الترك عام 1516 على عهد سليم ..ومنذ ذلك العهد انحطت اهمية المدينة وتجارتها الى الحضيض)..

ويقينا فإن المحتل الأجنبي لاتهمه تجارة او عمارة لأن همه النهب والتخريب ...ووصف واليس بج لحال الموصل يطابق حوادث التاريخ تماما..فهو متابع حريص للروايات كلها في مصادرها الشرقية والغربية ...ويواصل حديثه عن الموصل..ولكن على لسان الطبيب وعالم النبات والرحالة الألماني [ليونارد راولف] 1535- 1596 ..فيخبرنا في هذا الصدد:

(وفي عصر راولف [المتوفى عام 1596] كانت الموصل مازالت تحافظ على أهميتها إذ يخبرنا
" وذهبنا الى المدينة الشهيرة الموصل...وعبرنا اليها بواسطة جسر من القوارب..ويحكمها الأمبراطور التركي كما هو الحال في الأراضي في تلك الأنحاء..ويوجد في المدينة مبان غاية في الجودة وفيها شوارع وهي مدينة كبيرة ولكنها رديئة بمجاريها واسوارها كما شاهدت من سطوح محل اقامتي.. كما رأيت خارج المدينة تلا صغيرا مخدد بمغائر كثيرة  يسكنها الفقراء كنت اراهم يدخلون فيها ويخرجون منها كالنمل حول تلة نمل..في هذا المكان وأطرافه تقع المدينة القوية نينوى [التي بناها آشور] وهي عاصمة بلاد آشورفي أثناء حكم الملكية الأولى في زمن سنحاريب وأولاده..وتبلغ في طولها [طول سورها] رحلة ثلاثة أيام")

نلاحظ من هذا النص أن راولف يصف تلقوينجق ولكن في ضوء معرفته او قرائته لنص في التوراة يذكر أن مسافة السور المحيط بنينوى تستغرق رحلة ثلاثة أيام..وهذا لمن يعرف نينوى مبالغ فيه كثيرا إذ تكفي ثلاث ساعات  للسير حول سور نينوى بدءا من من بوابة نركال او بوابة آشور المقابلة لحي الوحدة في الوقت الحاضروانتهاءا بهما..ولكن وصف راولف لجسر القوارب يؤكد ان العرب وليس الترك هم من أقام ذلك الجسر..فقد زار الموصل قبل أكثر من مئة سنة من تولي حسين باشا الجليلي إدارتها..

ثم يتطرق واليس بج الى حال الموصل في منتصف القرن السابع عشر وقبل عدوان نادر شاه على المدينة وذلك على لسان رحالة آخر هو تاجر الألماس الفرنسي جان بابتيستا تافرنير1605-1689 ...الذي يقول عنه واليس بج:
( وفي رأي تافرنير فإن الموصل لاتستحق الزيارة وعندما وصلها كانت قد فقدت معظم اهميتها فقد ورد في وصفه لها "الموصل تبدو من مشارفها عظيمة فأسوارها مشيدة من الحجارة المهندمة المرصوفة بإتساق، ولكن من الداخل كل شيء فيها خرائب..فهناك سوقين لاتعرف لهما نظاما ولا درب اليهما وفيها قلعة صغيرة تشرف على دجلة حيث يقيم الباشا..وباختصار لايوجد في الموصل مايستحق النظر..ويعد هذا المكان مهما بسبب العدد الكبير من التجار وبخاصة العرب والأكراد ممن يقيمون في بلاد آشور العظيمة..حيث ينمو الجوز والبندق والعفص وماالى ذلك مما  يسند تجارة كبيرة..وهناك في الموصل أربع طوائف مسيحية الأرثودوكس والأرمن والنسطوريين والمارونيين..وللكابوجيين [اللاتين] مسكن جميل يقع على نهر دجلة..,لكن الباشا [قبل الجليليين] وضع غرامة عليهم لأنهم يرغبون بتوسيعه..مما اضطرهم على مغادرته. ويحكم الموصل باشا تحت امرته انكشارية وسباهية يشكلون قرابة 3000 رجل..ويوجد في الموصل حانتين [مقهائين] منفرتين ..ولكن لنعبر دجلة فوق جسر من القوارب لرؤية الخرائب البائسة لمدينة أحدثت ضجة هائلة في العالم على الرغم من عدم وجود اية شواهد على عظمتها القديمة..فنينوى شيدت على الجانب الأيسر لدجلة في طرف بلاد آشور حيث نراها الآن مجرد كومة من الزبالة تمتد قرابة ليك [قرابة ستة أمتار] بموازاة النهر..وهناك الكثير من المرابط والخانات غير المأهولة ولا يعرف أحد ان كانت تلك مساكن سابقة هجرها اهلها او ان كانت هناك بيوت اقيمت في محلها في ازمنة سابقة لأن معظم البيوت في تركيا تشبه الأقبية او من طابق واحد..وعلى مسافة نصف ليك [ قرابة 3 كم] من دجلة هنالك تل صغير تحيط به البيوت في قمته جامع يقول سكان البلد انه المكان الذي دفن فيه يونس..ويقدس الجميع ذلك المكان تقديسا عظيما ولكن لايسمح لمسيحي ان يدخله بدون مال وبسرية..وقد تمكنت بتلك الوسيلة من  الدخول بصحبة قسيسين كبوجيين ولكن ترتب علينا ان نخلع احذيتنا اولا. فرأينا في وسط الجامع ضريحا تغطيه السجاجيد التركية الحريرية الموشاة بالفضة ..وعند الزوايا الأربعة للضريح شمعدانات نحاسية كبيرة تتوسطها قضبان من الشمع وغلى جانبها قناديل [فوانيس] عديدة وبيضات نعام زجاجية [زينية] مدلاة من السقف..وشاهدنا عددا كبيرا من البسط للصلاة في الداخل والخارج وفي وسطها يجلس درويشان يقرءان القرآن")...ويبدو ان تافرنير كان محظوظا في دخوله لجامع النبي يونس ورؤيته للضريح لأن واليس بج لم يتمكن فيما يخبرنا من دخوله:

(على الرغم من كل المحاولات التي قمت بها للدخول الى جامع النبي يونس لم اتمكن من دخوله الذي بدا في حكم المستحيل..فالحرس والقائمين على الجامع المنتشرين في كل زاوية ومكان فيه كانوا يراقبونني بإهتمام غير عادي لأنهم يعلمون بإني كنت اجمع اللقى الأثرية والمخطوطات السريانية والعربية القديمة.. ويبدو انهم كانوا يخشون أن اقوم باقتلاع البناية بأكملها واخذها الى لندن..وكان  الوالي قد ابلغني انهم لايسمحوا لأي مسيحي بدخول الجامع، وبأنه يأمل الا احاول دخوله خوفا من قيام الملالي بتقديم شكاوي ضده في اسطنبول ان انا نجحت في دخول الجامع..ومما اقدر ان اشاهده من الخارج فان اقسام قليلة جدا فيه تبدو اقدم من القرن السادس عشر او السابع عشر، بيد أن اقساما في داخله لابد ان تكون قديمة تعود لبضعة قرون خلت..وفيما ذكر لايرد ان ضريح [النبي] يونس يقع في غرفة داخلية معتمة..وان قبره المعمول من الخشب او الجص يقع في وسط تلك الغرفة على بساط عادي اوربي الصنع وهو مغطى بقطعة قماش خضراء مزخرفة بآيات قرآنية..وأن هناك شرابات [شراشيب "كراكيش"] وبيضات نعام زجاجية كالتي تزين معظم العتبات والأضرحة العربية معلقة من السقف [وبالنسبة لبيضات النعام الزجاجية فمثبتة على الأركان الأربعة لضريح النبي يونس]، وهناك درج يفضي الى الغرفة المقدسة [الضريح]. لكن السيدة باجر[ماتيلدا زوجة وكيل القنصل البريطاني كريستيان رسام] التي تمكنت بتأثير الباشا من الدخول الى ضريح النبي يونس قبل لايرد بعشر سنوات تقدم وصفا مختلفا بعض الشيء إذ تقول بانها " مرت بفناء واسع عبر ممر مريح ومفتوح لتنزل الى الجامع ..وهو بناية مربعة تضيئها نوافذ عديدة بعضها ملون الزجاج..والنهاية الشرقية مفصولة من الممر الرئيسي بسلسلة من الأقواس بديعة التصميم لعلها كانت جزءا من الكنيسة القديمة المكرسة ليونس.  ويقف المنبر في النهاية الجنوبية [بأتجاه القبلة] اما الأرضية فتغطيها البسط الثمينة..وهناك ممر مغلق الأبواب طوله حوالي 30 قدم يقود الى غرفة مربعة معقودة السقف يتوسطها على ارتفاع مايقارب خمسة اقدام ضريح طوله عشرة اقدام وعرضه خمسة..وفي نهايته الجنوبية [جهة الرأس] عمامة كبيرة من الحرير الثمين والى جانبها وشاحات وتغطي الضريح اقمشة زاهية.. ويحيط هذا الضريح درابزين مثبت بمقابض فضية وقد علقت عليها المناشف المطرزة وما شاكلها مما يستخدم في الإستحمام [دواشم]..وجدران الغرفة تزينها المرايا والقرميد الملون بزخارف من آيات القرآن..وفي احدى زوايا غرفة الضريح ابريق ذهبي وقطعة صابون فرنسية ومشط ومقص لأستعمال النبي يونس الذي يخرج من قبره في أوقات الصلاة كل يوم فيتوضأ وفق طقوس الشرع افسلامي الصارمة..وقليل من المؤمنين يقتربون من القبر لأنه يعد من أكثر الأماكن قدسية..ويكتفي العديد بالنظر اليه من خلال النافذة المشبكة في الجامع..ولا يقبل سكان قرية النبي يونس وأهل الموصل من حوله اي تدخل في الجامع او في الضريح او المقبرة..ولذلك فإن خرائب قصور سنحاريب وأسرحدون الدفينة تحته لم ينقب عنها أبدا")

يبدو من وصف السيدة متيلدا [شقيقة باجر وزوجة كريستيان رسام] أن وضع مستلزمات الإستحمام والحلاقة تعكس عقيدة الناس بأن النبي يونس كان مايزال على قيد الحياة تماما كالخضر وإلياس ولعل ادوات الحلاقة المشط والمقص قد أعدت لأحد الأولياء ممن يكلف بحلاقة النبي يونس كان يكون إلياس أو الخضر أو أبن قضيب البان أو غيرهم..ويفسر وجود التكية النقشبندية  القديمة [الخربة حاليا] بالقرب من الجامع تعلق المشايخ من المتصوفة القادرية بالنبي يونس والبعد الإستسرائي الذي خلعوه عليه اسوة بالخضر والسيد أحمد البدوي والشيخ عبد القادر الكيلاني وغيرهم..ونعود الى واليس بج الذي يتشكك بوجود النبي يونس في الضريح المذكور:

(ويبدو ان دلبلا لايوجد على ان النبي يونس قد دفن في نينوى..ولكن العديد من اليهود يتفقون مع  رأي بنيامين توديللا القائل ان أرض آشور تحتضن رفات الأنبياء عباديا ويونس وناحوم ويحترمون العرف السائد بخصوص مدفن النبي يونس في ضريحه الكائن في نينوى..لكن المسيحيين لايقرون بهذه الآراء ويعتقدون بأن النبي يونس مدفون في فلسطين..ولكن ليس لديهم مايؤيد مايذهبون اليه، مع ذلك فإن من الواضح ان التل المعروف يرتبط لسبب أو آخر بالنبي يونس..ويرجح أن كنيسة كانت مشيدة فوق التل في القرون الأولى لأنتشار المسيحية..وعندما أستولى العرب على قلعة نينوى [قوينجق] والموصل في حوالي عام 640، واصل أتباع النبي احترام الكنيسة ومايحيط بها من روايات بطريق بناء جامع يحمل أسم النبي يونس. وسواء أكان الأمر كذلك أم ليس كذلك، فإن تل النبي يونس أكتسب شهرة واسعة كمكان في اقصى اولويات التقديس لقرون..وكان عدد كبير من العرب والأكراد والفرس يتجشم عناء المسافات في حمل موتاهم من اماكن بعيدة وجلبها الى الموصل لتدفنليس في التل نفسه فحسب بل في المقابر المحيطة بالتل..

ونلاحظ ان أحدا من ولاة الموصل او بغداد لم ينجح البتة في تجاوز الرأي العام المناهض بشدة لأية تنقيبات في التل..كما لم يتمكن أي من السفراء الأوربيين من إقناع الباب [السلطة العثمانية] للموافقة على إجراء تنقيبات فيه..غير ان القرويين في النبي يونس [قرية النبي يونس] تمكنوا من التنقيب سرا في اماكن محدودة صغيرة في التل خلال المائة والعشرين سنة الأخيرة..وليس بهدف البحث عن الآثار بقدر البحث عن المنحوتات الرخامية التي تكسر وتحرق لصناعة النورة وبالتالي الملاط الذي يستخدم في ترميم الجامع وبيوتهم)..

ونستخلص من حديث واليس بج عن الجامع ان مأساة آثارية تحدث فيه وحوله منذ قرون..فبالإضافة الى تدمير وحرق القرويين والبنائين للمنحوتات الجدارية النادرة والثمينة ومعها مادون عليها من تاريخ وحوادث، مازالت المنحوتات الدفينة المتبقية عرضة للتلف بسبب المجاري التي تتوغل مياهها الثقيلة في موقع التل وتتلفها...وكانت تغطية الموقع بالحجارة لحمايته مانعا آخر لإجراء تنقيبات تحت الجامع وحوله وفي التل الشمالي الذي تحول الى مقبرة ...وعبر الشارع بين مصطبة قصر اسرحدون والأراضي المتروكة أمام مدرسة المتميزين حاليا...ثم وعلى ذكر المآسي الآثارية ينقلنا واليس بج الى المآسي التاريخية فيحدثنا عن غزوة نادر شاه لينتقل منها الى الويلات التي حلت بالموصل قبل انتقاله الى وصفها:

(تعرضت الموصل سنة 1743 لقصف نادر شاه على مدى احدى واربعين يوما وساعد نشوب عصيان في بلاد فارس اضطر نادر شاه على العودة الى بلاده على انقاذ المدينة من الاحتلال والتخريب..والمر العجيب ان المدينة لم تتاثر كثيرا على الرغم من سقوط 40.000 قذيفة مدفع عليها..فقد تصرف الباشا وسكان المدينة بشجاعة عظيمة وكانوا كلما يتهدم جدار بفعل القصف يسارعون بأعادة بنائ..ويقال ان نادر شاه نصب مدافعه في تلقوينجق وبدأ بقصف الطرف الشمالي من المدينة وهي منطقة كانت خالية من البيوت تماما..ويتضح المنظر العام للمدينة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر من خارطة نشرها كارستن نيبور حيث كان جانبا من الأسوار في حال خربة وكذلك العديد من الأبراج الساندة للسور ايضا.. وكان هناك سبع بوابات للمدينة بما لايتضمن الباب العمادي الذي تم بنائه ليتحول الى جزء من السور بسبب قصف نادر شاه..وكان ترتيب الشوارع الضيقة في الموصل عام 1889 هو عينه على عهد الموصل في اثناء زيارة نيبور لها....وقد عانت الموصل بين عام 1820 و 1835 من سلسلة من الويلات بسبب المجاعة والطاعون والطوفان غير ان شحة الطعام التي اصابت شمالي بلاد النهرين عام 1824 لم تؤثر بالموصل..ولكن في عام 1825 حل جفاف هائل مازال الناس اليوم في عام 1889 يتحدثون عنه في ذعر ورعب..فقد ضرب محصول القمح تماما ولم تكن غلال الخضراوات المزروعة بمحاذاة دجلة واطراف القرى لتكفي زارعيها بالكاد..بيد أن حاصل الزيتون الوافر من قرى الشمال اعان في تخفيف وطاة ندرة الطعام...وفي عام 1826 اصبحت السماء حمراء كالنحاس وغدت الأرض كالطابوق المحروق مما أدى الى اختفاء الخضراوات كليا وبالنتيجة قام الناس بذبح المواشي والأغنام خوفا من موتها بسبب الجوع..وبعد نفاد لحوم المواشي والأغنام الهزيلة..بدأت موجة مجاعة وصار الناس يموتون بالجملة في الشوارع وعلى جنبات الطريق متروكة بالعراء بدون ان تجد من يدفنها..وفي عام 1827 تفاقمت معاناة اهل الموصل وكادت المدينة ستخلو تماما من السكان لولا وجود عدد من القساوسة المسيحيين.

وفي عام 1824 كان الموسم جيدا والغلال وفيرة ولاسيما القمح والذرة بحيث بات ممكنا شراء الذرة بسعر زهيد ..وعمد اهل الموصل الأذكياء الى خزن كميات كبيرة من الحبوب [الذرة] في حاويات فخارية [براني] في غرف تحت بيوتهم [رهرات]  وذلك احتياطا للمجاعة ..وكان هؤلاء الرجال ممن خبر المجاعات السابقة في بلدهم ينوون توزيع مخزوناتهم من الحبوب على الناس في حال حدوث مجاعة ..وقد اخبرني عدد من الناس ان اسودا من البراري غربي تلال سنجار وذئابا وبنات آوى غادرت الصحاري القريبة من الموصل بل وحتى العقبان والنسور قدمت في شتاء 1827-1827 الى الموصل لتأكل من ضحايا مجاعة ضربت المدينة وتركت جثامين الموتى في الشوارع وعلى قارعة الطريق..وفي بواكير عام 1828 سقطت الثلوج واعقبتها امطار غزيرة مما بعث الآمال في نفوس الناس ولكن ريثما حل الربيع ، انتشروباء الطاعون وكان فيما يذكر الناس قد وفد الموصل بطريق قافلة جاءت الموصل من مدينة حلب..وقد حصد الطاعون مما بقي من السكان خلال تلك الفترة الكالحة والمجاعة التي استمرت ثلاث سنوات 20.000 نسمة.. وقد توفي بضع مئات بسبب الإفراط في الطعام [التخمة]..وتسببت الخضراوات الطازجة كالرقي والشوندر والباذنجان والفواكه والخضراوات الطازجة الأخرى مما وفرته الأرض بكثرة بعدد من الأمراض القاتلة لمن يتناولها بافراط [وربما لعدم غسلها وتعقيمها من الجراثيم]..وانتقل الطاعون من الموصل الى بغداد، فتنفس اهل الموصل الصعداء وعادوا لممارسة اعمالهم وحياتهم كما في السابق. وفي مطلع عام 1831 سقطت الثلوج بغزارة منقطعة النظير فاصبحت الموصل معزولة لأسابيع..وفي الجبال كان سقوط الثلج بغزارة هائلة واغلقت الثلوج الطرق المؤدية الى مار متي ورابان هرمز تماما بحيث صار الوصول اليهما في حكم المستحيل ..وفي منتصف شباط حدث ذوبان مفاجيء بسبب امطار استمرت اسبوعا كاملا مما تسبب بفيضان الموصل والمناطق المحيطة بها..ومما فاقم الأمر ارتفاع نهر دجلة بضعة اقدام عن مستواه في غضون ليلة واحدة فاكتسحت المياه جسر القوارب ودمرت العديد من الأكلاك المحملة بالبضائع..وبدا تل النبي يونس وتلقوينجق اشبه بجزرتين فيما اغرقت المياه الموصل المنخفضة وملأت السراديب بل وحتى الخندق المحيط بسورالمدينة..وهكذا فقد توقف السفر من والى الموصل عبر الصحراء..وعندما انخفضت مياه النهر، تلركت بركا كبيرة تمتد بضعة اميال مربعة على جانبي دجلة فتسببت بتكوين مستنقعات تصدر الحمى [حمى الملاريا] بكثرة طيلة تلك السنة..كما تمخض الفيضان عن اتلاف مخازن الحبوب وتراكم المنسوجات والأقمشة التالفة في الخانات وفي حوانيت الأسواق ..كما انهار العديد من البيوت والمباني عند انحسار المياه..وكانت على تلك الحال عندما زار باجر الموصل بعد سنوات قليلة على ذلك الفيضان..

وفي سنة 1880 حدثت مجاعة اخرى في شمالي بلاد الرافدين وقد وصف ساخاو[هو عالم السريانيات الألماني كارل أدورد ساخاو الذي زار الموصل والف كتابا يصف رحلته اسماه "على ضفتي الفرات ودجلة"] الذي زار الموصل في ذلك الوقت ووصف الآثار المدمرة للمجاعة التي تعرضت لها المدينة  بالتفصيل، إذ يخبرنا " أن طعاما لايوجد في السوق وأن الرجال الذي ارسلهم لشراء طعام له وعلف لخيوله كانوا يعودون يوما بعد آخر بأيد خالية..كما شاهد البؤس القنصل البريطاني والتبشيريين الأميركان فكتبوا الى أوربا وأميركا طلبا للغوث..ويمكن لنا ان نقدر حجم المجاعة وجسامة تأثيرها من قيام [الحكومة البريطانية بإيفاد قنصلها في مسقط] الكولونيل مايلز الذي أبرق من الموصل الى لندن  في كانون الثاني عام 1880 مشددا " الحاجة ماسة الى إجراءات انقاذ عاجلةن الطفال يباعون أو يهجرون، الناس تغادر قراها المجاورة هربا الى الموصل..الناس بدون استثناء يتضورون جوعا..وكذلك الحال في وان ودياربكر وأورميا وأماكن أخرى"، وارسل التبشيريون الأميركيون رسائل مماثلة..وكان الرد في بيرطانيا وأميركا فوريا فتدفقت الأموال على تركيا مما انقذ آلاف الأرواح..وخصصت القنصلية البريطانية الفناء لوضع أوان ضخمة [قزانات] لطهي الطعام طيلة اليوم لأشهر وقامت السيدة رسل-زوجة القنصل- بتوزيع الطعام على مئات الناس الجوعى بدون اي اعتبار لقومياتهم واديانهم..وكان الجواز الوحيد الذي يسمح بدخول فناء القنصلية هو الجوع..أما الآباء الدومنيكان فقد قاموا بعمل رائع على نحو مماثل فأطعموا المئات يوميا ..ولكنهم توجهوا بإنقاذ اعضاء من ملتهم بالمقام الأول..

وقد يبدو الأمر الآتي غير قابل للتصديق:  فعندما وصلت معاناة اهل الموصل حدودا لاتطاق، عمدت الحكومة التركية في اسطنبول  الى إرسال اوامر بتقليص قيمة العملة المتداولة في بلاد النهرين بذريعة ان الباشليق [تطلق هنا على وحدة نقدية]  او مايعادل خمسة بياسترات لاتساوي أكثر من بياسترين والمجيدية او مايعادل عشرين بياستر لاتساوي اكثر من ثمانية بياسترات..وتمثل التأثير المباشر لهذا القرار العثماني الخبيث بزيادة وتيرة البؤس في الموصل وتدمير مئات العوائل..وفي الوقت نفسه شرعت الحكومة العثمانية قانونا يخول السلطات المحلية باقتحام البيوت ودخولها بدون انذار مسبق والإستيلاء على اية مواد غذائية فيها ثم توزيع مايعثرون عليه من طعام على الناس..فنفذت بلدية الموصل هذا القانون على جناح السرعة..وكان الباحثين عن الطعام من مسؤولي البلدية يذهبون في مساء كل يوم الى البيوت الذين ينوون تفتيشها في اليوم التالي لبلاغ اهلها بما سيحدث..وكانت نتيجة ذلك ان بيوت الموسرين كانت تخلى تماما من اي طعام بينما نهب الفقراء من اي شيء يملكونه [لأن احدا لم يبلغ الفقراء مقدما ان تفتيشا سيحدث في اليوم التالي لبيوتهم]...)

ويشرع واليس بج بعد هذا الأستعراض السريع والموجز لما أصاب الموصل من مجاعات وأوبئة وكوارث وغزوات، بوصف الموصل

 (يحمي الموصل سور قوي مبني من الطابوق [الحجارة] يبلغ طوله قرابة ثلاثة أميال ..وكان عندما رأيته في وضع جيد نسبيا..وهو سور كامل باستثناء فجوة كبيرة فيه في الزاوية الجنوبية الشرقية وللمدينة تسع بوابات هي باب سنجار,باب الشط ,باب السراي ,باب الجسر,باب العراق, باب جديد، باب الطوب, باب لكش, باب البيض..[يستخدم واليس بج تسميات باب كبريت وباب القلعة وباب القصر والباب الضيق لبعض ابواب المدينة]...وكانت بوابات الموصل في بواكير عهدها على الحكم العربي اقل عددا ويرجح ان مدينة الموصل العربية كان لها اربع بوابات فقط..وشوارع الموصل ضيقة جدا ورديئة التبليط فضلا عن كونها وسخة حتى في اجواء الصيف ولكن وضعها بعد سقوط الثلوج او المطر الغزير لايوصف..ومن البيوت مايبنى بالمرمر الرمادي الذي يجلب من محاجر قريبة من الموصل..وهو نوع من الحجارة سهلة التقطيع ويمكن حملها واستعمالها في كل الأوقات وبخاصة في بداية نقلها من المحاجر..وغالبا مانراها في مداخل البيوت وفي عتباتها وفي جدران الغرف وفناءات البيوت وايواناتها..ومعظم البيوت في الموصل له سطوح مستوية تحيطها ستائر واطئة..وتوفر السطوح مكانا جيدا للنوم في الليل في  اثناء الصيف..ويوفر الفناء [الحوش] مكانا جيدا للجلوس في ايام الحر غير ان الفناء في الأوقات الأخرى غالبا ما يكون باردا ورطبا..ويلجأ اهل الموصل في ظهيرة الصيف شديد الحرارة الى السراديب الواسعة التي تبنى لهذا الغرض.زغير ان الأجانب غالبا مايصابون بنوبات الحمى في اعقاب نومهم فيها..

والسوق في الموصل بناية شامخة حيث يتم اجراء معظم انواع الأعمال التجارية هناك..ولكنه لايحتوي مايثير اهتمام الرحالة الذي شاهد اسواق اسطنبول او القاهرة او بغداد...فلم اجد محلات لبيع التحف [الأنتيكات] وليس للتجار الذين يتعاملون بالمنسوجات ما يعرضونه مما يشد انتباه الزائر باستثناء الأقمشة الأنكليزية المستوردة من مانجستر والأقمشة الحلبية..وسألت من غير ما جدوى على عينة من الموسولين الذي اخذ اسمه من مدينة الموصل، وكان ذائع الصيت في المشرق برمته لألوانه الجذابة وجودته الفائقة..ولكن كل ماعرض علي كان من منتجات انكلترة وكان مطويا على الواح كرتونية مصنوعة في انكلترة ومحفوظ بورق انكليزي ويحمل اختام شركات انكليزية معروفة..وفي أحد المحلات رأيت علب ادوية ايطالية قديمة تحمل اسماء ادوية لاتينية وهاون نحاسي مع يدته وهي من متروكات طبيب ايطالي وفد الموصل من جزيرة ابن عمر ويذكر انه كان فائق الذكاء..

وكان عرض الخضراوات في ايام التسوق في غاية العناية الا ان الأسعار بدت لي باهضة. ولم اجد سكائر في المدينة والنوع الوحيد من التبوغ المتوفرة هو [التتن] الذي يزرع في الجبال الكردية..ويباع بشكل اوراق كبيرة يقوم المشتري بكسرها وتفتيتها بيديه ثم يدخنها بعد لفها بورق خشن كيفما اتفق ويكون شكل السكارة المعمولة بهذه الطريقة مدبب من جهة وكبير من الجهة الثانية وغالبا ماتتفكك الورقة مما يؤدي الى سقوط الجزء المشتعل من السكارة فوق [ثياب] المدخن [ أي ان السكارة "تتفلش" مما يؤدي الى سقوط جزء كبير من التتن المحترق]..

والكلاب في الموصل تقدر بفيلق، ولابد ان يكون منها بضع عشرات في السوق وحده.. ومن هذه الكلاب المتوحش والهجومي وهي فيما يبدو متحدرة من انواع كردية او جبلية أخرى) ..[ويضيف واليس بج في ملاحظة]،ويشتم أهل الموصل الكلاب كلها باستثناء السلوقي..إذ يقوم المسيحيون والمسلمون على حد السواء بشراء الخبز من السوق في كل يوم جمعة ليطعمون الكلاب الجائعة في طريقهم الى المقابر لزيارة قبور موتاهم..ولاحظت ان اكثر من ينفق المال لهذا الغرض هم المسلمون. ثم يتطرق الى الجوامع والمساجد:

(وهنالك في الموصل العديد من الجوامع والمساجد ولكن ليس فيها مابدا لي مثيرا للأهتمام من الناحية المعمارية. بيد أن أبرز ملامح الجوامع المتميزة هي المنائر التي تعطي المدينة مظهرا فاتنا وبخاصة عندما تشاهد على بعد من المدينة..غير ان معظمها لايقف بأستقامة,ونشاهد في برج [منارة الجامع الكبير الذي يطلق عليها "الحدباء" انتفاخا..ومن المنائر والقبب ماكان مزين بالفسيفساء الملونة والمزخلرفة بأشكال جذابة ..ومن

11

رحلة جون فيليب نيومان الى الموصل عام 1875




صلاح سليم علي
مقدمة:
غالبا مانصادف في أدب الرحلة الى المشرق عموما وإلى الأراضي المقدسة والعراق بوجه خاص أسماء كبيرة لرحالة حرصوا على زيارة العراق والموصل لأسباب عديدة أهمها العامل الديني كون العراق ارض ابراهيم الخليل (ع) ولوروده في الكتب المقدسة في أكثر من مكان ولاسيما بعد اكتشاف الحواضر العراقية القديمة بابل ونينوى وأور وغيرها من المدن التي سجلت لجانب من تاريخ الأمم المجاورة ولعب العراقيون القدماء دورا في تشكيل تاريخها القديم ...ولأهتمام الغرب المسيحي في نشر المسيحية بمذاهبها المختلفة مما أسس للبعثات التبشيرية التي اسهم روادها بتدوين تاريخ الشرق الأدنى في كتاباتهم وتقاريرهم...فضلا عن المصالح الأقتصادية والسياسية والستراتيجية كون العراق يقع في الطريق البري و[النهري] الى الهند وهو الطريق الرئيس قبل فتح قناة السويس عام 1869..كما كان العراق جزءا من امبراطورية نأت بثقلها على اوربا ... مما دعى الأوربيين الى الإهتمام بتاريخ الشرق الأدنى ودياناته..وقد تجسم هذا الهتمام بالغزو الفرنسي لمصر ثم التوغل البريطاني في الشرقين الأوسط والأدنى وارسال السفارات..وكانت اميركا تحاكي الأوربيين في أقامة  علاقات تجارية ودبلوماسية مع دول الشرق التي عجزت وعجز الأوربيون في إخضاعها ...هذا كما يقدم الشرق نمط حياة وألوان اثنية ومعمارية وبيئات تختلف عن نظائرها في الغرب مما أثار فضول الغرب واسس لحركة الأستشراق وشجع الرحلات الجغرافية عبر الشرق الأدنى الى الهند ..وكانت حركة الإستعمار الأوربي قد انبثقت اصلا للسيطرة على الموارد والمنتجات الشرقية وبخاصة التوابل والعاج والحرير والموسولين الذي أختصت الموصل بصنعه وانتاجه وكان دافعا من دوافع ماركو بولو لزيارة مملكة الموصل..والكتابة عنها..وقد استمر سيل الرحلات لقرون اهمها القرن التاسع عشر الذي شهد تقاربا عثمانيا اوربيا واكتشاف الحضارتين العراقية والمصرية  ومعهما المدن التليدة  نينوى وبابل وأوروسواها من المدن في الشرق الأدنى كله. .ومن الرحالة من سار على خطى إبراهيم الخليل (ع) ومنهم من اختار اقتفاء خطى الأسكندر المقدوني الى بابل وبرسيبوليس ..ومنهم من اختار اقتفاء خطى زينوفون وتوصيف هيرودوتس ..وكان هاجس الرحلة يدفع الكثير الى المغامرة بارواحهم واموالهم في زيارة الشرق..فكان قدر العديد من التبشيرييين وألآثاريين الإصابة بأحد الأمراض الفتاكة والموت في الشرق وكانت حصة الموصل كبيرة فيمن مات منهم كالدكتور كرانت والآثاري مرافق كلوديوس ريج، بيلينو، وجورج سميث الذي حمل المرض معه من الموصل  ليموت في حلب في طريق عودته الى بريطانيا وعدد من التبشيريين وزوجاتهم ممن تحتضن رفاتهم كنائس الموصل  والتلال المحيطة بها...ومن الرحالة من زار الموصل في شرخ الصبا وفي أواخر القرن التاسع عشر عندما هدأت موجة الأوبئة فسلم وعاد ليكتب عن رحلته الى الشرق ويخصص جوانب منها للموصل ..ومن ابرز هؤلاء الرحالة فون مولتكة الأب و جون فيليب نيومان صديق الرئيس الأميركي يوليسيس كرانت وكبير قساوسة الكنيسة الميثودية (المنهاجية) الأبيسكوبية (الأسقفية) في نيويورك..
جون فيليب نيومان حياته وسيرته:
ولد جون فيليب نيومان من أب الماني الأصل  وأم فرنسية في نيويورك عام 1826 وتقبل المذهب الميثودي وفق رواية قال انه رأى شخصا غريبا قال له ان الله يريد منك قلبك ثم اختفلى ليراه بعد أشهر ويدس في يده ورقة مكتوب عليها إن الله يريد منك قلبك..فرأى في ذلك إشارة لأعتناق المذهب البروتستاني الميثودي الذي اسسه البريطاني جون ويزلي والذي انتشر في في اميركا على وقت جون فيليب نيومان..ودخل جون العمل الكنسي عام 1848 ..ولم يكن مرتبه في السنة الأولى يتجاوز 100 دولار وكان يوفر جزءا من مرتبه بهدف بناء كنيسة أوميتم أوجامعة..وفي عامي 1857 و1858  لفتت مواعضه انتباه الناس فنقل الى نيويورك ..وكان جون فيليب نيومان مولعا بالسفر الى الخارج وبممارسة نشاط تبشيري خارج موطنه فأبحر الى اوربا عام 1860 وقام بجولة واسعة في بلدانها زار بعدها الشرق ليمضي سنة في مصر وجزيرة العرب وفلسطين وتمخضت زيارته تلك عن كتاب عنوانه [من دان الى بيرشيبا] و(دان هو الأبن الخامس ليعقوب واسم لقبيلة من قبائل اليهود اما بيرشيبا فهي التسمية اليهودية للمدينة الفلسطينية  المحتلة "بئرالسبع" ..ويبدو من عنوان الكتاب ان جون فيليب نيومان أراد اختيار عنوان ديني توراتي لزيارته الشرق الأدنى الأولى بحكم دافعه الديني القوي وتأكيدا لزيارته الأراضي المقدسة التي يطلق عليها اسم اراضي الأنجيل إشارة الى مكان ميلاد السيد المسيح (ع) ومهد النبوات في الشرق الأدنى)..وعندما عاد من رحلته عين في نيويورك التي بقى فيها سنتين أرسله بعدها القس آميس عام 1864 لتأسيس كنيسة ميثودية في لويزيانيا في تكساس والمسيسيبي وكانت الكنيسة الميثودية فرع الشمال قد الغيت بعد الإنشقاق الأكليروسي عام 1844 مما دفع الميثوديين الى تنظيم الكنيسة الميثودية الأيبسكوبية [الأسقفية] فرع الجنوب فانطلق جون فيليب نيومان لبناء كنيسة في نيواوليانز بكلفة 50 ألف دولار الحق بها معهدا وملجأ للأيتام بمبان كاملة و[نثرية]  مالية وافية..وتفرع عن هذه الكنيسة وملحقاتها اربعة مؤتمرات كنسية ميثودية في السنة الواحدة.. وفي عام 1869 عين نيومان راعيا للكنيسة الميثودية في واشنطن ولكنه تقاعد من هذا المنبر عام 1872 ليعود اليه عام 1875 وفي تلك الأثناء كان نيومان قسيسا اقدم [كاهنا] لمجلس شيوخ الولايات المتحدة للفترة من 1869 وحتى 1874..وفي عام 1873 عينه الرئيس يوليسيس كرانت مفتشا عاما لسفارات الولايات المتحدة في آسيا ..فقام بعبور المحيط الهادي الى الصين واليابان وانتقل منهما الى بحر العرب فعمان فالخليج العربي وصولا الى البصرة ومنها الى الحلة فبابل فبغداد فالموصل..
وكان جون فيليب نيومان يمارس عمله بإخلاص وحرص شديدين وقد تميز بدقة الملاحظة والوصف التفصيلي لكل مايراه فبلغت تقاريره الى الخارجية آنذاك أكثر من 200 صفحة مرفقة بأقتراحات حول العمل الدبلوماسي وضرورة تكييفه مع البيئات والحضارات المختلفة..وأنفق على مدى سنة ونصف من عمله مفتشا للسفارات الفين وثلاثمائة دولار..وكانت الصحف تكتب عن رحلته بانها [رحلة للمتعة] مما استجلب استدعائه عند عودته للرد على اسألة لجنة من الكونجرس أذهل اعضاؤها بالمعلومات التي لديه عن العالم ..وقد تمخضت رحلته الأخيرة تلك عن كتاب عنوانه [عروش نينوى وبابل وقصورهما] وطويت صفحة هذا الرحالة والدبلوماسي ورجل الدين في السنة الأخيرة من القرن التاسع عشر  عام 1899 ..  ولم يكن جون فيليب نيومان ليتمكن من انجاز مآثره وقطع المحيطات والمسافات الشاسعة وصولا الى الموصل لولا صداقته للرئيس يوليسيس كرانت الذي حارب العنصرية وكان ميثوديا بالولادة ..ويعد كتاب جون فيليب نيومان الأخير بما يوفره من صور نادرة عن العراق ووصف لمدنه واحواله عام 1875 مصدرا مهما للمعلومات عن تلك الفترة المتأخرة بعض الشيء من القرن التاسع عشر..وفيما يأتي ترجمتي لما يتعلق بزيارته للموصل:
الموصل عام 1875:
قدم جون فيليب نيومان العراق بطريق البحر قادما من مسقط فبندر عباس فالبحرين فبوشهر فالفاو فالمحمرة فالبصرة فالناصرية فبغداد ثم اتخذ الطريق الغربي عبر ديالى فمر بقرة تبة فكفري فطوزخورماتو فكركوك  فالتون كبري فاربيل وعبر الزاب بكلك ليواصل رحلته على ظهر الحصان  فيمر بقرقوش والقرى شرقي الموصل فاطلال نينوى ومنها الى الموصل ...فيخبرنا عند وصوله قرقوش

 (في الساعة الثانية في صباح اليوم التالي كنا على الطريق وكانت الغيوم منتشرة على نحو متباعد بما يتيح للقمر إنارة الحقول الخضراء حول قراقوش وبسرعة وصلنا الى الطريق الرئيسي فمررنا بقرية خربة وكان الضوء يسقط على حقول القمح الوفيرة ناضجة السنابل.. ولكن انتابني شعور من الوحدة في مطلع الفجر وكان الجميع من المسافرين معي يتطلع الى  بزوغ فجر الصباح... ووتتابعت الساعات ساعة اثر أخرى ببطء لحين انبلاج الفجر فتلاشت النجوم وبات القمر شاحبا بينما اشرقت الشمس..وصادف ذلك اليوم الجمعة العظيمة في بلاد آشور القديمة..كنا وسط خرائب الأمبراطوريات الدفينة..فعلى الجانبين تطالعنا التلال الكبيرة التي تحتضن بقايا عظمة الماضي..ولوهلة شاهدنا قبب الموصل ومنائرها تطل علينا من الضفة الغربية لدجلة  (الجانب الأيمن) من الموصل..فشعر الجميع بالإثارة التي بعثها ذلك المشهد. وكان اليوم هو الحادي عشر على مغادرتنا لبغداد..فقد قطعنا 300 ميل..ويتدفق امامنا النهر الذي كنا نأمل الوصول الى شاطئيه بأسرع وقت غير ان الفيضانات اضطرتنا على الدوران لمسافة طويلة بصبر يخامره ضنك الحفاظ على مطاولتنا بأمل الوصول..فسلكنا وديان عميقة وعبرنا جسور تهتز تحت ثقلنا ومررنا بقرى غادرتها مسحة الجمال وواجهنا قوافل تجار في طريقها الى بغداد..غير ان الهدف ليس ببعيد الآن..فلم تمض ساعة حتى ونحن عند بوابات نينوى القديمة..الى يميننا قصر سنحاريب والى يسارنا ضريح النبي يونس..ولم يبق غير ميل واحد حيث مرسى الزوارق التي ستقلنا الى الموصل..وكان نهر دجلة الذي انتفخ بأمطار الربيع ومياه الثلوج الذائبة في جبال الشمال يندفع بقوة جامحة..وتشاهد في وسط النهر جزيرات عديدة قد غمرتها او كادت مياه النهر..ويمتد من البر المقابل الى الشرق وحتى حافة أكبر القنوات العديدة للنهر وحيث يبدو التيار أكثر قوة وعنفوانا واكثر عمقا جسر حجري تدعمه القناطر كان قد انشيء منذ 200 سنة..وبسبب سرعة التيار وتراكم المياه تم ربط هذا الجسر بجسر من القوارب يبدأ من نهاية الجسر الحجري ويصل حتى الضفة الغربية لدجلة..وقد ربطت تلك الزوارق بسلاسل حديدية وغطيت بألواح خشبية مغطاة بالتراب..وعندما يرتفع مستوى المياه في دجلة يصار الى ازالة القوارب ووضع كلك بدلا منها لنقل العابرين..وكان الحال كذلك عندما وصلنا دجلة فشعرنا بخيبة امل مؤلمة لوجود العديد من الأكلاك التركية ..وكان الوقت وقت حصاد وكان اصحاب القوارب (الأكلاك) يصرخون بنا ويلوحون لنا بأعنف الحركات للحصول على اجور عبور باهضة..ولو كنا عربا لعبرونا بنصف المبلغ الذي طالبونا به..ولكننا دفعنا ضعف المبلغ بحبور  لأمتيازنا بكوننا امريكان..ويشبه الكلك الذي عبرنا به دجلة الكلك الذي عبرنا به الزاب ولكنه أكبر حجما..وعندما دخلنا في زخم التيار بلغت بنا الإثارة ذروتها فقد توسطنا جزرة على يميننا وركيزة صخرية للجسر على يسارنا كان التيار سيرطمنا بالجسر في ابة لحظة عندئذ بدت اللحظات كأنها ساعات..وصرنا نتطلع الى الشاطيء بأمل جموح..ولم يكن طعم الخلاص أحلى إطلاقا من لحظة ارتطام قاربنا بضفة النهر..ولكن موضع رسونا لم يكن مريحا باية حال وذلك لأرتفاع الجرف وانحداره الشديد..ولجريان دماء الأغنام المذبوحة وتلون المياه بسبب تدفق مياه المدبغة المجاورة للشاطيء..وكنا بحاجة لمساعدة العديد من العرب للخروج من الممرات الزلقة بالأوحال..ولم يكن المتطوعون لتقديم يد العون قليل من الرجال والصبيان فقد اندفع الكثير لمساعدتنا لتيقنهم بمكافاة قليل من البياسترات [البياستر وحدة نقدية فضية ايطالية وفرنسية كانت تستخدم في دول الهلال الخصيب ومصر والسودان في القرن التاسع عشر  تعادل واحد بالمئة من الباون الأنكليزي].

وبعد وصولنا البر أمنت رسالة تعريفية لنا سكنا مؤقتا في بيت السيد ابو جزراوي المترجم الموصلي في القنصلية الفرنسية..وهو شخص ضخم حسن المنظر يرتدي ملابس أنيقة..وكان مرحا سريع الحركة وكثير الكلام لاحدود لكرمه..معروفا في المدينة..وكان وجهه المنبسط يتلألأ بالإبتسامات..أما ضحكته فمدوية وفريدة من نوعها..وقد أدى ارتباطه بالقنصلية الى معرفته بعادات الأجانب..وكان يعد نفسه على جانب من التكريم والخصوصية في استضافته لثلاثة من الرحالة الأميركان..وكان بيته كبيرا ومريحا وكانت افضل مافي البيت غرفة الضيوف..ولم تتردد زوجته الجميلة بالإهتمام بسيدتنا المنتخبة [في إشارة الى ألأنجيل]..وكان الجناح المخصص لنا من البيت مجهز بالأثات الشرقي وكان هناك ديوان يستخدم كاسرة للنوم والأرضية مفروشة بالبسط وتزين الحيطان مصفوفات من الخناجر الأنيقة والبنادق..وسرعان ما إنتشر في الموصل خبر وصول اميركان الى المدينة...وقد اوصلنا رسالة تعريف للخواجا ميخا فجاء ذلك المسيحي الممتاز الى مسكننا ..والسيد ميخا هو أقدم ممثلي كنيسة البعثة التبشيرية البريسبيترية [ المشيخية] الأميركية في الموصل..وهو موضع احترام الجميع لذكائه وتقواه..فبادر بدافع الكرم الى دعوة السيد كولنز [رفيق جون فيليب نيومان في رحلته] لينزل ضيفا عليه..وكان يتحدث الأنكليزية بطلاقة، وكان واسع الإطلاع بالأوضاع الدينية في المدينة...غير أن اعظم حبور كان في انتظارنا..فقد كان السيد هرمز رسام في الموصل فاسرع لتشريفنا بزيارة ..والسيد هرمز رسام من أهالي الموصل، ويعد من العلماء المتخصصين بالدراسات الشرقية..وقد اختار سيدة انكليزية زوجة له فاصبح بذلك مواطنا بريطانيا..وكان يعمل مع لايرد وراولنسون في التنقيبات الآشورية..وقد جاء كلاهما على ذكره فكالا له أرقى آيات الثناء..ويعود له الفخر في اكتشاف قصر آشوربانيبال الذي يحتضن المكتبة الحجرية  [الفخارية] لذلك الملك..والمكتبة محفوظة حاليا في المتحف البريطاني..وقد عاد الى الموصل لحسم ممتلكات اخيه المتوفي [كريستيان رسام] الذي شغل لسنوات عديدة منصب نائب القنصل الأنكليزي في هذه المدينة..
وبكرم لايمكن نسيانه أبدا قام السيد رسام بدعوتنا لنكون ضيوفه في البيت الأنيق لشقيقه الراحل ..ولم يوفر اصحاب هذا البيت مالا ولا جهدا في جعله مقاما مريحا بما لايقاس..وتركيب بيت رسام على شكل مربع بفناء [حوش] في الوسط تتوسطه حديقة جميلة..وفي الطابق الأرضي في صدر البيت هنالك صالة مفتوحة على الفناء[أيوان]  يتوسط غرفتين أحدهما صالة [غرفة] الطعام، والأخرى غرفة الجلوس المزينة بأجمل اشكال الزينة [مقتنيات الأسرة من الزجاجيات والأعمال الفنية] موضوعة في تجاويف في داخل هذه الغرفة التي تستخدم لأستقبال الضيوف [أودة القعدي] ونلاحظ ان سقف غرفة الضيوف بيضوي [مقبب] مطلي باللون الأزرق تزينه زخارف ذهبية من اوراق العنب [العريش] والأزهار والنجوم. وهناك ثلاثة أقواس [عقود] ذات قبب مقعرة تمثل السماء المزدانة بالنجوم. وفي الطابق الثاني وحول الفناء بالكونات [شرفات] رخامية الألواح تمثل واجهات غرف النوم ...وهنالك في البيت ملاذ من حرارة الصيف الاشوري القاسية يقع تحت الفناء [السرداب] مشيد من رخام الموصل [المرمر] ..ويتألف من اقواس عريضة مستقرة على اعمدة منحوتة بزخارف زينية..وقد أقمنا في هذا القصر بهناء على مدى أسبوع مستمتعين بضيافة لايوازي اناقتها غير وفرتها..فليس ثمة مضيف يهيء لراحة ضيوفه وسعادتهم بمثل ما رأينا في أسرة رسام..وكانوا يقدمون لنا في كل يوم طبقا [أكلة] جديدة خاصة بالشرق لأختبار شهيتنا التي لم تتواهن لحظة واحدة..وكان اكثر طبق يتردد هو كريم حليب الجاموس [القيمر] الذي يؤكل مع العسل السوري الصلب [جبلي المنشأ].
وتحتل الموصل أجزاءا من الأراضي المشارفة على نينوى القديمة غير ان جانبا كبيرا من تاريخها المبكر مازال طي المجهول..فقد تطرق زينوفون الى وصف قلعة كانت قائمة هنا وتعرف في الوقت الحاضر بخربة يارمجة بينما وصف موقع نينوى بأسم ميسبيلسا أي البوابة او المعبر الوسطي..اي الى مكان غير معروف على نهر دجلة ولكنه لم يشر أبدا الى وجود مدينة..وكذلك لم تتطرق المصادر بأسهاب الى مدينة الموصل على عهود الخلفاء..مع ذلك فعندما أحرز الترك السلطة، أصبحت الموصل مقرا لأمراء مستقلين وتعود المباني االشرقية [السور وباشطابيا وقرة سراي وغيرها] التي مابرحت قائمة  في الموصل الى عصرهم..وفي أثناء حكم سليم الأول،أصبحت الموصل جزءا من الأمبراطورية العثمانية..وكان سليمان القانوني قد عقد اتفاقية سلام مع ملك بلاد فارس اصبحت بموجبها مدينة الموصل حدا فاصلا بين اراضي الفرس والراضي العثمانية..ومنذئذ توالى على حكم الموصل الباشوات الذين عرفوا بجشعهم واستبدادهم..ويتالف سكانها الحاليين من خمسين الف يضمون الكلدان والسريان والعرب، فضلا عن الأتراك والكرد وأقليات أخرى..وسور الموصل الدائري أقل من ثلاثة أميال في طوله يحتضن حدائق واسعة والعديد من الخرائب..والمباني من الخور بسقوف مقببة وتتوسطها فناءات تغطيها ألواح من الرخام المنحوت..اما شوارعها فضيقة ومتعرجة وليست نظيفة بالمرة..وقليل من المدن لاقى مالاقت الموصل من ويلات: ففي عام 1825 انتشرت فيها مجاعة استمرت ثلاث سنوات أعقبها وباء الطاعون الذي حصد 18 الف شخص..وفي عام 1832 اجتاحت مياه الفيضان المدينة بأكملها على مدى أشهر مما تسبب لأهلها بمعاناة غير عادية..وكانت التجارة في الموصل في العهود المبكرة واسعة ومزدهرة ولكنها انحطت تحت الحكم الإضطهادي للترك..فقد تلاشت ولم يبق منها اي شيء...وأسواق الموصل عامرة بالأعناب والرقي والرمان والخوخ والخيار والكماء [الكمي] التي تستخدم للأستهلاك اليومي وكذلك بالمكسرات والبلوط [الشاهبلوط] الذي يرد من جبال كردستان ويصدر ..وقد حل محل قماش الموصل الشهير المعروف بالموسولين [الموصلي] قماش قطني أزرق من نوعية متدنية..ولكن الموصل تتفوق بأنتجاج الجلود الحمراء والصفراء والخضراء التي تستخدم في صناعة الأحذية الأنيقة التي يلبسها سكان المدينة..وإذا ما ترتب على زائر غريب أن يثمن الوضع الديني للمدينة من عدد أماكن العبادة فيها، فأنه سيستنتج طبعا ان الموصليين أناس ورعين[دينين].. وكان الأتراك قد درجوا على إجراء إحصاء السكان في ولاياتهم بالإعتماد على عدد الأسر وليس على عدد الأفراد..كما كانوا يصنفون فئات الناس على أساس معتقداتهم الدينية وليس على اساس القومية..[مما يدل على ان فكرة القومية بمعناها السياسي، كانت غائبة]..ومن بين ثلاثة آلاف وثلاث مائة أسرة في الموصل هناك 200 أسرة يهودية وألف ومائة أسرة مسيحية وألفين وخمسين أسرة محمدية [مسلمة]..وللمسلمين عشرين جامع كبير ومائتين وخمسين مسجد في الموصل ..وتقف الى جانب جامع نور الدين القديم منارة جليلة طولها 90 قدم تزينها زخارف من الطابوق الناتيء والمنخفض على الطراز العربي ولاندري أكان بقصد او بصدفة ميلان تلك المنارة على نحو يماثل برج بيزا..والمسيحيون في الموصل ليسوا بكثرة المسلمين غير أنهم أفضل منهم  بالثروة والذكاء..وهم [اي المسيحيون] يخفون ميولهم الطائفية على الجميع  يدفعهم لذلك حماس تطلعهم لقضية عليا..ويعرفون بالنسطوريين واليعقوبيين والبابويين [كاثوليك] والبريسبيتاريين [المشيخيين البروتستانتيين]..ونلاحظ أن كنيسة الرومان الكاثوليك الفرنسية ذات هيكل بارز..فقد شيدت من الرخام الموصلي وتعلوها قبتان تستندان على اعمدة رخامية..وتزين دواخلها الصور ويقف على هيكل صخري مرتفع تمثال بحجم طبيعي يمثل مريم [ع]..وكنت حاضرا في قداس الساعة الثامنة لعيد قيام المسيح [احدالقيامة]..وكان هناك قسيسان فرنسيان يديران القداس..وهناك سبع راهبات فرنسيات يتولين الإهتمام بأيتام من مدينة الموصل ويجلسن في مقصورة الى يمين الممر الرئسي للكنيسة [جانسل]..وكان جمهور القداس كبيرا فقد جلس الرجال في المقاعد الأمامية وتحت أقدامهم بسط تغطي الأرضية وجلست النساء في المقاعد الخلفية..وفي يوم الجمعة العظيمة قبل يومين قام الرهبان بتصوير مشهد الصلب على نحو درامي وفي ذكرى القيامة قدموا للمشاهدين المذهولين القبر الفارغ المعطر بالورد والمضاء بالأنوار الساطعة..ثم غادرت روما الى كالديا [ متهكما بالإشارة الى الكنيسة الكاثوليكية الى كنيسة الكلدان] وحضرت طقوس النسطوريين الذين يعدون كلدانا بالولادة..ولم تختلف طقوسهم عن طقوس البابويين [الكاثوليك] ولكنهم يضمرون احدهم للآخر أعمق اشكال العداء الودي..وتنبثق جذور العداوة المرة بينهما بسبب تشابههما فهما متجاوران الى درجة تجعل معيشتهما متجاوريين سببا للتوتر..وكان من محاسن الصدف أن التقي بيوسف أدو بطريرك بابل ورئيس الجماعة المسيحية الكلدانية في بلاد الرافدين..حيث كان يسكن في الموصل ولكن القساوسة المتروميين [تصغيريا للرومان الكاثوليك] تآمروا على إبعاده بذريعة ان اثنان في صنف واحد لايمكن لهما ان يتفقان..وكان يوسف أدو رجلا جليل المظهر يدعو الى المهابة وكان الناس يجلون مقامه..فهو الآن القس الكلداني لمالابار [الهند] وذلك بالإسم أكثر منه بالفعل..وقد عاد لمسكنه القديم في الموصل لأن ذلك يتفق مع مزاجه وذوقه حيث يمضي وقته بالصلاة والقراءة والتدخين..وكان حضور طقوس الساعة الحادية عشرة في كنيسة صغيرة لإعضاء البعثة البريسبيتيريانية الميركية يتفق كثيرا مع ميولي ومشاعري..وبغض النظر عن هبوب عاصفة حضر اربعون رجلا وعشر نساء الكنيسة حيث القى الراعي [القس] الموصلي كلمته بحماس ملفت للنظر..ويعد المنتمين لهذه الجماعة الصغيرة من بين أكثر الناس ذكاءا ونشاطا في مجال العمال في مدينة الموصل فهم اشبه بالضوء الساطع في مكان مظلم..ويتمثل اعظم مايحتاجون اليه بحضور مبشر أجنبي يتولى تعليمهم وتشجيعهم والدفاع عنهم..غير انهم محرومون من هذا الخير بسبب الأنطباع السائد بأن اي تبشيري أميركي لن يقدر على البقاء في الموصل، ومما عزز هذا الإنطباع عدد الوفيات بين الأميركان ممن حاول القيام بهذا العمل [ التبشيري]: ففي عام 1833 توفي التبشيريان السيد هينزديل والسيد ميشيل اللذان عينا تبشريان في الموصل ولحقت بهما زوجتيهما ..فقد توفي السيد ميشيل في طريقه الى الموصل وماتت زوجته بعد عشرة ايام من بعده، ومات السيد هينزديل بعد اقامة سنة  في الموصل ..وقد ارسلت الكنيسة الأميركية السيد لاوري غير أن زوجة الأخيرتوفيت خلال سنة من اقامتهما في الموصل ، وتبع ذلك موت الدكتور كرانت..وفي وقت لاحق موت السيد مارش والسيد وليم وزوجتيهما..ثم في وقت لاحق موت السيد لوبدل والسيد هاسكل...ولكن الخواجا ميخا يعتقد أن هؤلاء الرجال الصالحين كانوا سيلقون حتفهم في أجلهم لو كانوا في القدس او ماردين او بيروت..وكان يرى ان الجماعة [البروستنتانية] الصغيرة ينبغي الا تهمل لأن العديد من التبشيريين رأوا الموصل بوابة الى السماء [العالم الآخر] ترتقي منها ارواحهم الى بارئها..
ويعد مسيحيو الموصل يومي الأثنين والثلاثاء بعد أحد القيامة يوما عطلة يكرسان لتبادل الزيارات والدعوات .زوهي زيارات تختلف عن زياراتنا في اعياد نهاية السنة وبدء سنة جديدة..إذ تقام في كل بيت حفلة وتنتظر الزوار مأدبة حافلة..وقد اقام السيد رسام لعدد كبير من ضيوفه مأدبة تليق بمقامه الرفيع وذائقته المتميزة..وقد وفرت تلك المناسبة لنا فرصة مشاهدة العادات الإجتماعية السائدة في هذه المدينة الآشورية النائية ولاسيما الأزياء الإجتماعية [الفولكلورية] الزاهية للنساء الكلدانيات..وكان الجو في الموصل ساحرا وظهرت السيدات بكل سمات الجمال الخاصة بالمشرق..وكان كل شيء يحدث في الفناء خاص بأهل البيت وحدهم وإن تظهر إحداهن على الباب، فإنها تظهر ملتفة بحجاب أزرق مدقق كبير وبحجاب من شعر ناصية الفرس يغطي وجهها بأكمله ولكنهن يطرحن الحجاب عندما يدخلن الفناء لنشاهد روعة مايرتدين من حلي وثياب..فغطاء الرأس المرتفع مزدان بالذهب واللؤلؤ..والقلائد التي تزين أعناقهن متقنة الصياغة اما الأقراط والخلاخيل والأساور فتراها تتلألأ بأثمن المجوهرات ونوادرالحجارة الكريمة..وتغطي أذرعهن وصدورهن فتغطيها أرقى انواع المخمل المزخرف والموشى بالذهب و ترى ثيابهن الحريرية الوفيرة زاهية الألوان مطرزة بخيوط من الفضة والذهب وبأشكال زخرفية متنوعة..وكانت زوجة الشقيق الأكبر لرسام الشابة مزينة كأبنة ملك [لعله يقصد زوجة شقيقه الأصغر نمرود لأن أرملة كريستيان الأنكليزية كما نفهم من السياق لم تكن حاضرة في تلك المناسبة] ولكن مظاهر الزينة الخارجية تلك كانت اقل ملامح الجمال إذا قورن بجمال ملامحهن ولطف شخصياتهن بما يذكرنا بأستير [وهي الزوجة  اليهودية للملك الفارسي أحشويروش ورد ذكرها بالكتاب المقدس]..بما يتضمن [طيبة] القلب  و[ذكاء] العقل..فحديثهن ينم عن تذوق وفهم للجمال والحقيقة..اما سلوكهن اللطيف فبرهان على تربيتهن في وسط متحضر يحتضن كل اسباب التمدن وىداب الحياة الإجتماعية .حتى لتشعر في ابتساماتهن البهيجة رقة مشاعر ترقى الى مستوى الملائكة).
ويختتم جون فيليب نيومان وصفه للموصل وماشاهده من صور الضيافة في بيت هرمز رسام برحلة نهرية الى النمرود:
 (وبينما نزلنا الى النهر اخذ المشهد يتنامى في الجمال حيث بلاد آشور الى يسارنا وألى يميننا بلاد مابين النهرين..وكان المشهد يتنوع بين التلال الخضراء والوديان الثرية والجداول المتعرجة والأكواخ الصغيرة والبساتين النظرة حتى وصلنا عند الظهيرة السلامية التي يعتقد انها تخفي موقع مدينة ريزين التي ورد ذكرها بالكتاب المقدس والتي تعد مهمة بصفتها مركزا تجاريا بينما اصبحت اليوم مدينة عربية بائسةن ولكنها محاطة بالتلال مما يؤكد توغل هذا المكان في القدم..ولأن خيولنا لم تكن قد وصلت حيث رسونا بعد، قمنا بزيارة شيخ السلامية الذي عرض علينا بغالا تاخذنا الى النمرود  التي تبعد ثلاثة أميال فحسب لقاء مبلغ باهض مما دعانا الى تفضيل السير على القدام على دفع المبلغ الذي طلبه..وفي الطريق لحق بنا فلاح ومعه اربعة حميرفوافق بمبلغ خمسة بياستر لنقلنا الى النمرود..وبعد ساعة رأيتني أقف فوق التل [زقورة النمرود] الذي كان زينوفون قد مر به ووصفه..وكان المشهد واسعا ومبهجا حيث تمتد سهول بلاد آشور الشاسعة والخصبة اميالا في كل اتجاه وهي سهول ثرية بما يكسوها من نباتات خضراء وحقول مزروعة بالحبوب تنتشر فيها هنا وهناك قرى والى جانبها تلال قديمة)..
ملاحظات حول الصور
اعتمد الرحالة والتبشيري الأميركي في مصادره على سابقيه من الرحالة والاثاريين ممن زار العراق ..والأحرى انه لم يصاحب فنانا ليرسم المشاهد التي ضمنها كتابه بل اعتمد على لوحات صورها فنانون او اعتمدها آثاريون وتبشيريون سبقوه في زيارتهم العراق كلايرد وفلاندين وكلوديوس ريج والدكتور كرانت ولاوري وغيرهم، واعتمد نصيا على كتابات الاثاريين والبلدانيين كزينوفون وبنيامين توديلا وجيمس بكنهام سيلك  وجيمس فيليب فليجر  ووليم اينزورث وراولنسون  والأدبيات التبشيرية وغيرذلك..  ويبدو ان الرحالة الأميركان كانوا يأتون بطريق البحر عبر الخليج العربي في زيارتهم للعراق بينما يأتي الأوربين بالطريق البري.. ولا ادري اكان ذلك اختيارا ام تقليدا ام ضرورة ..وتتضمن اللوحات لوحة عنوانها بيت الكابتن هولاند في بغداد والمقصود بذلك المقيم البريطاني انطوني شارلس هولاند الذي عاش وأسرته عدة سنوات في بغداد..وقد اعتمدت على طبعتين لكتاب الرحالة [عروش نينوى وبابل وقصورهما] وهذا تسبب في تغليب اللون الأصفر لعدد من الصور والأبيض لعدد آخر...كما تمثل الصور مشاهد مختلفة من العراق كله وليس الموصل وحدها وهي في حدود معلوماتي تنشر هنا لأول مرة..

































12
المنبر الحر / من أيمار الى لاهاي
« في: 10:28 27/07/2013  »
من أيمار الى لاهاي



صلاح سليم علي

التاريخ بيت العبر ..نلجأ اليه لمقارنة احوالنا في الحاضر بأحوال الأسلاف في الأزمنة الغابرة ولاسيما عندما تتردى بنا الأوضاع وتحيق بنا شرور لاقبل لنا بها يتلاشى معها بصيص الأمل وتضيق في معمعانها فرص الحياة...وتطرح مشكلة حركة التاريخ نفسها كمعضلة فلسفية وهي هل للتاريخ غائية يمتلك الإنسان زمامها أم أن التاريخ ميدان لحركة القوى العشوائية؟ وبالتالي هل لحركة التاريخ علاقة بمفهوم التقدم بالمعنى الإنساني؟ اي هل ان المستقبل بالضرورة افضل من الماضي من جراء تقدم المعرفة وتطور الوعي وازدهار العلوم وما إلى ذلك؟ أم هو كما قال هيجل عود الى البربرية؟ ..غير أن ماحدث في العراق يضع مشكلة التقدم وحركة التاريخ في معظلة حقيقية لايمكن تفسيرها الا في سياق علم الفوضى ..فوضى العقل وفوضى المجتمع وفوضى الفيزياء أو [الأنتروبيا] كما وضع قانونها بولتزمان وادورد لورنز فيما اطلق عليه الأخير بتاثير الفراشة!

وببساطة فنحن لسنا بحاجة الى التوغل بعلوم الفيزياء والدايناميكيا الحرارية واحتمال اعتماد المخطط الأميركي الصهيوني على المؤسسة الأكاديمية في الفيزياء او على اسماء بذاتها كبرنارد لويس وروفائيل بطي وغيرهما في تصديره الفوضى الى العراق وعكس حركة التاريخ بأسرها.. يكفي ان نتجول ذهنيا او فعليا في عاصمة ك [لاهاي] ونقرا عن مدينة عراقية قديمة على شاطيء الفرات في مجراه السوري ك[أيمار] لمعرفة الجواب على معضلة حركة التاريخ بقدر تعلق تلك الحركة بالتقدم..ولنبدأ ب [لاهاي]، وتلك بداية تتعارض مع توقعات القاريء ولكنها تستجيب للفكرة الرئيسة للموضوع وهي حركة التاريخ ومفهوم التقدم..

لاهاي:

لاهاي [العاصمة السياسية لهولندة]، كلمة شائعة في الوطن العربي ربما أكثر من شيوعها في أوربا..وهي شائعة في العراق وربما في الموصل اكثر من شيوعها في الغرب كله..ولمعرفة السبب لم اكتف بالقراءة عنها بل قمت بزيارتها شخصيا وطلبت من صديق لي من اهل الموصل يقيم في جنوب المدينة الهولندية ان ياخذني الى جامعة لاهاي التي يطلق عليها (الحرة) احيانا و(المفتوحة) احيانا اخرى.. ولم اكن اعرف بوضوح ماتعني كلمة [حرة] عندما تلصق بمؤسسة الجامعة هل تعني ان الدخول اليها غير مقيد أم ان مناهجها حرة ام أن اساتذتها أحرار؟ أم أنها حرة بالمعنى السلبي الذي صدره الغرب للشرق من حريات لم نر فيها غير القتل والنهب والخرائب والدمار وضياع الوطن والسيادة وهلاك الحرث والنسل؟ أما كلمة  (مفتوحة) فلاعناء في فهمها لأنها مفتوحة لمن يريد ان يدخلها او يسجل فيها أو لأنها مفتوحة كباب أو شباك أو مطعم ..ولعلها مفتوحة للتوريط فالكلمة تسهيلية ولكنها لاتخلومن توريط فمن يدخل يعلق قدمه او جيبه بفخ لامخرج منه إلا بشهادة...سألت صديقي ان ياخذني اليها فدخل في سيارته شارعا أشبه بشارع المعارض في الموصل ولكنه شارع حديث فيه اناقة هولندة ونظامها...فنزلنا من السيارة واشار الى مكان بالقرب من محل من الشبابيك الزجاجية في داخله سيارات حديثة..وقال  مبتسما:هذه لاهاي..فنظرت بالإتجاه الذي اشار اليه فلم اجد شيئا يشبه بناية او مدخل الى بناية توحي بأنها معهد أو جامعة او اي شيء من هذا القبيل؟ (زياد! هل تمزح؟ اين الجامعة؟) (والله ابوسيف هاي جامعة لاهاي!) فاقتربت أكثر الى المكان الذي اشار اليه لأرى بوابة صغيرة حديدية بنوافذ زجاجية صغيرة تؤدي الى سلم حديدي ينتهي بغرفة أشبه بغرفة حارس تعلوها قطعة مكتوب عليها بحروف انكليزية [لاهاي الحرة] وهناك قطعة معدنية مثبتة ببراغي الى جدار جانبي من الطابوق زرقاء اللون مكتوب عليا كلمة "الحرة" باللغة العربية وبالخط الكوفي وتحتها عبارة "الحرة يونيفرسيتي" [الجامعة الحرة] باللون الأسود وبحروف أنكليزية وفي زاوية هذه القطعة رقم عشرين باللون الأحمر والى جانبه الحرف الأول باللغة الأنكليزية باللون الأبيض ربما كان رقم هذا الجزء من البناء الذي يعود بالأرجح الى معرض للسيارات.والى الأعلى من المدخل الزجاجي تتكرر كلمة "الحرة" [بالعربية]على الجانبين ..وفي الوسط عبارة "الجامعة الحرة" [بالخط الكوفي] وتحتها عبارة "الحرة يونيفرسيتي" [بالحروف الأنكليزية]..ويوجد فوق النافذتين الزجاجيتين على جانبي المدخل الزجاجي إعلان على سبيل الكولاج فيه صورة لطلبة وطالبات يجلسون على مقاعد الدراسة وينهمكون بالكتابة وخلفهم صور لأساتذة ونقرأ في الزاوية اليمنى في أعلى هذا الإعلان عبارتي  [ صرح أكاديمي كبير] وتحتها [ أساتذة متخصصون]..ويتلو ذلك كتابة لم اتمكن من قراءتها بالصورة التي التقطتها لها وأسفلها [سنوات من الإنجاز والنجاح والتطور] باللون الأزرق ..وتحتها وباللون الأصفر [تمنح شهادات البكلوريوس والماجستير والدكتوراة لكافة الأختصاصات] ثم تحتها باللون الأحمر [الآداب، العلوم التربوية والنفسية، الإدارة والإقتصاد، القانون والسياسة] وإختصاصات أخرى لم تظهر في الصورة التي لدي عن هذا المكان او تلك الزاوية التي ليست بصرح ولا أكاديمي ولا كبير!.وأخمن ان ثمن أيجار هذه الغرفة المعلقة لايتجاوز 150 يورو في الشهر..لأنها لاتصلح لشيء ولايمكن تحويرها لتصبح سكنا لفرد بائس عاطل يعيش على المساعدات بأدنى معايير الحياة الغربية..وليس لمن يعاين ماعاينت ان يداخله أدنى شك بأن المكان تم تأجيره لمجرد وضع ذلك الأعلان والصاق اعلانات ملونة على سبيل الكولاج لبدء الدراسة في تلك الجامعة الغرفة...عندئذ وبعد عودتي الى النرويج، حيث أقيم، أجريت بحوثا كثيرة وأرسلت الى أكاديميين في جامعات هولندية كنت تعرفت عليهم خلال مشاركاتي في مؤتمرات الترجمة عن جامعة لاهاي العربية المفتوحة او الحرة في لاهاي فأكدوا لي ومنهم أساتذة في جامعات سالفورد ولايدن ولندن وأوسلو وبرلين أن هذه الجامعة تكوين افتراضي لا وجود لها في العالم الأكاديمي وأن العرب الذين قاموا بتأسيسها يهدفون الى الربح ..وقال لي أحدهم كان الأحرى بهم تأسيس معهد لتعليم اللغة العربية لأبناء الجالية العربية في لاهاي، بدلا من الزعم انهم يديرون جامعة..وعندما سألت صديق هنا في النرويج يبدو أكثر أهمية من طريقة سيره وأسلوب تحيته وطريقة جلوسه وحديثه ، قال انه يدرس في لاهاي..وعندما سألته ولكنك لم تغادر كرستنساند ..قال لي انه يدرس بطريق البلتوك وهو برنامج الكتروني للتحاور وأرسال المواد الألكترونية ..وعندما سألته كيف تتلقى المواد قال بطريق المطبوعات الألكترونية وطلب مساعدتي في اقتراح موضوع لكتابة الدكتوراة في القانون العقوبي المقارن..وهل ستناقش الأطروحة؟ لا أعرف ولكن التعليم عن بعد يعني المناقشة هي ايضا عن بعد..فسألته: ولكن مالفائدة من شهادة غير معترف بها؟ أجاب: كلا ان الحكومة الهولندية تعترف بها..عندئذ توجهت بالسؤال الى اكاديمي يعمل في دنهاخ، ودنهاخ هو الأسم الهولندي ل [لاهاي]، فقال أن اي شخص في هولندة يمكن ان يؤسس مؤسسة غير ربحية ويسجلها في غرفة التجارة لقاء 50 يورو فقط..ويسمح قانون هولندة بالتصديق على توقيع هذه المؤسسة غير الربحية في غرفة التجارة ثم تؤخذ الوثيقة الصادرة والتي تحمل توقيع غرفة التجارة الى وزارة الخارجية في دنهاخ لتصديقها اي للتصديق على توقيع غرفة التجارة.أي ان التصديق هو على صدقية صدور الورقة من غرفة التجارة للجهة المسجلة فيها  وليس اقرارا بأن الشهادة [الورقة] شهادة حقيقية لان التأكد من صدقية الشهادات هو من اختصاص وزارة التربية والتعليم وليس من اختصاص وزارة الخارجية..ويجري كل ذلك مجرى الروتين أي ان وزارة الخارجية الهولندية لاتعنى بمضمون الشهادة او الجهة المانحة او شرعيتها بل تصادق عليها لمجرد انها مسجلة في غرفة التجارة على اساس انها[ مؤسسة] غير ربحية ...وفي المدينة نفسها تقع جامعة لاهاي الهولندية الحقيقية في بناية هائلة وتضم تدريسيين وطلبة من 146 دولة ويقيم طلبتها الأجانب في أقسام داخلية عملاقة  أراني أحدها صديقي وهو بناية سوداء مؤلفة من 15 طابق في قلب العاصمة لاهاي تضاف الى عدد من المباني العملاقة المخصصة للطلبة هناك..ولعل من قبيل المفارقة الصارخة ان جامعة لاهاي الحقيقية تتخصص بمنح شهادة الماجستير وبعدد محدود من الأختصاصات بينما تمنح جامعة لاهاي الأفتراضية شهادة الدكتوراة وفي الأختصاصات كلها الإنسانية والعلمية وبضمنها القانون الدولي والفيزياء النووية والطب الأنساني...ومن المضحك أن هذه الجامعة أو الجامعات الإفتراضية غالبا مايكون العاملين  فيها من حملة البكالوريوس في افضل الأحوال ..وعندما فاتحت صديق لي بالسويد حول هذه الجامعة قال انها تفرخ وتتوالد فهنالك جامعة لاهاي فرع السويد وأخرى فرع المانيا وأخرى فرع الدنمارك وهناك فروع في اميركا وكندا فضلا عن فروع في بريطانيا وفنلندة والنرويج و في تكريت والموصل والأنبار..وأيران التي انتقلت لها العدوى الأكاديمية بطريق العمائم..ولا أدري أذا ستعمد هذه الجامعات الى منح شهادات عليا شرفية على غرار العديد من الجامعات الوهمية المنتشرة مثل وباء قاتل في العالم العربي ومنها جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة في بيروت وهي متخصصة بالدراسات الإسلامية وتتجه الى منح شهادات دكتوراة شرفية لوعول الخليج خاصة..وتتباهى جامعة لاهاي في اعلانها ان لها عضوية في الإتحاد العالمي للجامعات..وفي الذهاب الى موقع هذا الإتحاد نرى ان العضوية فيه تتم بطريق المراسلة ودفع اجور العضوية ..ويتألف الإتحاد المذكور من جامعات آسيوية وأفريقية هي عبارة عن لملوم من كل نطيحة ومتردية وما ترك السبع للضبع والذئب للغراب..أما عضويتها في اتحاد جامعات العالم الإسلامي فمسألة املاء استمارة طلب عضوية ودفع رسوم رمزية فحسب..

ولكن ترى ماهي لاهاي الموصل وماصلتها بجامعة الموصل او الجامعات العراقية الأخرى؟ ..وكيف اتيح للدجالين المقيمين في هولندة مد خيوطهم العنكبوتية الى الموصل وتكريت والحلة وربما الى اماكن أخرى في العراق الجريح..وهل العراق تنقصه مشكلات الفساد والتزوير لكي تتغلغل اليه هذه الآفة وهدفها منح الشرعية الأكاديمية لمن لاشرعية له..ثم تفكرت بالشهادات التي أحملها ..هي الأخرى ورق ..,لكنه ورق يحمل خلفه جهودا مضنية من السهر والضنى والألتزام بالمحاضرات وحضور الأختبارات والنجاح فيها..ثم تقديم ماحصلت علية من معلومات وخبرات للطلبة على مدى سنين! فالشهادة ليست مجرد ورق او حوار في بالتوك بل هي سهر وتعب ومحن وامتحانات ....وكانت أحلى لحظة هي لحظة استلام الشهادة ..وكان فينا الراسب والمكمل والمؤجل..ولكن على الجميع الدراسة والأختبار في المواد المقررة وتجاوز الأمتحانات وفي حالة الدراسات العليا تجاوز الأمتحانات وكتابة الأطروحة ومناقشتها بحضور ممتحن خارجي...وتذكرت كيف قام الدكتور صفاء خلوصي [رحمه الله] وهو مشرفي في الماجستير في بريطانيا قبل أكثر من  ثلاثة عقود بتمزيق ماكتبته من دراسة لترجمة جبرا ابراهيم جبرا لشكسبير مقترحا علي الكتابة في ترجمة القرآن والشعر الجاهلي بدلا من ذلك فقبلت برأيه وكتبت فيما أراد..لم تكن الدراسة سهلة ولم يكن التدريس سهلا..بل جهدا [يشلع القلب] كما يقول اهلنا في الموصل...فكيف يمكن للشهادة ان تشترى من سوق الدجل والشعوذة تحت مسميات خادعة؟

"إن الكذب تنظيم يغطي على عدم انسجام وينبني عليه ويستره"[ فريدريك بوليان]..وفي جامعة لاهاي يتحول الكذب الى مؤسسة وككل مؤسسة هدفها الإستغلال،  يميل القائمون عليها الى التظاهر بالمعرفة والقدرات الأكاديمية..وهذا التظاهر يجلب التوهم فالأكاديمي المزعوم لايكتفي بتمرير كذبه على الاخرين فقط بل يجهد لتصديق كذبه ...فالدفاع عن هذا الكذب على انه صدق ولاسيما عندما تترتب على هذا النوع من الكذب المؤسساتي منافع مادية تدعو الكذاب الى اضفاء صفة الشرعية عليها..ولأن الشرعية تقتضي وجود طرف ثالث غير الخادع والمخدوع، يميل الكذاب الى التشبث بصيغ وهمية وصورية للشرعية...وفي حالة لاهاي المفتوحة  تعادل الشرعية التصديق على الشهادة من قبل الخارجية الهولندية...وهي عملية تنطوي على استغلال وخداع معا اي استغلال للقوانين الهولندية وخداع للطالب الذي يصدق ان الشهادة الممنوحة له هي شهادة حقيقية تتجاوز قيمتها الورقية مما يجعله شريكا في عملية النصب والكذب والإحتيال..ولحسن الحظ فأن احدا لايعترف بهذه الشهادات في الخارج ولايعادلها بشروى نقير..ولكن ماذا بالعراق..عندما تتحول الشهادة الوهمية هذه الى امتيازات ومناصب؟ عندئذ ومن منظور الطالب الذي يعرف جيدا طريقة تحصيله على الشهادة تتحول العملية كلها الى إحتيال وخداع أكبر ينطوي على صلافة وقلة حياء يصاحبان مزاعم الطالب المفترض وتأكيده على اللقب (العلمي) مع معرفته أنه تحول الى دكتور بليلة وضحاها...وبدون اي جهد يذكر غير تسديد مبالغ [الدراسة] لجامعة وهمية!

وقد يغضب هذا المقال وماذهبت اليه فيه المنتسبين لمثل هذه  الجامعات بذريعة انهم يتلقون معلومات منهجية ويرتبطون بتدريسيين واكاديميين معروفين..اقول أن هذه الجامعة لاتدرس لوجه الله بل لقاء أجور ..مع انها تزعم بأنها مؤسسة غير ربحية..وهي بحكم هذا الزعم حصلت على ترخيص من غرفة تجارة لاهاي..كما أن التدريس عن بعد وبطريق الأنترنت وبرامج مثل بالتوك ليس تطورا على المنهج الدراسي الجامعي الذي يفترض وجود منهج سنوي يستمر لأربع سنوات قبل الحصول على البكالوريوس ومثلها للحصول على الماجستير والدكتوراة والمرور بأختبارات وإمتحانات شهرية وفصلية ونهائية ..وهذا لايوجد في التدريس عن بعد ..اي تتعطل في هذا التدريس إمكانية متابعة اداء الطالب ويتم التركيز على الحصول على الشهادة ..كما لاتتوفر في حالة الدراسات العلمية في التدريس عن بعد  المختبرات والمشارح وهي ضرورية للتأهل عمليا للحصول على شهادات علمية...متخصصة..ويبدو من متابعة لموقع جامعة لاهاي ان الدراسة فيها تستثني شرط العمر وربما المهاد الأكاديمي والشهادات الأولية للحصول على شهادات عليا..فمعظم من رأيتهن في الصور قد تجاوزن الكهولة أما الرجال في الصور المرفقة فيبدون من دول افريقية، تسمح مؤسساتها او وزاراتها بتعيين الحاصلين على شهادات عليا [مهما كان مصدرها] في مناصب أكاديمية وحكومية ويتطلع العراقيون منهم الى اعتراف من الوزارة في بغداد  يتغلغلون بعده الى العراق ليضاعفوا فيه وتائر الفساد والتزوير..ولعل من الطالبات من تسعى لمنافسة زوجها بدافع الشعور بالنقص ..فتحصل على الدكتوراة أسوة به..ولا استبعد ان جامعات لاهاي في العراق  تحتضن نخبا اكاديمية جيدة ولاسيما في مجال الأنسانيات كالتاريخ والقانون والآداب وذلك بسبب العدوان ألأميركي على العراق وما لحقه من اجحاف بحق التدريسيين والأكاديميين ممن أستبعدوا من مراكزهم الأكاديمية في جامعات العراق بذريعة الأنتماء السياسي..ولهؤلاء اتقدم بأعتذار خاص لأني أعرف انهم ينتسبون الى ايمار اكثر من انتسابهم الى لاهاي والى عراق السيادة والصدق وليس الى عراق التبعية والتزوير ...لهؤلاء ممن سيقرأ هذا المقال من اصدقائي وزملائي في التدريس اتقدم بتحية إخلاص ووفاء.

ولابد هنا من الإشارة الى أن العراق كان أول من اسس كلية علمية تعمل وفق ضوابط أكاديمية صارمة..وهنا ننتقل من لاهاي القرن العشرين الى عراق الألف الثالث ق.م.:

أيمار:

تقع ايمار [مسكنة] على ضفة الفرات عندما ينعطف فجأة نحو العراق على مسافة 90 كم الى الجنوب الشرقي من حلب وقد اقام الرومان على انقاضها مدينة [بارباليسوس] التي اعاد العرب اعمارها في العهود الأسلامية وأطلقوا عليها اسم [بالس] التي ترد في كتب البلدانيين كما وردت في سياق حملة سيف الدولة على قبيلة كلاب العربية المقيمة في منطقة بالس فيما نقرأ في ديوان المتنبي ..وتمتاز "بالس" العربية بمعالمها الأثرية ومنها منارة باسقة مثمنة الأضلاع متماسكة البنيان فوق قاعدة مربعة مبنية بالآجر المشوي الأصفر بابها من الجهة الغربية يبلغ ارتفاعها 22 متراً يصعد إليها بسلم داخلي ذي 107 درجة، وذات سبع طبقات في كل منها قوس يختلف الواحد عن الآخر، وداخل المدينة أطلال المسجد الذي كان حول المنارة، وأطلال بناء فخم لعله كان قصر ابو فراس الحمداني أمير المدينة، وأطلال بناء آخر شاهق لعله كان حصناً قديما اعاد العرب عمارته..

و إيمارالألف الثالث ق.م. مملكة صغيرة تضم ميناءً تجارياً مهماً يعد همزة وصل تربط بلاد الرافدين بالممالك التي تقع إلى الغرب منها على طريق الفرات و ما يعرف بالطريق البري، وكانت السفن تفرغ حمولتها في هذا الميناء، ويتم نقل البضائع براً على ظهور الحيوانات إلى حلب أو إلى قطنة القريبة من حمص على الطريق الصحراوي، كما كانت البضائع تنقل من حلب وقطنة ومدن الساحل الفينيقي إلى إيمار ومنها الى الأناضول و بلاد الرافدين..

وترينا اللقى الأثرية التي عثر عليها في إيمار دلائل نصية على وجود اقدم كلية للآداب في الشرق الأوسط في العهود القديمة..فقد تم العثور على مئات الرقم الطينية التي تميط اللثام عن طبيعة المناهج الدراسية والتربوية.. وتلقي ضوءا على المناخ الثقافي والفكري في ذلك العصر..وتلك الكلية اسست في بواكير الألف الثالث ق.م. مما يرجح انها اسست على عهد شولكي أو سرجون الأكدي واستمرت حتى العصر الآشوري الحديث..وكان الطلبة..اي طلبة الدراسات العليا يفدون الكلية من العراق وأماكن أخرى  فيدرسون الطب وفن التنبوء والآداب القديمة كملحمة كلكامش التي تحكي عن طوفان مماثل لطوفان نوح..وعند التخرج من الكلية يكون الطالب قد تعلم فن كتابة الرسائل وصياغة القرارات الملكية وأحاط بالتراث الطبي وفنون السحر واللغة والآداب، ويكون ضليعا بكتابة الرقم وطباعة الأختام عليها..ويتعلم الطلبة بمساعدة كتب مدرسية اساسية العلامات المسمارية وحفظ المعاجم والقواميس وإستنساخها..ومن هذه المعاجم موسوعة [هارا] التي  تقع ب 10.000 مدخل..ويشترط بالطالب ان يكون قد انهى المرحلة الإعدادية للدراسة العليا في ايمار..وكانت متطلبات دراسة الفنون الكتابية تتضمن مهارات أولية يتعلمها الطالب في مدارس الكتابة [أيدوبا]وهي مدارس تأسست في جنوبي العراق وانتشرت من هناك الى الشرق الأدنى القديم وبضمنه مصر والشام..وفي [الأيدوبا] يجرى تطبيق منهج تدريسي ثابت يعتمد اللغتين السومرية والأكدية..ثم ينتقل الناجحون للدراسة في كلية ايماروالإقامة في أقسام داخلية ملحقة بالكلية ..وبعد تخرجهم يتم تعيينهم في دوائر الحكومة وفي المعابد للأستفادة من مهاراتهم في إدارة شؤون الدولة ..وهناك نوع من السجلات عثر عليها في ايمار يطلق عليها [الحوارات المدرسية] تنقل صورة حية للحياة اليومية في الكلية مع وصف لايخلو من الفكاهة للطلبة المتميزين والمدرسين المتشددين والمدراء والعمداء الصارمين..وللحصول على معلومات تفصيلية عن مهادات الطلبة والتدريسيين لابد من الرجوع الى دفاتر ملاحظات وتمرينات الطلبة انفسهم فضلا عن المراسلات اليومية والوثائق العملية والرسمية ..وقد عثر على هذه الوثائق برقم طينية في وادي الرافدين وفي أيبلا وماري تؤرخ لتلك المرحلة...ويترتب على الطلبة للوصول الى ايمار تسلق سلما تربويا شاهقا يبدأ بتعليمهم كيفية مسك ادوات الكتابة..وكان الطلبة يفدون الكلية من مختلف انحاء الشرق الأدنى القديم من اوغاريت ومجيدو وألأناضول ووادي الرافدين ..ويعتمد التدريسيون الوافدون الى ايمار من وادي الرافدين وبخاصة من الحواضر السومرية وبابل لاحقا اسلوب التعليم الحواري وفتح حلقات النقاش مع الطلبة ..ولايستبعد علماء الآثار اعتماد اطروحات او بحوث منتهية يقوم بها الطلبة وبإشراف تدريسي لغرض التخرج من كلية ايمار الجامعة..

ويعود سبب اختيار ايمار مركزا لنشر الثقافة العراقية واللغة الأكدية لأعتبارات سياسية وستراتيجية فأيمار ملتقى التجار القادمين من الساحل الفينيقي ومن مدن الأناضول للأنطلاق منها الى بابل والمدن السومرية ثم لاحقا من بالس الى بغداد..وعلى نحو مماثل تفد أيمار القوافل التجارية القادمة برا من الجنوب ومن العراق بمحاذاة الفرات ثم تتجه غربا  نحو الساحل الفينيقي أو شمالا الى الأناضول ..والى الجنوب من ايمار يتسطح الفرات في منطقة ضيقة بحيث يمكن عبوره بدون حاجة الى زوارق او سباحة وهو المكان عينه الذي استخدمه الآشوريون و الأسكندر المقدوني والرومان والعرب فيما بعد لعبور الفرات..وفي اختيار ايمار لنشر الثقافة الرافدينية تتضح ابعاد الفكر الستراتيجي عند العراقيين القدماء اي تأكيد آيديولوجية الدولة وثقافتها في نقطة تلاقي جماعات وحضارات مختلفة تابعة أو صديقة أو معادية احيانا للدولة العراقية..

