عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - نصرت مردان

صفحات: [1]
1
 عزيزي الأستاذ لطيف
تحياتي
من منا لا يحن الى كركوك مدينة الحياد والتآخي والى رئتها النقية (عرفة) التي شاركتنا وشاركناها الأفراح والأتراح على مدى عقود. . لقد شاخت السنون والصداقات لكن (عرفة ) بقيت شامخة ووفية لأبنائها .. بالغ تحياتي لك واعجابي بك كاتبا وانسانا وكركوكيا أصيلا ..

2
أدب / حانة سمرقند
« في: 13:06 05/04/2015  »

حانة سمرقند


 نصرت مردان


كانت الأزقة تبدو وكأنها تضخ بشرا، رجالا ونساءا إلى الشارع .
كان الشارع الذي يمشي فيه يبدو وكأنه المكان الشرعي للسيارات التي تطلق آلة التنبيه بدون مناسبة .. ما الذي يفعله كل هؤلاء في آن واحد ؟
ثمة كلب شريد ينبح في وجه الجميع الناس والسيارات، وكل ما يتحرك في هذا الشارع المهمل. نظر إليه حمار يحمل على ظهره الخضروات ، بعينيه الواسعتين ،وسمعه يقول له :
ـ ها .. هل أنت ذاهب إلى الحانة ؟ 

استغرب أن يسمع حمارا يتكلم ..
كان فعلا في طريقه إلى الحانة ، حانة (سمرقند).
في البدء استهوته اسم الحانة ، التي كانت تبدو وكأنها دكان عادي تم تحويله إلى حانة في موسم ازدهار الحانات في فترة السبعينيات.
كانت حانة عادية باستثناء اسمها.. لا تسع إلا لست موائد، وبار صغير رصت على رفوفه المشروبات المختلفة. أما زجاجات البيرة فكانت موضوعة في إناء كبير مليء بقطع الثلج.
لم يكن في الحانة إلا نادل مصري واحد، شاب اسمر،طويل القامة، يتبادل الحديث مع بعض الزبائن الذين يبدو أنه يعرفهم ، أو أنهم من زبائن الحانة المتواضعة التي تواجه مبنى (اوروزدي باك) في أربيل.
كانت بارات أربيل تفتح أبوابها في الساعة التاسعة صباحا، على العكس من جميع البارات في العراق التي تفتح في الساعة الحادية عشرة . وقد علق أحد أصدقائه الخبثاء على ذلك بقوله :
ـ إنها والله لمكرمة من السيد الرئيس لمدينتنا ..
ود أن يطلب صحنا من السلطة ، لكنه سرعان ما تخلى عن رغبته بعد أن رأى النادل يغرف بكفه من السلطة الموضوعة في صينية كبيرة فوق الثلاجة ، ويضع في كل طبق كفين منها .
أحس بالتقزز وهو يرى كف النادل تخوض في الصينية التي فيها تل من سلطة الخيار والطماطة والخس.
كان النادلون اعتادوا في ساعة  على عدم السماح لزبائنهم الذين اعتادوا خلق مشاكل داخل البار.
يتذكر انه كان في طريقه إلى الحانة صباحا ، وصادف أن رأى مطربا محليا معروفا يمنعه النادل من الدخول ، وكان على معرفة به ، وحينما قال الرجل ان المطرب ضيفه ، قال النادل وهو يفسح لهما المجال للدخول ،وكأنه بذلك يؤدي خدمة كبيرة للمطرب :
ـ ادخل .. علشان خاطر الراجل الطيب ده .. ده يجي عندنا يشرب زي أمير ، ويروح زي باشا !
تصور للحظة لو نزل على الحانة جنكيز خان حانقا ، شاهرا سيفه وهو يصرخ :
ـ من أعطى لكم السماح لتطلقوا اسم عاصمتي على هذه الحانة الحقيرة ؟!
ابتسم ، ولم يخض غمار خيال مستحيل الحدوث. 
كان سبق له أن شاهده مرة في حانة أخرى تقع مقابل (نقليات أربيل).
أكثر ما كان يجلب انتباه المرء إليه ، شعره الطويل ، المصبوغ بالأصفر الفاقع ، وكان هو يبدو غريبا عن واقع وروح المدينة. في تلك المرة ، كان على مائدة وسط رجال يبدو عليهم أنهم اعتادوا على لعب دور الكومبارس في الحياة ، لكن عيونهم كانت تلمع لمعانا غريبا وهم يحيطون  به، ينظرون إليه بعيون فيها الكثير من لمعان الشهوة، وكأنهم ينظرون إلى حسناء كل مواصفاتها في الجمال عشرة على عشرة .
لكنه هذه المرة رآه بساق واحدة ، وإلى جانبه عكاز، يجلس مع شاب تبدو عليه النشوة وهما يتهامسان. . مالبث الشاب أن خرج من الحانة ثم عاد ومعه رجل يحمل مسدسا ، وأخذ صاحب المسدس يهدد الأشقر المخنث بالقتل إذا لم يخرج من الحانة ويرافقهما .
استغاث بالحاضرين وهو يعدل عكازته كي لا يقع على الأرض ، حل صمم مفاجيء على الزبائن ، فلم يسمعوه . 
أخرجاه من الحانة بالصفعات وبضربات من أخمص المسدس ، وقاده صوب سيارة كانت في الانتظار أمام مدخل الحانة ، حانة سمرقند.
أحس بالشفقة تجاهه وهو يقول للنادل :
ـ لماذا لم تستدع الشرطة ؟
نظر إليه  النادل باستنكار واستخفاف :
ـ وهل مثل هذا المخنث يستحق ذلك ؟