نتساءل هنا ان كان ثمة سبيل للمقارنة بين ايمارالعراقية  ولاهاي [العراقية أيضا] ...لامقارنة حتما ولكن بقدر تعلق الأمر بمسألة حركة التاريخ وصلة  تلك الحركة بالتقدم..ففي اية مقارنة يقيمها القاريء بين ايمار ولاهاي العراقيتين..يجد أن لاعلاقة توجد بين حركة التاريخ والتقدم بل ان نظرة هيجل القائلة بأن التاريخ عود الى البربرية هي الأخرى تكتسب ظلا توكيديا هنا..فالتقدم الذي أحرزه العراقيون قبل أكثر من  3000 سنة يفضح التخلف الذي تمخض عن إنهيار الدولة  العراقية ومؤسساتها وبروز تنانين آدمية ومعها مؤسسات وهمية بائسة كجامعة لاهاي وغيرها...

ملاحظة عن الصور:

الصور المرفقة لمدخل الجامعة الحرة في لاهاي التقطتها بنفسي وصورة لجامعة لاهاي الهولندية مع صورة للقسم الداخلي المبني حديثا للطلبة الذين يدرسون في جامعة لاهاي الهولندية [الحقيقية]..وأخرى أخترتها من موقع جامعة لاهاي [المفتوحة] معروضة لللأطلاع العام في الموقع المذكور ..وصورة لإجتماع إدارة جامعة الحضارة الإسلامية [المفتوحة] في بيروت ونشاهد فيها في اقصى اليسار صديقي الأب الأستاذ سهيل قاشا الذي لا ادري كيف ساقته الظروف الى مثل هذا المكان  ...مع صور لموقع أيمار [بالس] في شام العرب وخريطة تبين الآثار القديمة والإسلامية والرومانية فيها واخرى لموقعها على الفرات في مجراه السوري.والصور تلبي مضامين الموضوع إذ لاتجانس بينها..




























13
الدولة القومية والفضاء الصروحي

العراق بين الأمس واليوم




صلاح سليم علي

يمثل التاريخ القومي للأمم مراحل تتجسمها روح العالم وصولا الى الحرية والحقيقة.. والروح في حركتها تؤسس لشخصيتها الحضارية من خلال الوعي الذاتي اي وعيها بحركتها وتجلياتها في المكان..فالتاريخ القومي لكل امة يشكل مرحلة من مراحل تطور الروح الكلية ويتخذ تجلياته بالتوسع في المكان وفي العمارة الرمزية والدينية المعبرة عن روح الأمة اوهويتها فضلا عن الفضاء الصروحي التي توجده آيديولوجية الدولة القومية في محيط سيادتها في الزمان والمكان.ويلعب عظماء الأمة أدوارا رئيسة في دفع حركة الروح ونموها وبدون وعي منهم احيانا..ولايمكن التعرف على الروح الكلية الا من خلال تجلياتها عبر التاريخ بطريق الدولة القومية ومنجزاتها على الأرض...وفي مراجعتنا لتاريخ العراق نلاحظ بوضوح أن روح العالم اتخذت من العراقيين مضمارا لنموها وتجلياتها  (المتجانسة) بدءا بالحضارة السومرية ووصولا الى الحضارة العربية الإسلامية...

ويبدو من هذا النظر الهيجلي لتطور الروح الكلية [تبنيته في نظرتي الى التاريخ] ان البيئة تحتل دورا ثانويا في تكوين الأمم والتأسيس لأختلافاتها وتنوعها ..مع ذلك فأن الظروف البيئية (الجغرافيا والمناخ) والأمكانات الأقتصادية تشترك في تكوين ملامح الشخصية الحضارية للأمم فقد دعمت الأنهار الكبرى كالنيل ودجلة والفرات والكنج واليانكتسي الأقتصادات الزراعية لمصر والعراق والهند والصين وساعدت في تطوير المواصلات والعلاقات التجارية بينما طورت البلدان الجزرية كالدول الأسكندنافية واليابان اقتصاديات تعتمد على التجارة وصيد الأسماك في حين لم تسند الصحاري الكبرى في العالم اي نوع من الأقتصاد كصحراء كوبي في الصين وصحراء لوط في ايران او صحاري شمالي افريقيا وجزيرة العرب ..وتشاطر الصحاري العربية ادغال افريقيا والأمزون وثلوج المنطقة القطبية في شمالي وجنوبي العالم في عدم دعمها لنشوء حضارات مدنية..فالبيئة تقدم واحدا من الثوابت التكوينية للشخصية الحضارية ولاسيما في اعطاء اجناس البشر صفات مميزة كاللون وشكل الجمجمة والوجه وطول القامة او قصرها فضلا عن تصميم أنماط الحياة الإجتماعية وطبيعة المواصلات والأتصالات في اشكالها الأولية  ثم أنماط الحركة واتجاهها والأنفتاح على اماكن وحضارات اخرى او الأنغلاق على الذات فالبيئات الجبلية كما يرى الرازي وابن خلدون تولد خشونة في الطباع، وتجعل المواصلات والأتصالات صعبة مما يؤدي الى تعدد اللهجات والأنغلاق على الذات والبيئات الجزرية كاليابان والمفتوحة على البحار كبلدان حوض المتوسط او السهلية كفرنسا تشجع الأتصال والتجارة والأنفتاح على الآخر،اذ تكاد كل الطرق في فرنسا وايطاليا وبلادنا الغراء تؤدي الى باريس وروما وبغداد على التوالي، ولكن الطرق لاتؤدي في تركيا واسبانيا بالسهولة نفسها الى انقرة ومدريد..فالعالم على الرغم من تماثل البشر في تكوينهم الأنساني الجوهري يزخر بالأختلافات التي تعطي للعالم رونقه وتنوعه وثراه مما ولد ميزات في التعبير الفني واللساني وفي تجليات الطاقة الأنسانية المختلفة الأخرى..وهكذا نلمس فروقا واضحة في الحضارة الهندية عن الحضارة العربية وفي الحضارة المكسيكية عن الحضارة الصينية وفي الأخيرة عن حضارات افريقيا وأوربا وهي فروق يشاطر التاريخ البيئة في تأسيسها ومنحها ملامح متميزة فالعمارة الدينية على الرغم من تماثلها في محاولة خطاب السماء بنمط معماري عمودي تختلف في تفاصيل التعبير العمودي والأفقي وبتوظيف الفضاء المعماري فالباكودا الصينية تختلف عن المنارة والأخيرة عن ابراج  الكاتدرائيات القوطية الطائرة وبينما تمثل القبة الأسلامية فضاءا في كتلة، تمثل العمارة الدينية الأوربية والقوطية بشكل خاص كتلة في فضاء..وتعمل المجتمعات على تذويت الفروق فتنطبع الحضارة كلها بخصائصها المميزة على نحو مجرد من اصدار احكام تفضيلية او اخلاقية على هذه السمات المميزة لحضارة عن أخرى..
وقد تتعرض الروح او الأمة متمثلة بنخبة او بدولة في سياق نموها الى طفرات نوعية بطريق التوسع بالأرض على حساب الأمم الأخرى او بطريق فقدها أو اكتسابها لحلقات طاقة هائلة في سياق نموها كما حصل في الحالة الأولى في اثناء الغزوات الكوتية لسومر وأكد والكاشية لبابل والميدية لنينوى والشعوبية لبغداد وظهور الإسلام في جزيرة العرب في الحالة الثانية عندئذ يتعرقل نمو الروح وتتعرض الأمة لفتوقات وخروقات امم أخرى تتوسع وتنمو على حسابها وقد يصل بها الأمر الى إلغاء تطور الروح القومية او ايقافه ..ويحدث ذلك في السياق التاريخي عنما تتعرض الأمة الى غزو حضاري أو تخريب حضاري بدءا بتدمير تحصيناتها الدفاعية والغاء عقيدتها العسكرية ثم تحطيم ذاكرتها الحضارية وازالة تجليات تلك الذاكرة من الأرض...وعلى الرغم من تحقيق العرب لطفرة نوعية بطريق الإسلام الذي ضم مصر وبلا الشام وشمالي افريقيا والسودان الى الهلال الخصيب وتحديدا سورية والعراق، الحقت تلك الطفرة ضررا كبيرا في بنية الروح وهويتها القومية وحركة نموها بطريق ايجاد نوع من التجانس الوهمي مع امم غير جزرية لكل منها هوية حضارية تتنافر تماما مع الهوية الجزرية وهما تحديدا الأمتين التركية والفارسية...فالعقيدة ليست دولة وعلى الرغم من عصور التعايش السلمي بين هذه الحضارات المتجاورة لحق العرب والإسلام ضررا كبيرا من الممارسات العثمانية والتدخلات الفارسية عبر التاريخ..كما أن لكل أمة من هذه الأمم هويتها الحضارية وسياق نموها في المكان ولكل منهما تاريخها ورموزها وفضاءاتها الصروحية..ولكل امة ومن ضمنها العرب وعي تاريخي ومستقبلي في الوقت نفسه يعمل على خلق نخبة حاكمة تتكون في سياق تاريخ الأمة وابنيتها الحضارية والثقافية فليس من الممكن أن تكون النخبة غريبة على سياق الأمة أو مفروضة عليه أو مستوردة كما في حالات الغزو والإحتلال..ويتمثل دور النخبة الحاكمة في كل عصر بتأكيد الهوية القومية وتعزيز المظاهر الثقافية والحضارية للأمة ولاسيما أزاء ألاخر غازيا او طامعا اومخربا او متسللا..كما في حال الكوتيين والقزوينيين (الكاشيين) والشعوبيين والموالي واليهود..وفي العراق الذي يتعرض للغزو الأجنبي منذ العهود القديمة تتجه إرادة النخبة الحاكمة او الملك فيه الى إعادة اعمار ماقام المحتل بهدمه وتجديد عمارة الصروح او الفضاء الصروحي المشاد من قبل وقد يميل الملك بدافع التحدي الى اضفاء ملامح صروحية جديدة كما في عهود اورنمو وحمورابي ونبوخذنصر ونبونايداس وتوكولتي نينورتا وآشورناصربال الثاني وشلمنصر الثالث واسرحدون والمنصور والرشيد والمعتصم وغيرهم من ملوك العراق وقادته..كما شرعت الحكومة القومية في عراق السبعينيات والثمانينيات باعادة بناء صروح الأمبراطوريتين البابلية والآشورية وبعض من صروح أور وشروباخ وآشور وكالخو وكذلك بغداد العباسية كأعادة بناء المستنصرية والقصر العباسي وأضفت صروح أخرى كثيرة تذهل الناظرين وتملك قلوبهم..

وتشكل اقواس النصر والبوابات الصروحية احدى اهم تجليات الروح العسكرية العراقية في العمارة الصروحية  سواء في العصر الأمبراطوري وفي العهود الإسلامية  أوفي العصر الحديث..ويعد العراقيون القدماء البوابات والمداخل اماكن غاية في الاهمية لما يحيط بها من رموز ويعزا اليها من سحر سواء اكانت في مدخل معبد او قصر او مدينة..وكان العراقيون يعتقدون ان للسماء بوابة وإن إله الشمس [شمش] هو من يقوم بفتحها عند الفجر وإغلاقها عند المساء..وإن للعالم السفلي سبع بوابات . وكان الاشوريون يحمون مداخل قصورهم بثيران مجنحة مهمتها حماية القصر من الأرواح الشريرة..كما كانوا يحمون قصورهم بوضع سبع كلاب من الطين المفخور تحت عتبة البوابة و تحمل الصخرة المقورة التي يدور فيها مصراع البوابة كتابات تؤرخ للملك الذي قام بإقامة البوابة أو بتشييد القصر او المعبد أما البوابات نفسها فكانت ترش بالنبيذ وتطلى بالزيوت..ومنها مايزين بالمنحوتات البارزة التي ترمز الى الآلهة الحامية  كما في بوابة عشتار في بابل..ونستدل من النصوص والمدونات العراقية القديمة على وجود بوابات صروحية في أكد وشروباخ وأوروك ولاكش وكيش ونيبور وأن الأضاحي كانت تقدم عند تلك البوابات..ونلاحظ بدورنا ان مداخل صروحية كانت تزين القصر الشمالي الغربي لآشورناصربال الثاني في النمرود وأخرى مماثلة تزين قصر سنحاريب في الطرف الجنوبي الغربي لتلقوينجق..وكذلك في بوابة الضلع الجنوبي لمدينة سرجون كما ترينا التنقيبات الآثارية..وقد اخذ الفرس عن الاشوريين  وأخذ الرومان عن الفرس هذا الجانب المعماري الصروحي في بناء اقواس في مداخل المدن في أيطاليا حيث انتشرت منها الى العالم ...
والى جانب بوابة عشتار نرى عددا من البوابات الصروحية عند مداخل قاعات قصر نبوخذنصرالسبع..ونلاحظ ان البوابات في قصر نبوخذنصرمشيدة على نحو متجانب لايمكن معه مد خط الرؤية من خلالها بحيث نتمكن من رؤية الباب الأخير للقاعة السابعة عند النظر بإستقامة من مدخل القاعة الأولى والسبب هو للحيلولة دون ترك المجال للعين بإختراق القصر درءا للعين الحاسدة مما يؤكد العلاقة بين السحر والعمارة في العراق القديم..وفي نينوى نلاحظ ان البوابات الشمالية للسور لها اسماء آلهة ترتبط بالأنواء كبوابة سين فبوابة نركال فبوابةأددو [أدد] المستظهرة من قبل جامعة الموصل ونلاحظ ايضا ان تخطيط نينوى أشبه بجسم انسان رأسه باتجاه الشمال وقدميه بأتجاه الجنوب حيث بوابة آشور المقابلة لحي الوحدة حاليا...وهذا يفترض ان قلب نينوى يقع بين طبلتو [النهر المجنون] بين بوابة المسقى [ماشكي] والضلع الشمالي لتلقوينجق والخوصر ودجلة الذي يجري بمحاذاة تلقوينجق حيث شارع المجموعة الثقافية والحي الزراعي..وهذا يفسر كثرة المياه الجوفية في الأحياء الواقعة في مجرى دجلة القديم...

وقد واصل العراقيون في العهود اللاحقة الإهتمام بعمارة البوابات في المدن القديمة وحديثة التاسيس وحرصوا على اعطائها ابعادا صروحية وتسميات خاصة على نحو مماثل لملوك العراق في العهود القديمة...ولم يكن العراقيون في عمارتهم الصروحية سواء في القصور والزقورات والمعابد والبوابات يحاكون اية امة أخرى بل كانوا مبتكرين مبدعين ..وكان تأكيدهم على الصروحية ينبثق من محاولتهم تأكيد قوتهم من جهة وبناء مايليق بالآلهة والملوك من جهة أخرى...وهذا يفسر الأرتباط بين العمارة الدينية والفضاء الصروحي في العهود الإسلامية  كما في الجوامع الكبرى التي تحاكي الجامع الأموي في دمشق والأزهر في مصر ومعابد بوذا في آسيا وكنيسة القديس بطرس [بيتر] في روما...اي جعل البناء لائقا بإله...ويرجح ان الأسلاف عمدوا الى العمارة الصروحية بدافع حس تاريخي بضرورة استمرار الأمة فجاءت العمارة الصروحية تعبيرا عن مرحلة من مراحل تطور الروح القومية وتجليا من تجلياتها على الأرض...

كما نلاحظ ان الملوك الآشوريين أضفوا ابعادا جديدة على عمارتهم الصروحية تمثلت في تضمين تلك الصروح آيديولوجية الدولة والدعاية لقوتها...ففي مقارنتنا للمشاهد المحفورة بالأشرطة البرونزية لبوابة بلوات التابعة لشلمنصر الثالث(858-824 ق. م) نلاحظ ارتال الأسرى ووفود الملوك وهي تقدم الاتاوات حيث يقف الملك الآشوري بصفتة مؤلف (راوية) للرواية وموضوعا (مرويا له) فيها – في اللوحة أو الحكاية السردية . في الحالتين يتضمن المشهد آيديولوجية إمبريالية مجسمة وبذلك تنقل السلطة لرعاياها صورة مرئية لحقيقة اجتماعية واقعية بما يجعل  من آيديولوجية الدولة أكثر فعالية وتاثيرا.. كما نلاحظ في الوقت نفسه ان استخدام صور تقليدية تكرر استخدامها عبر التاريخ في فنون العراق القديم يفضي هو الآخر ، إلى تخليد مشروعية الملك وسلطة الدولة وتطبيعها وذلك بطريقة الإيحاء وجعل المتلقي يتصل بالماضي ويتوحد به ، على سبيل المثال تصوير الملك وهو يستقبل الموظفين أو يتلقى الاتاوات أو تصويره وهو ممسكا بكأس أمام حاشيته واتباعه بما يذكر بقوة بمشاهد التقديم التي تحاكي مشهد العابدين الواقفين أمام أحد الآلهة كما هو الحال في المنحوتات السومرية والبابلية المبكرة . والإشارة هنا إلى الفن السومري و البابلي المبكر حيث تتكرر هذه المشاهد . غير ان محاكاتها  في العصر الآشوري الحديث تتضمن تحولا دراميا : إذ يقف الملك في التصوير الآشوري في مكان الإله ويقف حاملوا الاتاوات في مكان  الملك مما يوفر تأكيدا مرئيا للآيديولوجية الآشورية يرتكز على أسس جدودية غائرة في اللاوعي الجدودي للعراقيين القدماء تعتمد في نماذجها الأولى على الفن السومري والبابلي القديم ولا سيما في امتثالاتها وتجلياتها الدينية . إلا أن المشهد قد انتقل إلى أشور بصفتها المركز الجديد للحضارة الرافدينية..

ونتابع في الزخارف التي تزين البوابة البرونزبة وهي اكبر نتاج فني في عهد شلمنصر مشاهد رواية تاريخية تختلف عن نظائرها في الزخارف التي تزين بوابة ابيه آشورناصربال الثاني (883-859  ق.م.) إذ نجد أن شلمنصرالثالث في منحوتاته ونصوصه يولي اهتماما اكبر للمغانم التجارية والاقتصادية كعدد المدن التي دحرها وضمها إلى الإمبراطورية وكميات المعادن (الذهب والفضة والنحاس والمجوهرات) فضلا عن السلع والأشياء الثمينة الأخرى التي حصل عليها بطريق الغنائم والإتاوات ، يتعارض هذا التركيز [التجاري] مع روايات ابيه آشورناصربال الثاني التي تركز على مآثره العسكرية وتصور المذابح وأكوام الرؤوس المقطعة واعداد القتلى والمخوزقين والمحروقين والأسرى والخرائب التي تركتها ماكنته العسكرية الطاحنة، بل ان الديباجة التي تصف آشورناصربال الثاني نفسها مثل الخوض في تفاصيل المعارك تنعته [بالمخرب العنيف] و[غازي المدن]، في حين نجد في المقابل أوصافا مختلفة تصف ابنه شلمنصر الثالث فتنعته في اكثر من مكان [بموسع الإمبراطورية] إذ يوصف شلمنصر الثالث على سبيل المثال، [بذلك الملك الذي شق طريقه في الممرات العسيرة ووطأ قمم الجبال والأراضي الشاهقة في الاداني والأقاصي] ، والذي [أجرى المحاكمات في الشمال والجنوب] . وتلكم مجازات أدبية تعكس مصورات مبكرة تمثل جنوده وهم يعبرون الجبال ويجرجرون خيولهم وعرباتهم خلفهم..ويفسر هذا التحول في الآيدويولجيا الإمبريالية بين الأب والابن بالرجوع إلى النظرية السياسية التي ترى ان الأمم في بداية ظهورها على الساحة الإقليمية والدولية تشعر بحاجة اكبر إلى العروض المتغطرسة للقوة من تلك الأمم التي أسست كياناتها منذ زمن بعيد. وبكلمة أخرى، إن بلاد آشور عندما بدأت بتوسيع أراضيها على عهدآشورناصربال الثاني، بدرت فيها حاجة اعظم لعرض جبروتها العسكري في مؤشرات نصية وفنية وترتب على ذلك تصوير الملك صيادا ومخربا ومهاجما عتيدا . ومع تطور الدولة وتوطد القوة الآشورية في منتصف حكم شلمنصر الثالث بدأت الآيديولوجية الإمبريالية تتمحور حول مسائل أخرى تركزت على الشهرة القائمة على جباية الضرائب وأخذ الإتاوات من الأطراف بما يؤكد الاتساع الجغرافي للهيمنة الآشورية.. وتؤكد الأعمال الفنية الأخرى تدفق الاتاوات والأموال إلى المركز الإمبريالي (النمرود) على نحو طبيعي وبدونما قهر أو إجبار، فليس ثمة من ينافس أو يخاصم الملك الآشوري أو ينازعه المشروعية. ويمكن، على ذلك ، تفسير التركيز على مشاهد المعركة في صور البوابة البرونزية بكونها مبكرة وبأنها تعكس حاجة شلمنصر الثالث إلى إعادة تأكيد المشروعية الآشورية في أعقاب موت والده  أوبكونها تقع في بلوات خارج العاصمة الآشورية وبأنها لذلك تعكس رغبة الإدارة الإمبريالية في التأثير بمشاهدين اقل تمدنا وبالتالي اكثر حرونة وضراوة..

بوابة آشورناصربال الثاني:
 
تقدم بوابتا آشورناصربال الثاني البرونزيتان نموذجا صروحيا يعود الى القرن التاسع قبل الميلاد..وقد تم عمل هاتين البوابتين في اثناء حكم الملك الآشوري آشورناصربال الثاني (883-859 ق.م.) وقد اكتشفت الأولى من قبل هرمز رسام عام 1878 في ممر من ممرات قصر الملك في النمرود، واكتشفت الثانية عام 1956 من قبل ماكس ملوان في معبد مامو [إله الأحلام] بالقرب من بلوات..وتكمل هاتين البوابتين المشاهد في بوابة شلمنصر الثالث (858-824 ق.م.) أبن آشورناصربال الثاني التي عثر عليها هرمز رسام ايضا في امغر انليل [معبد مامو] في بلوات في القرن التاسع عشر..وتوفر الأشرطة البرونزية المنحوتة بمشاهد متنوعة والمزودة بتوصيفات على كل شريط ثروة هائلة من المعلومات التاريخية والفنية..ويبلغ عدد هذه الأشرطة في البوابتين 32 شريط برونزي..وكانت إدارة المتحف البريطاني قد اوصت بنقل هاتين البوابتين الى المتحف البريطاني لغرض الصيانة والتوثيق ..قبل اعادتهما الى متحف الموصل حيث عرضتا في المتحف..وكان قدر بوابة آشورناصربال الثاني التي اكتشفت في معبد مامو في بلوات والتي تحمل 16 شريطا برونزيا ..ثمانية لكل جانب، التخريب والسرقة في أثناء العدوان على العراق ومداهمة متحف الموصل حيث يرجح ان السراق ظنوا ان الأشرطة البرونزية ذهبا فاقتلعوا عددا منها من البوابة ..ولم يعثر عليها حتى الآن..مما يجعل توثيق المتحف البريطاني المصور والمنشور بكتاب  المصدر الوحيد المتبقي لتلك الأشرطة المفقودة...ولعل سرقة تلك الأشرطة واتلاف ما لم يتيسراقتلاعه منها كانت مبيتة ومخطط لها بهدف الغاء السجلات العسكرية التي توثق لأنتصارات العراق ..كون تلك الأشرطة تسجل حروب آشورناصربال الثاني وانتصاراته في أورارتا والساحل الفينيقي وتركيا وزاكروس وغيرها..ولا استبعد ان السراق جماعة غوغائية تنفذ اوامر بتحطيم تلك البوابة المماثلة لبوابة شلمنصر الثالث والتي تمثل ملك اسرائيل جيحو جاثما عند قدمي الملك الاشوري وخلفه طابور من حملة الأتاوات لتقديمها في النمرود..

وقد لفتت هذه السرقة انتباهي الى البعد الثقافي والحضاري في العدوان على العراق ..فالحرب هي محاولة لتعطيل نشوء الحلقة الثامنة والأخيرة في سلسلة الحضارة الرافدية ...بطريق التدمير المباشر للماضي الحضاري للعراق ونهب ثرواته واحتياطياته من الذهب واليورانيوم وتدمير الفضاء الصروحي للعراقيين بطريق احتلال نينوى وبابل وبغداد ونهب المتاحف وحرق المكتبات وتعطيل بناء جامع بغداد الكبير...واشعال الفتن والحروب الطائفية بين العراقيين انفسهم.

ومن السرقات الخفية واعمال التخريب الحضاري الكبرى سرقة متحف الساعة في بغداد وتدمير دايوراما القادسية المواجهة لأيوان كسرى في المدائن ..ومتحف الساعة يحتضن ثروة هائلة من الهدايا الرئاسية اكثرها من الذهب الخالص كنماذج الملوية والحدباء وقوس النصر والجندي المجهول فضلا عن جوامع ومضايف وسيوف وخناجر ومسدسات نادرة وعشرات البنادق [الكلاشينكوف] كلها من الذهب.. اختفت بمثل لمح البصر.وكانت العصابات المتخصصة بالسرقة التي دخلت بالزي العسكري الأميركي تبحث عن كنوز النمرود التي كانت القيادة في العراق حريصة على إخفائها في مكان سري تحت المصرف المركزي العراقي..وفي تقارير اجنبية باللغة الأنكليزية متوفرة في الشبكة ان ضباطا امريكان عرضوا مسروقات من المتحف العراقي ومتحف الساعة ومخازن الجيش في مدن في الولايات المتحدة للبيع ..وأن ضابطا اميركيا هرب من العراق مايكفي لتسليح فرقة كاملة بالرشاشات الأوتوماتيكية.. وكان هدف تلك العصابات تخريب مالايقدرون على سرقته او تركه للغوغاء لتخريبه بهدف خلط الأوراق والصاق السرقة بالعراقيين فكانت حصة العديد من المكتبات في بغداد والمدن الحرق والتخريب..

ومن المنجزات الصروحية التي عمد الغزاة على اختلاف الوانهم الى تخريبها دايوراما القادسية ..التي تعد جزءا من تاريخ العراق وتاريخ العرب في العراق بل هي امتداد طبيعي لنمو الروح القومية العراقية منذ فجر التاريخ واحدى تجلياتها الدالة...ويجري في الوقت الحاضر تخصيص الأموال لترميم ايوان كسرى الذي يرمز الى الإحتلال الساساني الأيراني للعراق والذي يمثل مخلبا اجنبيا في ارض العراق وادامته بينما تم تدمير مبنى دايوراما القادسية تدميرا كامل..ودايوراما القادسية التي نفذتها شركة كوبية بإشراف خالد الرحال تمثل بالنحت والرسم معركة القادسية من بدايتها وحتى نهايتها فنشاهد في العمق حصنا اشبه بحصن الأخيضر ينطلق منه الفرسان العرب صوب الفرس وكلما اقترب المشهد اصبح ثلاثي الأبعاد فترى المقاتلين فرسا وعربا الى جانب الصخور والأشجار والرمال منهم من يشتبك بالسيوف والرماح ومنهم من سقط على ارض المعركة بينما يجثو الفيل الذي جلبه الفرس وقد استقرت النبال بعينيه في وسط المركة بما يعيد الى الذاكرة  حملة ابرهة على الكعبة وتصويرها في سورة [الفيل] ....والمهم في هذه الدايوراما انها جاءت في سياق تاريخ وتاريخ نقيض اي تاريخ العرب أزاء تاريخ الفرس حيث كان كسرى قد امر بتزيين جدار الأيوان برسوم معركة انطاكية التي انتصر فيها الفرس على الروم ...وخلد تلك الرسوم الشاعر العباسي البحتري الذي زار الأيوان ووصف تلك الرسوم:

وإذا مارأيت صورة أنطا                     كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر               وان يزجى الصفوف تحت الدرفس
في اخضرار من اللباس على أصـ          ـفر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين يديه               في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوى بعامل رمح                   ومليح من السنان بترس

ثم يعرج على ماحل بالأيوان من خراب بسبب الإهمال فيقول:

عكست حظه الليالي وبات              المشتري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلدا وعليه                     كلكل من كلاكل الدهر مرسى
ليس يدري أصنع أنس لجن                   سكنوه أم صنع جن لأنس
 
وفيما يعود البلى في الأيوان الى يد الزمان، خربت االدايوراما عن سابق قصد ألأيدي الغريبة نفسها التي سرقت وخربت بوابة آشورناصربال الثاني في متحف الموصل..مما يبرز بقوة المسألة الحضارية في الحرب والجهات التي تقف وراء التخريب الحضاري في العراق..

ومن المفارقات المثيرة ان يجري العديد من الآثاريين والصحفيين الأجانب تحقيقات عن تلك السرقات بدون اشارة الى العدوان الذي لم يوفر الحماية للمتاحف والمكتبات وكان السبب الرئيس في انهيار الأمن وما اعقبه من تخريب ونهب لحضارة العراق، وتشيرالتقارير الى ضبط العديد من المسروقات بايدي ضباط ومراتب اميركان قاموا بتهريبها الى الولايات المتحدة لبيعها هناك..فهل هؤلاء جنود ام حرامية وسراق متخصصين فضلا عن كونهم قتلة مأجورين..وفي احدى المقابلات التي اجرتها مجلة متخصصة بالآثار مع المسؤولين في متحف الموصل، أشارت صبا العمري وبرناديت حنا متي ومنهل جبر الى جسامة الأضرار التي الحقها السراق بالمتحف لمجلة آركيولوجيا في عددها الصادر في 4 حزيران 2003:


(ومازال موظفو المتحف يقيمون الأضرار ويرفضون بشدة اعطاء اي رقم للقطع المفقودة.ولكن 34 قطعة على الأقل فقدت من صالات العرض الرئيسة والعديد العديدمن القطع الأخرى خربت..كما نهبت وخربت تماما غرفتين من غرف المخزن، في الوقت نفسه الذي تعرض فيه المتحف الوطني في بغداد للنهب..وقالت برناديت حنا متي الموظفة في متحف الموصل لمجلتنا انها العصابة العالمية نفسها..

وكانت الأضرار ستكون أكثر جسامة لو لم يمض موظفو المتحف أشهرا من التهيوء للحرب..فقد عملوا على نقل أنفس القطع الآثارية القابلة للحمل باليد وعددها 5500 قطعة للخزن في متحف بغداد..وكان آخر صنوق اتخذ طريقه الى بغداد قبل ثلاثة أيام من بدء القصف الأميركي البريطاني..وتركت في المتحف القطع الكبيرة التي يصعب نقلها..وقام الموظفون في المتحف بتغليف هذه القطع الكبيرة ووضع أكياس رمل حولها خوفا من تكسرها في حال سقوطها على الأرض..ولم يتلق موظفو متحف الموصل اية كلمة من بغداد حول مصير القطع التي ارسلوها اليهم..وقالت برناديت حنا متي: إن لم تكن هذه الأشياء قد سرقت [من متحف بغداد] فبمقدورنا اعادتها الى الموصل ولكن ليس لدينا اية معلومات عنها..[لقد نقلناها الى بغداد للمحافظة عليها ومازلنا نحن المسؤولين عنها]..
ويتمثل أكبر فقد في الموصل بثلاثين شريط برونزي كانت معلقة على بوابة في مدخل مدينة بلوات تعود الى القرن التاسع ق.م. فقد قام السراق بنزع هذه الأشرطة الأصلية من على نسخة مماثلة للبوابة الأصلية..بينما لم يقتلعوا 44 شريط آخر في البوابة نفسها على الرغم من الحاقهم اضرارا بالرسوم البرونزية في محاولتهم انتزاعها من البوابة أيضا..وتمثل الأشرطة البرونزية مشاهد عن الحياة الملكية في بلوات..وكررت صبا العمري المسؤولة في متحف الموصل [يمكن ان تقسم النهب الى مرحلتين، في الأولى دخل [السراق] المتخصصون لأخذ مايريدون ثم دخل [عامة] الناس [الغوغاء] لحمل مايقدرون على حمله..وكانت صنايق العرض الزجاجية والنوافذ محطمة ولم تفد كاميرات المراقبة المنصوبة هناك منذ سنوات لأنها سرقت هي أيضا)

وأتوقف عند هذا الحد في ترجمة التقرير المؤلم ..واتساءل مع موظفي متحف الموصل :أين قطعنا ألأثرية يابغداد؟ وهل كان قدرها السرقة أيضا؟ علما ان الموصل ارسلتها للحفظ وليس للعرض...وإن كانت سرقت من المخزن فكيف تيسر ل[ موظفين جدد] معرفة محتويات المخزن؟وما أدرى الغوغاء بوجود نفائس في المخزن؟..وهناك تقارير مماثلة كثيرة عن سرقة المتحف الوطني في بغداد ..غير ان معلومات لاتوجد عن سرقة متحف الساعة والقصور الرئاسية والمكتبات والمصارف ..وما حصلنا عليه من معلومات نادرة في هذا الخصوص فمن طريق الصدفة او التوثيق الصوري للمحتل نفسه والمتوفر في الأنترنت والمطبوعات الأجنبية  وما نستدل به من تلك الصور عن طبيعة السرقة والسراق..كما في صورة لأميركي يحمل بندقية كلاشينكوف من الذهب يعرف الجميع انها من موجودات متحف الساعة..

ويبدو من مقارنة الغزوات الأجنبية للعراق منذ الألف الثالث ق.م. أن العدو يستهدف في كل مرة تخريب و نهب النتاج الحضاري والثقافي والفني للعراقيين وفي حالات نادرة يفرض طابعه الهمجي منتحلا ثقافة العراق .. فقد خرب الكوتيون أكد والحواضر السومرية وخرب الكاشيون بابل ونهب العيلاميون مسلة حمورابي وتمثال مردوخ ونقلوهما الى عيلام ومد الفرس الساسانيون اصبعا في المدائن فشيدوا أيوان كسرى..وهو لايعكس روح الثقافة القومية العربية بقدر مايمثل لإحتلال أجنبي للعراق..واليوم يجري تخصيص اموال طائلة لصيانة أيوان كسرى أزاء إهمال مبنى دايوراما القادسية الذي خرب تماما على الرغم من كونه تمثيلا فنيا راقيا للأنتصار العربي على الفرس في معركة القادسية..

لقد اهتم العراقيون منذ فجر التاريخ بسيادتهم الوطنية واستقلالهم السياسي وعكسوا روحهم القومية في عمارة صروحية دينية ومدنية جعلت لبلاد الرافدين طابعا خاصا وملامح متميزة متوارثة..وعملت الإرداة السياسية لعقود قبل غزو العراق على توحيد اشكال العمارة الصروحية بترميم واعمار المدن العراقية التليدة بابل ونينوى واور واكثار بناء الجوامع والمساجد والكنائس والأديرة وتوسيعها واعمار العتبات المقدسة والمتاحف والمكتبات الكبرى بل ساعد العراق على اعمار مكتبة الأسكندرية في مصروتبنى مشاريع عمرانية أخرى في الوطن العربي ايضا..وهم بذلك انما يعكسون حركة الروح الكونية في نموها وتجلياتها في الفن وفي الفضاء الصروحي ألأمبراطوري الذي يحاول ألأجانب والغرباء تخريبه أوسرقته من العراق وانتحاله لأنفسهم منذ فجر التاريخ وحتى العصر الحاضر..

ويؤكد اهتمام الحلقات العلمية الغربية المتخصصة في تاريخ الحضارة بالعراق تأصل التحضربل وانبثاقه من بلاد مابين النهرين حيث شيدت اولى المدن ووضعت اولى التشريعات وابتكرت الكتابة واخترعت العجلة وأسست الدولة فضلا عن إزدهارالفنون والآداب والعلوم  في وقت كانت اوربا تغطيها المستنقعات والغابات وتجوبها الحيوانات المفترسة والقبائل البدائية المتوحشة..فلاغرابة ان تتخذ روح العالم من العراق مضمارا لحركتها ونموها منذ الألف الثالث ق.م. وقد تميز العراقيون منذ العصور القديمة بالأهتمام بالعمارة الصروحية ...وكانت البوابات العملاقة كبوابتي شلمنصر الثالث وبوابة آشورناصربال الثاني نموذجين بارزين للعمارة الصروحية لأنهما تؤكدان على قدسية المكان الذي يدخل الزائر منه الى المدينة ...وكان وضعهما في معبد مامو (إله الأحلام) في بلوات ذي مغزى ديني وآيديولوجي بحيث يتعرف الزائر الأجنبي قبل دخوله كالخو [النمرود] من الصور المعروضة عليهما على قوة الدولة الآشورية وبأسها وهيبتها فلايتردد بتقديم ألأتاوات وتأكيد مظاهر الولاء للملك الأشوري..فالبوابتان هما من الكبر [يبلغ طولهما اربعة امتار] بحيث يمكن من خلالهما دخول الملك وحركة الكائنات الأسطورية الحارسة للقصور والمعابد الآشورية كنسروخ واوانيس [داغون]والثيران المجنحة.. وكما حدث في الغزو الكوتي والكاشي والعيلامي والميدي والحيثي للعراق قديما من تدمير مقصود ومبيت للصروح الحضارية في مدن العراق عمد الغزاة المعاصرين وذيولهم من بقايا الكوتيين والميديين والعيلاميين وأولاد عمومتهم الى تدمير الصروح الحضارية في العراق المعاصر وتطاولوا على المتاحف لتدمير الصروح القديمة واتلافها وسرقتها...وكان هذا قدر بوابة آشورناصربال الثاني ..وكانت الرسوم ستضيع تماما لولا قيام خبراء في المتحف البريطاني بتوثيقها وتصويرها ورسمها واصدارها بمجلد كبير حرص كاتب هذا المقال للحصول على نسخة منه لأهدائها لمتحف الموصل أو للمكتبة المركزية في جامعة الموصل أملا في اعادة إكساء البوابة بنسخ ممماثلة من الرسوم البرونزية المفقودة والتالفة ..وحرصا على صفحات مهمة من تاريخ العراق الأمبراطوري قام العدو بسرقتها وتضييعها..والله والحقيقة والوطن من وراء القصد..
 
تمثل الصور المرفقة مع هذا المقال جانبا من التخريب الذي لحق بالبوابات والمنشئات الثقافية في العراق من قبل الغزاة الجدد وتواجد المحتل في قلب بابل والحضر والنمرود والقصور الرئاسية والنصب الصروحية..كما تمثل عددا من البوابات الصروحية وصور لما يعرف بالحواسم تبين طبيعة المسروقات التي اهتم بها الغوغاء مقارنة بصورة لضابط امريكي اخفى وجهه يحمل بندقية من الذهب من موجودات متحف الساعة وصورا تقارن العراق بين الامس واليوم وعددا من الصور النادرة لدايوراما القادسية التي تم تخريبها تماما في المدائن..











































14
الرحالة سفين أندرز هدين
وصورة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى




صلاح سليم علي
مقدمة:

يشاكه البحث التاريخي احيانا الأستكشاف الجغرافي الذي لايتحقق إلا في خوض تجربة التحرك في المكان واستكناه التجربة التاريخية لفرد أو أمة برمتها بطريق اقتفاء خطى  ذلك الفرد وتلك الأمة في المكان..والتجربة الزمانية، على الرغم من أولويتها على التجربة المكانية، تتخذ إذن تجسيماتها كاملة او تكاد من خلال التجربة المكانية لأن الحركة توحد الفكر والجغرافيا او الزمان والمكان في إطار التجربة المعاشة سواء في حقيقتها التاريخية أم في امتثالاتها التخيلية..ويشبه الإكتشاف المعرفي الأستكشاف الجغرافي من حيث كون الظاهرة التي يصار الى أكتشافها أو استكشافها موجودة ..ولكنها تبقى حتى لحظة إكتشافها خارج طائلة الوعي الإنساني..وهنا لابد من التفريق بين العام والخاص من خلال هذه التجربة فالأستكشاف الجغرافي مهما تعددت دوافعه وأهدافه عام سرعان مايصبح كالأنترنت والهاتف النقال ملكا للبشرية جمعاء غير أن الأكتشاف المعرفي خاص وان انتقل الى الدائرة الإجتماعية يبقى محدودا بزمن معين او لغة معينة او مجتمع ما..ويصبح اكثر خصوصية اذا كان نتاجا معرفيا ادبيا او شعريا فيكون خاصا بحضارة بحدها ومجموعة لسانية معينة لابد من نقل معانيها بطريق الترجمة ..ونستثني من ذلك النتاج الفني كالتصوير والموسيقى والنحت والزخرفة والعمارة وغيرها مما يكسر الحدود القومية والحضارية واللسانية لأنه يقع خارج الكلام، و يخاطب العين والأذن مباشرة ولايحتاج في نقله لمترجم او ترجمان..
وبحكم إتساع العالم وتعدد الشعوب والأمم وتنوع تجاربها الحضارية وتقاطع حدودها الحضارية واللسانية تتعدد التجارب الفردية وتتنوع..وتبدو مهمة الإحاطة بها شبه مستحيلة على الرغم من توفر الموسوعات المتنوعة والمؤلفات والوثائق وتيسر المعلومات بطريق الشبكة العنكبوتية ..مما يدعو البحاثة المتخصص او الهاوي، كما هو الحال معي، إلى تضييق مجال البحث ليشمل مرحلة معينة من مراحل التاريخ في مضمار صلتها بمحور ما، كأن يكون مدينة او حقل معرفي أو مرحلة تاريخية أو مدرسة فكرية ثم الإنتقال الى حلقة أخرى وهكذا دواليك ..وهو جهد سرعان مايكتشف البحاثة أنه أمضى ردحا ليس بقليل من الزمن في استقصائه والإلمام بأطرافه وقد امتدت وانتشرت وفقدت الوانا واكتسبت الوانا أخرى ..وذلكم ديدن العارف الموسوعي..الذي سرعان مايدرك انه في قلب ثقب أسود يساهم في ميلاد كون آخر على انقاض هلاك أكوان أخرى..وهذا عناء يدعوني إلى التمسك بأطراف أثواب فلاسفة أختصروا التجربة الإنسانية افتراضيا وتصوريا من امثال لايبنتس ولابلاس وكانت وهيجل، وربما توسعا،رينيه ديكارت و أدمند هسرل..وعلى اية حال يحمل الفرد كما قال ادونيس [شعريا] اسراره كما تحمل البراكين حممها في اعماقها ويموت ..كما تموت البراكين بعد ما تركت في رماد حريقها ارضا خصبة معطاء للزارعين والحاصدين والآكلين..غير أنه لايلبث ان ينبعث مجددا في عصر آخر وفي مكان آخر..بطريق ماتركته روحه من بصمات في صفحات الأبداع والمحاولة الأنسانية الكبرى في كشف اسرار العالم والسيطرة على الطبيعة..
وتلكم إحدى نتائج تجربتي المعرفية في الكتابة عن الرحالة السويدي سفين أندرز هدين في رحلته الى العراق ووصفه الموصل بعد طوافه العالم مقتفيا خطى الأسكندر المقدوني وماركو بولو.. ولعل انجاز سفين هدين في ميدان الإستكشافات الجغرافية وادب الرحلة يتجاوز انجاز ماركو بولو..فقد حقق بمفرده مايندر ان يحققه اي رحالة آخر في عصره وفي العصور كلها بحيث لايمكن مقارنة منجزاته لفرادتها بأي منجزات أخرى من نوعها..فقد أمضى عشرين سنة في آسيا وحدها متنقلا بين أصقاع لم يرتادها أحد من قبله وانجز 65 كتابا واكثر من 55 تقريرا علميا ومئآت البحوث فضلا عن إلقائه المحاضرات في عواصم عالمية مختلفة خلال النصف الأول من القرن لعشرين. ومن الملوك والقادة الذين قابلهم وتلقى تكريما منهم الملك اوسكار الثاني عام 1890، وشاه ايران ناصرالدين شاه في السنة نفسها، وقيصر روسيا في 1896 و1909، وأجرى لقاءات عديدة بفرانس جوزيف الأول قيصر النمسا-المجر،  والتقى عام 1902 باللورد كرزون الممثل البريطاني في الهند، والتقى بالقيصر البروسي ويلهلم الثاني خمس مرات بين عامي 1903 و1936، وبالممثل البريطاني الثاني على الهند اللورد مينتو، والتقى برئيس كهنة اللاما التبتي شوكي نييما 1907، 1914، و1933، وقابل امبراطور اليابان موتسوهيتو في 1908، واالبابا بيوس العاشر عام 1910، وتيودور روزفلت في السنة نفسها، ثم التقى بالسياسي والرئيس الألماني لاحقا فون هندنبرج عام 1915، وبالزعيم الصيني القومي شيانغ كي شيك عامي 1929 و1935 واخيرا بأدولف هتلرثلاث مرات في 1935 و1939 و 1940...وتتجاوز اهتمامات سفين هدين الجغرافيا وعلوم الأرض والطوبوغرافيا والأنثروبولوجيا والخرائط الى الأدب والسياسة والتاريخ  والتصوير والرسم واللغات والدبلوماسية..وفيه مسك ختام الجهود التي بذلها الغرب لأستكشاف الأرض منذ ماركو بولو..وبينما  تتخلل روايات ماركو بولو الخرافات ويشوبها الخيال، تتصف روايات سفين هدين بالواقعية والعلمية والموضوعية..بل ومنها ماقدم فيه تأويلات علمية لظواهر طبيعية غامضة لم تفسر من قبله كتفسيره لظاهرة البحيرة المتجولة (لوب نور) التي تغير مكانها  في حوض نهر تاريم في الجزء الصيني من طريق الحرير ووضح تلك الظاهرة في كتاب عنونه (البحيرة المتجولة)، كما استظهر مدينة لولان الغائبة تحت رمال صحراء لوب والتي كانت محطة التجار عبر طريق الحرير..كما اكتشف الجبل المقدس كايلاش في هملايا التبت وهو مصدر انهار الهند ك انجا وبراهامابوترا وسوتلج والإندوس ومقر الإله شيفا وطريق بوذا الى النرفانا..وهو جبل تحيطه الأساطير اشبه بهرم مربع الأضلاع تغطيه الثلوج طيلة أيام السنة تقع في سفحه اعلى بحيرة في العالم. وتكريما لجهوده العلمية الفذة أطلق اسمه على نهر جليد في كندا وعلى أحدى فوهات القمر وعلى نوع من النباتات الزهرية ونوعين من خنفساء الرمال وعلى نوع من الفراشات وعلى نوع من السحالي الصحراوية و نوع من المتحجرات فضلا عن إطلاقه على عدد من الشوارع في الكثير من البلدان واقيمت له نصب وتماثيل في السويد وغيرها..هذا فضلا عن معرض دائم لكتاباته ومعداته ورسومه في المتحف الأثنوغرافي في ستوكهولم..وقد زار كاتب المقال المتحف وصور عددا من الكتب والمقالات والصور ذات الصلة برحلة سفين هدين الى الموصل و قد دونت العبارة الآتية على نصب كرس لتخليد منجزاته: (موطنه السويد أماعالمة فمفازات آسيا ومجاهيلها).

ثقافته ورحلاته:
ولد سفين أندرز هدين في ستوكهولم في 19 شباط عام 1865 مما يضعه ضمن مواليد برج الحوت الذي انعكس في شخصيته الأريحية المحبة للحرية وميله الى الأدب والمغامرة..والمطاولة منقطعة النظير..في اسرة محافظة  تنتسب في احدى تفرعاتها لنبلاء السويد وكان والده لودويج هدين المهندس المعماري الأول للعاصمة السويدية ستوكهولم..وجده الأول لأبيه طبيبا خاصا للملك كوستاف الثالث..وكان سفين هدين في الخامسة عشرة من عمره عندما خرجت ستوكهولم للترحيب بعودة المستكشف السويدي ورائد علم الخرائط أدولف إريك نوردنشالد (1832-1901) لمنطقة القطب الشمالي من رحلة عبر الممر الشمالي الشرقي للأطلسي وهي المناسبة التي ولدت في روحه حب المغامرة والأستكشاف الجغرافي.
وبعد إنهاء دراسته التحضيرية، شرع بأولى رحلاته عام 1885-1886 في روسيا وعبر القفقاس الى باكو ومنها إلى بلاد فارس وتركيا العثمانية والعراق ووثق لرحلته الأولى في كتاب صدر عام 1887 عنوانه عبر بلاد فارس ومابين النهرين والقفقاس قدم له المستشرق الهنغاري أرمينيوس فامبري المعروف بأسم (رشيد أفندي) أستاذ أيجناس كولديزيهر ومساعد مهندس الأصلاحات التركي محمد فؤاد باشا ودليل السلطان عبد العزيز في رحلته الى مصر..وفي باكو عكف على تعلم اللغات الشرقية الروسية والفارسية والأيغورية اضافة الى مخزونه من اللغات الأوربية كالروسية والألمانية والإنكليزية..فضلا عن ممارسته فن الرسم والتصوير البانورامي والطوبوغرافي استعدادا لسيرة طويلة تنتظره من الرحلات في قلب آسيا.
وعند عودته الى أوربا شرع في دراسة اكاديمية لعلم الأحفوريات والجغرافية وعلوم الأرض واصدر كتابا ثانيا حول رحلات المكتشف الروسي لآسيا نيقولاي زيفاسكي (1839- 1888) الذي قدم له نوردنشالد..ودرس في جامعة برلين بأشراف الجغرافي الألماني فرديناند فون ريختهوفن الذي كان أول من أطلق تسمية [طريق الحرير] على الطريق التجاري الشهيرعبر آسيا والشرق الأدنى..وفي عامي 1890- 1891 أختير لعضوية البعثة الدبلوماسية السويدية الى بلاد فارس ثم اصبح بعدئذ رحالة مستقلا في روسيا الآسيوية حيث امضى الشتاء في جبال قاشغر ثم قاشغر نفسها وهي عاصمة تركستان الشرقية التي غير الصينيون اسمها الى شينغيانغ بعد احتلالهم لها عام 1949..وتمخضت رحلته تلك عن كتابين اولهما (سفارة الملك أوسكار)، وثانيهما (عبر خراسان وتركستان) الذي صدر بمجلدين..وقد مكنته هذه الرحلة من توسيع معرفته ببلاد فارس وبخاصة جبل داماوند الذي درسه بالتفصيل ..وعند عودته إلى برلين واصل دراسته لعلوم الأرض التي اختتمها بكتابة أطروحته لنيل الدكتوراه في الجغرافيا عن جبل داماوند في بلاد فارس قدمها لجامعة هالة عام 1892..وقد تعرض لعدوى افقدته البصر في إحدى عينيه ..مع ذلك لم تعرقله تلك الإصابة من مواصلة رحلاته..
وفي عام 1893، شرع سفين هدين برحلة ثالثة كبرى هذه المرة عبر آسيا الوسطى بتمويل من الملك اوسكار أخذته من روسيا إلى سلسلة جبال بامير او (سقف العالم) حيث تلتقي عند همالايا سلاسل الجبال الآسيوية وهي المنجم الذي كان الآشوريون يتزودن منه باللازورد (اللابيزلازولي)..فرسم طوبوغرافيا بامير ثم انتقل الى حوض نهر تاريم واستكشف المفازات المجهولة في الصحراء المحيطة بالنهر بحثا عن المدينة الأسطورية لولان بهدف التعرف على طبيعة التغيرات الجيولوجية التي ادت الى اختفائها تحت رمال الصحراء ومن تاريم انتقل الى مارال باشي (رأس الغزال) وتوموشوق عام 1895 ، ثم انتقل الى مواقع مملكة خوطان القديمة على الأطراف الجنوبية لصحراء تكلمكان المأخوة من عبارة عربية معناها (أرض التهلكة أو الهلاك) والتي كاد سفين هدين  ان يهلك فيها كما يخبرنا في وصفه لهذه التجربة الفريدة من نوعها:
(في تلك الليلة سرنا لساعات حتى بدأت شمس الرابع من ايار بالسخونة، عندما جثونا عراة على الرمال..وفي الليل واصلنا تقدمنا ولكن على ايدينا وارجلنا معا وبعد كل عشر ياردات نتوقف لنسترد انفاسنا ونعاود الزحف..أردت البقاء على قيد الحياة..وشعرت ان حياتي يجب ألا يرمى بها [تنتهي] على هذا النحو..فوجدنا شجيرات حور ثلاث على بقعة ترابية خالية من الرمال..حاولنا ان نحفر على أمل ان نجد تحتها ماء ولكن الوهن كان أخذ منا وكانت الأرض شديدة الصلابة فلم نحفر أكثر من ستة انجات..ثم ارتمينا على وجوهنا وبدأنا بتغوير التراب باصابعنا وكانها كلاليب يائسة..ولكن لم نقدر ان نحفر عميقا..فتخلينا عن امل ايجاد ماء في هذا المكان واشعلنا النار على أمل ان يراها إسلامباي الذي بقي مع الجمال ويلحق بنا..وهذا ماحدث فعلا ولكني عرفت ذلك فيما بعد..ودارت ليلة الخامس من أيار فنهضنا وواصلنا السير شرقا..كانت خيبة الأمل قد استحوذت علينا تماما.لأن الحور كان قد أعطانا أملا بعد ان تجاوزنا حزاما واسعا من الرمال الماحلة الجرداء..وأخيرا شاهدنا خطا اسودا في الأفق ..فعرفنا انها لابد ان تكون غابة خوطان داريا، فوصلناها مع تزايد حرارة الشمس..وكانت الغابة غاية في العمق والكثافة..غابة سوداء من الأشجار المكتهلة. وشاهدنا آثار حيوانات برية فاستلقينا سحابة النهار كله عراة في ظلال الغابة التي لم نجد فيها اثرا للماء. وفي المساء إرتديت ثيابي وقلت لقاسم أن ينهض..فلم يقدر على الحركة..وراح في نوبة خبال فقد كان مستلقيا على ظهرة مادا ذراعيه على طولهما عاريا فاتحا فاه وبعينين مذهولتين يحدق في الفراغ..فواصلت السير متهالكا..الغابة كثيفة حالكة السواد وتبدو في الليل بلا اتجاه...ولم اكن قد أكلت شيئا  خلال عشرة ايام او شربت شيئا  خلال تسعة ايام [القصد أنه تقوت مايكفيه للبقاء على قيد الحياة فحسب] ..فجزت الغابة زحفا على اطرافي الأربعة..مترنحا اتشبث بالشجرة تلو الأخرى..وكنت استند على ذراع المعول لكي انهض لأستبيان الدرب حتى وصلت مكانا مفتوحا..هو مجرى نهر "خوطان داريا" الناضب وكأنني لم اقطع غابة بل هضبة ماحلة حل بها الدمار..لم اجد قطرة ماء واحدة ..وادركت ان الموسم هو الأسوء  بالنسبة للماء..فالنهر ينضب في الربيع لأن الثلوج التي تغذيه لم تكن قد ذابت في الجبال بعد..لكن لابد من المطاولة ..أريد أن أعيش..سأجد الماء..كنت واهنا تماما لكنني زحفت على أطرافي الأربعة، وأخيرا عبرت مجرى النهر، فسمعت صوت بطة وفوضى تصدر عن تحريك ماء..فزحفت باتجاه الصوت، فرأيت بركة كبيرة من الماء الصافي النقي..فشكرت الله أولا وتحسست نبضي..أردت أن أرى تاثيرشرب الماء عليه..وكان بمعدل 48 نبضة..فشربت...شربت بخوف..وكان لدي علبة صغيرة  كان بها شوكلاتة كنت قد رميتها لأني لم اكن اقدر أن ابتلع شيئا، بيد اني كنت واثقا طول الوقت باني سأجد الماء وبأني سأستخدم تلك العلبة القصديرية كأسا لشربه..فشربت وشربت وشربت..وكان شعورا غامرا بالبهجة..شعرت بان دمي يترقرق..وبدأ يجري في شراييني..وأن مساماتي تتفتح..وزادت نبضات قلبي لتصل 53 نبضة..فشعرت بالعنفوان والحياة مجددا..وبينما كنت مستلقيا عند البركة سمعت فوضى أشبه بصوت حيوان يتحرك..ففكرت انه لابد ان يكون نمرا..فهناك نمور في خوطان داريا..ولم أكن لأشعر بأي خوف..فالحياة التي رجعت الي لتوها لايمكن ان ينتزعها مني نمر..فانتظرته بحبور..أردت أن احدق في عينيه..إلا أنه لم يأت لعله يخشى أن يرى انسان..فتذكرت قاسم، فخلعت فردتا حذائي السويديتان وملئتهما بالماء وعلقتهما في نهاية ذراع المعول الخشبي وعدت على آثار قدمي..فبمقدوري أن أمشي الآن..ولكن الظلام أخذ يطبق على الغابة عند وصولي لها فلم اقدر على رؤية آثار قدماي وبدأت اصيح: قاسم! قاسم! قاسم!..ولكني  لم اسمع ردا..ففكرت انه ربما يكون قد مات..فأشعلت النار في الغابة - خوفا من النمور- نارا عظيمة فأنارت المكان على نحو رائع  ذلك الظلام الغامض الذي يكتنف الغابة البدائية..وشعرت ببهجة عظيمة لرؤية تلك النار..وعند شروق الشمس بحثت عن قاسم ووجدته..فناديت عليه فرفع رأسه قليلا ..فصحت "ماء" فهز رأسه ..اريد أن اموت..فقربت الحذاء من وجهه فانسكب بعض الماء فاندفع مثل وحش ضار ورمى نفسه على آنيتي الماء مفرغا اياهما واحدة تلو الأخرى حتى آخر قطرة ثم استلقى ورفض الوقوف على الرغم من طلبي منه ان يصاحبني الى البركة ليستحم ..فحملته وعدت إلى البركة ..وفي البركة سبحت [اغتسلت] ثم اتجهت جنوبا مع مجرى النهر.. )
تلكم كانت معاناة سفين هدين في صحراء [التهلكة] تكلمكان التي وصفها تجار طريق الحرير بمتاهة الموت..وهي متاهة لم يتمكن من تجاوزها وقهرها في اوقات الجفاف سوى نزر قليل من الرحالة ، لما تتصف به رمالها من قدرة على التنقل وتشكيل الكثبان المرتفعة..بل من غمرها لحواضر وكنوزعديدة تكونت في الأزمنة الغابرة وغارت تحت الرمال...بيد ان سفين هدين واصل سيره..راجلا مرة وراكبا أخرى زاحفا طورا وراكضا أطوارا أخرى، فاكتشف المواقع الآركيولوجية لدندان اوليج (مدينة بيوت العاج) و (قرة دونغ) على طريق الحرير في عمق صحراء تكلمكان ثم درس ظاهرة انتقال بحيرة لوب نور من مكان إلى آخر وتغيرحجمها..وانتقل لأكتشاف الأطراف السفلى لنهر تاريم قبل ان يعبر صحراء كوبي ويصل بكين عام 1897 حتى انهى رحلته بوضع خارطة متكاملة للجزء الشمالي لهضبة التبت..ثم عاد الى السويد عبرسيبيريا فبطرسبورغ التي قابل فيها القيصر..ثم وصل ستوكهولم  لينشر كتابين يصف في احدهما تفاصيل رحلته عنوانه (رحلة عبر آسيا) وضمن الثاني التقارير العلمية التي كتبها خلال الرحلة، وفي عام 1898 تلقى ميداليات عديدة اهمها ميدالية المؤسسين من الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية وميدالية فيكا من الجمعية الجغرافية السويدية..
و شرع سفين في عام 1899 في رحلة رابعة الى آسيا بدعم من الملك الروسي الذي زوده بدليل من القوزاق حيث تابع طوبوغرافيا نهر تاريم ودرس بحيرة لاب نور مجددا وزار اطلال مدينة لولان على طريق الحرير ثم استكشف التبت ووضع خرائط متنوعة لها..وحاول ان يزور عاصمة الدالي لاما (لاسا) او المدينة الممنوعة التي حدثنا عنها ماركو بولو، متنكرا.. غير ان رهبان الدالي لاما اكتشفوا امره ومنعوه من زيارتها وارفقوا معه حرسا قاده خارج التبت فعاد عبر لاداخ وكشمير الى كلكتا حيث قابل اللورد كورزون الذي لعب دورا فيما بعد في تكوين تركيا الكمالية ، ثم اتجه الى روسيا ومنها عاد  الى السويد عام 1902 حيث منحه ملك السويد اوسكار لقب نبيل وكان آخر سويدي يمنح هذا اللقب..ونشر نتائج رحلته في كتاب بمجلدين عنونهما (آسيا: الف ميل عبر الصحراء) و النتائج العلمية لرحلة في وسط آسيا..واعقب هذا المجلد الضخم باطلس تضمن 84 خارطة نشر له في 1904-1907، ومنح على أثر ذلك ميدالية الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية..
ورجل من طراز سفين هدين لايعرف معنى للأستقرار..وفي قاموسه لانعثر على مفردة للراحة  لم يلبث طويلا في ستوكهولم بل شرع في الرحلة الخامسة الى آسيا، الثالثة الكبرى، في سلسلة رحلاته (1906-1908)، واخذته عربته هذه المرة الى شرقي بلاد فارس لدراسة صحراء الملح العظمى المعروفة (بدشتي كافر) والتي نشرها بكتاب عنوانه ( دراسة في طرق شرقي آسيا) 1927، وعندما تهيأ للسفر الى التبت لأنجاز مهمته الرئيسة وهي أستكشاف المناطق الواقعة ماوراء جبال همالايا واجهته صعوبات كثيرة بسبب اعتراض حكومات بريطانيا والصين والتبت على رحلته مع ذلك تمكن من تجاوز الحواجز الجبلية ومسح المناطق الواقعة وراء جبال الهمالايا وكان قد استكشف في رحلة سابقة هضبة التبت في قسميها الشرقي [نين شينغ تانغ لا] والغربي الذي اطلق عليه اسم [كايليس] او [كايلاش] ومازال يعرف بهذا الأسم..فتمكن من استكشاف وتخطيط  الجزء الأوسط والأصعب من مرتفعات التبت وبحيراتها فحدد درجات ارتفاع الممرات الرئيسة واظهر التكوينات الجيولوجية..وتوغل الى منابع أنهار الأندوس وسوتلج وبراهمابوترا ثم زار اكبر المدن في المنطقة (شيكاتسي) ووضع خرائط لروافد ألأنهار الرئيسة..وسجل هذه الرحلة بكتابين اولهما (الرحلة برا الى الهند) 1910، و(ماوراء جبال همالايا) 1909-1913، ووثق النتائج العلمية في كتاب اسماه (جنوبي التبت) 1916-1922. وعاد من التبت الى الهند عام 1908 ثم الى اليابان حيث التقى بالأمبراطور الياباني  ثم اتجه شرقا على قطار سيبيريا وعندما عاد الى السويد، استقبل بحفاوة من قبل الملك السويدي ووجهاء السويد..
وفي السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى انشغل سفين هدين بالشؤون السياسية ودعا الى اعادة التسلح كما اصدر افضل كتبه مبيعا في ذلك الوقت في جغرافيا العالم (من القطب الى القطب). وعمل خلال الفترة (1914-1915) مراسلا في الجبهات الشرقية والغربية فزار الجبهات الألمانية في بلجيكا وفرنسا والمانيا ولوكسمبورغ  ووثق جولاته في الجبهات بكتاب عنونه (مع الجيوش الألمانية في الغرب) 1915 وكان سفين هدين شديد الولاء لألمانيا..وهو ولاء تأكد خلال الحرب العالمية الثانية فقد سافر الى برلين بصحبة شقيقته ..وكان الأجنبي الوحيد الذي القى كلمة في افتتاحية الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936، كما التقى بأدولف هتلر مما تسبب في اتهامه بالنازية..إلا أن الوثائق تذهب الى القول بأنه كان قد وظف نفوذه لدى الألمان في محاولات إطلاق سراح سجناء اوربيين - نرويجيين ويهود - من المعتقلات النازية غير أن اليهود على الرغم من حسن نواياه لم يغفروا له حتى هذه اللحظة صداقته لهتلر وتأييده للحركة القومية ليس في المانيا وحدها بل في العالم باسره..ورأيي ان سفين هدين هيجلي في ميوله السياسية إذ تعود لهيجل فكرة فينومينولوجيا الروح وان الدولة القومية هي التعبير النهائي لروح الأمة..وكان موقفه هذا سببا في قيام جمعية الجغرافيين الملكية البريطانية في وقت لاحق بحذف اسمه من قائمة الشرف للجغرافيين المتميزين في العالم..
وفي عام 1916 توجه في رحلة الى الشرق العربي زار فيها القدس وسوريا فالعراق الذي دخله بطريق حلب فالرقة فدير الزور فعانة فهيت  حتى وصل بغداد فزار بابل وعاد الى بغداد ومنها الى الموصل التي أقام فيها لفترة، وتمخضت رحلته هذه عن كتابين هما (الى القدس) 1917، و( بغداد وبابل ونينوى) ---1917 - 1918 ايضا،وهذا الكتاب الأخير هو مصدرنا عن تفاصيل رحلته الى الموصل ووصفه لأحوالها في اثناء الحرب العالمية الأولى. وقد سافر سفين هدين الى الولايات المتحدة عام 1923 ومن نتائج زيارته كتابين هما  (الأخدود الكبير) و (حياتي كمكتشف) 1925، فضلا عن اطلس خرائط ثم عاد عبر بكين فمنغوليا ثم موسكو ومنها الى ستوكهولم.
وقام سفين هدين برحلة سادسة الى الشرق هي رحلته الرابعة الكبرى الى آسيا خلال الفترة (1926-1935)، واصطحب معه هذه المرة فرقا علمية وجيولوجية وآثارية ومساحين ومن تخصصات أخرى من المانيا والسويد والدنمارك والصين. فأمضى وقتا في منغوليا وفي الطريق الى حوض نهر تاريم وقع في أسرالقوات المسلمة الثائرة بقيادة الجنرال ما شوا المعروفة بثورة الدنكان او ثورة شيانغ يانغ، ثم اطلق الثوار سراحه بعد التعرف عليه..وكان قد التقى رئيس الحكومة القومية الصينية شيانغ كاي شيك وكتب عنه كتابا لاحقا عنوانه (شيانغ كاي شيك: مارشال الصين) 1940.. كما ساعد الحكومة الصينية عام 1933 في استعادة السيطرة على مقاطعة [شيانغ يانغ]  بوضعه لخارطة حدد فيها طريق الحرير القديم الذي استخدمه ماركو بولو لأستعماله لتسيير الآليات.. وقد عكف سفين هدين خلال هذه الرحلة على دراسة بحيرة [لاب نور] المتجولة التي كانت قد انتقلت الى موقعها السابق فشرح سبب الظاهرة ودون ذلك بكتاب عنوانه (البحيرة المتجولة) 1940 آنف الذكر.. وقدم بالمشاركة مع افراد البعثة عددا من التقارير العلمية تم طبعها ب 54 مجلدا ظهر آخرها عام 1980 اي بعد وفاته ب 28 سنة، كما نشر كتابين آخرين هما (تحليق الحصان الكبير) 1936،و (طريق الحرير) 1936..
وفي الفترة الممتدة بين عامي 1939 و1943 انهمك سفين هدين في انجاز عدد من المهمات الدبلوماسية الشخصية في المانيا أردفها بنشاط طباعي تمثل بنشر عدد من مؤلفاته باللغة الألمانية كما الف عددا من الكتب منها كتابا عنوانه (اميركا والصراع بين القارات) 1944 نحى باللائمة في نشوب الحرب العالمية الثانية على روزفلت..وألف بالأشتراك مع رولف بيرجمان كتابا عنوانه (تاريخ رحلات آسيا 1927-1935،  1943-1945)،..وامضى السنوات الآخيرة من عمره في تأليف ونشر عدد من المذكرات ككتابه (أسفار وذكريات في بلادي) 1944، و (اشارة جديدة) 1944، و(وجهاء وملوك) 1950،و (عمليات الدفاع) 1951..كما كتب عن كلابه التي رافقته في آسيا (كلابي في آسيا) 1952
وفي 29 تشرين الثاني عام 1952 توفي سفين هدين في ستوكهولم عن عمر يناهز ال 88 سنة واعقب وفاته تأسيس مؤسسة سفين هدين في الأكاديمية الملكية للعلوم ومتحف الأثنوغرافيا في ستوكهولم..وكان على منضدته تقويما دينيا صغيرا قد وضع فيه صورة لرحالة مجهول هو [ميل ليندستروم] كان قد كتب فيه شعرا: (رحلتنا الحالمة عبر البحار بلغت نهايتها الأمينة ..حيث يركن قبرك الوحيد صامتا ..ولا من احد يعرف اسمك)..وبموت سفين هدين الذي خلد اسمه بمنجزاته واشعاره ينتهي آخر عظماء الأستكشافات الجغرافية الكبرى في العالم..
وكتب عن سفين هدين الكثير الغزير من المقالات والكتب، وترجمت كتبه ومذكراته وبحوثه الى معظم لغات العالم..ومنها مارافق العقد الأخير من حياته ككتاب مذكراته (في برلين بلا مهمة) الذي ترجمه الى الألمانية وعقب عليه جان بولمان..وكتب عديدة ظهرت بعد وفاته ككتاب (سفين هدين فنانا) بقلم مونتيل وفولكه هولمر 1964، و(أطلس آسيا الوسطى – مذكرات على الخرائط) بثلاثة مجلدات مع فهرست بأسماء الأماكن  1967- 1980، (عبر صحراء كوبي) ترجمة انكليزية بقلم إج. جي. كرانت 1968، و(اسطورة آسيوية) بقلم إريك فينرهولم 1980، و (الى الأرض المحرمة : أكتشافات ومغامرات في التبت) ويعتمد على روايات سفين هدين فيماوراء جبال همالايا، وغيرها كثير..
هنا نكون قد تعرفنا على سفين أندرز هدين ومهاراته ومنجزاته وجوانب من معتقداته وميوله السياسية..بل ولمسنا فيه قدرة على المطاولة منقطعة النظير في قطعه لطريق ماركوبولو الممتد لأكثر من 10.000 ميل عبر آسيا واكتشافاته لأحواض الأنهار الآسيوية الكبرى ومرتفعات همالايا والتبت..على نحو اقرب للخيال بل هو في تجربته يقدم نموذجا بطوليا حرى بالقاريء العربي التعلم منه إيقاد روح المغامرة والبحث والأستقصاء التي ميزت أسلافه..والأغرب ان سفين هدين خاض غمار الصعاب كلها بعين واحدة فقد كان قد فقد البصر في احدى عينيه ولم يسترده إلا بعد عملية جراحية أجريت له خلال العقد الأخير من عمره..وهو بخبرته الواسعة تلك، يعد شخصية فريدة يكتسب وصفه للموصل أهمية خاصة ليس بما تضمنه من بلاغة وانتخاب ذكي للمجازات والتشبيهات فحسب بل بما ورد فيه من معلومات زينتها دقة في الوصف والرواية الموثقة بالصورالفوتوغرافية النادرة والرسوم التخطيطية.
رحلة سفين هدين الى الموصل:
من غير الممكن القطع بدوافع سفين هدين لزيارة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى وهو المعروف بميوله الإيجابية تجاه المانيا، غير ان تتبعنا لمسار الرحلة ومازامنها من حوادث من شانه القاء ضوء على دوافعه: فالعراق كان احدى جبهات المواجهة بين الحلفاء ودول المحور ..كما تشكل حواضر العراق بابل وبغداد ونينوى والموصل مراكز حضارية كبرى كون بغداد عاصمة الخلافة العباسية تقع على طريق الحرير القديم وتقع نينوى والموصل على الطريق الملكي الذي يلتقي بطريق الحرير في تركيا، وكان سفين في رحلاته الاسيوية معنيا بالدرجة الأولى بطريق الحرير واستكشاف اهم الأوابد المندثرة الواقعة على امتداده وجانبيه..ثم هناك الجانب العسكري للرحلة فقد عمل سفين مراسل حرب في الجبهات الغربية لصالح المانيا ولعل انتقاله الى العراق كان استمرارا لأهتمامه بتغطية انباء الحرب فضلا عن وجود قنصلية المانية في الموصل (1905-1918)..ووقوع الموصل في الحافة الجنوبية للقوة العثمانية..ولربما لرغبة شخصية لدى سفين في اقتفاء خطى ماركو بولو وهلموث فون مولتكه الأكبر رئيس أركان الجيش البروسي الذي زار الموصل عام 1837 ووصفها واقام في البطريركية الكلدانية التي زارها سفين هدين لاحقا..وكانت مؤشرات الحرب في الجبهات العراقية تشير الى تقدم الألمان ولاسيما بعد حصار الكوت من قبل الألمان..وهو حصار استسلمت اثره القوات البريطانية ومرتزقتها من السيخ والكورخة واقتيد الأسرى الى حلب بعد وفاة القائد الألماني البارون دير فون كولتز متاثرا بالتيفوئيد في بغداد في 16 نيسان اي قبيل وصول سفين هدين اليها أذ كان آنذاك في طريقه الى الرقة..وقد دفن البارون كولتز في بغداد غير أن الحكومة الأمانية أخرجت رفاته واعادت دفنه في ألمانيا فيما بعد... فهل كان من بين اهداف سفين هدين تغطية الحصار الألماني لكوت العمارة وتسبب تأخره بتغيير اهداف الرحلة؟ هذا مالانقدر ان نقطع فيه ويبقى الحكم فيه في مضمار التكهنات..إلا ان سفين هدين يشكل حضورا سياسيا مؤثرا على الصعيد الإعلامي على الأقل الى جانب المانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما يدعونا الى وضع زيارته للموصل خلال الحرب في مضمار تلك الحرب وتاييده المطلق للفكر القومي الألماني..
وفي الموصل التي وصلها في عنفوان الصيف في باكورة حزيران عام 1916، كان اول شيء يقوم به زيارته القنصلية الألمانية في جنوبي المدينة ووصف بنايتها والعلم الألماني الذي يرفرف فوق سطوحها..وكانت القنصلية الألمانية قد أسست في الموصل عام 1905 في اعقاب الأتفاق بين اسطنبول وبرلين على انشاء خط سكك برلين- بغداد وربطه بخط الأناضول في سياق التنافس بين بريطانيا التي كانت تحتل مصر والهند وتسيطر على قناة السويس وتحالفها مع روسيا قبيل الثورة البلشفية من جهة والأمبراطورية العثمانية التي ارادت استرجاع نفوذها في مصر بدعم الألمان من جهة اخرى..ولأن الخط الجديد الذي يعتقد انه احد اسباب اشتعال الحرب العالمية الأولى، يمر في الموصل من بين مدن اخرى وصولا الى البصرة، عمدت الحكومة الألمانية الى تأسيس قنصلية لها في الموصل مما يفسر اختيار موقع السفارة بالقرب من باب البيض في مكان قريب الى المنطقة المزمع مرور قطار بغداد - برلين بها..هذا بالأضافة إلى منح الحكومة العثمانية امتياز استثمار النفط في العراق..وتخطيط المانيا لبناء ميناء في البصرة يربط الخليج العربي بميناء الأسكندرونة مما يمهد للأستغناء عن قناة السويس..كل ذلك يفسر الوجود الألماني في العراق..إلا أن القنصلية الألمانية في الموصل ارتبطت بالأقدار السياسية ونتائج الحرب..ولذلك لم تعش طويلا بعد انتهاء الحرب لصالح الأنكليز..وكان هرز اندرا اول قنصل الماني عين في الموصل اعقبه والتر هولشتاين الذي وثق لمجازر المسيحيين والأرمن ورحب بسفين هدين في الموصل واستمر في منصبه قنصلا في الموصل منذ عام 1911 وحتى نيسان عام 1918.. وبالأضافة الى القنصلية الألمانية، اسس الألمان مدرسة المانية في الموصل عام 1909 وثكنة عسكرية فضلا عن قيام عدد من الألمان بالتنقيبات الآثارية في بابل   كروبرت كولدوي في بابل وولتر أندريه في آشور..وكان الأخير قد انهى تنقيباته وغادر الشرقاط قبيل وصول سفين هدين اليها في طريقه الى الموصل..وكان العراق آنذاك مسرحا للمعارك بين بريطانيا والمانيا مع حليفتها تركيا مما يجعل وصف سفين هدين لسجن البريطانيين ومرتزقتهم السيخ والكورخة واوضاعهم المزرية في الموصل احدى الوثائق المهمة لشاهد عيان على الحوادث  في العراق عموما والموصل بوجه خاص في معمعان الحرب العالمية الأولى.. وسفين هدين واصل وصف البريطانيين والأرمن والهنود عبر طريقه من حلب فالرقة فدير الزور ثم مدن الفرات العراقية حتى الحلة فصعودا الى الموصل فقد كان القرار الألماني يقضي بنقل اسرى البريطانيين من كوت العمارة إلى الموصل ثم من الموصل الى حلب ..وكان عدد الأسرى اكثر من 8000 بريطاني بضمنهم هنود من السيخ والكورخة..وقد صادف وصول سفين هدين الموصل وجود الأسرى البريطانيين في معتقل الماني بالقرب من شاطيء دجلة..(كانوا في حال مزرية ومرتبكة الى جانب حيواناتهم وامتعتهم..اما وجوههم فشاحبة كالحة من الجوع والمرض)..ولم تفت سفين هدين، وهو معروف بموالاته الشديدة للألمان، فرصة زيارة الأسرى الأنكليز: (وشاهدنا رتلا يتألف من 500 جندي انكليزي وهندي يسيرون ببطء شديد مغادرين المدينة في طريقهم الى راس العين تحوم فوق رؤوسهم وحولهم سحابة قاتمة من الغبار..تبدو عند ضاحية المدينة حمراء واجمة بسبب اقتراب الشمس من المغيب، يسيرون أحدهم الى جانب الآخر في موكب جنائزي وكأنهم يشيعون أحلامهم في الهيمنة المطلقة على الشرق..وكان بين الأسرى قس أيرلندي كنت التقيته في بغداد ومرة أخرى في سامراء أخبر احد المرافقين الألمان للأسرى ان هناك في مستشفى الموصل انكليز يحتضرون، وحتى الأقوياء من بينهم لايقدرون على السير في حر الصيف) ثم يذكر سفين رقما اكبر من الرقم الذي تورده المصادر الأنكليزية هو 8600 أسير قال انهم انتقلوا من الموصل الى راس العين ومنها الى حلب..ويعرج سفين هدين الى وصف القنصلية الألمانية في الموصل (كان بيت القنصل هولشتاين اشبه بالنادي المحلي بالنسبة لنا وكنا نتناول فيه الغداء والعشاء وكان اللبن البارد الممزوج بالماء [الشنينة] يمنحنا طاقة لمقاومة الحر الشديد وبخاصة عند الظهيرة..وعندما تقترب الشمس من المغيب، نجلس تحت السقيفة لنقرأ آخر البرقيات والأخبار في الصحف التي تأتي متأخرة عن وقت صدورها ثلاثة او اربعة اسابيع احيانا)؛ وكان قد التقى في القنصلية بالدكتور الشاب داوود جلبي وناقشه حول افضل الطرق للسفر الى سورية عبر حلب ام دمشق او هل طريق نصيبين راس العين هو الأفضل كون سفين هدين يحب المغامرة ويريد انتخاب الطرق الواعدة والجديدة دائما..(ولكن السفير هولشتاين كان له صديق هو حميدي الياور الذي دعاه وعرفه بي وكلفه بتوفير الحماية لي..وقدم حميدي المعلومات كلها التي احتاج اليها مفضلا طريق الحضر دير الزور على الطرق الأخرى)..

وفي يوم الأحد 11 حزيران اي بعد يوم من اعلان الشريف حسين للثورة العربية، اصطحب سفين هدين الطبيب النمساوي يارلميك دليلا للتجوال في الموصل: (انطلقنا من بيتنا بمحاذاة سور المدينة الشمالي الغربي وتوقفنا في باب البيض الذي اتخذ تسميته من كلمات محفورة في عقد احدى قناطر الموصل مفادها ان مجاعة سوف تسود المدينة وينتشر فيها الغلاء بحيث تكفي بارة واحدة لشراء اربعين بيضة..واليوم لاتوجد مجاعة مع ذلك فان سعر البيضة الواحدة يكلف بين ست وسبع بارات)..وبينما لا يرد هذا التفسير لتسمية باب البيض في اي مكان آخر..تصمت المصادر عن ذكر اية كلمات محفورة في عقد قنطرة من القناطر الموصلية تتحدث عن الغلاء والمجاعة واسعار البيض الباهضة..ثم يتطرق سفين هدين الى وصف سور الموصل فيذكر ان عمره 300 سنة ويزينه برج دائري [يقصد به قلعة باشطابيا] وجاء على ذكر بواباته فسماها باب الجديد وباب سنجار وباب لكش وباب الطوب..وعد باب سنجار وباب الطوب من افقر احياء المدينة.. ويبدو من وصفه للسور الرمادي بالبديع - انه وبواباته كما تركتهما يد المعماري..ويظهر ان سفين هدين واصل سيره من باب البيض الى باب لكش قبل دخوله باب الطوب اذ يرد في وصفه: (مررنا بمدرسة حورت الى مستشفى بالقرب من حي اليهود الذي يوصف بانه من افقر احياء المدينة ويحصل يهود الموصل على خبزهم من صياغة الفضة وعمل الأساور والخواتم والمجوهرات [ربما المقصود هنا الحجارة شبه الكريمة كالعقيق والشذر]، والى اليسار تقع القنصلية الأنكليزية التي استولت عليها الحكومة في الوقت الحاضر ثم عرجنا الى مكان شاهدنا منه القلعة السلجوقية المطلة على السور في الساحل الأيمن لدجلة).. ربما المقصود بالقنصلية الأنكليزية بيت القنصل كريستيان رسام الذي وظف في أثناء الحرب مستشفى لأستيعاب الجرحى البريطانيين ومعالجتهم ..و يبدو ان مصادر سفين هدين حول قلعة الموصل سماعية لأن القلعة بناها العقيليون.. وأميل الى الرأي القائل بقدم القلعة وارتباطها بنينوى الآشورية وهذا ارجح لأن الآشوريين درجوا هلى تحصين ضفتي النهر وبحكم تقادم القلعة بنيت فوق اوابدها الآشورية تحصينات اسلامية على العهدين الراشدي والأموي ثم تناول العقيليون هذه التحصينات وعمروها واكمل السلاجقة السور بابوابه وابراجه لحين الهجوم المغولي الذي دمر معظم القلعة وابقى هيكلها وبرجها المدور..ولم ينل منها غير الزمن واهمال اهلها فمالت في الآونة الأخيرة محاكية منارة الحدباء في عصر يبدو أن كل شيء فيه يتجه الى الميلان ..ويواصل سفين هدين جولته في الموصل بوصف قلعة باشطابيا: (ومن الصعوبة بمكان تخيل قلعة تشاد فوق صخرة شديدة الإنحدار ترفرف شاهقة فوق ذلك النهر الملكي [دجلة].. وبتسلقنا الطريق المتعرج اليها واتخاذنا موقعا فوق السور رأينا مشهدا ينافس في جماله اروع المناظر في العالم، وهو مشهد يتكرر في كل خطوة تاخذنا صوب القلعة..ومن أعلى القلعة إرتسمت امامنا آثار عاصمة ملوك العالم القديم نينوى في تلقوينجق والى جانبها تل النبي يونس وهما من اغنى اماكن العالم بما يحتويانه من نوادر ومعادن ثمينة وآثار..ووراء التلال تترامى جبال أرمينيا وطوروس التي تكسوها الثلوج معظم ايام السنة)..ثم يتطلع سفين من قمة باشطابيا الى الأسفل ليرى الموصليات وقد جلسن على ضفة دجلة لغسل ملابسهن ..وفيما يبدو من وصفه ان نشاطهن لم يقتصر على غسل الثياب فحسب: (وعند الشاطيء شاهدنا مئات النساء يغسلن ويعصرن [ينشفن] ويعلقن ثيابهن لتجف تحت حرارة الشمس المحرقة..وعلمت ان تلك النساء يخرجن في الشتاء الى النهر ليغسلن الثياب على الرغم من كون الماء شديد البرودة غير انهن اعتدن احتمال البرد القارص احتمالهن الحر اللاهب في عنفوان الصيف..والحر في الموصل عينه في صيف بغداد، إلا أن شتاء الموصل أبرد منه في بغداد..ذلك أن بغداد تقع على ارتفاع 50 متر عن مستوى سطح البحر بينما تقع الموصل على ارتفاع 250 متر عن هذا المستوى..) ..ويبدو من هذا الوصف ان نساء الموصل كن قد شددن حبالا ربما شددنها حول قضبان من الخشب لتعليق الثياب عليها وانتظارها لتجف تماما قبل العودة الى بيوتهن ..مما يفترض احتمال انشغالهن بالأحاديث المتنوعة وربما بتناول الغداء في ظل باشطابيا قبل العودة الى البيت..ولم تفت سفين المدرب على دقة الملاحظة وروعة الوصف ملاحظة قطعان الجاموس تمخر مثل اكياس عملاقة منفوخة عباب دجلة: (وبالقرب من النساء المنهمكات في غسل ثيابهن ونشرها تردى قطعان الجاموس عائمة في امواج دجلة تنعم بضوء الشمس الغاربة قبل ان تنحدر صوب الجسر لتخرج عند الشاطيء يقطر منها الماء، والى جنوب القلعة وتحتها ينتصب مزار يحيى ابو القاسم بواجهته بديعة الزينة حديثة البناء، وعند مدخله سقف معمد يوفر الظل للزائرين)..تؤيد هذا النص صور ارشيف جرترود بيل التي زارت المكان عام 1909 ونستدل من ذلك ان تجديد الضريح قد تم قبيل عام 1917..وكان سفين قد زار بغداد قبل وصوله الموصل وتعرف على معالمها ومنها قبة اسماها بقبة زبيدة وهو خطأ شائع لأن القبة التي رآها في بغداد هي لزمرد خاتون زوجة المستضيء بالله وتشبه بمخروطيتها قبب لاليش في شمالي العراق وتماثل قبة السهروردي في مقبرة الشيخ معروف..اذ يخبرنا ان مزار ابو القاسم: (تعلوه قبة شاقولية مدببة النهاية تشبه قبة قبر زبيدة في بغداد وهي نموذج لقبب اخرى شيدت في المنطقة..وبالقرب من المزار تنتصب قلعة خربة كانت على الارجح جامعا يطلق عليها بدر الدين سلطان لؤلؤ حيث توقفنا لوهلة للنظر الى اسراب السمك وهي تسبح ضد التيار رافعة افواهها المدببة ودافعة اجسامها بزعانفها نائية بنفسها عن صرير الناعور الذي يروي الحقل الضيق الممتد بمحاذاة الشاطيء [الشاروق] ومن حين لآخر يأتي قارب ليرسو تحت الجسر في الجانب الأيمن ويبدو وكأنه جزيرة صغيرة يتوسطه رجلان يتحدث احدهما الى الآخر وكأنهما بيضتان في طبق من الأسبيناخ الأخضر)..ويسترسل سفين هدين في وصفه النهر والأكلاك والمدينة بعفوية وبلغة ادبية رائعة تجمع بين العرض التفصيلي والتنوع التصويري وعلى نحو يدعونا الى معايشة التجربة الحية لمايرى ويحيا وعلى نحو مباشر: (ويستخدم اهل الموصل الأكلاك التي هي عبارة عن الواح خشبية مشدودة الى بعضها بحبال توضع تحتها جلود معيز منفوخة تستخدم لنقل البضائع والناس في دجلة ويقوم الكلاكون بتحميلها وتفريغها..أما الموصل نفسها فتمتد على شكل هلال في الجانب الأيمن من نهر دجلة..وفي الموصل لاتكثر المساحات الخضراء او الأشجار التي تزين الشوارع بجماله كما هو الحال في بغداد المزدانة بالملامح المميزة للمدن الشرقية؛ غير أن بيوت الموصل تختلف عن بيوت بغداد من حيث كونها اقوى واكثر تماسكا فهي ليست مبنية من الطابوق المحروق كبيوت بغداد..وبمقدورها الصمود مئات السنوات، وهي مصممة ومشيدة وفق الطراز العربي..ويمكن ان نجد بيوتا مماثلة لها في بغداد من حيث التصميم لكن بيوت الموصل متقنة في عمارتها..وغالبا ماتقع في زقاق ضيق لم يعنى بتنظيفه يقودنا الى مدخل رخامي ذي بوابة خشبية تتوسطه صقالة من الحديد معلقة بحلقة الى الباب الذي يأخذنا الى مجاز قصير يفضي الى فناء واسع ذي ارضية مربعة مرصوفة بالحجارة في وسطه شجرة توث او برتقال، ومن البيوت مايحتضن في قلبه حوض فيه نافورة مزينة على نحو أخاذ يتدفق منها الماء بما يبعث في النفس شعورا بالراحة والبرودة وبخاصة في ايام الصيف الساخنة..وتحيط بالفناء الأرائك والمقاعد المتاحة للجلوس وحيث تمضي الأسرة ولاسيما النساء والأطفال اوقات الراحة والمحادثة وتناول الطعام..وفي الطابق الأرضي يوجد المطبخ والمخزن والى جانبه قاطع خشبي يفصل غرفة الخدم والأسطبل..ويماثل الطابق الأرضي في البيوت الموصلية، الأيوان في بغداد حيث يستقبل الضيوف اما في الموصل فيصعد الى غرفة الضيوف بدرجات قليلة تقود الى الأيوان الداخلي في صدر البيت، ويؤدي الأيوان الداخلي الى غرف النوم الخاصة بالأسرة ويصعد اليها بدرج جانبي..ولايسمح للغرباء الدخول الى غرف النوم..ويوجد درج يؤدي الى السطوح حيث ينام اعضاء الأسرة في ايام الصيف..ويعمد الموصلي، ان لم يكن لأسباب تتعلق بالدين، فبدافع الخوف من الغيرة والحسد؛ الى حجب بيته واسرته ونسائه عن العالم ولهذا تكون زينة البيت وواجهته مكشوفة على الداخل وليس على الخارج..وهذا لاينطبق على المسلمين في المدينة وحدهم بل على السريان الكاثوليك والكلدان ايضا..ومن الممكن في بيوت النصارى للزائر ان يجلس مع النساء ويتناول المرطبات وهن كالمعتاد غير محجبات ولكني لاحظت وجود اختلاف هائل بينهن وبين قريناتهن الأوربيات فهن على الرغم من الدين المشترك فيما بيننا، خجلات وجلات ولابد من تعودهن على الضيوف والزائرين فترة طويلة لكي يتغلبن على خجلهن..وواجهات الجدران المقابلة لفناء الدار الموصلي غالبا ماتكون مزدانة بالزخارف العربية الزهرية التي تغطي الواجهات الرخامية في الجزء الأسفل من الجدار في جوانبه كلها باستثناء جانبي الدرج الذي يقود الى ايوان صدر البيت.. ويوجد قوس كبير تشغله نافذة السرداب او [الرهرة] التي تلجأ اليها الأسرة الموصلية للقيلولة في ظهيرة الصيف..والرهرة تكون باردة ينعم فيها الموصلي بنوم هانيء مريح..أما الشبابيك فمزودة بقضبان حديدية متداخل احدها بالآخر بحلقات تربط فيما بينها عموديا وافقيا وذلك لمنع السراق او تأخير اختراقهم للبيت او اي من غرفه بهدف السرقة..وتزود النوافذ العالية أحيانا بمشربيات خشبية تشبه نوافذ البيوت في القسطنطينية لغرض فتحها لنفاذ اشعة الشمس الى الغرف..وتحتضن الموصل العديد من هذه البيوت فريدة الطراز اما اصحابها فرهبان كنيسة او تجار اعتمدوا على ثروة ورثوها او اكتسبوها من المتاجرة ببالات القطن او خصافات التمور او المنسوجات الملونة وماإلى ذلك من تبادل للسلع بين الشرق والغرب او نقلها بين الجماعات والأمم الشرقية..ومنها ما توالد في سياقات الأرستقراطية التجارية وانتفع من عملات الذهب المتراكمة والمحملة في صناديق مكنونة تنقلها القوافل الصامتة المحملة ببضائع التجار وقد افلتت من سطو القراصنة ومداهمات قطاع الطرق ولعلها لاتفلت من قطاع الطرق ولاسيما قبائل شمر الذين غالبا ما يباغتون القوافل على حين غرة فينهبونها ويسوقون حمولاتها الى اماكن مجهولة قبل ان يختفوا في مفازات الصحراء)..
ونلاحظ في وصف سفين هدين لعمارة بيوت الموصل والعادات الإجتماعية لسكانها أن الموصل كانت تحتضن طبقة من التجار الأثرياء يشاطرهم ثرائهم رجال الدين من النصارى وإن لهذه الطبقة من التجار تاريخ طويل من النشاط التجاري الأقليمي والعالمي يمتد لقرون بعيدة في التاريخ وان هذا النشاط وجد انعكاسه في حياة من الترف والرفاهية ترفل فيهما اسر التجار والطبقات الموسرة مما يؤكد وصف ماركو بولو للمدينة باعتبارها مملكة تجارية قائمة بذاتها..كما ان هذا النمط من عمارة بيوت الموصل مازال موجودا في احياء الموصل القديمة كالمياسة والميدان والساعة والمكاوي وباب لكش والسرجخانة  وغيرها من الأحياء غير ان اهل الموصل غادروا في معظمهم هذه المنازل القديمة ورهراتها الى بيوت غربية حديثة حلت الحجارة الحلان فيها محل المرمر الموصلي والحدائق الغناء محل النافورة والتوثة في قلب البيت..اما عادات اهل الموصل الإجتماعية فلم تتغير كثيرا اذ مابرح الطابع المحافظ مميزا للعائلة الموصلية..وينعكس في عمارة الجدران العالية والشبابيك الداخلية التي توفر الأمن والأطلالة على الحديقة الداخلية اكثر منها على خارج البيت..فالموصلي المحافظ كالأنكليزي المحا

15
إدارة الموصل في عهد اينجة بيرقدار محمد باشا
صلاح سليم علي






مقدمة:
التاريخ اشبه ببيت كبير متعدد النوافذ منها ماينفتح على تجارب اسيانة تفوح منها رائحة الدماء والحرائق والكوارث ومنها ماينفتح عن رياض زاهرة تتضوع باريج الشعر والإبداع والنبوة..وفي الحالتين يترتب علينا نحن أن نفتح هذه النافذة أو تلك للتعرف على التجارب الإنسانية دموية كانت أم ابداعية، كئيبة أم بهيجة، مميتة ام واهبة للحياة في مكان ما أو زمان ما..وبيت التاريخ هو اللغة ونوافذه هي رفوف المكتبات الغابرة ..واحيانا نفتح نافذة فتتفتح بدورها عن نوافذ اخرى وتفرض علينا ان نميز بين ماتقدمه لنا من عوالم وحوادث وشخصيات وبخاصة تلك التي تشكل محاور مهمة تتأسس عليها حركة الحوادث وحياة الأمم وتتحدد من خلالها كيفية نظرتنا الى العالم..ولا أدل على تاثير الشخصية في حركة التاريخ من النبوءات العظيمة فقد غير ميلاد المسيح مسار الزمن فجعل مساره على نحو خطي يتجه بأضطراد الى الأمام وهو تصور للزمن يقف على طرفي تقابل ضدي مع التصور الإسلامي للزمن أي الزمن الدوراني الذي يتجه الحاضر فيه الى المستقبل المؤسس أصلا في الماضي..كما قدم الأسلام نظرة الى العالم ربطت بين الرؤية والقلب وقرنت ارادة الأنسان وحريته ومعهما الزمان والمكان بارادة الله..ويماثل القادة بتأثيراتهم الزمنية، تأثيرات الأنبياء الأبدية..فقد عمل ملوك الحضارات الكلاسيكية على تاسيس الدولة وربطها بمفهوم الشرعية ووضعوا القوانين والتشريعات ..وغيرت إرادة الحرب المدفوعة بحب البقاء من خارطة العالم مع الغزاة بدءا بالحروب الكلاسيكية، فالأسكندر، فهانيبال، فقيصر، فالفتوحات الأسلامية الكبرى فالتوغل الآسيوي في بلاد الرافدين ووادي النيل، فالأمبراطورية العثمانية وصولا الى نابليون بونابرت ومن بعده الحروب العظمى في العصر الحديث..ومع كل قرن تتسارع عجلة التاريخ اضطرادا فكل قرن جديد يتضمن حوادثا وتحولات أكبر بما لايقاس عن القرن الذي يسبقه وهكذا دواليك..وغالبا مايكون النصف الأول من اي قرن فترة مخاض بينما يكون النصف الثاني في أوافله فترة ولادة او ولادات منها الميت ومنها مايبشر بحياة جديدة..
ومن المحاور المهمة في حركة التاريخ العلاقة بين الشرق والغرب منذ العهود القديمة وحتى العصر الراهن..وهي علاقة تتداخل في متونها مراحل الصراع والتهادن والتنافس والتعاون والهيمنة والهيمنة المضادة .. وتتعارض في سياقاتها وتتناحر ثقافة الشرق بثقافة الغرب ويواجه البطل القمري البطل الشمسي على الرغم من تبني الثقافة الغربية لأساطير الشرق وفنونه ومعارفه وتطويرها وصولا الى المدنية الغربية..وكانت ابرز المواجهات بين الشرق والغرب على عهد الأسكندر الذي تمخضت عن حروبه الثقافة الهلنستية والتقت فيها الفلسفة اليونانية بالحكمة المشرقية، ثم محاولة الفينيقيين اختراق اوربا واسقاط روما على عهد حامي الخيربركة  وابنه هانيبال..فالأمبريالية الرومانية واختراق الرومان احواض الأنهار الكبرى واحتلالهم سوريا ومصر..فالأسلام الذي بسط نفوذه على صقلية واسبانيا والبرتغال وجنوبي ايطاليا على مدى 800 سنة من التمدن؛ فالأختراق الصليبي المعاكس الذي صاحبه اكتساح المغول على الرغم من كونهم مشارقة للمراكز الحضارية الكبرى في وادي الرافدين فالأمبراطورية العثمانية التي تشبه عملاق رودوس في جمعه بين ساحلين بضمها لدول البلطيق وحوض الدانوب من جهة بحوضي الرافدين والنيل والساحل الجنوبي للمتوسط والأسود مع ساحل البحرين الأحمر وبحرالعرب تحت ارادة سلاطينها وحكامها وقوة جيوشها..
ومع تراجع الأمبراطورية العثمانية وتكرر هزائمها العسكرية في مواجهاتها مع الغرب، لجأت الدولة العثمانية الى محاكاة الغرب منذ بدايات القرن التاسع عشر وتحديدا على عهدي السلطان محمود الثاني وابنه عبد المجيد الأول..وهو تطور سرعان ما اتخذ اتجاها معاكسا في العهود اللاحقة التي شهدت نهاية الأمبراطورية العثمانية ونشوء تركيا الحديثة..والمهم في هذا الأستعراض التاريخي شديد الأختصار ان فجر التمدن الغربي صاحب غروب الحضارة المشرقية وبخاصة المناطق والأمم التي كانت تحت الهيمنة العثمانية ..وان شيئا من مفاهيم الهيمنة والأستيراث لم يتغير..فقد عدت الأمم الغربية الأراضي العربية والإسلامية من العراق وحتى الجزائر أراض تابعة لها ورثتها غنائم حرب..ومنحت الأتراك دولة ربطت سياستها وارادتها بها على الرغم من البناء الإجتماعي والحضاري المشرقي لها قلبا وقالبا..كما لم يتغير اي شيء في سياسات التحالف الغربي تجاه دول وشعوب الشرق باستثناء دول الأستتباع كتركيا والأردن والسعودية ودويلات الخليج العراقي والمغرب وأخيرا العراق..وهي دول تدور في فلك الإرادة الغربية اما بسبب ضعفها او لوهن تكوينها الإجتماعي والسياسي بسبب موت الإرادة الوطنية كما في الدول العربية المذكورة او بسبب الحروب العدوانية كما هو الحال في العراق..
والملاحظ ان الدول التي تشرف على نهايتها غالبا ماتظهر فيها أرادات توحيدية تناضل لفرض نوع من المركزية تستعيد بواسطته شيئا من هيمنة الدولة وقوتها..إلا ان حجم التحديات والأخطاء المتراكمة التي ارتكبها اسلافها وتنامي القوى النقيضة غالبا ماتكون اكبر في حجمها وجسامتها فتتغلب على إرادة التوحيد وتؤدي بالدولة الى الزوال..ومن أهم المحاولات الجبارة للتصدي لحالات انهيار الدولة والمجتمع في وجه التحديات محاولة آشوراوباليت الثاني التصدي للعدوان الميدي بعيد سقوط نينوى ومحاولة مروان الثاني التصدي للقوى المناهضة لأمويي المشرق..ومحاولات عبد الرحمن الثالث تأسيس القوة الأموية في الأندلس ..وعلى مديات أصغر جهود الحمدانيين والعقيليين تدويم الدولة العربية في الهلال الخصيب..وأخيرا محاولات جمال عبد الناصر في مصر والقوميين العرب في الهلال الخصيب..والملاحظ أن الغرب ومنذ الحروب الصليبية يرتكز في سياساته المناهضة للمشارقة المسلمين عربا ام أسيويين أم افارقة على استغلال التنافس بين مراكز القوة والصراع الأقليمي في العالم الإسلامي لتعميق الأنقسامات بما يخدم مصالحه الستراتيجية والإقتصادية.. فقد استغل ثورة ابن حفصون في مواجهة عبد الرحمن الثالث في الأندلس واستغل التنافس بين الدولتين الفاطمية في مصر والأموية في الأندلس للتوغل في حروبه الصليبية ..كما استغل وجود الحشاشين في سورية وفارس للنيل من خصوم سياسيين في اوربا بل والنيل من صلاح الدين الأيوبي نفسه ودفع العرب الى ضرب العثمانيين لقاء وعود فارغة بتشكيل دولة عربية كبرى..وفي العصر الحديث شرعت الدول الغربية بالقيام بمشاريع عملاقة خدمة لمصالحها كمشروع قناة السويس الذي الحق دمارا كبيرا بالأقتصاد في العراق وسورية اللتان تعتمدان على التجارة البرية ثم مشروع ال[كاب] المعاصر اي (مشروع الأناضول الكبير) الرامي الى احكام السيطرة على منابع الأنهار الكبرى في تركيا وخنق العراق وسورية مائيا ثم دفعهما الى التحول الى دويلات استتباع للغرب وربما لقوة اقليمية تابعة هي الأخرى للغرب كتركيا أو ايران. القصد بدول الأستتباع هو اخضاع الإرادة السياسية لهذه الدول لدول غربية في الوقت الذي تمنح فيه استقلالا صوريا ييسر للزمر الحاكمة الأستمرار في الحكم.
ولعل احدى أهم حلقات الصراع بين مراكز القوة في المشرق العربي الإسلامي التنافس والإقتتال بين والي مصر محمد علي باشا والسلطان محمود الثاني..وهي حلقة تكتسب أهميتها من عوامل عديدة أهمها تدخل القوى الغربية في هذا التنافس وتوجيهه نحو غايات تخدم سياساتها وتحقق مصالحها..وهو حال يتكرر عبر تاريخ المواجهات بين الشرق والغرب على الرغم من التناحر والتنافس فيما بين الدول الغربية نفسها وهو تناحر يتلاشى عندما يواجه الغرب قوى اسلامية او مشرقية مستقلة كما تؤكد التجربة التاريخية في تحالف الغرب في الحروب الصليبية وفي اسقاط الأمبراطورية العثمانية وفي التحالف الأخير ضد العراق ثم فيما يسميه الغرب الربيع العربي الذي يستهدف الدولة العربية ذات السيادة من داخل اراضيها بينما يبقي دول الأستتباع والرجعية المعروفة متدثرة في شتاء الدم العربي..وهناك دراسات لاحصر لها تناولت تلك المرحلة اهمها دراسة ديفيد أركهارت التي ركزت على المقارنة بين شخصية السلطان محمود الثاني ومحمد علي باشا في سياق دراسة المواقف الأوربية تجاههما واحتمالات ترجيح كفة احدهما على الآخر تبعا للمصالح الغربية والتنافس بين روسيا من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة ثانية..وهي دراسة مهمة لمعاصرتها للصراع بين هذه القوى في الشرق السلامي والغرب المسيحي..وتتجلى في هذه المرحلة من الصراع بين قوة اقليمية ناشئة قوام جيشها من العرب وامبراطورية واسعة الأطراف حقيقة تاريخية متكررة تتمثل بميل الزعامات الأقليمية في اطراف الدول الكبرى الى الخروج على ارادة السلطة المركزية والأنفصال فالأستقلال عن الدولة الأم كما في الأمبراطورية الآشورية على عهد ادد نيراري الثالث عندما ابدى شمشي ايلو ميلا للأستقلال تكرر مع حاكم بابل شقيق آشوربانيبال شموكين الذي شق عصا الطاعة واستقل ببابل..وتكرر ذلك على عهد المنصور عندما شق ابو مسلم الخراساني عصا الطاعة على الخلافة العباسية في بغداد.. غير أن خروج محمد علي باشا على السلطان العثماني واستقلاله بمصر يعد واحدا من أخطر الأنشقاقات في التاريخ وذلك لتشاطر عوامل اقليمية وعالمية متنوعة في التمهيد له وتوظيفه في سياق السياسات الغربية طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من النصف الأول من القرن التاسع عشر.. وقد مهدت لأنشقاق محمد علي باشا واستقلاله بمصر ثم توسيع رقعة دولته لتضم سوريا وكريت واجزاءا من الأناضول هزيمة العثمانيين في الحرب الروسية العثمانية 1828- 1829 التي تمخضت عن ضياع قرابة نصف أراضي الأمبراطورية..مما وضع السلطان العثماني في كماشة احد اطرافها قوة اسلامية والآخر القوى الغربية مجتمعة..ولم يكن الغرب في حقيقة توجهاته يعمل لصالح اي من الطرفين المسلمين المتحاربين ..ولكن التنافس بين بريطانيا وفرنسا من جهة وبين الأخيرتين وروسيا من جهة أخرى خلق وضعا سياسيا ودوليا عطل التعاون بين القوى الأوربية للأجهاز على الأمبراطورية العثمانية والحيلولة دون تحقيق محمد علي باشا لأنتصارات حاسمة بعد استيلائه على سوريا عام 1833، تؤدي الى تربعه على عرش دولة اسلامية عاصمتها القاهرة او اسطنبول..فكلاهما السلطان والباشا شر لابد منه للحد من الأطماع الروسية..وكان لمشاركة تركيا في حرب القرم الى جانب بريطانيا وفرنسا وهزيمة روسيا حقنة حياة جديدة في جسد الرجل المريض الذي أجهز عليه الغرب في آخر المطاف وتولى التحكم بميراثه الذي تضمن الأراضي العربية من المحيط الى الخليج..
والمهم في هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء الربط بين الأوضاع الدولية العامة والحوادث التي عاشتها الموصل في تلك الفترة والمتمثلة بحكم الوالي العثماني اينجة بيرقدار محمد باشا الذي عاصر جانبا من حكم السلطان محمود الثاني وجانبا من حكم ابنه السلطان عبد المجيد الأول..وهي فترة غاية في الأهمية حيث تم خلالها اكتشاف الحواضر الآشورية نينوى وكالخو (النمرود) ومدينة سرجون وتنوعت في الموصل البعثات التبشيرية في وقت تنامت فيه الضغوط على الولاة المحليين لتطبيق الأصلاحات والأعداد للأخطار التي تهدد الأمبراطورية بأسرها..مما جعل الموصل بؤرة نشاط  منقطع النظير انعكس في ادبيات الرحالة والمنقبين والأطباء الأجانب المصاحبين للبعثات التبشيرية في ذلك العهد..وبينما كانت القرارات الكبرى تتخذ في لندن وباريس وموسكو للضغط على القوى الأقليمية وفي واجهتها تركيا العثمانية ومصر، وتوجيه سياساتها ..كانت الضحية على الدوام الفقراء من بين الناس ممن لاناقة لهم ولاجمل بالحروب التي لم يتردد الطغاة في دفعهم وقودا في إذكاء نيرانها..
وتكتسب الصورة، على الرغم من البؤس الذي ترسمه، ألوانا زاهية واسيانة في الوقت نفسه  بأقلام الرحالة الأجانب الذين لا بد من دراسة تقاريرهم بعمق أكبر نعتمد فيه الدلالة الحضارية والمنهج المقارن لفرز الصدق عن الأنحياز؛ ولاسيما لأن الأنطباعات السائدة في الغرب عن الأسلام عامة والعثمانيين خاصة لاتخلو من أبعاد سلبية تمليها معتقداتهم من جهة، وممارسات جماعات اثنية (لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بالأسلام وتعاليمه السمحاء)؛  للأضطهاد الديني والتصفيات الجسدية للأيزيدية والنصارى التي تكررت في أثناء الهيمنة العثمانية على بلاد الرافدين ثم عادت في الآونة الأخيرة ولكن بدوافع مختلفة ولإهداف مختلفة ..والأرجح ان الأطراف الأثنية التي رمت الأكتساب سابقا في الأموال والأمتيازات هي التي تقف وراء الجرائم قديمها وحديثها بهدف مايسميه قادتها (مكتسبات) اسقطتها في سلالهم القوى الغربية نفسها (وبصورة مباشرة هذه المرة) بعد قرابة قرنين من الزمن..وهذا لايعني ان العثمانيين كانوا حملانا وديعة سواء من خلال ممارسات ولاتهم وباشواتهم  او من خلال حملات التجنيد القسري او جباية الضرائب أومن خلال ضريبة الدم (دفشرمة) أو غيرها من الممارسات التترية التي صبغت العرب والمسلمين بألوان ألتواورالية قرمزية اتخذت الوانها من الحروب والدماء النازفة من جراء المواجهات بين العثمانيين والقوى الغربية، ولم تنصف العرب على الرغم من اشراكهم وقودا في الحروب الأوربية والأقليمية التي خاضها العثمانيون على مدى 400 سنة؛ مما يدعونا الى وضعهم في قفص الأتهام التاريخي نفسه الذي يقف فيه الغرب العدواني الذي لم يسمح بأستقلال العرب ابدا لا في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى، ولا في المرحلة التي تلت حركات التحرر العربي والنهوض القومي في مصر عبد الناصر او في سورية والعراق القوميين بل عمل على احتلال المنطقة فكريا وسياسيا من جديد..بما يؤكد ان شيئا من أهداف الغرب وسياساته لم يتغير منذ معركة بواتية والحروب الصليبية وحتى الوقت الحاضر..وكما ذكرت في استهلالي؛ فنحن في تصفحنا للتاريخ نفتح نوافذ أسيانة وأخرى بهيجة..وأخرى مثيرة بما تحتظنه من الوان وتفاصيل غريبة بما لايقاس ..ومن تلك النوافذ نافذة الموصل على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا..
الموصل في ثلاثة عقود:
تناول مؤرخون موصليون وعراقيون وعرب اوضاع الموصل ابان النصف الأول من القرن التاسع عشر وفترة حكم الولاة العثمانيين الذين اعقبوا فترة الحكم الجليلي بأسهاب..ومن هؤلاء الكتاب على سبيل المثال وليس الحصر عباس العزاوي وصديق الدملوجي وسليمان صائغ وأنستانس ماري الكرملي ورفائيل بطي وعبد المنعم الغلامي وسعيد الديوه جي..فتحدثوا عما تعرضت له الموصل من حوادث ابرزها الأوبئة والمجاعات وعن ادارة الولاة العثمانيين في الفترة الموافقة لحكم السلطانين العثمانيين محمود الثاني ومجيد الأول..وفي مراجعة هذه المدونات نلاحظ تماثلا في الوقائع التي جاءوا على ذكرها من جهة وعدم ربط هذه الحوادث على الصعيد المحلي في الموصل بالأوضاع السياسية الدولية والأقليمية التي كانت تعصف بالأمبراطورية العثمانية في ذلك العصر بتفاصيلها..كما لم يتطرق المؤرخون الى تفاصيل كثيرة جاء الرحالة والمنقبون والمبشرون من الآباء الدومنيكان وغيرهم على ذكرها..إلا أن المؤرخين العراقيين ممن أرخو للمرحلة يتفقون مع المؤرخين الأجانب في الخطوط العامة المميزة للنصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى انتهاء فترة ولاية طاهر باشا على الموصل..فالموصل بحكم كونها تابعة للأمبراطورية فلابد ان تكون في واجهة الصراع ضد اعداء الأمبراطورية ولاسيما بعد نجاح ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا في ضم سورية الى مصر والتقدم في الأناضول القريبة جدا من الموصل..مما جعل الموصل تحت اليد العثمانية مباشرة ليس لتزويد الأمبراطورية بالدماء والأموال الضرورية للدفاع عنها مما يفسر فرض التجنيد الألزامي وزيادة الضرائب المفروضة على الناس على مختلف فئاتهم ومذاهبهم وتكرار حملات التنكيل بأعداء الأمبراطورية الحقيقيين منهم والأفتراضيين..ولم يكن الضغط العثماني محصورا على الموصل فقط، بل شمل الولايات العثمانية كافة ..فكلما لحقت بالباب العالي هزيمة جديدة، ازداد الولاة ضراوة وشدة وتعسفا في حملاتهم الضريبية والسوقية.. ومما زاد الطين بلة ان الهزائم العسكرية صاحبتها كوارث واوبئة ومجاعات تضاف الى مثلث الفقر والجهل والمرض شبه الدائمي المميز للطبقات الفقيرة وهي الأكثرية في المجتمعات العثمانية..وكانت الموصل مسرحا للويلات من كل نوع ولون فقد شهدت الموصل مجاعات مهلكة عديدة تنوعت اسبابها بين اشتعال النار بالمحاصيل بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الصيف أو بالتعمد بأحراقها .. فضلا عن غزو الجراد وموجات البرد في الأعوام 1794 و1795 وتكرر غزو الجراد الأصفرالمهاجر للموصل اضطرادا في 1824 و 1825 ..وكانت اسراب الجراد تفد من هضاب آسيا وصحراء ايران تحملها الرياح بمالايحصى من الملائين لكل دونم من الأرض المزروعة فتأكل الجرادة الواحدة مايعادل ضعفي وزنها كل يوم بما يتلف محاصيل الحبوب من القمح والشعير والقطن فتسلب الأرض نباتها وخضرتها وتأتي على علف الحيوان وغذاء البشر تاركة الأرض (حصيدا كأن لم تغن بالأمس)..والنتيجة الحتمية لخراب الحرث خراب النسل إذ يصبح رغيف الخبز قرصا للشمس ينأى حتى في كوابيس الفقراء عن ايدي اطفالهم.. مما جعل الأوبئة لازمة من متلازمات المجاعة فكان الجدري يأتي يدا بيد مع الطاعون إذ يخبرنا المؤرخ سعيد الديوه جي في هذا الصدد:
(وفي عام 1799م ظهر الجدري في مدينة الموصل وظهرت أول اصابات بالمرض في محلة خزرج ، ثم أخذ يسري نحو المحلات الاخرى ، واستمر هذا المرض الخطير يفتك بأرواح الناس حتى منتصف شهر صفر سنة (1215هـ/1800م) وبلغ عدد المصابين الذين لقوا حتفهم في اليوم مائة وثمانين نسمة ثم انتقل الى كركوك والسليمانية..وفي عام (1215هـ/1800م) سرى الطاعون في اكثر احياء الموصل ، وبلغ عدد الذين لاقوا حتفهم في اليوم "مائة وثمانون او اقل خمسة" . وغلت الاسعار وكان اغلب الضحايا الذين يموتون من النساء والاطفال وهرب العدد الكثير من اهالي المدينة الى القرى المجاورة . ويذكر العمري في غرائب الاثر ان والي الموصل محمد باشا الجليلي قد ذهب الى سنجار لمحاصرة المتمردين من اليزيدية وخلال عودته الى الموصل علم بوجود المرض فخشي على جيشه فأبقاه خارج المدينة . وقد علق العمري قائلا :"انه رأى رجلا من العساكر بعيدا عن الناس خوفا من المرض ولم ينفعه ذلك)..
وتكررت موجة الطاعون المصحوبة بوباء الكوليرا (الهيضة) سنة 1821 ..ثم عادت الى الظهور مجددا وسط مجاعة استمرت اكثر من سنتين 1825 و 1828 لتتبعها مباشرة موجة قاسية من الطاعون في 1829، ثم اعقبت الطاعون موجة جديدة من الكوليرا التي يطلق عليها العراقيون تسميات مختلفة كالهيضة وابو زوعة والريح الصفراء..وقد استمرت هذه المرة سنتين فتكت خلالها بأهل الموصل في وقت لاتوجد في المدينة كلها مستشفى واحدة هذا بالأضافة الى انتشار حبة بغداد كما ورد في تقرير احد الرحالة في الموصل آنذاك..وكان الناس يموتون بالمئات كل يوم ولم يفلت من الموت اعضاء من البعثات التبشيرية ومن الآثاريين ..ومن لم يمت منهم في الموصل حمل معه المرض ليموت بحلب أو اماكن أخرى مثل جورج سميث والدكتور جرانت اما من مات منهم في الموصل مبكرا فالآثاري بيلينو والتبشيريين كولبي ميشيل الذي دفن في تل بيلا المقابل لقرية بحزاني في ظهيرة صيف ساخنة بعد نقله مشدودا على ظهر حصان لأكثر من سبعين ميل..ثم اشتد المرض بزوجته أليزا ميشيل فحملت على تختروان حتى الموصل حيث توفيت ودفنت في مقبرة الكنيسة السريانية الأرثدوكسية في الموصل وكان ذلك عام 1841 وبعد سنة توفي التبشيري ابيل هنزديل ايضا..وكان ذلك في اثناء ولاية اينجة بيرقدار محمد باشا..ويعود الفضل للدكتور أساهيل جرانت الذي دأب على التنقل من اوروميا الى دير الزعفران الى ارض روم فالموصل لمعالجة المرضى حتى توفي هو الآخر في الموصل في السنة نفسها التي توفي فيها اينجة بيرقدار محمد باشا سنة 1844..ويعتقد أهل الموصل ان الوباء يعود كل 31 سنة في موجة جديدة؛ اما غزو الجراد وهو الطاعون الثامن في التوراة والأبتلاء الثالث في القرآن الكريم، فيعزونه الى غضب الله على الناس لظلمهم انفسهم او لسكوتهم على الظالم.. وذلك لذكر الجراد في القرآن في آيتين ثانيتهما تربط بين الجراد والنقمة الإلهية: (فارسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين)، الأمرالذي يجعل الناس يشعرون بالأضافة الى ابتلاء الأوبئة، بالذنب..وكان علماء الناس يرون في طغيان الحكام واهمالهم فتنة لاتصيب الظالمين وحدهم بل تأخذ البريء بذنب الظالم..حتى وصلت الأوضاع في المدينة حالا بائسة قبل ارسال اينجة بيرقدار محمد باشا الى الموصل؛ إذ يخبرنا طبيب البعثة التبشيرية الأميركية د. جرانت الذي عاش متنقلا وراء المرضى بين ارومية وارض روم والموصل  مستعرضا التاريخ القريب للمدينة:
(بالأضافة الى الأضطهاد، جاءت موجة الطاعون عام 1829 لتفتك بالمدينة ..وكان الناس يموتون بالمئات في كل يوم فيحملون وترمى جثثهم في حفرة هائلة في السور الشمالي حيث تبدو للعيان أكوام العظام والجماجم لمن ينظر من الفتحة الضيقة في السور..وكان الناس يرون ان الوالي (الجليلي) هو السبب فيما يلحقهم من ظلم فقرروا تحرير المدينة من العائلة الحاكمة ومن الباشا فقتلوا العديد من الولاة الجليليين ممن حاول استرداد النظام، بين عامي 1822 و 1834 "وقد توالى على الموصل خلال هذه المدة خمسة ولاة جليليين اثنان منهم تولاها مرتين"؛ أما المدينة فقد اصبحت خلال هذه الحواداث..مشهدا للفوضى المطلقة..فقد انقسم الناس الى جماعات تعادي إحداها الأخرى وادت المشاجرات والأغتيالات الى ضياع الأمن مما جعل الناس تبني جدرانا في الطرقات للفصل بين الأحياء المتخاصمة..اما التجارة فقد دمرت بالكامل تقريبا ..وبدت المدينة في اوقات بدون حاكم..وكان الرعية يتوصلون الى سلامتهم بالتجمع في ثلاثة او اربعة اشخاص وراء احد المتنفذين، يقوم بالمقابل بحمايتهم..وكانت الثياب تمزق من على اجسام العابرين في الشوارع..اما الأغتيالات فكانت متكررة..وكان مرتكبيها يفلتون من العقاب..ولايقدر السكان مغادرة المدينة لأكثر من نصف ساعة خوفا من العيارين الوافدين من الصحراء الذين يقدمون الى المدينة وينهبون كل من يرونه خارج اسوارها..وكان بيك راوندوز قد اقتحم الموصل ووصل حتى النبي يونس حيث استلب من الناس ممتلكاتهم كلها قبل ان يرحل الى حيث اتى) ..
فالموصل كانت في وضع لاتحسد عليه مدينة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر..وهو وضع لايمكن باي حال من ألأحوال فصله عن الأوضاع المتردية للأمبراطورية العثمانية التي كانت على الرغم من إرادة ادارتها في اسطنبول الإصلاحية في حالة انهيار سريع استحقت في طور تفاقمه لقب رجل أوربا المريض..وهو مع توظيف هذا المجاز اي [رجل مريض] فهو مريض لاتخلو يديه من مخالب وفمه من انياب..غير ان ضحيته في الحالات كلها وعند كل ازمة اقتصادية تعصف بالعاصمة او هزيمة تهتز لها البلاد وتزعزع ثقة السلطان شبه المطلقة بموارده وقوته هو الرعية التي تشمل بوجه خاص العرب الذين وقع عليهم الجهد العسكري من الطرفين المتحاربين مصر واسطنبول فضلا عن وضعهم في خط المواجهة مع الدول الأوربية الثائرة للمطالبة بأستقلالها..وكان استقلالا ناجزا او يكاد باكمله على عهد السلطان محمود الثاني الذي لم يجد بدا من المضي بالإصلاحات وكانت نتيجة الأصلاحات واضحة ومأساوية على الكثير من الولايات الإسلامية وبخاصة العراقية ومنها الموصل:
اينجة بيرقدار محمد باشا:
في هذه الظروف جاء تعيين اينجة بيرقدار محمد باشا (او بيرقداري - كما يسميه الموصليون) في محاولة من اسطنبول فرض ضرب من المركزية بطريق استرجاع الولايات العثمانية من الأسر شبه المستقلة، وربطها بالحكومة العثمانية مباشرة وتطبيقا للأصلاحات التي تمثل أهمها ببناء جيش يحل محل الأنكشارية التي كان السلطان محمود قد حلّها، كتطبيق التجنيد الألزامي الذي شمل على عهد مجيد الأول النصارى، ثم تنفيذ نظام ضريبي صارم لتغطية المجهود الحربي ومشتريات الأسلحة في مواجهة الخطر المصري والأبقاء على البقية المتبقية من الأمبراطورية..اي ان الأمبراطورية تحركت وفق ماتفرضه عليها الضرورة التاريخية اي [المركزية] أزاء التفكك والأنفصال وبكل وسائل القوة.
استلم الوالي العثماني اينجة بيرقدار محمد باشا الموصل مدينة خرائب..وتتضح من متابعة فترة ولايته طبيعة المهمة التي انيطت به : فرض الأمن، جباية الضرائب لتمويل الجيش وحركة الأعمار في المدينة، فرض هيبة السلطان ومركزية الدولة، القضاء على حركات التمرد والعصيان في راوندوز والعمادية وتلعفر ومناطق اليزيدية والشمر، فرض عملية التجنيد الإلزامي، فرض الأمن في المدن والقصبات في شمالي بلاد مابين النهرين وانهاء كافة اشكال السلطات المحلية في المناطق التي تتواجد فيها الجماعات الأثنية والدينية..والعمل للحد من المجاعات والأوبئة والعصابات التي خربت الحرث والنسل ودمرت التجارة والأسواق في الموصل..كما تم خلال فترة حكمه الممتدة قرابة 9 سنوات من 1835 وحتى عام 1844  اكتشاف الأوابد الآشورية القديمة: فقد اكتشف بوتا بمساعدة معلومات نقلها اليه احد سكان باريما القريبة من مدينة سرجون هذه المدينة عاصمة سرجون الثاني واكتشف لايرد نينوى ونقب في كالخو (النمرود) و قلعة الشرقاط (آشور) وشريخان ..وكان أكتشاف هذه المدن الدفينة في مشارف الموصل وفي جانبها الأيسر ثورة هائلة في علوم الآثار والحضارات القديمة والأديان وتأسيسا لعلم المسماريات والدراسات الآشورية..ومن الطبيعي ان تنطلق الحملات الأستكشافية من الموصل ويحصل المنقبون على ترخيصاتهم (تذكرة) من الباشا بعد ان يحصل سفراء دولهم على أمر(فرمان) من السلطان العثماني يحملونه معهم الى الموصل..وكان الأنكليز والفرنسيين يشتكون من صعوبات تعسرعليهم المضي في تنقيباتهم بأمان..ولعل السبب وقوف فرنسا وبريطانيا الى جانب محمد علي باشا وابنه ابراهيم في حروبهما ضد السلطان..كما شهدت الموصل نشاطا هائلا للبعثات التبشيرية الأميركية والجزويتية الفرنسية والأيطالية وغيرها وكان بين اعضاء البعثات التبشيرية أطباء متنقلين كانت الموصل بأمس الحاجة لخدماتهم..وعلى الرغم من تأسيس اينجة بيرقدار محمد باشا لمستشفى القشلة، فان نقص الأطباء وتخصيص المستشفى لمعالجة جنده ومن يرى في علاجه فائدة للموصل، قلص كثيرا من خدماتها العامة..ويبدو ان جل اهتمام الباشا، كما يروي الرحالة، انصب على قمع الأعداء المحتملين والفعليين للأمبراطورية العثمانية وفرض التجنيد الألزامي وجباية الضرائب..بينما تناول المؤرخون العراقيون والأتراك الجهود العمرانية والإصلاحية الى جانب الحرب والقسوة المفرطة في السعي لفرض الأمن وأحترام السلطة. ويقينا فثمة أختلاف كبير بين رواية الرحالة الأجانب ورواية المؤرخين العرب حول اينجة بيرقدار محمد باشا. وأرجح أن منشأ هذا الأختلاف يعود الى المنظور الذي تم بموجبه تصور الباشا وتصويره من قبل الرحالة الأجانب وطريقة تعامله معهم مما جعلهم يركزون على سلبياته دون ايجابياته بينما تناول المؤرخون العرب سلبياته وايجابياته فكانوا أكثر موضوعية من الأجانب..ورأيي أن الحكام الذين سبقوا الباشا محمد اينجة بيرقدار (كما يسميه المؤرخون المعاصرون) لم تعوزهم الإرادة الطيبة والبنائة، غير انهم لم يلجأوا الى القوة المفرطة في فرض هيبة السلطة وضرب خصومها من عصاة الصحراء والجبل مما جعلهم ضحية لهؤلاء الخصوم وللأوضاع المزرية التي صيرتها واشتركت فيها عصابات السراق والغزاة والجراد من كل نوع في الفترة التي سبقت مجيء اينجة بيرقدار محمد باشا وخلقت بيئتها الحال الذي وصلت اليها الأمبراطورية العثمانية بسبب الأطماع الغربية في اراضيها.. وفيما يأتي نتناول تقارير الرحالة ممن عاش في الموصل او زارها ومكث فيها حينا في اثناء حكم اينجة بيرقدار محمد باشا..ولكننا نبدأ بتمهيد للمنظور العربي لهذا الوالي معتمدين فيه على مؤرخين عرب كالأستاذ عباس عزاوي وسليمان صائغ وصديق الدملوجي الذي اعتمد بدوره على تقويم الموصل او سالنامة الموصل لعام 1308- 1891 الذي دونه توفيق فكرت..وهو مصدر ثبته سليمان صائغ ايضا في مسرد مراجعه..ويقينا ان مكتبات الموصل وبخاصة مكتبة الأوقاف والمتحف والمركزية في المدينة والجامعة تحتضن مصادر غنية بالمعلومات عن تلك الفترة المهمة من تاريخ الموصل..وهي خارج متناولي للأسف مما يجعل الدراسة منقوصة بعض الشيء تواقة الى المصادر العربية الأخرى غير تلك التي اسلفنا ذكرها..مع ذلك ففي المصادر الأجنبية الألكترونية وغيرها مادة تفتقر اليها مكتباتنا ببساطة لأن معظمها لم يترجم الى العربية على الرغم من اهميتها الكبيرة لتدوين تاريخ الموصل في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمبراطورية وتاريخ الموصل وللتعرف على تفاصيل يفضل، من تتمثل حصته من التاريخ بالنهب والقتل والأغتصاب، حجبها وابقاءها دفينة في رفوف المكتبات..
تتوزع منجزات اينجة بيرقدار محمد باشا (1835 - 1843) في الموصل وشمالي العراق الى منجزات عسكرية وادارية وعمرانية واقتصادية..ففي فترة حكمه لم تحدث اوبئة او مجاعات كالتي حدثت قبل توليه ادارة المدينة او بعدها بأكثر من عقدين..وكان استلم الموصل والمنطقة في حالة فوضى تحف بها المخاطر ويتحكم باقدارها اللصوص والعيارين والقتلة ليسلمها مدينة مستقرة آمنة مزدهرة بعمارتها واسواقها..وبدهي ان تكون البداية بفرض الأمن في الداخل فالأنتقال للقضاء على حركات العصيان في القصبات والجبال ثم في مناطق تلعفر وسنجار وربيعة وفرض احترام القوانين على الجماعات الخارجة على القانون فيها تمهيدا لفرض نظام التجنيد الإلزامي وجباية الضرائب الضرورية لتمويل الجهد العسكري من جانب وحركة الأعمار من جانب آخر.. ولم يكن اهالي الموصل بسبب تكتلاتهم حول عدد من المتنفذين وخشيتهم من التيه في ارجاء الأمبراطورية او موتهم في الحروب الكثيرة التي تخوضها يستجيبون في البداية لدعوته الى العسكرية، وقتلوا رسوله الذي انفذه اليهم..فاعد 20 مدفعا قصف بها المدينة واغار على اسواقها ثم اعقب ذلك بحملة اعتقالات عشوائية وبذلك تمكن من فرض التجنيد الإلزامي الضروري لتشكيل الجيش الجديد..والتحرك به وبما لديه من قوات نظامية وخيالة لأخماد حركات العصيان في العمادية وراوندوز والشيخان وتلعفر وسنجار..والملاحظ في مقارنة النصوص العربية والتركية بكتابات الرحالة ان المؤرخين العرب والأتراك لم يذكروا تفاصيل النفير العام وتأثيره على الأهالي بينما توسع الرحالة في ذلك كما سنرى لاحقا..
وتمثلت حركات العصيان بخمس بؤر رئيسة هي العمادية وراوندوز وتلعفر ومناطق تواجد قبائل الشمر الحرونة وجماعات من ايزيدية سنجارالتي لم تكتف بالأمتناع عن التجنيد ودفع الضرائب بل تجاوزت ذلك الى الأغارة على القوافل ونهب المسافرين وتعريض الأمن للخطر، مما جعل امر اخضاعها ضرورة تماما كالجبال حيث قام عدد من الأغوات بتعيين انفسهم بانفسهم باشوات..وهي حال شاذة لأن الباشا الذي يعادل لقب (لورد) لايمنحه الا السلطان العثماني وربما عمد باشا بغداد في وقت مبكر الى منحه لمحمد ميركور (الأعور) او محمد الراوندوزي (المتخصص بقلع عيون خصومه من اليزيدية والنصارى والعرب)، فحاكاه اسماعيل البهديناني الذي اعلن عصيانه في العمادية على السلطة مستفيدا من لقب باشا الذي كان والي بغداد قد منحه اياه في السابق.
ونحن ان استخدمنا اسلوب الأحصاء التاريخي بالتقابل والمقارنة كما وضعه الدكتور احمد عبدالله الحسو سنجد ان الجغرافيا (منطقة الجبال) كانت دائما تشكل نتوءا في التاريخ وان حركات العصيان في الجبال تتكرر عبر التاريخ منذ العصر الآشوري نتيجة ضعف السلطة المركزية وتراجعها أو لتعرضها لعدوان خارجي، في واحد من ثلاثة مراكز فارس أوالعراق أوتركيا..يؤيد ذلك قيام بدرخان في بوطان على نحو متزامن مع عصيان الراوندوزي والعمادي..وتكرار ذلك في الفترة السابقة على الغزو الصفوي للعراق فقد اشار الدكتور عباس العزاوي على علاقة تنظيمية بين محمد بن فلاح المشعشع في اهوار الحويزة وحيدر جد اسماعيل شاه صفوي..بمعنى ان قوى الأطراف والأقليات الأثنية غالبا ماتميل الى العصيان والتمرد على السلطة المركزية عندما تتراجع هذه السلطة عن قوتها ومنعتها أو عندما تتعرض اراضيها لغزو واسع كالغزوالمغولي والصليبي والعدوان المغولي الثاني على عهد تيمورلنك ثم العدوان الأخير على العراق..وليس عبد الله أوجلان سوى الوريث التاريخي لبدرخان..والقرين بالقرين يذكر..ونحن في مراجعتنا للدراسات التي تناولت هذه المرحلة من وجهات نظر مختلفة تعكس القناعات الآيديولوجية أو العنصرية لكتابها، نجد أن هناك محاولة لعد القتلة ابطالا أو عزو جريمة ما بحق اناس عزل لشخص ما بينما تذهب الوثائق التاريخية الى تأكيد رواية مغايرة تماما كأن يعزى قتل علي بك أمير الأيزيدية الى اينجة بيرقدار محمد باشا بينما يؤكد الرحالة ان قاتل شيخ الأيزيدية هو محمد ميركور الذي كان لأسباب دينية وغير ذلك يناصب الأيزيدية والنصارى عداءا لدا راح ضحيته الآلاف بدون رحمة..وهنا لابد من توجيه اللوم على العثمانيين لأنهم ولأسباب دينية رجحوا كفة الأكراد على النصارى في قصبات ومدن الجبال لتنافسهم الأبدي مع الفرس الشيعة وللحيلولة دون امتداد النفوذ الفارسي وسط الأكراد من جهة ولعدم ارتياحهم للنصارى وبخاصة الأرمن منهم..
والمهم في هذا الأستطراد أن اينجة بيرقدار محمد باشا تمكن بمفرده احيانا وبمساعدة والي بغداد علي رضا باشا ووالي سيفاس مصطفى رشيد باشا مرة اخرى من بسط نفوذ الدولة العثمانية على قلاع المتمردين في الجبال على الرغم من تحصيناتها الدفاعية ووعورة الطرقات التي تقود اليها..وكانت اولى عملياته العسكرية في العمادية الآشورية التي شق فيها اسماعيل باشا عصا الطاعة فاتجه اليها بجيشه وفرض عليها حصارا ادى الى فرار اسماعيل باشا، فدخلها واصلح احوالها وعين عليها ضابطا من خاصته وعاد الى الموصل..وكان ذلك عام 1835 ..وبعد عام على هرب اسماعيل باشا الى [نيره وا] في الجبال، تحركت قوة كبيرة بقيادة الدبلوماسي العثماني الشهير مصطفى رشيد باشا وبأمر من السلطان محمود الثاني نفسه لقمع عصيان محمد ميركورالراوندوزي الذي قويت شوكته ووسع اراضيه حتى ماردين واطراف الموصل، وقتل الكثير من النصارى والأيزيدية بلا رحمة..بل قام بالأتصال بمحمد علي باشا وتقديم المساعدة لأبراهيم باشا في حربه مع العثمانيين في سورية..وقد اصطحب مصطفى رشيد باشا معه اينجة بيرقدار محمد باشا والي الموصل وعلي رضا باشا والي بغداد والتقت قواتهم في دشت حرير قبل تحركها الى راوندوز التي تحصن فيها ميركور وبعد مناوشات ومداخلات تضمنت اصدار امر بالأمان لميركور وفتاوي اطلقها مقربون منه كفتوى الملا محمد الخطي القاضية بتحريم قتال جيش الخليفة، استسلم ميركور واقتيد الى اسطنبول حيث حصل على العفو من السلطان ..إلا انه قتل في طريق عودته في سيفاس..مما وضع نهاية لعصيانه ووجه جهد اينجة بيرقدار محمد باشا الى اسماعيل باشا في العمادية كما أسلفنا.. وكان اسماعيل باشا قد تمكن من الرجوع الى العمادية والتحصن فيها مستفيدا من تحصيناتها الدفاعية ومتخذا اياها قاعدة للأغارة على قرى النصارى والأيزيدية عام 1842 فسير اينجة بيرقدار محمد باشا جيشا الى العمادية وجابهت قواته عسكر اسماعيل باشا بالقرب من [عين توثا]، فيما ذكر الصائغ، حيث انهزمت قوات اسماعيل باشا باتجاه القرية المذكورة وأحرقوها بينما عادت قوات اينجة بيرقدارالى الموصل..اما اسماعيل باشا فلملم شتات قواته وقادها الى القوش فقتل غالبية اهلها وانتقل الى روبان هرمز حيث اخرج الرهبان من صياصيهم وشرع بضربهم وتعذيبهم ولما سمع بقدوم قوات الموصل، هرب الى العمادية مصطحبا الرهبان المكبلين بالأغلال رهينة معه..إلا أنه لم يدم له المقام في العمادية اذ سرعان ماداهمته قوات اينجة بيرقدار محمد باشا معززة بقوات عثمانية وحاصرته وتمكنت من الإمساك به واقتياده مكبلا بالأغلال الى الموصل ومنها أخفر الى بغداد حيث انقطعت اخباره مرة والى الأبد..وبذلك يكون اينجة بيرقدار محمد باشا قد طهر الجبل من العصاة ..وكان خلال حملاته على الجبل قد مر بمدن عاصية اخرى كتلعفر وسنجار اللتان امتنعت السلطة المحلية فيهما عن تطبيق أوامر  الأنخراط بالجندية ودفع الخراج عن الأرض المزروعة والمواشي فأجتاح المدينتين وعاقب اكابر سكانها واثريائهم ..ثم اتجه الى قبائل شمر فكسر شوكتهم وأسر أحد شيوخهم..واقتاده الى الموصل..وبذلك أمن الجبل والبادية ..بعد ان طهر المدن ومدينة الموصل بوجه خاص من اللصوص والعيارين والخارجين على القانون..وهنا يعود له الفضل بتأسيس جهازين مهمين اولهما امتداد للحسبة وظيفته ضبط النظام العام والحد من ظاهرة شرب المسكرات وارتكاب المحرمات، وثانيهما جهاز مخابرات او تعقيبات الهدف منه تتبع الهاربين من خدمة العلم ورصد المتآمرين للنيل منه او الأخلال بالأمن العام..وكانت العقوبة ضد مستحقيها من الخارجين على القانون صارمة لاتعرف الرحمة..مما أدى الى استتباب الأمن وانتعاش الأسواق والشروع بعمارة المدينة..
ولابد قبل الأنتقال الى المنجزات المدنية والعمرانية لأينجة بيرقدار محمد باشا من الإشارة الى التناقض القائم بين رواية السالنامة التي اعتمدها عدد من المؤرخين حديثي العهد من الأكراد كمحمد امين زكي الذي اعتمد مصدرا سليمان صائغ وصديق الدملوجي الذي نقل بدوره عن السالنامة، ورواية عدد من الرحالة كهنري اوستن لايرد وبخاصة فيما يخص التعامل مع الطائفة الأيزيدية وقتل زعاماتها..إذ ورد في المصادر الكردية والتركية ان اينجة بيرقدار محمد باشا قام بقتل امير الشيخان علي بيك وانه قام بعد عودته من العمادية بذبح زعماء الأيزيدية في قرية كرمحمد عرب..بينما ورد في نص واضح صريح للايرد صديق الشيخ ناصر الأسياني ومعاصر باشوات الموصل خلال زيارتين قام بهما للموصل وللمناطق الأيزيدية الآتي:
(كان بيك رواندوز القوي "ميركور" الذي وحد القبائل الكردية في الجبال المحيطة تحت زعامته وتحدى الفرس والترك معا لسنوات قد قرر سحق الطائفة الأيزيدية، وكانت قوات علي بيك [شيخ الأيزيدية] قليلة جدا في عددها مقارنة بقوات ظالمهم [ميركور].. فانهزم من بقى على قيد الحياة وسقط علي بيك اسيرا بيد زعيم راوندوز الذي قتله فورا..وبالنتيجة هرب سكان الشيخان سيرا الى الموصل؛ وكان ذلك في موسم الربيع عندما ارتفعت مياه دجلة وغطت الضفاف.. وقام اهل الموصل بازالة الجزء المصنوع من الزوارق من الجسر..مع ذلك تمكن عدد من الأيزيدية من عبور النهر بينما بقي من لم يقدر منهم على السباحة من النساء والأطفال والشيوخ على الجانب الأيسر ثم تحركوا للأختباء في تلقوينجق..إلا أن الراوندوزي داهم  الأيزيدية المعتصمين بالتل وقام بذبحهم بدون رحمة وهم يصرخون ويستغيثون في الوقت الذي ينظر اليهم اهل الموصل من فوق سطوح منازلهم عاجزين عن تقديم العون لهم وهم يستغيثون من غيرما جدوى......وبينما كان مصير الرجال والنساء اليزيدية الذبح من غير رحمة..كان قدر الأطفال من الجنسين البيع في المدن الرئيسة..وكان هذا واحداا من مصادر دخل بدرخان " زعيم الأكراد في الأناضول" في الوقت الذي جرت العادة على قيام باشوات الموصل وبغداد بأطلاق العنان لقواتهم غير النظامية للأغارة على القرى اليزيدية لتعويض تدني مرتباتهم..مما دفع الأيزيدية على تنظيم انفسهم بعصابات من قطاع الطرق بهدف الأنتقام من ظالميهم..فكانوا يقتلون اي مسلم يقع بين ايديهم ويغيرون على القوافل ويقتلون التجار بدونما رحمة  غير أنهم لم يهاجموا المسيحيين لشعورهم انهم ضحية مثلهم  لظلم الترك والمسلمين)..
يتضمن نص لايرد مضامين كثيرة منها مايتجلى صريحا بين السطور ومنها مايستدل عليه من القراءة بين السطور..واهم تلك المضامين ان العرب لم يعمدوا الى محاربة الأيزيدية أو قتلهم .وأنهم كانوا كالنصارى الكلدان والنسطوريين والأرمن ضحايا للأكراد والترك..وأن رواية السالنامة بخصوص قتل علي بيك شيخ ايزيدية الشيخان الذي عزته الى اينجة بيرقدار محمد باشا غير صحيحة مما يفترض ان رواية مذبحة كر محمد عرب التي عزتها الى اينجة بيرقدار محمد باشا هي الأخرى غير صحيحة..ومما يزيد النصوص والروايات ارتباكا تكرار اسم محمد في ولاية الموصل بعد وقبل اينجة بيرقدار محمد باشا ولدى الأكراد ايضا؛ ذلك ان اسم ميركورالسوراني هو الآخر محمد..مما يرجح قيام محمد ميركور بمذبحة كرمحمد عرب وليس اينجة بيرقدار محمد باشا..وان كاتب السالنامة نقلها عن روايات وليس عن شاهد عيان وبعد مضي وقت طويل على الحوادث التي تناولتها..يؤيد ذلك لجوء الأيزيدية الى الموصل بدلا من الجبال بعيد قتل علي بيك امير الشيخان من قبل محمد ميركور الراوندوزي..ولو كان حاكم الموصل ليقتلهم ما كانوا ليؤمنوا جانبه ويعبر من تمكن من عبور النهر منهم سباحة في عنفوان دجلة الى الموصل..مع ذلك فالحقيقة التاريخية ان الأيزيدية كانوا على الدوام هدفا لكل رام ولاسيما بعد ان نظموا انفسهم في عصابات هدفها الأنتقام من ظالميهم ولأن قاعدة الهجوم افضل وسيلة للدفاع يمكن ان يطبقها اي طرف من طرفي النزاع..ونلاحظ في نص لايرد اشارته الى المسلمين بدون تحديد اي جماعة مسلمة الكرد ام العرب..ونحن نعلم ان العلاقة السائدة بين المسيحيين والعرب في الموصل كانت طيبة بدليل النص الآتي لرحالة آخر هو ساوثكيت الذي أقام في الموصل وكتب عن سكانها وأوضاعها وتاريخها:
(في تجوالي راكبا أو راجلا في المدينة كنت أحيانا اصاحب احد الرهبان الكلدان او السريان، وكنت دائما الاحظ بذهول الطريقة المؤدبة والأخوية التي يحيي بها المسلمون المسيحيين في كل مكان نلتقيهم فيه؛ والأواصر الطيبة بين الجماعتين تتضح قبل ساعات من خروجي الى المدينة..وبدت لي غريبة بحيث شرعت بالأستفسار عن سببها..واعتقد انها نشأت من جراء أسباب عديدة مشتركة أبرزها ان المسيحيين ومنذ ازمنة سابقة قدموا اعظم الخدمات في الدفاع عن المدينة في الحرب، ولكون الموصل كانت ولمدة طويلة بإدارة ولاة متحدرين من اصول مسيحية ولأنهم كانوا يبجلون ذكرى هؤلاء الأسلاف بزيارة قبورهم بصحبة المسلمين وترميمها على خلاف الأتراك الذين درجوا على عمل الشيء نفسه مع اقرانهم في الدين، هذا فضلا عن حقيقة كون معظم الحرف المفيدة كانت بيد المسيحيين مما جعلهم موضع احترام واصحاب نفوذ..وأخيرا من حقيقة كون جزء من المسلمين ربما كانوا من اصول مسيحية كما تكرر في تصريحهم بذلك..كما شاهدت على الصعيد الشعبي ان هناك درجة غير اعتيادية من الإلفة "الميانة" والأحترام من جانب المسلمين تجاه المسيحيين وكان المسيحيون بدورهم يبادلون المسلمين مايليق من صفات الرجولة وسمات الكرم.. ولم الاحظ في اي مكان آخر غير الموصل وماردين مثل هذا السلوك....ففي الموصل وماردين فيما بعد رايت ان معظم أولئك الذين تعاملت معهم كانوا رجالا نشطين أذكياء العقل..وبين رجال الدين بوجه خاص رأيت درجة غير اعتيادية من الشهامة وحسن الخلق..و بالمقارنة، فأنني لم الق في سفري في تركيا وبلاد فارس اناسا جديرين بالأهتمام..ولم اشعر باية بهجة في الأيام التي امضيتها فيهما) ..
يوضح هذا النص حجم التزوير لدى كتاب التاريخ المحلي ولاسيما ممن يميل الى النظر الى التاريخ من منظور إثني فيحاول صبغ التاريخ بأكملة بالوانه المحلية ضاربا عرض الحائط الوثائق الدامغة التي تؤكد ضلوع اسلافه بالجريمة التي يريد الصاقها بالعرب من سكان الموصل مسيحيين كانوا او مسلمين..فيميل على سبيل المثل الى ألحاق صفة ثائر بقاتل مثل محمد ميركور الراوندوزي او اسماعيل باشا او بدرخان وكلهم متوغل في دماء المسيحيين والأيزيدية في سهل نينوى..ولولا وجود هذه الكتب في مكتبات العالم كلها لطالتها ايديهم واموالهم فعمدوا الى تحويرها او سلخها او اتلافها او تزويرها..وقالوا أن الأيزيدية والمسيحيين قتلهم العرب من سكان الموصل بينما تشير كل الدلائل والشهادات على أن القتلة هم الأتراك والأكراد حصريا..
ويخبرنا لايرد في اماكن اخرى عن ال

16
المنبر الحر / تحولات مردوخ
« في: 23:31 08/09/2012  »
تحولات مردوخ



صلاح سليم علي
على الرغم من الغموض الذي يكتنف منشأ مردوخ [بعل] في سومر أو انتقاله اليها من حواضر سامية أو فينيقية ضاربة في القدم وتسميته السامية  التي تعني عجل الشمس أو عجل السماء او ابن الشمس أو (الأبن) و(الشمس) في الوقت نفسه، فأن ارتباط عبادته ببابل تضفي دلائل كثيرة على طبيعته وشخصيته..ونحن لانعرف، تحديدا، إن كان مردوخ اسما سومريا لكن مدينة بابل (باب ايلو) أي بوابة الإله، تسمية سومرية المنشأ، وبابل هي مركز عبادته التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم بدءا منذ عهد حمورابي وحتى عهد نبوخذنصر الثاني، ويكنى مردوخ بملك السماء وكلمة القوة المجيد، والحكيم الصالح، وحارس الجهات الأربع، وراعي النجوم وسيد الحياة وحصن العبادة وراعي الآلهة وسيد السحر ومعيد البهجة الى الأنسان من بين خمسين اسم آخر عرف بها من دون الألهة الأخرى في العالم القديم وكانت الآلهة العراقية قديما قد خلعت هذه الأسماء  عليه بعد انتصاره على تيامات وقبولها أياه ملكا عليها..ووالد مردوخ هو (أيا) أو (انكي) إله الماء والخلق والحرف والمكر.. ونظيرا مردوخ في الأساطير القديمة هما  [برومثيوس الأغريقي] وآدابا العراقي  الذي انقذ الأنسانية من الطوفان؛ وام مردوخ هي دامكينا اي داماأيجينا (سيدة الأرض) اما زوجته فتدعى [ساربانيتوم] التي انجبت له إله الحكمة والكتبة (نبو) الذي نعرفه من معبده الشهير في كالخو (النمرود) ذلك المعبد الذي يزين مدخله تمثالان لحوريتي بحر (أضاعت أيدي الزمن والغزاة رأسيهما) مما يذكرنا بصلة جده أيا (انكي) بالمياه..ويؤكد رمز المجرفة او المزعقة (المسحاة اوالكرك في جنوبي العراق)  التي يحملها مردوخ، من جهة أخرى، الدور البناء لمردوخ باعتباره إله القنوات والترع ومجاري الأنهار..ومردوخ  بحكم احتفاظه بلوح القدر يمتلك قوة انليل وأيا مجتمعتين..ولأنه بطل [الأينوما ايليش] (اسطورة الخلق) التي انتصر فيها على [تيامات]، فأنه يمثل انتصار النظام على الفوضى والتحضر والتمدن على البدائية والظلام وبذلك فأن ارتباط عبادته بالمراكز الحضارية الكبرى في وادي الرافدين يشكل استمرارا للتمدن السومري والأكدي متمثلا من الناحية السياسية بقوة الدولة العراقية في الألف الثالث ق.م. وبعبادات الآلهة الرافدية انو وايا وانليل في تلك العهود الغابرة ..وعندما ورثت بابل دور اوروك وشروباخ وكيش ولاكش ونيبور واور وأكد وغيرها من المدن السومرية،  تبنت العقيدة الدينية السومرية نفسها متمثلة بمردوخ من الناحية الدينية وبرز الملك حمورابي مؤسس السلالة البابلية الأولى من الناحية السياسية..غير ان مردوخ الذي يقترن ببابل وبحمورابي في الألف الثاني ق.م. ظهر قبل ذلك بقرون أي  في المرحلة السومرية..فقد تواتر ذكر مردوخ في النصوص السومرية القديمة  كما في مسرد الآلهة التي عثر عليه في ابو صلابيخ (ربما كانت كيش او ايريك السومرية)..مع ذلك فأن الفضل في انتشار عبادته يعود الى النجاحات السياسية والعسكرية لحمورابي مؤسس السلالة البابلية الأولى، فقد كان مردوخ ابرز الالهة في بابل على عهد حمورابي إذ ورد ذكره في ديباجة قوانين حمورابي المحفورة في مسلته الشهيرة (مسلة حمورابي) التي سرقها العيلاميون ونقلوها الى عيلام..
وكان مردوخ من اكثر الآلهة الرافدية المحببة على قلب العراقيين لما عرف به من سمات العدالة والنزاهة والرحمة فهو يشكل مع ابيه [انكي] وعمه [أوتو] (إله الشمس) مثلثا قويا للتبرئة من السحر ودرء التعاويذ الشريرة وصرف تاثيرتها المميتة..وهو بموقفه المناصر للبشرية يشاكه [ايتانا] في تحالفه مع الرخ في صراعه مع الحية التي تحاكي بطبعها وخلقها الشر الكوني المتمثل بتيامات..ويماثل دور مردوخ في تصديه لتيامات وقتلها، دور نينورتا في تصديه للأنزو الشرير وقتله بأمر من الآلهة المجتمعة في الأيكور مقر تجمع الآلهة  الكائن في نيبور (نفر) [القريبة من قضاء عفج في الديوانية]..
ونستمد الجانب الأكبر من معلوماتنا عن مردوخ من [الأينوما أيليش] أي (أسطورة الخلق البابلية) التي تحدثنا عن ميلاده وكيف انه رضع من اثداء ربات السماء كلهن لكي ينشأ مكينا وقويا بإرادة الآلهة الرافدية كلها وبأعينها، وعندما اصبح صبيا منحه إله السماء جده لأبيه  [أنو] الرياح الأربع ليلهو بها فأصبح سيد أمراء [الأنوناكي] أو آلهة السماء وكأن الآلهة التي ترى الماضي والمستقبل معا كانت تعرف مسبقا المهمة الكبرى التي تنتظره فباتت تعده اعدادا خاصا يتناسب مع جسامة المعركة التي سيخوضها وبالتالي خلقه العالم من جديد..وكانت تيامات تتجسد المحيط بمياهه المالحة والأبخره المخيمة فوقه وكان ان امتزجت مياه المحيط التي تتجسدها تيامات بالمياه العذبة التي يمثل اليها بإله هو [أبسو]- في الأسطورة السومرية - فتمخض الأتحاد عن خلق الآلهة الأوائلية (لحمو) و(لاحامو) اللذان انجبا أنشار وقيصار، اللذان انجبا، بدورهما، أنو، وأيا -انكي (والد مردوخ).. وكانت الآلهة الجديدة في الجيل الثالث تتسبب بازعاج شديد لأبسو وتيامات اللذان قررا نزولا عند نصيحة [مامّو] او الأبخرة المحيطية تدمير هذه الآلهة..ولكن [أيا] عرف بالمؤامرة فلجأ الى السحر لأفشال محاولة تيامات وأبسو الرامية الى التخلص منه ومن أخيه [أنو]؛  فعمد الى قتل الأبسو مما اسخط تيامات فأعدت لشن حرب كونية عشواء مما أذعر الآلهة ..فلجأت تيامات (أم الألهة) الى زوجها الآخر كينكو واعدت جيشا من التنانين والأفاعي العملاقة ورجال العقارب لتدمير الكون وآلهته..فانتشرت الفوضى في العالم ..فاقترح أنشار ان يعين مردوخ بطلا إلهيا وان يتم تجهيزه من قبل الآلهة بأسلحة قوية منقطعة النظير لمواجهة الخطر الهائل الذي ينتظر العالم..فوافقت الآلهة على اقتراح أنشار وعلى طلب مردوخ بأن يكون الأول بين الآلهة ..فامتطى مردوخ عربته متسلحا بالقوس والنبال وبالحربة المثلثة وبهراوة وشبكة وحمى نفسه بالدروع فضلا عن الرياح الأربع والسحر..فقاد عربته وسط خصومه ليلتقي تيامات وقد فتحت فكيها لأبتلاعه فأرسل سهما في حلقها ثم عاجل بذبحها..والتفت الى جيشها من التنانين والثعابين ورجال العقارب فأسره برمته ..ثم عمد الى شد لوح القدر - وهو هدية زواج تيامات بكينكو - على صدره و شطر تيامات الى  نصفين خلق منهما الأرض والسماء ..ثم أقتلع عينيها ليزرعهما في الأناضول فيتدفق منهما نهرا دجلة والفرات ثم أخذ دم الكينكو ليخلق منه الأنسان قبل عودته الى معبده في بابل..
وبعد موت تيامات وخلق العالم قررت الآلهة منح مردوخ 50 اسما ينطوي كل واحد منها على قوى وقدرات خلعتها عليه الآلهة فاصبحت بابل مقرا ابديا للملوكية وبوابة للآلهة وعاصمة للكون وارتقى مردوخ ليصبح ملك الأيجيجي  و النانووكي معا أي  (آلهة الأرض والسماء) واصبح شريكا مماثلا بالقوة لأبيه [أيا] أنكي وعمه [أنو].ومن قدراته الخاصة القدرة على معرفة المستقبل والسحر والتطبيق الصارم للقانون مما يتضمن على صعيد التاريخ والإدارة الأهتمام الهائل لدى حمورابي بالتشريع والإدارة..فمردوخ يكرر دور [انليل] الذي فصل الأرض عن السماء وأسس للنظام واضطلع بشق الترع وحفر حوضي دجلة والفرات وروافدهما ..كما تتردد في حكاية مواجهته الكونية لتيامات اسطورة الصراع بين نينورتا والأنزو والصراع بين أدابا والريح الجنوبية ..حيث يسترد نينورتا لوح القدر الذي سرقه الأنزو من انليل فمردوخ يعكس في اسطورته نظرة العراقيين قديما الى العالم وهي نظرة ثنوية ترى الكون على انه مؤلف من قوتين خيرة وشريرة وان الأنسان لاخيار له سوى الوقوف الى جانب الخير ضد الشر، والنظام ضد الفوضى، والتمدن ضد البدائية والظلام.. ولأن الفوضى ليست عاطلة عن الفعل بل هي واعية بأهدافها وهجومية في طبيعتها، فلابد والحال هذه من مواجهتها بطريق الحرب التي تؤسس بدورها للنظام وعمارة الأرض..وقد تأتي اطوارتتراجع فيها الحضارة و تغيب فيها هذه النظرة الى العالم  فتسود الفوضى ويتوقف التفكير وتصاب الحضارة بالعطل الذاتي كما يحدث في حالات الغزو الأجنبي او الخمول الحضاري او الانحراف وراء آلهة غريبة او مزيفة لاتنتسب الى النمط الحضاري الذي تأسس الوعي الرافديني عليه ..عندئذ وفي نقطة الصفر تبدأ الذات بالتقاط الخيوط الحضارية التي صارت الى فقدها..لأن خطرا ما يهددها وجوديا ويعرضها كطبيعة الى التغيير الذي قد يعني الذوبان في الآخر وفقدان الهوية الحضارية..فالأساطير وفي قلبها اسطورة الخلق وبطلها مردوخ ليست نسيجا باهتا في ظلام الوعي بل انماطا وجودية متوهجة ضرورية لحياة الأمم فهي تصمم الوجود الأنساني في إطار الحضارة وتبني هياكلها المعرفية التكوينية في جوهر الوعي وهي هياكل لايمكن استرجاعها الا عندما تتعرض الهوية الحضارية للأمة لخطر الضياع او الذوبان في الآخر..وعبادة مردوخ تعني في جوهرها تقديسا للنظام الذي اسسه السومريون وشيدوا حضارتهم عليه..فليس من كلمة اكثر اهمية لدى السومريين من كلمة [النظام] الضروري لبناء الحياة المدنية وارساء اسس التمدن كالتشريع الذي يضمن العدالة والمساواة؛ والأمن الذي يؤسس لمفهوم الدفاع والجيش؛ والأقتصاد الذي ينظم الزراعة والتجارة ويحدد معالم التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى..
وقد جسدت بابل حمورابي التمدن الرافدي في بناء بابل ووضع القوانين وتنظيم التجارة وادارة الدولة في السلم والحرب وكان مردوخ راعيا للتمدن والأخلاق المدنية في بابل "فمردوخ يغمر باشراقته الذهبية الناس، وقوته تختلف عن قوة عشتار اللاهبة والمشبوبة بالعاطفة ..اما قوته فراحمة تنشر الأمان في نفوس الناس"..ورحمة مردوخ تنبثق من جبروته كما نقرأ في نص قديم: "فمن ذا الذي يقدر ان ينبيء بقوته ومن ذا الذي يقدر ان يطال جبروته؟ فبمشيئته تواصل النجوم مسارها وبه يتجذر النظام في العالم فتتجلى بذلك طبيعته وتصبح قدرته بينة للجميع..وتلك قدرة على التحول وابقاء الكائنات حية بقوة الموت..فكل شيء يتغير بإرادته وكل المخلوقات [حية وميتة] تصدر عنه ويعتمد احدها على الآخر من اجل البقاء..فهو اصل الخلق وهو يعطي خلقه هيئاتهم الجميلة من عدم..مع ذلك فمردوخ ليس سوى اداة بيد والده وقوته انحدرت اليه من إنليل ثم أيا وهو من يتجسدها"..وحقيقة مردوخ تتجلى في الحب متعدد الأشكال فبمقدوره ان يضيء كل شيء في الأرض والسماء؛ فهو مغير الهيئات وهو الإله الذي لا يقيده شيء..فهل تحب الأرض الشمس او يهوى القمر الأرض؟ وهل تحب الشمس النجوم أو تحب النجوم الأعماق؟ نعم! بقوة مردوخ وبقوته تحب نباتات الأرض الخضراء المخلوقات التي تقتات عليها ويحب الفأر العقاب [الذي يأكله]..وعندما تتلاشى الرياح فهل يتلاشى الحب؟ والطوفان اتراه يحب الأرض والبحر؟ فأذا تمكنت من ان ترى ذلك كله، ستعلم ان التفاحة التي تتناولها تحبك..فهي تشتعل مع العاطفة التي تصنع منك كائنا أرقى..فالحياة تحب الموت وكل الموجودات مشدودة احدها الى الآخر بقوة الحب فلا شيء يفصلها ولاشيء سوف يفصلها" نفهم من هذين النصين المكرسين لمردوخ انه يمتلك قوى الحياة والموت، الرحمة والنقمة، وهو واهب الموجودات هيئاتها بل هو من اوجد القوة التي تحرك عجلة الكون وبهذا يصبح مردوخ سيدا للآلهة وتصبح بابل، مركز عبادته، سرة العالم ومركزا للكون ..ومردوخ بصفاته الخمسين وسيادته على بقية الآلهة وقتاله قوى الشر وانتصاره للخير يعد نواة للديانات التوحيدية التي خلعت كثيرا من صفاته على اربابها..
وتتجسم في مردوخ طبائع الآلهة الرافدية وسماتها المميزة فمردوخ أضافة الى خصائصه الشمسية، إله أنواء ومياه يهب النبات خضرته والحقول والبساتين اثمارها وغلالها الوفيرة وهو يفعل كل ذلك بما له من قدرة على التحكم بالأنواء كالصواعق الرعدية والغيوث الغزيرة والسيول الغامرة..ولأنه يسيطر على حركة الأفلاك والنجوم يمتلك القدرة على التحكم بمصائر البشر..فمشيئته هي التي تحدد مسارات الحياة وتمد العالم بعوامل الأزدهار والبقاء..ولم يغب عن الخيال العراقي القديم ان يمنح مردوخ رمزا مناسبا لوظائفه الأحيائية والإنباتية..فوادي الرافدين ارض تغمرها المياه ولابد من إدارتها بطريق شق الترع والقنوات وفتح المبازل وحفر الصهاريج والكهاريز..لذا اصبح للمجرفة (المسحاة) اهمية خاصة في وادي الرافدين ولاسيما في الوسط والجنوب حيث تكثر المياه والقنوات وتهيمن النخلة على المشهد الممتد من جنة عدن (اراضي سومر وأكد وبابل) وحتى ديلمون (البحرين) حيث كان السومريون يدفنون موتاهم..فالمياه والمياه وحدها وبكل تحولاتها المدمرة والباعثة للحياة هي مايميز آلهة الرافدين واهل الرافدين..وسهول الرافدين وثقافة الرافدين..ولأن هذه الأرض الطيبة عرضة للطامعين من اقوام الجبال وبدو الحمير من الفرس واليهود الحاقدين، ترتب على العراقيين الدفاع عنها بطريق اعداد الجيوش الدائمة وتطوير اساليب الحرب..وتنظيم الحياة المدنية وهياكلها الإرتكازية على ذلك عد مردوخ إلها حاميا للأرض وأهلها ومدمرا لأعداء العراق بكل اساليب الحرب المتوفرة وبضمنها السحر..فهو عندما يتحدث ينبثق اللهيب من جوفه..وهو بقوة مالديه من سحر يحرك السيول المهلكة ويرسل الصواعق المحرقة وتلك وظيفة ميزت الإله الآشوري ادد والبطل العراقي نينورتا وتتضمن اسلحة مردوخ الهراوة والقوس والنشاب والشبكة السحرية التي يقيد بها الأشرار ويشل بها قدراتهم..ويعتمر مردوخ خوذة على هيئة تاج ويضع في بنصر يده او في اصبعه الوسطى خاتم السيادة الملكية المفصوص باللازورد وربما الكرنلين الأحمر او الجيد ذي الخضرة الكاشفة البهيجة مما يفد العراق من اقاصي الغرب ومن اقاصي الشرق على التوالي..وقد يتجلى احيانا على شكل ثور (هو غير الثورالمجنح الآشوري الحارس على بوابات المعابد والقصور الآشورية) أو يمثل بهيئة آدمية عملاقة بعيون وآذان عديدة تشير الى قدرته على رؤية كل شيء وسماعه كل شيء في الوقت نفسه..ويصور مردوخ في الفن مرتديا مئزرا تزينه النجمة الثمانية المتكونة عن مربعين متداخلين و ترمز الى النظام وسيادة الدولة وقوتها..وهو رمز يتكرر في العصور الأمبراطورية العراقية منذ العصر السومري وحتى العصر الحديث وتحديدا حتى الأحتلال الهمجي الأخير للعراق حيث إئتمرت قوى البدائية والظلام على تهديم الصروح كافة التي تحمل نجمة مردوخ الثمانية وتجريد العلم العراقي منها ايضا..ويشاطر مردوخ الآلهة افضل قدراتها فهو رب الأرباب او هو إله الآلهة مما يؤسس لعقائد التوحيد التي تتمحور عليها الأديان الكبرى الثلاثة حيث نطالع في أحد النصوص القديمة الآتي:
نينورتا هو مردوخ المزعقة
نركال هو مردوخ الصولة
زوبابا هو مردوخ القتال بالسلاح الأبيض
انليل هو مردوخ السيادة والمشورة
نابيوم هو مردوخ الحساب
سين (القمر) هو مردوخ الذي ينير الليل
شمش هو مردوخ العدالة
ادد هو مردوخ الغيث
يعكس هذا النص الميول التوحيدية لدى العراقيين القدماء من خلال النظر الى مردوخ على انه تجسيدا للميزات النموذجية الأفضل لدى الالهة الرافدية كلها ونلاحظ ابضا ان مردوخ اصبح اسما مرادفا للإله الواحد الذي يحمل صفات الآلهة الأخرى  فهو إله الخصوبة والقتال والمطر والرعد والقمر والشمس والحكمة والسيادة..
ويعد بيت مردوخ او معبده [الأيساجاليا] اي (البيت المرفوع او مرفوع الرأس) في بابل واحدا من اضخم المعابد واعظمها وأكثرها قداسة في العصور القديمة..وهو معبد شيده  مردوخ بعين الآلهة وبأشرافها..وذلك لأن مردوخ قاتل في سبيل الآلهة الوحش الشيطاني تيامات التي ترمز الى قوى العطل الذاتي والفوضى مجسمة .. وبعد ان تم له قتلها شطرها مثل سمكة الى نصفين خلق منهما الكون وكان اول شيء عمله في بابل انه شيد الأيساجاليا ثم عمد الى خلق البشر. وعندما يحتفل البابليون بعيد راس السنة (الأكيتو) يتذكرون بناء مردوخ للكون وتأسيسه للنظام في العالم وينشدون الأنوما أيليش تخليدا لبطلها ..وكيف ان بابل اصبحت مركزا للكون واصبح الأيساجاليا مركزا لبابل مما يجعل الأيساجاليا مركزا للكون وسرة للعالم..وقد تطرق هيرودوتوس الى الأيساجاليا في معرض وصفه لبابل:
(ويقع المعبد بثمانية طوابق الأعلى منها غرفة منام مقدسة او هي غرفة التجسم المادي للإله مردوخ وتحتوي على سرير هائل ومنضدة ذهبية والبشري الوحيد الذي يمضي الليل هناك   امراة وحيدة اختارها الإله لتضطلع بدور خليلته..ويخبرنا هيرودوتوس أن كهنة كلديين هم من أخبره أن الإله يمضي الليل شخصيا هناك..ولو إني [ والكلام لهيرودوتوس] لااصدقهم..وثمة تكهنات تذهب الى افتراض ان الملك هو من يقوم بلعب دور الإله في المهرجانات الدينية وانه هو من يقوم بممارسة طقوس الزواج المقدس مع الكاهنة في الغرفة..ويواصل هيرودوتوس وصفه للزقورة فيقول ان الطابق قبل الأخير كان مزارا آخر لمردوخ يحتوي على تمثال عبودي كبير من الذهب الخالص يمثل الإله مردوخ نفسه وفي مدخل المعبد يوجد نصبين احدهما من الذهب الخالص..وكان المعبد منذ ايامه قد نهب مرات عديدة لمايحتضنه من مواد بناء نادرة من قبل اقوام عديد ومن ضمنهم البنائين في جيش الأسكندر المقدوني)..
ولأن شيئا لم يبق من هذا المعمار الضخم، يعد وصف هيرودوتوس واحدا من النصوص القليلة الباقية التي نتمكن بواسطتها من التعرف على شكل ووظيفة  هذا المعبد البابلي الشهير في العصور الغابرة ...فمردوخ كان إلها بالغ الأهمية جدا في الألف الأول ق.م. وكان اسمه من القدسية بمكان بحيث لم يجرأ على لفظه احد وبدلا من ذكر اسمه صريحا  كانوا يشيرون اليه بعنوانه [بعل]..اي الرب..فقد كان مجمع  الأيساجاليا في قلب بابل وكان الداخلون اليه اول ما يرون قاعة عظيمة تأخذهم الى قاعة أكبر تقودهم الى المزار المؤلف من غرفتين مقدستين غرفة هي قدس الأقداس حيث تمثال مردوخ فغرفة مقابلة  مخصصة للكهنة الذين يخدمون تمثال مردوخ وتمثال زوجته ساربانيتوم..ويقع برج بابل أي قصر الأرض والسماء [ألأيتيمينانكي] الى الشمال من الأيساجاليا وهو في سبعة طوابق ارتفاعها 92 مترا..ويخبرنا هيرودوتوس ان قورش نهب تمثالا من الأيساجاليا في اثناء غزوه بابل وتدميرها ولكن لاندري ان كان التمثال هو تمثال مردوخ ..غير ان الأسكندر امر بارجاع التمثال الى مكانه في الأيساجاليا)..
لقد اشار هيرودوتوس الى سرقة تمثال الإله مردوخ ثم ارجاعه الى الأيساجاليا و الأرجح  ان سرقة قورش هذه كانت الأخيرة في سلسلة طويلة من حالات سرقة هذا التمثال وإرجاعه  الى  معبده عبر آلاف الستوات من الصراع والإقتتال بين بابل والدول الغازية في التاريخ القديم..وتتعدد دوافع واسباب سرقة تمثال مردوخ الا ان سرقة تماثيل الآلهة في العصور القديمة ترتبط بطبيعة التفكير الديني في العصور القديمة من جهة واهمية الإله الذي يتعرض تمثاله الى السرقة ثم  يرد الى معبده،  من الناحيتين السياسية والدينية..فالدين يمثل اساس الدولة ومصدر المشروعية في الحكم لأن الحكم في العالم القديم كان أولا للآلهة ثم لمن تمنحه الآلهة السلطة..فالعالم في منظور القدماء لم يصدر عن فراغ بل قامت الآلهة ببنائه مما جعل الناس يضعون وراء كل ظاهرة إلها فللسماء آلهتها وللأرض آلهتهاوللظواهر الطبيعية والكواكب والنجوم آلهتها..وترتبط الآلهة نفسها باواصر قربى فمنها الآباء ومنه الأبناء والأحفاد وألأخوة والأعمام.. والآلهة تخوض حروبا كونية وتشترك بالحروب مع الأمم التي تصون عبادتها وتقدم النذور لها في معابدها ولها طرائق في توصيل رسائلها للبشر مما اعطى للكهنة والتكهن اهمية كبرى في العصور القديمة وللبشرية تصوراتها عن الكيفية التي خلقت بموجبها الآلهة الكون ومن هنا الملاحم الكبرى التي تتطرق الى دور الآلهة في حياة الأمم وخلق العالم..
وتعد اسطورة الخلق البابلية [الأينوما ايليش] أحدى اقدم الملاحم الى جانب ملحمة كلكامش واتراحاشيش (نوح البابلي) في وصف الكيفية التي خلق فيها العالم..ويحتل مردوخ موقعا بالغ الأهمية في (الأينوما ايليش) فهو البطل الذي اختارته الآلهة لمواجهة تيامات التي ترمز الى الفوضى والخراب ..,كان على مردوخ مجابهتها ودحرها بطريق الحرب التي انتصر فيها كما اسلفنا..وكان من نتائج الحرب ان اصبح مردوخ ملكا شرعيا لمجمع الآلهة كلها أي آلهة الأرض والسماء ...وهو خالق الكون الجديد من جسد تيامات وبيده مفاتيح القوة والمشروعية وعنه تصدر قوة الدولة وبه تتحددمصائر الأمم في الحرب والسلم ..وعندما تكرس الأمة معبدا لعبادته وتعده سيدا على كل شيء بما يرقى الى التوحيد، يقوم بدوره بحماية هذه الأمة وتكريمها بتحقيق انتصاراتها في الحرب وازدهارها وامنها في السلم..على ذلك اصبحت سرقة تمثاله وهو اقدس شيء في المدينة موازيا لتجريد المدينة اي بابل من قوتها الحامية ومن ربها الراعي هذا فضلا عن تصور ان حمل التمثال الى مدينة اخرى، سيجعل الإله يزور تمثاله في المدينة الجديدة مما قد يتضمن احتمال حمايته لمقره الجديد وحاضنته الجديدة..وكنا  نشاهد الإله آشور وهو المقابل الآشوري لمردوخ البابلي يحمل كنانة ويرمي بسهامه اعداء الآشوريين في المعارك التي يخوضونها...فالإله يحارب الى جانب امته ويحقق لها الأنتصار..ومن من احدى نتائج الأنتصار تكريس النذور للإله الحامي وبناء معبد جديد او معابد جديدة  له في عواصم الدولة المنتصرة.. وكانت سرقة تمثال إله من طراز مردوخ وهو رئيس الآلهة كلها في بابل وحمله الى عاصمة الدولة الغازية تتسبب بضرب من الهزيمة النفسية لدى البابليين الذين سيشعرون ان المدينة جردت من حمايتها وان الإله خذلهم عندما لم يقاوم الغزاة الذين انتزعوا تمثاله من المعبد وقد يترتب على نهب التمثال شعورا بالذنب يعم الناس بانهم قصروا في عبادته فلم يؤدوا النذور او غير ذلك ..وكانت سرقة الإله جسيمة في آثارها على الدولة الغازية ايضا فالسرقة قد تترتب عليها نتائج وخيمة لأن الإله لن يسكت على الإزعاج الذي تسبب به الغزاة له بسرقتهم تمثاله..وفي كل مرة تتعرض الدولة الغازية للخراب او يكون مصير ملكها الأغتيال، يفسر ذلك بأنه انتقام مردوخ..ولعل من قبيل الأتفاقات التاريخية النادرة ان يصار الى اغتيال الملك الذي غزا بابل ونهب تمثال مردوخ..وبينما ينتسب مردوخ نفسه وتمثاله الى العالم الأفتراضي او الميتافيزيقي، ينتسب الأغتيال الى التاريخ الفعلي أي الى عالم الحقائق او الوقائع التاريخية الأكيدة مما يعطي لمردوخ وتمثاله اهمية تاريخية خاصة تتصل باهمية مردوخ باعتباره خالق العالم من جهة وقدرته على تطهير المدينة من الأرواح الشريرة والشياطين حيث قضت عقائد الأقدمين الى تفسير الأوبئة والأمراض والشرور وسوء الطالع على انها تصدر بسبب الشياطين التي تغزو الأجساد وتقيم في المدن وتعطل عوامل الخير..وماالى ذلك من تصور يعزو الى  الآلهة طرد الأرواح الشريرة وصرف آثارها السيئة على الحرث والنسل من جهة ثانية؛ ولمردوخ قصب السبق في هذا المضمار لأته يمتلك اسباب السحر فضلا عن قدرته الهائلة على طرد الشياطين ومنع نفاذها بقوته التي ورثها عن ابيه أيا وعمه أنو ..ويعرف العراقيون والأمم الأخرى مآثره في دحر تيامات وجيوشها التي تضمنت امما من الشياطين ورجال العقارب والتنانين..لذلك ساد لدى الملوك الأعتقاد بأن سرقة تمثال مردوخ وأعادة تنصيبه في إحدى مدنهم او عاصمتهم سيفضي بنتائج ايجابية على الصعد كلها فضلا عن الأهداف السياسية والسيادية الأخرى فتدمير المعبد حلقة مهمة يفرضها منطق الحرب فبعد سلب كل شيء واسر الناس وتدمير مدينتهم لايبقى سوى نهب المعبد والآلهة لأستكمال النصر العسكري بهزيمة نفسية تعطل روح المقاومة تماما لدى الأمة المغزوة..كما ان الغازي يريد بذلك ان يفهم الجانب المدحور ان قدرته تتجاوز الناس الى الآلهة مما ييسر استسلامه ويجعل هزيمته قدرا إلهيا حتميا وكان اول من لجأ الى اسلوب سوق الآلهة او أخذها مع الغنائم الملك الآشوري تكلاثبليزر الأول الذي يخبرنا في حولياته انه بعد ان دفع بالسلاح الاشوري الاقوام القاطنة في مرتفعات وان وملاطيا عند منابع الفرات :
(عندئذ قدمت قوات [الآخي] – "وهي اقوام قفقاسية" لنجدة كوموخا [كوماجين] او  [سمساط التركية التي غمرتها مياه سد اتاتورك حاليا]" فدحرتها ومعها قوات كوموخا التي انتشرت جثامينهم مثل القش في اكوام على قمم الجبال وجرفت المياه الهادرة في دجلة جثامين مقاتليهم وسقط حفيد ملكهم في اسري ومعه زوجاته واولاده قرة عينيه فسقتهم مع اواني من الحديد والنحاس وعددا من الآلهة  من الذهب والفضة وأرائكهم واثاثهم الى آشوروأخذت ممتلكاتهم اما مدينتهم وقصورها فاحرقتها  ودمرتها)
يظهر من هذا النص ان تكلاثبليزرالأول نقل الآلهة الكوموخية من سمساط  ليضعها تحت عين الإله آشور في العاصمة الآشورية...وبذلك يعقد النصرالآشوري كاملا على كوموخ بملوكها وآلهتها ولايبق لدولتها مكان في التاريخ اذ تصبح جزءا من الأمبراطورية الآشورية الممتدة من البحر الأسود وحتى الخليج العراقي ومن قبرص حتى بحر قزوين وبضمنها جبال زاكروس وطوروس  ...وتكرر غزو الآلهة في ناعيري (أرمينيا)  على عهد سرجون الثاني الذي دمر معبد الإله خالدي في مصاصير[آرتين-أرديني] او مشاشير [التي تعني مدخل مغارة الحية في اللغة الاكدية]  مما دفع بالملك الأرمني روسا الأول الى الإنتحار كمدا لخسارته الفادحة وتهديم سرجون لمعبده خالدي في مشاشير وحمل كنوزالمملكة الأرمنية المخبأة هناك الى مدينة سرجون العاصمة الاشورية القريبة من الموصل..
ولم يكن هذا الإجراء غريبا على الأمم المجاورة فقد سرق مرشيليش الأول ملك حاتوشا الحيثي تمثال مردوخ من الأيساجاليا وحمله الى عاصمته حاتوشا القريبة من أنقرة بعد ان يسر له القزوينيين (الكاشيين) الدخول الى بابل وتخريبها في 1531 ق.م. ومرشيليش الأول في غزوه لحلب فبابل بعدها يعد نموذجا اوليا للغزاة المغول الذين أغارواا في العصور اللاحقة على وادي الرافدين.. فهو لم يقصد الاحتلال الدائم بل السرقة والقتل والتخريب وكما انهى هولاكو من بعده بقرون الدولة العباسية، انهى مرشليش هذا حكم السلالة البابلية الاولى التي اسسها حمورابي ومهد السبيل للغزو الكاشي لبابل وتاسيس سلالة حاكمة اجنبية في بابل استمرت قرابة ثلاثة قرون لحين تمكن الآشوريون من ازاحتها وارجاع الحكم الى سلالة عراقية فيها. وكان قدر مرشيليش الأول الأغتيال الذي اعقبه عهد من الفتن والمؤامرات الداخلية التي تمخضت عن  اضطرابات اجتماعية وانهيار السلطة المركزية للحيثيين وخروج االأراضي التي ضمها مرشيليش الأول عن الهيمنة الحيثية واستردادها استقلالها ثم وصول لأمبراطورية الحيثية الى حافة السقوط..ويفسر اغتيال مرشيليش الأول وما تبعه من قلاقل في دولته بأنه بسبب نقمة مردوخ الذي اعيد الى بابل من قبل الملك الكاشي اكوم كيكريمي او اكوم سيف الرحمة الذي يعزو لنفسه ارجاع تمثال مردوخ من حاتوشا بعد 24 سنة من اختطافه وفي نصوص اخرى ان مردوخ عاد من تلقاء نفسه الى بابل على اعتبار ان الآلهة تتنقل ولها القدرة على التجسم كيفما تشاء والإقامة اينما تريد..
وحدثت السرقة الثانية لتمثال مردوخ في اثناء غزو الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول لبابل ودحره الكاشيين فيها...ويعد توكولتي نينورتا الأول المؤسس الأول للسيادة الآشورية على عموم العراق أواخر الألف الثالث ق.م. فبعد دحره الحيثيين في معركة نهريا وهي واحدة من اعظم المعارك الحاسمة في تاريخ العراق، زحف نحو بابل فدحر الملك الكاشي قشتلياش الرابع الذي اسره توكولتي نينورتا الأول واقتاده الى العاصمة آشور منهيا بذلك الحكم الكاشي على بابل عام 1225 ق.م...ولكن فتنة اعقبها عصيان في بابل دفع توكولتي نينورتا الأول الى دخول الأيساجاليا وحمل تمثال مردوخ ونقله الى العاصمة الآشورية آشور وربما الى مدينته الجديدة (كار توكولتي نينورتا) [ تلول العقر] ولتبرير غزوه لبابل ذكر توكولتي نينورتا ان مردوخ كان ساخطا لمقاومة قشتلياش الكاشي للآشورييين وأنه – اي مردوخ  قرر لهذا السبب مغادرة بابل والإقامة في آشور لحين الإطاحة بالكاشيين..و لكن القدر الذي حاق بالملك الحيثي تكرر مع توكولتي نينورتا الذي تآمر عليه ابنه آشور نادين آبلي مع نبلاء من آشور تضررت مصالحهم بسبب سياسة توكولتي نينورتا ممن لم يرق لهم نقل العاصمة الى كار توكولتي نينورتا فقرروا حبس توكولتي نينورتا في قلعته في المدينة الجديدة ثم اغتياله بذريعة تدنيس المقدسات لحمله مردوخ من بابل الى آشور وماصاحب ذلك من فوضى في العاصمتين الكلدية والآشورية..
وكانت المرة الثالثة التي حمل فيها تمثال مردوخ من بابل في اثناء الغزو العيلامي للمدينة في اثناء حكم قدور ناخونته ملك عيلام الذي حمل تمثال مردوخ الى سوسة غير ان نبوخذنصر الأول ( 1225- 1105 ق.م.)  اعاد بابل الى السيادة العراقية بطرد العيلاميين منها ومطاردة فلولهم الى سوسة نفسها حيث دمر سوسة واعاد تمثال مردوخ الى مكانه في الأيساجاليا  في بابل ...وكان مصير قدور ناخونته هو الآخر الأغتيال وسط عائلة سادتها الدسائس والعلاقات الزيجية المحرمة التي تلتقي بالبابكية وغيرها من حركات اباحية فارسية المنشأ ظهرت في العهود اللاحقة..ويعتقد  الناس قديما أن مردوخ هو من أختار الأقامة لمدد وجيزة في حاتوشا ثم آشور على التوالي فتوصف هاتان الأقامتان على انهما جلبتا الخير والبركة في بابل وفي تركيا وآِشور لأن مردوخ وافق على مصاحبة تمثاله في زيارة للمكانين بينما رافق نهب تمثاله الى سوسة القحط والخراب لأن الآلهة الأخرى صاحبته الى عيلام وهجرت بابل مما جعلها موطنا للمجاعة والوباء...وكان الأعتقاد الآخر المترتب على غيبة مردوخ انه سيعود الى بابل وأن عودته ستكون على يدي ملك يعيد الخير الى الأمة ويهلك اعدائها وكان هذا الملك الجديد هو نبوخذنصر الأول..وقد أرخ العراقيون القدماء لهذه الرحلات الثلاث لمردوخ تحت عنوان (نبوءة مردوخ) .. أما المرة الرابعة التي حمل فيها تمثال مردوخ من بابل فكانت على عهد سنحاريب الذي غزا بابل بعد اخفاق محاولاته المتكررة في احتوائها للحيلولة دون تحولها الى موطيء قدم للعيلاميين وأعداء العراق ووكرا للتآمر والعصيان مما دعاه الى انهاء وجودها السياسي وبسط السيادة الآشورية على العراق بأكمله قلبا لأمبراطورية قوية تمتد من عيلام التي انهى دولتها وحتى جزيرة قبرص وبضمنها منابع الأنهار العراقية في طوروس وزاكروس وحتى ديلمون (البحرين) العراقية في الخليج العراقي..وكانت آخر حملات سنحاريب على بابل عام  693 ق.م. وهي السنة عينها التي حمل فيها جنده فيما يخبرنا هو تمثال مردوخ الى نينوى: (المدينة وبيوتها واسسها واسوارها قمت بتدميرها واحرقتها بالنار..والسور والسور الخارجي والمعابد والآلهة وبرج المعبد من التراب والطابوق بأجمعها وهي عديدة سويتها مع الأرض وغمرتها بقناة أراهتو وحفرت قنوات في قلب المدينة وغمرت المدينة بالمياه التي قوضت اسس مبانيها...وحمل الجند الإله مردوخ الى بلادي بلاد آشور) ...ولكن مصير الملوك الذين حملوا تمثال مردوخ الى بلدانهم تكرر مع سنحاريب الذي اغتيل في اثناء الصلاة  للإله نسروخ في معبد قصره في شريخان  القريبة من الموصل مما وفر لأبنه أسرحدون فرصة مصالحة البابليين بطريق ارجاع تمثال الإله مردوخ اليهم..وبذلك نجحت الدبلوماسية في مسألة اخفقت حروب كثيرة في معالجتها وهي  المصالحة بين البابليين والآشوريين وتوحيد معتقداتهم...ويعد ارجاع اسرحدون مردوخ الى بابل واحدا من المواقف التاريخية المهمة التي يتناولها المؤرخون في معرض حديثهم عن العلاقة بين الدين والسياسة وتوظيف الدين لتحقيق اهداف سياسية واجتماعية..هذا فضلا عن القاء ضوء على الأهمية الكبرى لمردوخ بصفته رمزا قوميا للبابليين فالآلهة العراقية  ترتبط بعلاقات اسرية وفيها الآباء والأمهات والأبناء والأحفاد ..ويشاطر الآشوريون البابليين الآلهة نفسها فالإله آن (أنو) إله السماء وممثل السلطة شقيق ايا (انكي) وجد مردوخ والإله نبو هو ابن مردوخ ولكل مدينة إله  يميزها ويعد إلها حاميا لها ورئيسا للآلهة الأخرى التي تعبد في المدينة عينها فالإله شمش (أوتو) كان الإله الرئيس في سيبار امنانوم (الدير)  ومعبده المعروف بالأيبابار يوجد هناك ..والإله آشور مقر عبادته مدينة آشور (الشرقاط) التي تحتضن معابدا لإلهة أخرى وتعد نيبور (نفر) مقرا للإله إنليل وفيها معبد الأيكور الذي يشيه مجلس الآلهة وتلك فكرة اخذها اليونانيون وغيرهم من الأمم عن اسلافنا..وقد يكون لإله مزار في معبد إله آخر تربطه به قرابة او علاقة ما ولهذا نجد ان مردوخ غالبا ما يعبد في معبد ابنه [نبو] كما هو الحال في كالخو -النمرود) التي تحتضن معبدا كبيرا هو معبد إبنه نبو..ولكل أمة آلهتها..غير أن للبابليين والآشوريين آلهة مشتركة هي الآلهة القديمة ولكن لكل منهما مجال قوة مختلف ودولة مختلفة  في توجهاتها وتحالفاتها وأهدافها عن الدولة الأخرى.. وبينما لم تطور بابل فكرة الأمبريالية والتوسع بطريق إخضاع الدول الأخرى أو ضمها الى الأمبراطورية ربما بأستناء حمورابي ونبوخذنصر الأول ونبوخذنصر الثاني تحديدا، أرتكزت العقلية الآشورية على فكرة الأمبريالية فكان الملوك الآشوريين يسعون الى توسيع امبراطوريتهم في امة دينها الحرب وكانت بابل المرشح الأول للضم الى جسد الأمبراطورية الآشورية الذي لم يتوقف عن النمو لحظة واحدة...فكانت اولى محاولات الآشوريين الهيمنة على بابل على عهد شمشي أدد الأول الذي أغار على بابل قبل تولي حمورابي الحكم فيها تبعتها محاولة تكلاثبليزر الأول الذي غزا بابل لفترة وجيزة وغادرها فتوكولتي نينورتا الأول الذي انهى الحكم الكاشي لبابل كما أسلفنا  فتكلاثبليزر الثالث الذي اخضع بابل وفرض عليها الإتاوة..فسنحاريب ومن بعده اسرحدون الذي حكم بابل مباشرة وعين ابنه شموكين حاكما على بابل وآشوربانيبال أبنه الآخر ملكا على نينوى ليحكما الأمبراطورية  من بعده في اثناء مايعرف بالملكية المزدوجة.مما جعل بابل تحت الهيمنة الآشورية خلال الجزء الأكبر من الألف الأول ق.م. ولحين عهد القائد الآشوري نبوبلاصر مؤسس الأمبراطورية البابلية الحديثة فالغزو الميدي الفارسي المشترك الذي انهى استقلال بابل واحالها الى خرائب لحين مجيء الأسكندر المقدوني الذي امر باعادة تمثال مردوخ من بلاد فارس مما يؤكد استمرار عبادة مردوخ حتى عهد الأسكندر المقدوني نحو 300 عام قبل ميلاد المسيح..حيث اتخذ مردوخ  بعدئذ اسم [بعل] وانتقلت عبادته بهذا الأسم الى مناطق مختلفة في الشرق الأدنى...