كانت الغيوم عازمة على الهجرة ،وعلى أن تترك للسماء زرقتها ،وأن ترفع خيمتها من فوق البيوت والشوارع ، لتستعيد حيويتها ،وتنزاح عنها الكآبة ، والانقباض من نفوس البشر، والذي يرتفع رايته كلما تلبدت السماء بغيوم داكنة السواد ، تنبيء بالأمطار والرعود.
خرج من الحانة منقبض الروح ، ووجد نفسه في سوق شيخ الله ، يحيط به زحام خانق من كل جهة ، كانوا يتاجرون بالدينار العراقي ، يبادلون الدينار المستنسخ المستعمل في كل أنحاء العراق بعد حرب الخليج بالدينار طبعة سويسرا ، ومن أجل الطعن بالدينار المستنسخ أسموه بالمزيف كان لهم شروطهم، مثقلين كاهل الورقة النقدية الحكومية بشهادات مزورة. ووضع الجميع في دكاكينهم جهازا فسفوريا لكشف النقص في تلك الأوراق .
حيث يفتي الحاج رسول بعينيه الكليلتين في النهاية  بمصير الدينار :
ـ داركا ديار نييه ! ( الشجرة ويقصد بها النخلة غير واضحة)
أو :
ـ خطتكا ديار نييه ! ( الخط المظلل في الوسط غير واضح)
وبعد ذلك يتم قبول الدينار بثمن أقل من قيمته النقدية .
وفي ساحة ( شيخ الله) ضباع بشرية تمتليء جيوب سراويلهم برزم من الأوراق النقدية فيشترون ورقة العشرة دنانير بسبعة دنانير .
وعلى بعد أمتار من هؤلاء ضباع من نوع آخر ، وأمامهم أكياس مليئة بالدنانير السويسرية ، وصفائح مليئة بالعملة المعدنية، وهم يقبلون الدينار الموجود في جيوب الآخرين بدون فحص أو تمحيص رافعين عقيرتهم بالنداء :
ـ بينج به شه ش ..خمسة بستة
ـ ده به يازدا .. العشرة بأحد عشر .
ثم ينطلقون صوب كركوك والموصل لشراء أمتعة وبضائع بتلك الدنانير المغضوبة عليها في أربيل.
والغريب أن كل ذلك كان يجري أمام بنك الرافدين تماما .







3
مرشح المعارضة لرئاسة الجمهورية التركية:
أكمل الدين إحسان اوغلو

نصرت مردان
                                   
في خضم الاستعدادات لانتخابات رئاسة الجمهورية في تركيا ، و التي ستجري على مرحلتين خلال شهر آب /أغسطس 2014 ، فجر حزبا الشعب الجمهوري ، والحركة القومية مفاجأة من العيار الثقيل باختيار شخصية أكاديمية معروفة عالميا ،حائزة على تقدير الرأي العام التركي ، لمنافسة أردوغان الذي يتهيأ لترشيح نفسه لخوض غمار انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة. وقد فابل احسان أوغلو ترشيحه للمنصب من قبل الحزبين المذكورين بالامتنان ، في أول تصريح أدلى  به للإعلام التركي اليوم (الأربعاء 18 حزيران /يونيه).
ولد البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو في القاهرة في 26 ديسمبر 1943. وحصل على بكالوريوس العلوم في 1966 ودرجة الماجستير في الكيمياء سنة 1970 من جامعة عين شمس في القاهرة. وبعد إكمال دراسة الدكتوراه في جامعة أنقرة في تركيا سنة 1974، أجرى بحثه لما بعد الدكتوراة في الفترة من 1975 إلى 1977 بصفة زميل أبحاث في جامعة إكستر في المملكة المتحدة
شغل منصب أمين عام المؤتمر الإسلامي السابق ، وهو  ينتمي الى عائلة عثمانية عريقة . من مواليد الحلمية  بالقاهرة حيث ان والده كان مسؤولا عن الأرشيف العثماني  في القصر الملكي ، اضافة الى كونه استاذا لمادة التركولوجيا في جامعة عين شمس المصرية . وقد درس أكمل الدين نفسه دراسته في كلية العلوم بنفس  الجامعة ، كما عمل في الوقت نفسه مصنفا في دار الكتب القومية بالقاهرة .  . لذلك فهو يجيد العربية كما يذكر ذلك الكاتب رجاء النقاش في احدى مقالاته (( اتقانا تاما كواحد من ابنائها )) اضافة الى  الفارسية والانكليزية والفرنسية .
عمل حتى انتخابه أمينا عاما للمؤتمر الاسلامي لمدة تتجاوز الربع قرن رئيسا لمركز بحوث التاريخ والثقافة والفن الاسلامي التابع للمؤتمر الاسلامي باستانبول .
تم تكريمه عام 1990 بنوط امتياز من الدرجة الأولى من قبل الرئيس المصري السابق
 حسني مبارك .
اقترح في مناسبات سابقة مختلفة تدابير لتعزيز السلم العالمي وتحقيق التضامن بين أعضاء الأمة الإسلامية قاطبة. واتخاذ خطوات جادة ليجعل من منظمة التعاون الإسلامي منظمة فعالة. أشاد بجهوده الرامية لتعزيز المنظمة العديد من رؤساء الدول والحكومات. المعروف أيضا عن البروفيسور الدكتور إحسان أوغلو، قيامه بدور ريادي في نشاطات الأبحاث والنشر وتنظيم مؤتمرات في مختلف المجالات، ومنها تاريخ الآداب والعلوم والعلاقات بين الثقافات. حيث وجه نتائج الأبحاث إلى خلق وعي بالثقافة الإسلامية في جميع أنحاء العالم. كما أطلق وأشرف على برامج ترمي إلى حماية وتعزيز التراث المعماري والمكتوب للحضارة الإسلامية في مختلف البلدان.