ولابد ونحن في معرض الحديث عن تمثال مردوخ ان نميز بين الدوافع الآشورية وراء نقل تمثاله عن الدوافع الحيثية والعيلامية الأجنبية وراء سرقة التمثال ونقله الى عواصم اجنبية معادية كحاتوشا وسوسة..فلقد كانت السيطرة على بابل ومعها حواضر الجنوب العراقي هاجسا مقيما لدى ملوك آشور وذلك لأن جنوبي العراق يحتضن الجذور التي نشأت منها الآلهة والعبادات الآشورية وتعد أور ونيبور وأوروك وسيبار بمعابدها العظيمة وعباداتها وماتحتويه من تراث ديني مقدس وآداب وكهنة ومنجمين ومايتصل بهم من تشريعات ونفوذ ومبتكرات حضارية المهاد الأم الذي بنيت عليه ألمعتقدات والحضارة الآشورية ..وعلى الرغم من تبدد السلطة السياسية لمدن الجنوب وانتقالها الى بابل ثم من بابل الى الآشوريين، بقيت للحواضر الجنوبية اهميتها الدينية...وبحكم الأكيتو اصبحت بابل مقدسة تحج اليها الآلهة والبشر ولهذا لم تتجه إرادة الملوك الآشوريين الى اخضاع بابل والجنوب بالقوة العسكرية على الرغم من لجوئهم المتكرر لها بل كانوا أكثر ميلا إلى عزو اعمالهم وطموحاتهم في ضم بابل الى الإرادة الإلهية لمردوخ نفسه والآلهة القديمة..وكان تكلاثبليزر الأول قد  ضم اسم مردوخ بعد آشور في ديباجة حولياته و ذكر ايضا ان مردوخ هو من سمّاه لإدارة بلاد بعل [بابل] ..وسار الملوك الآشوريين ممن جاء بعدهعلى النحو نفسه في زعمهم أن الإله مردوخ الذي وصفوه ببعل هو من فضلهم على غيرهم في بابل وغيرها من مدن الجنوب..وكان شلمنصر الأول يعلن انه دخل بابل نزولا عند أوامر تلقاها من مردوخ..وقد تميز تعامل الآِشوريين باللين مع اهل الجنوب ومدنهم مقارنة بالقسوة المفرطة في تعاملهم مع الأمم الأخرى كالحيثيين والأسرائيليين والعيلامين واضرابهم..وكانوا يولون بابليين دفة الحكم في بابل  ولم يتدخلوا بالعبادات البابلية بل عملوا على تثبيتها والإهتمام بها ولاسيما عبادة مردوخ فقد دخل شلمنصر الثالث الأيساجاليا ليصلي الى هذا الإله ويقدم له الأضاحي ريثما أنهى غزوه للمدينة وكان أسرحدون يولي اهتماما خاصا ببابل وإدارتها..فقد ارسل ممثله الشخصي [مار عشتار] وهو كبير الكتاب والمستشارين الملكيين في نينوى الى بابل ليمهد لأستقبال تمثال مردوخ ولينظم العلاقة بين الكهنة والسلطة الآِ شورية ممثلة  بالملك الآشوري على بابل آنذاك شموكين أبن الملك الآشوري أسرحدون..وتعد رسائل مار عشتار الى اسرحدون حول الأوضاع في بابل من اندر الوثائق واكثرها اهمية في تاريخ العراق لما تنطوي عليه من معلومات حول الفساد الإداري والمالي في بابل وطبيعة ألإدارة الآشورية الحازمة وميلها الى فرض العدالة والنظام (وهي الأهداف الحقيقية لمردوخ)  على بابل وتعكس في الوقت نفسه الشخصية البابلية مقارنة بالشخصية الآشورية في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ العراق..بينما كانت دوافع الأمم المجاورة في سرقة تمثال مردوخ إذلال البابليين والآشوريين في الوقت نفسه واتمام تخريب بابل ونهبها فمردوخ هو رمز المدينة والسيادة البابلية العراقية  وسرقته تعني انجاز الغزو بكل اهدافه ومراميه بإنهاء الوجود البابلي مرة وإلى الأبد لذلك لم يعمل اي اجنبي بأستثناء أكوم الثاني الكاشي على إعادة تمثال مردوخ فقد اعاده نبوخذنصر من أسره الميدي واعاده أسرحدون في موكب الهدف منه استمالة البابليين ومصالحتهم ..غير أن أسرحدون توفي قبل أتمام المهمة التي قام بها ابنه آشوربانيبال..وكان مردوخ في تصور الآشوريين حل ضيفا عند آشور الذي استضافه استضافة الأب لأبنه وقد اعيد ترميم التمثال وزينته في آِشور وكان الموكب الذي امر بنقله الى بابل مسيرة مصالحة تضمنت تقديم الأضاحي والأحتفالات على طول الطريق من آشور الى الأيساجاليا وكان أسرحدون قد توج تمثال مردوخ بتاج من الذهب الأحمر المرصع بالحجارة الكريمة وقد ورد في معرض الحديث عن التاج وعن موكب ارجاع الإله مردوخ الى بابل: (ذلك التاج المحفوف بالنور والذي يحمل رموز حكم آشور رصعته بالحجارة الكريمة واكملته بأتقان ماهر من الذهب الأحمر المتلألأْ بالكبرياء والمتوهج بالضياء الأخاذ البهيج، وضعته في مكانه فأستبشر آشور الذي دخل السرور الى قلبه وتلأ لأ وجهه ببريق الرضى عندما وقعت عينه على مردوخ..وانطلقوا من قلب  الأيهورساك كوركورا [معبد آشور] في طريقهم الى شوانا [بابل] في موكب من الأبهة تماما في مسار الإله شمش الئي يغادر من بلاتيل (غربي آشور) حتى مرفأ القوارب في بابل حيث تشتعل أكوام الأحطاب الشجرية العطرية في كل ثلث من مسافة كل ميلين في الطريق الى بابل ويذبح ثورا سمينا قربانا لمردوخ وقمت أنا أ بالسير على رأس الموكب ممسكا بيد الإله العظيم لندخل قلب بابل مدينة الألهة المشرفة وببهجة فسحت لهم [للإلهة] سبيل الدخول)..
إن أولى ملاحظاتنا على هذا النص أن أسرحدون في وصفه عبارات التبجيل والتوحيد بين الإلهين آشور ومردوخ [في بداية النص الذي تعزا بقيته لآشوربانيبال] تمهد مع الإجراءات الأخرى الى توحيد البابليين والآشوريين وتؤكد طبيعة التوجهات الآشورية القوية نحو توحيد العراق في ظل إدارة و[إرادة] سياسية سيادية واحدة...ويبدو ان  تماثيل الآلهة المعادة تشمل زوجة مردوخ وابيه [أيا] وآلهة أخرى كان سنحاريب او كما يخبلرنا هو [جنده] هم من حملها الى آشور..وقد اعقب ارجاع تمثال مردوخ إعادة أعمار بابل وتجميلها كما كانت في سابق عهدها على وقت حمورابي مؤسس السلالة البابلية الأولى.. 
ويبدو ان اسرحدون انتهج سياسة الترضية والمصالحة مع البابليين نزولا عند مشورة امه  الآرامية نقية زاكوتو التي يرجح ان يكون اقاربها من القبائل الارامية التي انتقلت من سورية الى بابل وانها لعبت دورا مهما في توجيه السياسة الآشورية منذ عهد زوجها سنحاريب وحتى افول القوة الاشورية بعد وفاة حفيدها لأبنها أسرحدون آشوربانيبال..ويرجح ان دوافعها وابنها اسرحدون في مصالحة البابليين كانت سياسية أكثر منها دينية..وفي القرون اللاحقة اختفى اسم مردوخ ليحل محله لقبه (بعل)  ويتخذ صتما له انتقل الى الساحل السوري وجزيرة العرب والعراق..,قد ورد ذكره في القرآن الكريم : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ) ...باشارة الى استمرار عبادة بعل في المنطقة العربية في العهود الميلادية وفي عصر صدر الإسلام وبتأثير انتقال عبادته الى الآراميين والكلديين والفينيقيين الذين نقلواعبادته الى شمالي افريقا ..و تكثر في الشرق الأدنى معابد مردوخ تحت تسمية [بعل] كمعبده في بعلبك وفي البتراء والحضر اما في مكة فقد اصبحت كلمة (بعل) مرادفة لكلمة (صنم) بالأضافة الى معانيها العامة ولعل هبل هو عينه بعل صحفت من بهل المصحفة من بعل..ثم اصبح  بعل الإله الحامي لمدينة صور لينتقل بعدها الى الصحراء الجزائرية ويعبد عند البربرالأمازيغ باسم بعل حمون ويصل بعدئذ الى قاديش الأسبانية بأسم آخر هو ميلقارط حيث يوجد تمثاله حتى الوقت الحاضر ويخبرنا المؤرخ الروماني (بلايني) أن هانيبعل غادر قرطاجنة (قرطاجة الجديدة)  في اسبانيا لزيارة قاديش ليتبرك ببعل قبل غزوه ايطاليا فجاء اليه بعل في الحلم وشجعه وأظهر له رؤية عنه وهو يطارد تيامات التي تحرق ايطاليا بينما يطاردها هو وكأننا بمردوخ يقود حملة هانيبعل الفينيقي في ايطاليا بعد عصور من خلقه العالم وتأسيسه للملكية والنظام والدولة ذات السيادة في بلاد الرافدين..
ويجمع بعل (مردوخ) عند الفينيقيين والكنعانيين بين الخصوبة والحرب كما يصور على أنه ابن دجن  إله سرجون لأكدي ويطلق عليه تسميات مختلفة كبعل حداد وبعل شميم وبعل عمون وبعل حمون  ويعتقد اهل صورانه يقيم في جبل زافون شمالي اوغاريت على الساحل السوري..وإنه إله حي ينقذ ضحايا الكرب في مجاهيل البحار والبراري مما يشكل نواة لشخصية الخضر (ع)...
وعلى الرغم من نظر البابليين لمردوخ على انه كوكب المشتري نفسه نجد ان مردوخ في الأينوما ايليش وفي عدد من التأويلات الأستسرائية للمجموعة الشمسية يعد كوكبا مستقلا بذاته  وان تصادما حدث بين كوكب نيبيرو (مردوخ) اي الكوكب الثاني عشر وفق تلك التأويلات  وتيامات الكوكب العاشر في مدار الأخير  بين المريخ والمشتري وأن التصادم بين الكوكب الثاني عشر اي مردوخ وتيامات تسبب بنشوء شريط من الأجرام الصغيرة بين المريخ والمشتري، وتذهب هذه التاويلات الى القول إن جزءا من تيامات القديم صار القمر. إلا إن كوكب (مردوخ) الجبار الذي هو اكبر بكثير من تيامات قد نجا من كارثة الارتطام غير انه سبب كوارث لكواكب المريخ والأرض والزهرة وعطارد. وفي النهاية لم يستطع التخلص من قوة الجذب في منظومتنا الشمسية وصار جزءا منها أي الكوكب الثاني عشر أو العاشر بعد كوكب تيامات المدمر. ومدار مردوخ شبيه بمدار الكثير من المذنبات المعروفة. فدورة واحدة حول الشمس تستغرق عشرات الآلاف من السنين ..مما فتح المجال امام تاويلات أخرى ترتبت عليها ضجة عالمية من احتمال ارتطام وشيك لكوكب نيبيرو (مردوخ) بالأرض في كانون الأول إما في عام  2011 أو في عام 1012.. غير ان تصادما كهذا لم يحدث بين مردوخ والأرض مما وضع تلك الفرضيات تحت طائلة التكهن والتهويل الكوارثي...مع ذلك فأن من المثير للإعجاب ان يكون البابليون وقبلهم السومريون قد تعرفوا على كواكب لايمكن رؤيتها بالعين المجردة هي اورانوس وبلوتو ونبتون كما يظهر من ختم اسطواني سومري يمثل المجموعة الشمسية ومعها الكوكب الثاني عشر (مردوخ) الذي اثار الذعر في العالم قبل سنتين..
إلا أن أخطر تحولات مردوخ وأكثرهالاأهمية على الأرض كان تحوله الى إله الحرب العراقي آشور..وهو تحول مهد لتوحيد العراق بخارطته السيادية التي لم يجروء البريطانيين الذين وضعوا حدود العراق الحديث على تغييرها على الرغم من اختزالها الشديد باق

17
منجل الآلهة
(الحرب والسيادة في العهود القديمة)

صلاح سليم علي


ان التجربة التاريخية عبر القرون الدامية تؤكد حقيقة ثابتة مفادها ان بقاء الأمم واستمرارها لعهود طويلة يرتكز على تخطيطها الدفاعي وستراتيجيتها القتالية ومقومات هذا التخطيط وتلك الستراتيجية كالجيش والتصنيع العسكري..فالأمم تموت بهزيمة عسكرية وتحيا بانتصار عسكري..او تحافظ على كيانها وارضيها وسيادتها بالأعتماد على القوة الضمنية التي تضمن لها حالة من التوازن مع اعدائها المحتملين الطامعين بأراضيها بما يطلق عليه في العلوم العسكرية توازن الرعب..وهو حال يتحقق عندما لاتقدر امة او دولة او قوة معينة على دحر خصمها والسيطرة عليه والتحكم بمقدراته او انهاء وجوده من العالم ..وتوازن الرعب مصطلح حديث الا ان تطبيقاته تتكرر في التاريخ القديم..ولعل اول تطبيقاته كان بين مصر والحيثيين في العصر البرونزي عندما زحف الجيش المصري باربعة تشكيلات اعطي لكل منها اسم أحد الآلهة المصرية بقيادة الفرعون الشاب رعمسيس الثاني عام 1299 اي في السنة الخامسة من حكمه مصر ليواجه الجيش الحيثي في محيط  قاديش (تل نبي مند) بالقرب من حمص..وبينما عسكر رعمسيس الثاني قوته (آمون) قبالة اسوار قاديش بدون علم منه بأختباء الجيش الحيثي خلف التل من الجهة الأخرى، كانت القوة المصرية التالية في تشكيل (رع) تعبر العاصي على مسافة 7 أميال (10) كيلومترات من الفرعون المصري وقواته..ينما تفصل القوتين اللاحقتين بتاح وسيت مسافات متماثلة في طريقهما نحو قاديش والى يسارها العاصي والى يمينها غابة الروضة التي اخفق الحيثيون بسبب قصر النظر من اتخاذها كمينا لمباغتة القطع العسكرية المصرية..وبدلا من ذلك هاجموا كتيبة رع التي على الرغم من الفوضى التي انتشرت في صفوفها بتأثير المفاجأة، تحركت بعجلاتها السريعة شمالا نحو الفرعون الذي التف الحيثيون على معسكره..فاضطر الى القتال بمفرده وكان الحيثيون سيسحقون القوة المصرية لولا مداهمة قوة مصرية مؤلفة من الشباب ظهرت فجاة من الشمال الغربي لتنقذ الموقف..وانشغال الحيثيون بجمع الغنائم والأسلحة التي تركتها قوات رع بدلا من التحرك بسرعة شمالا الى معسكر الفرعون الذي وصلوه في وقت متأخر ليواجهوا بسالة رعمسيس الذي قاتل ومعه حمايته فحسب..
وانتهت معركة قاديش بانسحاب الطرفين لأن الطرفين أدركا أن المعركة ليست معركة حصار وأن استمرارها بالمشاة والخيالة والعجلات خارج قواعد الإسناد البعيدة في حاتوشا (بالقرب من أنقرة) ومصر ستفضي الى ابادة الجيشين..مما جعل مواتليش ملك حاتوشا يفضل التسوية السلمية على مواصلة القتال  وبالتالي إتفاق الطرفين على تسوية انتهت بعقد اتفاقية سلام 1283 ق.م.  بين مصر والحيثيين على عهد ابن مواتليش  مرشيليش الثالث استمرت لقرون..وهي اول معاهدة تعتمد مفهوم توازن الرعب على الرغم من عدم وجود هذا المصطلح في ذلك الوقت..
نخلص من معركة قاديش الى ان السلم لايصبح اختيارا الا بعد اخفاق القوة، وإلى الحقيقة القائلة ان موازنات القوة هي التي تحدد العلاقات بين الأمم مهما كان شكل النظام السياسي الذي تعتمده..فمعركة قاديش لم تحدث في تركيا الحيثية ولا في مصر الفرعونية، بل في سورية التي تنافست للهيمنة عليها عبر القرون القوى المجاورة لها بل والقوى الوافدة اليها من وراء البحار..وتصدق حالة توازن الرعب تاريخيا على اثينا وسبارطة والفينيقيين والرومان في مراحل مختلفة من تريخ الصراع بين قرطاج وروما..وفي عدد من مراحل الصراع بين الآشوريين وخصومهم كالصراع بين ىشور ناصربال الثاني ومملكة دمشق وتحقق خلال الحروب الصليبية على عهد الملك الكامل وفردريك بارباروسا..أما في العصر الحديث فالخرق الوحيد للتوازن كان بسبب الإئتمار الدولي على المانيا ودفعها الى الحربين العالميتين الأولى والثانية مما اسس لتوازن الرعب النووي بين الأتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية..
ولكن حالة التوازن العسكري سواء اكان توازن رعب ام توازن يفرضه الأمر الواقع لعجز الطرفين في تحقيق نصر حاسم،  لم يتحقق في العراق في عهوده الأمبراطورية ..فقد كان الخيار دائما خيار هيمنة وقتال دائمين او هزيمة تأتي على الأخضر واليابس وتؤسس لسلالة حاكمة جديدة غريبة عن الأرض سرعان مايلجا العراقيون اما الى صهرها وتذويبها في كيانهم كما حدث مع المغول والتركمان او طردها خارج حدود بلادهم الممتدة من منابع دجلة والفرات في طوروس وحتى الخليج العراقي وبحر العرب كما حدث مع الكاشيين والكوتيين والفرس واليونانيين والرومان في العهود القديمة والكلاسيكية، ومع البريطانيين والأميركان في العهود الحديثة..على الرغم من مخاطر الحرب الأخيرة الهائلة التي اعادت الى العراق احفاد الفرس واحفاد الحيثيين وبقايا الكوتيين واللولابيين الذين استغلوا فراغ القوة المترتب على احتلال العراق فشرعوا بالتخطيط لأحداث تغييرات اثنية وجغرافية كبرى تستهدف ضرب تاريخ العراق ومستقبله في الوقت نفسه..ويقينا فأن المخطط الستراتيجي الغربي يركز على مصالحه الستراتيجية والأقتصادية أكثر من تركيزه على تقسيم العراق  وضرب تاريخه.. لكن المصلحة في ضرب العراق وتمزيقه كلها توجد لدى اعداء العرب المسلمين التاريخيين من الأمم المجاورة كالعبريين الذين اشربوا في قلوبهم العجل والفرس الذين اعتنقوا الأسلام عن وثنية وتاريخ دموي والأتراك الذين وفدوا العالم العربي رعاة وغزاة ومرتزقة فاعتنقوا دين العرب ولكنهم حافظوا على هويتهم القومية الآسيوية..وفي اية مقارنة لهذه الأقوام بعقيدتهم عربية المنشأ، نلاحظ قوة الدافع القومي قياسا بالدافع الديني..وذلك  ينطبق بقوة على اليهود والأكراد ايضا..لأن القومية لدى هؤلاء الأقوام اقوى من الدين..وما تبني الفرس للتشيع الا لملائمته مذهبا لتطلعاتهم القومية واهدافهم الأنقسامية وروح العويل والنياحة على الأموات والمدن البائدة في الذات العربية ..ولأن العرب في العراق هم استمرار للشعوب الجزرية التي اسست في الماضي القديم اقوى امبراطوريات العالم واعتمدت على مباديء القوة العسكرية الضرورية للحفاظ على السيادة والأرض، تكررت محاولات الأمم المجاورة للنيل من استقلال العراقين وسيادتهم، مما جعل الحرب ضرورة للحفاظ على سيادة الدولة وسلامة أراضيها الممتدة من منابع الأنهار العراقية في طوروس وزاكروس وحتى المصب في الخليج العراقي..وكان حظ العراقيين القدماء من الإدراك الفطري السليم وافرا ونظرتهم الى العالم صافية واضحة ولاسيما بقدر تمييز الأنا عن الآخر وتفهم طبيعة العدو الذي لاسبيل الى صداقته الا بإخضاعه ..مما جعلهم اكثر حرصا على الأرض والمياه ووحدة البلاد باعتبارها مرتكزات جوهرية للسيادة..فليس ثمة حضارة عبر التاريخ عدت الحرب دينا للدولة كالحضارة العراقية الجزرية متمثلة بالأكديين والبابليين والآشوريين والعرب..وآلهة الرافدين آلهة مقاتلة فمردوخ إله حرب وآشور إله حرب ونينورتا وادد بل وحتى عشتار ربة حرب..ولابد من دولة دينها الحرب ان تحتفظ بجيش دائم وتسعى الى تطوير اساليب القتال والتصنيع العسكري..وفي مراجعتنا بأيجاز شديد للتاريخ العسكري نجد اجماعا لدى علماء التاريخ والآثار على ان بدايته كانت في سومر، فقد ترك لنا السومريون اول سجل تفصيلي تناولو فيه جيوشهم فقد كانوا اول من أنشأ دويلات المدن في مطلع الألف الثالث ق.م. وكان بمقدورهم تجهيز جيوش مدربة دائمية وقوية باعدادها وعدتها في غضون زمن قصير..وكما هو الحال في الجيوش القديمة كان صنف المشاة هو العمود الفقري للجيش السومري ويتألف الصنف من كتائب مشاة خفيفة التسليح تعتمد على الرماح الطويلة والهراوات والخناجر في حال الأشتباك المباشر وكتائب مشاة ثقيلة التسليح غالبا ماتعتمد التروس والخوذ النحاسية لحماية المقاتلين الذين يقاتلون برماح قصيرة ثقيلة فضلا عن الفؤوس و مناجل الآلهة..وكان السومريون اول من ابتكر العربة ووظفها في الحرب..ولكن بدلا من استعمال الخيول كانوا يعتمدون الحمير في تلك المرحلة المبكرة لعدم ظهور الحصان في تلك المرحلة المبكرة في وادي الرافدين وعلى الرغم من كون العربة من الأخشاب وثقل حركتها فقد كانت تحمل مقاتلا الى جانب السائق..ويعود الفضل للسومرين بأستخدام التروس الطويلة او الأسلوب الكتائبي الذي سبقوا في استخدامه باكثر من 2000 سنة الأسكندر المقدوني..واعتمد الأكديون التقاليد العسكرية نفسها وطوروها..فقد اسس سرجون الأول جيشا نظاميا محترفا قاده في معارك استغرقت فترة حكمه الممتدة طيلة نصف قرن خاض خلالها 34 معركة،  تمخضت عن بناء أولى امبراطوريات الشرق الأدنى واقواها في العصر البرونزي..ويعود لسرجون الأول الفضل في استخدام القوس المركب في القتال فضلا عن الفؤوس والحراب والهراوات ومناجل الآلهة..كما قسم سرجون العالم القديم الى جهات اربع وحدد مملكته بين البحر المتوسط والخليج العراقي بما يتضمن جبال طوروس وزاكروس اي منابع الأنهار العراقية باعتبارها جزءا لايتجزء من وحدة اراضي العراق وسيادته.. فسرجون الأول هو اول حاكم جزري وضع نموذجا للدولة العراقية التي ترتكز على قوة الجيش المتدرب على كافة انواع الأسلحة والمقتدر على القتال في كافة انواع التضاريس ومع كافة ضروب الأعداء.. وقد كرر نرام سين مسيرة جده سرجون الأول الذي خلدت حروبه ضد اللولابي مسلة الصقور التي يشاهد فيها حاملا القوس المركب وهو سلاح امضى من القوس العادي إذ يمكن بواسطة شده الذي يزيد ثلاث مرات على القوس العادي وبضعف المسافة، اختراق الدروع الجلدية وربما الدروع البرونزية المبكرة..وجعل العدو تحت وابل من السهام القاتلة..
ويتميز التاريخ الأمبراطوري للعراق عن تواريخ الأمم الأخرى بالتواصل الحضاري على الرغم من تعرض الأمبراطوريات العراقية المتعاقبة لمراحل انتكاس يصاحبها تردي بالفنون وتراجع بالحياة الإجتماعية والجيش وانكفاء بالروح الوطنية؛ وهو انتكاس يطرأ لجملة عوامل اهمها التفاوت بين القدرة والأمكانيات التعبوية والإدارية الفعلية الضرورية لمسك الأراضي الواسعة التي تصير الى السيادة العراقية والقوة العسكرية، والأعتماد على الأجانب (او الثقة بهم) في جوانب في الإدارة والقيادة، فالتحالفات الأجنبية المعادية، واخيرا الخصومات العراقية العراقية والتحالفات مع الأجنبي ضد قوة عراقية..مع ذلك فسرعان ما تنشأ في العراق قوة توحيدية تطرد الأجنبي وتعيد الى العراق الأراضي التي صارت للأقوام المعادية ، واضعة اسسا جديدة لأمبراطورية عراقية جديدة..كما نلاحظ تواصلا في الوعي التاريخي لدى ملوك العراق على عهود الأمبراطوريات الآشورية الكبرى الثلاث، وهو وعي ميز العدو على مدى 3000 سنة خلت قبل الميلاد وربطه بجغرافيا محددة وراء جبال زاكروس وطوروس والقفقاس..وعندما نتبين ان الحضارات العراقية كلها هي حضارات سهول يتحدد العدو بأقوام الجبال التي لم تؤسس  لحضارة متميزة في مناطقها بأستناء ثقافات حسنلو المنيانية وحاتوشا الحيثية وسوسة العيلامية بينما اعتمد الفرس والميديون والميتانيون والأورارتيون على الحضارة الرافدية في جوانب متنوعة من فنونهم ومعتقداتهم وعمارتهم واستعاروا التقاليد العسكرية والإدارية من الشعوب الجزرية التي عمرت وادي الرافدين على مدى 5000 سنة ومابرحت..ولكنهم لم يتمكنوا من تشرب روح الأمة العراقية  لأن الأمم كما احسن ارنست رينان التعبير في وصفها (روح) قبل أي شيء آخر والروح العراقية تختلف عن قريناتها في الأمم الأخرى بقدرتها على الحفاظ على الذاكرة الجمعية المشتركة وتوريثها للأجيال على الرغم من فترات الأحتلال الأجنبي منذ غزو الكوتيين (بالكاف الأعجمية) لسومر وأكد فالكاشيين لبابل وحتى الغزو المغولي فالعثماني فالأحتلالين البريطاني والأمريكي..على الرغم من استهداف الأحتلال الأخير للروح العراقية في صميم كبريائها القومي وذاكرتها الحضارية ولحمتها الوطنية ونزوعها التكويني الى الحرية..فهو العدوان الأشرس والأشد ضراوة عبر 7000 سنة من تاريخ العراق..وعلى العراقيين الجزريين واجب وطني بأدراك اهداف هذا الإحتلال المدمر ونتائجه الخطيرة واعتماد اشكال النضال كافة  لطرد إرادته وسفارته وانهاء آثاره المدمرة على ثقافة العراق وارضه ومياهه وإنسانه..
وفي تتبع اختراعات العدو المتميز بكونه آريا وجبليا (وصهيونيا) بالدرجة الأولى وأولتو أوراليا تركيا ومغوليا آسيويا بالدرجة الثانية، نلاحظ ان أول تدخل اجنبي مدمر في العراق كان جاء من الجبال من قبل اقوام لا حظ لها بالتمدن يطلق عليهم الكوتيين (بالكاف الأعجمية) في 2200 ق.م. وهم اقوم تقطن جبال زاكروس تمكن السومريون من ابعاد خطرهم عن مراكز الحضارة في اوروك..ولكنهم في اواخر عهد الأمبراطورية الأكدية اندفعوا بما يشبه الجراد على أكد فدمروها واستولوا على مراكز الحضارة في جنوبي العراق مؤسسين لسلالة غازية استمرت على مدى 100 سنة على الرغم من استمرار السومرين من خلال سلالة لاكاش ..وهنا لابد من التوقف قليلا على الكوتيين اذ يجمع علماء الآثار والتاريخ القديم على انهم ينتهجون تكتيك اضرب واهرب في تعرضهم للقوافل والمناطق البعيدة القريبة من سفوح الجبال..وعندما تصل القوات النظامية لمعالجة الموقف ومجابهتهم يكونون قد هربوا بعد ذبح الناس وتخريب الممتلكات..وعندما داهموا اكد عمدوا على تخريبها وهدمها بالكامل بحيث لم يعثر على أي اثر للمدينة حتى لحظة كتابة هذه السطور..وبعد استلامهم السلطة في حواضر جنوبي العراق برهنوا عن عجز في القدرة على ادارتها فتركوا المدن للخراب والناس للمجاعات..فهجرت الزراعة وهدمت القنوات وجيء على الحرث والنسل بالوبال..وبعد قرن من الخراب تمكن أوتو هنكال ملك اوروك السومري من دحر تيريجان آخر ملوكهم وتاسيس اسرة اور الثالثة التي انجبت ملوكا عراقيين عظماء ابرزهم اورنمو وشولكي (البطل من رحم أمه)..وليس من قبيل المصادفة ان يلجأ الغرب في الوقت الحاضر الى التكتيك القديم الذي اعتاده الكوتيون في تجاوزاتهم على المدن السومرية والأكدية..وهو تكتيك أضرب واهرب..وباستخدام قوات صغيرة غالبا ماتلجا الى التخريب والقتل ثم الهرب تماما كما حدث في ليبيا ويحدث في سورية..وعندما تتمكن هذه العصابات من تشكيل قوة بحكم العدد وتنجح في مغامرة عسكرية من مغامراتها..تستلم السلطة وتشكل سلالة حاكمة..تعمل على تخريب كل ما أنجزه الأسلاف من صروح ومدن ومزارع وقنوات..آتين بذلك على الحرث والنسل..فهم اشبه بأسراب الجراد التي تداهم المدن قتقضي على اسباب الحياة وتتركها بساتينها بورا ومراتعها خرائب فتصبح .."حصيدا كأن لم تغن بالأمس"...
وبعد اكثر من قرن من ازدهار العمارة والزراعة والفنون على عهد اور الثالثة  المشهودة بزقورة اور الشهيرة ومكتبة نيبور وتدوين ملحمة كلكامش، في أواخر القرن الواحد والعشرين ق.م. استغل العيلاميون في اشنونا انهيار السد الذي بناه الملك العراقي العظيم شوم سين ابن شولكي بين دجلة والفرات شمالي بابل للحد من تدفق الأموريين الى مملكته فاعلنوا استقلالهم على عهد ابنه ابي سين وتحالفوا مع سوسة التي كان ملوك اور الثالثة قد اخضوعها لحكمهم فهاجموا الحواضر السومرية اور ونيبور واورك ودروا اسوارها التي كان شوم سين قد اعاد بنائها ..غير ان العيلاميون لم يستوطنوا العراق كما فعل الكوتيون من قبلهم..حيث لم يمض وقت طويل لحين عودة العهود الأمبراطورية العراقية في بابل العمورية وآشور وشوبات انليل الآشوريتان..وكانت تلك بداية التنافس بين البابليين والآشوريين والملكيات المزدوجة والتحالفات والتحالفات المضادة بين سلالات ملوك بابل والعواصم الآشورية..
ونتعرف في حمورابي (1792-1750) على بسمارك العراق القديم لأنه انتهج سياسة مماثلة لسياسة التحالفات البسماركية في اعادة توحيد بلاد مابين النهرين تحت ارادة سياسية جزرية واحدة..امضى حمورابي العقدين الأولين من حكمه الطويل في توطيد مرتكزات حكمه في بابل وبنائها وتحصينها وشق الترع والقنوات واصلاح الزراعة وتشريع القوانين..  ثم بدأ في تشكيل تحالفات دبلوماسية وعسكرية بدءا مع لارسا وماري في الهجوم على عيلام العدو اللد لأكد والمتحالفين معها آشور وأشنونا، وبعد معارك متكررة استغرقت سنة تمكن من احراز نصر حاسم على العيلاميين ودحر اشنونا فانتقل لمحاربة ريمسين ملك لارسا ومعظم جنوبي العراق بذريعة ان الآلهة هي التي وجهته لحرب لارسا فتغلب على ملكها ريمسين بعد ردم القنوات التي ترفد منطقته بالمياه وحصار لارسا نفسها على مدى ستة أشهر..وكان زيمريليم ملك ماري قد ارسل له 2000 جندي لمساعدته في حربه ضد عيلام..والأرجح ان حمورابي فضل بقاء الجنود للقتال الى جانبه واستمالهم  بالأموال ففضلوا البقاء معه على الرجوع الى ماري مما عكر العلاقات بين حمورابي وزيمريليم الذي تلقى رسالة من حمورابي يؤكد له فيها عدم رغبة الجنود بالعودة وعائدية هيت لبابل التي تعتمد على قيرها في بناء الزوارق والعمائر بينما يريدها زيمريليم لممارسة طقوس عقوبية في نهر الفرات..مما اغضب زيمريليم ودعى حمورابي الى الهجوم على ماري ونهبها وحرقها وانهاء مملكتها الى الأبد..ثم التفت الى اشنونا (نوزي) في هجوم حاسم مدمر بعد ان ردم موارد المياه عنها فأنهى وجودها عام عام 1757..مؤسسا لأمبراطورية هي الأمتداد الطبيعي لمبراطوريتي سرجون الأكدي وأور الثالثة فحمورابي هو اول من وضع الأسس للإدارة الأقليمية بأرسال حكام محليين يحكمون باسمه في المدن التي يتم ضمها لأمبراطوريته ..وهو اول من استخدم المياه في الحرب واسس لمفهوم السيادة السياسية والسيادة على الرض والمياه ضد اعداء الشرق والغرب بعد ضربهما أحدهما بالآخر وضربهما منفردين واحدا تلو الآخر..
لقد وضع حمورابي الأسس للأمبراطوريات الرافدية اللاحقة ..واضفى الى مدينة بابل بعدا طقوسيا من خلال مهرجان بابل السنوي (الأكيتو) المكرس لتقديس مردوخ الذي اصبح إلها حاميا للمدينة يترتب على الملوك كلهم حضور احتفالات انتصار مردوخ على تيامات خلال 12 يوما تبدا في 21 آذار..ومن مفارقات التاريخ الغريبة ان يصادر هذا العيد العراقي الصميمي وهو عيد سيادة حمورابي على اقوام زاكروس أحفاد اعداء بابل ويعدونه عيدا لهم يطلقون عليه النوروز ويلصقون به اساطير لا اساس لها في تاريخ ليس لهم ولن يصير لهم الى الأبد..
بيد أن اخطر مايتعرض له العراق عبر تاريخه الطويل هو فراغ القوة او حالة الأستقرار في غياب جيش إلزامي دائم يدافع عن العراق في حال تعرضه لحالات عصيان من الداخل او عدوان من الخارج..وكلما تنشأ هذه الحال يتعرض العراق لأنتكاسة وقد حدثت في عام 1585 ق.م. عندما اندفعت القوات الحيثية الى بابل فنهبتها وخربت اسوارها وعمائرها ومعابدها ونهبت تمثال مردوخ الى عاصمتهم حاتوشا..تاركين المدينة خرائب بلا قوة تدافع عنها مما دفع الكاشيين الى غزو المدينة وتأسيس سلالة زاكروسية في بابل استمرت زهاء 400 سنة..غير ان الكاشيين يشبهون اقوام الجبال في جهالتهم بفنون الحضارة فعمدوا الى تبني الثقافة البابلية واللغة البابلية واطلقوا على بابل اسم كاردونياش لحين اقصائهم عن عرش بابل من قبل الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول ابن الملك القوي شلمنصر الأول وحفيد ادد نيراري الأول..وكان على بابل ان تنتظر استقلالها ونهضتها الوسيطة على عهد نبوخذنصر الأول..
وعلى الرغم من التنافس بين آشور وبابل فلكلتيهما التقاليد الثقافية والعقيدية والفنية نفسها والتاريخ المشترك نفسه فضلا عن حقيقة كون آشور بعواصمها الكونية وبابل ام الدنيا ومعها الحواضر العراقية من منابع دجلة والفرات وديالى والزابين والعظيم كانت ومابرحت مواطن للشعوب والأمم الجزرية والثقافة التي تسودها هي ثقافة متجانسة تعكس روح السهول والصحراء المفتوحة على الأبد وليس ثقافة الجبال المغلقة على بدائيتها عبر العصور..
ولم تختلف اسلحة حمورابي كثيرا عن اسلحة اسلافه فقد عمد الى استخدام الأسلحة نفسها التي استخدمها اسلافه السومريين والأكديين ..ولكنه اضاف اليها تكتيكا استخدمه لول مرة في التاريخ العسكري وهو ردم قنوات المياه وحرب خصمه مائيا كما في حربه مع ريمسين ملك لارسا وحربه ضد أشنونا..ويختلف حمورابي بطول فترة اعداده للحرب التي أجلها حتى العقدين الأخيرين من حكمه وصبره على الخصم على الرغم من ضيق خلقه ومزاجيته..ومن الأسلحة التي استخدمها الحراب والهراوات ومناجل الآلهة والسيوف ولعله استخدم المقاليع ..غير ان مصادرنا لاتوفر مايؤكد استخدامه لها ...وكان حمورابي اول حاكم بعد سرجون الأول يؤسس للسيادة الرافدية على الأرض باعتبارها تشمل منابع الأنهار ومصباتها ..فالأنهار في نظر الأقدمين مقدسة وهي هبة الآلهة للأمة وان ملك منابعها العدو يكون بمقدوره التحكم بشرايين الحياة التي تغذي الأمة بدمها وحياتها..ولنا ان ننتظر ملوك آشور في القرنين الثالث والثاني عشر ق.م. آشور اوباليت الأول 1353-1381، وأدد نيراري الأول 1295-1264 و شلمنصر الأول 1263-1234 و تكلاثبليزر الأول 1114-1076 و وملوك الألف الأولى ق.م. المؤسس آشوردان الثاني 934-912 والملك العظيم آشورناصربال الثاني 883-859 وشلمنصر الثالث 858-824 وملوك الشرق الأدنى القديم سرجون الثاني 721-705 و سنحاريب 704-681 واسرحدون 680-669 وآشوربانيبال 668-631.. لنطلع على طبيعة نظرتهم الى الأرض والسيادة والجهود العسكرية والعمرانية التي بذلوها انطلاقا من هذا المفهوم..
وأول مايلفت انتباهنا في تلك المرحلة من التاريخ الأمبراطوري في العراق الثورة في تكنولوجيا الحرب والتفكير العسكري الذي صاحب استخدام الحديد بديلا عن البرونز في تكنولوجيا الحرب سواء في صناعة الأسلحة الخفيفة كالرماح والسيوف ذات الحدين بالأضافة الى مناجل الآلهة والفؤوس فضلا عن ضخامة حجم الجيش وتطوير اساليب التعبئة والسوق والمواصلات وتيسيير المرونة التكتيكية والستراتيجية ..كما طور الآشوريون حرب الحصار الذي يفرضونه على المدن العاصية بابتكارهم للأبراج المتحركة والمناجيق والكبوش ذات الرؤوس الحديدية واعتمادهم الأدارة العسكرية الهرمية والمعسكرات الثابتة والمتنقلة والتدريب العسكري..كما استخدموا كافة اساليب النقل البري والنهري كالخيول والجمال والبغال والحمير والعجلات وطوروا المقلاع (كابابو في الآشورية، مقلع في الفينيقية، والصبان في العامية الموصلية)  الذي يقدم افضلية في الهجوم على المدافعين من الأبراج او المشاة المحميين بالدروع الطويلة لأن الحجارة تكتسب قوة بهبوطها على الخصم بينما تفقد السهام من قوتها في اثناء الهبوط..كما طور الآشوريون اصناف الهندسة العسكرية في اختراق تحصينات العدو من اسفل السور او بطريق الضفادع البشرية واجادوا في استخدام الدعاية والحرب النفسية..مما جعل من العراقيين أمة عسكرية مقاتلة لاسبيل الى قهرها على عهود اولئك الملوك الأقوياء..
وفي كل مرة يبني العراقيون دولة عظيمة يضمر اعدائهم الشر كله لأسقاط دولتهم وغزو اراضيهم وتخريب حرثهم ونسلهم..وغالبا مايدخل العدو في تحالفات عسكرية عدوانية كالتحالف ضد حمورابي والتحالف ضد شلمنصر الثالث والتحالف ضد تكلاثبليزر الثالث والتحالف ضد سرجون الثاني واخيرا التحالف الميدي السكيثي الفارسي الذي اسقط الأمبراطورية الآشورية عام 614-612 ق.م...وقد شهد العراق نهضة وطنية على عهد نبونايداس ابن نبوخذنصر الثاني االملك الآشوري لبابل ..ولكن الفرس هاجموا بابل على عهد ابنه بالشازار واسقطوا بابل الكلدية ليؤسسوا في العراق حكمهم الذي استمر بضع قرون كالأحتلال الكاشي من قبله..وبات العراق خرائب تنتظر نهضة جديدة وفجرا جديدا يأتي من الصحراء هذه المرة..
وكان دفق الصحراء هذه المرة مصحوبا بعقيدة تؤمن ان القتال و (الأستشهاد) فيه هو الطريق الوحيد للحياة الأبدية..فانطلقت الجيوش العربية الجزرية الى الشرق الأدنى لتكتسح الأمبراطورية الساسانية وتدفع البيزنطين في العمق التركي وتضم اجزاءا واسعة من آسيا وافريقيا فتصل حدود الصين شرقا وجنوبي فرنسا غربا..وكان ان كرر التاريخ نفسه مع عبدالرحمن الغافقي في بواتيه حيث لم تسنده التعزيزات الضرورية لمواصلة التقدم في اوربا تماما كما حدث لهانيبال بعد معركة كانيا..فالعرب في حروبهم كلها اعتمدوا على اسلحة خفيفة وبدائية على الأغلب كسيوفهم الشخصية وخناجرهم ورماحهم .. ولم يعتمدوا في حروبهم المبكرة على آلات الحصار كما هو الحال لدى اسلافهم البابليين والآشوريين..وكان العمود الفقري للجيش الإسلامي المبكر المشاة الراجلة والمحمولة على الجمال..ولكن مع توسع العمليات القتالية اصبح للملمين جيوشا محترفة واسلحة متطورة تضمنت الزرود والدروع التي تحمي الصدر والذراع والخوذ المزرودة  والحراب والتروس صغيرة الحجم والرماح والهراوات والفؤوس والأقواس والأسهام مع كنانتين في كل واحدة 30 سهم وقوسين لكل مقاتل..كما طور المسلمون آلات الحصار كالكبوش والمناجيق ..اما في مسائل التخطيط القتالي والتكتيك فتجاوزوا الساسانيين والروم البيزنطيين..ويتميز الحصان العربي بمرونة هائلة يسرت للعربي المجادلة بالسيف والرمح والرمي بالقوس والنشاب من فوق ظهر الحصان..
ولكن نظرة المسلمين للسيادة تختلف عن نظرة اسلافهم من ملوك العراق ..كون تصورهم للعالم يرتبط بعقيدة تجعل الأرض كلها لله والسيادة في الأرض كلها للأمة الإسلامية وليس للعرب او للفرس او للترك ومااليهم من أمم وشعوب على وجه الأرض ..مما وضع السيادة، من الناحية النظرية والعقيدية على الأقل، خارج الحدود الأثنية والقومية للأمم والشعوب..فالهوية الجديدة للأنسانية ليست قومية او عنصرية بل عقيدية إسلامية والقانون الذي يحكم هذه الأمة هو الشريعة التي ترتكز على القرآن والسنة..وقد ترتب على هذا التحول، شعورا بازدواجية الهوية او الأنتماء الى قومية بعينها والى امة بعينها، وبينما تشترك جملة من العوامل على تحديد الأنتماء القومي كاللغة والتاريخ والتقاليد القومية والعمق الحضاري الذي يمتد لعهود سبقت ظهور الأسلام، لايوجد مشتركات لسانية او تاريخية او حضارية تحدد الأنتماء الى الإسلام..غير الجامع والطقوس الدينية المشتركة..وفي مراجعتنا لتاريخ الدولة الإسلامية تبرز مشكلة ازدواجية الأنتساب لدى الفرس والأمم الآسيوية بوضوح، ولاسيما أزاء الأنشقاقات المذهبية والسياسية والطبقية التي ظهرت في الحاضرة العربية الإسلامية في أواخر الخلافة الراشدية وبدايات الدولة الأموية واستمرت حتى العصر الحالي مفرزة تعدديات جديدة في الهوية العقيدية والأنتساب العقيدي نفسه..بحيث لم نحصل في آخر المطاف على إسلام واحد بل على طائفة عريضة من الإسلام: اسلام شيعي واسلام سني واسلام قادياني واسماعيلي ووهابي وسلفي وهي في تناحر فيما بينها..وبينما يقسم النظر الإسلامي العالم الى دارين دار اسلام حسم فيه أمر السيادة للمسلمين والخليفة الواحد، ودار حرب لم تحسم فيه السيادة بعد للمسلمين..افرزت العوامل التاريخية التي يشترك الآخر العقيدي واللساني والحضاري في تاسيسها وخلقها قوى جديدة وتيارات جديدة بدءا بالموالي وانتهاءا بالعولمة وهيمنة رأس المال ومرورا بالحروب الصليبية والنابليونية والحركات القومية والشيوعية...ومما زاد الطين بلة ان المسلمين انتقلوا الى دار الكفر او الحرب بينما تحرك الكفار الى دار الإسلام من خلال آيديولوجياتهم الجديدة وتكنولوجياتهم الجديدة..على نحو اصبح تقسيم العالم الى دارين مسألة نظرية تنتسب الى التاريخ وليس الى الواقع ..
وفي دراسة هذا الموروث متعدد التيارات والواجهات والحركات والمتنافرات في عالمنا، خلص المحلل الغربي الى امكانية اختراق عالمنا وتغييره بطريق ضرب التيارات المتناقضة احدها بالأخرى والدخول في اراضينا بصفة لاعب اساس مستندا على نماذج اولية للتدخل تمثلت بالحروب الصليبية والأستعمار الحديث والعلمانية التركية والآيديولوجيات كمرحلة اولى ثم الدخول بصفة منظمات سرية تتبنى الدعوات السلفية للأصلاح والتغيير كهدف معلن بينما تعمل على زرع الفوضى وخلق الذعر في العالم القديم وبضمنه العالم العربي بصيغته التي وضعها الأنكليز بعد الحرب العالمية الأولى بهدف الإستثمار والحيلولة دون نشوء ارادة مستقلة تعيد بناء الأمة على اسس حضارية ترتكز على القومية بمعانيها اللسانية والحضارية وليس العقيدية التي موهت مفهوم السيادة وصادرته الى تكوين فرضي لا اساس له في الواقع..فالسيادة لامعنى لها بدون الأستقلال في القرار السياسي وبدون وحدة الأرض في إطار الأمة القومية ووحدة الأمة القومية في أطار الأرض..
وبينما اختار الغرب العرب هدفا لكل رام هدفه القتل والتخريب وعلى المستويات كلها، وفرّ للأتراك والفرس واليهود امكانيات الأستقلال (النسبي) في القرار السياسي وفي السيادة على الأرض ضمن الحدود القومية لكل منهما والأرض المغتصبة من الفلسطينيين بالنسبة لليهود..فالعرب في طريق الأنقسام المستمر والترك في طريق التوحد والقوة وعلى حساب المصائب التي تلحق قصدا بالعرب..والفرس في طريق القوة والتوسع على حساب العرب والعراقيين بوجه خاص..هذا فضلا عن فصيل الخونة من الزعامات العربية النفطية والعفطية التي تعمل وبقوة لصالح اعداء الأمة العربية والشعوب العربية في سورية والعراق القوميان على وجه التحديد للنيل من أيديولوجية توحيدية سعت الى الأستقلال السياسي والتنمية الإنسانية والحضارية..
وهنا لابد من العودة الى الألف الأولى قبل الميلاد حيث توقفنا في بداية عصور قوة الدولة الآشورية العظيمة في العراق محتفظين في خلفية أذهاننا بصورة التدخل التركي والفارسي واليهودي المعاصر في اراضينا ومياهنا واقدارنا ازاء غياب الذاكرة التاريخية للأنسان العراقي بسموق قامته الحضارية وجبروت روحه الجزرية في عهود تألقه وسيادته على الشرق الأدنى وقلبه بلاد مابين النهرين مع منابع الأنهار العراقية في زاكروس وطوروس شرقا وشمالا؛ فديلمون وتيماء جنوبا في جزيرة أسلافه العرب..
يعد نهرا دجلة والفرات بدءا من منابعهما في طوروس ذراعا العراق الحيويان وقلبه النابض..فهما نتيجة انتصار مردوخ على تيامات حيث شطر جسدها الى شطرين صنع منهما الأرض والسماء واقتلع عينيها وغرزهما في جبال طوروس ليتدفق منهما دجلة والفرات..في وقت لم يكن هناك ذكر في التاريخ لا للفرس او اولاد عمومتهم الميدين ولا للترك أو أولاد عمومتهم المغول..وفي اسطورة الخلق العراقية أن الآلهة بدأت بحفر مجرى الفرات وبعده مجرى دجلة وروافدهما واصلحوا الأرض وزرعوها قبل خلق البشر..مما أعطى النهرين دجلة والفرات بعدا دينيا ..تجلى بآلهة المياه والخصب في سومر واكد وبابل والحواضر الاشورية إذ نقرأ في انشودة زامي الى أنكي (ايا البابلي) إله المياه انه افضى الى النهر وحول المياه المرة الى مياه عذبة :( وبعد ان استدار من هناك ليحدق عبر الفرات..وقف مفعما بالشهوة مثل ثور هائج ..رفع ذكره ..ليقذف برغبته التي ملأت دجلة بالمياه المتدفقة..فلتكن تلك المياه نقية، ولتكن نظيفة ولتكن ساطعة بالضوء)..كما انعكس في طقوس التطهير عند مصبي دجلة والفرات قبل التقائهما ليشكلان شط العرب..وهي طقوس غير الآشوريون مكان أقامتها من مصب النهرين الى منابعها في عمق طوروس..واضحت عند الاشوريين طقوسا عسكرية فضلا عن كونها تطهيرية يقدم فيها الملك الاشوري شخصيا الأضاحي للآلهة ويقيم المآدب الفخمة احتفالا بالأنتصار على الأعداء وتطهير مياه دجلة والفرات من اي تلويث او تدنيس قد تلحقه طقوسهم  وممارساتهم وآلهتم الغريبة بهما..فليس مصادفة ان يجري مسار المعارك في الشرق والشمال والشمال الغربي للسيطرة على مجاري النهار ..كما ليس من قبيل الصدفة ان يبني الآشوريون حصونهم وقلاعهم متقابلة على ضفتي النهرين من منابعهما في جبال الأناضول وحتى مصباتها في بلاد الرافدين لحماية المجرى والراضي الحاضنة له..ولأن أيدي الآلهة هي التي شقت مجاري الأنهار العراقية ومنحتها مياهها فأن المحافظة عليه ضمن الحدود القومية لوادي الرافدين كان أولوية عقيدية وواجبا مقدسا وضرورة سيادية ..فسيادة الدولة في العهود القديمة لا تكتمل إلا بضمان تدفق نهري دجلة والفرات وروافدهما بأكملها من المنابع وحتى المصبات في الأراضي العراقية التاريخية التي تتضمن جبال طوروس وزاكروس..وهي أراض أسس لوجودهم فيها الأكديون منذ النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. وكانت الأقوام المتبدية والدول المجاورة كالحوريين والحيثيين ولاحقا الميديين والفرس يتجاوزون على هذه الأراضي المعروفة لدى الآشوريين في النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. بهانيكالبوت التي تكثر فيها المدن والقلاع الآشورية ونطالع في جبالها منحوتات الملوك الآشوريين والكتابات المسمارية التي تؤرخ لمآثرهم منذ عهد نرام سين مما يجعل منطقتي الخابور والجزيرة قلبا للأمبراطوريات العراقية القديمة وليست أطرافا كما يميل بعض المؤرخين اليهود وكل المؤرخين الفرس والترك والكرد (من القادمين في ذيل التاريخ) الى الزعم لدوافع سياسية غير مسنودة باي وثائق تاريخية او شواهد على الأرض..
ولكن مفهوم السيادة المتجذر في الثقافة العراقية منذ الألف الثالث ق.م. لم يرتبط بالوعي الذاتي بصفته تاريخا للمكان والذاكرة الجمعية لدى ملوك العراق إلا في الألف الأول ق.م. وتحديدا على عهد الملك العظيم آشورناصربال الثاني في جهود اعادة تشكيل المهاد الجغرافي لمنابع دجلة والفرات في حلقة تكميلية مهمة لجهود آشور اوباليت الأول  وأدد نيراري الأول  و شلمنصر الأول  و تكلاثبليزر الأول الذين وطدوا تباعا القوة العراقية في الأناضول فقد شرع آشورناصربال الثاني ببناء مدن وقلاع  جديدة واعاد اعمار المدن والتحصينات القديمة وشق الترع والقنوات لسقي الأراضي والمزارع والبساتين ومهد الطرق التجارية ومخازن الحبوب والعلف..الى وضع المسلات وحفر المنحوتات وكتابة النصوص التاريخية عليها في الجبال والمواقع الستراتيجية مؤرخين في ذلك لأبعاد نفوذهم بالنص البلاغي والصورة الفنية..وقد اتخذ هؤلاء الملوك من منبع دجلة مكانا يدونون فيه مآثرهم ويقيمون فيه طقوسهم التي تتضمن تقديم الأضاحي واقامة المآدب وتلكم طقوس غالبا مايكررونها في المنحوتات والتكوينات الصروحية كالبوابات والمسلات واشكال الزينة المعمارية المتنوعة في عواصمهم..وبذلك يتحول النص المروي الى مجسدات مكانية تؤسس المشهد السياسي للدولة الآشورية وسيادتها في المكان ..فالملوك يدونون مآثرهم في فضاء حضاري يوحد بين الزمان والمكان..التاريخ والجغرافيا من خلال الصروح والعمائر والممارسات الطقوسية والرموز السيادية..في منابع الأنهار ومصباتها وفي العواصم والمعابد وفي الجبال حيث تطالعنا منحوتاتهم ومسلاتهم التي تتضمن فيما تتضمنه من كتابات رموزا سيادية ورموزا اسطورية وتاريخية توحد بين الآلهة والملوك بين الحدث والصرح الممثل للحدث وبين الصرح الممثل للحدث وذاكرة الحدث..بما يؤسس للذاكرة الجمعية في المكان..تماما كالطقوس الدينية التي تؤسس مع الجامع والكنيسة والمعبد للماضي في الحاضر وللتاريخ في الجغرافيا وتعطي للحضارة خصائصها وسماتها المميزة..والممارسات الطقوسية وتكرارها في المدونات والمنحوتات والصروح يعبر في الوقت نفسه عن آيديولوجية الدولة..لأن اماكن ممارسة الطقوس وتأكيد تجلياتها في الصروح يعبر عن استعراض للقوة وتجسيداتها العيانية فهي تدون للحوادث وتؤسس لها من خلال الممارسة الطقوسية وانعاساتها الصروحية..ويعد منبع نهر بيركلنجي احد روافد دجلة (سوبنات) أحد المواقع المقدسة بامتياز لدى الملوك الآشوريين حيث يتدفق رافد دجلة بيركنلجي  الذي عده الآشوريون والجغرافيون اليونانيون والعرب من بعدهم أصلا لدجلة من قلب سلسلة من الكهوف الطبيعية اكبرها كهف كورخر القابع تحت سلسلة من المرتفعات شمالي مدينة دياربكر(آميد- عاميدي) غير بعيد عن مدينة أليجي. هناك اقام الآشوريون سلسلة من النصب الصروحية ومعها كتابات ملكية محفورة في الصخر تؤرخ للملكين تكلاثبليزر الأول (1114-1076 ق.م). وشلمنصر الثالث (858- 824 ق.م.) ابن آشورناصربال الثاني.. ومنبع سوبنات لايمكن الوصول اليه إلا بعد تجاوز سلسلة من التضاريس الصعبة ابرزها اخدود بديع المنظر حيث يقع في آخره النفق السفلي الذي يتدفق منه سوبنات هناك نطالع الى يمين النفق مجموعة من المنحوتات والكتابات الملكية المسمارية ونجد خارج مدخل النفق في مكان بارز منحوتة تمثل الملك الآشوري تكلاثبليزر الأول رافعا ذراعه الأيمن ومشيرا باصبعه بحركة طقوسية تتكرر في مسلات الملوك الاشوريين باتجاه سلسلة من الأيقونات ترمز الى الآلهة وتعبر عن المراحل اتي ارتقاها الملك صعودا الى لقاء الإله عند اقصى مدارج انتصاراته..وهي صلاة من جهة وعرفان من قبل الآلهة بالملك وقد انجز أمانة الآلهة الموكلة اليه..فحركة الأصبع (أوبانا تراشو) التي غيرها البابليون إلى لمسة الأنف (أبا لابانو) تؤسس لصلة بين الآلهة والبشر.. والكتابة المحفورة الى جانب تكلاثبليزر الأول تصف حملاته في أراضي ناعيري الوعرة الى الشرق والغرب من نفق دجلة الذي يتدفق منه نهر سوبنات..وتلك اراض وعرة غالبا ماكان الجيش الآشوري يسير فيها بدون عربات او يكسر بالمطارق الحجارة ممهدا الطرق الجبلية الوعرة مما يفسر مسلة اخرى تصور الملك نفسه حاملا مطرقة أو فأسا وذلك عند نفق مماثل في قلعة أيجيل بالقرب من مناجم اريجاني الى الشمال الغربي من آميد (دياربكر) حيث تقع احدى القلاع الآشورية..وتقع منحوتة شلمنصر الثالث في مجموعتين اولاهما تعود الى السنة السابعة والأخرى الى السنة الخامسة عشرة من سني حكمه اي الى 854 ق.م. و844 ق.م. على التوالي..ومن الواضح ان المنحوتات قد أكملت خلال زيارات عديدة للموقع في اثناء حملتين على الأقل وتصف حملاته على كيلزانو وناعيري بينما تصف الكتابات الأخرى حملته على بابل ومجابهته مع 12 ملكا في بلاد الشام في معركة قرقر..ولعل تسمية كهف بيركلنجي الاشورية (خورخر) تخليدا لمعركة قرقر الحاسمة ضد ملوك الساحل الفينيقي واسرائيل ودمشق، وتصاحب الكتابات منحوتة للملك في هيئة مماثلة تماما لسلفه تكلاثبليزر الأول الذي كان أول ملك آشوري يأمر بنحت صورته وتسجيل مآثره في أعالي دجلة. ولا نستبعد وجود منحوتات لملوك آشوريين في مناطق كثيرة في اعالي حوضي دجلة والفرات وروافدهما في الأناضول التي عدها الملوك الآشوريين كعبة لهم  يزورونها كل عام  فيغتسلون بمياهها ويغسلون اسلحتهم ويقدمون الأضاحي ويقيمون الإحتفالات - وهي طقوس كان أول من اقامها في البلاد المفتوحة سرجون الأكدي- ويخبرنا توكولتي نينورتا الثاني في حولياته أنه أمر بنحت صورته في صخورالنفق الذي يتدفق منه نهر سوبنات الى جانب شلمنصر الأول وتكلاثبليزر الأول غيرأن مسحا آركيولوجيا كاملا لم يجر بعد لمنابع دجلة إذ لابد أن يكون آشورناصربال الثاني قد سبق إبنه في نحت صورته وتدوين مآثره في مكان ما من مدخل المغارة وأن يد الزمن او السراق قد عبثت بالمنحوتة فمحتها أو اقتلعتها من مكانها كما يتبين من دراسة دقيقة لصخور النفق السحري الأخاذ بروعته ..كما ونقرأ في نص لشلمنصر الثالث في مسلته السوداء انه أمر بنحت صورته في المكان نفسه: (في السنة السابعة لإعتلائي العرش...زحفت حتى منابع دجلة - ريش عيني  شا ايدجلات المكان التي تنبع منه المياه-  فغسلت اسلحة آشور فيها. وقدمت الأضاحي لآلهتي وبسطت مأدبة للأحتفال.. وأمرت بنحت صورتي الملكية  الرائعة ودونت عليها عبارات الثناء لآشور ربي والمآثر البطولية كلها التي أنجزتها ونصبتها في مكان شاهق هناك)..وتتكرر المسلات الآشورية نفسها بكثرة في أثناء الألف الأول ق.م. في انحاء الأمبراطورية وبالتحديد في الممرات الجبلية الستراتيجية والمقالع والمناجم والأماكن ذات الأهمية الرمزية كالجداول ومنابع الأنهار والقناطر فضلا عن نصبها في مداخل المدن المشيدة حديثا أو المعاد إعمارها تأكيدا لحضور الدولة و سيادتها في قلب الأمبراطورية وفي أطرافها..وتحاكي بوابات بلوات (امغر إنليل) البرونزية  لشلمنصر الثالث طقوس نهر سوبنات منحوتة على البرونز  فضلا عن صور المعارك التي خاضها وبضمنها مشاهد محيطية كالأشجار والجبال..ومشاهد تقديم الأضاحي والمأدبة الملكية التي تلت تقديم الأضاحي ..وقد أكتشفت بوابة مماثلة لبوابة بلوات تعود للملك آشورناصربال الثاني في قصره في كالخو يبلغ طولها 4 أمتاروقد نقلت للتوثيق والصيانة الى لندن ثم اعيدت لتعرض في متحف الموصل . وكان قدر هذه البوابة والتي تحتوي على 32 شريطا برونزيا مفجعا ومأساويا إذ تعرضت للتخريب والسرقة من قبل المغول الجدد الذين داهموا متحف الموصل في آذار 2003 بأرادة مبيتة لأتلاف تاريخ العراق والسطو على تراثه..
فالسيادة هي العمود الفقري لبناء الدولة العراقية وهي مستحيلة بدون جيش دائمي محترف  يتمتع بقدرات تعبوية وتسليحية وقتالية هائلة تتناسب مع حجم الأطماع في اراضيه وثرواته  .. وعندما تتخذ الدولة البوابات البرونزية والمنحوتات البطولية والنصب الصروحية رموزا لها فتنحت الأسود والثيران المجنحة والملائكة والعفاريت الحارسة  وتضعها في بوابات قصورها ومعابدها وصروحها، فأنها ترمز بذلك لقوة الجيش وحصانة الأمة ..وتزرع في الوقت نفسه الذعر في قلب العدو المحتمل  ..وهذا يفسر اهتمام الأمبراطوريات العراقية القديمة بالسلاح والتصنيع العسكري..ولعل منجل الإلهة من ابرز ابتكارات العقل العراقي العسكري ..وهو اول سلاح ابتكره العراقيون القدماء في العصر البرونزي الى جانب الفؤوس والقوس والنشاب والحراب والهراوات  والعجلات..ومنجل الآلهة هذا ليست وظيفته حصاد القمح والشعير بل حصد الأعداء والحاق الهزيمة باعداء العراق..ويرتبط ابتكار هذا السيف واستخدامه في القتال في بلاد مابين النهرين بالبطل القمري وعبادتي سين وعشتار ومردوخ ورمزية الماء والحصاد منذ فجر التاريخ البشري في سومر..فالشكل الهلالي للسيف المنجلي يرمز الى القمر الهلال في وجهيه المقعر والمحدب وجانب النصل منه في جانبه المحدب ..أما جانبه المقعر فيحتضن عشتار بمايشبه سورا مقوسا يحرس المدينة..وينطوي السيف المنجلي على ازدواجية في المعني الرمزية للمنجل واهميته في الزراعة والسيف الذي يرمز الى الموت والنظافة..غير ان هذا التناقض الوظيفي يتضمن في جوهره تماثل معنوي لأن الموت في النصل المحدب ضروري للحياة في الجانب المقعر للسيف المنجلي..وهي ازدواجية تقابلها ازدواجية التقابل الضدي بين الحرب والزراعة والموت والحياة والنار والماء..وهي ثنائيات ترتبط بالقمر الذي يؤثر على حركة المياه بطريق المد والجزر كما يؤثر على الزراعة ودورة الحياة في المرأة الممثلة بالزهرة او الربة عشتار في التقاليد العراقية القديمة..ويرتبط السيف المنجلي بزحل الذي اختار خلع ابيه اورانوس عن العرش (الموت) معلنا بداية (حياة) جديدة..وللسيف المنجلي صلة معنوية بإله القمر نانار (سين)..وكانت أور مركز عبادته حيث يمثل له برجل طويل اللحية لآزوردة اللون يرتدي تاجا وفي مساء كل يوم يستقل مركبته الشراعية التي تبدو للعيان على شكل هلال ساطع يجتاز مفازات السماء في اثناء الليل..وفي رواية اخرى، ان الهلال البارق ليس سوى سيف الإله نانار المنجلي يقاتل فيه قوى الظلام..وعندما يتحول في منتصف الشهر القمري الى قرص ذهبي لامع يعتقد الناس انه تاج الإله غير المرئي مما اعطى سين ابعادا سحرية غامضة  جعل ألالهة تعجز عن سبر غوار اسراره فهو والد الآلهة عشتار وشمش ونسكو (النار)..وبذلك يصبح السيف المنجلي سلاح الإلهة ورمزا كليا للموت والحياة والأرض والسيادة..والسيف المنجلي هو سلاح أيآناتوم ملك لاكش الذي طارد به العيلاميين بعد طردهم من سومر وبسط نفوذه على بلاد مابين النهرين من ماري وحتى اوروك  2457 ق.م. ونطالع السيف المنجلي في الأختام السومرية والأكدية فنراه على الأختام الأسطوانية وفي راية أور الحربية بيد الملك أياناتوم..كما نراه سلاحا لكلكامش ولإله الموت نركال اذ يصورفي ختم اسطواني ممسكا بالسيف المنجلي بيده اليسرى وبهراوة برأسين نمريين بيده اليمنى بينما يدوس بقدمه اليمنى عدوا عند سفح جبل في اشارة أكدية واضحة الى استخدام منجل الآلهة في دحر أقوام زاكروس وأيقاف اعتداءاتهم عند سفوح الجبال كما نشاهده في ختم

18
الحقائق التي لاتخفى في مقالتي عن الموصل

صلاح سليم علي
  نشر السيد يوسف ألو مقالا عنونه (الحقائق التي اخفاها صلاح سليم علي في مقالته عن الموصل)..وذكر إني حرفت علنا التاريخ والدراسات والأبحاث والمنشورات والمخطوطات التي لاتقبل الشك أو التحريف..والحقيقة التي يرى إني حرفتها  (هي ان الموصل لم تكن اسلامية منذ تأسيسها وهذا ما يؤكده الباحثين في هذا الشأن)..وأود ان اوضح للسيد يوسف ألو إن مقالتي لم تكن عن الأديان في الموصل أو عن السكان الأصليين لمدينة الموصل بل كانت عن أسواقها مقارنة بأسواق الشرق الأدنى..وتناولتها في منظور الرحالة الغربيين الذين وفدوا اليها في العهود الأسلامية وليس في العهود القديمة..وكنت أشرت الى ان الموصل لم تكن عربية ولا اسلامية ولكن يبدو أن السيد يوسف ألو لم يقرأ مقالتي بأكملها واقتبس له نصا ماذكرته في مقدمتي لأسواق الموصل بعد استعراضي لعدد من اسواق الشرق الأدنى وهاهو النص الذي الونه بالأحمر ارضاءا للميول السياسية للسيد يوسف ألو: (ولكن أسواق الموصل أكثر عراقة وتوغلا في القدم من الأسواق العربية الأخرى إذ تعود الى العهود السومرية والأكدية القديمة على الرغم من اندثار الدلالات الآركيولوجية الظاهرة فوق الأرض على تواجد هذه الأسواق في تلك العصور الغابرة..بأستناء دلائل نصية وردت على لسان المؤرخين والرحالة المبكرين تتحدث عن الجانب الأيمن لنينوى باعتباره امتدادا لنينوى القديمة او نينوى الخامسة والرابعة اللتان توازيان المرحلتين السومرية القديمة والأكدية..فضلا عن نصوص ومراسلات أيبلا وماري وكانيش وآشور التي تتحدث عن نينوى بصفتها مركزا تجاريا مهما يلتقي فيه التجار القادمين من بابل وايمار وايبلا والحواضر الفينيقية وآسيا الصغرى ومصر وتيماء..فالموصل بحكم موقعها في تقاطع الطرق التجارية الكبرى ومرور الطريق الملكي المتصل بطريق الحرير بها كانت ومنذ العهود القديمة احدى اكثر المراكز التجارية اهمية في الشرق الأدنى..وقد افضى الموقع الستراتيجي المهم هذا الى تطوير الصناعات المحلية التي تعتمد على الثروات النباتية والحيوانية المتنوعة المتوفرة في الجبال والسهول المحيطة بالموصل..غير ان اقدار المدينة التجارية واسواقها كانت تتقلب بين الأزدهار والتقهقر تبعا لطبيعة التناحرات السياسية والعسكرية في الشرق الأدنى..وذلك على خلاف اسواق الشرق الأخرى المستقرة نسبيا عبر التاريخ..وهذا يفسر الأختلافات في وصف المدينة من عصر لآخر..مع ذلك نلاحظ ايضا ان المؤشر العام يتجه ايجابا اي نحو استرجاع الموصل لأهميتها وبالتالي ازدهارها اقتصاديا..لأن السياسة لاتغير الجغرافيا ولا تعطل منتوج الأرض على الرغم من عنف الهجمات التي تعرضت لها المدينة وتعدد الأنتكاسات التي تعرضت لها ولجوء الغزاة الى سياسة الأرض المحروقة ..فسهل الجزيرة والجبل لم تنقطع فيهما شرايين الحياة واستمرارا في رفد الموصل بالأخشاب والثمار والأصواف والعسل و المكسرات كالجوز والفستق ومنتجات الألبان التي اشتهرت الموصل منها بالقيمر..كما صب التنوع الإثني وتعدد الجماعات الدينية في صالح التجارة بما اضفاه من مهارات متنوعة في كل المجالات..ونعلم من كتابات الملك سنحاريب انه طور "نبات الصوف" في الموصل ويقصد به القطن وانه خصص جزءا من الجانب الأيمن لدجلة لحدائق بث فيها الطيور الغريبة المتنوعة ..وهو الجانب نفسه الذي تقع فيه منطقة الفيصلية..ولعله في المنطقة الواقعة خلف السكيلا حيث بستان الزيتون الذي يعود لبيت عبو اليسي بالأرجح..) والفت انتباهك الى عبارتي اعلاه (كما صب التنوع الإثني وتعدد الجماعات الدينية في صالح التجارة بما اضفاه من مهارات متنوعة في كل المجالات) واقصد بالتنوع الأثني الأقوام المختلفة التي تناوبت السيادة الزمنية في وادي الرافدين ومنها الآشوريين والكلديين والفرس والترك وغيرهم..ولم اشر الى الدين (المسيحية والأسلام) لأن السلطة الدينية من المتغيرات وليس من الثوابت فالمسيحيين لم يشكلوا دولة في وادي الرافدين. وهم يشكلون غالبة الأمم الغربية والمسيحيين المتشددين في الولايات المتحدة والمؤازرين للصهيونية التي تهدف الى الهيمنة على العالم.. فهم على الرغم من اشعالهم للحرب الأخيرة لايقدرون على تهويد العراق..ولابد عند انتقاد مقالة ما أو نقدها من قرائتها وفهمها قبل الأستعجال بأتهام الكاتب في التحريف وبمقدورك مراجعة مقالاتي في موقع عين كاوة كالقلاع والحصون العراقية في زاموا وزاكروس ..وعرفة (كركوك) في النصوص المسمارية القديمة وملكات العراق والملك آشورناصربال الثاني ملك العالم ومآدب الملوك لتعرف إني لا أجهل التاريخ القديم للعراق..وأود ان انبه السيد يوسف الى ان المسيحية حدث مبكر في تاريخ العراق فقد ولد المسيح قبل الفي سنة وعقد ونيف ..ولكن تاريخ العراق يمتد قبل ذلك بكثير فأين كان المسيحيون في سومر وأكد وشروباخ وأريدو وكيش ولاكش وايسين وأدابا ونيبور وبابل ونينوى والف حاضرة أخرى ممتدة في بلاد مابين النهرين الآشورية الكلدية الآرامية العربية أصلا..وبكلمة الجزرية حيث انتشرت فيها حضارات تعكس ثقافة السهول وليس ثقافة الجبال على الرغم من وجود الجبال في قلب الحاضرة العربية ..
أتذكر مرة لاقيت المطران بني بحضور صديقي سهيل قاشا في الكنيسة في الميدان وطلب مني ان اترجم له كتابا عنوانه (دور المسيحيين المشارقة في الحركة القومية العربية نشرته جامعة برنستون) ..ولايشك احد في دور المسيحيين العرب في الحركات الثورية وفي الفكر القومي العربي والأسماء هنا كثيرة ولا داع لذكرها..ويقينا فأن أحدا من القوميين من غير المسيحيين لم يلحق اي أذى بالمسيحيين لكي تتحامل عليهم في مقالاتك الأخرى الذي قرأتها اليوم بعد علمي بالترهات التي وجهتها ضدي ..فالأخوة المسيحيين شاركوا في الجهد الوطني لبناء العراق وشاركوا في الحروب القومية وبذلوا الدماء دفاعا عن العراق وسيادته وكرامة شعبه الذي لم يكن فيه تفرقة بين المذاهب والأديان لولا الشر الذي جاء مع الأحتلال الأخير للعراق ولعلك لاتدري ان تغلب مسيحية وان المسيحيين شاركوا بالتصدي للحروب الصليبية..والحروب العدوانية الأخيرة على العراق ..
 إني كلما تعمقت في قراءة مقالتك اكتشف تناقضات معرفية هائلة تقع تحت طائلة التنافر المعرفي ان لم نقل الفجاجة والجهل بالتاريخ، فأنت تقول:   
(ايضا لم يتطرق السيد صلاح الى سكان الموصل الأصليين والذين كانوا غالبيتهم العظمى من المسيحيين ومن ثم اليهود اضافة الى وجود اعداد من عبدة الأوثان وبعض الملل الأخرى التي لم يعد لها اليوم وجود , وقد يأتي عدم ذكر السيد صلاح لهذه الحقائق تماشيا مع التهميش الذي لحق بمسيحيي العراق الذين يعتبرون احدى اهم المكونات الرئيسية لشعب العراق منذ اقدم عصور التاريخ وهم الرواد الأوائل لحضارته العريقة)
فهل من حق الناقد ان يوجه الكاتب فيما ينبغي أن يتطرق إليه او ما يتوجب عليه عدم ذكره؟ ما تسمي هذا التدخل بعبارتيك (لم يتطرق) و (عدم ذكر) ..ومن قال ان ذلك جاء (تماشيا) كما تقول مع (التهميش الذي لحق بمسيحي العراق) ؟ ! واقول لك مع احترامي للمسيحيين من طلبتي وزملائي في كل انحاء العالم بأن المسيحيين لم يهمشهم سوى الأحتلال ومن يسير في ركابه..وتكفي نظرة بالأرقام لمقارنة عدد الكنائس التي شيدت قبل الأحتلال والكنائس التي هدمت في أثنائه فهل كان العراقيون العرب من غير الحزب الذي تنتسب اليه والملة التي تنتمي اليها هم وراء تهديم هذه الكنائس أو تهجير المسيحيين؟!
ألو.. اتسمعني؟
ثم ينهي يوسف ألو مقالته المسمومة بذكرما عده بعض الحقائق ..هي (أن سكان الموصل الأصليين منذ تأسيسها وحتى الغزو الأسلامي كانوا مسيحيين أولا ويليهم اليهود ثم ذكر ان معظم تجار الموصل ان لم نقل جميعهم من اليهود وان جامع النبي يونس كان ديرا قبل ان يحوله المسلمون مسجدا..)
هنا لابد من التأكيد على حقيقة ان سكان الموصل او الحصن الغربي في الموصل لم يكونوا مسيحيين او مسلمين ببساطة لأن الحصن الغربي او الموصل (مسبيلا) موجود قبل ميلاد المسيح (ع) ومحمد (ص) بقرون..وان تجار الموصل لم يكن معظمهم يهودا بدليل كتب الرحلة العديدة والصور القديمة التي لدي ..فقد كان لليهود حي هو الأفقر في المدينة وكان التجار في معظمهم عرب مسلمين يتلوهم الأرمن فالمسيحيين فاليهود.. أما جامع النبي يونس فأدعو الكاتب الذي تجرأ على انتقادي الى الذهاب اليه الآن ليرى ثيرانا مجنحة في ظهر الجامع ..فالجامع قبل ان يكون ديرا او كنيسة كما قال كان قصرا بناه سنحاريب لأبنه اسرحدون وشيد في التلال التي تحيطه ترسانة اسماها عقل مشارتي ثم اصبح معبدا للنار على العهد الساساني قبل ان يتحول الى كنيسة ومنها الى جامع..
واختتم (ألو) ترهاته بقوله
(هذه بعض الحقائق المهمة التي كان المفروض من السيد صلاح ذكرها في مقالته كي تكون ذات مصداقية وواقعية نتمنى منه وممن يرغب في الكتابة في هذا المجال ان يكون امينا على المعلومات التاريخية وملما في التاريخ وان يكون امينا على قلمه الذي لو انزلق فسوف لن يرحمه التاريخ مستقبلا لأن الأحداث والوقائع المؤرخة لايمكن تحريفها مهما حاول اصحاب التهميش المضي في غييهم)
اكرر يا ألو فاسمعني: لنفترض ان ترهاتك حقائق كما تزعم، فكيف علي ان اخرج عن منهجية بحثي أو (مقالتي) في اسواق الشرق الأدنى وهو بحث وصفي يعتمد سرديات الرحة الأجانب، لأتحدث عن تاريخ الأديان؟ واية امانة تتحدث عنها أو حقائق تاريخية وما معايير تلك الأمانة والحقائق؟..اعلي ان اقول ان المسيحيين جاءوا قبل ميلاد المسيح وان اليهود هم من فتح الموصل وليس عتبة بن فرقد وأن مروان الثاني الذي بنى سور الموصل وجامعها الأموي واعاد اعمار الحصن الغربي ينتسب لبني قريضة اوالقنيقاع او النضير.. ثم ان لاوجود لدين اسمه الأسلام او لنبي أسمه محمد (ص)، لكي ترضى ا..عما أكتب؟ وهل لاانت مؤرخ معروف لتعطي نفسك حق الحديث عن الأمانة التاريخية والألتزام بها؟ فهل التاريخ قسما من اقسام الفندقة التي درستها في بغداد العربية في عهد اسيادها وسيادتها ثم انقلبت بعد الأحتلال وفي عهد التردي لتهاجمها؟
وأخيرا ما أحوجنا الى العودة الى شاعر الكوفة التي نفى اليها خليفتنا العظيم عمر بن الخطاب (رض) اليهود والموالي فالقى فيها ابليس الذي باض بيضة وفقست ومابرحت تفقس.. ببيت يصف الحال التي تصف الأدعياء في زمن هو الأردأ في تاريخ العراق العربي المسلم المسيحي ..وليس اليهودي، او غير ذلك، على الأطلاق:
ومن البلية عذل من لايرعوي  عن جهله وخطاب من لايفهم 

19
قلب الموصل بين الأمس واليوم



صلاح سليم علي
مقدمة
تعد الأسواق في المشرق الإسلامي وفي الوطن العربي بوجه خاص مرآة متعددة الواجهات للحياة الإجتماعية والأقتصادية للمجتمعات التي تحتضنها..بل هي قلب الحياة الضاج للمدن الشرقية من سمرقند وحتى تونس فمراكش مرورا بأسطنبول فبغداد فحلب فدمشق فبيروت فالقدس فالقاهرة فالأسكندرية فمسقط فعدن وغيرها من الحواضر ضاربة الجذور في التاريخ..ومنها يتعرف الرحالة الأجانب على اوجه الحياة المحلية للمجتمعات الشرقية ويعيشون فضاءاتها الشعبية زاهية الألوان..والى ذلك العادات والتقاليد والأذواق وطرائق المأكل والملبس واساليب التعامل والتداول وطرق المواصلات ووسائطها وكيفية استعمالها ..وماإلى ذلك..فالأسواق لها عالمها الخاص بها بل هي عالم خاص بحد ذاته..وتختلف الأسواق الشرقية بحجمها ومعروضاتها، والى درجة أقل، في عمارتها غير انها تتشابه في فضائها الشعبي وروحها الإسلامية..ففيها اماكن للأستراحة كالمقاهي أو"الجايخانات" وفيها الجوامع والمساجد والحمامات وفيها رائحة الشرق والوانه الزاهية إذ لايخلو اي منها من التحف الرمزية التي تعكس الماضي الحضاري للمدينة او البلد ومن العطور والمسابح والسجاجيد والبسط، فضلا عن الأواني الفضية والنحاسية والحلي الذهبية والعاجيات والسماورات والزجاجيات والتحف يدوية الصنع ..وتشبه الأسواق حجر المغناطيس أو البؤر الحيوية التي تشد اليها الناس على مختلف شرائحهم وفئاتهم وطبقاتهم..فالسوق هو نبض المدينة وايقاعاتها البيع والشراء والحركة الدائبة المصحوبة بفوضى خاصة تعرف ب "ظاهرة حفلة الكوكتيل" حيث يتحدث الجميع بدون ان يفهم احدهم مجريات هذه المحادثات..فترى اصحاب الحرف الجلدية والصفارين يطرقون على احذيتهم وأوانيهم على التوالي، وترى الصاغة وهم يمررون اسلاك الذهب في الأحزمة والأساور او يطرقون أهلة ذهبية في (الخشتيك) لتأخذ قالب تميمة ستزين رقبة وليد جديد..أو حلقات حزام ذهبي يزين خصر امرأة تتهيأ للزفاف..وتشد انتباهنا بين الآونة والأخرى أصوات طاسات بائع السوس او التمرهندي التي ترتطم احدها بالأخرى وكأنها صنوج عملاقة تدعو الزبائن الى شراء السوس او الشربت ولاسيما في الظل الذي توفره حنيات السوق وظلاتها من الخشب والجنفاص او من الخشب والتوتياء في ايام الصيف..والأسواق الشرقية غالبا ماتكون مسقفة في اجزاء مهمة منها كسوق الصواغين او سوق العطارين او سوق الأقمشة والسجاجيد والتحف كما في اسواق فاس ومراكش والقاهرة ودمشق وبغداد والنجف والموصل وشيراز وطهران واسطنبول وقونية حيث تفوح رائحة التوابل والعطور..ومنها ما تلتقي ازقته المستقيمة او الأفعوانية في ساحة او عدة ساحات تتخصص كل واحدة ببيع سلعة من السلع كالسجاجيد او الساعات او العطور او المأكولات او النحاسيات أو المسابح والخواتم  أوالحقائب والثياب وتجرى فيها المزادات..وفي العصور الوسطى وحتى اوائل القرن العشرين غالبا مانرى الأسواق مكانا تزدحم فيها المكارية والجمالة بحميرهم وجمالهم ويعرض في زواياها السحرة والحواة فنونهم فمنهم من يعزف للثعابين والقردة الراقصة ومنهم من يجلس الى كومة من الحصى والحجارة النادرة ليقرأ للنساء طالعهن..ويقابل الكوسكوس في المغرب العربي الكباب في المشرق والشاورمة في تركيا والفسنجون في شيراز واصفهان وطهران مع طائفة عريضة من المشروبات كالمرمية والنعناع والحلبة وشربت الزبيب وشربت عروق السوس وعصير الرمان والدارصيني والشاي الأخضر والكركدية (تسمية سودانية لاعلاقة لها بالكرد) وغيرها التي جرت العادة بتناولها في مقاهي مفتوحة على جانبي الطريق..يرتادها الشحاذون وتتجنبها النساء اللاتي تصرفن اعينهن عن مناطق تجمع الرجال بأخمرتهن السوداء في الحواضر العربية اوبشواديرهن الملونة احيانا في بلاد فارس و في الحواضر الإسلامية الأخرى..فالأسواق الشرقية التي يطلق عليها البزار في تركيا وآسيا وباجار في الهندية وشن جن في الصينية وأسواق او قيصريات في العربية ليست مجرد بؤرة للنشاط الإقتصادي والتجاري للمدينة فحسب بل هي أحدى الواجهات المميزة للشرق عن الغرب وهي بما تقدمه من فضاءات نفسية وروحية تشكل همزة وصل بين تاريخ المدينة وتراثها من جانب والحاضر المعاش من جانب آخر..أي، بكلمة اخرى، هي استمرار للتاريخ في الحاضر..مما يجعل من الحفاظ عليها ضرورة حيوية للحفاظ على الفضاء الروحي للمدينة الشرقية وطابعها الحضاري المتميز..
فلاغرابة أن تحظى الأسواق باهتمام الرحالة والمستشرقين والرسامين ممن زار الشرق في القرون الخالية ولم يفته ان يخصص في سردياته فصلا او اكثر في وصف الأسواق وعوالمها او يكرس لها عددا من لوحاته الزاهية التي تزين متاحف العالم وتعطي كتب الرحلة والأستشراق رونقا يشد القاريء والرائي ويأسر مخيلته في رحلة ذهنية في عوالم القرون الوسطى وفي رحاب المدن الإسلامية وفضاءاتها الساحرة..
الأسواق في منظور الرحالة في المشرق:
استغرق وصف الأسواق الشرقية في بلاد الشام والعراق ومصر فضلا عن اسواق تركيا وايران جانبا كبيرا من سرديات الرحالة الأوربيين سواء من وفد منهم للأستكشاف او التجارة  او للتنقيب عن الآثار أم للتبشير بعقيدة جديدة أو البحث العلمي  او بدافع حب المغامرة والإستطلاع..ومن أوائل الجغرافيين الذين زاروا الشرق الأدنى ودخل اسواق الموصل وحلب المغامر الفرنسي الشاب (تيفنو) [بالفاء الأعجمية]..وقد تطرق الى وصف الموصل التي زارها في آب 1663 فتناول في الوصف سورها وقلعتها وجسر القوارب الشهير عبر دجلة ..ثم وصف خسوف القمر في ليلة السابع من آب من تلك السنة وكيف صعد اهل الموصل على سطوح المنازل بأوانيهم وعمدوا الى طرقها بقوة لأحداث جلبة تدفع الحوت الذي بلع القمر الى الهرب ولفظ القمر من جوفه الى سمائهم..وكان قد اشترى من الموصل مسكا ونبيذا وسماقا كان يعمل منه شرابا في طريق رحلته بالكلك عبر دجلة..وبسبب المفارقات التي تعرض لها في الموصل عزف عن وصف سوقها ولكنه وصف سوق حلب المماثلة لسوق الموصل..فحدثنا عن موكب الأصناف في سوق حلب وكيف ان (الأسكافييين كانوا يرتدون نوعا متجانسا من القبعات ويحملون بنادق  وسيوف لتمييز صنفهم عن بقية الأصناف بينما يحمل ثمانية منهم رفا يجلس فوقه صبيان منهمكان في عمل صندل..بينما يحمل صناع الحلوى قلاعا من الحلويات فوق رؤوسهم..ثم يأتي موكب الصاغة الذين يحملون رفا يجلس فوقه صائغان منهمكان في طرق سبائك الذهب وجدلها..وهكذا مع الخبازين والبزازين والخياطين والقصارين والصباغين حيث نجد احد رجال الصنف يصبغ قطعة قماش أمام انظار الناس..ثم يتلو هؤلاء على نحو منظم باعة القهوة "القهوجية" والقصابين والقزازين والسراجين والنجارين والشتالين والحدادين ثم الحلاقين) ..ويخبرنا تيفنو البارع في التفاصيل والساخر أحيانا انه أذهل بروعة الموكب وهو يشق طريقه عبر شوارع مدينة حلب وسط ازدحام الناس وصخب هتافاتهم واطرائهم..مما يدعونا الى التوقف قليلا لتأمل الحياة الإجتماعية في حلب قبل قرابة اربعة قرون ..فموكب الأصناف لم يكن يهدف امتاع المشاهدين فقط بل كان معرضا يجرى في الهواء الطلق بهدف الأعلان وتأكيد أهمية الحرف والأصناف في الحياة الأقتصادية للمجتمع..وهو معرض كان يتكرر في مدن أخرى كالقاهرة ودمشق ومراكش وفي اصفهان وشيراز وفي اماكن اخرى..ويرجح ان موكب الأصناف هذا كان يجرى في الموصل في القرن السابع عشر ايضا لأتساع اسواقها ولكونها مدينة اصناف وحرف بالدرجة الأولى..مما يضفي نوعا من التجانس في السلع والخدمات عبر عواصم العالم الإسلامي ومدنه وصلت اقصى درجات تطورها في القرن التاسع عشر واستمرت في عدد من المدن حتى الوقت الحاضر فقد بلغ عدد الحرف والأصناف في سوق القاهرة الكبير 450 حرفة وصنفا في عام 1900 و235 حرفة وصنفا في سوق دمشق..هذا بالأضافة الى الخدمات طبعا ..اذ نعرف من سيرة ابن دانيال مثلا ان الكحالة او طبيب العيون فضلا عن الحجامة والصفادة تعد من الأصناف وكان لها شيوخها ..ومن الجدير بالذكر ان أبن دانيال كان بالأضافة الى تخصصه المسرحي في خيال الظل كحالا له عيادته الخاصة في سوق العطارين في الموصل..والتجانس في الواقع ينطوي على استثناءات مهمة تتمثل في تميز الأسواق أحداها عن الأخرى بسلعة او تجارة بعينها دون غيرها ... فسوق اسطنبول المسقف (كبالي جارشي) تشتهر بعطر ماء الورد وتشتهر شيراز واصفهان وطهران بالسجاد الكاشان يدوي الحياكة وتشتهر سوق الموصل بالمنسوجات الفاخرة والموسولين الشهير بينما تشتهر القاهرة بالحجارة الكريمة والفضيات والنحاسيات والتحف المتنوعة التي جعلت خان الخليلي اشبه بالمتحف..وتشتهر الهند بالعاجيات والأبنوس ..بينما يباع الجيد الفاخر بأنواعه في الصين وتجد المر والكندر في عدن والى جانبها في اليمن القهوة الفاخرة والعقيق الأسود..وتعرف المنامة باللؤلؤ الطبيعي باهض الثمن.. ويباع العنبر الأسود في ارضروم أما قونية فتشتهر  بالسجاد الأحمر الفاخر فضلا عن الموهير المصنوع من شعر معيز الأنكورا..ونادرا مايغادر زائر الأغورا في قلب اثينا محلاتها بدون قطعة او قطعتين من الأسفنج الطبيعي المستخرج من بحر ايجة بالأضافة الى الماستيك او المستكي النادر الذي يعالجه اهل الموصل في علكة الموصل الشهيرة التي تستخدم كعلكة زاكية الطعم ولنزع الشعر الذي يعزى ابتكاره الى خدام النبي سليمان من المردة والعفاريت ممن نصحه باهدائه لبلقيس ملكة سبأ ..وتعلم النساء في الخليج العربي ان السعودية تحتضن افضل الأسواق لبيع العبايات والشيلات فضلا عن المسواك وعطر دهن العود..وهلم جرا..
سوق اسطنبول الكبير:
ويخبرنا توماس نوكس في رحلته الى المشرق عام 1871 عن سوق اسطنبول الكبير قائلا: ( دخلنا البزار من خلال بوابة صروحية وكان اول مكان زرناه سوق العطور والأدوية الذي ارسل روائح قوية في انوفنا استمرت دقائق كادت تسكرنا بقوتها وكانت ممرات السوق ضيقة تتراصف على جانبيها المحلات التي ترتفع قرابة ثلاثة اقدام عن سطح الأرض..بحيث يكون بمقدور البائع استخدام واجهة المحل كمنضدة للتعامل مع الزبائن وعرض نماذج السلع بعد جلبها من الرفوف بدون ان ينهض من مقعده.. وكانت هناك اكياس من الحناء التي تستخدم لتلوين الشعر فضلا عن الكحل الذي يستخدم للعيون والرموش..وهناك اكياس تحتوي انواع عديدة من المكسرات ومستحضرات دوائية وعطريات لانعرف اسماءها..وكانت المحلات متشابهة في معروضاتها وشكلها الى درجة كبيرة..وكانت الفرصة سانحة لشراء عطر البركموت [عطر اشبه بالكولونيا يستخرج من زيت قشرة الليمون الحامض ويعالج بمواد أخرى] وعطر ماء الورد والمسك وزيت خشب الصندل..وكان التجار يعلبون هذه الأنواع من العطور في زجاجات غريبة الشكل كالأصابع الرفيعة الطويلة لجعل كمية محتواها من العطر قليلة نزرة لاتتجاوز بضع قطرات.. ويؤكد لك كل بائع انه يبيع عطر ماء الورد الأصلي ويريك نموذج يقول انه مغشوش وأنه يحتفظ به فقط لتحذير الزبائن وانه لايبيع المغشوش ابدا كما قد يفعل غيره ..وينتشر الأدلاء في السوق حيث ياخذك اي دليل الى مايؤكد انه بائع العطر الأصلي ..ولكن اي دليل لايأخذك الى البائع نفسه بل الى بائع آخر..والى جانب محلات العطور محلات الأقمشة المتنوعة كالحرير والكتان الملون وانواع الشالات والأحذية الجلدية وأنواع المرايا الفارسية المؤطرة بالرسوم زاهية الألوان [التي تحاكي السجاد الأيراني الذي يصور شعر شيرازي والخيام]..فضلا عن تحف من العاج والأبنوس وانواع القلادات من اللؤلؤ واللازورد والعنبر الشجري..فالسوق اشبه بمدينة داخل مدينة..اذ يحتضن شوارعا ودروبا وأزقة وساحات مسقفة كلها وفي اعلى السقوف توجد فتحات تخترقها اشعة الشمس بعضها مفتوح على السماء وبعضها مغطى بالزجاج..وتجولنا في السوق ساعات وساعات .. متنقلين من زاوية الى اخرى ومن باحة الثياب الى باحة الأحذية الشرقية غريبة الأشكال والألوان..حتى دلفنا في سوق المجوهرات والذهب الذي يتلألأ في الضوء الساقط من فتحات السقوف بألوان زاهية بهيجة تنبثق من القلائد والأسوار والأقراط  والبروشات المزدانة بالألماس واليواقيت والشذر وانواع لاحصر لها من الحجارة الكريمة..بما لايوصف من الروعة والجمال..فالثروة المخزونة هناك شيء لايصدق)..
 ثم يتطرق الرحالة الى سوق الأسلحة منوها بسيوف دمشق التي يتخيل انها ربما كان امتشقها هارون الرشيد او صلاح الدين..فسوق السلع الجلدية والأثاث النادر فسوق الغليونات والنراجيل وسوق الكتب فسوق البذور فالزجاج ..ثم سأل عن سوق العبيد، فأخبر انه لم يعد له وجود..ولكنه عاد معقبا بقوله:
( منذ سنوات قلائل كان هناك سوق كهذا [للعبيد] بالقرب من جامع محمد الثاني كانوا يبيعون فيها اطفالا زنوج وأحيانا قد يجد الزبون رقيقا بالغا، أمرأة أو رجل، معروضا للبيع..وكان سوق الرقيق البيض قد زال هو الآخر..إلا ان تجارة العبيد مابرحت موجودة سرا وسوقها يديرها تجار من الشركس في حي بيرا..ويزعم هؤلاء التجار ان النساء اللاتي يبيعوهن جئن بمحض رغبتهن الى اسطنبول..وان الأسعار التي يطلبونها لهن هي فقط لتغطية كلفة استيرادهن من بلدانهن) ..وفي هذا كما نرى كذب واضح صريح!
ويبدو من وصف نوكس أن عالم نوافل القرن التاسع عشر كان امتدادا للقرون الوسطى ومصدرا لروح الشرق التي ألهمت قرائح الفنانيين والشعراء والرحالة فانتجوا اعمالا فنية وروائية اسست للنظر الأوربي ولتطور الفن لاحقا في أوربا والغرب بما يعرف بأدب الرحلة الذي يشكل جانبا زاهيا من جوانب فن الأستشراق..فصار الرحالة من غير الفنانيين يصطحبون معهم فنانا لتصوير الشرق ..وهو تقليد سبق الأكتشافات الأثرية المهمة في الشرق الأدنى ..وساعد على تطوير طرائق جديدة في التصوير كالليثوغراف والتصوير الضوئي ..وكانت الأسواق تحتل موقع الصدارة في وصف الرحالة والفنانين الغربيين وتصويرهم وبخاصة في القرن التاسع عشر الذي يمكن وصفه بعصرالرحلات وذلك لأنه عصرالأكتشافات الآثارية الكبرى وافتتاح قناة السويس التي دشنها الخديوي اسماعيل بدعوة ملوك وأدباء وفناني أوربا الى مصر وبضمنهم جان لويس جيروم وفرومنتين وبول لينوار الذين صوروا اسواق مصر في لوحات استشراقية تزين متاحف أوربا ومعارضها ..بعد ان رسم اقرانهم كرودولف ارنست وديلاكروا وشارلس تيودور فريرا وفيرنيه وروسو وفلاندين اسواق المغرب وبيئتها..وكان الرحالة ممن لايتقن الفنون او يجرب فيها ك أليس تريسترام الذي زار الموصل ورسم  جوانب منها، قد درجوا على اصطحاب فنانين معهم لتصوير الشرق ولاسيما بعد اكتشاف المدن الغابرة في مصر والعراق كما صاحب لايرد فرديك كوبر وصاحب بوتا فلاندين الى العراق وصاحب توماس فيليب ريجارد داد الى مصر وبلاد الشام..ومن الفنانيين من اختار الأقامة في المشرق لتصوير عوالمه واسواقه وابرز هؤلاء الفنان الأنكليزي جون فردريك لويس الذي عاش في القاهرة تسع سنوات..ومنهم من واصل الى الشام ليرسم مدنها واسواقها كغوستاف باورنفيند وادريان دوزات والبرتو باسيني وغيرهم..وتتجلى من اشارة نوكس الى سوق العبيد في اسطنبول طبيعة اهتمامات الرحالة الأجانب وهي اهتمامات تعكس التصورات الأستشراقية الرومانطيقية الأولية عن الشرق والمغلوطة او المبالغ بها في اغلب الحالات كتصوير المرأة الشرقية واسواق النخاسة والحمامات التركية وحزام العفة ثم لصق هذه المظاهر العثمانية بالأسلام والعرب خالطين بذلك تقاليد الصحراء العربية بتقاليد البلاط العثماني..فقد تتماثل الأسواق الشرقية في العديد من ملامحها ولكن ممارسات بحد ذاتها تميز الترك العثمانيين او الأكراد [كختان المرأة] أو الهنود لاعلاقة لها بالعرب وتقاليدهم..مما يدعونا الى التفكير بالحسبة على انها كانت محصورة في الحواضر العربية لأسلامية او ان ممارستها في هذه الحواضر كانت اثبت وافضل من ممارستها في الدولة العثمانية ..ونعرف من السجلات ان الحسبة ترتبط بالأصناف وانها استمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما عملت التنظيمات العثمانية على الغائها وتعويضها بنظام ضريبي لاعلاقة له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..ليس بسبب خطأ في الحسبة نفسها بل لأستشراء الفساد والرشى التي يطلق عليها العثمانيون (البلصة)..مع ذلك فلا بد من الأقرار ان للنخاسة اسواقها في بغداد والقاهرة ولكن هذه الأسواق اندثرت مع انتهاء عصر المماليك ولم يعد لها وجود في هاتين الحاضرتين..ويرجح ان يكون سوق الرقيق في مصر انتقل اليها من الهند او افريقيا وليس من بغداد..
أسواق القاهرة:
تختلف اسواق القاهرة ودمشق وبغداد والموصل عن اسواق تركيا وايران بظاهرتين اولهما كثرة المقاهي في الأسواق العربية وندرتها في اسواق تركيا وايران ..ففي خان الخليلي أو شارع الموسكي في القاهرة نطالع المقاعد الخشبية التي رصها اصحاب المقاهي كمقهى الفيشاوي وغيرها على جانبي الطريق بينما لانلاحظ  ذلك في اسواق اسطنبول.. كما تتكرر في اسواق المشرق العربي ظاهرة مواكب او مهرجانات الأصناف التي تديرها نقابات الأصناف بالتعاون مع ادارة المدينة والتجار..ولعل السبب في ذلك كون البضائع المعروضة في اسواق الموصل ودمشق وبغداد والقاهرة  وقونية، بدرجة أقل، في معظمها من انتاج الحرفيين المحليين تعرض جنبا الى جنب مع البضائع والسلع المستوردة وبذلك تعكس النشاط الحرفي للمدينة يتضح ذلك في نسبة الأسر في مدن بعينها الى اصناف بعينها كما في الموصل وحلب بينما تتنوع النسب لدى تجار اسطنبول حسب المناطق التي جاءوا منها أو القبائل التي انحدروا منها مع استثناءات في الحالتين..كما تعكس اسواق القاهرة وبغداد والموصل ودمشق وحلب ومراكش تأصل حالة التمدن في هذه الحواضر ..فمنها مايعود في تقاليده الى ممفيس وطيبة وبابل وايمار وابلة ونينوى وأور ومنها مايقع على طرف الصحراء ويعكس بداوتها وقرب عهدها بالتمدن..ومن الأسواق القديمة سوق القاهرة خان الخليلي الذي شيده الأمير جهرك الخليلي في عهد السلطان المملوكي سيف الدين برقوق عام 1382 في قلب القاهرة على ارض تحتضن قبور الفاطميين بعد ان امرالأمير الخليلي بنبشها ونقلها الى مكان آخر..ويعد خان الخليلي الذي تحمل إحدى روايات نجيب محفوظ اسمه واحدا من أكبر أسواق الشرق واقدمها..وأحدى أهم الملامح التراثية بعمارته القديمة في قلب العاصمة العربية العريقة ولعل أحد دوافع بنائه أحتكار تجارة التوابل التي دفعت الأوربيين الى البحث عن منافذ أخرى للشرق..وبعد قرنين من بنائه عمد السلطان الغوري الى توسيعه وتجديد عمارته بعد ان تحول الى وكر للعيارين والجماعات التخريبية ابان القرن الخامس عشر..ويشكل خان الخليلي طرف مثلث تسويقي ضخم يشمل باب الزويلة أو باب المتولي (النصر) الى الجنوب والأزبكية الى الغرب..ويمتد جنوبي السوق شارع الأزهر والى الغرب شارع الموسكي وهو سوق آخر أحدث من خان الخليلي وبالقرب من خان الخليلي نطالع مقهى الفيشاوي او مقهى المرايا الشهيرة والتي تقابل مقهى العزاوي او البرلمان في بغداد أومقهى الأدباء في الموصل..ولعل خان الخليلي يقوم على ارضية فرعونية تختفي تحتها آثارا مصرية لم يرها بشر فارضيته مبلطة بالحجر البازلتي الأسود الذي تترك عليه اشعة الشمس الساقطة من سقوفه الخشبية العتيقة بريقا لامعا يذكرنا بالضوء المنبعث من تماثيل فراعنة الكرنك..وتطل على جانبي الخان المشربيات التي الهمت خيال الروائيين المصريين فأنتجو لنا بين القصرين والسكرية وقصر الشوق وغيرها من روائع ادبية..وتكثر فيه السبيلخانات بخلفياتها المدبجة بالنحاس والمتصلة باحواض الماء ويخبرنا الرحالة تالبوت كيلي الذي زار مصر عام 1906 في كتابه (مصر في الصورة والكلمة) أنه أراد شراء نرجيلة فذهب الى سوق النحاسين:
(اردت شراء شيشة فدخلت سوق النحاسين وهو احد اجمل زوايا سوق الخليلي فالمحلات المتراصة فيه تعرض انواعا مختلفة من الأواني النحاسية..ويتفرع منه سوق الأحذية وسوق الفضة..وسوق الذهب..وتشاهد بين الناس المغربي من فاس والجزائري والتونسي والسوري والفارسي وترى تجارا من كشمير ..تراهم وسط المصريين تميزهم ملامحهم وثيابهم عن اقرانهم المصريين) ..

ويلفت انتباهنا رحالة آخر الى انواع المعروضات في سوق الخليلي فيدرج المسابح المعمولة من الفيروز والمرجان والكهرمان والعنبر والصندل واليسر والحلى الذهبية والفضية والعاجية ومااليها من الأحجار الكريمة كالعقيق والفيروز والكرنلين الأحمر الذي اشتهر الفينيقيون بتجارته ..ويحدثنا آخر عن انواع الببغاوات والطيور، ويأخذنا رحالة آخر الى انواع العطور والبخور التي تتشاطرها مصر مع الأسواق الشرقية الأخرى..
يتضح مما اسلفنا ان الأسواق الشرقية تمثل همزة وصل تلتقي عندها عبقرية المكان بعبقرية الزمان فهي اشبه بكبسولات زمكانية لأختزان الماضي والحفاظ على فضاءاته وروحانيته .. ولاسيما عندما تتكرر فيها العمارة القديمة والنشاطات التجارية القديمة نفسها..وتستمر العادات الأجتماعية والتقاليد نفسها في سياق الزمن الأسلامي القمري..حيث يتكرر المقدس الزماني من خلال الأعياد والحج وشهر رمضان ويستمر المقدس المكاني من خلال العتبات المقدسة والمساجد والجوامع والتكايا والأسواق..وهذا يفسر طلب اللورد كورزون من أتاتورك الغاء التكايا والشروع بالثقافة العلمانية في محاولة لأخراج تركيا من الحاضن الإسلامي..
أسواق الموصل:
ويشكل العراق (بعرضه وبطوله وبرافديه وباسقات نخيله) وبأسواقه وفضاءاتها الشعبية كبسولة زمكانية تفوح منها رائحة التاريخ وتتنفس في رئتها روح الماضي الحضاري للأمة ..وتعد اسواق الموصل واحدة من تلك الفضاءات الحضارية التي يتدفق فيها الماضي بالحاضر وتلتقي في عوالمها يد السلف بالخلف..وتتصل في سياقاتها ذائقة الأجيال واهتماماتهم ..وتماثل اسواق الموصل الأسواق العربية والأسلامية الأخرى في استقطابها لأهتمام الرحالة والفنانين الأوربيين ممن زار الموصل في القرون الخالية.. ولكن أسواق الموصل أكثر عراقة وتوغلا في القدم من الأسواق العربية الأخرى إذ تعود الى العهود السومرية والأكدية القديمة على الرغم من اندثار الدلالات الآركيولوجية الظاهرة فوق الأرض على تواجد هذه الأسواق في تلك العصور الغابرة..بأستناء دلائل نصية وردت على لسان المؤرخين والرحالة المبكرين تتحدث عن الجانب الأيمن لنينوى باعتباره امتدادا لنينوى القديمة او نينوى الخامسة والرابعة اللتان توازيان المرحلتين السومرية القديمة والأكدية..فضلا عن نصوص ومراسلات أيبلا وماري وكانيش وآشور التي تتحدث عن نينوى بصفتها مركزا تجاريا مهما يلتقي فيه التجار القادمين من بابل وايمار وايبلا والحواضر الفينيقية وآسيا الصغرى ومصر وتيماء..فالموصل بحكم موقعها في تقاطع الطرق التجارية الكبرى ومرور الطريق الملكي المتصل بطريق الحرير بها كانت ومنذ العهود القديمة احدى اكثر المراكز التجارية اهمية في الشرق الأدنى..وقد افضى الموقع الستراتيجي المهم هذا الى تطوير الصناعات المحلية التي تعتمد على الثروات النباتية والحيوانية المتنوعة المتوفرة في الجبال والسهول المحيطة بالموصل..غير ان اقدار المدينة التجارية واسواقها كانت تتقلب بين الأزدهار والتقهقر تبعا لطبيعة التناحرات السياسية والعسكرية في الشرق الأدنى..وذلك على خلاف اسواق الشرق الأخرى المستقرة نسبيا عبر التاريخ..وهذا يفسر الأختلافات في وصف المدينة من عصر لآخر..مع ذلك نلاحظ ايضا ان المؤشر العام يتجه ايجابا اي نحو استرجاع الموصل لأهميتها وبالتالي ازدهارها اقتصاديا..لأن السياسة لاتغير الجغرافيا ولا تعطل منتوج الأرض على الرغم من عنف الهجمات التي تعرضت لها المدينة وتعدد الأنتكاسات التي تعرضت لها ولجوء الغزاة الى سياسة الأرض المحروقة ..فسهل الجزيرة والجبل لم تنقطع فيهما شرايين الحياة واستمرا في رفد الموصل بالأخشاب والثمار والأصواف والعسل و المكسرات كالجوز والفستق ومنتجات الألبان التي اشتهرت الموصل منها بالقيمر..كما صب التنوع الإثني وتعدد الجماعات الدينية في صالح التجارة بما اضفاه من مهارات متنوعة في كل المجالات..ونعلم من كتابات الملك سنحاريب انه طور "نبات الصوف" في الموصل ويقصد به القطن وانه خصص جزءا من الجانب الأيمن لدجلة لحدائق بث فيها الطيور الغريبة المتنوعة ..وهو الجانب نفسه الذي تقع فيه منطقة الفيصلية..ولعله في المنطقة الواقعة خلف السكيلا حيث بستان الزيتون الذي يعود لبيت عبو اليسي بالأرجح..
ولابد ان يكون الجانب الأيمن في العهود القديمة معمورا لأهميته الستراتيجية والدفاعية لنينوى ولاسيما وان ملوك العراق قديما درجوا على بناء تحصينات دفاعية على جانبي نهري دجلة والفرات والزابين وميتورنات "ديالى" بما تؤكده الدراسات الآركيولوجية ..هذا فضلا عن ضرورة اعمار تلك الأراضي اي الموصل القديمة مجالا حيويا للأمبراطورية ولميرة الجيش..وما ارتفاع الحدباء في قلبها ومرتفعاتها على الضفة الا دليل على أن الموصل كانت آهلة منذ الألف الثالثة ق.م. وليس ثمة من شك في سعة اطلاع ومعرفة المؤرخ ادورد جيبون في الجغرافية القديمة من كل جوانبها.. الذي ذكر ان الموصل كانت الضاحية الشرقية لنينوس [نينوى]، المدينة التي اعقبت نينوى..ويخبرنا بنيامين توديلا الذي زار الموصل في السنة التي تولى فيها نور الدين زنكي الموصل بعيد وفاة اخيه (أن الموصل يطلق عليها آشور الكبرى) حيث كانت مملكة فارس تابعة للموصل وكانت الموصل في تاج ازدهارها ورونقها ..وهذا يعكس طبيعة النظر الى الموصل على عهد الأتابكة..هذا على الرغم من استمرار اسم الموصل الذي اطلقه عتبة بن فرقد عليها ..وهو الأسم الذي يشاكه كثيرا [مسبيلا] الواردة في رحلة زينوفون بمحاذاة الشاطيء الأيسر لدجلة..
فالموصل او بالأحرى اسواقها لايمكن بأي حال من الأحوال مقارنتها بمدينتي بغداد او القاهرة وقريناتهما ممن شيدت لاحقا في العهود الأسلامية ..ولابد من الأحاطة بعالمها من خلال المخيلة ومن خلال ماجادت علينا به كتب الرحلة المبكرة التي اشارت الى عصور ازدهارها وتألقها..ومن الرحالة الأوائل ماركو بولو الذي زار مملكة الموصل عام 1271 أي بعد زيارة بنيامين توديلا لها بقرن فقال في وصفها:
(حول مملكة الموصل: تقع مملكة الموصل على الحدود الجنوبية الشرقية لأرمينيا، وهي مملكة عظيمة جدا يسكنها العديد من الأطياف المختلفة من الناس وسنتطرق الى وصفهم الآن: أولا، هناك ضرب من الأقوام يطلق عليهم العرب، وهم يعبدون محمد؛ ثم هناك ضرب آخر من الأقوام هم المسيحيون النسطوريون واليعاقبة. ولهؤلاء بطريرك يسمونه الجاثليق ويقوم هذا البطريرك بتنصيب المطارنة والرهبان والأساقفة والدرجات الأخرى كلها ويرسلهم الى المناطق كلها كالهند وبغداد او إلى الصين تماما كما يفعل بابا روما في البلدان اللاتينية. لأنك يجب ان تعرف أنه على الرغم من وجود عدد كبير من المسيحيين في هذه البلدان، فأنهم برمتم يعاقبة ونسطوريين، وهم مسيحيون فعلا، ولكن ليس من الطراز الذي يتبع بابا روما، بسبب اهمالهم لفروض عديدة يقتضيها الدين.
وتصنع كل الأقمشة الموشاة بالذهب وكذلك الحرير المعروف بالموسولين [الموصلي] في هذا البلد، ويطلق على اولئك التجار الكبار الذين يحملون كميات كهذه من التوابل واللآلي والأقمشة الحريرية والمذهبة، وهم من هذه المملكة، الموصليين.
وهناك ايضا جنس آخر من الأقوام ممن يسكن الجبال في تلك المناطق يطلق عليهم الأكراد. وبعضهم مسيحيون وبعضهم مشارقة [سراسين]، ولكنهم ذرية شريرة، مسرتها في نهب التجار. وبالقرب من هذه المنطقة أماكن [مدن] أخرى تسمى موس وماردين، تنتج كميات هائلة من القطن الذي تصنع منه كمية عظيمة من البخرم [قماش قطني متين] وأقمشة أخرى. والسكان أصحاب اصناف وتجار وكلهم من رعايا ملك التتر.)
فماركو بولو يؤكد ان الموصل كانت تنتج في عصره الأقمشة الموشاة بالذهب وكذلك الحرير المعروف بالموسولين وان تجارها الكبار يحملون كميات مماثلة لما يحملونه من الأقمشة الموشاة بالذهب والموسولين،  من التوابل واللآلي والأقمشة الحريرية والمذهبة غير اننا نذهل ازاء وصف تافرنير وجيمس سيلك بكينهام وواليس بج الذين زاروا الموصل في  1665 و  1823 و 1911 على التوالي ووصفو المدينة وسوقها ..وكانت انطباعاتهم سلبية كما سنرى بعد استعراض آراء الرحالة الأوائل ومشاهداتهم.. وبعد زهاء 100 سنة او اقل زار ابن بطوطة الموصل وقال في وصفها في معرض رحلته اليها عام 1328
(وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور محكم البناء مشيد البروج ..وللموصل ربض كبير فيه الجوامع والحمامات والفنادق والأسواق وبه مسجد جامع على شط الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتصل به مساطب تشرف على دجلة في النهاية من الحسن والإتقان ..وقيسارية الموصل مليحة لها ابواب حديد تدور بها وبها دكاكين وبيوت بعضها فوق بعض متقنة البناء)..
يصف ابن بطوطة الموصل بالعتق والخصب ويتطرق الى جوامعها وحماماتها وخاناتها واسواقها العديدة التي يميزها عن القيصرية التي عدها بكنكهام افضل سوق في الموصل..ويبدي اعجابه بالدرابزين الحديدي الذي يحيط بالمسجد الجامع الذي بناه مروان الثاني والمصاطب المشرفة على شط دجلة وشبابيكه الحديدية المميزة لبيوت الموصل القديمة، ويصف النافورة الرخامية مثمنة الأضلاع في الجامع النوري (وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث وفي صحن الحديث منهما قبة في داخلها خصة رخام مثمنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوة وانزعاج فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأى حسن)..ويصف القيصرية بانها محمية بأبواب من الحديد وانها تحتضن دكاكين وبيوت (غرف) بعضها فوق بعض وهو الوصف عينه الذي قدمه بكينكهام للقيصرية عام 1823..ونلاحظ من وصف ابن بطوطة للموصل انه لم يشاهد اي اثر للخراب الذي احدثه المغول في المدينة عام 1261..!ذ تذكر المصادر انهم اعملوا السيف في رقاب اهلها فقتلوا قرابة 800.000 من سكانها ..مما يرقى الى الإبادة الجماعية ويشير في الوقت نفسه الى ان حركة اعمار اعقبت الأعصار المغولي الذي اصاب الموصل يفسر ذلك وصف ابن بطوطة للمدينة وربضها..كما شهدت الموصل خرابا مماثلا على عهد تيمورلنك الذي غزاها عام 1393 وغادرها كومة من الخرائب..لتمر الموصل ومعها الشرق الأدنى في المرحلة الثانية من عصور ظلامها الثلاثة بدءا بالغزو المغولي فغزو تيمورلنك ثم المرحلة العثمانية ..مما يحصر عصور نهضتها بخمس مراحل هي: الكلاسيكية على العهد الأكدي الآشوري او مرحلة تأسيس الحصن الغربي الممتد من قلعة باشطابيا حتى القليعات، وعصر الخلافة الراشدية، فالموصل الأموية، فالعهد الأتابكي ثم الفترة الجليلية..
وتدل سرديات الرحالة الأوربيين الذين وفدوا الموصل في عصور التردي على ما اصاب الموصل من خراب ولحق بها من اتلاف للحرث والنسل على يد الأقوام الآسيوية البربرية التي لاحظ لها من التمدن والتحضر التي اقتصرت قدراتها على القتل والأبادة والنهب والتخريب..مما ادى الى تأخر التجارة وتراجع المنتوج الزراعي وزوال الحرف فتضاؤل عدد السكان بسبب الأوبئة والمجاعات والهجرة..فضلا عن الحروب وانعدام اسباب الأمن..
وكان من زوار الموصل الرحالة الألماني ليونارد راولف الذي زار الموصل عام 1574 الذي يذكر في معرض رحلته:
(ودخلنا الى مدينة الموصل الشهيرة من جسر مصنوع من الزوارق وتعود الموصل الى الأمبراطور التركي كبقية البلدان في المنطقة..وهناك في الموصل بعض المباني الممتازة والشوارع وهي مدينة كبيرة الى حد ما ولكن تنقصها الأسوار والقنوات، كما شاهدت من اعلى مكاني الذي يشرف عليها..وبالأضافة الى ذلك رأيت تلا صغيرا قد حفرت اخاديد فيه يوطنه الفقراء كنت اراهم يدخلون ويخرجون مثل بقايا تتركها اسراب النمل بالقرب من مغاورها..في هذا المكان ومحيطه كانت تقع مدينة نينوى التي بناها آشور وكانت عاصمة بلاد آشور على عهد سنحاريب وأولاده)..
أما تافرنير الذي زار الموصل عام 1665 فيرى ان الموصل ليست جديرة بالزيارة وانها كانت قد فقدت كثيرا من معالمها واهميتها في وقت زيارته إذ يقول في معرض رحلته:
(الموصل مدينة ذات منظر رائع من الخارج..ولكنها في داخلها تكاد تكون خرائب في معظمها ولها سوقين اعميين وقلعة صغيرة مطلة على دجلة حيث يقيم الباشا.. وبكلمة أخرى لايوجد في الموصل مايستحق المشاهدة.. والمكان يعد معتبرا للتعامل التجاري الواسع بين التجار من العرب والأكراد الذين تنمو في مناطقهم كميات كبيرة من اشجار الجوز والبلوط التي ادت الى تجارة كبيرة ..والموصل يحكمها باشا بأمرته 3000 من الأنكشارية والأسباهية..وهناك حانتين (مقهوين) بائستين في الموصل..ولكن لنعبر جسر القوارب عبر دجلة لنشاهد خرائب مدينة احدثت جلبة كبيرة في العالم، على الرغم من اختفاء اي ملمح من تألقها في العصور القديمة..نينوى التي شيدت على الشاطيء الأيسر لدجلة والتي اصبحت الآن أكواما من النفايات تمتد مسافة فرسخ في محاذاة النهر..وفيها عقود ومغاور كثيرة لا يسكنها أحد..ولانعرف ان كانت الأقوام السالفة هي من بناها ام الأتراك فهي اشبه بالسراديب وفيها مايرتفع طابقا عن الأرض..وعلى مسافة نصف فرسخ شاهدنا تلا في قمته جامع تحيطه البيوت، يذكر القرويون انه المكان الذي دفن فيه يونس ويكنون لهذا المكان تبجيلا كبيرا بحيث انهم لايسمحون للمسيحيين بدخوله بدون دفع مبلغ من المال الذي تمكنت بواسطته من دخول الجامع بصحبة اثنين من الرهبان الكابوشيين [الفرنسيسكيين]..ولكنهم الزمونا بخلع احذيتنا أولا..في وسط الجامع يوجد ضريح مغطى بسجادة فارسية من الفضة والحرير وفي زواياه الأربع شمعدانات نحاسية كبيرة تتوسطها الشموع والعديد من المصابيح وفي وسط السقف تتدلى كريات زينية ملونة اشبه ببيض النعام ..ورأينا عددا كبيرا من المغاربة خارج الجامع وفي داخله يجلس درويشان يقرءان القرآن) 
يتضح من اسلوب تافرنير الساخر انه لم يستغرق كثيرا في وصف المدينة..ولكنه اشار الى واقعة غريبة تؤكد معرفة الرحالة الأوربيين بموقع نينوى قبل اكتشافها من قبل لايرد ب 200 سنة كما ترينا ان تلقوينجق كان قد هجر بعد ان عرفنا من الرحالة اللماني ليونارد راولف انه كان مأهولا بالفقراء..كما يبدو ان المغاربة كانوا يتوافدون الى المنطقة بحثا عن كنوز الاشوريين..وهي عادة استمرت حتى سبعينيات القرن الماضي وفق معلومات شخصية لدي..كما لانعرف اية من الأسواق التي وصفها بالبائسة كان قد زار! أهو سوق الشعارين وان كان ذلك كذلك، فلماذا لم يتطرق الى النبي جرجيس وهو المسيحي الورع..ام هو سوق الأربعاء الذي لم يتطرق اليه عند مروره برأس الجسر لعبور جسر القوارب ام هو شهرسوق..على اية حال لايمكن التعويل على رحالة بمفرده.. لذا ننتقل الى بدايات القرن التاسع عشر والى رحالة اسهب في وصف الموصل لنرى مالذي قاله في اسواقها..
نتعرف من خلال جيمس سيلك بكينكهام 1823 على حقائق كثيرة عن الموصل واسواقها وعن تاريخها ونرى انها قاست من قبل اعدائها واصدقائها معا فلا غرابة ان يتساءل ونتساءل نحن معه عن سر احتفاظ الموصل بجانب من رونقها القديم (وعندما دخل المغول الموصل قتلوا قرابة 80.000 من سكانها حتى ان دجلة طفح بامواج من الدم ثم خربت مجددا عندما دخلها تيمورلنك في سياق غزوه العراق فمن الغريب حقا انها مابرحت تحتفظ بجانب كبير من تألقها الذي عرفت به في العهود الماضية؟) ويدلف بكينكهام الى اسواق الموصل فينقلنا معه الى فضاءات الموصل قبل قرابة 200 سنة .. فلنتجول معه في مدينتنا ونطلع عليها من خلال عيون اجنبية:
(واسواق الموصل، على الرغم من انها ليست برونق اسواق القاهرة، بأستناء سوق واحدة، [يقصد القيصرية] عديدة، ومجهزة تجهيزا حسنا بوفرة من كل ضروريات الحياة؛ غير ان هذه الأماكن التي يرودها الناس وغالبا ماتكون مفتوحة ومسقفة، وسخة في معظمها..ولاتتميز بالتناسق والنظام الذي نألف رؤيته في هذه الأنحاء من المدن الشرقية..ولكن هناك سوق واحدة تباع فيها انفس السلع والبضائع افضل كثيرا في عمارتها وتصميمها من الأسواق الأخرى، وهذه السوق مليئة في الأوقات كلها بأفضل السلع مما تنتجه اوربا والهند..ومقاهي الموصل عديدة وهي كبيرة على العموم، ومنها ميشغل جانب الطريق بطوله على امتداد مئات الياردات وعلى طول الزقاق بمقاعد خشبية مرصوصة على الجانبين تغطيها سقوف او حصران توفر لها الظل في الصيف والستر من المطر في الشتاء..وحمامات الموصل كثيرة اذ يبلغ عددها 30 حماما..ولكني على الرغم من مشاهدتي مصحوبا الى احسنها، لم اجد فيها مايمكن مقارنته بحمامات القاهرة او دمشق او حلب، لافي مظهرها ولا في تسهيلات الراحة فيها ألا أن طريقة الأستحمام فيها متماثلة تماما بدون اعتناء بالتفاصيل سواء من قبل صاحب الحمام [الحمامجي] او من قبل العاملين في الحمامات كما في المدن الكبرى في مصر وسورية..ويبلغ عدد الجوامع في الموصل 50 جامعا 30 منها صغير الحجم وعادي و20 منها كبير في عمارته.. واكبر جوامعها مبني من الطابوق تنطلق منارته المستديرة من قاعدة مكعبة هائلة في قاعدتها..وتغطي سطحه النقوش والزخارف العربية المنفذه بطريق ترتيب الطابوق على نحو تكون صفوفه مرتفعة في نسق وواطئة في آخر..وكان الجامع الذي شيدت فيه هذه المنارة غاية في الأتقان والروعة ..إلا أن يد الخراب نالت منه في الوقت الحاضر)..
نلاحظ فيما سبق من وصف للرحالة الأنكليزي بكينكهام ان الموصل ارتدت عن سابق رقي وتراجعت عن سالف مجد في عمارتها واقتصادها واسواقها..ولا ريب ان السبب لايعود الى اهلها بل الى الدخلاء عليها من الغزاة المتعطشين للدماء والطامعين بخيرات الأرض الكريمة في الوقت الذي لم يتعرض المغول ومن بعدهم تيمور لتبريز وشيراز وطهران وغيرها من المدن والأسواق الفارسية او التركية بالأذى  ..وهو يصف الموصل العثمانية الجليلية التي استردت جانبا من مجدها وإزدهارها اللذان شهدتهما على العهدين الأموي والأتابكي غير انها بقيت تعاني من اهمال ميز الإدارة العثمانية للولايات في ذلك العهد..إذ يعود ليخبرنا:
(وتجارة الموصل التي كانت هائلة في الماضي، تقلصت الآن الى ادنى دركاتها..هذا على الرغم من وجود بعض التجار ممن يتنقل بين الموصل وحلب حاملا منتوج الجبال والسلع الهندية القليلة التي تصل الموصل من البصرة لأستبدالها في سورية بالسلع الأوربية..كما تؤخذ السلع الهندية ايضا الى طوقات والأقاليم الأبعد في آسيا الصغرى لتستبدل بالنحاس الذي ينقل الى بغداد..والصناعة الوحيدة التي مازالت باقية في الموصل هي صناعة الأقمشة القطنية التي تصبغ باللون الأزرق وتستخدم في صناعة الثياب للشرائح الفقيرة في المدينة).. 
أين الموسولين؟
بالأضافة الى القطن والبروكيد والتافتا وهي كلمات عربية دخلت اللغات الأوربية، اسهمت الموصل الى العالم بمفردة ارتبطت بأسمها منذ القرن الثالث عشر في ايطاليا وفرنسا، ومنذ القرن السابع عشر في بريطانيا..هي الموسولين او الموسلين.. والموسلين نوع من الأقمشة ناعمة الملمس متقنة النسج كانت تصنع في الموصل على العهد الأتابكي ويصور ماركو بولو الموسلين على انه قماش محبوك من الحرير والذهب..ولكن معنى الموسولين تغير لاحقا ليعني نوعا من الأقمشة القطنية رقيقة الملمس تستخدم في اغطية الأسرة وفي القمصان والثياب ..وغالبا مانشاهد الموسولين في لوحات فنية تصور ملكات النمسا وفرنسا كماري تيريزا وماري انطوانيت مما يشير الى انتشار هذا النوع من القماش الموصلي في اوربا في القرن الثامن عشر وندرته الا اننا نراه على ماري انطوانيت ثوبا ابيضا رقيقا اشبه بالشاش الأبيض..والأغلب ان الموسولين كان قماشا فضيا مذهبا رقيق الملمس يترك انطباعا بالراحة واليسر في ارتدائه وانه كان يصنع من خيوط ذهبية وفضية ربما دخل فيها الحرير والخيوط الذهبية والفضية ليست من الذهب والفضة بل تلون احيانا بألوان ذهبية وفضية..وان افترضنا ان هذا القماش لاوجود، له فلابد من تفسير انتشار مفردة الموسلين وارتباطها بالموصل عبر القرون الوسطى وحتى الوقت الحاضر..الأمر الذي يؤكد وجود مثل هذا القماش وأن الموصل هي من كان يصنع هذا القماش ويتاجر به..ولكن اين الموسولين؟ كما يتساءل الرحالة واليس بج الذي زار الموصل عام 1911؟ لنشاهد حالة اسواق الموصل في بدايات القرن العشرين في رواية هذا الرحالة في كتابه "على ضفاف النيل ودجلة":
(ومباني سوق الموصل بالمقارنة مرتفعة، و تجري فيها تجارة واسعة..ولكن الرحالة الذي زار اسواق اسطنبول والقاهرة وبغداد لايجد في اسواق الموصل الكثير مما يثير اهتمامه..فلم اجد سوقا للتحف ولم يكن لدى التجار الذين يتعاملون بالأقمشة مايعرضونه باستثناء الأقمشة الأنكليزية من مانجستر والمنسوجات الحديثة من حلب..وقد طال سؤالي من غيرما جدوى عن عينة من [الموسولين] الذي اخذ تسميته من مدينة الموصل واشتهر في المشرق كله بسبب الوانه الجذابة وجودته، ولكن كل مارأيته كان قد صنع في انكلترة وقد لف على الواح كرتونية انكليزية وغلف بورق أنكليزي وختم بالعلامات التجارية لصناع انكليز ذائعي الصيت..وفي احد المحلات رأيت عقاقير ايطالية تحمل اسماء لاتينية وطنجرة نحاسية كبيرة لطبيب ايطالي كان قد جاء من جزيرة ابن عمر..ويلعن اهل الموصل الكلاب كلها بأستثناء السلوقي، ولكن مع كل التناقضات التي يتصف بها المشارقة، نجد ان المسلمين والنصارى يشترون خبزا من الأسواق في ايام الجمع ليطعموا به الكلاب الجائعة المنتشرة في الطريق الى المقابر لزيارة قبور موتاهم..ولاحظت ان المسلمين ينفقون كثيرا من المال لشراء الخبز للكلاب.. ولم اجد سكائر معروضة في السوق.. وماوجدته نوع من التبغ يطلق عليه "التتن" ويباع على شكل أوراق كبيرة يقوم الزبون بتكسيرها وسحقها ثم لفّها بورق الواحدة منها ضيقة في احدى نهايتها وكبيرة في الأخرى وغالبا ماتنفتح من تلقاء نفسها فيسقط محتواها على ثياب المدخن..وهناك العديد من الجوامع والمساجد في المدينة غير ان احدا منها لم يلفت انتباهي من الناحية المعمارية..ولكن أفضل ملامح الجوامع منائرها التي تعطي للموصل منظرا أخاذا..ولكن معظم المنائر لايقف باستقامة ومنارة الجامع الكبير المعروفة بالحدباء منحنية وفيها انتفاخ واضح في أحدى جوانبها..وكانت بعض القبب والمنائر مزخرفة بالخزف المزجج والمنظم بانساق غاية في الجمال والأخرى بالفسيفساء الحجري غير ان نزرا قليلا فقط بقى من تلك الزخارف في مكانه..ويقينا فان منارة مزخرفة بالقرميد المزجج اللامع لهي ملمح غاية في الروعة ..غير اني لم اجد مؤشرا على اي جهد للحفاظ على المباني الأسلامية وترميمها او صيانتها..ويبدو ان الميل السائد هو في في ترك جدار او قنطرة او قبة ليد البلى ثم اصلاحها بعد ان تؤول الى الخراب)..
في هذا النص، يميط واليس بج اللثام عن طبيعة التحولات الكبيرة التي تعرضت لها الموصل في عمارتها واسواقها على نحو مماثل لجيمس سلك بكنكهام .. بعبارته ذات الدلالات العميقة (وكانت بعض القبب والمنائر مزخرفة بالخزف المزجج والمنظم بانساق غاية في الجمال والأخرى بالفسيفساء الحجري غير ان نزرا قليلا فقط بقى من تلك الزخارف في مكانه) مما يشير الى حجم الخراب الذي نال الموصل بسبب ماتعرضت له من اهمال على العهود التركمانية ثم ما اصابها من إذى من جراء الغزو الفارسي الذي اتمم به نادر شاه ماقام به اسلافه هولاكو وتيمور من تخريب للمدينة وتدمير لمعالمها وصروحها واسواقها ومبانيها وصناعتها واصنافها..فللموصل جذورا ضاربة العمق في التاريخ الحضاري للشرق الأدنى..وأسواقها أقدم من اسواق اسطنبول وقونية والقاهرة واسواق شمالي افريقيا بل واسواق دمشق وحلب على الرغم من عتق اسواق هاتين المدينتين..غير ان المدن المذكورة لم تتعرض لما تعرضت له الموصل من عدوان وتخريب جاء على الحرث والنسل ودمر مظاهر الحضارة والتمدن وعطل فيها اسواقها ونتاجها ..فواليس بج يسأل متحيرا عن عينة من الموسولين..ولم يجدها ..والمشكلة ان احدا من التجار من اهل الموصل في باب السراي حيث سأل عنها لم يسمع او يعرف شيئا عن الموسولين.. بل وربتما ظن انه يسأل عن قماش أنكليزي وليس عن قماش موصلي فأخرج له اقمشة انكليزية ..ولو افترضنا جدلا أن واليس بج اسهب قليلا مع التاجر الموصلي فوصف له رحلة ماركو بولو وحدثه عن الموسولين وارتباطه تسمية وتصنيعا بمدينة الموصل، فأني لا أخ

20
عرفة (كركوك) في النصوص المسمارية القديمة




صلاح سليم علي

مقدمة
إن التراث ذاكرة الأمة والكتابة فيه محاولة للحفاظ على هذه الذاكرة؛ بل هي أشبه بأعادة بناء أسوار بابل ونينوى وبغداد وعرفة (كركوك) وأرباأيلو (أربيل) وسواها من حواضر المجد المؤثل..بلغة الأسلاف هذه المرة..وقد اتخذت أبجدية الصحراء بيرقا وأزميلا ونبراسا ذهبيا لها...وفي البحث الآتي أتناول تاريخ أحدى المدن الرافدينية الأكدية الآشورية القديمة التي تشكل مع أربا ايلو شمالا وبيرتا (تكريت) واوباسا (الحويش) جنوبا سورا خارجيا أشبه بالدريئة أو بالقوس الدفاعي عن نينوى وطربيشو ومسبيلا (الموصل) ومدينة سرجون ونيميت عشتار (تلعفر) وكارنا (تل الرماح) وكالخو (النمرود) في حال تعرض حواضر التمدن الرافديني للهجوم من قبل الأقوام القاطنة فيما وراء جبال زاموا (السليمانية)..أي أقوام زاكروس كالكوتيين واللولابيين والكاشيين، الذين قرنهم الدكتور طه باقر ببحر قزوين وعدهم من المتحدرين من تلك المناطق على سواحل ذلك البحر..ودوافعي في كتابة هذه الدراسة المقارنة بين النصوص المسنودة بالشواهد الآركيولوجية والتاريخية على جزرية عرفة (ارابخا) أو كركوك في الوقت الحاضر، من تلك التي ترتكز على مزاعم وافتراضات ولاسيما عند مقارنتي لنص وضعته مراكز بحث تابعة لوزارة الدفاع الأميركية تجعل عرفة عاصمة للكوتيين الذين تشهد المصادر التاريخية كلها أن لاحظ لهم من حضارة او تمدن ..وبالعكس فماتأكد عبر التاريخ وبالوثائق الأكدية والبابلية والآشورية ضلوع هذه الأقوام المتبدية بالقرصنة والأغارة على مراكز التمدن في وادي الرافدين.. هذا فضلا عن شهادة الكتابات التاريخية المحفورة على الجداريات والثيران المجنحة التي تملأ القصور والمعابد والصروح الأكدية والآشورية في مدن الشرق الأدنى وفي قمم الجبال..فقد درج ملوك العراق على تدوين تاريخ بلادهم في كل مكان في عمارتم وعلى الرقم الطينية وفي المسلات التي تنتشر في جبال طوروس وزاكروس فضلا عن مدن القلب الآشوري إذ نقرأ في نص رسالة موجهة من الحاكم الآشوري لعرفة الى سرجون الثاني (721 ق.م. – 705 ق.م.) انه تلقى خطابا من أحد موظفيه يسأله فيها فيما اذا يوافق الملك على الكتابة على جدران المعبد؟ ثم أضاف: (إني راسل الى سيدي الملك: أكتب لي نموذجا من النص ..وليكتبوا بقيته ويضعوها عند جدران المعبد)..ويتضح من هذه الرسالة التي اوردها الآثاري الفنلندي سيمو باربولا..أن عرفة كانت مركزا اداريا وتجاريا نشطا ..فضلا عن كونها مركزا متقدما، على غرار واسط والقيروان والفسطاط في العهود الإسلامية، لأنطلاق الجيوش ألآشورية..  كما أن محاولة فرض المشروعية من خلال التزوير من قبل احفاد تلك الأقوام يلحق ضررا كبيرا بالأجيال القادمة..لأن سرقة الأرض هي سرقة المستقبل بل هي مصادرة الحرث والنسل من اصحاب الأرض ومنحها لمن لايستحقها ولايخول له التاريخ استحقاقها..ولأن مايحدث من خلط وتزوير للأوراق أنما يحدث في سياق فرض ارادة الأحتلال بطريق تكوينات افتراضية الهدف منها سرقة الموارد بوضعها بيد السراق من خلال التدخل الواضح في تغيير القوانين العراقية وهو تغيير بدأ بالقوة العسكرية والعدوان وفرض تغييرات ديموغرافية وقانونية وتمريرها بالخداع ، بل وفي سياق تخنيث الحضارة العربية باسرها وإذلالها؛ اصبح لزاما وطنيا وأخلاقيا التصدي لمحاولات الغزو بأدواته الجديدة (الدستورية) هذه المرة، كما تصدى اسلافنا للغزو بأدواته القديمة..هذا من جانب، ومن جانب آخر لاحظت ضجة كبرى في ميدان الدراسات والبحوت والمقالات الحديثة حول عرفة معظمها مسيس أو تتبطنه دوافع وأهداف سياسية لا تتناول تاريخ المدينة ومؤسسيها الأكديين والآشوريين من قريب أو بعيد بل تركز على حقانية الغزاة الذي غزوا العراق من اسر مغولية وتركمانية ومن الجماعات الأثنية المدعومة من الصهيونية وإرادة الإحتلال، ولاريب أن هؤلاء الكتاب ليسوا عربا  أو آشوريين ممن أسس أسلافه هذه المدينة وعمرها..ولهذا ٍجاء اختياري أن انتهي حيث يبدأون أي في نقطة التقاء المشروعية بالغزو، والنظام بالفوضى، وتاريخ بلاد الرافدين، بآسيا الوسطى ومنغوليا وجبال زاكروس وطوروس و طوران..وبكلمة أخرى بين الخلافة العباسية وريثة أرام وآشور وكلدة ب طغرل بك وخوارزم شاه ونادر شاه وسليمان القانوني، وفي ذاكرتي مجازر هولاكو وتيمورالقبيح واقرانهما ممن لاحظ له في مدنية او تحضر وممن لم يضع لبنة في سور عرفة وقلعتها العتيقة أو أي من المدن العراقية الأخرى..وسأتناول مدينة عرفة عبر التاريخ ثم اعرج على دورها وأهميتها من خلال عرض النصوص الآشورية القديمة منذ عصر شمشي أدد الأول وحتى المراحل المتأخرة في التاريخ الكلاسيكي وصولا الى الألف الأول للميلاد..
تسمية عرفة وتحولاتها:
لقد أثار اسم عرفة والتغيرات التي طرأت عليه عبر العصور أهتمام البحاثة والدارسين فقديما تتأرجح تسميتها بين عرفة وعرابخا وارابخا ..ولعل (خا) هنا تعني مكان أو ارض على غرار (كيرخا) الأكدية .. أما اسم كركوك فقد ورد اول مرة في كتاب (تاريخ تيمور) لشرف الدين علي يزدي نصيا [بعد غزو العراق إتجه تيمورنحو دياربكر بطريق طاووق، داقوقا الآشورية و "داقوق عند العرب" ومنها الى كركوك فألتون كوبرا وغادرها في 20 كانون الأول 1407]. وهي كلمة مركبة من كرخا العربية والتي تطلق على الكرخ في بغداد وبيت السريانية ..ثم اضيفت اليها على عهد السلوقيين كلمة (سلوخ) التي تعني القائد سلوقوس الذي بنى برجا في قلعتها الآشورية واعاد إعمار أسوارها ولعل المقطع الأول (كر) من كركوك مأخوذ من كور التي يطلقها البلدانيون المسلمون كأبن خردادبيه والبلاذري والحموي على الموصل (كور الموصل) ويعنون بها قصبة او مكان ومنها اصل كلمة قرية العربية وكار (مدينة) الآشورية؛ بذلك تكون كركوك اصلا "كوركرخا" التي صحفت لتصبح "كركوخ" ثم كركوك تباعا. ويطلق عليها البلدانيون المسلمون اسم (كرخيني) الذي يتناوله الدكتور مصطفى جواد بتحليل ممتع نقتبسه لأهميته في تأصيل عرفة (كركوك) يلفظها العراقيون بفتح الكاف ويكسر الافرنج كافها فيقولون كِركوك، ولعلهم أخذوا ذلك عن كتب بعض السياح من الافرنج أيضا. وقد اجتمعت في هذا الأسم ثلاث كافات فصار من الأسماء النادرة من حيث الحروف، وتركيبه اللفظي يدل على أنه من الأسماء السامية أي الآرامية وكذلك القول في "الكرك" التي هي في الأصل جبل لبنان. والكرك اسم قلعة حصينة جداً في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها بين أبلة "العقبة" وبحر القلزم "البحر الأحمر" و"بيت المقدس" وهذه الصورة اللفظية قريبة من "الكرخ" السامية أيضاً وكلتاها تدل على الحصن والقلعة، ولذلك تعدد "الكرخ"و"الكرك" فمن الكروخ كرخ باجدا وكرخ البصرة وكرخ جدان وكرخ ميسان وقد يزاد على هذا الاسم لتأدية زيادة في المعنى مثل "كركين" اسم قرية كانت من قرى بغداد ممثل "كركين" التي يثبت الوصف الجغرافي انها كانت من قرى بغداد مثل "كرخيني" : التي يثبت الوصف الجغرافي انها كركوك الحالية. قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان): "كرخيني بكسر الخاء المعجمة ثم ياء ساكنة ونون وياء، وهي قلعة في وطاء من الأرض حسنة حصينة بين داقوقا وأربل رأيتها وهي على تل عال ولها ربض صغيرة". ومعنى هذا أن ياقوت الحموي المتوفي سنة 626هـ ـ 1228م، رأى قلعة حصينة في أرض سهلية لا جبلية بين "داقوقا ـ طاووق" و"أربل ـ أربيل" وحولها دور ومساكن وهي تسمى" كرخيني" وتلفظ "كرخينة" على التقريب، وهذا الوصف الجغرافي ينطبق تمام الانطباق على "كركوك" الحالية ويؤده التقارب بين حروف الاسمين. وكأن لتلفظها صورة أخرى في القرن السادس للهجرة وهي "كرخاني" كما جاء في سيرة صلاح الدين الأيوبي لأبن شداد الموصلي (ص192) و(تأريخ بني سلجوق) لصدرالدين ناصر الحسيني (ص179). وهذا الاختلاف يدلنا على أن أهل العصر الواحد قد يختلفون في تلفظ اسم واحد.
ان تاريخ كركوك وتسميتها "كرخيني" أو "كرخاني" ثم "الكرخين" لا يزال مجهولا مثل تواريخ كثير من المدن التي لا تزال تنتظر سعادة حظها بانكشاف تواريخها بالاستحالة والحفر وبظهور مصادر تاريخية جديدة وليس من التحقيق في شيء اصطياد التشابه بين الأسماء لاطالة الدعوى كقول من قال إن كركوك أصلها "كرخ سلوخا" وأن "كرخ سلوخا" أصلها "كرخاد بيث سلوخ" أي مدينة السلوقيين. فمن ينقل هذا القول يحجج  قبل كل شيء الى وصف جغرافي بعين موضوع "كرخ بيت سلوخ" ويجعله في موضع كركوك بالضبط والتحقيق والاّ فلا فائدة من تقارب الاسمين اذا اختلفت البقعتان. وقد أشرنا الى تعدد "الكرك" و"الكرخ" فكرخ سلوخي، هي غير "الكرخيني") إنتهى الأقتباس..
عرفة (كركوك) عبر التاريخ:
عرفة الأكدية، كارخا السلوقية، كارها السريانية، كرخيني الإسلامية، كركوك المعاصرة إحدى أهم مدن القلب الآشوري تقع في همزة الوصل بين الأراضي الجبلية الممتدة شرقا والمتصلة في عمق زاكروس من جهة وسهول الرافدين الممتدة من اعالي دجلة والفرات شمالا والبحر المتوسط غربا والخليج العراقي جنوبا وفي نقطة التقاء التجارة الوافدة من الشرق الأقصى ووسط ىسيا الى العراق وتركيا وبلاد الشام..وبهذا تقع عرفة ضمن المجال الجزري جغرافيا والرافديني حضاريا ..أذ تختلف في عمارتها وتقاليدها الحضارية وأثنيتها أختلافا جوهريا عن ثقافة الجبال المميزة لحضارة حسنلو والأقوام البدائية والرعوية كالكوتيين والكاشيين وقبائل زاكروس المتنقلة والتي لايذكر التاريخ انها اسست مدنا أو أقامت حضارة في الفترة السابقة لسقوط نينوى ربما باستثناء أجبتانا الأكدية التي شيد عليها كيخسرو الثاني مدينته في القرن السابع ق.م. ..وهنا لابد من تمييز الأقوام الزاكروسية لأختلافها فيما بينها..ولاسيما بين العيلاميين والكاشيين والكوتيين ولاحقا الميديين والفرس..وهو تمييز غاية في الأهمية لأن الخلط بين الأقوام وأثنياتهم يفضي الى اضطراب الصورة الحقيقية لحركة الشعوب ومناطق استيطانها فضلا عن تسمياتها ..ولا أدل على ذلك من خلط مفردتي الميديين والميتانيين ..أو الكوتيين (بالكاف الأعجمية) والكاشيين ..ثم لابد من تحديد فترات سيادة دولة على ارض ما في التاريخ القديم والفترة الزمنية التي استغرقها وجودها.. فالحوريين اسسوا عاصمتهم الأولى في أوركيش (تل موزان) في حوض الخابور..وكانت تربطهم بالأكديين علاقات ودية متينة حيث زوج الملك نيرام سين الأكدي إبنته لملك أوركيش. وكانت تحيط بأوركيش ممالك قوية كمملكة ماري العمورية في مطلع الألف الثاني ق.م. مما جعل أوركيش تابعة لماري وعندما غزا شمشي أدد الأول ماري، هاجر قسم من الحوريين الى الالاخ شمالي سورية واسسوا بالمشاركة مع العموريين مملكة يمحاض (حلب) ليواجهوا منافسا قويا تمثل بحاتوشيليس الأول ملك الحيثيين ..وعندما تبددت القوة الحيثية ظهرت سلالة حورية أخرى هي السلالة الميتانية التي سيطرت على اراض واسعة في الشرق الأدنى امتدت من القفقاس واجزاء من الأناضول وشرقي سوريا وشمالي العراق وتضمنت منطقة الحسكة وعرفة..واتخذت الأسرة الحورية الميتانية سيكان أو واشوكاني (تل الفخيرية) القريبة من أوركيش عاصمة لهم بدلا من أوركيش..والحوريون من القبائل الكنعانية التي تتحدث بلغة قريبة من الأرمنية القديمة وتستخدم المسمارية المستعملة في الكتابة في منطقة الحسكة وراس العين وايمار وحتى الساحل الفينيقي ..وكان الحوريون قبل انتقالهم شمالا الى حوض الخابور يعيشون مع القبائل الكنعانية الأخرى في خربة الكرك قبل هجرتهم شمالا وأختلاطهم بقبائل اورارتية في القفقاس مما يفسر انعدام التجانس بين لغة الكلام ولغة الكتابة لديهم..إلا ان ثمة ميل لدى عدد من المؤرخين ممن لايعنى بتدقيق مصادره الى ربط الأكراد تارة بالكوتيين الذين دمروا مراكز الحضارة في سومر، واخرى بالحوريين الميتانيين لمجرد امتداد نفوذالحوريين نحو 200 سنة أو اقل في شمالي العراق..على الرغم من الأختلاف الكبير بين الكوتيين والميتانيين والميتانيين والميديين والميديين من جهة، وهذه الأقوام كلها والأكراد من جهة أخرى؛ وعدم وجود مايثبت انتساب الأكراد إثنيا أو لسانيا أو حضاريا بل وحتى انثروبولوجيا الى أي من هذه الجماعات أو الى الكاشيين..وهنا أرى من المفيد الأنتباه  الى حقيقة أن الحضارات الرافدينية كانت لعبت دورا هائلا في تصميم الثقافة الحورية ..وذلك على مرحلتين ألأولى سلمية على عهد أوركيش التي شهدت تصاهر سرجون الأكدي مع ملك أوركيش وكنت قد اشرت في دراستي عن ملكات العراق الى دور ابنة سرجون الأكدي ترام أكادا الإداري والثقافي في تلك العاصمة الحورية في سورية؛ غير ان المرحلة الثانية سادها العداء وذلك عندما ضم الملك الحوري الميتاني من عاصمته واشوكاني القريبة من تل موزان (اوركيش) الأراضي الآشورية الى بلاده في 1472 ق.م. او نحو ذلك ..ولم يستمر هذا الحال أكثر من عقود إذ تمكن آشوراوباليت الذي مهد للأمبراطورية الآشورية الوسطى من طرد الميتانيين عام 1375 واسترداد عرش بابل لأبنة كوريكالزو الثاني باني دوركوريكالزو (عقرقوف) التي يعزا بناءها خطأ الى الكاشيين.. ونعود من هذا الأستطراد الى عرفة (أرابخا) التي تقع تحت مدينة كركوك وقلعتها فنلاحظ اجماع المصادر على توغلها في التاريخ القديم اذ يمتد وجودها منذ اوائل العصر البرونزي القديم وحتى المرحلة اليونانية والأسكندرانية المتأخرة وصولا الى الدولة السلوقية فالفرثية فالساسانية فالأسلام..
عرفة في مهادها الرافديني:
تتكرر في العالم القديم فكرة تقسيم العالم الى جزء متحضر وآخر غير متحضر.. وبينما يتصف العالم المتحضر بمظاهر التمدن من خلال وجود المدن والأعتماد على الأقتصاد الزراعي والتجارة والصناعات البدائية واخيرا الدولة بواجهاتها الدينية والسياسية والعسكرية، تفتقر الأقوام غير المتحضرة الى هذه ممظاهر التمدن هذه وتعتمد في معيشتها على الحياة الرعوية والتنقل وراء الكلأ والماء ..وعندما تفتقر الى هذه الموارد الأساسية لحياتها، تلجأ الى الأغارة على مراكز التمدن معتمدة تكتيك الكر والفر، أوالهجرة الى الأرياف المحيطة بها وامتهان الزراعة او الأرتزاق بالأنخراط في الجيوش الدائمة للدول..وبعد جيلين او ثلاثة تصبح جزءا اساسيا من تكوين الأمة او الجماعة المتمدنة..وهنا اعتمد ابن خلدون ومن بعده هيجل وهربرت سبنسر في نظرية تطور المجتمعات وديالكتيك التحول من البداوة الى التمدن..وتنطبق هذه النظرية على ما حدث في العراق في العصور القديمة ..فالعراق ترويه أنهار كثيرة ويحتضن ثروات هائلة ..إلا ان اراضيه منبسطة في معظمها والدفاعات الطبيعية فيها نزرة ومحصورة على الجبال..كما أن ألأنهار لاتشكل حاجزا امام الجيوش القوية الغازية..هذا فضلا عن وجود الصحراء في جنوبه وغربه والجبال في شرقه..مما يجعله عرضة للهجوم من كل الجهات..ولذلك لم يبق للأكديين والآشوريين من بعدهم اي خيار غير الهجوم الأستباقي على الأقوام المتبدية والمتحضرة معا وفي كل اتجاه درءا لخطر احتلال بلادهم وتدمير مراكز التمدن فيها..وفي متابعة الحوادث التاريخية منذ الألف الثالث ق.م. نلاحظ تكرر تعرض مراكز التمدن في العراق لهجوم أقوام بدائية كهجوم الكوتييين، وهم أقوام تقطن جبال زاكروس، على مراكز التمدن في أوروك ولكش وأكد عام 2115 ق.م. وتأسيسهم لأسرة حاكمة اعتمدت اسلوب الأكديين وإدارتهم ولغتهم..واستمرت بالحكم حتى عام 2050 ق.م. عندما اطاح بهم أوتو هنكال الذي أعاد الى جنوبي العراق تألقه الحضاري بعد فترة تردت فيها الفنون وانتشرت الفوضى على الرغم من اعتماد ملوك الكوتيين كجوديا اساليب التمدن من الأكديين الذين اعتمدوها بدورهم من السومريين..وكان اوتو هنكال قد اعاد تلقيب نفسه بملك الجهات الأربع محاكاة لملوك سومر واكد وهو لقب أعتمده الآشوريون فيما بعد..
وبأسترداد السيادة العراقية على سومر واور واوروك ولكش ونيبور جنوبا وقاصور(نوزي) ونينوى و عرفة وارباأيلو ولبدا وداقوقا شمالا، شهد العراق نهضة انعكست في تطور الفنون والآداب والتشريع وبخاصة على عهد اورنمو وشولكي الملك العظيم الذي اسس ثاني اكبر امبراطورية رافدية في العصر البرونزي بعد سرجون الأكدي كانت تضم عيلام نفسها..وفي عام 2004 ق.م. هاجم العيلاميون اور على عهد أبي سين وخربوها وسرقوا ثرواتها وبضمنها تمثال نانا وحملوها الى سوسة ..مما انهى امبراطورية اور الثالثة ..ومرة اخرى يستعيد ملوك ايسين في لاكش ولارسا زمام المبادرة فيطردوا العيلاميين ويعيدوا بناء أور..واستمر حكم ايسين حتى عصرالهيمنة الأمورية على عهد شمشي ادد الأول مؤسس الأمبراطورية الآشورية الأولى في الشمال وحمورابي الأول مؤسس الأمبراطورية البابلية في الجنوب..
وتكرر هجوم الأقوام الجبلية على وادي الرافدين وبابل هذه المرة عندما غزا الكاشيون بابل عام 1570 ق.م.  ونصبوا انفسهم ملوكا عليها..وكانوا حكاما اميين لاحظ لهم من الثقافة على الرغم من احتذائهم بالبابليين واعتمادهم لغتهم وعقيدتهم .. غير ان الآشوريين تمكنوا في آخر المطاف من دحرهم بعد سلسلة من المصاهرات والحروب التي استمرت منذ عصر آشور اوباليت الأول (1365 ق.م - 1330 ق.م.) وحتى عهد توكولتي نينورتا الأول الذي انهى وجودهم في بابل عام 1235 ق.م.
من هنا يبدو ان أقدار المدن العراقية كانت تتبع الأوضاع السياسية وتتأرجح بين فترات سلم تتلوها حروب ثم نهضة في الفنون والآداب تتلوها انتكاسة وتراجع في النتاج الفني والأدبي ..وبينما صاحبت عصور الأزدهار سيادة ابناء الرافدين من مراكزهم المدنية والحضارية على ارض الرافدين واعتمادهم الجيوش النظامية، صاحبت فترات الأنحلال والفوضى سيطرة الأقوام الغازية على بلاد الرافدين..والمدن العراقية وبخاصة الجنوبية منها هي بالضرورة مراكز تحضر وليست قواعد للأغارة على مراكز التحضر..ونحن في متابعتنا لتاريخ العراق القديم قبل الألف الأولى ق.م.  كما اسلفنا بالخطوط العريضة وبأختصار شديد، نلاحظ ان اقوام زاكروس وبخاصة الكوتيين [الذين يعدهم الأكراد أسلافا لهم] لاحظ لهم من المدنية والتحضر..ولا أدل على ذلك من تبني ملوكهم لمظاهر التمدن الرافديني بعد تدميرهم للسلالات الحاكمة الشرعية وتنصيب انفسهم ملوكا على العراق..على ذلك لايمكن تصور المدن العراقية ومنها عرفة خارج المجال الجغرافي والحضاري للتمدن الجزري الذي اسسه السومريون واعتمده الأكديون والبابليون والآشوريون من بعدهم..بمعنى ان ثقافة عرفة هي ثقافة سهول وليست ثقافة جبال..ونحن لم نسمع أو نقرأ عن تمدن لأقوام جبلية عبر التاريخ بأسره..
ويبدو ان خلط الأوراق وتصوير عرفة بأنها وريثة "كوتيوم" أو انها "كوتيوم" نفسها كما ذهب المحتل المعاصر للعراق الى القول، يرقى الى محاولة نزع أهرامات مصر من الجيزة ووضعها في جبال الألب..والأدهى أن كوتيوم التي ابتكرها الصهاينة لاتوجد على ارض الواقع ولا يؤيد وجودها اي مصدر أركيولوجي بل هي تكوين افتراضي خلقه طاقم التزوير التاريخي التابع لشركات النفط الأميركية والصهيونية الطامعة بأرجاع أنبوب كركوك حيفا الذي اوقفت الحكومة العراقية ضخ النفط فيه منذ تأسيس دولة الصهاينة على التراب العربي الفلسطيني عام 1948..اي ارجاعه بطريق او طرق أخرى سياسية وأئتمارية..
وفي جولة في المثلث المحصور بين عرفة (كركوك) وأربا أيلو (اربيل) وكالخو (النمرود) والمناطق المحيطة بها نذهل أزاء كثرة التلال الأثرية القديمة التي لم يستظهر منها سوى النزر القليل ومنها ما انطمر بعمائر لاحقة او شيدت فوق اطلاله قرى ومدن صغيرة كقاصور الأكدية التي اعطت اسمها لنهر الخازر وحابروري التي اعطت اسمها لسهل حرير وكاسابا (تل كشاف) وقيليزي (قصرشمامك) ولبدا المجاورة لطاووق المحرفة عن الحصن الآشوري (داقوقا)..كما اظهرت خريطة موقعية اكتشفت في قاصور التي اطلق عليها الحوريون اسم نوزي فيما بعد، اسماء مدن اخرى كمدينة ارمان على نهر ردانو (العظيم) وكربيل بين الخازر والزاب الأعلى فضلا عن أمغر انليل (بلوات) والتلال الممتدة بين اربا أيلو والنمرود كتلال كهريز وكنهش وابو جيمة وعاكوب وقرية تل العبد والسلامية ثم عبر دجلة تل السبت في حمام العليل وجهينة والزوية وحتى القيارة والشرقاط فدخولا الى الفتحة ومنها التلال الممتدة بين جبال ايبيخ (حمرين) و عرفة من جانب وديالى (ميتورنات) وخانقين من جانب آخر..ناهيك عن تلال سهل نينوى العظمى كتلال بغديدا (قرقوش) وكرمليش وتل العباس (حلاحو) وتل بلو (شيبانيبا) المقابل لبعشيقة وامتداداتها شمالا عبر نوهدرا (دهوك) و أميديلا (العمادية) حتى زاخوتا (زاخو) الآشورية وغربا حتى مدينة سرجون..وهذه هي مدن القلب الآشوري التي تحميها حاميات الجبال فيما وراء زاموا (السليمانية) وفي عمق زاكروس..وفي الواقع فأن المنطقة المحيطة بزاموا أو ايدا (ميزاموا) وانطلاقا من كلار من جهة ومن عرفة من جهة أخرى تعد مجمعا كثيفا من الحصون والقصبات الآشورية المستخدمة كمراكز تجميع أتاوات أوكقلاع تستخدم قواعد عسكرية للتصدي لأغارات الأقوام القاطنة في عمق زاكروس وأورارتا او لأخماد حركات العصيان التي تواترت في العهود المتأخرة للأمبراطورية الآشورية..
وقد درج الآشوريون على الإستفادة من التحصينات الدفاعية والقصبات التي اسسها الأكديون من قبلهم في شمالي العراق، وفي عمق زاكروس..فمنها ما عمدوا الى تحويره من مستوطنة زراعية الى حصن عسكري ومنها ما ابقوا على وظيفته العسكرية او الزراعية كما هو الحال في عرفة وقاصور المتجاورتان..فقاصور (قصر) لم تنسلخ عن وظيفتها الزراعية طيلة العصر البرونزي ولكن تدفق الحوريين من موطنهم شمالي سورية الى المناطق المحيطة بعرفة في القرن الخامس عشر ق.م. ادى الى أضفاء الوظيفة الإدارية حيث تم اكتشاف اكثر من 20.000 رقيم مدون باللغة الأكدية تعنى بالمعاملات التجارية فضلا عن قصر ومعبد..ولم تكن قاصور مسورة كونها محاطة بالتلال المنتشرة حولها مما يؤكد طبيعتها الزراعية الإدارية ..كما اكتسبت اسما جديدا خلعه عليها الحوريون هو (نوزي) التي تعرف حاليا بيورغان تبة..أما عرفة  فقد حافظت على دورها العسكري بحكم موقعها على تل اصطناعي وتحصيناتها الدفاعية الأكدية..ولكن ما حدث لقاصور من تغير في التسميات حدث لعرفة التي اصبحت ارابخا المصحفة عن (عرفة)
وكان آشوردان الثاني قد عزز تحصيناتها لصد هجمات اللولاميين والميديين القادمة من جبال زاكروس..وبمرور الوقت اصبحت الكلمة المؤلفة من مفردات ثلاث عربية وسريانية وسلوقية كلمة واحدة هي كركوك ويبدو ان هذا التحول قد حدث قبل غزو تيمورلنك العراق.. أما عرفة فتطلق في الوقت الحاضر على احد احياء المدينة كانت شركة النفط العراقية الوطنية قد أقامت بيوتا لموظفيها فيها عام 1948.
نستنتج من ذلك أن الوجود الحوري الممتد من 1587 ق.م. وحتى 1399 ق.م. لم يغير الطابع الحضاري الأكدي للمدينتين أو لحضارة أشنونا السومرية (تل أسمر) في أطراف ديالى على الرغم من تغير الأسماء ولاسيما وأن الحوريين كانوا قد تبنوا مظاهر التمدن الرافديني واستخدموا اللغة الأكدية في كتاباتهم..وفي نظرة اجمالية الى الشرق الأدنى نلاحظ أن ثقافة عالم الشرق الأدنى القديم هي بالضرورة ثقافة اكدية وان اللغة ألأكدية كانت هي اللغة السائدة (اللينكوا فرانكا) في الشرق الأدنى ودليل ذلك ان الأرشيفات الكبرى التي عثر عليها في أيبلا وقطنة وأيمار وماري ونيبور واشنونا وقاصور(نوزي) وأور وفي مكتبة آشوربانيبال كلها مدون باللغة الأكدية وابنتها الآشورية ..ولسيادة النمط الحضاري الأكدي والثقافة السومرية الأكدية على الشرق الأدنى وامتداد النفوذ السياسي الأكدي في شمالي العراق وشماله حتى كانيش في قلب طوروس والحواضر العراقية في عمق زاكروس على العهود الأكدية والبابلية والآشورية والبابلية الحديثة، يكون عزو المدن المشادة في المنطقة كاربا أيلو أو قيليزي أو عرفة أو نوهدرا وغيرها من مدن شمالي بلاد مابين النهرين الى الأقوام الغازية جزء من خطة صهيونية مدعومة من الغرب الهدف منهما مسخ التاريخ الحضاري لبلاد الرافدين والأئتمار على الذاكرة التاريخية ومشروعية الشعوب الجزرية في اراضي ومدن أسلافهم..
ولاريب أن من حسنات التاريخ ان تدون الوثائق القديمة على الحجارة وينقل منها الكثير الى متاحف العالم قبل عملية النهب الواسعة لتاريخ العراق وذاكرته في أثناء غزو العراق بهدف سرقة موارده وإلغاء الجهود التي رمت الى ربط حاضره بماضيه الحضاري بوجوهه المتنوعة..ولاتخلو الوثائق المكتشفة والمحققة في اكاديميات ومتاحف العالم من تكرار ماذهبنا الى تاكيده حول عرفة..فقد ورد اول ذكر لها في عهد سرجون الأكدي في خارطة اكدية اكتشفت في قاصور (نوزي) تظهر فيها عرفة على شكل دائرة تقع الى الشمال الشرقي من قاصور جبالا الى الشرق والغرب من المدينتين والى غرب المدينتين يجري نهر دجلة..وإلى شمالها الزاب الأسفل ..والخارطة معلمة بالكتابات المسمارية وتطابق في تفاصيلها وتحديدها لموقع عرفة الخرائط الآثارية الحديثة، وهي ثالث أقدم خارطة في التاريخ بعد خارطتي العالم البابلية ونفر الموقعية..وتؤكد رسائل قاصور على ان عرفة كانت مركزا تجاريا نشطا الى جانب آشور ونينوى في التجارة مع كانيش في قلب الأنضول وأيمار (مسكنة) على الفرات حيث كلية الكتبة والآداب وهي اقدم كلية عراقية في العالم القديم ..كما ورد ذكر عرفة في مدونات اور الثالثة وتحديدا في معرض وصف معارك شولكي وابنة أمارسين لأسترجاع الأراضي الأكدية في قيماش وهوارتوم وهي اراضي تقع في مناطق اللولابي (اللولامو) في زاموا وزاكروس .. وكان السومريون يستخدمون الطريق القديم الممتد بين ماجدا وعرفة في حملاتهم ضد زاكروس..ويرد في مدونات اسرة اور الثالثة أن الأميرة نين هيدو هي زوجة ابن حاكم عرفة السومري حاشيب أتال..
وتحتل عرفة  مكانة خاصة في تشريعات حمورابي وأحكامه الملكية في القرن الثامن عشر ق.م. (1728 ق.م.- 1686 ق.م.) في سياق تحديد إحدى وظائف التاجر الجوال والمضارب البابلي المعروف ب (التامكاروم)..في نص يعبر عن طبيعة العلاقات بين حمورابي الأول والأقوام القاطنة في الجبال الواقعة شرقي عرفة (كركوك)..ويبدو من مجريات الحوادث في ذلك العصر أن غزو حمورابي الأول (بسمارك العراق القديم) لمملكة ماري(1759ق.م) بعد سحقه لأشنونا وتوحيده العراق من منابع دجلة والفرات وحتى الخليج العراقي تسبب في هجرة الحوريين شرقا الى شمالي العراق وسقوط اوركيش ضمن الهيمنة البابلية بعد ان كانت تابعة لمملكة ماري..وأن هؤلاء الحوريين الذين استوطنو قاصور واعادوا تسميتها بنوزي، وبحكم تمدنهم، كانوا في حماية حمورابي وفي الوقت نفسه تحت تهديد اللولابي والكوتيين القاطنين في زاكروس..ويتضح من نص حمورابي أن النولو مصحفة عن اللولو أو اللولابي او اللولامو من سكان ايدا وراء جبال زاكروس في المنطقة الكائنة خلف حاج عمران..وأن حمورابي كان في حالة حرب معهم..ونلاحظ ان الملك البابلي أراد فدية اسرى بابليين كانوا سقطوا في أيدي النولو بوساطة التامكاروم المقيم في عرفة: فجاء في نص حمورابي: (أذا أخذ [أشترى] تامكاروم مواطنا من عرفة من اراضي النولو وأعاده الى عرفة، سيمنح 30 شيكلا من الفضة)..ويستأنف المحقق معقبا على نص حمورابي بقوله (وهكذا فان الكمية التي تدفع للتامكاروم حددت بثمن، باهض بالنسبة لعبد، ولكن نفهم ضمنا ان هذا المبلغ يتضمن مكافأة معينة للتامكاروم..وتقع أراضي النولو شرقي عرفة..ويرى ساريسالو ان الأمر الملكي لحمورابي يخص العبيد من عرفة ممن يعيديهم تجار من عرفة من اراضي النولو الى عرفة تحديدا)..والأرجح ان المقصود بالعبيد في النص (الأسرى) الذين يفقدون بالأسر حريتهم..كما يتضح منه أيضا اهتمام الملك البابلي بأسترداد المواطنين العراقيين المقيمين في عرفة ممن وقعوا في اسر اللولابي..واهتمامه بعرفة في تحديد ضرورة ان يكون التاجر الذي يتعهد بتحرير هؤلاء الأسرى من سكان عرفة..وبمقارنتنا بثمن عبد يتراوح بين شيكلين و 10 شيكلات في بابل القديمة، تتجلى حقيقة ان العبيد الذين وجه حمورابي بدفع فديتهم؛ ليسوا عبيدا بالمعنى الحرفي للكلمة بل اسرى سقطوا بأيدي اقوام زاكروس. وليس من قبيل الصدفة ان نجد النهج نفسه لدى الحكومة الأيرانية في الوقت الحاضر في طلبها لمبالغ من المال لقاء تحرير اسرى او أجانب يقعون في قبضتها..وفي مقارنة النصوص القديمة في عهد سرجون الأكدي ثم في عهد شولكي وابنة أمارسين بنصوص حمورابي الأول يتضح ان اهتمام ملوك الرافدين القدماء بعرفة يعود لأهميتها الستراتيجية كونها دريئة تقع على طرف القلب الرافديني للتصدي لأقوام زاكروس وضمان سلامة السلع التجارية القادمة عبر طريق خراسان او طريق الحرير..مما ارسى لتقاليد يحترمها ملوك العراق وهي ضرورة الحفاظ على سيادة الأراضي الرافدينية وبضمنها عرفة ذات الأهمية الستراتيجية والحيوية لحياة العراقيين ومستقبل ابنائهم..
ونحن ان عدنا قليلا في القرن الثامن عشر ق.م. اي في العصر البرونزي الوسيط وتحديدا بنحو خمسين سنة من تولي حمورابي الأول العرش في بابل الى شوبات انليل (تل ليلان) وعهد شمشي ادد الأول (1796 ق.م – 1775 ق.م.) في وقت كانت اوركيش الحورية خاضعة لمملكة ماري، تبرز عرفة مركزا مدنيا يحتضن معابد الإلهين شمش وأدد..وكان الملك الآشوري في سياق عودته الى الزاب من حملة ضد مملكة قابرا ..ويبدو ان الملك الآشوري شمشي أدد الأول ينهج نهج اسلافه الأكديين في عزو الحملة الى الآلهة ..وهي آلهة عراقية غابرة..يقول الملك في وصف حملته: (بقيادة الإله إنليل....من دخولي عرفة حيث قدمت في اليوم السابع قربانا...ودخلت قلعته وقبلت قدمي الإله أدد ربي [في] الأرض التي أحببتها [حيث] وضعت حكامي في كل مكان وفي عرفة قمت بتقديم الأضاحي في مهرجان الحر للألهين شمش وأدد..وفي 20 آذار عبرت نهر الزاب وعملت [رازيا] في ارض قبرا..وضممت أرض أربيلا كلها وبنيت الحصون في كل مكان في اراضي قابرا)..
من الملفت للأنتباه في نص شمشي أدد الأول إشارته الى مهرجان اقامه في عرفة اسماه مهرجان الحر باشارة الى النار الأزلية التي تحيط آبار النفط في عرفة..وفي وقت متزامن تقريبا مع فترة حكم شمشي ادد الأول إزدهرت حضارة ماري العمورية التي اشتهر من ملوكها "زميرليم"، وكانت ترتبط مع عرفة بعلاقات تجارية وثقافية متينة..
وبعد انتهاء سلالة حمورابي الأول في اواخر القرن السابع عشر ق.م. شهدت السلالات الجزرية الحاكمة في العراق تراجعا على الصعيدين السياسي والعسكري وكان الكاشيون والكوتيون يواصلون هجماتهم من الشرق منذ انتهاء حكم حمورابي وتولي ابنة شمش ايلونا العرش في بابل وكان الحيثيون يواصلون تقدمهم في الغرب مما ادى في آخر المطاف الى سقوط بابل بيد الكاشيين بعد غزو الحيثيين لها وإنهائهم لسلالة حمورابي الأول فيها..بينما تتابع ملوك ضعفاء على حكم آشور على انتظار نهضة آشورية جديدة..أما عرفة، فقد سقطت تحت نفوذ الحوريين الذين اتخذوا واشوكاني القريبة من اوركيش في شمالي سورية عاصمة لهم ..في الوقت الذي استمرت قاصور في نشاطها الزراعي والثقافي تحت اسم حوري جديد هو (نوزي)..أما عرفة فقد فقدت دورها العسكري لأن الكوتيين توقفوا عن مهاجمتها بعد خروجها من السيطرة الجزرية..وكان شمش ايلونا قد ألغى قرار استرجاع الأسرى من اهالي عرفة ممن يقع في ايدي النولو..ربما لتزايد نفوذ الحوريين في منطقة الزاب وظهور الخطر الكاشي من الشرق والحيثي من الشمال..بمعنى ان القوى المعادية للعراق استغلت فراغ القوة فتدفقت الى العراق..وهو حال تكرر لاحقا في عام 612 ق.م. بعد ان تسبب تراخي آخر الحكام الآشوريين واعتمادهم على الجند الميديين في قصورهم الى سقوط نينوى، و في 539 ق.م. عندما تسبب عزوف نبونيداس عن الحرب وانشغال بلشزار بمظاهر الترف الى سقوط بابل بيد قورش ملك الفرس؛ ثم سقوط بابل للمرة الثالثة بيد الأسكندر المقدوني عام 334 ق.م.؛ فالغزو المغولي عام 1258 م. فالأحتلال العثماني الأوغوزي عام 1534 وماسبقه من تخريب صفوي فارسي ..واخيرا الأحتلالين البريطاني عام 1914-1958 و الأميركي الصهيوني عام 2003 المستمر حتى لحظة كتابة هذه السطور..
عرفة في العهد الأمبراطوري:
ويبدو ان الوجود الحوري في عرفة المتزامن الى حد ما مع الوجود الكاشي في بابل تمخض عن اتصال الوظائف الدينية للمدينة االرافدينية العريقة فقد اشارت رسائل قاصور (نوزي) الى وجود معابد للآلهة  أدد ونركال وعشتار نينوى فيها والى اهتمامات العائلة الملكية فيها ونشاطاتها..إلا ان المدينة كانت في انتظار النهضة الآشورية الوسطى على عهد آشوراوباليت الأول مؤسس الأمبراطورية الآشورية الوسطى..ففي أعقاب تدمير المملكة الميتانية من قبل الملك الحيثي شوبيلوليوما الأول (1350 ق.م. 1322 ق.م.) عادت عرفة الى السيطرة الآشورية واستمرت على هذه الحال حتى نهاية عهد توكولتي نينورتا الأول حيث توالت على عرش آشور سلسلة من الملوك الضعفاء على الرغم من انشغال بعضهم في حروب مع الكاشيين والحيثيين والآراميين ..واختتمت هذه السلسلة بالملك القوي تكلاثبليزر الأول أو ملك المطرقة (كونه يصورحاملا مطرقة) 1115 ق.م. وحتى 1077 ق.م. أعقبه عشرة ملوك ضعفاء كان خاتمهم تكلاثبليزر الثاني 935 ق.م ..ليعقبه ملك آشوري قوي آخر هو آشوردان الثاني الذي عنى بالأصلاح الزراعي والأقتصادي والإداري للمملكة الآشورية من طورعابدين وحتى سفوح زاكروس..ممهدا الأسس لأربعة ملوك أقوياء أسسوا الأمبراطورية الآشورية الحديثة الأقوى في العالم القديم..وكانت عرفة خلال الأمبراطورية الآشورية الوسطى قد انتقلت الى مجال النفوذ الكاشي غير ان توكولتي نينورتا الأول تمكن من استرجاعها الى السيادة الآشورية في اعقاب غزوه بابل ودحره للكاشيين عام 1253 ق.م. ويتكرر ورود اسم عرفة من بين المدن التي كانت ترسل المنتوج الزراعي الى العاصمة آشور حتى عام 1133 ق.م. ومع انحسار القوة الآشورية بسبب ضعف الحكام كما اسلفنا، غزا الملك العيلامي شيلهاك أنشو شيناك 1150 ق.م.- 1120 ق.م. عرفة وعددا من المدن الآشورية الأخرى..ثم باتت عرفة نقطة تجاذب بين الملوك الآشوريين والبابليين بهدف الهيمنة على مناطق الحدود بين اراضيهم وذلك لوقوعها في منطقة تعطيها افضلية عسكرية في الهجوم على بابل كونها اقرب المدن المحصنة الكبرى الى البوابة الميدية وكون الفرات يجري في قلب بابل القديمة التي تقع إدارتها على الضفة الشرقية لنهر الفرات مما يجعلها مفتوحة على المهاجمين من الشمال بعد عبورهم البوابة الميدية الأمر الذي دعا نبوخذنصر الثاني لاحقا الى حرف مجرى الفرات وتحويط المدينة بجسم مائي ضخم تحصينا لها..وهو ما لم يفكر به احد على عهد اسلافه او في فترة الأحتلال الكاشي لبابل..وفي أوائل القرن العاشر ق.م. استولى أدد نيراري الثاني عليها بعد دحر منافسه البابلي شمش مداميق في سياق غزو الآشوريين وضمهم للأراضي البابلية..وبعد عدد من السنين استرد ولي عهد شمش مداميق، نبو شموكين عرفة من السيطرة الآشورية ليسترجعها ابن ادد نيراري الثاني توكولتي نينورتا الثاني من ايدي البابليين الى المشروعية الآشورية وتبقى على هذه الحال حتى سقوط الأمبراطورية الآشورية لتنتقل الى الأدارة البابلية الجديدة على عهد نبوخذنصر الثاني..
وعلى عهد آشور ناصربال الثاني شهدت عرفة نشاطا عمرانيا ..فقد قام هذا الملك بتعمير معابدها وتجديد تحصيناتها وتعلية التل الأصطناعي التي تقوم عليه منذ تاسيسها في عصر سرجون الأول غير ان عرفة شاركت مع عدد من المدن الآشورية بالثورة الآشورية على السلطة الآشورية وبتحريض من الحاتيين والأورارتيين (الأرمن) مرتين: الأولى في أواخر حكم شلمنصر الثالث حيث قاد دان آبلي أحد ابناء شلمنصر الثالث تمردا انضم له عدد كبير من المدن الآشورية..وقد استمر التمرد خلال السنين الأولى من حكم  شمشي أدد الخامس ابن شلمنصر الثالث وخليفته لحين تمكن من سحقه نهائيا..وتمثلت الثانية  بالعصيان المسلح عام 761 ق.م. في اثناء فترة حكم آشور دان الثالث (772 ق.م. – 755 ق.م.) وذلك بسبب اضطرابات سادت الدولة الآشورية آنذاك مما مكن الآراميين الموالين لبابل من السيطرة على عرفة..ولكن الملك تكلاثبليزر الثالث (745 ق.م.- 727 ق.م.) وهو من اقوى ملوك بلاد الرافدين تمكن من استرجاع عرفة الى السيادة الآشورية المطلقة كما عمد الى عزل عدد من الجماعات الآرامية عن بابل واعاد توطينهم في عرفة والأراضي المجاورة لها عام 740 ق.م. كما حول عرفة من مدينة آشورية الى مقاطعة آشورية..وقد ورد في نص مدون على رقيم عثر عليه في معبد نبو في كالخو يعود الى تكلاثبليزر الثالث وفي السطر 17 منه الآتي (وضممت بيلاتو الواقعة على حدود عيلام الى مملكتي ووضعتها في يد حاكمي العام في عرفة)..ويبدو ان عرفة لعبت دورا عسكريا كبيرا في حسم النزاع مع الآراميين في جنوبي العراق من خلال حاكمها على عهد تكلاثبليزر الثالث (آشورشليماني) الذي قاد حملة على الاراميين في كمبولو (بالكاف الأعجمية) الواقعة الى الشرق من الديوانية ودحر قائد التمرد على تكلاثبليزر الثالث المدعو (مقين رزّي) بعد ان خاض معه معركة طاحنة عند ابواب قلعته شابيا في عام 734 ق.م. وكان تقدم الآشوريين صعبا للغاية لكثافة المقاومة وكثرة المقاتلين ..غير ان النصر عقد لصالح الآشوريين كما يخبرنا حاكم عرفة الآشوري: (ان مقين رزي إندحر وقتل..وابنه شموكين دحر وقتل وقد تمت السيطرة على المدينة بأكملها..فليبتهج سيدي الملك..وليستمع للأنباء ينقلها اليه رسولنا)..ويعني الفعل (دوقودقو) المستخدم بالآشورية [اندحر] و[قتل] في الوقت نفسه والأرجح ان لداقوقا صلة بهذه التسمية الاشورية..ولعل من قبيل حسنات الصدف ان يكون الفعل نفسه مستخدما في العامية الموصلية بالمعنى نفسه (دقو...دقيتونو)..ونلاحظ أن الآراميين صلحت لهم أراضي سومر وأكد وبابل فازداد عددهم وغلظت شوكتهم ولا أدل على تنامي قوتهم من تكرار تمردهم ..إذ يخبرنا سرجون الثاني انه نقل 18.000 أسير آرامي الى عرفة..ولا نعرف ان كانوا أبقوا في عرفة ام رحلوا منها الى اورزوحينا غير البعيدة منها..غير ان الأكيد استمرار المقاومة الآرامية في الجنوب بدعم من عيلام..مما دعى الملك سنحاريب الى غزو عيلام وتدمير 34 من مدنها وقصباتها..ثم واصل حفيده آشوربانيبال الحرب مع عيلام حتى انهى دولتها وجلب رأس تومان الى نينوى حيث علقه في عرائش العنب المنتشرة في حديقته في تلقوينجق..
وفي نظرة شاملة لطبيعة المعارك الآشورية ضد الآراميين في القرنين الثامن والسابع ق.م. نلاحظ أن عرفة (كركوك) لعبت دورا حيويا في الجهد العسكري السوقي في الحرب مع بابل ثم مع حركات العصيان الآرامية في الجنوب فهي أقرب الى بابل من نينوى وكالخو ومدينة سرجون؛ والجيش المتحرك منها الى بابل يوفر 140 كيلومتر هي الفرق بين كركوك والموصل..وهذا يفسر بدوره سبب تحويلها الى مقاطعة (محافظة) على عهد تكلاثبليزر الثالث المعروف بأصلاحاته الإدارية..فضلا عن قوة الحكام الذين عينهم الملوك الآشوريين لأدارتها..فقد عين آشورناصربال الثاني على إدارتها حاكمه اللاحق في توشان (دوري آشور)، ونعرف من تسميات السنوات بأسماء الملوك والحكام والقادة وأعيان البلاط الآشوري عددا من حكام عرفة ومراسلاتهم التي تميط اللثام عن النشاط الإداري والإقتصادي والعسكري واللوجستي (السوقي) للمدينة التي بدأت أهميتها تتزايد باضطراد مع زيادة القوة الآشورية واتساع رقعة الأمبراطورية غربا في عمق زاكروس وجنوبا باتجاه الخليج العراقي..فقد جدد آشورناصربال الثاني تحصيناتها وحولها الى مركز يماثل بأهميته عقل مشارتي (حصن شلمنصر) في تلول عازر في الزاويةالجنوبية الشرقية من النمرود..وفي عهد تكلاثبليزر الثالث تم ضم الأراضي الممتدة من الدير حتى عرفة (اي المسافة من بدرة الى كركوك والتي تعادل 300 كيلومترا) على الرغم من ان الدير لم تمنح صفة مقاطعة على عهد تكلاثبليزرالثالث فيما يرى بوستكيت.
وكان حاكم عرفة على عهد شلمنصر الثالث (هوبايا)..هو من قاد على الأرجح حملة على الدير (سيبارامنانوم) عام 831 ق.م. بهدف تجريد المدينة من إلاهها (أنو ربو) ونقله الى آشور تمهيدا لضم سيبارامنانوم وتحويلها الى مقاطعة آشورية ..وقد تم ذلك على عهد أدد نيراري الثالث الذي نجح في ضم الدير الى الأمبراطورية الآشورية بعد ان كانت تابعة لبابل..وتأتي أهمية الدير بالنسبة لعرفة من كونها تقع في مفصل ستراتيجي مهم يربط بين عاصمة العيلاميين وبابل بحيث يترتب على اي حملة عسكرية ضد عيلام من قبل الآشوريين أو البابليين أو بالعكس المرور بها، ولكونها مركزا دينيا مهما منذ العصر السومري فضلا عن كونها كانت تابعة لحاكم عرفة الآشوري منذ عهد تكلاثبليزر الثالث بما يجعل عرفة على عهد تكلاثبليزر الثالث أكبر مقاطعة في القلب الآشوري اذ تمتد اراضيها بين الزاب الأسفل من جهة الشمال الغربي وجبل طاووق الى الشمال الشرقي وحتى حدود عيلام.. ولأن ضم الدير تم على عهد أدد نيراري الثالث، فلابد أن يكون حكام عرفة  قد لعبوا دورا في المعارك التي دارت مع الآراميين والبابليين في عهده ولا أدل على ذلك من اعطاء اسماء الحملات السنوية تباعا لحاكمين من عرفة  هما شمش كوموا (811 ق.م. - 810 ق.م.) الذي سميت الحملة على بابل باسمه والثاني آشوربالتي أيكوري (802 ق.م. - 801 ق.م.) الذي سميت الحملة على الآراميين من بيت ياقين جنوبي بابل بأسمه..وفي عهد آشوردان الثالث أنيطت الحملة على الآراميين من تحالف الأيتوعو (الذين يرى ساكس ان الآشوريين استخدموهم لاحقا لضبط الأمن في المدن المندحرة) الى حاكم عرفة بعل أيلايا (769 ق.م. - 768 ق.م.)..وفي عهد تكلاتبليزر الثالث (745 ق.م. - 727 ق.م.) تم تعريف السنة التي تولى فيها هذا الملك العظيم العرش بأسم حاكم عرفة نبو بيلا آشور..فيما لعب آشورشليماني (735 ق.م. - 734 ق.م.) حاكم عرفة الذي خلف بعل أيلايا في إدارة المدينة دورا حاسما في الحروب الآشورية ضد الآراميين والأورارتيين..وفي مهمات توطين الآراميين من جنوبي العراق في عرفة.. وعلى عهد سرجون الثاني نقرأ لحاكم آخر لعرفة هو عشتار دوري (714 ق.م. - 713 ق.م.) في سياق الحملة على أورارتو ومصاصير وعشتار دوري اسم يتكرر في الحوليات الآشوري فهو اسم لقائد ميداني على عهد أدد نيراري الثالث وأسم لحاكم نصيبينا (نصيبين) عام 774 ق.م. ونستخلص من تركيز الأهتمام بعرفة لدى ملوك الألف الأول انها كانت مفتاحا لبوابات بابل وأن بابل، وريثة التقاليد العراقية القديمة، لم يرق استقلالها مع وجود العيلاميين في الشرق وتزايد النفوذ الآرامي في الجنوب للملوك الآشوريين ولاسيما أزاء تحريض العيلامين لهم للثورة على السلطة الآشورية مما دعى الآشوريين الى التفكير بالهيمنة على بابل ومدن الجنوب ثم الأنتقال لضرب عيلام وانهاء دولتها وهذا ماتحقق على عهد آشوربانيبال..
ولم يقتصر دور عرفة على نشاطها القتالي كما نعلم من أرشيف الرسائل الآشورية في كالخو ونينوى ودور شروكين وآشور، بل شمل ميادين متنوعة تجارية وادارية واقتصادية ولوجستية واعمارية وغيرها إذ تتناول رسائل حاكم عرفة الآشوري للملك سرجون الثاني عشتاردوري امورا تتعلق بعمارة المدن كاشراف عشتار دوري على بناء سور ميتورنات (ديالى): (وصل البناء في سور مدينة ميتورنات ...من طبقات اللبن..وتم بناء خمسة أبراج ...و [........] المتبقي من الأبراج وضعت في محالها في القصر...وأنا هنا...كيف اقوم بالعمل وكيف اجعل سيدي الملك يتابع)..وتتناول رسالة أخرى موجهة للملك سرجون الثاني من حاكم عرفة العمل في بناء سور الدير (سيبارأمنانوم): (كتب لي شمش بيلو أوشور من الدير [قائلا] "ايتوجب علينا حقا عدم تدوين اية كتابات على جدران المعبد؟" ... (إني راسل الى سيدي الملك: أكتب لي نموذجا من النص ..وليكتبوا بقيته ويضعوها عند جدران المعبد)..ونعرف من هذين النصين مديات صلاحيات حاكم عرفة على الصعيد الجغرافي فنرى انها تمتد من عرفة وحتى الدير (بدرة) حاليا..مما يبين إتساع رقعة مقاطعة عرفة على عهد سرجون الثاني..
ويتناول عشتاردوري في رسالة أخرى الى الملك مهمة أرسال اطباء كان الملك قد طلب اليه ارسالهم..ونلاحظ من الرسالة طبيعة سرية المعلومات المتبادلة بين الملك وحاكمه على عرفة..كما نستدل من اسمي الطبيين انهما بابليان على الأرجح: (بخصوص نبو شموايكينا ونبو أيريبا الطبيبان اللذان تحدثت الى سيدي الملك حولهما إني مرسلهما [مع] رسولي الى حضرة سيدي الملك

21
ألملك آشورناصربال الثاني ملك العالم




صلاح سليم علي
مقدمة:
يختلف الملك آشورناصربال الثاني عن اسلافه بقدرته الفائقة على التوليف بين بناء الأمبراطورية من النواحي العمرانية والأقتصادية والإدارية واستدامة النشاط العسكري القتالي في اطراف الأمبراطورية فضلا عن بناء القلاع والحصون والمدن؛ وتوظيف الموروث الفني والأسطوري للعراق في عمارة قصوره المنتشرة في مختلف انحاء الأمبراطورية وبكونه من اكثر الملوك اهتماما في تدوين مآثره على جداريات القصور وفي كل مكان تقريبا تطأه سنابك خيله..وكان للجهد العسكري والإعماري الهائل في قلب الأمبراطورية وأطرافها أن خلق تحالفات عسكرية معادية له كالتحالف السوري الذي تصدى له ابنه شلمنصر الثالث في معركة قرقر والتحالف الأرمني الذي تصدى له تكلاثبليزر الثالث وسرجون الثاني من بعده..ويرجع سبب ذلك الى المقاومة المتزايدة في الأطراف للتوسع الآشوري ومحاولة الملك آشورناصربال السيطرة على الطرق التجارية ووديان الأنهار من منابعها حتى مصباتها أستكمالا للسيادة الرافدينية على الشرق الأدنى..ويقف حكم آشورناصربال الثاني في مرحلة انتقالية من حيث التطور الإداري للدولة إذ يشبه الى حد ما اسلافه في الأمبراطورية الوسيطة أدد نيراري الأول وشلمنصر الأول وتكلاثبليزر الأول،  في نواح عديدة ولكنه مهد للتطورالإداري الواسع الذي شهدته الدولة على عهد حفيده الخامس تكلاثبليزرالثالث ومن بعده الملك سرجون الثاني..وفي عهد آشورناصربال الثاني تحددت ملامح الدولة المستقلة استقلالا مطلقا واتخذت المدن الآشورية طابعا متميزا في الفنون والعمارة حيث وضع هذا العاهل الفذ الأسس للمنحوتات الجدارية كبيرة الحجم ..وجعلها ملحقا تصويريا لكتاباته التاريخية واسس لفكرة التاريخ الرافيديني المتصل منذ العصر السومري وحتى عهده وصولا الى العراق العربي بعد ثورة تموز..وتلك مهمة تبناها ملوك العراق ممن جاءوا بعده..ولكنه لم يبتكر مواضيع الجداريات الأسطورية والتاريخية والتقاليدية لأنها موجودة في الفن العراقي منذ فجر التاريخ إلا أنه على حد تعبير صموئيل بيلي جدد ملامح الفن العراقي واضفى عليها رونقا وضمن استمرارها لاجيال عديدة جاءت من بعده..
ويعود اهتمامي بالتاريخ الآشوري عموما وبملوك العراق وملوك الألف الأول ق.م. بوجه خاص الى السنوات المبكرة من عملي في جامعة الموصل حيث عكفت على الترجمة لطلبة الدراسات العليا ..مما دعاني الى القراءة وبرغبة حثيثة كل مايتعلق بالتاريخ وبالتاريخ الآشوري والحضارات الرافدينية القديمة..ولاحظت ان ماتمت ترجمته من الأدبيات المدونة باللغات الغربية حول العراق القديم الى العربية  لايشكل اي نسبة تستحق الذكر..وكان أحرى ان نجلس لترجمتها ليل نهار وكان بمقدورنا تحقيق اثرا نوعيا بذلك لولا الظروف العاتية التي تعرض لها العراق..وغزو الكوتيين الجدد لبلاد الرافدين..ومما زاد اهتمامي بالتاريخ الآشوري توطد علاقة وثيقة مع الأخوة المتخصصين بتاريخ العراق عموما وبتاريخ العراق القديم طلبة وتدريسيين، وكذلك مع العاملين في الآثار واللغة المسمارية كالأستاذ اختصاصي اللغة المسمارية عامر سليمان والدكتور محمد صبحي عبدالله والمرحوم الأستاذ منهل جبر والدكتورعامر الجميلي ولفيف من طلبة الدراسات العليا تعرفت من خلالهم على اسماء معروفة في الآثار كالدكتور طارق عبد الوهاب مظلوم الذي زرته في بغداد في مصهر البرونز في الشيخ عمر و تناولت معه ضرورة اعادة بناء قصر الملك آشورناصربال الثاني في كالخو بل وبناء المدن الآشورية في نينوى واربيل (أرباإيلو أو مدينة الآلهة الأربعة) وكركوك (ارابخا) وآشور (قلعة الشرقاط حاليا) على غرار بابل التي اعادت الحكومة الوطنية جانبا كبيرا من عمارتها كقصر الملك نبوخذنصر الثاني ومعبد الأسيجالي ومسرح الأسكندر وغير ذلك في المدينة العظيمة؛ وكان الأستاذ والفنان الكبير قد استظهر جانبا كبيرا من قصر سنحاريب في حافة تلقوينجق....وقد اخذني الأهتمام بتاريخ العراق القديم الى مكتبات سورية وأردنية فمكتبات العالم ومنها، في الآونة الأخيرة، المكتبة الملكية في كوبنهاكن ومكتبتي اوسلو وبيركن ومكتبات لايدن ولاهاي وامستردام في هولندة ومكتبات هلسنكي وستوكهولم في فنلندة والسويد على التوالي..وفي عام 2005 قمت بترجمة الكتابات الملكية لآشورناصربال الثاني وقام الآشوريون في الموصل بالأنفاق على تصويرها ب 300 نسخة ..ولكن ما فاضت به المكتبات والمواقع الألكترونية جعلني اعيد النظر في كثير من جوانب تلك الترجمة والمعلومات التي اوردها كرايسون عن هذا الملك..وقد قادني الأهتمام بآشورناصربال الثاني الى الدكتور صمؤيل بيلي استاذ التاريخ في جامعة بافولو الذي وافته المنية في 31 من آذار هذه السنة 2011..وكان المشرف الآثاري على مشروع المتحف الألكتروني الحي للقصر الشمالي الغربي لآشورناصربال الثاني..وكانت المفارقة ان موضوع اطروحته المعنونة (ملك العالم: آشورناصربال الثاني) والتي تناول فيها المنحوتات الجدارية في قصرالملك في النمرود لم تتوفر لديه نسخة منه وكانت قد طبعت كتابا..مما اضطرني الى استعارة الكتاب من المكتبة الملكية في كوبنهاكن وتصويره للأطلاع على مايعزز معلوماتي عن هذا الملك ويصحهها..فقد توفي المؤلف فجأة قبل ان يوافيني بالأجابات التي طلبتها على اسئلتي وبخاصة حول فكرة التاريخ لدى الآشوريين وعلاقتها بمفهوم الزمان لديهم ..ودوافع الملوك الاشوريين في مواصلة التوجهات العامة في السياسة والحرب منذ عهد سرجون الأول وحتى سقوط الأمبراطورية الآشورية والدوافع الجمالية والسياسية والعقيدية للتدوين التصويري للتاريخ في جداريات كالخو لأن ما ورد في النصوص الملكية تنقله الصور ولاسيما مشاهد تقديم الأتاوات هذا فضلا عن توزيع المنحوتات حسب مواضيعها في اماكن معينة في داخل القصر وفي واجهاته المكشوفة ..فبينما تضمنت ممرات القصر وغرفه الداخلية مواضيع اسطورية كنسروخ  ونينورتا مطاردا الأنزو والمردة الحامية التي تقف وراء الملك وشجرة الحياة، تصور الواجهات مواضيع سياسية وتاريخية وهي نواح لم يتناولها اي من دارسي التاريخ الآشوري في حدود معرفتي حتى اللحظة الراهنة..فضلا عن الرموز المختلفة التي تحيط بالملك كالخوذة القرناء وثمرة الصنوبرمخروطية الشكل والسطل وزهرة البيبون وشجرة الحياة..وتجدر الملاحظة الى ان آباء الفاتيكان أخذوا عن الآشوريين مخروط الصنوبر الذي يرمز الى الخصوبة ووضعوه في صولجاناتهم..وكذلك الأمر مع الخوذة القرناء وغيرها من رموز يوظفها الغرب في اساطيره الجديدة كسيد الخواتم وغيرها..
وفي العراق، كانت لزياراتي الأستطلاعية المتكررة للنمرود ولاسيما تلول عازر القريبة منها ثم التلال المنتشرة حول النمرود حيث تختبيء المدينة الأسطورية (ريسين) وصولا الى امغر انليل في بلوات ثم الأتجاه غربا في طريق سنجار حيث تل أبقو في أبو ماريا وغيرها من تلال ربيعة وسهل نينوى ثم كرا الى اوباسا (الحويش) فتلال سوحو في الأنبار ومنهما الى (نيبارت آشور و نيقوشابورات) حيث تطل حلبية وزلبية على الفرات في مكان اطلق عليه العرب الخانوقة في سورية، وما اليها من جولات كانت نتيجتها معايشة الماضي العسكري للعراق وتلمسه عيانا للتعرف على طبيعة عصر هذا الملك الذي تنتشر قصوره وعواصمه في الشرق الأدنى بأسره ..وكان لزوجته (موليشو موكانيشات  نينوا) قصر خاص بها تحف به الرياض في كرمليس؛ اما قصر ابنه وولي عهده شلمنصر الثالث فكان في امغرانليل (بلوات) التي عثر فيها على بوابته الشهيرة الى جانب بوابة ابنه وكان قدر بوابته ان تسرق خلال الغزو الأميركي وتنقل ليلا عبر الشمال الى جهة مجهولة..
وعلى اية حال فأن هناك الكثير من الجوانب الخفية في حياة اسلافنا ومآثرهم ..واني اميل الى القطع ان ماتم استظهاه من آثارهم  وما انجز حتى الآن من التنقيبات لايعدو ان يكون كما اكد الأستاذ طارق مظلوم سوى وخزات ابرة في جسد عملاق ضخم راقد في هذه التلال...ومرماي من تأكيد هذه الجوانب في تاريخنا ان اؤرخ لما تحدثني به الأرض من اسرار اهلها الأصليين وحكاياتهم ..والقاء الضوء على مزاعم دخلاء لاتاريخ لهم بهذه الأرض التي يتهالكون للأستحواذ عليها ومصادرتها ..بينما كان ملوكها واصحابها الشرعيين في حروب دائمة مع اسلافهم..وهو جزء من عمل قيد الأنجاز اكبرعن تاريخ وجغرافيا بلاد الرافدين..
وإن الأهتمام بالتفاصيل، في رأيي، ضروري لكي لايشكل غيابها ثغرات معرفية يتخذ منها خصوم اسلافنا وخصومنا ثغرة لتشويه الوقائع وتزوير الوثائق..والنيل من كرامة اسلافنا في الماضي نيل احفادهم من سيادة بلداننا في الحاضر..والتفاصيل فيها فائدة للبحاثة الجاد والناقد المتعمق والمتخصص المصوب..والله والحقيقة والوطن من وراء القصد..

*****





ملك العالم آشورناصربال وعصره:
يعد الملك اشورناصربال الثاني 884 - 859 ق . م . واحدا من اعظم الملوك الآشوريين الذين حكموا بلاد ما بين النهرين قبل تولي سرجون الثاني العرش في القرن الثامن ق. م. فقد وطد اركان السلطة الآشورية التي ضمت على عصره أعالي دجلة والفرات وجانبا كبيرا من بلاد الشام والمناطق المجاورة لأرمينيا وغربي إيران؛ ونقل العاصمة من نينوى إلى كالخو (النمرود)  وفيما يلي نبذة موجزة عن حياته ومآثره ونبذة عن شخصيته نادرة المثال..
ورث آشورناصربال الثاني من أبيه تيكولتي - نينورتا الثاني مسؤلية توطيد الحكم الآشوري في الشرق الادنى وتوسيع رقعة المملكة الآشورية شرقا وشمالا وغربا.  فقد كانت الممالك التي تحيط القلب الآشوري في شمالي العراق من كل الجهات قبلية الطابع في الأغلب؛ وكانت هذه الممالك قد اعتادت التمرد والثورة والعصيان على الحاكم الآشوري بتحريض أو بدونه .. وتقع خلف هذه الكيانات القبلية دولا قوية تتمتع بجيوش دائمية وتحصينات دفاعية ونظم إدارية واقتصادية مستقرة فضلاً عن ملامح حضارية مميزة كدولة اورارتا (ارمينيا) ودمشق في الشام وحاتي في تركيا وبابل في جنوبي العراق . ولاريب ان دراسة دقيقة لجغرافيا الحملات الآشورية كما وردت في حوليات الملك آشورناصربال الثاني ستميط اللثام عن عظمة هذا الملك وجسامة منجزاته كما توضح الطاقة والمرونة والروح العسكرية التي تميز القيادة والجيش الآشوري ناهيك عن المقدرة الهائلة والمطاولة في مقارعة ظروف بيئية قاسية ميزت الاقاليم المحيطة بالدولة الآشورية..
كانت حملة الملك في الشرق مزدوجة في اهدافها إذ يتمثل الهدف الأول بالمحافظة على السلطة المركزية وعلى هيبة الدولة في المقاطعات التي أخضعها أسلافه؛ ويتمثل الهدف الثاني بتأكيد الاعتراف بالسيادة الآشورية على القبائل والدويلات الواقعة في أقاصي الشرق - على ذلك، لم يكد آشورناصربال الثاني يعتلي عرش بلاد آشور حتى بدء بالزحف على الجبال المجاورة.. وكانت وعورة الارض تشهد على القدرة العسكرية والمرونة الفائقة للجيش الآشوري الذي درج على تكييف الهجوم والاسلحة المستخدمة فيه مع طبيعة التضاريس واشكال المقاومة المتوقعة من العدو.. فانطلقت القوة الآشورية شرقا مدمرة اراضي كيرخي وتومي والقلاع التابعة لهما - وعندما ابدى حاكم نيشتون مقاومة عنيفة، تصدى له آشور ناصربال الثاني بنفسه ودحره وجلبه اسيراً الى مدينة اربيل حيث سلخه حيا هناك - وفي مصادر اخرى انه سلخ ابنه بابو - وهي عقوبة غالبا ما كان آشورناصربال الثاني يوقعها بالخصوم الذين يتسببون له بأدنى ازعاج. وكان لهذا العنف نتائج ايجابية للحكومة الاشورية - فخلال حكمه الطويل (25) سنة لم تحدث سوى ثورة خطيرة واحدة وذلك عام 881 ق.م. عندما حرّضَ نورأدد الآرامي أمير داغارا (الشهيرة بخزن الخمور) أهالي زاموا (السليمانية) على العصيان ورفض السيطرة الاشورية. وكان الوضع ينذر بالخطر حيث حصّنَ المتمردون مضيّق بابايت (معبر بازيان بين كركوك والسليمانية حالياً) لعرقلة تقدم الآشوريين الذين اتخذوا من قيليزي (قصر شمامك) معسكرا لأنطلاقهم شمالا؛ بينما بدأ اللولابي في الجبال  بوضع الخطط لغزو آشور نفسها، فعمد آشورناصربال الثاني الى قيادة ثلات حملات تأديبية متتالية في الجبال إثنتان عام 881 ق.م. وأخرى ثالثة عام 880 ق.م. اخضع بعدهما اقليم زاموا ودحر المتمردين الذين هربوا الى الاصقاع البعيدة ولاذوا في مغاور الجبال..فطاردهم آشورناصربال الثاني وراء جبل نيسري (بيرة مكرون) ومشط جبل كشمر (حجي ابراهيم) ثم واصل جنوبا صوب عيلام حيث شيد حصنا اسماه كار آشور يضاف الى الحصون العراقية في عمق زاكروس.. وبذلك اسرعت قبائل الشرق بدفع الأتاوة الى الملك الاشوري قبل ان يداهمها ويخرب مدنها وترينا الغنائم المنتزعة من اقليم زاموا التطورالحرفي لهذه البلاد حيث استقدم اشورناصربال الثاني عمالا وحرفيين مهرة الى كالخو للمساهمة في بناء المدينة الرائعة وتشييد قصره المطل على دجلة..
وفي الشمال كانت الممالك التي ضمها الملكان شلمنصرالاول وتيكولتي نينورتا الاول ومن بعدهما تكلاثبليزرالاول الى آشور، قد سقطت من يد السيطرة الاشورية منذ زمن بعيد.. فزحفَ آشورناصربال الثاني شمالا عام 881 ق.م. لأسترداد هذه الممالك ودحر خصومه الآراميين من قلاع ومدن الشمال مثل ايلوخات ودمدموزا (قازيق تبة) وسينابو (بورناق) التي تمركز فيها المتمردون فهاجم المدينة الأخيرة التي تمثل رأس الحربة المعادية وبعد معركة عنيفة وسريعة تمكن من دحر خصومه ودمر اسوار المدينة ثم احرق 3000 اسير وواصل تقدمه نحو الشمال وراء منابع دجلة الى بلاد ناعيري (الممتدة جنوبي اورارتا - ارمينيا) مدمراً المدن والقلاع وباسطا النفوذ الاشوري على هذه المناطق النائية وفي طريق عودته عمل على تأمين مدينة عاميدي ( ديار بكر) ببناء مدينة أخرى شرقها هي توشان (زيارة تبة) وجعلها عاصمة اقليمية لأمبراطوريته..وتجاور توشان سينابو وتيدو (اوجتبة) وكلها تقع شرقي ديار بكر- فتلقى اتاوات الملوك وهدايا رؤساء القبائل وتضمنت هدايا بلاد ناعيري باكملها ومعها اتاوات مشايخ الآراميين وبضمنهم خصم والده توكولتي نينورتا الثاني (آموبعلي) الذي تخلى عن عدائه واصبح الان تابعا مواليا للملك الاشوري. وفي طريق عودته الى كالخو، استلم آشورناصربال الثاني اتاوة ملك حاتي  في نصيبين واتاوات اقليم أيزالا من اقاصي الشمال الغربي للأناضول وهي منطقة كانت في الماضي تابعة للدولة الحيثية القديمة..
لقد كان سكان الشمال في عصيان دائم على السلطة الآشورية - لهذا شعر آشورناصربال الثاني بضرورة توجيه ضربة ماحقة تفطمهم عن التمرد إلى الابد وكانت تلك الضربة عام 879 ق . م إذ لم تكن القبائل القاطنة في جبل كاشياري (طورعابدين) وسفوحه (شمالي ماردين) قد اقرت بالحكم الآشوري وتقبلت الحاكم الآشوري الذي عينه آشورناصربال الثاني عليهم في توشان . وكانت القبائل المجاورة لتلك المدينة قد أعلنت عصيانها بتحريض من أورارتا مما ادى إلى قتل الحاكم الآشوري الآرامي (آموبعلي) في مدينة توشان ... إلا أن انتقام الملك الآشوري جاء سريعا وعنيفا وصاعقا فقد هاجم مناطق التمرد واهلك الحرث والنسل وجلب على المنطقة بأسرها الدمار والخراب بحيث استتب فيها الامن بعد هذه الغزوة على مدى تسع سنوات لحين أ آن اوان توجيه ضربة ثالثة اكثر تدميرا من الضربتين الأولى والثانية وذلك في عام 876 ق. م.
غير أن اكبر توسع تحقق للإمبراطورية الآشورية في عهد آشورناصربال الثاني كان في الغرب. فقد بات ضم الدويلات الغربية يشكل ضرورة حيوية للأستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي للدولة الآشورية ويؤمن الطرق التجارية عبر طوروس والأراضي الممتدة من انطاكية وحتى صور على الساحل اللبناني وهكذا فعندما زحف آشورناصربال الثاني غربا، لم تبد الدويلات الآرامية المبعثرة أية مبادرة  لتوحيد اشتاتها وتشكيل قوة مشتركة تتصدى للآشوريين في الوقت الذي شعرت فيه الممالك الحاتية في الشمال بالارتياح ازاء التوغل الآشوري في الغرب لانه يخفف مخاطر الهجمات والاغارات الآرامية في حدودها الجنوبية. لهذا فعندما داهم آشورناصربال الثاني الدويلات الغربية منطلقا من كوموخ (منطقة تقع بين توشان وسمعل" زنجيرلي" وميليد "ملاطيا") عام 884 - 883 ق. م. سارعت اقوام الموشكي (الفريجيين في قيلقيا على اطراف أدنة) النائية بارسال الهدايا إلى آشورناصربال الثاني درءا للخطر الآشوري أكثر منها تأكيدا لموقف ودي.. وكان السبب المباشر للحملة الآشورية مقتل "خاماتي" حاكم سورو (صور) وهو احد اتباع الملك الآشوري من قبل الأقوام المعادية للآشوريين؛ مما شجع سكان المناطق الممتدة بمحاذاة نهر الخابور وبخاصة بيت خالوبي على العصيان والثورة . وكان المحرض الرئيس على التمرد في منطقة الخابور حاكم بيت عاديني الذي ارسل دعيا من هناك ليتزعم التمرد. فانطلق آشورناصربال الثاني إلى سوريا وهاجم صور واخضع المدن المجاورة مما أضطر اللاقي والهندانو المقيمين في الضفة الغربية لنهر الفرات، وهي تحالفات من قبائل آرامية، إلى التخاذل ودفع الاتاوات وانواع الهدايا للملك الآشوري..
وتجدر الاشارة إلى أن اسلوب الملك الآشوري آشورناصربال الثاني في استحصال الضرائب والاتاوات يختلف عن اسلوب أسلافه - إذ بدلا من ارسال موظف آشوري يقوم بجباية الضرائب من الملوك والامراء في الاقاليم المجاورة، يأتي الملوك والامراء بانفسهم إلى كالخو العاصمة الآشورية جالبين معهم أتاواتهم من الذهب والفضة والنساء والمواشي والخيول والمنسوجات وهو الاسلوب عينه الذي انتهجه ابنه شلمنصر الثالث والملوك الذين جاءوا من بعده (وترينا المسلة السوداء في المتحف البريطاني وبوابة بلوات تواكب الملوك الوافدة إلى كالخو وهي تقدم الهدايا وتقبل الارض بين يدي الملك الآشوري) غير أن القبائل المقيمة في المناطق التي تشكل الحدود الشمالية - الغربية لبابل والمعروفة بالسوخي أو السوحي وجدت في اسلوب تقديمها للضرائب للملك الآشوري إذلالا طوعيا ومتكررا لكبريائها ولم يكن لها قبل بالادارة الصارمة المتضرية شديدة القسوة لآشور ناصر بال الثاني - مما دفعها إلى التحالف مع ملك بابل (نابو آبال أيدن) الذي كانوا يعدونه سيدا مطلقا عليهم كما جرت العادة مع آبائهم والملوك البابليين – إلا أن الملك البابلي لم يكن قادرا على شن هجوم معلن على الدولة الآشورية كما لم يكن قادرا على خرق المعاهدة التي فرضها على سلفه الملك الآشوري ادد – نيراري الثاني مما دفعه إلى ارسال قوة من الكاشيين تتألف من 3000 مقاتل وأو كل قيادتها إلى أخيه زابدانو لدعم السوحو الذين أعلنوا عصيانهم على الآشوريين عام 878 ق.م. ولم تكد أنباء العصيان تطال اسماع الملك الآشوري حتى انطلق باتجاه صور التي لجا اليها المتمردون . وكان بدء انطلاق الجيش من منطقة كوموخ في شمالي سوريا. انطلق الجيش الآشوري، هذه المرة، باتجاه الجنوب الشرقي وسار بمحاذاة الخابور فاشتبك مع العدو بالقرب من عانة في معركة طاحنة استغرقت يومين وتمخضت عن اندحار القوات الآرامية اندحارا تاما ووقع من بقى منهم على قيد الحياة في الأسر.  وكان من بين الاسرى شقيق الملك البابلي (كون الآراميين يشكلون الأكثرية في بابل) والكاهن الذي كان يتقدم القوات المتمردة . وكان هذا التمرد الآرامي فرصة للملك الآشوري وظفها لفرض المزيد من الشروط المذلة على الآراميين - على الرغم من تأكيده على العكس في أحد نصوصه : "أنا الملك دائم مجدي وجبروتي ... استدرت نحو الصحراء وقلبي يروم توسيع حمايتي" . ويقينا أن تلكم الحماية لم تكن سوى شروط سيادية تتعارض تعارضا حادا مع إرادة القبائل غربي الفرات؛ مما دعا قبائل الهندانو واللاقي إلى ضم صفوفهم في محاولة أخيرة لنيل استقلالهم. ولكن جواسيس الملك الآشوري ابلغوا قادة آشوريين بأنباء العصيان قبل الإعلان عنه، مما أثار سخط الملك الأشوري وجعله يقود بنفسه حملة قوية ومباغتة تمخضت عن سحق التمرد بوحشية منقطعة النظير مما ادخل الذعر في قلوب الهندانو واللاقي ومنعهم من الدخول في تحالف مع بيت عاديني أو في ما بينهم لمناهضة الآشوريين في الوقت الذي أسرع آخوني حاكم بيت عاديني إلى دفع الاتاوة صاغرا والأقرار بسيادة آشورناصربال الثاني على اراضيه..
وهكذا بسط الآشوريين نفوذهم على الخابور وأعالي دجلة والفرات إذ لم تكن هناك قوة بمقدورها التصدي لهم في سورية ولبنان ..وفي عام 876 ق. م. قام الملك الآشوري بحملة استعراضية طاف خلالها مدن البحر المتوسط على نحو مماثل لحمله تكلاثبليزرالأول - وتماثل العلاقات الآشورية مع ألدويلات الآرامية في سوريا علاقات فيليب المقدوني (والد الأسكندر) مع اليونان: إذ عمد الملوك الآشوريين إلى تعيين حكام محليين يمثلونهم في المناطق التي يغزونها - وهو إجراء قلدهم فيه الفرس لاحقا والرومان من بعدهم..
وفي شهر أيلول من السنة نفسها زحف الملك الآشوري إلى قرقميسش مجندا على نحو يذكرنا بهانيبال جنودا من الإقوام الآرامية التي مر بأراضيها مثل بيت باخياني وايزالا - وفي الطريق أسرع آخوني وخابيني بدفع الاتاوة ومعها رعيل من المقاتلين من بيت عاديني مما حفز سنكارا ملك قرقميش إلى الاسراع بدفع الاتاوة واعلان خضوعه هو الآخر للسيادة الآشورية. وكان الطريق إلى لبنان يمر باراضي خاتينا (باتينا) أو (عنقي) في المصادر الآشورية اي سهل عاموق - القريب من تل بارسيب - مما جعل لوبارنا ملك خاتينا يسرع بتقديم الهدايا معلنا انصياعه للملك الآشوري درءا للمذابح والخراب - وبعد ذلك، انطلق آشورناصربال الثاني عبر العاصي إلى اقاصي الجنوب الغربي فخرب المدن السورية واحرقها وسوى عددا منها مع الارض حتى وصل ساحل البحر (المر) المتوسط (ليغسل اسلحته) فاسرع ملوك صيدا وبيبلوس (جبلة) وطرابلس بتقديم الهدايا - وعندما وصل جبل أمانوس (الجبل الحمر او جبل اللكام الذي يشكل امتدادا لجبال طوروس وحدا فاصلا بين سورية وتركيا) أمر النحاتين بنحت نصب تذكاري يخلده في الجبال ثم اختتم حملته بقطع الاشجار التي حملها إلى كالخو لتسقيف قصوره ومعابده هناك..
وبعد عقد من الزمن، زحف الملك الآشوري مجددا باتجاه الشمال مرورا ببيت عاديني وكوموخ وتوغل في جبال الأناضول حيث بنى قلعة مازالت تعرف بقلعة النمرود (والمقصود هنا قلعة تيدو في اوجتبة وليس نمرود داغي في اديامان) . ثم اتجه جنوبا فهاجم دمدموزا التي عاد الآراميون وسيطروا عليها..وكانت احدى المدن الملكية لآشورناصربال الثاني ..فاقتحمها وذبح 600 مقاتل عند اسوارها وساق 3000 اسيرا منهم إلى عاميدي حيث صلبهم هناك -  ثم قطع حجارة الممرات الجبلية في جبل كاشياري (طورعابدين) لتسهيل حركة العجلات حتى وصل قلعة لابطوري حيث هاجم القلعة ودمرها واحرق المدن المجاورة لها ... وهكذا فقد ضمنت له هذه الحملة السيطرة على أعالي الفرات وهو أوسع مدى بلغته الإمبراطورية الآشورية في عصره..وفيما ياتي ترجمتي للنص القياسي لآشورناصربال الثاني عن ترجمة انكليزية لكرايسون للنص المسماري..يوضح فيه مسار حملاته  في الشرق الأدنى:
(قصر آشورناصربال الكاهن الأعظم لآشور، الملك الذي اصطفاه الإلهان إنليل ونينورتا، المفضل لدى الألهين آنو وداغان والسلاح الإلهي للآلهة العظيمة ، الملك القوي، ملك العالم، ملك بلاد آشور، أبن توكولتي- نينورتا الثاني الملك العظيم، الملك القوي، ملك العالم ، ملك بلاد أشور، أبن أدد - نيراري الذي (كان) أيضا ملكا عظيما، ملكا قويا، ملكا للعالم، وملكا لبلاد آشور؛ أنا الرجل الباسل الذي يتصرف "مدعوما" بثقة آشور ربه؛ "الملك" الذي لايوجد منافس له من بين أمراء الجهات الأربع، الراعي العجيب، المقدام في المعركة ومد الطوفان الجبار (يعود هذا التشبيه إلى ملحمة كلكامش إذ يرد في السطر (32) من الفصل الاول من الملحمة  انه موجة طوفان عاتية تحطم حتى السوار المنيعة)    الملك الذي لامنافس له. الملك الذي يخضع العصاة على الإخضاع؛ ويحكم الأمم كلها. الملك الفحل القوي الذي يدوس على أعناق أعدائه ويطوح بهم.. الذي يشتت القوات العاصية، الملك الذي يتصرف بدعم الآلهة العظيمة أربابه - الملك الذي غزا البلاد كلها وبسط سلطته على الجبال كلها وتلقى أتاواتها الذي يمسك الرهائن ، المنتصر على البلاد كلها..
   عندما وضع آشور ، الإله الذي دعاني بأسمي وجعل سلطتي مطلقة، أسلحته التي لاتعرف الرحمة في ذراعي الملكيين، قطعت بالسيف القوات الكبيرة لـ اللولومو (اقوام من زاكروس) في معركة. وبتأييد الإلهين شمش وأدد – اللذان يسانداني، أرسلت رعودي مثل الإله أدد المهلك ضد قوات بلاد ناعيري وحابحو وشوبارو وبلاد نيربو، الملك الذي أخضع عند قدميه (الاراضي الممتدة) من الضفة المقابلة لدجلة وحتى جبل لبنان والبحر الكبير، وبلاد لاقو وبلاد سوحو وبضمنها مدينة رابيقو، الذي غزا من نهر سبناط وحتى بلاد أورارتو (قلب بلاد نيريب). وضممت ضمن حدود بلادي (الأراضي الممتدة) من معبر جبل كيرورو وحتى بلاد كيلزانو . ومن الضفة الأخرى للزاب الأعلى وحتى مدينة تل  بري التي تقع في أعالي النهر في بلاد زابان؛ ومن مدينة تل - شا- أبتاني [أبطاني] وحتى مدينة تل - شا - زابداني؛ وكذلك مدينتي حيريمو وهاروتو (اللتان هما) قلعتان من قلاع كاردونياش (بابل). وأعتبرت الأقوام (القاطنة) من مضيق جبل بابيتو (بازيان) وحتى جبل هاشمر جزءا من سكان بلادي. وفي الأراضي التي تقع تحت. سيطرتي..وكنت دائما أعين حكامي وكانوا يؤدون لي الخدمة..
أنا أشورناصربال الأمير الحريص، عابد الآلهة العظيمة، التنين الضاري، غازي المدن والجبال كلها، ملك الأسياد، محاصر العصاة، المتوج بالبهاء، المقدام في المعركة، البطل الذي لايعرف الرحمة، الذي يدير الصراع، الملك الجدير بالثناء، الراعي وحامي الجهات الاربع، الملك الذي تفتت أوامره الجبال وتلاشي البحار، الملك الذي جلب بقتاله الملكي تحت سيادة (إرادة) واحدة الملوك المتوحشين عديمي الرحمة في الشرق والغرب..
أصبحت المدينة القديمة كالخو التي بناها شلمنصر(الأول) ملك بلاد أشور الأمير الذي سبقني خربة وبليت فأعدت بناء تلك المدينة..وأخذت الأقوام الذين غزوتهم من البلاد التي أصبحت تحت سيادتي - من سوحو و لاقو بأكملها ومن مدينة سيرقو (ترقا) التي تقع عبر الفرات ومن بلاد زاموا بأكملها، ومن بيت عاديني، ومن بلاد حاتي، ومن لوبارنا الباتنياني ووطنتهم فيها (في كالخو).. ثم أزلت التل القديم الخرب وحفرت حتى مستوى الماء.. وجعلت حفر الأساس بعمق 120 صف من الطابوق وأقمت عليه قصرا [سقفه] من السدر والصنوبر وعرعر الدابرانو، وخشب البقس وخشب المسكانو وخشب البطم وخشب الطرفاء لأقامتي الملكية بما يليق بأستراحتي وإمضاء وقتي الملكي إلى الأبد..وأمرت بعمل تماثيل من حيوانات الجبال والبحار من الحجر الجيري الأبيض ومن رخام الباروتو ووضعتها عند بواباته، وزخرفته على نحو رائع وأحطته بمسامير مفصصة من البرونز، ووضعت أبوابا من خشب عرعر الدابرانو وخشب المسكانو في مجازاته.. وأخذت كميات كبيرة من الفضة والذهب والقصدير والبرونز والحديد والغنانم من البلاد التي بسطت نفوذي عليها وأودعتها فيه)..
وقد عثر على هذا النص في إحدى قاعات القصر الشمالي الغربي في كالخو محفورا على منحوتة رخامية لمارد مجنح يرتدي صندلا ويحمل سطلا ويوجد حاليا في قاعة كولبنكيان في متحف بروكلين..ويبدأ كالعادة في النصوص الملكية الآشورية بديباجة تبجيلية للملك واسلافه ممن حكموا قبله..وفي هذا النص يورد آشورناصربال الثاني اسم والده توكولتي - نينورتا وجده ادد - نيراري؛ ثم يعرج على وصف شخصيته وصلته بالآلهة ثم يتناول وصف حملته فيورد مقدمة يتناول بعدها حدود الأمبراطورية مركزا على الأنهار والجبال لأهميتها الحيوية والستراتيجية (لأن عدم السيطرة على الأنهار من منابعها الى مصباتها وبضمنها الجبال والسهول المحيطة بالمنابع والمصبات يعد انتقاصا خطيرا في السيادة لدى الآشوريين). ويعود الملك مجددا لوصف شخصيته بمفردات تعظيم فهو ملك الملوك والتنين الضاري قاهر المدن والجبال في كل آمادها والأسد الذي لايعرف الرحمة مدمر العصاة..وأخيرا يختتم النص بوصف جهوده في عمارة الأرض وحفرالقنوات وايعازه بتدوين مآثره على منحوتات قصره..
آشورناصربال الثاني - منجزاته وشخصيته:
كان آشورناصربال الثاني قد قرر منذ بدء حكمه نقل عاصمته من نينوى إلى كالخو (النمرود) لذا اعاد بناء هذه المدينة المندثرة التي كان شلمنصر الأول قد اتخذها عاصمة له - ويبدو أن آشورناصربال الثاني قد بدأ اقامته في كالخو في 880 - 879 ق.م. ولهذا يعود الجانب الأكبر من مبانيه في هذه المدينة إلى السنوات الخمس الأولى من حكمه. ومن المنجزات الرئيسة التي انجزها في النمرود قناة تمر تحت الارض في بعض الاماكن تعرف بقناة الوفرة (بيلات هيكالي)،  تنقل مياه الزاب إلى كالخو - وكذلك سور المدينة فضلاً عن قصره الذي تزين مداخله الالواح المحفورة وتحرس بواباته الثيران المجنحة وهو مبني من اللبن المغلف بالحجارة والرخام كما شيد معابد عديدة في المدينة كمعابد نينورتا ونبو وعشتار وشيد زقورة في مدخل المدينة الشمالي الغربي كما اعاد اعمار معبد عشتار في نينوى. وقد تم العثور على عدد كبير من المنحوتات واللوحات التي تمثل طقوساً دينية ومشاهد صيد ومعارك ومواضيع اسطورية وكان عددا من هذه المنحوتات المحفورة على الرخام والحجارة والزخارف التي تزين القصر الشمالي الغربي ملونه وهي تعكس قوة هذا الملك واتساع رقعة مملكته وثروته الهائلة؛ كما عثر في الآونة الأخيرة على أسود وثيران مجنحة في مواضع جديدة بين القصر الشمالي الغربي والزقورة بالأضافة الى المنحوتات العاجية الوفيرة التي عثر عليها في القصر الملكي وفي حصن شلمنصر (تلول عازر) الكائن في الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة. وقد تم في الآونة الاخيرة اكتشاف المقبرة الملكية في القاعات الداخلية في القصر الشمالي الغربي واخراج كنوزها من المجوهرات والمصوغات الذهبية والعاجيات التي تعكس مهارة فنية رفيعة الطراز اشتركت بها مهارات فينيقية ومصرية وحاتية تمثل تطور الفن في الشرق الأدنى بأسره..
ويظهر الملك والمرافقين بل وحتى الخصيان والمردة والملائكة الحارسة بثياب ثقيلة تغطي كامل الجسم وتنتهي بحافات مزركشة . وتظهر المناطق البادية من الجسم الانساني أو الحيواني القوة الجسمية الهائلة من خلال تصوير عضلات الذراع والساق وكذلك في الأسود والثيران التي تدخل الذعر في قلوب الاعداء مما يوحي بانها كانت جزءا من الدعاية السياسة التي عمد الآشوريون إلى توظيفها لإدخال الرعب في قلوب خصومهم . وتظهر زهرة البيبون - الشبيهة بوردة الكاميليا - الشهيرة في ام الربيعين في كل مكان من المنحوتات الجدارية وعلى أساور الملوك وثيابهم وتيجانهم وكذلك في تيجان الثيران المجنحة وحول قواعد العرش وزخارف النصب التذكارية مما يثير التعارض الجمالي لدى الآشوريين بين الورد والعنف الانتقامي الذي يشهد على حب الدماء لدى الملوك الآشوريين وتبرز القدرة الفنية على التصوير لدى الفنان الآشوري في نحته للتكوينات المركبة التي تمثل عالم الحلم والاسطورة والخيال كما تطالعنا في الثيران المجنحة وفي صراع الإله مع تيامات المصورة  برأس نسر وأرجل اسد وجسم انسان - انه فن ياخذنا إلى عالم القوة والرهبة والجبروت سواء أعبرت عنه اشداق الاسود ام الابتسامة الهادئة لاشور ناصر بال الثاني..
وهنا لابد أن نوضح جانبا من الملامح الشخصية لهذا الملك من خلال حولياته ومنجزاته. واول ما يطالعنا قدرته الهائلة في توطيد الحكم الآشوري في المناطق التي يستولي عليها بما يدل - إلى جانب القوة الفريدة من نوعها - على متانة الإدارة الآشورية وقوة الجيش الآشوري فضلاً عن المرونة الفائقة التي يتميز بها في التكيف مع الظروف القتالية والبيئية. كما نلاحظ أن السلطة المطلقة لاشورناصربال الثاني وأقرانه من الملوك الآشوريين تنبثق من اعتقاد الملك بأنه يقود حربا بالوكالة عن الآلهة العظيمة وأن غنائم الحرب ستصب في معابد يقدسون فيها .. ولعل ابرز دليل على الإدارة الحازمة لهذا الملك انه لم يقد خلال العقد الأخير من حكمه بنفسه سوى حملة واحدة في حين تميزت هذه الفترة بالاستقرار السياسي وباستتباب الأمن والسلم اللذان يقتضيان المحافظة على جيش دائم يضطلع بالمهمة المزدوجة المتمثلة بالحفاظ على الآمن الداخلي والاستعداد لقمع العصيان والتوسع في الخارج يؤكد ذلك أن شلمنصر الثالث ورث جيشا قويا ودولة راسخة من ابيه على الرغم من مرور فترة طويلة من السلم المصحوب بالاستعداد السوقي للقتال في أية لحظة..
ولم يكن العنف الآشوري منطلقا من نوازع التهور.. بل الحزم والحرص على سيادة الدولة وتفوقها يدل على ذلك تحاشي آشورناصربال الثاني الاصطدام مع مملكة دمشق القوية في اثناء حملته على مدن الساحل الفينيقي الأمر الذي يؤكد البعد العقلاني في سياسة الملك..ولا يختلف آشورناصربال الثاني عن غالبية ملوك الشرق من حيث حبه للأبهة الصروحية والثروة والذهب وتعلقه بالقتال البطولي وبالنظرة الأسطورية إلى العالم فضلا عن قوة الدافع الديني وحب تخليد الذات. كما يماثل اسلافه واحفاده الآشوريين بميزتين أفردتهم عن سواهم من الملوك اولهما سياسة التهجير والاحتفاظ بالرهائن وثانيهما تشغيل الاسرى في اعمال السخرة.. وانتهاج سياسة الارض المحروقة في الحروب ان اقتضت الضرورة..والأرجح أن آشورناصربال الثاني هو أول ملك آشوري أمر بسلخ اعدائه من بين الملوك والأمراء أحياء وتعليق الجلد على اسوار المدن كما هو الحال مع حاكم نيشتون الذي سلخه حيا ونشر جلده على سور اربيل..وتلك ممارسة استمرت حتى عهد آشوربانيبال الذي اختار تعليق رؤوس خصومه في عرائش العنب في تلقوينجق، وكان راس ملك عيلام "تومان" من بين الرؤوس التي علقها احتفالا بانتصاره على عيلام في حديقته المطلة على بوابة المسقى في الزاوية الشمالية الغربية من تلقوينجق..
واشتهر آشورناصربال بتفرده بكتابة الرقم على سبائك ذهبية كالتي عثر عليها في تل أبقو في ابوماريا وبحبه للمنحوتات العاجية فينيقية الصنع التي كانت تزين صناديق زوجته وارائكه واسرته بينما خصص الكرنلين والياقوت والذهب الأحمر لمقعد عرشه الخاص..كما عرف بمهارته في الصيد والطرد وهي صفة لحقت النمرود الأسطوري ايضا ..وفي جولاتي في اوابد النمرود تمكنت من التعرف على موقع مدينة ثانية لعل آشورناصربال الثاني كان قد خصصها للأستراحة أو للحفاظ على الغنائم الثمينة والنادرة ربما هي عينها ريسين الأسطورية ولكن الأكيد وجود نفق يربط بين كالخو وريسين شمالا والخضر والبساطلية ينتهي بماربهنام شرقا ولااستبعد اتصاله ببلوات عن طريق قرقش وخربة السلطان..وهي قرى يوطنها الشبك جنبا الى جنب مع العرب منذ مئات السنين..
وبالإضافة إلى هذا وذاك، يتميز آشورناصربال الثاني بذائقته المتميزة للفن والأدب إذ يجمع بين الاهتمام بالأعمال الفنية صغيرة الحجم دقيقة التفاصيل كالعاجيات الفينيقية وبالأعمال الصروحية التي تنتشر وكأنها زخرفة اسلامية لا تعرف أطراً أو حدودا للكتابات المسمارية التي تخلد مأثره وغزواته ومنجزاته - وتعكس الأسود في كالخو قوة الدولة وضراوة الملك في تعامله مع خصومه في آن واحد..
كما تطالعنا في حولياته صورا ومجازات شعرية تعكس الذائقة الأدبية لعصره وتنطوي على سمة التنافر الجمالي المميزة للذائقة السامية عبر العصور فهو أسد وطوفان وطائر صاعقة وهو في الوقت نفسه فأر يقطف الثمار من بساتين البهجة في كالخو. ويخبرنا في اماكن مختلفة في حولياته عن جيشه وهو ينطلق مثل طير الصاعقة نحو قلعة شاهقة مثل غيمة ترفرف في السماء أو عن جبل منحدر كحافة الخنجر..
ولعل آشورناصربال الثاني أو ابنه شلمنصر الثالث أو حفيده تكلاثبليزر الثالث يمثل الشخصية الاسطورية ذائعة الصيت في الادب الشعبي المعروفة بالنمرود.. إذ تتماثل الشخصيتان في وجوه عديدة أبرزها القسوة منقطعة النظير والطغيان المطلق والجبروت. وأخيرا ففي شخصية هذا الملك تتجلى الروح القتالية العسكرية للبطل الرافديني وحبه للسيادة والحرية والأستقلال فضلا عن كبريائه وعبقريته منقطعتا النظير...


22
الأكلاك والكفف بين نينوى وبغداد عبرالقرون
صلاح سليم علي
مقدمة
يعد العراقيون القدماء نهري دجلة والفرات وروافدهما من منابعهما في جبال الأناضول وحتى المصب في مياه الخليج العراقي جزءا لايتجزأ من  اراضيهم وبدونهما تعد السيادة على اراضي بلاد مابين النهرين ناقصة وتكتسب الحرب مشروعيتها ومبرراتها..والتجربة التاريخية عبر القرون الدامية تؤكد أهمية الأنهار في حياة الأمم وازدهارها ودوام قوتها وأمنها، وأن مجرد وقوف خصم على منابع النهر أوفي روافده يعني خطرا داهما يقف عند راسك أوخصرك ..فالأنهار يمكن تحويل مجاريها او تلويث مياهها او تقليص منسوباتها أو التحكم بأقدار الدول الواقعة في مجاريها او مصباتها وتحقيق افضلية تفاوضية على الأمة الواطنة في مجاريها ومصباتها في حالتي الحرب والسلم..على ذلك وبحكم الإدراك الفطري السليم والقيمة المطلقة للسيادة، عمد ملوك العراق ومنذ العصر الأكدي على عهد سرجون الأول ونيرام سين ومن بعدهما البابليين على عهد حمورابي فالأمبراطوريات الآشورية الى تأمين دجلة والفرات وروافدهما اراض عراقية قلبا وقالبا وبما لايقبل تفاوضا او جدلا..
وعندما انتقلت السلطة الى ايدي الآشوريين نشأت الحاجة الى توسيع طرق المواصلات والأتصالات لتأمين إدارة الأمبراطورية الشاسعة ولاسيما في الألف الأول ق.م. فقد كان الجيش الآشوري في حركة دائمة ومتصلة في اطراف الأمبراطورية عبر زاكروس وطوروس وفي قلب الأناضول في وقت ازدادت حاجة القلب الآشوري الى الحبوب والأخشاب والزيوت والخيول والجلود والمعادن والموارد الغذائية بينما كانت حاجة الجيش الى الميرة والمعدات التي تزودها مدن القلب الآشوري دائمة..
على ذلك عمد الآشوريون الى تمهيد الطرق وتوسيعها وقطع حجارة الجبال منذ الألف الثاني ق.م. وذلك اختصارا للوقت وتقريبا للمسافة الى المدن عبر طوروس وزاكروس؛ ولا ادل على ذلك من منحوتة لتكلاثبليزرالأول في جبال طوروس يظهر فيها ممسكا مطرقة في أشارة الى قطعه لحجارة الجبال لشق طرق جديدة فيها كما ورد في نص له..كما شيد الآشوريون المعابر والقناطر والجسور الحجرية والخشبية وجسور الأرماث اوالقوارب كما في منطقة حلبية وزلبية (كارآشورناصربال الثاني)  في الفرات الشامي بالقرب من تدمر او في قرقميش وتوشان شرقي دياربكر وعانة وفي مناطق أخرى .. ولأن أعالي دجلة والفرات ودجلة بوجه خاص يرتبطان ارتباطا مباشرا بالقلب الآشوري عمد آشورناصربال الثاني الى تأمين هذه المناطق من خلال بناء عاصمة اقليمية له في توشان (زيارة تبة) شرقي عاميدي (دياربكر) وربطها بسلسلة من القلاع تمتد بمحاذاة دجلة والفرات من اعالي طوروس وحتى قصر البنت أو (قصر سميراميس) بالقرب من قلعة آشور على دجلة ورابيقو [مدينة مندثرة تقع في مثلث الفرات قبالة الفلوجة] على الفرات..
وقد احتل النهران موقعا متميزا في الميثولوجيا القديمة للشرق الأدنى وفي الميثولوجيا العراقية ..ففي الرواية السومرية ان الإله أنكي أستمنى وان دجلة والفرات هما مجرى منيه الى البحر وانه بعد ان دفق مياه النهرين ملأهما بالأسماك وشيد على ضفافهما المدن وعين على كل نهر إلها راعيا يحرص على نقائه وأمنه وروافده ومناسيب المياه فيه ..وفي اسطورة الخلق ان مردوخ تمكن بعد صراع مع تيامات من قتلها وشطر جسمها الى شطرين صنع منهما الأرض والسماء ثم اقتلع عينيها ووضعهما في اعالي الجبال فتدفق منهما نهرا دجلة والفرات..وفي التوراة ان دجلة والفرات ينبعان في جنة عدن ومعهما سيحان وجيحان الأناضوليان.. وترى هذه الرواية أن اعالي دجلة والفرات أي شمالي مابين النهرين هي موقع جنة عدن..وانها تمتد حتى كوش الأفريقية مرورا ببابل وسومر..وهذا مايذكرنا ببوابة بلوات ومنبع نهر دجلة في بيركلنجي حيث درج ملوك العراق على تقديم الأضاحي وإقامة المآدب ويؤكد ماذهبنا اليه بقداسة نهري دجلة والفرات وضرورة بقائهما من المنبع الى المصب جزءا من بلاد مابين النهرين التاريخية..كما يذكرنا برواية غامضة تضمنتها قصيدة  صمويل كولردج (قوبلاي خان) حول نهر جوفي ينبع من اقصى شمال العالم ويظهر في مناطق من اوربا ليختفي مجددا ويظهر في نفق بيركلنجي ثم  ينبع في دجلة والفرات في مجراهما العراقي ليختفي مجددا تحت الخليج العراقي ليظهر في الحبشة ..وقد تناول كاتب غربي قصة النهر هذه في كتاب ممتع عنونه (الطريق الى زانادو)..وتشاطر اساطير اورارتية (أرمنية) وحيثية روايات أخرى عن دجلة والفرات أقتبسوها من الميثولوجيا العراقية..
 ولكن لاخلاف على ان تسمية انهار العراق كلها عراقية مما يؤكد عائديتها الى العموريين والأكديين والسومريين والكلديين والآشوريين والفينيققين  الذين وفدوا الهلال الخصيب منذ فجر التاريخ واسسوا للحضارة والتمدن على حوضي دجلة والفرات واعتمدوا الهلال رمزا من رموزهم وأورثوا ريادتهم للمصريين وللآرامين والعرب وهم آخر الأقوام الجزرية المتحدرة من العموريين والأكديين والفينيقيين في استيطان الهلال الخصيب من بعدهم..والدليل الفيلولوجي يضاف الى جملة من الأدلة الأنثروبولوجية والأجتماعية والتراثية والعقيدية بمايؤكد اتصال الملامح الحضارية المميزة لسكان بلاد مابين النهرين منذ العصر السومري وحتى العصر الحديث.. فالمدن الآشورية التي شيدت على شواطيء دجلة والفرات مابرح العديد منها قائما حتى الوقت الحاضر وفي الموقع عينه وبأسمه الأكدي - الآشوري القديم او باسم مصحف عن الأسم القديم ..ولو استمر مجرى دجلة بمحاذاة تلقوينجق اي في الشارع المؤدي الى جامعة الموصل، ولم ينسحب قرابة ميل ونصف الى الغرب، لكانت نينوى والجانب الأيسر مركزا تسويقيا بدلا من الساحل الأيمن للموصل وذلك لآن النهر هو الذي يحدد المركز التجاري للمدينة على الرغم من وجود مركز جغرافي لها بالقرب من الجامع النوري في الوقت الحاضر..مما يدل على اعتماد الموصليين والآشوريين من قبلهم على النقل النهري من الأناضول نزولا الى بيرتا (تكريت) فآشور (الشرقاط) فأوبيس (القيارة) فأوبا سا (الحويش) حيث تفرغ البضائع لتتخذ طريقا بريا عبر البوابة الميدية الى طريق الحرير ومنها مايتخذ سبيله في الشط سربا الى بابل مدينة عشتار وعروس العالم القديم ..
ولم تفقد هذه المدن اهميتها على العهود العربية الأسلامية باستثناء بابل التي سلمت دورها لبغداد بينما استمرت هيت بتزويد القير لتغليف قوارب الكفة والزوارق الأخرى المستخدمة في النقل التهري في بغداد ومحافظات الجنوب .. ونشاهد في منحوتة سنحاريب في بافيان التي حولها مرتزقة لاحظ لهم من التحضر والتمدن في اعقاب الإحتلال الى دريئة يتدربون في منحوتاتها على دقة التصويب، قائمة بأسماء المدن والقصبات والقرى الواقعة على نهر دجلة ضمن سهل نينوى والزابين الأعلى والأسفل..فبدهي ان تكون الأنهار شرايين الحياة ومصدر الخصب والإنماء واسس الحضارة والتمدن بل ورمزا لسيادة الأمم واستكمالا لهذه السيادة..ولاتتمتع انهار العالم كلها بالمواصفات والخصائص عينها فمنها مايجري في الصحراء كنهر تاريم في الصين، ومنها مايجري في ادغال وغابات كنهر الأمزون الذي يجري في غابات استوائية في امريكا الجنوبية ولاتوجد على ضفتيه مدن كثيرة ولاتربط ضفتيه بسبب اتساعه وعرضه اية جسور، ومنها مافسدت مياهه وامتجت وغابت عنها ملامح الحياة..ومن الأنهار مايفتقر الى عدد من الخصائص المميزة لنهري دجلة والفرات بل وحتى نهر النيل يفتقر الى مثل تلك الخصائص المميزة للنهرين العظيمين اللذين تتآمر عليهما وعلى روافدهما قوى شريرة جشعة لم تغير طباعها اللئيمة خلفا عن سلف..وسلفا لخلف!
فدجلة والفرات اشبه بكائنين حيين طعنا اكثر من 30 طعنة في راسيهما ومنكبيهما وما اصاب دجلة في خصرها والفرات في رأسه يبكي القلوب قبل العيون مما يذكرنا بقوة بمفهوم السيادة لدى اسلافنا والتي تشمل السيطرة المطلقة على نهري دجلة والفرات وروافدهما وراء زاكروس وفي عمق طوروس وحتى الخليج العربي..فأن نحن قارّنا الأنهار بالشرايين التي تزود الأمم بنجيع حياتها، فأن قطع النهر او حرف مجراه او تلويثه او اقتطاع مياهه بالسدود الكثيرة؛ يرقى الى تيبيس الشرايين التي تزود الجسد بالحيوية والحياة..وتؤكد التجربة التاريخية عبر القرون الدامية  ان  المشترك الديني لايشكل حاجزا دون ذبح دجلة والفرات في اراضي منبعيهما من قبل الأقوام الآسيوية التي وفدت في القرون الوسطى الى آسيا الصغرى وازاحت بالتدريج الحواضر العربية والأرمنية لتتوطن فيها موظفة الدين الأسلامي قناعا وطلاءا لمطامع قومية وامبريالية..وهذا يفسر دوافع تركيا وايران في تفكيك الحضارة العربية والغاء الذاكرة التاريخية للعرب..فالأمن المائي والطمع بموارد العراق هما من يصمم التوجهات السياسية لتركيا وايران ويقفان وراء الخراب المعاصر الذي جاء به الغرب مدفوعا بارادة الصهاينة وشيوخ النفط  الى العراق وجارته العربية سورية..وتحت طائلة تسميات الهدف من ورائها انهاء النهوض القومي للعرب وتضييع هويتهم و تفكيك دولهم وتشتيت شعوبهم وتبديد ثرواتهم..فلا غرابة ان تختفي من دجلة والفرات ملامح الحياة والحركة ويتعطل النقل النهري لضحالة المياه فيهما..وفي نظرة الى الماضي البعيد والقريب تبرز الأكلاك والكفف شاهدا على ما اصاب النهرين من ويلات في العصر الحديث مقارنة بازدهارهما في الماضي..
الأكلاك والكفف من العهود القديمة وحتى العصر الحديث:
تعد الأكلاك والكفف همزة وصل بين ماضي العراق في العهود الغابرة والعصر الحديث..فقد استمر استخدام الأكلاك والكفف منذ الألف الثالث ق.م. وحتى خمسينيات القرن العشرين..وقد جاء الكثير من المؤرخين والبلدانيين والرحالة الأجانب على ذكرها ووصفها غير ان كلا ابن بطوطة وابن جبير لم يتطرق اليها على الرغم من مرورهما ببغداد والموصل وكذلك البلدانيين العرب والعجم الذين تحدثوا عن الموصل وبغداد وسوريهما وعمائرهما وعن دجلة والفرات وذكروا السفن والقوارب؛ وربما كانوا يصفون الكفف والأكلاك عند حديثهم بصورة عامة عن السفن والقوارب دون التطرق الى مواصفاتهما تماما كالحديث عن الطير في الآية الكريمة (والطير إذا هوى)..وتعد الكتابات المسمارية والمنحوتات الآشورية أول المصادر التي ورد فيها ذكر الكفف والقوارب إذ تأكد استعمالها في النقل النهري منذ عهد سرجون الأكدي كما نطالع في نص لشلمنصر الثالث يعود للقرن التاسع ق.م. الآتي: (في السنة التي تحمل اسمي وفي 13 من ايار، غادرت نينوى..وعبرت دجلة وزحفت عبر اراضي حسامو وديهنونو حتى وصلت تل بارسيب (تل أحمر) قلعة اخوني ابن آديني، الذي وثق في حجم جيشه وخرج لمواجهتي، فأطحت به..واطبقت عليه في مدينته..ومن هناك عبرت الفرات على أكلاك من جلد المعيز في وقت طوفانه..فداهمت واستوليت على مدن...و ...تاغي وسورومو وباريبا وتل بشري ودابيقو..ستة مدن من مدن آخوني وقتلت العديد من جنده وحملت غنائمهم)..وهذا في الواقع نص مهم لأنه يشير الى انطلاق جيش شلمنصر الثالث من نينوى مما يؤكد اهميتها كعاصمة ثانية للأمبراطورية الآشورية بعد كالخو؛ وكذلك الى استخدام الأكلاك في نهر الفرات ايضا في ذلك العصر، ألى جانب دجلة، على الرغم من عمق مجراه ومهده الصخري في مناطق مختلفة وعنفه في الطوفان في شهر ايار من تلك السنة.. كما ابرزت تنقيبات أور نموذجا لقارب خشبي طوله 25 قدما استخدم في العراق منذ منتصف الألف الرابع ق.م. وكان العراقيون قد اتقنوا نسج خوص سعف النخيل والحلفاء والحبال بحجوم مختلفة وصناعة الحصران بمهارة فائقة منذ الألف الخامس ق.م. مما يؤيد احتمال وجود الكفف في جنوبي العراق منذ عصر كلكامش وانها انتقلت من الجنوب الى بابل ومنها الى بغداد في عصور لاحقة ..يؤيد ذلك وصف هيرودوتس:
(ولكن الذي اذهلني الى ابعد الحدود بعد بابل نفسها، القوارب التي تقدم الى بابل ..فهي دائرية ومصنوعة من الجلد اما هياكلها فمن [اغصان] الصفصاف التي تقطع في بلاد الأرمن شمالي بلاد آشور..وفوقها [أي الأرماث] غطاء من الجلود الممدودة ..وهكذا يصنع القارب بدون دفة او مقدمة مدببة ..فهي أشبه بالترس)..
ونطالع في منحوتة آشورية تعود الى القرن الثامن ق.م. تصويرا لكفة محملة بأخشاب أو مواد بناء يقودها اربعة جنود آشوريين تعود لعهد الملك سنحاريب محفوظة حاليا في المتحف البريطاني..وهنا لابد من افتراض احتمال خطأ هيرودوتس في حديثه عن استخدام الجلود في تغطية هياكل الكفف التي عدها مصنوعة من اغصان الصفصاف التي يؤتى بها من ارمينيا مما اضل عدد من الباحثين وقادهم الى الأفتراض القائل ان الآورارتيين اسلاف الأرمن هم من ابتكر الكفف وان احد ملوكهم اهدى كفة لماركو بولو خلال مروره بأرمينيا ..والأرجح ان الكفف التي جاء هيرودوتس على وصفها كانت تصنع من الحلفاء وخوص سعف النخيل اللين وتغطى بالقير الذي يجلب الى محلات صنعها من هيت لمنع تسرب المياه اليها ..ولأنها سوداء، تصور هيرودوتس انها مصنوعة من جلود الثيران...وكانت جلود الثيران والمعيز تنفخ وتوضع تحت أرماث الأكلاك وليس الكفف ..وكان السومريون ومن جاء من بعدهم يستخدمون القير الذي يجلب من هيت التي تبعد قرابة 100 كم شمال شرقي بغداد لحماية بيوتهم وقواربهم ولاسيما في موطنهم  قبل انحسار ساحل الخليج العربي من مكانه في اطراف اور (الناصرية) وشروباخ ..
كما ورد ذكر الأكلاك، هذه المرة، في رواية زينوفون القائد والمؤرخ اليوناني الذي صاحب 10.000 مرتزق يوناني استأجرهم قورش الأصغر لمساعدته في مقاتلة اخيه أردشير الثاني والأستيلاء على الحكم في بلاد فارس..ولكن أردشير الثاني قتل أخيه قورش في معركة بالقرب من بابل مما دعى المرتزقة اليونان الى التقهقر الى بلادهم ولهذا يطلق على رواية زينوفون المعروفة بأناباسيس رحلة العشرة آلاف او تقهقر العشرة آلاف، وبعد مقتل قورش الأصغر، عمد المرتزقة اليونانيين الى اختيار ثلاثة رجال من خيرتهم لقيادتهم في رحلة العودة وكان زينوفون نفسه من بينهم ..وبينما وفدوا بلاد الرافدين بمحاذاة الفرات كانت عودتهم بمحاذاة دجلة..وتجدر الملاحظة ان دي شسني قائد الحملة لأستكشاف الفرات ودجلة سار على خطوات زينوفون ولكن في النهر وليس بمحاذاته ..وجاء في رواية زينوفون:
(ولكي يوجه تيسافرنيس إهانة لذكرى قورش [الأصغر] سمح لليونانيين نهب كل شيء ماعدا العبيد..فسرقوا كميات كبيرة من الذرة والمواشي واشياء أخرى وانطلقوا من هناك فتجاوزوا قرابة 20 فرسخا من الصحراء في خمسة ايام وكانوا يسيرون بمحاذاة الشاطيء الأيسر لدجلة..وفي نهاية مسيرة استغرقت عشرة ايام بمحاذاة النهر شاهدوا مدينة كبيرة ومزدهرة في الجانب الآخر "الأيمن" للنهر اسمها سينا "كيانا" او "سيانا" كانت اقوام  همجية تنقل منها ارغفة الخبز والجبن والنبيذ على "طوف" عائمة على جلود "الحيوانات" المنفوخة)..
ولعل هذه المدينة التي جاء زينوفون على ذكرها كانت في موقع قرية السفينة عند ملتقى الزاب الأعلى بدجلة ..يؤيد ذلك التماثل بين كلمة سينا و "السفينة" فضلا على الموقع في ملتقى الزاب بدجلة..ويبدو ان ذهاب يعقوب افرام منصور الى تسمية هذه المدينة  "كاريناري"  وخلطه بين هذه التسمية المصحفة عن نص زينوفون وموقع تل البنت او قصر البنت الواقع على نهر دجلة بالقرب من الشرقاط..قد جاء بسبب خطأ في فهم النص وتتبع تحقيقاته في المصادر الغربية..ويبدو من تتبع النقل النهري في دجلة والفرات وروافدهما في العصور القديمة أن الكفة كانت مكملة للكلك..اي ان وظيفتها تبدأ عند انتهاء وظيفة الكلك..ولأسباب فنية وملاحية فنهر الفرات يسير في مهد حجري في مجراه بالقرب من حلبية وزلبية وصولا الى الرطبة، بينما يتدفق دجلة بسرعة هائلة في مناطق عديدة من مجراه من ديار بكر وحتى الشرقاط مما يجعل موسم زيادة المياه وقلة الرياح المحصور بين آذار وحزيران..أي قبل تناقص منسوب المياه بسبب ازدياد درجات الحرارة الأفضل في النقل النهري سواء للمؤن والبضائع ام للجنود والأخشاب..وبينما كانت الأكلاك في الأرجح تستمر حتى بابل فسيبار ومنها أكادا ولارسا في العهود القديمة، فأنها كانت، على العهود اللاحقة،  تفكك في بغداد فتباع اخشابها وتحمل الجلود بعد تفريغها من الهواء على الحمير لأعادتها الى ايمار الواقعة على الفرات ولكن بعد مرورها بأوباسا (الحويش) بالقرب من سامراء فآشور ومنها الى شوبات انليل (تل ليلان) مدينة شمشي أدد الأول وعاصمة الأمبراطورية الآشورية الأولى على الخابور بطريق توتول.. ولعل السبب في أطالة الطريق وعدم المرور بماري على الفرات دوافع عقيدية تتمثل برغبة التجار بنيل بركة الإله دجن (داكان) في معبده في توتول على الفرات..
 ولنا أن نتصور أن الأكلاك ربما كانت تفرغ من حمولتها في مناطق معينة من مجرى الفرات وبخاصة عندما تحمل بالبضائع الثقيلة والحجارة النادرة والمعادن من جبل امانوس او من حلبية وزلبية (كارآشورناصربال) على الفرات بالقرب من تدمر ويعاد تحميلها بوسائط أخرى كأن تكون جمالا او بغالا او حميرا تؤجر لهذا الغرض بينما تساق في انتظار وصول البضائع الثقيلة بعد تجاوزها لمناطق خطرة من مجرى الفرات الذي يتواتر تغير شطآنه الرملية وتتسبب الحجارة في مهده الى تمزيق جلود الحيوانات التي تحمل الأكلاك ..قبل هيت ليعاد تحميلها مجددا فتواصل سيرها الى بابل حيث تفكك..وكانت الأكلاك تركب في العهود القديمة في مناطق آشورية - أورارتية في اعالي الفرات كسمساط وكموح وبيرجيك.. اما تلك التي تتتخذ دجلة فكانت تصنع في الأغلب في عاميدي ( ديار بكر) والأرجح أن السلع من منطقة ديار بكر كانت تشمل الحبوب والمواد الغذائية كالتين والزبيب واللوز والجوز والقمح والنبيذ والصابون والمنسوجات ،بينما شملت البضائع القادمة عبر الفرات المعادن والأخشاب..وقد أخذ الفرس والأرمن عن الآشوريين استخدام الأكلاك في النقل النهري حتى ان الفردوسي جاء على ذكرها في الشاهنامة المكتوبة بين 977 و1010 م. أي بعد ابتكارها من قبل اسلافنا بأكثر من الفي سنة قائلا: ( وكانت الخيول تجلب على اكلاك عائمة على جلود المعيز المنفوخة)..
ولاريب ان استخدام الأكلاك والكفف في بلاد الرافدين استمر في الألفين الأول والثاني للميلاد..غير ان الروايات التي تصف الأكلاك والكفف اخذت بالتواتر منذ القرن السادس عشر الميلادي ولايؤثر عن بنيامين توديلا انه جاء على ذكرها على الرغم من مروره بالموصل في القرن الثاني عشر..وهنا لابد من ألإشارة الى ان الرحالة الوافدين برا من القدس او مصر الى بلادنا، لم يتطرق اكثرهم الى وصف وسائط النقل النهري..وكانت حصة الأسد في وصفها للرحالة الوافدين من الشمال ممن حاذى في رحلته دجلة أوالفرات أو مربهما او ممن زار الموصل أوبغداد أو كلتيهما.. مع ذلك فقد كانت غرابة منظرها وفرادة ابتكارها تدعوان كل من رآها في مياه النهرين الى وصفها؛ فقد جاء في رواية الرحالة بياترو ديللا فالا 1647 ان (الأكلاك تستخدم لنقل الأخشاب من غابات الأناضول الى العراق كون العراق فقير بالأخشاب)..أما الرحالة فيديريكو الذي زار بغداد عام 1563 فقد ذكر أنه شاهد اكلاكا محملة بالبضائع وعلى متنها تجارا ارمن..وكانت الأكلاك تستخدم من قبل قوات الأحتلال البريطاني لنقل المعدات العسكرية من الموصل الى بغداد في أثناء الحرب العالمية الأولى.
ولتماثل ماجاء في وصفها نكتفي بعدد من النصوص للرحالة الأنكليزي جون ايلدرد 1583 وجون جاكسون 1779 وسوليفان هولمان ماكولستر 1888  والألمانية ثيا ناب 1918..هذا على الرغم من استخدامها من قبل الرحالة الأوائل كجون مندليف وانطوني شيرلي 1583، وجان بابتست تافارين 1644، والأب سيبستياني الكرملي 1660 وكذلك الآثاريين الرواد كهنري أوستن لايرد وبيلينو وبوتا وفيليكس توماس وفيكتور بلاس ويوجين فلاندين وكلوديوس جيمس ريج وواليس بج ودي شسني (الذي قطع المسافة بين عانة وهيت بوساطة كلك وواصلها الى بغداد بوساطة الكفة) والرحالة الهواة ككارل ساندريجسكي الذي سافر بالكلك من ديار بكر الى بغداد و القائد الألماني فون مولتكة ومولر سيمونيس وجاير وشينر و أشر وثايلمان وكبل وبكنهام والفنان اليس تريسترام وغيرهم؛ وفي مطلع القرن العشرين الرحالة فيريا ستارك وكارل ماي وجرترود بيل والسيدة كريفيث وغيرهم ممن سنأتي على رحلاتهم المثيرة والغنية بالمعلومات في دراسات مفردة..
فجاء في وصف الرحالة الأنكليزي جون ايلدرد عن بغداد قوله: (وبغداد مكان لتجارة عظيمة حيث تلتقي فيها بضائع الهند وحلب..وهي مجهزة بالمؤن التي تردها بطريق النهر من الموصل وديار بكر ومن النهرين [ربما يقصد الزابين أو اعالي دجلة والفرات] حيث تقع المدينة القديمة نينوى..وتجلب هذه المؤن ومعها بضائع متنوعة اخرى بطريق نهر دجلة على أرماث تطفوا على سطح الماء بواسطة عدد كبير من القرب المصنوعة من جلود المعيز المنفوخة كالدرر [الحافلة بالحليب]..وعندما تفرغ البضاعة، تباع الأرماث كوقود اما جلود المعيز فتفرغ  من الهواء وتنقل الى موطنها على الحمير لتستخدم في رحلة اخرى حدر النهر)..
ويبدو ان تجارة المعادن من الاناضول لم تتوقف منذ عهد سرجون الاكدي [الذي اطلق على طوروس جبل الفضة].. ولاسيما الحديد والنحاس الضروري لعمل البرونز، والذهب بل وحتى الكبريت بشهادة جوزيف سيبستياني الكرملي 1660 الذي جاء في معرض وصفه لرحلته على متن احد الارماث (أن مكانا لم يتوفر على سطح الرمث للراحة اوالاستلقاء لأكتظاظه بالمسافرين وبحمولة كبيرة من الكبريت)..كما يخبرنا جون جاكسون الذي زار الموصل عام 1797 في هذا الصدد عن حمولة مماثلة من المعادن في معرض وصفه لرحلته:
(والأرمن هم من ابرز التجار في الموصل ولكن السلع التي يتاجرون بها قليلة كالأحذية والسروج وأواني المطبخ..ويرسل الأرمن من الموصل كميات كبيرة من النحاس غير المشغول على ارماث من الخشب مشدودة الى بعضها، الى بغداد..وعند وصولها تفرغ حمولتها وتباع أخشابها في بغداد لندرة الخشب فيها..فيما يرسل النحاس الى البصرة ليشحن على متن دوّات [ سفن شراعية تمخر الخليج العربي وبحر العرب منذ العصر العباسي ] وتستغرق الرحلة قرابة ستة اشهر بين الموصل والبصرة..أما النحاس فأشبه بقطع الكيك المدورة يبلغ عرض الواحدة حوالي ستة انجات اما سمكها في مركزها فيبلغ انجين وتنحدر تدريجيا في حافاتها..وكانت هذه التجارة التي توقفت لحين قد عاودت ازدهارها واحيانا تنطلق السفن من البصرة بحمولة كلها من النحاس)..
نرى من هذا النص ان الموصل تتصل بتركيا بطريق الأكلاك التي تتوقف في بغداد لتفكك فتباع اخشابها وتعاد جلودها الى الموصل وربما الى تركيا في ديار بكر واورفا وان الأرمن كان لهم دور تجاري مهم قبل تهجير اقرانهم من تركيا في اثناء الحرب العالمية الأولى..ولكني لا اعرف مدى صدق المدة التي اعطاها المؤلف التي تستغرقها رحلة الأكلاك ثم الكفف الى بغداد فالبصرة على التوالي ومنهما كرا الى الشمال.. ولكنه ربما ضمّن مدة الرحلة الزمن الذي تستغرقه عودة الحمير من بغداد الى الموصل وربما الى الأناضول محملة بالجلود لأعادة نفخها وشدها تحت الأرماث في رحلة جديدة..
وفي مرحلة الأستكشافات الآثارية في نينوى والنمرود ومدينة سرجون (1840-1860) استخدمت الأكلاك على نطاق واسع في نقل الآثار ولاسيما الثيران المجنحة التي تتراوح اوزانها بين 16 طن، أو اقل قليلا، و40 طنا وبخاصة تلك التي تحرس البوابات العملاقة في مدينة سرجون الثاني..ومنها ماتم نحته من الحجارة واكثرها من الرخام او المرمر الموصلي الذي كان الآشوريون يجلبونه من بلاط  (اسكي موصل) او ينحتونه في المقلع قبل نقله الى معابدهم وقصورهم وبوابات اسوار مدنهم على الأكلاك ايضا..ويرد وصفا آخر لأكلاك الموصل في رحلة سوليفان هولمان ماكولستر 1888 الى الموصل وبغداد:
(قررت العودة الى بغداد بطريق النهر، فأوصيت بعمل كلك يتألف من 140 قطعة جلد منفوخة من جلود المعيز تشد الى بعضها وتغطى بقطع من الخشب عرض الواحدة منها ثمانية انجات..وطلبت تشييد بيت صغير في وسط الكلك بألواح من الخشب تغطى بالجنفاص وتسقف بقماش يمنع تسرب الماء ويقوم على قيادته رجل [كلكجي] واحد..وترتب علي دفع 15 دولارا ثمنا له ولكن ترتب علي ايضا تصريف البيت والخشب عند وصولي بغداد. وقبل بدء العمل طلب مني أحد تجار الموصل اذا كان بأمكانه ان يرسل معي صندوقين معبئين بالفراء الى بغداد كما سألني امكانية قبول ثلاثة رجال يعملون معه بصحبتي لحاجة أخيه في بغداد اليهم مؤكدا انهم لطفاء وامناء ولا يترددون بعمل اي شيء لمساعدتي في أثناء الرحلة..فقلت له إني ارغب في تلبية طلباته فيما إذا كان الكلك كافيا لأستيعاب الحمولة الأضافية..فقال ماذا! إني مستعد لأضافة 25 قطعة أخرى من جلود المعيز المنفوخة الى الكلك، فوافقت على طلبه بدون تردد..وفي فجر يوم جمعة وهو فجر محبب ويوم ميمون لدى المسلمين ودعت محزونا اصدقائي الطيبين في الموصل وصعدنا متن الكلك وكان البيت وسط الكلك والمؤن والرجال وكل شيء جاهز للرحلة..وكانت مياه دجلة مرتفعة والتيار قويا..وتستغرق الرحلة في العادة بين ستة وثمانية ايام الى بغداد..ولا أبالغ ان قلت ان كل اهل الموصل خرجوا الى الشاطيء لتوديعنا..فأطلقت الإشارة بالشروع بالرحلة وقطعت الحبال التي تربط الكلك بالشاطيء وانطلقنا حدر دجلة..ولوحت بتحية الوداع لكل أولئك الأصدقاء ممن عرفتهم في المدينة : بارككم الله..وحملنا الموج عاليا وبسرعة بحيث بات آخر امل لنا أن نلقي على خرائب نينوى ومشارف المدينة نظرة أخيرة..فموقع نينوى لم يعد ضربا من الخيال بل حقيقة على ارض الواقع..وكان ماحملته معي أثمن آلاف المرات من كل المبالغ التي انفقتها..فقد منحتني ارض الموصل، سماؤها وهواؤها.. هبات لاتقدر بثمن..وبدت لي الطبيعة هنا سخية معطاء بحيث فتحت احضانها لمدينة أخرى رائعة [يقصد الموصل الى جانب نينوى]..ولا نقدر ان نتخيل مالذي سيراه الرحالة هنا بعد ألف سنة! كان كلكنا يمخر دجلة في قلبها ويقطع المسافة بمعدل ستة اميال في الساعة وكان الكلاك وفيا ومتمكنا من قيادة الكلك وواصلنا انهارنا في حبور وبهجة لايخامرنا سوى خوف طفيف من قطاع الطرق..حقا ان ثمة رومانسية في هذا الضرب من السفر وإن لم تكن وسيلة نقلنا هذه انيقة كل الأناقة في مظهرها، فأن فيها مايغني من سحر الحركة وجمالها)..
نرى في هذا النص الممتع تصويرا دقيقا لعالم الأكلاك وكيفية عملها وطبيعة التعامل بين تجار الموصل وبغداد.. فالتاجر الموصلي في النص يرسل عمالا وبضاعة من الفراء لأخيه المقيم في بغداد..وكان التعاون وليس التنافس سائدا في التعاملات التجارية بين اهل الموصل على مختلف فئاتهم واديانهم..كما نلاحظ مدى رخص الخدمات والسلع ومعدلات الأسعار في أواخر القرن التاسع عشر: فأذا كانت كلفة عمل الكلك بمواده 15 دولارا، ترى ماكان سعر راس الغنم آنذاك ..ويبدو ان قيمة الدولار الى الروبية كان هائلا بما يمكن التاجر من شراء 100 راس غنم بما لايتجاوز عشرة دولارات..ولنا ان نتخيل اسعار الذهب والأطعمة اللذيذة في ذلك الوقت في الموصل ..مما يجعل ذلك الزمن، على المشقة التي تلحق الطبقات الكادحة فيها، أجمل من هذه الأيام واكثر هدوءا وامنا..
ونطالع في رحلة الألمانية ثيا ناب في مطلع القرن العشرين 1918 والمعنونة (ثلاث سنوات في بلاد مابين النهرين) وصفا آخر للأكلاك اعتمدته ويكيبيديا في نسختها الألمانية تحت مفردة [كلك]:
(وبدلا من نهجنا طريق البرعبر الصحراء العربية، قررنا وضع ثقتنا بدجلة واخترنا لهذا الغرض كلكا..وهو رمث يرتكزعلى 150 قربة منفوخة من جلد الأغنام مشدودة احداها الى الأخرى بأحكام وتتالف قاعدة الكلك من قضبان من خشب الحور على نحو متصالب بما يشكل مربعا تغطيه اللبد او الحصران كان الآشوريون يستخدمونه في رحلاتهم النهرية  منذ الألف الثاني ق.م. وهذه الأكلاك تستخدم فقط حدر الفرات باتجاه التيار مع وجود رجل او رجلين يوجهان الكلك أزاء التيار ويعملان على الحفاظ على توازنه ومساره..وفي وسط الكلك غرفة مساحتها قدمان مربعان ونصف ندخلها للحماية من المطر والبرد وكانت ببسطها تكفينا انا وزوجي والمرافق الذي صاحبنا للأهتمام بسلامتنا وتوفير احتياجاتنا وكنا وضعنا فيها ثلاثة مقاعد واغطية ووسادات تكفينا للنوم في اثناء الليل في وكنتنا الدافئة..وكنا قد اخذنا مانحتاج اليه من بيتنا مع المعدات الطبية التي وضعناها في صناديق معنا..أما خيولنا فقد ارسلناها برا قبل يوم من اقلاعنا لتنتظرنا عند وصولنا في بغداد)..
نلاحظ في هذا الوصف الموجز للكلك انه اشبه بكرافان او غرفة صغيرة ودافئة في فندق وان اختيار وقت السفر في ايار او نيسان عند ارتفاع مناسيب دجلة ربما كان السبب في برودة الجو في اثناء الليل وحاجة المسافرين في الأكلاك الى مايدفئهم من الأغطية..ولنا ان نتخيل جمال الغسق وألوان الطبيعة وسحر الفجر عند بزوغ الشمس في أثناء الرحلة..
وكلمة كلك التي اشتق منها الأتراك كلمة (كلكجي) هي كلمة آشورية (كالاكو)..ونشاهد في المنحوتات الآشورية تصويرا لها الى جانب الكفف كما نلاحظ في المنحوتات كبر حجمها ولاسيما المستخدم منها بنقل الأخشاب او المواشي او الحجارة عبر دجلة والفرات اذ قد يصل عدد القرب الجلدية المنفوخة تحتها 400 قربة..وغالبا ماتفرش ارضية الكلك بطبقة من القصب او من اللبد وتشاد فوقه غرفة او غرفتين اذا كان الهدف منه نقل الأشخاص وعائداتهم الشخصية كما ورد في وصف ثيا ناب..ويتراوح عدد المجاذيف المستعملة في الأكلاك بين مجذافين وستة مجاذيف تبعا لحجم الكلك ..أما اعمار جلود المعيز اي صلاحية استخدامها مجددا فتتراوح بين سنة ونصف الى سنتين..وقد تصل ثلاث سنوات في الأكلاك الصغيرة المستخدمة في الزاب او الخابور او في ديالى لغرض عبور النهر في اسكي كلك..
وكما ترتبط الأكلاك بشمالي العراق وشماله بدجلة والفرات والخابوروالزابين، ترتبط الكفف ببغداد وديالى وشط العرب، اي بوسط العراق وجنوبه على الرغم من توارد الروايات عن استخدامها في النقل النهري للبضائع شمالا الى تكريت والموصل واستخدام الأكلاك في ديالى كما يخبرنا كلوديوس جيمس ريج..ولعل الكفة اقدم من الكلك في الأستخدام النهري وذلك لأعتماد اسلافنا على النقل النهري في جنوبي العراق منذ بدايات الألف الثالث ق.م. ولأن المواد الأولية للكفة متوفرة من الحلفاء وخوص سعف النخيل وتوفر القير الذي يستخدم لتغليفها من هيت ..بمعنى ان استخدامها في دجلة والفرات في بابل وأكادا وكيش ولاكش سبق بناء بغداد بقرون عديدة..والكفة اشبه بماعون او (سلة) يتجاوز قطر الواحدة منها 25 قدم وتحمل الكفة أوزان ثقيلة كالأغنام والمعيز وأحيانا الرجال والنساء بدون تمييز  ..ولعلاقة الشكل بالوظيفة في وسائط النقل، نلاحظ ان الكفة تحتاج الى جهد عضلي اكبر من حاجة الكلك الذي يعتمد على التيار واعتدال الريح..وهي لأستدارتها اكثر عرضة للدوران حول نفسها وبخاصة عندما تعترضها دوامة في مياه عميقة..فقيادتها تتطلب كفيا محترفا لأنها قد تدور وتدور حول نفسها بدون ان تقطع شبرا واحدا في الأتجاه المطلوب..ولهذا تستخدم المجاذيف العريضة والطويلة لقيادتها..ويخبرنا كيرمت روزفلت في كتابه "الحرب في جنة عدن": (إن عبور دجلة في الكفة يعد ممارسة ديموقراطية بحد ذاتها وبخاصة عندما تعود النساء من السوق وقد حملن شدّات من الدجاج الضاج والفوضوي المتدلي على اكتافهن وهو يثب ويصيح في محاولة يائسة للأفلات من ايديهن)..
ويحدثنا الرحالة جون نيومان الذي زار بغداد والموصل عام 1875 انه تقبل دعوة الكابتن هولاند في بيته في بغداد وانه عبر بالكفة مع رفيقه الكابتن كاولي: (وكان الكولونيل هربرت المقيم البريطاني في بغداد قد ارسل لنا قاربه بدعوة لأستضافتنا..ولكن كنا قد قبلنا دعوة الكابتن كاولي للنزول ضيوفا على الكابتن هولاند لأن كاولي هو زوج ابنته الجميلة..وكنا بحاجة الى شيء من المهارة ومن الحذر لنقفز الى الكفة لأنها اشبه بماعون خشبي عائم على سطح الماء ..وكانت تطفر وتهبط حيث يكون الثقل عليها أكثر..وأفضل وضع تتخذه فيها وأكثره أمنا ان تجلس كما يجلس التركي في قاعدة الزورق..وكنا سبعة فيها وهي تدور بنا مثل دولاب في حركة دائرية وكأنها قلة راس صبي ونحن نضحك من خوفنا ومن قاربنا الجديد)..
حتما ان تجربة جون نيومان القس الذي استضافه هرمز رسام في الموصل طعما خاصا في الكفة وهي تدور به بين ضفتي دجلة، يختلف عن تجربته مع اكلاك الموصل..ويقينا فان الأكلاك والكفف تقدم طابعا خاصا مميزا لبلاد مابين النهرين وهمزة وصل بين العصور الذهبية الغابرة والعصر الحديث..
وتتعدد في كتب الرحالة ووصفهم للعراق الروايات الشيقة زاهية الألوان عن الأكلاك والكفف مؤكدة الطابع المتجانس لحضارة بلاد مابين النهرين ووحدتها واتصال حضارتها وتاريخها عبر العصور..ونأمل ان نكون قدمنا في هذه الدراسة، مايملأ فراغا في مكتبتنا التراثية واصطحبنا القاريء الكريم في رحلة ممتعة في تراث اسلافنا..
   




   


23
المنبر الحر / مآدب الملوك
« في: 13:35 10/08/2011  »

مآدب الملوك 

صلاح سليم علي
 
تتعدد دوافع  الدعوات الى مآدب الطعام الملكية  الضخمة في العهود القديمة وتتباين اهداف الملوك من اقامتها ..فمنها مايقام احتفالا بأنتصار عسكري، ومنها مايأتي تلبية لطقوس دينية ومنها ما يصاحب حفلات التتويج أو تسمية ولاية العهد ومنها مايلي انجاز حفر قناة او اكمال بناء مدينة او معبد او حتى استرداد تمثال لإله من عدو قام بسرقته..ومنها مايقام لأسباب سياسية ودعائية او للأحتفال بزواج ملكي او مصاهرة سياسية. أما حجمها فيعتمد على طبيعة المناسبة وقوة الدولة وامكاناتها الأقتصادية وقدراتها الأمبراطورية..وقبل العروج على مآدب ملوك العالم القديم وجلهم من العراق، لابد من التطرق الى المآدب التاريخية الكبرى على الصعيد العالمي: بدهي ان المشارقة لهم قصب السبق في اقامة المآدب الكبرى لأن اولى الأمبراطوريات في العالم تشكلت على احواض الأنهار الكبرى كوادي النيل ووادي الرافدين وحوض اليانغتسي في الصين واحواض الأنهار الهندية الكبرى..ونطالع في المنحوتات السومرية والمصرية القديمة لوحات تبرز الاحتفالات الدينية والعسكرية ومايصاحبها من تقديم للأطعمة على نطاق واسع. ونلاحط في احدى منحوتات العمارنة في مصر مشهدين لمأدبة ملكية حيث تجلس الملكة تايا قبالة اخناتون والملكة نفرتيتي.كما تحدثنا المصادر عن مأدبة بالشازار التي صورها رامبرانت وجون مارتن في لوحتين شهيرتين..وبينما تنفر النفس البشرية من اقامة المآدب على اشلاء الموتى، نلاحظ تواتر هذه الظاهرة لدى عدد من الملوك والأمراء المشارقة الذين يجدون ابلغ متعة في تناول الطعام على اشلاء قتلاهم فيما يمكن ان نطلق عليه بالمآدب التآمرية التي  يعمل فيها السيف بالخصوم او يدس لهم فيها السم أو يحصد فيها الضيوف بالرصاص بدعوى المصالحة وطي صفحة العدوان ..وابرز الأمثلة على هذا النوع من المآدب الدموية على صعيد القتل الفردي مآدب الأباطرة الرومان من امثال نيرون وكاليكولا ..وفي الحاضرة العربية مأدبة عبد الله بن علي السجاد والي الشام في العهد العباسي حيث دعى اكثر من 80 من اعيان الأمويين وقادتهم الى مأدبة للمصالحة موظفا نسبه العلوي لأيهامهم بحسن النية وبعد بسط المناسف بالماكولات اندفع عليهم الجند من الفرس والعباسيين تبتيرا وتقطيعا ..ولم يفلت منهم سوى عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) واخيه الذي انخدع بأمانهم وعاد قبل قطع الفرات فقتلوه..وبعد ان قتل عبد الله بن علي السجاد الضيوف عن بكرة ابيهم، أمر بجلب البجادات لتغطية الجثث ..وواصل الأحتفال وتناول الطعام فوق الأشلاء..والمثال الآخر في حضارتنا مذبحة القلعة التي دعى فيها والي مصر محمد علي باشا زعماء المماليك بحجة الأحتفال بتوديع الجيش الخارج الى محاربة الوهابيين..فوفد المماليك من انحاء مصر بدون ان يساورهم ادنى شك  بنوايا محمد علي ..وعندما اجتمعوا في القلعة في الأول من آذار عام 1811، اغلقت عليهم الأبواب و تم حصدهم بوابل من الرصاص انهال عليهم من الجهات كلها..وتلك مذابح ولائم أو ولائم مذابح سياسية ..طالما تكررت عبر التاريخ على الصعيد الفردي في الشرق والغرب ..وتقع تحت هذه الطائلة اعمال القتل المبيت بطريق التسميم، وابرز الأمثلة عليها اقدام داريوس الثالث على تسميم الطبيب بوغاس، والمنصور على قتل ابي مسلم الخراساني لوضع حد لغطرسته وتعاليه على مقام الخلافة ..ولأن التسميم هو افضل الطرق لتمويه اسباب الموت، يعمد اليه الملوك والقياصرة والأمراء والخلفاء للتخلص من اعدائهم..وبقدر تعلق الأمر بالمآدب ذات الأهداف الإحتفالية المحضة نطالع مأدبة الملك الفارسي داريوس التي عمد فيها الى تقليد الملوك الاشوريين فأقام مأدبة في قصره في سوسة استخدم فيها ماسرقه ااسلافه من قصور الآشوريين كالأواني الفضية والذهبية..ولكنه لم يعمد الى دعوة ملوك وامراء تابعين لمملكته الى المأدبة  كما درج الأشوريون من قبله بل دعى اليها ولاة المقاطعات وافراد حاشيته والموظفين في قصره..واستمرت المأدبة سبعة ايام على منوال المآدب الآشورية ..وتجدر الإشارة الى ان ملوك فارس اقتبسوا من الآشوريين كل مظاهر دولتهم ولم يستثنوا الآلهة الآشورية حيث يشاهد الزائر حتى في الوقت الحاضر ثيرانا مجنحة بدون قوائم خامسة تزين بوابات بيرسيبوليس.. ألا ان الفرس لم يحاكوا الآشوريين في قسوتهم ولو انهم تجاوزوا ملوك الأرض كلهم في خبثهم ومكرهم..وكان الرد الآشوري على العدوانية الفارسية حاسما وسريعا ..حيث نطالع في المنحوتة الشهيرة لآشوربانيبال في حدائق تلقوينجق الخدم وهم يحملون انواع الفواكه والمأكولات والخوانات تحت عرائش العنب ووسط العرائش يتدلى رأس الملك العيلامي تومان الذي قطعه الجند الآشوريون وجاءوا به زينة علقوها بين عناقيد العنب..
ومن المآدب الشهيرة في تاريخ الغرب مأدبة أقامها تيجانيلوس - احد "اشراف" روما لأمبراطوره المنحرف نيرون عام 64 للميلاد..وتختلف المآدب الرومانية عن غيرها من مآدب كونها تقام بسبب او بدونه وتتضمن ممارسات داعرة غاية في قلة الإحتشام ..وكانت هذه الدعوة كما وصفها تاكيتوس اقيمت على طوف تجره قوارب تجذيف مطخمة بالذهب والعاج واختير المجذفون من بين اشهر الرومان سفالة وانحطاطا وايغالا في الرذائل..وقدمت في المأدبة اغرب انواع الأطعمة ومنها الجرابيع المرشوشة ببذور الخشخاش وضروع الخنازير والرانب البرية وقد ركبت فيها اجنحة منزوعة من حيوانات أخرى لكي تمثل الحصان المجنح بيجاسوس وعجول مسلوقة بتمامها وفوق رؤؤسها خوذ ذهبية فضلا عن 50 طبق غريب لاقبل لأحد بها.
ومن المآدب الشهيرة في التاريخ مأدبة الأسكندر المقدوني التي صاحبها تزويج 10.000 مقاتل وقائد من جيشه بنساء فارسيات بهدف مزج دماء المقدونيين والفرس سعيا منه لتوحيد العالم القديم تحت سلطة واحدة ..وكانت المأدبة اقيمت على خرائب سوسة التي احرقها وشتت جيشها بين قتيل وهارب ومأسور بينما هرب ملكها داريوس الثالث صوب اذربيجان ومنها الى تركيا تاركا للأسكندر اكثر من 40.000 طالين من الذهب اي مايعادل 1200 طن كان الفرس قد سرقوها من العراق الآشوري في اعقاب هجومهم على نينوى ثم بابل ونهبهما..
ويعد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر واحدا من أكثر الملوك بذخا على المآدب التي يقيمها في فرساي طيلة مدة حكمه الممتدة بين عام 1684 عام 1715 ..وكانت تتألف من أطباق تقدم على مراحل وبحضور اربعين ظيف في احدى قاعات قصر فرساي..ويحضرها النبلاء وموظفو البلاط وتقدم على مراحل تتخللها اطباق الفاكهة والمشروبات.
ومن المأدب العالمية الكبرى التي ترقى بأبهتها ومدتها والأنفاق عليها مأدبة الخديوي اسماعيل باشا التي اقامها بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869 ودعى اليها ملوك اوربا واميراتها وفنانيها وأدبائها وانفق عليها  1.300.000 باوند..ومن ضيوفه امبراطور النمسا والملكة يوجيني وامير ويلز وولي عهد هولندة ومن الفنانين  فرومنتين وتوتوناميني ودي شومب وجيروم وبول لينوار ومن الأدباء كوتير ولويزا كوليت وهنريك ابسن واميل زولا كما حضرها الأمير عبد القادر الجزائري..وهي من اعظم المآدب في التاريخ الحديث.
وتتفرد المآدب الآشورية عن المآدب التاريخية الكبرى في تنوعها وجسامتها وعدد المدعوين اليها إذ يستعد الجيش والشعب باسره للأعداد للدعوة وتوفير مستلزمات..فينطلق الجنود الى البراري ليس للحرب هذه المرة بل لمسك الجرابيع وصيد الطيور وجلب الحبوب والزيوت والمكسرات واعداد الأواني وجلب القزانات الضخمة واعداد القصابين لذبح آلاف المواشي وطهيها على مدى سبعة ايام..وتجدر الاشارة الى ان السومرين كانوا اول من اكتشف الخميرة الضرورية في اعداد الخبز وان البابليين اضافوا الى الطبق العراقي فضيلة الكمأ ..وكان الخروف العراقي يحتل اهمية خاصة في الطعام منذ العهود السومرية القديمة لأليته الوفيرة بالدهون التي وصفها هيرودوتس وعدها الأفضل في الخروف العراقي كونها تعطي للطعام مذاقا شهيا وبخاصة طبق (الهبيط) وهو من أفضل الوجبات العراقية ولعل من الطريف ان يعمد الصوفية في العهود المتأخرة الى تسمية الخروف (الشهيد ابن الشهيد) كناية عن لطف مظهره ووداعته وطيب لحمه..فضلا عن المسكوف وحلوى التمر بالدهن الحر المعروفة بالسميدو في بلاد آشور..كما كان السومريون اول من ابتكر العصائر والمشروبات ومنها الجعة التي انتقلت الى بابل ومنها الى نينوى وكالخو وآشور..ويقينا فان البحث في الطعام والمآدب عبر التاريخ يستغرق مجلدات لما فيه من تنوع ومتعة وظرافة..ولعل اكبر مأدبة في التاريخ القديم تلك التي اقامها ملك العالم آشورناصر بال الثاني احتفالا بأكمال بناء قصره الشمالي الغربي في كالخو (النمرود) ..وفيما يأتي ترجمة للترجمة الأنكليزية لكرايسون لهذه المأدبة ضمنتها كتابي المترجم لنصوص الملك آشورناصربال الثاني ..وقد طبع الكتاب اصدقاء آشوريين ب 300 نسخة فقط عام 2006..ولربما اعدت طباعته في اعداد اكبر لاحقا..
(عندما أكمل آشور ناصر بال ملك بلاد آشور قصره البهيج المشاد بالحكمة ؛ دعا آشور الإله العظيم آلهة البلاد كلها … (فذبحت) 1000 ثور سمين و 1000 عجل ورأس غنم من الحضائر و 14,000 رأس غنم من عائدات الإلاهة عشتار سيدتي و 200 ثور من عائدات الإلاهة عشتار سيدتي و 1000 رأس غنم، ، و 1000 خروف ترعرع في ريعان الربيع ، و500 غزال [من نوع] الأيالو و 500 غزال [آخر] ، و 1000 بطة [أيشوروابوطو] و 500 بطة من نوع الأوسو [أوزة] و 500 أوزة و 1000 أوزة برية و 1000 طائر غاريبو ، و 10,000 حمامة و 10,000 حمامة برية و 10,000 طائر صغير ، و 10,000 سمكة و 10,000 جربوع و [معها] 10,000 بيضة و10,000 قطعة خبز و 10,000 وعاء من البيرة و 10,000 جراب من الخمرة و 10,000 حاوية من الحبوب والسمسم ، و 10,000 قدر من الـ … الساخن و 1000 صندوق من الخضراوات و 300 حاوية من الزيت ، و 300 حاوية من الشعير المنقوع (السليقة) ، و 300 (حاوية من نبات الراقاتو المخلوط و100 حاوية من القديموس و 100 حاوية من الـ …. و 100 حاوية من الشعير المحمص ، و 100 حاوية من الأبوخشينو و 100 حاوية من البيلاتو (البيرة) الممتاز ، و 100سلة من الرمان و 100 سلة من العنب و 100 سلة من الزامروس المخلوط ، و 100 حاوية من الفستق ، و 100 حاوية من الـ … ، و 100 حاوية من البصل و 100 حاوية من الثوم و 100 حاوية من القنيبخوس و 100 شدة من اللفت ، و 100 حاوية من العسل ، و 100 حاوية من السمن و 100 حاوية من بذور الشوء والمحمصة و 100 حاوية من نبات الكاركارتو ، و 100 حاوية من نبات التياتو ، و 100 حاوية من الخردل ، و 100 حاوية من الحليب و 100 حاوية من الجبن و 100 زبدية من شراب الميزو و 100 ثور محشي و 100 هومرات [مكيال عبري قديم] من مكسرات الدوكدو غير المقشر و 10 هومرات من الفستق غير المقشر و 10 هومرات من … ، و10 هومرات من الخباقوقو ، و 10 هومرات من التمر و 10 هومرات من الطيطيب ، و 10 هومرات من الكمون ، و 10 هومرات من الساخونو ، و 10 هومرات من الـ … ، و 10 هومرات من الأنداخشو و 10 هومرات من الشيشانيبو ، و 10 هومرات من السمبيرو و 10 هومرات من الخاشو [الزعتر] ، و 10 هومرات من الزيت المصفى الممتاز ، و 10 هومرات من المطيبات الممتازة ، و 10 هومرات من الـ … ، و 10 هومرات من قرع النصابو ، و 10 هومرات من بصل الزنزيمو ، و 10 هومرات من الزيتون . عندما باركت قصري كالخو (كان هناك) 47,074 رجل وأمرأة دعوتهم من أنحاء بلادي كافة و 5000 من النبلاء والمبعوثين من بلاد سوحو وهيندانو وباتينو وحاتي وصور وصيدا وكوركومو وماليدو وحوبوشكيا وكيلزانو وكومو ومصاصيرو [وكذلك] 16,000 من سكان كالخو و 1,500 زريقو من قصري – وهم معا (يصبحون) 69,574 وبضمنهم أولئك المدعوون من البلاد كلها ، ومن سكان كالخو فقدمت لهم الطعام والشراب لعشرة أيام وجعلتهم يستحمون ويدلكون بالزيت . هكذا أكرمت [ضيوفي] ، وأعدتهم إلى بلدانهم بسلام وبهجة)..
مما يميط اللثام عن زراعة مزدهرة ونشاط تجاري واسع ربما يعود لمطلع الألف الثاني قبل الميلاد وربما قبل ذلك حيث كانت آشور تستورد الصوف والنحاس والفضة والبرونز والخيول من كانيش (قولتبة) وهي مستعمرة اسسها سرجون الأول بالقرب من مدينة قيصري في اناضول تركيا. وكانت تستورد و(تحمل) السدر من جبل عمان والأبنوس والعاج وخشب البقس والجلود من الساحل الفينيقي ولاسيما في العصر الآشوري الحديث مع إتساع رقعة المبراطورية الآشورية..ولربما كان احد دوافع توجيه الجهد العسكري نحوالأناضول والساحل الفينيقي عبر سورية وفلسطين السيطرة على الطرق التجارية وتحويل النشاط التجاري للفينيقيين بأتجاه الداخل الآشوري وهذا يفسر سيطرة الاشوريين على قرقميش 717 ق.م. والمدن الفينيقية لأحكام الهيمنة على الطرق التجارية الى الغرب من الفرات على الساحل الفينيقي ومن تيماء وحتى إيمار ومن ايمارالى حران فنينوى فبابل مما دفع الفينيقيين الى تحويل نشاطهم الى أقصى الغرب وجعل نينوى مدينة تجارية ومركز نشاط للتجار الآراميين بشكل خاص وهي طرق لم تكن مأمونة بسبب أغارات القبائل الآرامية على قوافل التجارة فيها قديما ..إلا ان السيطرة عليها في الألف الأول ق.م. وفر للآشوريين محاصيل زراعية مختلفة من الساحل ومن الجبال كالزيوت والجلود الضرورية لميرة الجيش كعمل السروج والقرب وللأنارة. وترتب على النشاط التجاري تطور القوانين ذات الصلة بالتجارة والقضاء التي اعتمدت شريعة حمورابي في تحديد اصول المحاكمات الجزائية والأدلاء بالشهادة والأستئناف لدى حاكم المدينة أو ملك البلاد.
ويكرر شلمنصر الثالث أقامة المآدب الكبرى احتفالا بأنتصاراته الباهرة في الأناضول عند منبع نهر دجلة حيث مكث للأستراحة على ضفة نهر سوبنات المعروف ب بيركلنجي واستلم إتاوات الملوك المحليين واشرف على النحاتين في تدوين مآثره ونحت صورته عند مدخل النفق الذي يتدفق منه رافد دجلة وفي بوابة بلوات نجد التصوير نفسه على البرونز بتفاصيل دقيقة تنقل المشاهد الى منبع دجلة حيث يشاهد حركة الآشوريين وهم يمارسون طقوسهم ويقدمون الأضاحي بالقرب من الكهف الذي ينبع منه سوبنات بتفاصيل مكانية واضحة وبتوزيع دقيق للفضاءات..كما نشاهد جنودا يرفعون أضحية وآخرين يقودون عجولا من الجهة اليسرى لذبحهم وفي مكان يشبه بفضائه الكهف نشاهد صورة الملك منحوتة بحضور قادة يقفون على مايشبه منصة مرتفعة.
وفي مقارنة الصورة بصفيها العلوي والسفلي بالطوبوغرافيا الفعلية لبيركنلجي نلاحظ ان فضاء الكهف الواسع الى يمين الصف العلوي في البوابة يقابل الكهف العلوي في بيركنلجي بينما تذكرنا طوبوغرافيا الصف السفلي بالتشققات المتعددة في الصخور في اعلى النهر..فالتصويرعلى بوابة بلوات على البرونز يكرر التصوير في منبع سوبنات (دجلة) على الحجارة..ويحاكي المشهد بمضامينه الشعرية والأسطورية بهدف تاكيد واعادة تاكيد القوة الاشورية جغرافيا ومكانيا في الحرب وبالحفر في الصخر وبالطرق على النحاس فالحدث التاريخي الموازي لأمتدادات القوة وتجسيداتها لايكتسب معنى الدوامية والثبات إن لم يؤرخ له في المكان ويتخذ تجسيما له في الجغرافيا وفي اطراف الأمبراطورية حيث بلغت سلطة الآشوريين واربابهم أقصى تخومها. والملك شلمنصرالثالث بوضعه لصورته الى جانب صورة سلفه تكلاثبليزر الأول وتدوين مآثره الى جانب مآثرسلفه يسجل تاريخ بلاده في مضمارسياق تاريخي وجغرافي يجعل من الماضي الحضاري للأسلاف حالة متجددة بأستمرار..وهو فعل يمثل عندما يحدث في أطراف الأمبراطورية محاولة الآشوريين فرض هيمنة الإله آشور وإرادتهم السياسية على العالم القديم بكل أرجائه. والمأدبة التي أقامها شلمنصر الثالث في منبع دجلة لها مضامين اهمها تأكيد السيادة الرافدينية على الأنهار من منابعها الى مصباتها فضلا عن المعنى الديني القرباني لأن الإله المقاتل آشور هو الذي يسر بوقوفه الى جانب الجندي الآشوري انتصاراته العظيمة تلك..



24
الحصون والقلاع العراقية القديمة في زاموا وزاكروس
(العراق القديم بين ديانة الأب وديانة الأبن)

صلاح سليم علي

لإنهاء أمة، لابد من سمل عيونها و تخنيثها،  ثم محو ذاكرتها ومسح وعيها الحضاري..

تحظى منطقة زاكروس بسفوحها الشرقية والغربية معا بأهمية كبيرة بالنسبة للعراقيين القدماء ..وتنبثق اهميتها من عوامل عديدة ستراتيجية واقتصادية فخلالها يمر طريق الحريرومنها تتدفق انهار مهمة تصب في دجلة مما يجعل السيطرة عليها ضرورة لتأمين تدفق الخيول والمعادن بطريق التجارة والإتاوة مع قبائل بختياري المتنقلة في جبال زاكروس..فضلا عن كبح جماح هجمات الأقوام البدوية القادمة من الجبال..كما أن مفهوم السيادة عند الآشوريين يتضمن السيطرة على وديان الأنهار من منابعها الى مصباتها وتأمين روافدها ايضا..كل ذلك جعل من زاموا منطقة مهمة لديمومة القوة الآشورية وازدهار العراقيين القدماء منذ الألف الثالث ق.م. وحتى العهود الإسلامية المتأخرة..
وتشمل منطقة زاموا الآشورية أراض واسعة تضم عددا من المدن تمتد من الشاطيء الجنوبي الغربي لبحيرة أورميا ومن جبل سفين حتى اطراف همدان وحسنلو في عمق زاكروس ايران وشرقي اذربيجان وبضمنها منطقة كلار وحكاري مرورا بجبل قرة داغ وبيرة مكرون وراوندوز وميركة سور وابرز المدن والحصون الآشورية فيها مدينة رانية وجمجمال وأيدا (التي تطلق على زاموا الداخل او ميزاموا) وقلعة دزة وبيرة مكرون وبازيان المدينة والمعبر الذي اطلق عليه الآشوريون معبر كيروري فضلا عن بارسوا الآشورية التي اعطت اسمها لفارس والفرس في قلب جبل بيرة مكرون. وفي الواقع فأن المنطقة المحيطة بالسليمانية تعد مجمعا للحصون والقصبات الآشورية المستخدمة كمراكز تجميع للأتاوات أو كحصون تستخدم قواعد إغارة في عمق زاكروس وأورارتا (أرمينيا) أوللتصدي للأقوام الغازية من غير المانيين في حسنلوا ممن تربطهم علاقات طيبة مع آشورعلى مدى الأمبراطوريات الآشورية القديمة والوسيطة والحديثة..
و زاموا منطقة بكر نسبيا في تاريخ الأركيولوجيا ربما بأستناء جرمو في جمجمال وكهف شنايدر الذي عثر فيه على بقايا النياندرتال. من هنا فأن معظم معلوماتنا عنها ترد من النصوص المسمارية ووثائق المراسلات الملكية وبقايا المنحوتات الجدارية التي تؤرخ لأيغال المنطقة عميقا في التاريخ الحضاري لبلاد مابين النهرين.
وتعود بصمات الحضارة الأكدية والآشورية القديمة من خلال منحوتة الملك نيرام سين المحفورة على واجهة احدى حافات سلسلة جبال قوبي في دربندي كورة على مقربة من قرية قرة داغ الواقعة على بعد 70 كم الجنوب شرقي السليمانية .وتمثل الملك الأكدي الذي حكم سومروكيش للفترة 2255 – 2218 ق.م. حاملا مطرقة وعند قدمية يستلقي أثنان من اللولوبي أو الكوتيين الذين يرمزون الى اعداء أكد. وتماثل هذه المنحوتة منحوتة تصور الموضوع نفسه في متحف اللوفر. ويوجد نقش كتابي ربما كان تعريفا للملك الذي أمر بحفره إلا أن النقش ممسوح ربما بهدف تمويه التاصيل الحضاري للمنطقة. وفي موقع اعلى من مكان المنحوتة نطالع بقايا قلعة ومقبرة..وتؤكد هذه التحصينات الدفاعية القريبة من زاكروس وفي مراكز مهمة داخل زاكروس لاحقا الجهد العسكري للأكديين في اثناء حكم سرجون الأول وأبنه نيرام سين في مواجهة الكوتيين وهم أقوام زاكروسية تتواجد في منطقة همدان التي بنى فيها كيخسرو الثاني أجبتانا لاحقا. وكان الكوتيون قبائل همجية لاحظ لها من حضارة ولم يؤثر عنها شيئا يستحق الذكر سوى أنها اجتاحت جنوبي العراق واسقطت السلالة السرجونية على عهد ابن نيرام سين شار- كالي- شاري زهاء 2210 ق.م. وقد تمخض غزوهم العراق عن توقف الزمن وتعطل الحضارة وركود الحياة على مدى 100 سنة ليطردهم منها نهائيا ملك اوروك أوتوهنكال عام 2130 ق.م.
كما نطالع المنحوتات الجدارية في واجهة جبل بيرة مكرون الى الغرب من قرية زيويا في منطقة سورداش وقد عثر في المنطقة نفسها على آثار مدينة آشورية تغطي مساحة 1116 متر طولا و760 عرضا مشيدة من قطع كبيرة من الحجارة والمنحوتة البارزة تصور ملكا أوكاهنا رافعا يده في تحية يعود للألف الأول ق.م. وتطالعنا منحوتة أخرى بالقرب من قرية زرزي في جبل سرسد تمثل رجلا رافعا يده بالتحية يقابله من الجهة الأخرى رجل بزي عسكري ويمسك كلاهما بطرف قوس سكيثي..وتظهر هذه المنحوتة المعروفة ب (قزقبان) مرحلة متردية من الناحية الفنية مما يدعون الى افتراض كونها مصطنعة بسبب تنافر المباديء الفنية والزمنية فيها أذ توجد اعمدة أيونية محفورة الى جانبي المنحوتة وهو طراز من الأعمدة يعود الى 550 ق.م. بينما يفترض، ربما بدون تحقيق أو دراسة، أن تاريخ المنحوتة يعود الى الألف الأول ق.م. وأنها تمثل اهورامزدا و أحد القادة الليديين على الرغم من تأكيد المصادر وجود صراع بين ليديا والميديين وليس صداقة ..هذا فضلا عن مايزعم بأنه قصر الحاكم الميدي في شمالي العراق في وقت تؤكد الدراسات الآركيولوجية تاريخا لاحقا على المرحلة الميدية الوجيزة في تاريخ الشرق. كما أن الشكل الكروي ووجود قرص الأله سين الذي يؤكد العبادات القمرية البابلية والسومرية القديمة تطرح رموزا تتنافر مع الزرادشتية كل ذلك يؤكد على ان المنحوتة مصطنعة لأنها تحكي عن تحالف سكيثي ميدي تسبب في سقوط نينوى فكيف نفسر إذن تيجان الأعمدة الأيونية في المنحوتة او التنافرالأسلوبي والزمني في المنحوتة ولعل المزيد من الدراسات لاحقا سيميط اللثام عن هذه المنحوتة كونها غريبة ربما باستثناء رمزية الإله سين البابلي عن سياق الفن الرافدي والحضارة الرافدية في الشرق الأدنى..
وتماثل لوحة معبر بلولا جنوبي دربندخان منحوتة قزقبان من حيث تردي الجانب الفني وتمثل ملكا عند قدميه اسيرين يطلبان الرحمة والى يمين الملك كتابات مسمارية مؤلفة من اربعة اعمدة رابعها فارغ. مما يدعونا الى تتبع الأوابد في منطقة السليمانية بأعتبارها مقاطعة تابعة لآشور من خلال الشواهد النصية والدراسات المقارنة لجغرافيا وأركيولوجيا شمالي العراق والأناضول فضلا عن الأمتدادات الغربية لسلسلة جبال زاكروس والقفقاس وبحيرة ارومية. ويميز علماء الجغرافيا التاريخية بين زاموا القريبة وزاموا البعيدة او مازاموا (أيدا) وذلك بمتابعة اسماء الأماكن التي يمر بها الملوك في اثناء غزواتهم او امراء الدول التابعة في طريقهم لتسليم الإتوات الى العاصمة الآشورية وكانت الإتاوات كالمواشي توصل الى مناطق تجميع ككيليزي (قصرشمامك) و جرمو (جمجمال) بأنتظار الأمراء أو من ينوب عنهم لتقديمها بأنفسهم للملك الآشوري تأكيدا لولائهم للأمبراطورية بالمثول بين يدي الملك ألآشوري شخصيا وسواء أكانت العاصمة آشور أو كالخو او مدينة سرجون او نينوى. ولكن نمط التوسع شرقا اصبح سمة مميزة لملوك العصر الآشوري الحديث ربما بأستناء مرحلة سرجون الأول وابنه نيرام سين.
وتقسم سلسلة جبال زاكروس في اعلى قممها المنطقة شرقا وغربا الى شرقي جبال زاكروس وغربيها وتتخلل الجبال ممرات او وديان يقع اكثرها واوفرها مياها على الجانب الغربي تاركة مناطق مفتوحة تكون ملائمة لتربية المواشي والزراعة كشهر زورغربا وكرمنشاه شرقا. وقد تركزت حملات آشورناصربال الثاني في منطقة شهرزور اي السليمانية زاموا في النصوص الآشورية ..ويبدو من وصف آشورناصربال الثاني ان الطريق الذي اختاره الى زاموا كان يمر من معبر بازيان انطلاقا من النمرود فالزاب الأسفل فنامري فكلار. غير أن إبنه شلمنصر الثالث نقل ميدان المعارك الى عمق زاكروس الى مازاموا-  أي الى منطقة بحيرة أروميا حيث مدن الحضارة المانوية (الماناي) التي تحالفت لاحقا مع الأمبراطورية الآشورية ولعل هدف شلمنصرالثالث من توغله في زاموا الكبرى السيطرة على الطرق التجارية المارة الى بابل وكركميش فضلا عن الهيمنة على مناجم الحديد والذهب في حسنلو والأناضول على التوالي. وبنقل شلمنصر الثالث المعارك في عمق زاكروس، أصبحت منطقة شهرزور او السليمانية جزءا لايتجزأ من الأراضي الآشورية تبعا لنمط التوسع الآشوري في الغرب والشمال لكن شلمنصر الثالث لم يضم زاموا اروميا (أي زاموا البعيدة) الى الأمبراطورية ..وعلى عهد إبنه شمشي أدد ألخامس تجددت الحملات في عمق زاكروس لتتلوها فترة اجتاحت خلالها اورارتا (ارمينيا) حسنلو واستولت على منطقة غربي اورميا .وبعد 75 سنة تقريبا تجددت الحملات الآشورية على عهد تكلاثبليزر الثالث الذي واصل التوسع الآشوري في قلب زاكروس ونحن نلتقي لأول مرة بأسماء بارسوا وميديا وايليبي . ويبدو أن ألاشوريين كانوا يولون أهتمامهم هذه المرة الى طريق خراسان الكبير او طريق الحرير لاحقا ليس لأرباك حركة التجارة او السيطرة عليها فقط بل لضم مناطق في عمق زاكروس الى نظام المقاطعات الآشورية..ويخبرنا تكلاثبليزر الثالث أنه فرض على شيوخ الميدين الأتاوات وعين عليهم في جبال الوند وماوراءها حكاما آشوريين. وعندما تولى سرجون الثاني العرش عمل على التوسع شمالا وشرقا فسحق الأمبراطورية الأورارتية ودمر احدى اهم مدنها (موصاصير) وفيها معبد الإله خالدي وضم بحيرة أروميا ومعها جانبي طريق خراسان الكبير الى الأمبراطورية الآشورية وبالنتيجة تلاشت اورارتا من التاريخ لتحل محلها ارمينيا كما تلاشت قبلها حضارة ايدا المنيانية أما الفرس فرفضوا الذوبان في الحضارة الميدية وتمكنوا بالقضاء على الدولة الميدية بعد اقل من خمسين سنة من قيامها ليعطوا اسمهم لبلاد فارس والحضارة الفارسية فيما بعد..
وكانت التلال الكثيرة المنتشرة في المنطقة مراكز مدنية صغيرة ومعسكرات في طريق الحملات التي كان العراقيون القدماء يقودونها صوب زاكروس وعيلام ومراكز إدارة مناطقية للموارد الزراعية والضريبية ضمن الأمبراطورية، فضلا عن كون بعضها مراكز تجميع للأتوات وبخاصة الخيول والمواشي القادمة من زاكروس وعيلام. وهنا لابد أن نتفادى اسقاط مفاهيمنا ونظرتنا عن المكان الجغرافي على الجغرافيا القديمة لأختلافها عن الجغرافيا الحديثة ولاسيما فيما يتعلق بتوزيع المدن طوبوغرافيا وموقعيا وديموغرافيا. فالمدن القديمة كانت تؤسس بدوافع اساسية واخرى ثانوية وأهم الدوافع الأساسية الحفاظ على البقاء من خلال أختيار مواقع محصنة طبيعيا كمناطق التقاء الأنهار او المناطق المرتفعة الملائمة لبناء تحصينات اصطناعية تعزز التحصينات الدفاعية الطبيعية كما نلاحظ أن معظم المدن القديمة كانت تشاد على مجاري الأنهار وهذا بدهي من خلال أزدهار أولى الحضارات على وديان الأنهار الكبرى في العراق ومصر والهند واليانغتسي وانهار الشرق الأدنى الأخرى..ويتبع وفرة الماء توفر الموارد الزراعية مما يدعونا الى التفكير بأن سبب انتشار التلال في المنطقة انما يعكس انتشارا هائلا بالمراكز المدنية الصغيرة تتحول الى مراكز دفاع كلما اقتربنا من جبال زاكروس وأن انتشار الناس لم يكن متمركزا في مدن كبرى تتلوها اقضية فنواحي اصغر حجما كما هو الحال في عصرنا بل كان يتبع توفر المياه والموارد الزراعية فضلا عن قوة الدولة من ضعفها ..وان تغير اي من هذه العوامل يؤدي الى تغير الوضع الديموغرافي في المستوطنة..فكما ان مصر هبة النيل فأن الحضارات العراقية القديمة هي هبة الرافدين والروافد التي تصب فيهما..من هنا فأن البيئة هي المحدد الأول للحضارة تتلوها العوامل البشرية وأهمها الصراع للهيمنة على الموارد مما يفرض حال من التداخل بين التاريخ الطبيعي والتاريخ الأنساني فالكوارث الطبيعية في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. المصاحبة لأنتهاء عصر البرونز كالمجاعات والزلازل صاحبت تغيرا في المناخ تسبب في نزوح اقوام بربرية من جزر المتوسط الى أمبراطوريات الشرق الأدنى ناشرة الخراب ومدمرة الحضارة الحيثية والمصرية ومدن الساحل الفينيقي واعالي الفرات كأرسلان طاش وايمار في سورية. غير أن مدن العراق لم تتاثر بالغزو الغربي المدمر ربما بسبب التفوق العسكري الهائل لتوكولتي نينورتا الأول أو لنفاد قوة الأقوام المهاجمة قبل عبورها الفرات..الى الجزيرة الفراتية في سوحو(الأنبار) وحوض الخابور والجزيرة السورية في منطقة الحسكة وغربي جبل سنجار.. من هنا فأن ميتورنات او مدن حوض ديالى (وهي المنطقة المحايثة لزاكروس في خاصرة العراق) تحظى بأهمية ستراتيجية واقتصادية كبيرة ومزدوجة لأن قربها من زاكروس يعني فقدان الأمبراطورية الآشورية لواحد من اهم مواردها وانتقال هذا المورد لقوة معادية سيرجح كفة هذه القوة على آشور مما جعلها منطقة لاتقل في اهميتها وحيويتها عن زاموا مما يفسر توغل الآشوريين في عمق زاكروس في المناطق الشرقية المجاورة لميتورنات(ديالى) وزاموا وبنائهم مواقع عسكرية متقدمة في الجبال للحيلولة دون اي هجوم يمكن لمقدمته الوصول الى حوض ديالى بل وعبور حمرين..وللسيطرة على منابع الأنهار التي تزود حوض ديالى بالمياه فضلا عن تأمين طريق خراسان..وكانت السياسة الآشورية للمنطقة تعتمد استخدام موظفين آراميين وعموريين لضمان ولائهم والحيلولة دون تغلغل العناصر الآرية المعادية من جبال زاكروس التي تعد عدوا جدوديا لدا للحضارات الرافدية المتعاقبة منذ عصر كلكامش. تؤكد ذلك اللقى الأثرية فقد تم العثور في ارزوهينا (قوش تبة) على اختام اسطوانية مدون عليها اسماء آرامية مما يؤكد أن حاكم ارزوهينا كان قد عمل في غربي الأمبراطورية سابقا أو انه كان متحدرا من أصول آرامية وهذا أرجح  لأن بيت آديني جزء من آشور في اعقاب معركة قرقر ولأن نينوى كانت مركزا تجاريا مهما للتجار الآراميين. كما أن حضارة أشنونا (تل اسمر) والتي اعتمد حمورابي البابلي تشريعها في سن تشريعاته اسستها اقوام آمورية وفدت من الجزيرة العربية وكانت تشريعات أشنونا مدونة باللغة البابلية القديمة ..التي اطلق عليها لغة المشكينوم وهي كلمة تعني اللسان العامي والأرجح انها لغة خليطة من السومرية و الأكدية - لأن دويلة المدينة في أشنونا كانت تابعة لأكد ثم بعد الفوضى الكوتية الى سلالة أور الثالثة - والعمورية التي كانت سائدة في الخفاجي وتل حرمل حيث أكتشفت قوانين أشنونا..ونلاحظ في المكتشفات الأثرية تواتر اسماء سامية أكدية وبدرجة اقل سومرية تعود الى الألف الثالث قبل الميلاد..إلا أن استخدام الحديد في الحرب الذي صاحب الألف الأول قبل الميلاد وتولي توكولتي نينورتا الثاني إدارة المملكة افرز الحاجة الى تأمين القلب الآشوري شرقي أربخا (كركوك) وشمالي أربا أيلو (أربيل) من خلال توطيد السيطرة على الجبال وضبط الهجمات المتكررة القادمة منها مما وجه أهتمام الآشوريين الى جبال زاكروس ولاسيما مع تولي آشورناصربال الثاني إدارة الدولة ونقل العاصمة الى كالخو..
وكان تنامي قوة أورارتا (المقابلة اليوم لأرمينيا واذربيجان الأيرانية) على عهد آشورناصربال الثاني قد أدى الى قطع الطرق أمام تجارة الخيول الضرورية للجيش الآشوري مما جعل انظار الآشوريين تتجه الى غربي أيران مصدرا بديلا للخيول مما اضاف سببا ثالثا مهما لتعزيز الوجود الآشوري في المناطق المجاورة لزاكروس ومنها حوض ديالى ومنطقة جبال حمرين وكان الآشوريون يقابلون في طريقهم في عمق زاكروس مستوطنات وحصون بابلية وأكدية اقامها العراقيون خلال الألف الثاني ق.م. كالحصن البابلي في سلهازي وتل آشوري (أو بيت عشتار)  بالقرب من (سنندج) الذي اشاد عليه الأكديون معبدا لمردوخ..وما تزال المدينة في الوقت الحاضر تحتضن آشوريين وآراميين فضلا عن ثلة من اليهود ايضا كان الآشوريون قد رحلوا أسلافهم اليها في الماضي الغابر..وقد تطورت العلاقات بين المدن الآشورية وزاكروس في العصر الاشوري الحديث إثرتأسيس الآشوريين لمقاطعتين آشوريتين غربي إيران هما (بارسوا) و (بيت همبان) في أثناء حكم الملك تكلاثبليزر الثالث عام 744 ق.م. ثم أردف الملك سرجون الثاني هاتين المقاطعتين ببناء مدينتين عسكريتين اخريتين هما مدينة نركال (كيشيميم)  او كارنركال التي تقع اطلالها حاليا في مدينة نجف آباد، ومدينة سرجون او كارشيروكين (هرهر) التي تقع أطلالها على الأرجح بين همدان وملايروتبعد 25 كم عن ملاير في الطريق الى همدان وقد بنى الفرس على الأسس الآشورية معبدا للنار وأعادوا تسمية القلعة فأسموها قلعة نوشيجان.. ويقينا فأن تمركز الحصون الآشورية في منطقتي همدان وكرمنشاه يعود الى كون المنطقة بينهما البوابة الأيسر الى الهضبة الأيرانية التي يعد الأشوريون السيطرة عليها بمثابة مفتاح للسيطرة على الشرق بأكمله قياسا بالمنافذ الجبلية الوعرة الى الشمال او مناطق الأهوار الى الجنوب ومما تنطوي عليه من صعوبات طوبوغرافية وعسكرية خاصة اذا اخذنا بنظر الأعتبار استخدام الآشوريين للعجلات والخيول بالدرجة الأولى..غير أن الاشوريين كانوا قد وقعوا في خطأ كبير عندما استخدموا حرسا ميديين في قصورهم كانوا السبب في تخريب دولتهم وهذا ماكرره بعدهم العباسيون باعتمادهم على الفرس ثم الترك جندا في بلاط الدولة العربية لاحقا.. كما عمد الآشوريون الى تعيين خصيان من زاكروس حكاما اقليميين على المدن التي اسسوها في زاكروس كانت وظيفتهم بالأضافة الى الشراف على تجارة الخيل وجمع الأتاوات وجباية الضرائب التجسس على نشاطات الزعماء القبليين الميديين كآىشور دا ايناني الذي كلف بقيادة حملة آشورية على الميديين في زاكروس عام 733 ق.م. وعلى الرغم من القلاقل وتتابع الخيانات في المراكز الآشورية في زاكروس وبخاصة في القرن السابع ق.م. فأن المصادر ت ؤكد استمرار السيطرة الآشورية على المقاطعات الأربع التي اسسها تكلاثبليزر الثالث وسرجون الثاني حتى عصر آشوربانيبال. وتصور لوحة آشورية مفقودة كان رسمها فلاندين في قصر سرجون الثاني في مدينة سرجون بالقرب من باريما مشهدا لحصار آشوري على قلعة كيشيميم  قبل أن يحولها سرجون الى مدينة نركال القلعة الميدية المحصنة على قمة جبل بدليل قشر السمك الذي يستخدمه الفنان الآشوري في تصوير المناطق الجبلية وفي أعلى مسنناتها قرون وعول جبلية وبينما يواصل بعض المدافعين القتال يلقي الآخرون أسلحتهم رافعين أيديهم علامة استسلام امام المهاجم الآشوري. نستنتج من هذا الأستطراد أن ميتورنات (ديالى) وارابخا (كركوك) وأربا أيلو (أربيل) كانت جزءا من القلب الآشوري بينما كان العمق الزاكروسي مواقع آشورية متقدمة وظيفتها الحفاظ على أمن القلب الآشوري وسلامته كما نجد تفسيرا لكثرة التلال التي تخفي مراكز مدنية في منطقة ميتورنات..
وهنا لابد من التطرق الى المدن والقلاع الأكدية والبابلية والآشورية في زاكروس وعبر زاكروس في أقليم كرمنشاه وهمدان واصفهان..وهي قلاع تعود الى ثلاث مراحل تاريخية مصاحبة للعصور الأمبراطورية في بلاد الرافدين أولها العصر الأكدي حيث ضم سرجون الأكدي (2276- 2215 ق.م.) بلاد عيلام الى أكد ويرجح أن تكون زقورة ومعبد أتشكاه في اصفهان بناءا أكديا عمدت السلالات الحاكمة منذ الفترة الميدية الى محو معالمها وازالة الكتابات المسمارية منها ثم بناء برج الضحية او القربان على جانب منها غير أن الفحص الكاربوني اكد ان البناء يعود الى العصور السابقة على الوجود الفارسي والميدي في أيران..غير ان المؤكد بناء الآشوريين لأربع مستوطنات او مدن عسكرية في سفوح زاكروس الأيرانية هما بيت همبان (نامار) في كرمنشاه والآخر بارسوا (وتعني المنطقة الحدودية أو الضلع، وهي تسمية لحقت فيما بعد الفرس) في (نيكور) بين أفرومان وسنندج. وكان تكلاثبليزرالثالث قد أسس هذين الموقعين عام 744 ق.م. تلاه سرجون الثاني بتأسيس مستوطنتين أخريتين هما مدينة سرجون (خرخر)التي تعرف ايضا بتليسار أو تل آشوري، سيسيري أو سيسيرتي على نهر خورخورا (كرخا)  ومدينة نركال كيشيشيم التي حولها سرجون الثاني الى مدينة آشورية بعيد دحر الميدين فيها عام 716 ق.م. وموقعها في مدينة نجف آباد في مقاطعة اصفهان حاليا. وكان الآشوريون يبنون حصونا أو يحولون حصونا ميدية الى آشورية عبر طريق خراسان وبمحاذاة نهري تورنات وخرخورا..وكانوا أحيانا يجدون مدنا عراقية كان قد شيدها البابليون او الأكديون قبل قرون في المنطقة فيجددونها ويعيدون بناءها كمدينة كودين تبة غربي ايران في طبقتها الخامسة حيث كانت مركزا لتجارة اللازورد اللابيز لازولي بين بادكشان في افغانستان والمدن السومرية..وهناك مصادر تضع مدينة تل آشوري على نهر ديالى في الحدود بين بابل وزاكروس ويطلقون عليه (سيلحازي) التي سماها تكلاثبليزر الثالث  بقلعة البابليين ..وكان قد شيد فيها معبدا تخبرنا المصادرأنه كان مقرا لعبادة الإله البابلي مردوخ..وكان تكلاثبليزرالثالث قد جلب أسرى من بيت عاديني، ربما بعد معركة قرقر في شمالي سورية، الى تل آشوري..حيث مركز عبادة مردوخ البابلية وهو إله للآراميين من بيت عاديني ايضا... ونلاحظ أن الدول الآرية المتتابعة على حكم ايران تسعى الى طمس معالم الوجود الأجنبي في تاريخ اراضيهم وهذا يفسر سبب اهمال الحصون والمدن الآشورية في زاكروس أو تمويه معالمها ببناء معابد للنار فوقها أو إتلاف الكتابات على حجارتها أو ازالتها وتدميرما يمكن تدميره منها أو استعارة افكارهما ورموزها التعبيرية وإلصاق أسماء ورموز قومية  اخرى عليها. ومن أبرز القلاع الآشورية التي طالتها يد الأهمال أو التشويه قلعة نوشيجان في ملاير بين همدان وخرم آباد حيث بني على الأسس الآشورية معبدا للنار واوقفت السلطات اية تنقيبات في الطبقة الثالثة من التل، وقلعة نهرين التي صحفت الى نيرين في يزد وهي قلعة تشبه في بنائها قلعة بيرتا (تكريت) وقد حولتها السلطات في ايران الى حاوية نفايات وكذلك الأمر في حصون صحنة وسنندج ونكشهروغيرها..
ولتتبع مسار التحولا ت التاريخية وراء اندثار القلاع الآشورية في زاموا وزاكروس وميتورنات وبالأحرى في الشرق الأدنى بأكمله لابد من مقارنة التحول في العقيدة الدينية لدى العراقيين القدماء أي التحول من ديانة الأب الى ديانة الأبن: والتحول في سياق الحضارة الرافدينية القديمة تم عبر مرحلتين الأولى على عهد آشوراوباليت الأول 1365-1330 ق.م. حيث تم تاسيس عبادة آشور كبديل عن مردوخ الذي بلغ اوج نفوذه على عهد حمورابي في القرن الثامن عشر ق.م. من الناحية التاريخية بينما ينتسب بصفته ربا للأرباب الى مراحل ضاربة في القدم من الناحية الأسطورية غذ نراه في بداية الخلق مسؤولا عن خلق العالم..إذ قاتل تيامات التي ترمز الى الشر وانتصر عليها ثم شطرها الى نصفين صنع منهما الأرض والسماء ثم اقتلع عينيها ووضعهما في أعالي جبال الرافدين حيث يتدفق منهما نهرا دجلة والفرات..فمردوخ انتصر في معركة رمزية ميدانها الخيال والأسطورة ..ويصور انتصاره على تيامات انتصارا للنظام على الفوضى وتاسيس لديانة مفتوحة على الأمم، في حين ارتبط آشور بمدينة آشور(قلعة الشرقاط)، وبالأمة الآشورية..وبينما اختار مردوخ أو اختار الملوك والكهنة له مدينة بابل ومعبدها مقرا للأقامة، يقود آشور الجيوش الآشورية ويشارك في القتال ويحرز الأنتصارات في معارك تاريخية غيرت مسار الحوادث في الشرق الأدنى بل وفي العالم القديم بأسره..فآشور إله مقاتل على خلاف مردوخ الذي اكتفى بالمعركة الأولى وبالأنتصار التأسيس الأول..وقد استمرالأختلاف في تنوع الوظائف الرمزية لأبني مردوخ أدد ونبو.. فأدد إله انواء أما نبو فإله حكمة وكتبة .. بينما اعاد الآشوريون تخليق مردوخ عسكريا من خلال إله الحرب نينورتا واعطوا أدد وظائف قتالية فهو من يحرك طيور الصاعقة ويدك بسيوله وهدير رعوده معاقل الأعداء..بينما يواصل نينورتا قتال تيامات وقد اتخذت شكل الأنزو هذه المرة ..والأنزو هو من سرق ألواح القدر وهرب للأختباء في جبال زاكروس فطارده نينورتا الى عقر داره وقتله واسترد منه الواح القدر التي ترمز الى قوة الدولة وازدهار الأرض وأمن أهلها..الدولة في المنظور الآشوري لامعنى لها بلا سيادة وبلا اعداء..لأن الدولة التي لا أعداء لها أما ان تكون لادولة او يكون اعداءها قد نالوا منها بانفسهم او بوساطة من ينوب عنهم وأزاحوا أهلها عن دفة حكمها..وهذا مفهوم طبيعي قبل ان يضع توماس هوبس نظريته عن تشكل الدولة لأن الأرض الغنية بالموارد لاتسلم من غزو الطامعين بمواردها لهذا توجب تشكيل جيش من ابنائها والدفاع عنها . غير أن الآشوريين طوروا مفهوم الدفاع الى قاعدة ربما هي الأفضل في التعامل بين الدول متفاوتة الموارد، وهي ان افضل طريقة للدفاع هي الهجوم..من هنا نرى ان تحول الديانة من الأب مردوخ الى الأبن آشور كان ضرورة املتها الظروف الطبيعية والتاريخية على سكان وادي الرافدين في رأسها ومحاجرعيونها وخاصرتها واضلاعها الشمالية...
وبينما كانت آشور وكالخو ومدينة سرجون ونينوى وارباايلو (أربيل) وأرابخا (كركوك) وزاموا (السليمانية) ونيميت عشتار (تلعفر) وتوشان (زيارة تبة) وكيليزي (قصر شمامك) وميتورنات (ديالى) وإيتا (هيت) وآميتا (العمادية) ومعلثايا (دهوك) وأنات (عانة) ودوركتليمو(تل الشيخ حمد) و سنكارة (سنجار) وعاميدا (دياربكر) وغيرها مما لايحصى مدنا للأله المقاتل آشور، كانت بابل مقرا لعبادة الإله الساكن مردوخ...
ويتضح ان لهذا التحول العقيدي ابعادا مفاهيمية ومعرفية جوهرية في محاولتنا لفهم القوى المحركة للحوادث في التاريخ بل للقوى التي تصنع التاريخ، وتلكم هي العلاقة بين العقيدة والدولة ودور العقيدة في تشكيل الدولة ثم في تكوين طبيعة النظر الى العالم..فالعقيدة الهندوستانية اوالبوذية ولدت حضارة غير قتالية بينما ولدت العقيدة الآشورية وبعدها الأسلام في عنفوانه حضارة قتالية فالهند وبسبب عقيدتها لم تشكل امبراطورية في تاريخها وتعرضت بدلا من ذلك الى غزو الفرس والمقدونيين والهون والعرب والغور والأتراك والمغول بزعامة تيمورلنك قبل ان تستعمرها بريطانيا..من هنا فان تحول الأمم القتالية او الدول العسكرية الى دول مهادنة لابد ان يسبقه تحول في العقيدة وفي النظر الى العالم..أي بكلمة اخرى تحولا بالإله نفسه..ولعل أسوء ما يصيب الأمم من كوارث ان تتبنى آلهة غريبة أوآلهة خصومها الحضاريين وتعدهم آلهة لها..مما يؤدي إلى انصهارها أو ذوبانها في خصمها..
ومردوخ بصفته إلها عالميا فتح ابواب بابل للشعوب كلها للآراميين وقبلهم الكاشيين فالميديين فالفرس فالمقدونيين والسلوقيين من بعدهم فالموالي على العهود المتأخرة.. ونحن بمقارنتنا لآشورببابل نجد تماثلا من جانب وأختلافا كبيرا من جوانب أخرى فآشور هي إبنة بابل لغة وحضارة وتختلف عنها عقيدة ودولة وربا، وتتحدث آشور بلغة واحدة بينما تتعدد لغات بابل بسبب توافد الشعوب الغازية وانتشار الآرامية في الجنوب.وبينما ورث البابليون عن سومر آلهتها واعتمدوا الزراعة في اقتصادهم، شاركت في تكوين الآشوريين بيئة قاسية لاتوفر غير مساحات محدودة للزراعة على ضفاف دجلة فضلا عن الزراعة الديمية..مماجعل الآشوريين في حاجة مستمرة الى الموارد التي توفرها اراض وممالك جديدة تضمنت بابل في مراحل مختلفة من تاريخها.كما تتوفر في بلاد آشور الحجارة التي استفاد منها الاشوريون في تحصيناتهم الدفاعية وفنهم أزاء اعتماد بابل على الطابوق والطين.. كما قابلت فنون التمدن البابلي فنون القتال الآشوري..الأمر الذي يضع المراقب في حيرة أزاء الأندفاع العسكري البابلي في عهد نبوخذنصر الثاني وتاسيس الأمبراطورية البابلية الجديدة في اعقاب سقوط نينوى..والسبب الواضح هو ان سلالة بابل الجديدة آشورية أصلا ونبوخذنصر الثاني هو حفيد نبوبلاصر القائد الاشوري المنشق على الدولة الآشورية قبيل سقوطها...ويمكن القطع أن الدولة الاشورية ترتكز في عمودها الفقري ودمها على الجيش فهي دولة خلقتها الحرب وادامتها الحرب ودمرتها الغفلة عن واجب الحرب..غير ان التداخل بين الشعوب في بابل ثم تغلغلهم في البلاط الآشوري على العهود المتأخرة من الأمبراطورية الآشورية صاحبته عملية تحول أو انمساخ جديد في الآلهة أتضح على عهد أسرحدون وبتأثير واضح من أخواله الآراميين وأمه الآرامية نقية..وهنا لاأستبعد ان نقية ربما لعبت دورا (كأن يكون مؤامرة صمت) في اغتيال سنحاريب لتدميره لبابل ونقل تمثال الإله مردوخ الى آشور.. وهنا نتساءل عن دوافع غزو مصر على عهد اسرحدون بينما كانت مصر حليفا قويا بل الحليف الوحيد للأمبراطورية الآشورية حتى بعد تدمير كالخو ونينوى من قبل تحالف دولي يقوده الميديون من الشرق والبابليون من الجنوب...وهذا استطراد فالمهم هنا هو تحولا ثانيا في العقيدة طرأ على الآشوريين فقد تحولت مجددا من ديانة الأبن الى ديانة الأب وارتكنت الى الراحة بدلا من القتال بحيث اصبح قدر آشور أوباليت الثاني الذي اسس الأمبراطورية في المنفى من حران مماثلا تماما لقدر مروان الثاني..فعلى الرغم من قوة الملك وإرادته القتالية لم يتمكن من استرداد زمام المبادرة لأن خصومه هذه المرة هم من تبنى آشور وعقيدة آشور القتالية دينا جديدا لدولتهم وينعكس ذلك في مدينة بيرسيبوليس التي نشاهد الثيران المجنحه في بواباتها والإله آشور محمولا على بيارق جيوشها..
والمهم في حال الإله آشور مقارنة بمردوخ، انه إله قومي في دولة تهيمن فيها السياسة على الدين بينما يعد مردوخ إله عالمي في دولة يهيمن الدين فيها على السياسة..وهذا فرق مهم يتضح من مقارنة الحاضرتين اي شمالي العراق بجنوبيه..فقد درج الملوك الآشوريون على نقل عاصمتهم والنأي بها عن آشور العاصمة الأولى ومركز قوة الكهنة..فقد اختار شمشي ادد الأول (1813 - 1781 ق.م.) عاصمته في شوبات انليل (تل ليلان في حوض الخابور) على الرغم من بنائه لمعبدين في آشور للإلهين أنو وأدد (وليس لأبيهما مردوخ)، بينما عين ابنه إشمي داكان في ايكالاتوم (تلول الهيجل وربما تل الذهب) للسيطرة على قلب العراق، وانتقل توكولتي نينورتا الأول (1244 - 1208 ق.م)  الى مدينة على الشاطيء الشرقي لدجلة قبالة آشور واطلق عليها اسمه كارتوكولتي نينورتا (تلول العقر) على الرغم من تشييده معبدا لعشتار في آشور، وبنى توكولتي نينورتا الثاني عاصمة له كان اول من عثر على ادلة عليها الدكتور حسين الجبوري (أستاذ التاريخ القديم في جامعة الموصل) اسماها نيميت توكولتي نينورتا في موقع قرية القاضية وقصرالرماح بالقرب من جامعة الموصل، ونقل آشورناصربال الثاني العاصمة من آشور الى كالخو (النمرود) التي كان جده شلمنصر الأول قد اسسها عام 1280 ق.م. ثم شيد سرجون الثاني مدينته المعروفة بدورشيروكين التي لم تسكن بعده لأن ابنه سنحاريب إختار مدينة نينوى عاصمة للأمبراطورية بدلا منها ومن كالخو..مما يشير الى محاولة الملوك الآشوريين النأي بأنفسهم عن نفوذ الكهنة في آشور،مما اعطى الإله آشور بعدا حركيا يتضح من خلال تمثيله بالثور المجنح الذي نحت في حال حركة بخمس قوائم وليس بأربع..وفي الحقيقة فان الفن الآشوري كله يعكس حالة من الحركة في الأتجاهات كلها..بينما يعكس الفن البابلي حالة من الثبات..ومن ناحية أخرى نلاحظ أن مردوخ إله عالمي انتشرت عبادته في انحاء الشرق الأدنى وتعرض تمثاله للأختطاف اكثر من مرة: فقد اختطفه الحيثيون بعد نهبهم لبابل وتخريبها عام  1595 ق.م. واسترده الكاشيون الذين كانوا قد احتلوا بابل واعتنقوا ديانة البابلييين، واختطفه توكولتي نينورتا الأول ونقله الى مدينة آشور واعيد الى بابل في عهد إبنه آشورنادين آبلي، واختطفه العيلاميون بعد هجومهم على بابل وتخريبها عام 1158 ق.م. فاسترجعه نبوخذنصرالأول منهم بعد ان دحرهم في عقر عاصمتهم سوسة، وفي الألف الأول ق.م. هاجم سنحاريب بابل ودمر معبد الأيساجلي ثم حمل تمثال مردوخ الى آشور ليعيده إبنه اسرحدون مجددا الى بابل..وكان نبونيداس لايثق بمردوخ وحاول بتأثير أمه كاهنة حران، أدة كوبي، وابيه الأمير الآشوري تأسيس عبادة القمر بدلا من مردوخ وآشور كليهما، فاتهم بالجنون وقام كهنة مردوخ بالتآمر عليه بجلب قورش الى بابل الذي دخلها بدون قتال في 539 ق.م. وكان أول شيء عمله قورش في بابل دخوله الأيسالجي وأمساكه بيديه كف الإله مردوخ معربا له عن شكره ومتخذا أياه إلها لأمبراطوريته الجديدة التي اقامها على انقاض الأمبراطوريتين الكلدية في الجنوب والآشورية في الشمال..وهكذا فبينما حافظ الإله آشورعلى امته وحافظت امته عليه وانتهيا معا، تعددت الأمم التي عبدت مردوخ واستمر معبودا على عهود امم متناحرة فقد عبده العموريون الذين استوطنوا بابل والكاشيون الذين غزوهم من الشرق ثم عبده الآراميون وعبده الفرس بعد غزوهم بابل وانهائهم للدولة الكلدية التي اسسها نبوبلاصر في اعقاب سقوط نينوى على نحو مماثل لعبد الرحمن الداخل في تاسيسه لدولة اموية في الأندلس في اعقاب سقوط دمشق..
وهنا ننتقل بضعة قرون في التاريخ لنعود الى بغداد وريثة الأمبراطورية التي اسسها خلفاء دمشق عبر زاكروس  بالروح القتالية نفسها التي اسس بها الآشوريون من قبلهم لأمبراطوريات العراق الأولى عبر زاكروس أيضا..ونحاول التعرف على اسباب انهيارها من خلال تتبع التحولات التي طرأت على العلاقة بين العقيدة والدولة: ونفترض أن الخلاف بين آشور ومردوخ لم يتوقف مع غيابهما من التاريخ بل أن الأحوال المصاحبة لعصر عبادتهما استمرت في الشرق الأدنى على الرغم من الأختلافات في الزمان والمكان والأوضاع الأجتماعية والسياسية: فأنفتاح عبادة مردوخ على الأقوام  في الشرق والغرب، ولد ضربا من العالمية إنعكس في العصر العباسي بمايطلق عليه بالشعوبية التي على الرغم من اعتماد القائلين بها كأبي عبيدة معمر بن المثنى وعبد الحميد الكاتب على نص قرآني، اتخذت منحى يتعارض مع روح النص الذي يفترض انها ارتكزت عليه..بينما نلاحظ في حواضر الشمال آشور وقد أحتفظ بخصوصيته القومية ولم تنتشر عبادته في زاكروس او سورية والساحل الفينيقي..ولعل دور كتاب الدواوين والمرتزقة الترك والفرس في العصر العباسي الذي يصفه الجاحظ بحكم العجم اشبه بدور الكتاب الآراميين والجند الميديين في البلاط الآشوري من حيث النتائج السلبية التي دمرت الثقافة العربية والدولتين الآشورية والعباسية.. بمعنى ان الدور التثقيفي للآراميين والسياسي للميديين تكرر على العهود العباسية المتأخرة، بل حاكى العباسيون أسلافهم الآشوريين حتى في التزوج بالميديات والآراميات..من هنا نفهم دوافع الخلاف بين ادة كوبي وابنها نبونيداس وهو ابن امير آشوري في بلاط نبوخذنصرالثاني وبين كهنة الأسيجالي..وهو خلاف تجدد بين المنصور وأبي مسلم الخراساني ثم بين الرشيد والبرامكة على العهد العباسي ..وبينما انتهى في العهود القديمة بتدمير نينوى بتعاون بابل، انتهى في العصر العباسي بالغزو المغولي بتعاون بيضة الكوفة من اليهود والموالي الذين كان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قد هجرهم من الحجاز الى الكوفة..
كما يرتبط مردوخ،  بسبب غيابه وعودته الى الأسيجالي، بتقاليد وطقوس عاطفية متنوعة ومتعارضة  اهمها شعور الناس في بابل ان غيابه جاء بسبب خطيئة ارتكبوها وترتب عليها نقمة تسببت في انتشار القحط والأوبئة والمجاعة والهزائم المتكررة في الحروب بينما قرنوا رجعته بالتوبة والأمتثال لتعاليمه والخضوع المطلق بطريق العبادة وتقديم النذور والأضاحي واقامة المآدب ..وكان في كل مرة يعود اليها بعد اختطافه الى الأسيجالي، يهرع اليه الآراميون من قراهم في جنوبي العراق جريا الى بابل للتضرع والنياحة والبكاء ..فغياب مردوخ هو اشبه بدمار المدن وانهيار اسوارها ورجعته هي اشبه بعودة الحياة الى المدن واسترجاع عمارتها ..وفي كل مرة يغيب فيها، يقيم الناس في بابل المآتم ويرتدون ثياب سوداء..وحزنهم في الواقع لم يكن على مردوخ بل على بابل المخربة ..اما شعورهم بالذنب فينبثق من تصورهم ان مردوخ لم يغادر بابل إلا من جراء خطيئة أرتكبوها مما ولد لديهم وضعا نفسيا خاصا يتسم بالمازوكية والأنسياح العاطفي بل وجلد الذات وما الى ذلك من ممارسات تكفيرية عنيفة أورثوها للموالي على العهود الإسلامية..وهذا لامثيل له في آشور ونينوى او في الحواضر الآشورية الأخرى، لأن الإله آشور لم تتعرض معابده للغزو ولم يختف عن رعاية امته لحظة واحدة بل هو إله مقاتل يشارك جيشه في المعارك وان تدمرت نينوى مرة، فإنها لاتعود مجددا كما تعود بابل.. بل تدمر مرة واحدة ..ذلك لأن بابل دين أما نينوى فدولة، والمسافة بين الملك الآشوري والإله آشور تكاد تكون معدومة أما المسافة بين مردوخ والملك البابلي فهائلة مما يفسر قوة الكهنة في بابل وضعفهم في نينوى وقوة الملك في نينوى وضعفه في بابل..
وفي تتبعنا لملامح الإله آشور في النمرود وملامح الملك آشور ناصربال الثاني نجد تماثلا هائلا بينهما..والأختلاف الوحيد يبدو في لباس الرأس وبوجود الأجنحة للمردة والإلهة من جهة وغياب الأجنحة لدى الملوك ..كما نلاحظ ان الملك الآشوري ينعت المتمردين والعصاة بالآثمين ويسمي نفسه بالكاهن الأول للإله آشور، بما يؤكد مجددا قوة الدولة في آشور وكالخو ونينوى  أزاء قوة الدين في بابل وسيبار ونيبور(نفر) وسواد العراق..أي بكلمة أخرى ديانة الأبن أزاء ديانة الأب!
بيد أن تبدلا في العقيدة القتالية وفي النظرة الأمبريالية الى العالم حدث في الأمبراطورية الآشورية على أواخر عهدها ربما بسبب استعارتها لعيون أعدائها في النظر الى العالم مما تسبب في غياب نجوم آشور الثلاث واسترجاع مردوخ لمواطيء قدم له من خلال اولاده ..واحتلت عشتار التي فقدت عينيها هي الأخرى محل نينورتا.. فتسلل الأنزو مجددا الى البلاط الآشوري..وتضاعف اعتماد الآشوريون على اعدائهم في الجيش والإدارة على نحو يذكرنا ببغداد العباسية التي بدأ الغرباء فيها عبيدا وانتهوا اسيادا يسملون عيون الخلفاء ويستبيحون نسائهم..مما أدى الى سقوط نينوى..ومع سقوط نينوى تعرضت القلاع الآشورية الجزرية في اعماق زاكروس واورارتا والأناضول للأندثار التدريجي وشيدث في مكانها وفوقها معابد للنار وكنائس وجوامع بينما استمرت قوة الدين في مساحة هائلة من اللاوعي السياسي والحضاري واتخذت شكل الصراعات الطائفية في الهلال الخصيب وهي صراعات غالبا ماتظهر في اعقاب هزيمة عسكرية تترتب على تبدل في العقيدة من ديانة الأبن الى ديانة الأب، فتأتي على الدولة وتدمرها من اركانها ..وهذا ماحدث في سقوط نينوى ودمشق الأموية..وبغداد من بعدهما مرتين..








25
ملكات العراق بين الأسطورة والتاريخ

صلاح سليم علي
يعد علماء التاريخ الإجتماعي والإقتصادي الحضارات القديمة في وادي الرافدين مجتمعات تشكلت فيها اللبنات الأساس للإستغلال الطبقي ولنشوء السلطة الإستبدادية حيث تتمكن طبقة صغيرة من السيطرة على المجتمع بطريق العنف ثم بتشكيل سلطة يتعاون في تثبيتها الكهنة والملوك الذين يحتكرون وسائل الأنتاج ويحققون ثروات طائلة بطريق اعمال السخرة..وفي منظور ماركس ان اول اشكال السلطة قديما تعد أئتلافات ثيوقراطية أرستقراطية تنصب نفسها ممثلة للآلهة على الأرض، فتفرض على الجماعات في بيئتها وخارج بيئتها الطاعة والسخرة بالقوة والدعاية، وان سور الصين العظيم واهرامات مصر وبرج بابل والمدن الآشورية ماكانت ستشاد لولا العنف واعمال السخرة..مما جعل الدولة هي المالك الوحيد للأرض والمشاريع الكبرى التي تبنى عليها، واطلق ماركس على هذا النمط من العلاقة بين السلطة والمجتمع بنمط الإنتاج الآسيوي وفي المرحلة الثانية لهذه العلاقة تتباعد المسافة بين الكهنة والملوك ويلجأ الملوك الى تبرير سلطتهم بطرق مختلفة منها زعمهم انهم تحدروا من الآلهة وان الحروب التي يشنونها هي كالمعابد التي يشيدونها ليست سوى تنفيذ لأوامر آلهة (نقلها) اليهم الكهنة او كما في حالة نابونيداس طرأت عليهم في احلام اوحتها اليهم الآلهة..والمهم في رأي هذا النفر من العلماء أن الممتلكات لم تتضمن الأشياء وحدها، بل البشر الذين يقدمون وقودا الحروب، ووسائلا للأنتاج، ، وأن النساء يمثلن الحلقة الأضعف في المجتمعات القديمة حتى عندما يكن كاهنات أو اميرات، فهن، والرأي لهؤلاء المنظرين، يملن بسبب افتقارهن الى القوة، الى المكر والخداع مما ولد نمط شهرزاد التي تحافظ على رأسها بتوظيف عقلها على حد تعبيرهم.. وقد ولد هذا التنظير في شأن المرأة الشرقية نظرة تدوينية تبناها المستشرقون لدوافع ايديولوجية معممين مفردة (الحريم) على تاريخ المرأة الشرقية بأسره..وهم في نظرهم هذا إنما يحاكون علماء التاريخ الأجتماعي والأقتصادي في الذهاب بعيدا في تنظيرهم فيما يخص المرأة الشرقية...والحكم الأقرب الى الإعتدال هو أن النساء يشغلن الزاوية الأعتم في تاريخ الشرق ليس لعدم لعبهن لأي دور بل لتغييب ذكر تلك الأدوار من السجل التاريخي بحكم التقاليد ولهيمنة الرجل ملكا ومشرعا وقائدا عسكريا على المجتمع في العالم القديم بأسره وليس في الشرق او الشرق الأدنى فحسب..إلا أن تلك المرحلة من تاريخ الشرق الأدنى صاحبتها عملية التشكل الحضاري وتطور الفنون والآداب والتشريع وبناء النظم الأجتماعية والأقتصادية والعقيدية وما اليها من مفاهيم اساسية عن الدولة وادارتها واقتصادها فضلا عن الحرب والتجارة والري والزراعة والعلاقات بين الدول والأمم..وكانت المرأة تلعب في كل ذلك دورا متميزا..
ويواجه المؤرخ والبحاثة في الحياة الإجتماعية لتلك المرحلة من تاريخ الشرق الأدنى وتاريخ المرأة في العراق بوجه خاص صعوبات هائلة تنبثق من ندرة النصوص التي تؤرخ للحياة الإجتماعية مما يستوجب الأعتماد على الشواهد الآركيولوجية ومقارنتها بالنصوص المسمارية والروايات القديمة..ولابد في كل ذلك من اعتماد المؤرخ على مانطلق عليه بالدرس البلاغي (تعويض المحذوف) او الأستنتاج بطريق تأييد افتراض معين بالرجوع الى قرائن نعتمدها من خارج النص..أو من مرحلة تاريخية سابقة أو حتى لاحقة قد تصل الى مقارنة (لسانية) لمفردة في الأغلب بقريناتها في الوقت الحاضر، كوننا ورثة المنظومة القيمية والذوقية والحضارية لأسلافنا في هذه المنطقة الحبلى بالتاريخ من العالم..وفي كل الأحوال لابد من الرجوع الى الدراسات الحديثة التي تمثل حاصل تحصيل المجهود البحثي النصي والآثاري والمقارن المعاصر لتشكيل تصور مقارب للحياة الأجتماعية للمرأة في العهود القديمة ..ونحن بمحاولتنا المتواضعة تقديم هذه الصورة ننتهج التقليد هنا والأبتكار هناك ريثما تجد افكارنا موطيء قدم لها بين بصمات كتاب جلهم من الغرب، كلما هزت اصابع العازف الغربي وترا ينهض روحنا الشرقية متحدية او ناقدة، ويبعث ايقاعاتها ويغازل عوالمها واسرارها..ونحن مع كل ذلك، ادرك باننا أشبه بمغامر يحاول زج ناطحة سحاب بعلبة كبريت..مع ذلك فحرى بنا ونحن ابناء نينوى وكالخو، كيش وبابل، أرابخا وأرباأيلو أن نلقي حجرا في ماء راكد:
تميط المدونات الآشورية الصروحية والأرشيفية التي تتناول منجزات الملوك الآشوريين في الألف الأول ق.م. اللثام عن مجتمع يهيمن عليه، في معظم مراحله، الرجال ويديرون الشؤون السياسية والعسكرية والدينية والأقتصادية فيه تاركين الأهتمام بالمنزل والأطفال، والمعابد احيانا، للنساء اللاتي يشغلن الضمير الغائب في العراق القديم..وبالنتيجة اصبحت المدونات والمسلات والمنحوتات الآشورية، في معظمها، تؤرخ للملوك ومآثرهم العسكرية وتؤكد قوة الأمبراطورية وآيديولوجيتها موحدة بين سلطة الملك وغضب الآلهة وانتصار الآشوريين المحتوم في المعارك..فالدولة الآشورية عسكرية في تكوينها وترتكز على إدامة القوة الضاربة للجيش الآشوري وترسيخ القدرة السوقية (اللوجستية) وتوظيف الحديد في آلآت الهجوم والحصار ودك أسوار المدن المعادية وهدم تحصيناتها. فالحرب هي دين الدولة والقوة العسكرية عمادها..وهذا يفسر جعل آشور بديلا لمردوخ ربا للأرباب في الدولة الآشورية، وحتى عشتار نفسها تبناها الآشوريون رمزا ليس للخصوبة والحب بل للحرب والقتال..فالجيش الآشوري في المصطلح العسكري الحديث جيش نار وحركة..اي جيش هجوم مستمر وليس جيش دفاع وهذا ينعكس بقوة في الفن الآشوري المعبر عن الآيديولوجية القتالية فالجداريات عبارة عن معارك حية والثيران المجنحة تغادر بوابات القصور ليلا للتحرك على قوائمها الخمس في المكان أما الإله آشور فيرفرف بعجلته فوق ميادين الوغى حاملا قوسه ونشابه يحمي ظهره نينورتا بحربته الرعدية ثلاثية الرؤوس..فبدهي والحال هذه أن لاتحتل النساء ولأقل المرأة في دولة الحرب هذه سوى هامش ضيق..مع ذلك فأن هذا الهامش لايخلو من أخبار بالطبيعة البطولية للآشوريات وادوارهن المتميزة في تثبيت اركان الأمبراطورية والمساهمة في الجهد العسكري بطرق متنوعة ..ولاسيما مع اتساع الأمبراطورية الآشورية على عهد سنحايب وأبنه وحفيده آسرحدون وآشوربانيبال على التوالي...وهي مرحلة تزايد خلالها تأثير الوجود الآرامي في شؤون الدولة سواء من خلال التزوج بأميرات آراميات أو من خلال توظيف الآراميين في مراكز عديدة في أسفل هرم الإدارة الأمبراطورية ووسطه، او من خلال اتساع الأمبراطورية غربا وضمها لبابل..مما عزز تدريجيا مكانة مردوخ مجددا على حساب آشور، وسين على حساب نركال، ونوسكو على حساب نينورتا..واخيرا سين على حسابهم جميعا..وعلى الرغم من عدم معرفتنا بالدلالة الخارجية أو النصية الصريحة بطبيعة التنافس على السلطة ضمن الأسر الآشورية المتتابعة منذ أواخرعصر شلمنصر الثالث وحتى عهد ادد نيراري الثالث فسرجون الثاني فابنه سنحاريب الذي اغتيل في طربيشو (شريخان- المصحفة من شريف خان في منطقة الرشيدية في الموصل)، فأن مشكلة تولية اسرحدون ثم الملكية المزدوجة، أقول على الرغم من اختفاء الأدلة النصية، يمكن الأستدلال بالقرائن على أن تنامي تأثير النساء غير المنظور في شؤون الأمبراطورية، كان واحدا من اعراض المنازعات في البلاط الآشوري وتراجع القوة الضاربة للجيش الآشوري على الرغم من اتساع رقعة الأمبراطورية، من جبال البرز وبحر قزوين شمالا حتى الخليج العربي جنوبا ومن قبرص غربا حتى السفوح الغربية لزاكروس وبضمنها اجبتانا (همدان)، ولجوء الملوك المتأخرين مجددا الى الزيجات الدبلوماسية والمعاهدات جنبا الى جنب مع الوسائل العسكرية - كمعاهدة عدم الأعتداء بين اسرحدون وملك عيلام، وتفكير اسرحدون بتزويج احدى بناته لأحد ملوك كوركوم (مرعش) والمشكلات التي اعقبت تولي آشوربانيبال (668- 627 ق.م.) آخر الملوك الأشوريين الأقوياء الحكم بعيد وفاة ابيه في نينوى كالملكية المزدوجة في بابل ونينوى وتحالف شمش شموكين ملك بابل وشقيق آشوربانيبال مع تومان ملك عيلام وارسال الأخير رسالة مهينة للملك الآشوري في نينوى تمخضت عن سحق عيلام وتعليق رأس ملكها تومان في عرائش العنب في حدائق تلقوينجق..ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه فالمشكلات التي حاقت بالخلافة العباسية سبقتها قرائن مماثلة في اواخر العصر الآشوري الحديث فقد استخدم الملوك الآشوريين المتأخرين جندا ميديين (خصيان) في بلاطهم تذكرنا باستقدام العباسيين للفرس ومن بعدهم الترك جندا في دار الخلافة..فضلا عن توظيف الآراميين في الإدارة الآشورية ولاسيما في المناطق الشرقية والأناضول..وبينما لعب الآراميون دورا بناءا، وبخاصة النساء الآراميات اللاتي اصبحن ملكات في نينوى والنمرود، كون الآراميون ينتمون لأرومة حضارية وإثنية مماثلة للآشوريين، كان الميديون طابورا خامسا في البلاط الآشوري..بدليل طبيعة التحالفات التي ادت الى تخريب نينوى وسقوط الأمبراطورية الآشورية..وسنبين لاحقا ان (ادة كوبي) أم نبونيداس ملك بابل كانت قد احتفظت بذاكرة قرن كامل من التحولات ومن رحيل الآلهة وعودتها وتغيرات السلطة تبعا لذلك..في سياق دعائها الآلهة لمصالحة بابل ونينوى، وارجاع السلطة لأبناء العراق مجددا بعد ان انتزعت منهم.
تناولت دراسات عديدة دور المراة في العراق القديم وأكثر هذه الدراسات أهمية أطروحة دكتوراة قدمتها شيري مكريكر في جامعة كاليفورنيا عام 2003 عنوانها (النساء في عالم العصر الآشوري الحديث)، وهي اطروحة تناولت سميراميس ونقية زكوتو بالأضافة الى ملكات النمرود من خلال مكتشفات مقبرة القصر الشمالي الغربي في النمرود والمنحوتات الصروحية، واعتمدت منهجا وصفيا وتركزت مصادرها على أدبيات واسعة حديثة في معظمها، ثم أطروحة الدكتوراة التي قدمتها سارة شمبرلين ميلفل في جامعة ييل وعنوانها (دور نقية زكوتو في السياسة السرجونية)، ودراستها اللاحقة الرائدة المعنونة (النساء الملكيات في العصر الآشوري الحديث والهوية الذكرية: المكانة بصفتها أداة اجتماعية) نشرت في مجلة الجمعية الشرقية الأميركية، والترجمة الإنكليزية لمسلتي نابونيداس وامه أدة كوبي اللتان عثر عليهما في جامع أولو في حران، التي نشرتها مجلة الدراسات الأناضولية عام 1958 وذلك لتحليل النص من منظور اثني وحضاري للتعرف على دور أم نبونيداس بصفتها احدى رائدات وحدة العراق وسيادة ابنائه على ارضه قديما من منظورنا فحسب، ودراسة جورجيو بوتشلاتي المعنونة (القصر الملكي في اوركيش وإبنة نرام- سين) في مجلة الحوليات الآركيولوجية السورية العربية المنشورة عام 2001 وهي دراسة ميدانية تلقي ضوءا جانبيا على تارآم أكادا ابنة حفيد سرجون الأول..ونعتمد فيها على إشارات في تحليلنا لعناصر فنية نفترض ان الملكة العراقية كانت هي من نقلها الى أوركيش (تل موزان) في شمالي سورية، واحدثت تغييرا في الطابع الديني والسياسي والفني في العاصمة الحورية.. وهذا ما لم يقله أي من البحاثة سابقا اضف الى ذلك محاضر المؤتمر المعنون (ضوء جديد على النمرود) الذي عقد في لندن عام 2002 ونشرعام 2008 بشكل كتاب تناولت المقابر الملكية في قصر آشورناصربال الثاني المكتشفة عامي 1989-1990..هذا فضلا عن المراجع الألكترونية التي لاتحصى..
وتبقى الصعوبة التي تواجه البحاثة كلهم قائمة هنا أيضا..وهي نزرة المصادر التي تتناول المرأة في العصور القديمة وشحتها.. وتتمثل مبادرتنا في ربط الشواهد والدلالات النصية والصورية أحداها بالأخرى وتوظيف المعالجات المنطقية الممكنة كالأستقراء والأستدلال والمقارنة وصولا الى تكوين صورة عن شخصية المرأة في العراق القديم ممثلا لها بثلاث ملكات وملكة - كاهنة حاولنا جاهدين لملمة آثارهن ومآثرهن مستعينين حسب الضرورة على النادر والخبيء في بطون الكتب وثنايا المصادر، وهذه الملكات وفق تسلسلهن التاريخي هن تارآم أكادا وشمورامات (سميراميس) ونقية زكوتو واخيرا أدة كوبي أم ملك بابل وكاهنة حران: 
تارآم أكادا:
يقع تأثير تارآم أكادا ابنة نرام سين في سياق امتداد النفوذ الأكدي السياسي والحضاري في حوضي الخابور والفرات والأناضول..إذ نقرأ في احد نصوص ايبلا الآتي (سرجون الملك ركع في توتول - تل البيعة- للإله داكان الذي وهبه الأراضي العليا ماري ويارموتي وايبلا وحتى غابة السدر وجبل الفضة)، ويقصد سرجون بجبل الفضة طوروس وغابة السدر في سفوح جبل أمانوس وليست نظيرتها في لبنان..وجاء تحرك سرجون الأكدي شمالا بحكم الضرورة لأن جنوب العراق يفتقر الى المعادن والأخشاب والخيول والحجارة..مما جعل السيطرة على حوض الخابور والأناضول مطلبا حيويا ليس للأكديين ومن بعدهم الآشوريين فحسب، بل من قبل المصريين والسومريين ايضا..غير أن هذه المنطقة تخللتها دويلات مدن عديدة تتأرجح بين القوة والضعف كأيبلا أو مدينة الحجارة البيضاء (تل مرديخ) المنافسة لأكد وايمار وماري وأوركيش..واعتمد الأكديون في توغلهم على الغزو والدبلوماسية ..فعمد نرام سين الى غزو الكنعانيين في أيبلا وحرق مدينتهم ومعابدهم وانهاء وجودهم في شمالي سورية اما اوركيش الكنعانية (بالقرب من القامشلي) اصلا فقد تجاوب ملكها مع ملوك أكد وقبل بسيادتهم مفضلا التعاون معهم على حرب محسومة النتيجة ولاسيما لأن اوركيش دويلة مدينة لم يتجاوز نفوذها السياسي مشارفها واسوارها ولأنها محاطة بدويلات مدن يديرها الأكديون مباشرة كناجار (تل براك) وسخنا (تل ليلان) شوبات انليل عاصمة شمشي ادد الأول لاحقا، ومدن اخرى ضمن شبكة تجارية واسعة تربط بين مدن القلب الرافدي بابل وكيش ولاكاش وأور ونيبور واكد وشوروباخ (اوروك) بماري وتوتول وأيمار وقطنا ومدن الساحل الفينيقي غربا والأناضول شمالا..وبدلا من تعيين حاكم أكدي على اوركيش، عمد نرام سين الى تزويج ابنته تارآم اكادا للأندان حاكم اوركيش ربما كان الأندان توبكيش (الثاني؟) او تيش آكال..ويبدو من التنقيبات في اوركيش أن ترآم أكادا كان قد صاحبها عدد من الموظفين الأكديين مهمتهم الأشراف على المنتوج الزراعي وتأمين الطريق التجاري بين حران وكاركميش والمدن السورية والأناضولية الأخرى..ويتضح من مقارنة طبعات الأختام الأسطوانية الأكدية مع مثيلاتها في أوركيش وكانيش (كول تبة) تماثلا في الطراز الفني وفي المضمون وبخاصة في الأختام التي تمثل إله الصواعق تيشوب وهو نسخة من ادد الرافدي ورجال برؤوس ثيران أو ثيران برؤوس رجال ربما كانت الأساس في الترميز للإله آشوربالثور المجنح عند الآشوريين فيما بعد. ويرجح ان تفضيل نرام سين الإبقاء على أستقلال اوركيش الصوري كان بسبب علاقات الملوك الحوريين فيها مع القبائل الجبلية في طوروس، وقيام الأخيرة باعمال التنجيم وشحن الفضة والخيول والقصدير الضروري لعمل البرونز الى بلاد الرافدين..مع ذلك فان تحولا واضحا في الرموز الدينية وفي الفن والإدارة حدث في اوركيش بسبب تأثير ملكتها الأكدية تارآم أكادا..حيث تصور لنا أكثر من ألف طبعة لأكثر من 100 ختم اسطواني منها 150 ختما يحتوي على كتابات مسمارية متروكة على مداخل الأبواب والمخازن نماذج من الفن الأكدي كمشاهد القتال والأسود والثيران فضلا عن النجمة الأكدية الثمانية والخوذة ذات القرنين التي نطالعها في مسلة نرام سين، وفي ختم تارآم اكادا نطالع مشهدا مماثلا لمشهد كلكامش وهو يقاتل اسدا غير ان ختم تارآم اكادا يمثل رجلا بجسم ثور يقاتل اسدا من جانب ورجلا عاريا يقاتل جاموسا من جانب آخر وبين الشكلين كتابات أكدية. ويماثل ختم اروين اتال ختم تارآم اكادا..كما عثرعلى ختم الحاكم الأكدي (ايشاربلي) يمثله جالسا وامامه مهر يقفز وخلفه حارس يقود امرأة تحمل غزالا والى جانبها ثور مناخ (بضم الميم)..كما تم استظهار قسم مخصص للكتبة وعدد من الرقم المدونة باللغة الأكدية تتناول مواضيع ادارية ونصوص تعليمية ...ويتبين من وجود ختم الملكة على الأبواب والمخازن انها كانت تحت الإشراف المباشر لترآم أكادا او انها اضطلعت بادارة القصر..ويبدو من سيادة التصوير الميثولوجي الرافدي في الأختام أن تارآم أكادا قد غيرت او استقدمت هذا الفن الأكدي اصلا في ايمار وانها انشأت مدرسة لتعليم الحساب فيها..وفي المصادر ان نرام سين كان يعتمد على بناته في إدارة المدن الرافدية والإشراف على المعبد الرئيسي في المدن المهمة فقد عين ابنته (أينمينانا) كاهنة على أور، و(توتا نبشوم) كاهنة على نيبور و(شومهانيتا-آسي) كاهنة على سيبار (تل ابوحبة شمالي بابل) وهي اكثر مدن الرافدين في الألف الثالث ق.م. أهمية..ولكن تارآم اكادا كانت ملكة لأوركيش يساعدها حاكم اكدي على الرغم من زواجها لأمير(اندان) حوري..كما أظهرت التنقيبات في اوركيش قصرا ملكيا يحاكي طراز عمارته القصور الأكدية في ناجار (تل براك) تحمل قطع اللبن التي شيد منها اسم نرام سين جنوبي أوركيش واماكن اخرى..ويحفل المعبد الحوري في اوركيش إلى جانب تيشوب وكوماربي آلهة عراقية بابلية واكدية كعشتار وأيا وشمس ونركال..ويعود تاسيس معبد نركال الى عهد تيش آتال المتزامن مع الملكة الأكدية مما يرجح ان بناء هذا المعبد جاء نزولا عند إرادة تارآم أكادا..كما يظهر من قراءة احد زوايا تاسيس المعبد في قاعدة لتمثال اسد برونزي وضع لحراسة المعبد الصيغة عينها التي يدونها ملوك العراق في اركان واسس قصورهم ومعابدهم إذ نقرأ على اللوح في قاعدة الأسد: (تيش آتال ملك أوركيش قد بنى معبدا للأله نركال..فليحافظ الإله نوباداك على هذا المعبد. وعسى نوباداك ان يدمر كل من يسعى في تخريبه، وعسى الا يستجيب ربه لصلواته. وعسى سيدة ناجار، وإله الشمس شيميكا، وإله العواصف يلعن 10.000 لعنة اي شخص يسعى في خرابه)، ويقصد تيش آتال بسيدة ناجار الربة عشتار التي انتشرت عبادتها في الشرق الأدنى قبل انتقال الحوريين من ارض فلسطين (كنعان في اواخر الألف الرابع أو أوائل الألف الثالث) الى شمالي سورية..اما نابادوك، فلعله داكان (دجن) إله الخصب والصواعق الرعدية السامي الذي انتشرت عبادته في مدن الساحل الفينيقية وشمالي سورية وبخاصة توتول (تل البيعة) وايبلا (تل مرديخ). وكان الإله دجن يشغل مكانة خاصة لدى سرجون الأول الذي قدم له الأضاحي في طريق حملته عبر الفرات في ترقا (تل العشارة)، سيرقو الآشورية وتوتول.. ويتجلى من قراءة دقيقة لمجمل الدلائل الآركيولوجية والنصية والمقارنة الدايكرونية والجغرافية لأوركيش وعصرها ان تارآم اكادا لعبت دورا مهما في عدد من المجالات شملت الفن والأقتصاد والإدارة والمعتقدات..فالرقم الطينية التعليمية التي عثر عليها في قسم من القصر مخصص للكتبة الهدف منها تعليم الأكدية للطلاب، اما تختيم ابواب المخازن والغرف فيشير الى نشاط إداري واقتصادي ..ويتضح من وجود حاكم آشوري الى جانب الملكة ان مهمة الوجود الأكدي في اوركيش تشمل تنظيم التجارة مع بلاد الرافدين والأناضول كتجارة الخيول والأخشاب والمعادن والعربات وبعض المنتجات الزراعية..ولعل ابرز تأثير لوجود الملكة الأكدية نقل منظومة المعتقدات والفنون التشكيلية رفيعة الطراز الى شمالي سورية هذا فضلا عن ان اية مقارنة بين تمثال عشتار الطيني بأسد أوركيش ثم بالأختام الأسطوانية ستوضح بما لاغبار عليه ان تطور الفن في أوركيش يدين لتارآم اكادا الملكة الأكدية في شمالي سورية...
شمورامات (سميراميس):
يتداخل في شخصية سميراميس عدد من الروايات التاريخية والأساطير القديمة التي خلقت كيانا افتراضيا لاعلاقة له بسميراميس التاريخية. وينبثق معظم التصوير الأسطوري للملكة الآشورية من الروايات اليونانية لهيرودوتوس وامانيوس مارسيلينوس وديوديروس سيكيلوس الذين اعتمدوا في رواياتهم على جاستياس الطبيب اليوناني للملك الفارسي احشورش الأول. فسميراميس الأسطورة ولدت من حورية ماء في عسقلان على الساحل السوري وصياد وان امها هجرتها وانتحرت غرقا عند ولادتها..وكبرت هي لتتزوج من قائد لنينوس الذي شيد حسب المصادر اليونانية نينوى، وان نينوس اعجب بها وهي تقاتل الى جانب زوجها في بختياريا (شمالي بلاد فارس) وأنه تزوجها بعد انتحار زوجها، وانها انجبت له نينياس ثم جرح نينوس في معركة في آسيا، فعمدت سميراميس الى إخفاء موته وواصلت غزوها لآسيا ثم ضمت مصر واثيوبيا الى مملكتها..فالأسطورة تبدأ برواية اشبه بالف ليلة وليلة، لتنتقل الى رواية تذكرنا بزواج النبي داوود من ابيجال زوجة احد قادته، ثم برواية اشبه برواية زنوبية ملكة تدمر المماثلة في بعض جوانبها لرواية شجرة الدر. والحقيقة التاريخية وراء النص أن الآشوريين قاموا بغزو بختياريا وتوغلوا في عمق زاكروس، وأنهم ضموا مصر على عهد اسرحدون الى امبراطوريتهم، كما أن سميراميس التاريخية حاربت الى جانب ابنها أدد نيراري الثالث في كموح (سمساط) وليس في بلاد فارس كما في الأسطورة..هذا فضلا عن كون نينوس شخصية اسطورية لاوجود لها في التاريخ. وكما تعزا صروح قديمة الى الأسكندر المقدوني، يعزو هيرودوتوس الزقاق الصناعي الذي يمر به الفرات على ضفتي بابل اليها، وأن بوابة الجنائن المعلقة في بابل يطلق عليها بوابة سميراميس..ويطلق اسمها على حصن شلمنصر (قلعة الروم) في هالفتي (غربي بيريجيك) في تركيا، وعلى مدينة على بحيرة وان هي (شميراماكيرد)، وكذلك على قناة حفرها مانوا ملك اورارتو وغيرها..وفي رواية انها شيدت سور بابل وانها اول من ابتكر حزام العفة وخصى الشباب واستخدامهم في البلاط والجيش..وحقيقة ذلك أن سميراميس التاريخية عاشت في عصر يستخدم فيه الخصيان في البلاط الآشوري وان حفيدها تكلاثبليزر الثالث اعظم ملوك آشور اعتمد على الخصيان في إدارة المقاطعات الآشورية في انحاء الأمبراطورية، وفي المصادر ان الحكيم احيقار والنبي دانيال كانا خصيين ايضا..وترتبط سميراميس الأسطورية بالأسماك والحمائم، فقد عثر في معبد بمبيجا (ممبج او منبج السورية) الذي بنته حسب الروايات سميراميس، على تمثال ذهبي يمثلها وعلى جبينها حمامة، اما ربط اسمها بحورية البحر فيأتي من تكريس تمثال لحورية البحر في مدخل معبد نبو في كالخو (النمرود) لأبنها أدد نيراري الثالث ..وتتعدد الروايات حول سميراميس الأسطورية إلا ان مايهمنا هنا هو سميراميس- شمورامات بمعنى (السماء العالية) التاريخية زوجة شمشي أدد الخامس ابن شلمنصر الثالث الذي بدأ حكمه بثورة اخيه ومعه 27 مدينة وبضمنها نينوى..وهي ثورة استمرت 6 سنوات والحقت اضرارا كبيرة بالأمبراطورية..ولا يؤثر الكثير عن شمشي ادد الخامس سوى حروبه مع البابليين وقد ورد في مسلته المحفوظة في المتحف البريطاني انه زوج شمورامات..ويبدو أنه تزوجها في اثناء حكم ابيه شلمنصر الثالث وانها كانت الملكة الفعلية للأمبراطورية بعد وفاة زوجها لثلاث سنوات 811- 808، يساعدها القائد العام (الترتانو) شمشي-أيلو حاكم تل بارسيب والولايات الغربية.. ومرة أخرى نستعين بالقواعد التحويلية التوليدية في مجال التاريخ القديم للتوصل الى تصور واضح وتصوير دقيق قدر الممكن لدور الملكة العراقية المتميزة شمورامات..وهنا لابد من مقارنة ثوابت الدولة الآشورية بالمتغيرات ومن هذه الثوابت عدم ورود اسم ملكة في مسلة آشورية تؤرخ لمعركة وتكريس المسلات الملكية في الأمبراطورية الآشورية للرجال تحديدا دون النساء..وتلكما حقيقتان مشهودتان في تاريخ العراق القديم تعززهما بدهية كون المجتمع العراقي عموما وحتى الوقت الحاضر يميل الى هيمنة الذكر على الأنثى واحتكار الذكر للتاريخ ولتدوين التاريخ على الرغم من وجود إناث ربات بقوة الصاعقة وعنف القدر كعشتار وأنات ونينليل واينانا ونانا وغولا وغيرهن ووجود إناث ملكات موضوع مقالنا هذا.. غير أن هاته الإلاهات وفدن من بابل وسومر..وهما حضارتان أكثر ميلا الى الطبيعة والخصب والأنوثة أزاء الآلهة السامية الأكدية والآشورية المتخصصة بالحرب والعنف والقتال..اي سومر وبابل أزاء نينوى وكالخو..جنوب العراق أزاء شماله و الفن أزاء الحرب..ونعود من استطرادنا الى المتغيرين في حالة شمورامات فالملكة الآشورية يبدو أنها خرقت التقليدين الثابتين إذ نطالع أسمها الى جانب أسم ابنها أدد نيراري الثالث في مسلة عثر عليها في بازارجيك شرقي مرعش التركية..وهي مسلة وضعت اصلا بأمر من الملكة الآشورية او ابنها أدد نيراري الثالث لتعليم الحدود بين كموح (سمساط) وكوركوم (مرعش). وكانت الملكة قد قادت بصحبة ابنها حملة لنجدة ملك كموح (شوبيلوليوما) حليف الاشوريين ودويلته التابعة للتاج الاشوري من تحالف يقوده (أتار شمخي) ملك ارباد وانضم اليه ملك كوركوم..فانتصر  الآشوريون بقيادة الملكة وابنها، ولضمان أمن حليفتهم كموح عمدا الى وضع نصب صخرية لتعليم الحدود (تخومو) بين المملكتين ومن ضمنها المسلة التي ورد فيها: (صخرة حدود ادد نيراري ملك بلاد آشور وشمورامات سيدة القصر امرأة شمشي أدد ملك بلاد آشور وأم ادد نيراري ملك بلاد آشور وزوجة إبن شلمنصر الثالث ملك الجهات الأربع ملك بلاد آشور..عندما طلب شوبيلوليوما ملك الكوموخيين من أدد نيراري وشمورامات سيدة القصر عبور الفرات، خضت معركة طاحنة معهم)..نجد ان المتحدث بصيغة الشخص الأول غير محدد، مع ذلك فمن المؤكد ان سميراميس قد خاضت المعركة الى جانب ابنها ويرجح انها هي من اقترح تعليم الحدود بين كوركوم وكموح لضمان عدم نشوب قتال بين المملكتين بعد عودتهما الى كالخو ونينوى..ويتمثل المنجز الآخر للملكة شمورامات في كالخو العاصمة العسكرية لملوك آشور فقد عثر على تمثال لنبو، ابن مردوخ وإله الكتبة وحارس الواح القدر، كرسه حاكم كالخو (بعل تراسي ايلوما) لملك بلاد آشور ادد نيراري ولشمورامات سيدة القصر ..ويتكرر التكريس نفسه في تمثال مماثل عثر عليه في آشور (قلعة الشرقاط)..يتضح من ورود اسم الملكة الى جانب اسم ابنها، وتلك ظاهرة فريدة إن لم تكن غريبة في التاريخ الآشوري، انها لعبت دورا بالغ الأهمية على عهد ابنها ادد نيراري الثالث إذ يعزا بناء معبد نبو 798 ق.م. في كالخو اليها..ولعل الأهتمام بنبو البابلي على عهد أدد نيراري الثالث اذ يظهر بصفته ربا للحكمة والكتابة والفنون، كونه يرمز الى الحياة الثقافية لبابل وريثة سومر ومهاد المعتقدات الدينية على خلاف آشور،وريثة اكد، المولعة بالحرب يعود الى توجيهاتها..ولعل في ختام الكتابة المدونة على تمثال نبو (على كل من يأتي فيما بعد ان يضع ثقته بنبو وان لايثق بأي إله آخر) مايشير الى تحول ايديولوجي في البلاط الاشوري انعكس على اربعة قرون من الأسترخاء النسبي في الإدارة الآشورية لم يبترها إلا مجيء تكلاثبليزرالثالث الذي اعاد الى الحرب عرباتها وانصالها وأولوياتها. وفي مطلع القرن الماضي عثر على صفين من المسلات بين السور الداخلي والسور الخارجي لمدينة آشور، تمثل المصفوفة الأولى موظفين آشوريين وتمثل المصفوفة الثانية ملوكا آشوريين وثلاث ملكات إحدها لشمورامات (سميراميس) ويبلغ طول مسلة شمورامات الرخامية ثلاثة امتار بيضية الشكل في اعلاها ومدون عليها في المسمارية النص الآتي: (صرح شمورامات، إمرأة قصر شمشي ادد، ملك الكون، ملك بلاد آشور، أم أدد نيراري، زوجة ابن شلمنصر ملك الجهات الأربع)، وعلى الرغم من عدم القاء مايكفي من الضوء في هذا النص على حياة سميراميس فأن مجرد وجود مسلتها الى جانب مسلات الملوك يؤكد انها لعبت دورا غير عادي في أثناء حياة ابنها ولربما زوجها ايضا ويبدو انها اسهمت في تثبيت السلطة الآشورية في سلالتها على الرغم من تنامي الدور السياسي لحاكم الغرب القوي قائد الجيش الآشوري شمشي - أيلو.
نقية - زكوتو:
نقية هو الأسم الآرامي لزكوتو الأسم الآشوري لها و يترجم اسم نقية بمعنى (النقاء)..ونقية اسم عربي ايضا مايزال يستخدم بالمعنى نفسه صفة ايجابية تطلق على اشياء عديدة ..كما يحمل الأسم الآشوري (زكوتو) المعنى نفسه اذ مايزال موجودا في التزكية وزكية وزاكي بمعنى طيب وطيبة والزكاة بمعنى صفوة الشيء ..ومهما يكن ألأسم،  فما يهمنا في موضوعنا منه انه يؤكد ان نقية امرأة آرامية..تزوجها سنحاريب خلال ولايته للعهد وأنها لعبت دورا يرقى الى دور سميراميس في توجيه الحوادث في الأمبراطورية الآشورية..وفي شمالي نينوى او بالأحرى في شماليها الغربي حيث معبد نركال والى جانبه قصر ولي العهد في طربيشو (شريخان) وحيث كانت نقية تقيم مع زوجها سنحاريب على عهد ابيه سرجون الثاني، وربما في اثناء ولاية عهد ابنها أسرحدون قبل اغتيال سنحاريب ايضا..لأن الأرجح ان القصر منقطع النظير في الزاوية الجنوبية الغربية لتلقوينجق والمجاور لمجرى دجلة قديما حيث يمتد الشارع المؤدي لجامعة الموصل بعد جسر السويس حاليا، كانت تقيم فيه ضرتها زوجة سنحاريب الثانية (تاشميتوم شارات) بدليل نص سنحاريب: (ولزوجتي الملكة تاشميتوم شارات، زوجتي الحبيبة التي حبتها الآلهة بهيئة هي الأجمل بين النساء افردت قصرا بنيته من الحب والبهجة والمسرة، وبأرادة آشور سيد الآلهة والملكة عشتار عسى ان نعيش حياة طويلة في هذا القصر وننعم بالسعادة الكاملة)..غير ان لرياح التاريخ اتجاهات لاترومها إرادات الملوك، فقد عزل سنحاريب ابنه الأكبر (اردا موليسي) من زوجته تاشميتوم شارات عن ولاية العرش، ليعين بدلا منه ابنه الأصغر من نقية زكوتو اسرحدون، ويرسل الأخير الى المقاطعات الغربية لضمان سلامته. مما تسبب بغضب ولي العهد وثورته على ابيه واغتياله مع أخ (أخو- في الآشورية ايضا) له ابيهما سنحاريب في اثناء عبادته في معبد طربيشو..ويبدو أن نقية كانت قد صاحبت ابنها الى المقاطعات الغربية وربما تمكنت من تجنيد المساعدة له من اخواله الآراميين فعاد الى نينوى وتمكن من دحر التمرد واستلام السلطة على الأمبراطورية فهرب أردا موليسي الى اورارتا (أرمينيا) العدو التقليدي للأمبراطورية ألآشورية...وكان استلام اسرحدون لمقاليد السلطة بداية تحول كبير في اتجاه ما نتعارف على تسميته في العصر الحديث بالدولة البوليسية..فقد دشن حكمه بأعدام المتآمرين وخصومه السياسيين، وأعدم المسؤولين عن الأمن في نينوى وكالخو واستبدلهم بجهاز امني جديد..فقد بدأ اسرحدون حكمه بالشك وانعدام الثقة تماما حتى بأفراد اسرته، بما يمكن ان نطلق عليه بهاجس المؤامرة فكان يستخدم العرافين والكهنة بالتنبوء واخباره مسبقا بكل من يخفي نوايا لأيذائه او الأطاحة به حتى من بين اعضاء اسرته نفسها..وشجعه في ذلك حالته الصحية المتدهورة فقد اصيب بمرض عجز العرافون والكهنة وطردة الأرواح الشريرة عن علاجه او تشخيصه..وفي كل ذلك لم تكن امه نقية غائبة فبالأضافة الى دورها في تنصيبه وليا للعرش بدلا من اخيه الأكبر على رأي عالم الآشوريات (سيمو بارابولا)، كانت تتلقى الرسائل من القادة والموظفين ويرجح انها كانت ترد عليها وتوجه الأوامر للقادة بدلا من ابنها..كما كانت تدير الممتلكات الخاصة و تخصص الأموال لبناء المعابد والقصور وتشرف عليها، وبدهي انها ومنذ بداية حكم ابنها كانت تشارك في القرارات العسكرية فهي كما وصفها طارد الارواح (مردوخ شكين شومي): (إنها بأقتدار آدابا وكلمتها نهائية، فما تباركه مبارك وماتلعنه لعين)..ولعل غزو مصر وضمها الى الأمبراطورية، العمل الذي ينسب الى سميراميس، كان قام به اسرحدون بمشورة امه نقية، ولأسباب نجهلها. كما نجهل سبب حضوتها الكبيرة لدى سنحاريب الذي خصص لها بعيد تسمية اسرحدون وليا للعرش ارضا معفوة من الضريبة هي ارض مدينة شبو (ربما شبانيبا- تل بلو الكائنة مقابل بعشيقة) مسميا اياها بأمر التمليك (أم ولي العهد)، كما كان لها حصة من الإتاوات والذهب والثياب. وقد عثر على ختمين اسطوانيين في نينوى يمثلانها واقفة خلف الملك..كما عثر على منحوتة برونزية تمثلها واقفة وراء ابنها أسرحدون..كما توجد تماثيل لها في اماكن عامة في معبد نبو في كالخو وآخران في آشور وحران..وكان أحد اساليب تأكيد السلطة القيام بمشاريع بناء واسعة وتخليد اسم الملك والآلهة عليها بالكتابات النذورية والتاريخية، وهو امتياز يحتكره الملوك وحدهم، مما يجعل بناء نقية قصرا لأبنها (في ارض خالية من العاصمة السياسية نينوى وراء معبدي سين وشمش) عملا غير مسبوق في بلاد آشور بل وعلى غرار آشورناصربال الثاني، قامت بتقديم الأضاحي للآلهة واقامة المآدب احتفالا بأكماله. ولكنها على الرغم من تكريسها القصر لأبنها كانت هي من أقام فيه..
ولعل اهم منجزات نقية يكمن فيما نطلق عليه في الوقت الحاضر (صناعة الملوك) ليس بيولوجيا بل سياسيا: فقد تمكنت، على رأي العديد من البحاثة، من التأثير على سنحاريب بجعله يغير ولاية العرش من ابنه الأكبر الى ابنها اسرحدون، وعملت خلال سنوات حكم ابنها على استتباب الأمن في الأمبراطورية ..والأرجح ان السلام مع بابل واعادة أعمارها ثم عقد اتفاقية سلم مع عيلام كان بتدبير منها..وربما كان غزو مصر وضمها الى الأمبراطورية هو الآخر بتخطيط منها أيضا..وهنا نوظف علم الدلالة اللسانية مجددا فنقية آرامية وقد شهدت العقود الأخيرة من حياة الأمبراطورية الاشورية تداخلا حضاريا ولسانيا وسياسيا بين ألاراميين والآشوريين..وكانت خطوتها المهمة الثانية انها عملت مجددا على التدخل في ولاية العهد قبيل وفاة ابنها أسرحدون لتفادي تكرارحدوث العاصفة التي هزت اركان الأمبراطورية وتسببت بمقتل سنحاريب..فوضعت وثيقتها الشهيرة بأسمها الآشوري (وثيقة زكوتو) ونصت فيها على اقتسام الحكم بين حفيدها آشوربانيبال واخيه (شمش- شمو- كين) فخصصت الأمبراطورية بعاصمتها نينوى لآشوربانيبال وبابل لأخيه شمش شمو كين. ونلاحظ من نص المعاهدة أن المتعهد بصيانتها ليس الملك بل الملكة الأم (زكوتو لأن ام آشوربانيبال كانت قد ماتت منذ سنوات) وبنودها تنطبق على آشوربانيبال وحده بتسميته ملكا بينما لاتخاطب شمش شمو كين بالأسم نفسه وتضعه ضمن الأطراف التي فرضت عليها المعاهدة..ويبدو ان المعاهدة صيغت بعيد وصول انباء وفاة اسرحدون وانها نفذت في ليلة تتويج آشوربانيبال بعد شهر من وفاة ابيه..ويبدو أن نقية - زكوتو قد لعبت الدور نفسه الذي لعبته سميراميس قبلها..ولابد  أن أضيف ايضا الى ماسبق أن تبدلا تدريجيا في هرمية الآلهة كان يحدث في القرن الأخير من عمر الأمبراطورية يماثل تغليب آشور على مردوخ على عهد شلمنصر الأول وتكلاثبليزر الأول، وهذه المرة بالتأكيد على سين المقيم في حران ..وهذا ما سنتابعه مع أدة كوبي الأميرة الآشورية وام نبونيداس.
أدة كوبي:
إن المتابع لحوادث هذه المرحلة من تاريخ العراق واعادة تمثيلها وتدوينها من خلال النشاط البحثي والتأويلي، سيكتشف محاولات المؤرخين المعاصرين اليهود ولأسباب آيديولوجية التأكيد على دور إسرائيل وملوكها الأفتراضيين في توجيه الحوادث اوعزو الأنجازات في الشرق الأدنى القديم..ومن ذلك توشيج التاريخ الديني والأسطوري بالتاريخ الفعلي الموثق بالشواهد النصية والآركيولوجية، او بطرح تأويلات افتراضية ولسانية في اغلبها بهدف تصوير خارطة العالم القديم على نحو ينسجم مع نظرية القبائل اليهودية في الأناضول وشمالي العراق وسورية على انهم اسرى هجرهم (بتشديد الجيم) الاشوريون الى تلك المناطق، بهدف التمويه الأثني، او بطريق استخدام عبارات الترجيح فيما يتعلق بالتوسع الآشوري في قلب الأناضول وزاكروس والساحل الفينيقي ووصف التحالفات ونتائج المجابهات العسكرية بين الآشوريين وخصومهم..وقد يلجأ هؤلاء المؤرخون الى مقارنة عمارة معبد كمعبد عين دارة ببناية في القدس تعزى الى انبياء اسرائيل بهدف توصيل نفوذ دولتهم شمالا او شرقا او الى افتراض اسماء آرامية بأنها اسماء عبرية كنقية مثلا، وهم في كل هذه المحاولات يعملون جاهدين لمد جذورهم في تراب تاريخنا..ومنهم من يعمد الى تمويه التاريخ الحضاري بزجه بالتاريخ السياسي فيضع فواصل بين الأكديين والآشوريين والبابليين والعرب باعتبارهم حضارات مختلفة وليسوا أمما ودولا تنتسب لحضارة واحدة، على ذلك ارى ان أدة كوبي تقدم نموذجا فريدا للوحدة الحضارية في وادي الرافدين..وأدة كوبي أميرة آشورية زوجها امير بابلي مرموق تميز على عهد نبوخذنصر الثاني اسمه نبو بلاستو اقبي ( وربما تلفظ أخبي اوأكبي) كان والده نبوبلات اقبي حاكما على حران وامه (شوما دامقا) كاهنة رئيسة في الدولة الآشورية..عاصرت عددا من الملوك الآشوريين والملوك الكلديين وآخرهم ابنها نبونيداس الذي تزوج ابنة نبوخذنصرالثاني من زوجته الميدية..مما يسر له تسنم العرش البابلي..ولابد لأستبار دور أدة كوبي من تتبع التحول في آيديولوجية الدولة الكلدية ومتابعة هذا التحول خلال العقود الأخيرة من عمر الأمبراطورية الآشورية..وقد تمثل هذا التغيير بالأنتقال التدريجي من عبادة مردوخ ومركزية آشور الى عبادات أور وسومر القديمة التي تتمحور على آلهة القمر (سين) ونوسكو وربة الخصب والمرأة والقتال عشتار. وهو تحول صاحبه تدريجيا محاولة الكلديين التخلص من النفوذ الميدي، واحياء التطلعات السيادية للآشوريين كم يتجلى ذلك في نبوخذنصر الثاني ونبونيداس..ويبدو ان النبلاء ورجال الدين الآشوريين والموظفين الآراميين استمروا في مراكزهم وبخاصة في الأناضول والغرب على الرغم من المجازر التي اصابت عواصم القلب الآشوري..وفي رأيي أن أنشقاقا سياسيا صاحب التوجهات الدينية لحكام بابل (الآشوريين) من جهة الأم على الأقل فبينما استمرت عبادة مردوخ، انصرف نبونيداس كليا لعبادة القمر بل هجر بابل للأقامة في قلب الصحراء العربية..واصبح الهلال رمز الإله سين والنجمة رمز الربة عشتار من اكثر الرموز الدينية اهمية لنيبونيداس.. ومانزال نشاهد في اعلام المشرق الأسلامي العربي هذين الرمزين القديمين منذ العصورالغابرة راكنين تحت تكدسات هائلة من اللاوعي السياسي والحضاري في الذات العربية في الوقت الحاضر..والمهم بعد هذا الأستطراد، الذي لايخلو من صلة بموضوعنا، ان أدة كوبي فسرت سقوط نينوى وبعدها حران والخرائب التي حلت في وادي الرافدين بغضب الإله سين، ومغادرته الأرض الى مكان آخر..وهي بصفتها الكاهنة الرئيسة في حران، عملت على التضرع لسين وتقديم النذور والأنقطاع الى العبادة لأرجاع بلاد الرافدين الى سابق عهدها..وكانت الكاهنة قد سجلت الحوادث التي عصفت ببلاد الرافدين منذ عهد آشوربانيبال وحتى وفاتها على عهد ابنها نبونيداس آخر الملوك الكلديين على اربع مسلات كتب أحدها ابنها بعد وفاتها ووضعت كل واحدة في ركن من أركان المعبد الأربعة. وتخبرنا أدة كوبي عن رحيل سين غاضبا بسبب تدمير نينوى فيما يخبرنا ابنها عن عودته مع عودة السومريين والأكديين من خلال احفادهم الآشوريين من ذوي الشعر الأسود الى السلطة في بابل. وبحس نافذ بالتاريخ تخبرنا أدة كوبي عن ابرز الحوادث التي عاشتها فقد ولدت في السنة العشرين من حكم آشوربانيبال، اي عام 649 ق.م. وتؤكد انها عاصرت ملوكا آشوريين وبابليين ..وقد وجد البحاثة تطابقا بين التواريخ التي ذكرتها والحوادث التاريخية الفعلية ..إذ جاء في مسلتها نصا: (وفي السنة السادسة عشرة لحكم نبوبلاصر، ملك بابل، عندما غضب سين سيد الألهة على مدينته ومعبده وغادرهما الى السماء فحل في المدينة الخراب وهلك اهلها)، وكان بنوبلاصر قد حكم بابل بين عامي 625 ق.م. و605 ق.م. وكان سقوط حران وتخريبها عام 609 ق.م. أي في السنة السادسة عشرة لحكمه..وحران هي آخر معاقل الآشوريين التي لجأ اليها آشوراوباليت الثاني بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م. وبينما غادر الجميع المدينة بقيت أدة كوبي بالقرب من معبدها المهجور متضرعة الى الإله حتى عثرت على مئزر ارجواني موشى بالذهب منذور له بين الأنقاض فأمسكت بأطرافه، وكأن الإله متجسما فيه يصغي الى تضرعاتها راكعة تضخ الدمع على مالحق بلاد الرافدين من خراب: (أن انت قررت العودة الى مدينتك، فأن الناس من ذوي الشعور السوداء كلهم سيعبدوك) ..وتلكم صفة يستخدمها السومريون في نعت أنفسهم..غير ان أستخدام ادة كوبي لهذه العبارة بعد 1500 سنة من زوال الوجود السياسي للسومريين يعني انها تتحدث عن احفادهم من الأكديين والآشوريين، بمعنى عودة السلطة الشرعية الى اهلها ممثلا لها بأبنها نبونيداس الذي وحد بلاد مابين النهرين تحت إرادة سياسية واحدة عام 555 ق.م. ..حيث تمضي ادة كوبي في نصها:
(سين سيد الآلهة، نظر بعطف الى تضرعاتي فدعى إبني الوحيد نبونيداس.. فلذة رحمي الى الملوكية على سومر وأكد، وعلى الأراضي كلها من حدود مصر ومن البحر الأعلى الى البحر الأدنى، ووضع ثقته بأدارتها في يديه).. وبهذا يفسر انتصار نبونيداس على انه أنتصار للإله الآشوري سين على الإله البابلي مردوخ، مما اغضب الكهنة في بابل وحفزهم للثورة على نبونيداس ثم للتآمر مع قورش لأسقاط بابل هذه المرة..نستدل من هذه الحوادث بين حران وبابل والصراع بين الكهنة ونيبونيداس بسبب معتقداته الدينية الغريبة الى ان السياسة والدين ماهما سوى وجهين لعملة واحدة..فنبونيداس كان يتصرف وفق ماتملي عليه رؤياه التي كان يتصورها رسائل من الآلهة ولعله للسبب نفسه غادر بابل الى الصحراء العربية وكأنه ابراهيم (ع) في بحثه عن إله واحد احد هو غير سين ومردوخ..ولعل من غرائب الصدف أن يكون القمر معبود ادة كوبي ونيبونيداس، كوكبا للشعراء والحالمين ورمزا للحضارة العربية وللزمن العربي..
وقد ماتت أدة كوبي عن عمر يناهز ال 104 عام في السنة التاسعة لحكم ابنها..وقد وصف ابنها نبونيداس في مسلته في حران وفاتها في 546 ق.م.: ( حملها قدرها فدفن نبونيداس ابنها ووليد رحمها جثمانها موشاة بثياب ملكية من الكتان الأبيض الطاهر..وزينها بالحلي الرائعة من الذهب المطعم بالحجارة الكريمة..وبالزيوت العطرة كسى جسمها ووضعها في مقرها الأبدي في مكان سري..وذاع نعي ام الملك فقد قدم الناس من بابل وبورسيبا من الأصقاع البعيدة، وقدم الملوك والأمراء والحكام من تخوم مصر ومن البحر الأعلى وحتى البحر الأدنى ينوحون ويبكون الملكة، واستمر العويل والنواح ..سبعة ايام)..
نخلص من ذلك الى ان المرأة الرافدية قد لعبت دورا في تاريخ العراق القديم..وإني في تناولي لثلاث ملكات وكاهنة مجتهدا هنا ومترجما هناك ومغامرا هنا وهناك، أكون قد اخذت نموذجا جاد علينا به التاريخ حتى لحظة كتابة هذه السطور..لأن ما تم استظهاره على حد تعبير الدكتور طارق مظلوم والحديث عن تلقوينجق (لايعدو ان يكون سوى وخزات ابرة في عملاق راقد)..مع ذلك فثمة نساء كثيرات عشن في البلاط الآشوري الحديث ولعبن أدوارا تتراوح بتأثيرها وقوتها ومن خلال أزواجهن أو آبائهن أو اشقائهن الملوك كما لمحت لنا المقبرة الملكية في النمرود..ومن ابرز تلك النساء (موليسوموكانيشات نينوا) زوجة آشورناصربال الثاني و(يابا) زوجة تكلاثبليزر الثالث، و(تاليا) زوجة سرجون الثاني، و(أيشارا حمات) زوجة اسرحدون، و(شادوتو) شقيقته، و(ليبالي شارات) زوجة آشوربانيبال..وغيرهن ممن وهبن العراق ميتات، كنوزا منقطعة النظير تعكس تطور الذائقة الفنية لأسلافنا وقوتهم وثروتهم منذ آلاف السنوات، ووهبنه حيّات، نموذجا للمرأة العراقية في صورة عشتار وهي تقود عربة تجرها الأسود تنطلق في تحد صارخ للموت اما واختا وابنة وزوجة وروحا خالقة...
صلاح سليم علي
كرستنساند /النرويج


26
النمرود

صلاح سليم علي

تختلف المصادر حول شخصية النمرود وفيما اذا كانت شخصية تاريخية ام اسطورية ام كانت شخصية تاريخية تسطرخت في الذاكرة الشعبية..فالنمرود ترد بالأدبيات الشعبية والبلدانية لتصف حاكما مستبدا وطاغية امتلك الأرض..وانه بسبب طغيانه اثار غضب الله فأرسل عليه بعوضة دخلت في راسه ولم يهدأ طنينها حتى يعمد عبد من عبيده او احد افراد حاشيته بضربه بالنعال ..وان ذلك لم يتمخض عن علاج نهائي إذ تعاود البعوضة طيرانها وطنينها فيشرع بضرب راسه بالنعال .واستمر هذا الحال حينا حتى قتلته تلك البعوضة وانهت طغيانه..ومنها مايرى ان النمرود هو احد الملوك الكنعانيين وانه ابن كنعان وانه عاش على عهد ابراهيم الخليل (ع)ن وانه جلب أبراهيم (ع) وحاجه في تحطيم الأصنام وسأله عن الرب فقال (ربي يحيي ويميت) فأتى النمرود برجلين فقتل أحدهما وسرح الآخر وقال لأبراهيم (ع) أنا احيي واميت! فرد أبراهيم (ع) إن ربي قادر على ان ياتي بالشمس من جهة الشرق فأت أنت بها من جهة الغرب؟ فبهت النمرود وامر بأحراق ابراهيم (ع).. ويعزو القائلون بهذه الرواية برج بابل الى النمرود وانه بناه ليصعد الى السماء..وفي رواية ان النمرود اعد جيشا فارسل الله على الجيش ذبابا فاكلت لحوم جنده أما النمرود فقد دخلت ذبابة (وليس بعوضة) في منخره فمكثت به زمنا يعذبه الله بها فصار يضرب راسه بالجدران من شدة الألم حتى اهلكه الله جزاء جحوده وكفره وادعائه الألوهية. ويجعل اصحاب هذه الرواية مدينة النمرود في بابل ومنهم من يجعلها أور على الرغم من عدم وجود اي دليل تاريخي على وجود حاكم اسمه تحديدا النمرود في اي من هاتين المدينتين...ومن الكتاب من يربط النمرود بالأسكندر المقدوني بحكم وثنية الأسكندر وحكمه للعالم القديم حينا من الزمن..ويربط الأستاذ محمود الملاح في مقالة نادرة بين النمرود وقورش الفارسي الذي غزا بابل وبين الأخير وذي القرنين الذي ورد ذكره بالقرآن..ويرد النمرود في التوراة على انه ابن قوش حفيد حام وانه صياد عظيم..وتوصف بلاد الرافدين (ارض شنعار) بانها بلاد النمرود، ويبنى على ذلك ان النمرود هو الذي بنى بابل واوروك وكالخو وريسين (مدينة غائرة بين السلامية والموصل) وأكادا ونينوى وأنه حكمها جميعا. وتختلف المصادر وبخاصة ماكتبه ولتر رالي عن النمرود فيما غذا كان آشور أم النمرود هو من بنى مدن العراق..ويفترض على ذلك ان النمرود ربما كان نينوس (وهو شخصية اسطورية يونانية المنشأ) هو من بنى نينوى أيضا.

وتربط المصادر اليهودية التلمودية  بقوة بين النمرود وبرج بابل وان الملك (أمرافال) الذي امر باحراق ابراهيم (ع) هو نفسه النمرود..وأن النمرود كان على خلاف مع الإله بل في حرب دائمة معه مما يدعونا الى ربط النمرود بالأنوما ايليش (اسطورة الخلق) والحرب بين مردوخ وتيامات والأساطير الأخرى كآدابا بصفته سلف جدودي لبرومثيوس في الأسطورة اليونانية او للأنزو الشرير في حربه مع نينورتا بل وحتى بنبوخذنصر كونه باني برج بابل التاريخي..وفي المصادر اليونانية المتأخرة  ان (نبرود) وهو تصحيف للنمرود هو الجد الأول لأبراهيم الخليل (ع) وبهذا يكون سلفا لذريتي اسماعيل واسحق كلتيهما..اي سلفا للعرب واليهود..وفي (كتاب السجل) الذي يعود الى القرن الأول للميلاد والذي عثر عليه في كنيسة في سيناء يرد ذكر النمرود وانه لم يعش في عهد إبراهيم (ع) بل في عهد يلي عهد نوح (ع) وانه الأبن الرابع لنوح (ع) مكررا بذلك رواية التلمود.. ويضيف بانه اي النمرود هو الذي بنى سلوقية وحران ونصيبين والرها (اورفا) مما يقربه كثيرا من الملوك الاشوريين في الألف الأول للميلاد والملك آشورناصربال الثاني تحديدا. ويكرر (كتاب الكنوز) السرياني رواية (كتاب السجل) العربي..وانتقلت اسطورة النمرود الى القرون الوسطى و تواتر ذكر الأسطورة لدى البلدانيين والمؤرخين العرب الذين يجمعون على ذكر المناظرة بين النبي إبراهيم (ع) والنمرود ولايختلف البلدانيون العرب  الا بمصادرهم التي قالوا انهم اخذوا الرواية عنها، ومنهم أبو الفداء وابن الأثير والطبري والدينوري (ابي حنيفة أحمد بن داود) والقزويني وابن خرداد بيه وغيرهم. ويرى المسعودي أن النمرود بنى برج ماش ابن آرام بن سام ابن نوح (ع) وأنه حكم النبط لأكثر من 500 عام ..كما تفسر الأشارة الى (ملك غير محدد) في القرآن الكريم على ان المقصود هو النمرود.. ومن المصادر مايفسر الملك على انه ملك إرم ذات العماد او ملك أصحاب الأخدود او الملك الذي ياخذ كل سفينة غصبا في حديث الخضر (ع) مع موسى (ع)..ويفسر عدد من علماء الأساطير ممن يعتمد التوراة مرجعا لتفسير التاريخ ان النمرود هو كلكامش الذي حكم بجبروت وتحدى الإله بالبحث بنفسه عن عشبة الخلود وانه بنى زقورة شروباخ لتفادي الطوفان متحديا بذلك إرادة السماء ..وأنه كان صيادا ماهرا ليس للحيوانات فقط بل للبشر ايضا مما تسبب في نبذه من قبل الناس..وتعزو الرواية نفسها بناء برج بابل الى النمرود من دون اي ذكر للباني الفعلي للبرج  وهو نبوخذنصرالثاني..وهكذا دواليك حتى وصلت خرافة النمرود قصص الأنبياء والف ليلة وليلة وامتدت جغرافيا الى تركيا وأيران والمجروارمينيا. وانتشر اسم النمرود عبر الشرق الأدنى فاصبح يطلق على قلاع كقلعة النمرود في مرتفعات الجولان المحتلة وقلعة النمرود في زابل غربي ايرن وقلعة وجبل النمرود في ايدامان في تركيا وعرش النمرود ومنجنيقه في الرها (اورفا) التركية  واطلق حديثا اسما لطائرة انكليزية ودبابة هنغارية وسفينة قطبية وعلى عدد من النواحي في ولايات اميركية فضلا عن اسماء لفنادق وشوارع واشخاص وغير ذلك..وتبقى النمرود (كالخو) بالقرب من الموصل الأسم الأكثر عراقة وصلة بالنمرود التاريخي وموضوع مقالنا هذا.

نلاحظ من حيث المبدأ أن لمعظم الشخصيات التاريخية تطويرا اسطوريا في الذاكرة والثقافة الشعبية..وقد تتحول شخصية تاريخية قلبا وقالبا الى شخصية اسطورية بحكم تقادم الزمن وغياب الوثائق التاريخية بل غياب التدوين التاريخي نفسه ولا ادل على ذلك من اكتشاف نينوى ومدينة سرجون وكالخو في منتصف القرن التاسع عشر وما جاءت به مكتبة آشوربانيبال من مأثورات عن ملحمة كلكامش وابلة عن مآثر سرجون الأول ونرام سين..فلعل آدابا كان ملكا عراقيا غابرا اقدم من اورنمو وشولكي بآلاف السنين وماتبقى منه ذاكرة توارثتها الحضارات اللاكتابية حتى ظهور سومر وتخليفها لكيش وأكادا واوركيش (مدينة تارام اكادا ابنة نرام سين - تل موزان في سورية) ولاكاش وشروباخ تراثها..ويتضح مما أثر عن النمرود انه شخصية تاريخية لملك من ملوك العراق صحف اسمها الحقيقي عن نص توراتي فتحول ماراد-آراد الى مرود ومرود الى نمرود ..فالأسماء تتغير في سياق التاريخ والأسطورة ولا ادل على ذلك من تحول مدينة سرجون الثاني الى خوراباد فخسرواباد فخرسباد..ففي الحالة الأولى يحل اسم توراتي محل أسم آشوري، وفي الثانية يحل اسم فارسي محل اسم عراقي..وفي النص التاريخي عموما تمثل القراءة الأفقية مستوى واحدا فقط هو مستوى الرواية التي تخبرنا ماذا حدث سواءا في النص المرئي على المسلات او جداريات القصور الآشورية، اما القراءة الثانية فتميط اللثام عن المضمون الايديولوجي والأسطوري – اي عن (لماذا) و(كيف) حدث ماحدث ومن حنا يتبطن النص التاريخ المروي، معنى تحت النص لايمكن التوصل اليه الا من خلال القراءة العمودية..وفي النمرود نلاحظ ان معظم الروايات تربطه في مجال جغرافي هو العراق، آيديولوجي هو السلطة وكيفي هو الطغيان..وتاريخي هو بابل ونينوى وكالخو وأكد وأور وشروباخ،  وديني هو ابراهيم والتوراة والقرآن..واذا حاولنا أعادة تصوره من خلال منجزاته يقترب كثيرا من الملوك الآشوريين والكلديين وتحديدا آشورناصربال الثاني، وشلمنصر الثالث، وتكلاثبليزر الثالث، وسرجون الثاني، وسنحاريب، واسرحدونن وأشوربانيبال واخيرا نبوخذنصر الثاني هذا إذا استثنينا مرشحين اولهما سرجون الأول وقورش..فهل هو مجموع هؤلاء الملوك ام انه ملك محدد الحقت به منجزات ملوك جاءوا بعده..كبناء برج بابل الذي يعزى الى نبوخذنصرالثاني وصيد الأسود الذي عرف فيه أشوربانيبال اكثر من اي ملك آشوري آخر..الأرجح في رأيي ان النمرود هو نفسه آشورناصربال الثاني فهو الذي اختار كالخو (النمرود) عاصمة لأمبراطوريته وهو الذي وسع حدود الأمبراطورية لتشمل أعالي دجلة والفرات الأعلى وهو من اسس لضرب من الحكم المطلق والقسوة المفرطة بالتعامل مع الأعداء. وهو من اسس توشان (زيارة تبة) وحصنها وجعلها عاصمة اقليمية بالقرب من عاميدا (دياربكر)..ومدن أخرى، وهو من دعى ملوك العالم القديم الى مأدبة شهيرة في كالخو ذاع صيته بعدها.. ومن تتبعنا لسيرته وشخصيته وحروبه يتأكد افتراضنا انه والنمرود شخص واحد...وفيما يلي نسرد سيرة ملك العالم القديم، ملك الأمبراطورية الآشورية- آشورناصربال الثاني:

يعد الملك آشور ناصر بال الثاني 884 – 859 ق . م . واحدا من اقوى الملوك الآشوريين الذين حكموا في بلاد ما بين النهرين قبل الأسرة السرجونية . فقد نقل العاصمة من نينوى إلى كالخو (النمرود) ووطد اركان السلطة الآشورية التي ضمت على عصره أعالي الفرات وجانبا كبيرا من بلاد الشام والمناطق المجاورة لأرمينيا (أورارتا- اورارتو) وغربي إيران وفيما يلي نبذة موجزة عن حياته ومآثره قبل الحديث عن تمثيله الأسطوري بشخصية النمرود:

ورث آشور ناصر بال الثاني من أبيه تيكولتا – نينورتا الثاني مسؤلية توطيد الحكم الآشوري في الشرق الادنى وتوسيع رقعة المملكة الآشورية شرقا وشمالا وغربا . فقد كانت الممالك المعادية قبلية الطابع في الأغلب تحيط قلب الأمبراطورية الآشورية في شمالي العراق من كل الجهات . وكانت هذه الممالك قد اعتادت التمرد والثورة والعصيان وتشكيل التحالفات العدوانية على الملوك والحكام الآشوريين بتحريض أو بدونه . وتقع خلف هذه الكيانات القبلية دولا قوية تتمتع بجيوش دائمية وتحصينات دفاعية ونظم إدارية واقتصادية فضلاً عن ملامح حضارية مميزة كدولة اورارتا (ارمينيا) ودمشق وحاتي (الحيثية المتأخرة) في تركيا وبابل (التأرجحة بين الأستقلال والتبعية لآشور) في جنوبي العراق . ولعل دراسة دقيقة لجغرافيا الحملات الآشورية كما وردت  في حوليات الملك آشور ناصر بال الثاني ستميط اللثام عن عظمة هذا الملك وجسامة منجزاته كما توضح الطاقة والمرونة والروح العسكرية التي تميز القيادة والجيش الآشوري ناهيك عن المقدرة الهائلة والمطاولة في مقارعة ظروف بيئية قاسية ميزت الاقاليم المحيطة بالدولة الآشورية.

كانت حملات آشورناصربال الثاني في الشرق مزدوجة في اهدافها إذ يتمثل الهدف الأول بالمحافظة على السلطة المركزية وعلى هيبة الدولة في المقاطعات التي ضمها أسلافه منذ عهد نرام سين . فيما يتمثل الهدف الثاني بفرض الاعتراف بالسيادة الآشورية على القبائل والدويلات الواقعة في أقاصي الشرق – على ذلك ، ما برح آشور ناصر بال الثاني يجلس على عرش بلاد آشور حتى بدء بالزحف على المناطق المجاورة وكانت وعورة الارض تشهد على القدرة والمرونة العسكرية الفائقة للجيش الآشوري الذي غالبا ما يكيف الهجوم والاسلحة المستخدمة فيه مع طبيعة التضاريس واشكال المقاومة المتوقعة من العدو .

انطلقت القوة الآشورية الى الشرق مدمرة اراضي كيرخي وتومي والقلاع التابعة
لها – وعندما ابدى حاكم نيشتون مقاومة عنيفة تصدى له اشورناصربال الثاني بنفسه ودحره وجلبه اسيراً الى مدينة ارباأيلو حيث سلخه حيا هناك – وهي عقوبة غالبا ما كان اشور ناصر بال الثاني يوقعها بالخصوم الذين يتسببون له بأدنى ازعاج . وكان لهذا العنف نتائج ايجابية للحكومة الاشورية – فخلال حكمه الطويل (25) سنة لم تحدث سوى ثورة خطيرة واحدة وذلك عام 881 ق.م. عندما حرّضَ نور أدد امير داغارا اهالي زاموا (السليمانية) على العصيان ورفض السيطرة الاشورية . وكان الوضع ينذر بالخطر حيث حصّنَ المتمردون مضيّق بابايت (بازيان حالياً) وبدأوا بوضع الخطط لغزو اشور ، فعمد اشور ناصربال الثاني الى قيادة اربع حملات متتالية في الجبال اخضع بعدها اقليم زاموا ودحر المتمردين الذين هربوا الى الاصقاع البعيدة وفي مغاور الجبال وبذلك اسرعت قبائل الشرق بدفع الاتاوة الى الملك الاشوري قبل ان يداهمها ويخرب مدنها وترينا الغنائم المنتزعة من هذه الأصقاع مدى الازهار الصناعي والحرفي لهذه البلاد حيث استقدم اشور ناصربال الثاني عمالا وحرفيين مهرة الى كالخو للمساهمة في بناء المدينة الرائعة وتشييد قصره .

وفي الأناضول كانت الممالك التي كان شلمنصر الاول وتيكولتي نينورتا الاول وتكلاثبيليزر الاول قد ضموها الى آشور قد سقطت من ايدي السيطرة الاشورية منذ زمن بعيد. فزحفَ اشور ناصربال الثاني الى الأناضول عام 881 ق.م. لاسترداد هذه الممالك ودحر خصومه الآراميين والحيثيين الجدد من قلاع ومدن الشمال مثل ايلوخات ودمدموزا وكينابو التي تمركز فيها المتمردون فهاجم المدينة الاخيرة التي تمثل رأس الحربة المعادية وبعد معركة عنيفة وسريعة تمكن من دحر خصومه ودمر اسوار المدينة ثم احرق 3000 اسير وواصل تقدمه نحو الشمال وراء منابع دجلة في بلاد ناعيري (الممتدة جنوبي اورارتا – ارمينيا) مدمراً المدن والقلاع وباسطا النفوذ الاشوري على هذه المناطق النائية حيث اعاد اعمار عدد من القلاع وجعل توشان – زيارة تبة – عاصمة اقليمية في منطقة عاميدا (ديار بكر) التي حصنها واعاد اعمارها وجعلها عاصمة اقليمية للأمبراطورية الاشورية في الأناضول - فتلقى اتاوات الملوك رؤساء القبائل في تلك المدينة وتضمنت هدايا بلاد ناعيري باكمالها وكذلك مشايخ الآراميين وبضمنهم خصم والده (آم باآلي) الذي اصبح الان تابعا مواليا للملك الاشوري . وفي طريق عودته الى كالخو استلم اتاوة ملك حاتي التي يعرفها الاشوريون ب(هانيجلبوت) في نصيبين واتاوات اقليم أيزالا من اقاصي الشمال الغربي للأناضول وهي منطقة تابعة للدولة الحيثية القديمة .

لقد كان سكان الشمال في ثورة دائمة ضد السلطة الآشورية – لهذا شعر آشور ناصر بال الثاني بضرورة توجيه ضربة ماحقة تفطمهم عن التمرد إلى الابد وكانت تلك الضربة عام 879 ق . م إذ لم تكن القبائل القاطنة في جبل كاشياري وسفوحه (شمالي ماردين) قد اقروا بالحاكم الآشوري الذي عينه آشور ناصر بال الثاني عليهم في توشان . وكانت القبائل المجاورة لتلك المدينة قد أعلنت عصيانها بتحريض من أورارتا – مما ادى إلى قتل الحاكم الآشوري (آم باآلي) في مدينة توشان... إلا أن انتقام الملك الآشوري جاء سريعا وعنيفا وصاعقا إذ هاجم البلاد في الشمال ودمر الحرث والنسل وجلب على المنطقة كلها الدمار والخراب بحيث استتب فيها الامن بعد هذه الغزوة على مدى تسع سنوات لحين آن اوان توجيه ضربة ثالثة اكثر تدميرا من الضربتين الأولى والثانية وذلك في عام 876 ق . م .

إلا أن اكبر توسع تحقق للإمبراطورية الآشورية في عهد آشور ناصر بال الثاني كان في الغرب . فقد كان ضم الدويلات الغربية يشكل ضرورة حيوية للاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي للدولة الآشورية وهكذا فعندما زحف آشور ناصر بال الثاني غربا لم تبد الدويلات الآرامية المبعثرة أية مبادرة للتوحيد وتشكيل قوة مشتركة تتصدى للآشوريين في الوقت الذي شعرت فيه الممالك الحاتية في الشمال بالارتياح ازاء التوغل الآشوري في الغرب لانه يخفف مخاطر الهجوم أو الاغارة في حدودها الجنوبية . لهذا فعندما داهم آشور ناصر بال الدويلات الغربية منطلقا من كوموخ (سمساط غربي ميليد - ملاطيا) عام 884 – 883 ق . م . سارعت اقوام الموشكي النائية بارسال الهدايا إلى الملك الآشوري تأكيدا لموقفها الودي . وكان السبب المباشر للحملة الآشورية مقتل "خاماتي" حاكم صور (سورو) وهو احد اتباع الملك الآشوري من قبل الأقوام المعادية للآشوريين مما شجع سكان المناطق الممتدة بمحاذاة نهر الخابور من بيت خالوبي على العصيان والثورة . وكان المحرض الرئيسي على التمرد في منطقة الخابور حاكم بيت آديني الآرامي الذي ارسل دعيا من هناك ليتزعم التمرد . فانطلق آشور ناصر بال الثاني إلى سوريا وهاجم سورو واخضع المدن المجاورة مما دفع األآراميون الواطنون في الاقي وهندانو على الضفة الغربية لنهر الفرات إلى التخاذل ودفع الاتاوي وانواع الهدايا للملك الآشوري.

وتجدر الاشارة إلى أن اسلوب الملك الآشوري آشور ناصر بال الثاني في استحصال الضرائب والاتاوات يختلف عن اسلوب أسلافه – إذ بدلا من ارسال موظف آشوري يقوم بجباية الضرائب من الملوك والامراء في الاقاليم المجاورة يأتي الملوك والامراء بانفسهم إلى كالخو العاصمة الآشورية جالبين معهم أتاواتهم من الذهب والفضة والنساء والمواشي والثياب وهو الاسلوب عينه الذي انتهجه ابنه شلمنصر الثالث والملوك الذين جاءوا من بعده (وترينا المسلة السوداء لشلمنصر الثالث وبوابة بلوات في المتحف البريطاني تواكب الملوك الوافدة إلى كالخو وهي تقدم الهدايا وتقبل الارض بين يدي الملك الآشوري). غير أن القبائل المقيمة في المناطق التي تشكل الحدود الشمالية – الغربية لبابل والمعروفة بالسوخي أو السوحي وجدت في اسلوب تقديمها للضرائب للملك الآشوري إذلالا طوعيا ومتكررا لكبريائها ولم يكن لها قبل بالادارة الصارمة المتضرية شديدة القسوة لآشور ناصر بال الثاني – مما دفعها إلى التحالف مع ملك بابل (نابو آبال أيدنا) الذي كانوا يعدونه سيدا مطلقا عليهم كما جرت العادة مع آبائهم والملوك البابليين – إلا أن الملك البابلي لم يكن قادرا على شن هجوم معلن على الدولة الآشورية كما لم يكن قادرا على خرق المعاهدة التي فرضها عليه سلفه الملك الآشوري ادد – نيراري الثاني مما دفعه إلى ارسال قوة من الكاشيين تتألف من 3000 مقاتل وأو كل قيادتها إلى أخيه زابدانو لدعم السوحو الذين أعلنوا عصيانهم على الآشوريين عام 878 ق.م. ولم تكد أنباء العصيان تطال اسماع الملك الآشوري حتى انطلق باتجاه سورو التي لجا اليها الثوار . وكان بدء انطلاق الجيش من منطقة كا موخ (الخابور) في المنطقة التركية على الحدود مع سورية والعراق . انطلق الجيش الآشوري باتجاه الجنوب الشرقي وسار بمحاذاة الخابور الذي انسحب  باتجاه ترقا على الفرات وواصل انسحابه عبر زلابية في الأراضي العراقية ليتحصن في أنات (عانة) فلحق به آشورناصربال الثاني واشتبك معه بالقرب من عانة في معركة طاحنة استغرقت يومين وتمخضت عن اندحار القوات الآرامية اندحارا تاما ووقع من بقي منهم على قيد الحياة في الأسر . وكان من بين الاسرى شقيق الملك البابلي والكاهن الذي كان يتقدم القوات المتمردة . وكان هذا التمرد الآرامي فرصة للملك الآشوري وظفها لفرض المزيد من الشروط المذلة على الآراميين – على الرغم من تأكيده على العكس في أحد نصوصه : "أنا الملك دائم مجدي وجبروتي ... استدرت نحو الصحراء وقلبي يروم توسيع حمايتي" . ويقينا أن تلكم الحماية لم تكن سوى شروط مذلة تتعارض تعارضا حادا مع إرادة القبائل غربي الفرات مما دعا الآراميون في هندانو ولاقي إلى ضم صفوفهم في محاولة أخيرة لنيل استقلالهم . وقبل أن يعلنوا عصيانهم ابلغ جواسيس الملك الآشوري قادة آشوريين بأنباء العصيان مما آثار غضب الملك وجعله يقود حملة قوية ومباغتة تمخضت عن سحق التمرد بوحشية منقطعة النظير مما ادخل الذعر في قلوب الآراميين ومنعهم من الدخول في تحالف مع بيت آديني أو في ما بينهم لمناهضة الآشوريين في الوقت الذي أسرع آخوني حاكم بيت آديني إلى دفع الاتاوة والاعتراف بسيادة آشور ناصر بال الثاني .

وهكذا بسط الآشوريين نفوذهم على الخابور واعالي دجلة واواسط الفرات إذ لم تكن هناك قوة بمقدورها التصدي للآشوريين في سوريا ولبنان مما حفز الملك الآشوري للقيام بحملة استعراضية عام 876 ق . م . طاف خلالها مدن البحر المتوسط على نحو مماثل لحمله تكلاثبليزر الأول – وتماثل العلاقات الآشورية مع ألدويلات الآرامية في سوريا علاقات فيليب المقدوني (والد الأ سكندر) مع اليونان إذ عمد الملوك الآشوريين إلى تعيين حكام محليين يمثلونهم في المناطق التي يغزونها – وهو إجراء قلدهم فيه الفرس والرومان من بعدهم .

وفي شهر أيلول من السنة نفسها زحف الملك الآشوري إلى كاركميسش (جرابلس) مجندا على نحو يذكرنا بهانيبال جنودا من الإمارات التي مر بها مثل بيت باخياني وايزالا – وفي الطريق أسرع آخوني وخابيني بدفع الاتاوة ومعها رعيل من المقاتلين من بيت آديني مما
دعا سنجارا ملك كاركميش إلى الاسراع بدفع الاتاوة واعلان خضوعه للسيادة الآشورية . وكان الطريق إلى لبنان يمر بأراضي خاتيانا (باتينا) أنطاكية الواقعة في سهل عاموق شمالي  تل بارسيب – مما جعل لوبارنا ملك خاتيانا يسرع بتقديم الهدايا معلنا عن طاعته للملك الآشوري درءا للمذابح والخراب – وبعد ذلك، انطلق آشور ناصر بال الثاني عبر العاصي إلى اقاصي الجنوب الغربي فخرب المدن السورية واحرقها وسوى عددا منها مع الارض حتى وصل ساحل البحر المتوسط فاسرع ملوك صيدا وبيبلوس (جبلة)  وطرابلس بتقديم الهدايا – وعندما وصل جبل عمان أمر النحاتين بحفر نصب تذكاري يخلده في الجبال وقطع الاشجار التي حملها إلى كالخو لتسقيف قصوره ومعابده هناك .

وبعد عشر سنين زحف الملك الآشوري باتجاه الشمال مرورا ببيت عاديني وكاموخ وتوغل في الجبال التركية حيث بنى قلعة مازالت تعرف بقلعة النمرود . ثم اتجه جنوبا فهاجم دمدموزا (قزل تبة) وذبح 600 مقاتل عند اقتحامه المدينة وساق 3000 اسيرا إلى عامودا (ديار بكر) حيث صلبهم هناك – وقطع حجارة الممرات الجبلية في جبل كاشياري (طورعابدين) لتسهيل حركة العجلات حتى وصل قلعة لابتوري حيث هاجم القلعة ودمرها واحرق المدن المجاورة لها ... وهكذا فقد ضمنت له هذه الحملة السيطرة على أعالي الفرات وهو أوسع مدى بلغته الإمبراطورية الآشورية في عصره ..
آشورناصربال الثاني (النمرود) -  منجزاته وشخصيته :

كان آشور ناصر بال الثاني (النمرود) قد قرر منذ بدء حكمه نقل عاصمته من نينوى إلى كالخو (النمرود) لذا اعاد بناء هذه المدينة المندثرة التي كان شلمنصر الأول قد اتخذها عاصمة له – ويبدو أن آشور ناصر بال الثاني قد بدأ اقامته في كالخو في 880 – 879 ق.م . .

ولهذا يعود الجانب الأكبر من مبانيه في هذه المدينة إلى السنوات الخمس الأولى من حكمه . ومن المنجزات الرئيسة التي انجزها في النمرود قناة تمر تحت الارض في بعض الاماكن تعرف بقناة الوفرةBabelat-hegalli  تنقل مياه الزاب إلى كالخو – وكذلك سور المدينة فضلاً عن قصره الذي تزين مداخله الالواح المحفورة وتحرس بواباته الثيران المجنحة وهو مبني من اللبن المحضن بالحجارة والرخام كما شيد معابد وزقورة في مدخل المدينة . وقد تم العثور على عدد كبير من المنحوتات واللوحات التي تمثل طقوساً دينية ومشاهد صيد ومعارك ومواضيع اسطورية وكان عددا من هذه المنحوتات المحفورة على الرخام والحجارة والزخارف التي تزين القصر الشمالي الغربي ملونه وهي تعكس قوة هذا الملك واتساع رقعة مملكته وثروته الهائلة كما عثر اخيرا على اسود وثيران مجنحة lamasse في مواضع جديدة بالإضافة إلى المنحوتات العاجية الوفيرة التي عثر عليها في القصر الملكي وفي حصن شلمنصر (تلول عازر) الكائن في الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة. وقد تم في الآونة الاخيرة اكتشاف المقبرة الملكية في القاعات الداخلية في القصر الشمالي الغربي واخراج كنوزها من المجوهرات والمصوغات الذهبية والعاجيات التي تعكس مهارة فنية رفيعة الطراز اشتركت بها مهارات فينيقية ومصرية وحاتية تمثل تطور الفن في الشرق الأدنى بأسره .

ويظهر الملك والمرافقين بل وحتى الملائكة الحارسة بثياب ثقيلة تغطي كامل الجسم وتنتهي بحافات مزركشة . وتظهر المناطق البادية من الجسم الانساني أو الحيواني القوة الجسمية الهائلة من خلال تصوير عضلات الذراع والساق وكذلك في الأسود والثيران التي تدخل الذعر في قلوب الاعداء مما يوحي بانها كانت جزءا من الدعاية السياسة التي عمد الآشوريون إلى توظيفها لإدخال الرعب في قلوب خصومهم . وتظهر زهرة البابونج – الكاميليا – الشهيرة في ام الربيعين – الموصل – في كل زوايا المحفورات الجدارية وعلى أساور الملوك وتيجانهم وكذلك في يتجان الثيران المجنحة وحول قواعد العرش وزخارف النصب التذكارية مما يثير التعارض الجمالي لدى الآشوريين بين الورد والعنف الانتقامي الذي يشهد على حب الدماء لدى الملوك الآشوريين وتبرز القدرة الفنية على التصوير لدى الفنان الآشوري في نحته للتكوينات المركبة التي تمثل عالم الحلم والاسطورة والخيال كما تطالعنا في الثيران المجنحة وفي صراع الإله مع تيامات المصورة  برأس نسر وأرجل اسد وجسم انسان – انه فن ياخذنا إلى عالم القوة والرهبة والجبروت سواء أعبرت عنه اشداق الاسود ام الابتسامة الهادئة لاشور ناصر بال الثاني .

وهنا لابد أن نوضح جانبا من الملامح الشخصية لهذا الملك من خلال حولياته ومنجزاته . واول ما يطالعنا قدرته الهائلة في توطيد الحكم الآشوري في المناطق التي يستولي عليها بما يدل - إلى جانب القوة الفريدة من نوعها – على متانة الإدارة الآشورية وقوة الجيش الآشوري فضلاً عن المرونة العالية التي يتميز بها في التكيف مع الظروف القتالية والبيئية . كما نلاحظ أن السلطة المطلقة لاشور ناصر بال الثاني وأقرانه من الملوك الآشوريين تنبثق من اعتقاد الملك بأنه يقود حربا بالوكالة عن الآلهة العظيمة وأن غنائم الحرب ستصب في معابد يقدسون فيها .. ولعل ابرز دليل على الإدارة الحازمة لهذا الملك انه لم يقد خلال العقد الأخير من حكمه بنفسه سوى حملة واحدة في حين تميزت هذه الفترة بالاستقرار السياسي وباستتباب الأمن والسلم اللذان يقتضيان المحافظة على جيش دائم يضطلع بالمهمة المزدوجة المتمثلة بالحفاظ على الآمن الداخلي والاستعداد لقمع العصيان والتوسع في الخارج يؤكد ذلك أن شلمنصر الثالث ورث جيشا قويا ودولة راسخة من ابيه على الرغم من مرور فترة طويلة من السلم المصحوب بالاستعداد السوقي للقتال في أية لحظة .

ولم يكن العنف الآشوري منطلقا من دافع التهور ... بل الحزم يدل على ذلك تحاشي آشور ناصر بال الثاني الاصطدام مع مملكة دمشق القوية في اثناء حملته على مدن الساحل الفينيقي الأمر الذي يؤكد البعد العقلاني في سياسته ...

ولا يختلف آشور ناصر بال الثاني عن غالبية ملوك الشرق الأدنى قديما من حيث حبه للنساء والذهب والدماء وبالنظرة الأسطورية إلى العالم وكذلك بقوة الدافع الديني وحب تخليد الذات . كما يماثل اسلافه واحفاده الآشوريين بميزتين أفردتهم عن سواهم من الملوك اولهما سياسة التهجير والاحتفاظ بالرهائن وثانيهما قتل الاسرى وانتهاج سياسة الارض المحروقة في الحروب .

وبالإضافة إلى هذا و ذاك يتميز آشور ناصر بال الثاني بذائقته المتميزة للفن والأدب إذ يجمع بين الاهتمام بالأعمال الفنية صغيرة الحجم دقيقة التفاصيل كالعاجيات الفينيقية وبالأعمال الصروحية التي تنتشر وكأنها زخرفة اسلامية لا تعرف أطراً أو حدودا للكتابات المسمارية التي تخلد مأثره وغزواته ومنجزاته – وتعكس الأسود في كالخو قوة الدولة وضراوة الملك في تعامله مع خصومه في آن واحد .

كما تطالعنا في حولياته صورا ومنجزات شعرية تعكس الذائقة الأدبية لعصره وتنطوي على التنافر الجمالي المميزة للذائقة السامية عبر العصور فهو أسد وطوفان وطائر صاعقة وهو في الوقت نفسه فأر يقطف الثمار من بساتين البهجة في كالخو . ويخبرنا في اماكن مختلفة في حولياته عن جيشه وهو ينطلق مثل طير الصاعقة نحو قلعة شاهقة مثل غيمة ترفرف في السماء أو عن جبل منحدر كحافة الخنجر.
يتضح مما اسلفنا ان آشورناصربال الثاني وليس ابنه شلمنصر الثالث أو حفيده تكلاثبليزر الثالث هو من يمثل النمرود ... إذ تتماثل الشخصيتان في وجوه عديدة أبرزها القسوة منقطعة النظير والطغيان المطلق والجبروت . فالنمرود ليس هو سوى الأمتداد الأسطوري لشخصية الملك آشورناصربال الثاني..

صلاح سليم علي/كرستنساند 28-12-2010  

صفحات: [1]