خلال وجوده في جامعة عين شمس ترجم الى العربية كتابين : من الأدب التركي الحديث ،مختارات من القصة القصيرة ، ومسرحية ( شيرين وفرهاد ) لناظم حكمت . كما نشر في العديد من المجلات العربية عددا من قصائد الشاعر نفسه .
كما ألف عددا من الكتب والمقالات والأبحاث باللغات التركية والإنجليزية والعربية حول العلوم وتاريخ العلوم والثقافة الإسلامية والثقافة التركية والعلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي والعلاقات التركية العربية وقد ترجمت بعضها إلى الروسية والفرنسية واليابانية والكورية والبوسنية.
نال خلال عمله جوائز و أوسمة عديدة ، حيث قلده رئيس جمهورية أذربيجان  بـ"وسام المجد" ، كما قلده بالأوسمة رؤوساء العديد من الدول ومنهم على سبيل المثال لا الحصر رئيس جمهورية مصر العربية بـ "وسام الامتياز من الدرجة الأولى" و عاهل المملكة الأردنية الهاشمية بـ  "وسام الاستقلال من الدرجة الأولى" و رئيس روسيا الاتحادية بـ "وسام المجد")؛ ورئيس جمهورية السنغال   بـ  "وسام الاستحقاق الوطني" و"وسام الأسد الوطني" كما قلده رئيس الجمهورية التركية  بـ " وسام الخدمة المتميزة للدولة. كما حصل على الجائزة العالمية لكتاب العام من الرئيس محمد خاتمي، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية سنة 2000. وحصل على درجات دكتوراه فخرية من عدد من الجامعات في أذربيجان والبوسنة والهرسك وبلغاريا وروسيا الاتحادية، وتتارستان وتركيا والولايات المتحدة. وعينته حكومة البوسنة والهرسك "سفيرا متجولا" سنة 1997.
الفترة المقبلة هي التي ستثبت ما اذا كان أكمل الدين احسان اوغلو ، سيضع تركيا على طريق التآلف والوئام والاستقرار في الداخل و مع دول الجوار على العكس اردوغان ، المغرم بسياسة  التصعيد والنزاع الدائم مع جيرانه وغير جيرانه .. الزمن كفيل بأن يحمل لنا الجواب ..





4
المنبر الحر / قص فكتوريا
« في: 11:11 03/06/2014  »
قص
فكتوريا


                                                     
نصرت مردان

كان صوت رقاص الساعة الجدارية في غرفته المغرقة بالصمت، بمثابة إيذان له بأن الحياة لا تزال مستمرة,
ألقى بنظرة سريعة على وجهه في المرآة ، لاحظ  زيادة تضاريسه بخطوط متعرجة وأخاديد محفورة تحت أسفل عينيه ، ونظر بقرف  إلى شفتيه المزمومتين في فمه .  وإلى لحيته التي طالت بعض الشيء أكثر من المعتاد.
لم يهتم كثيرا، أليس هوس إطالة اللحى بدأ ينتشر بين الجميع لأغراض التقوى والوسامة ، تساءل بين نفسه " ترى هل تتلذذ النساء من اللحى القصيرة والطويلة على السواء ، الا تزعج وخزاتها وجوههن ووجناتهن وصدورهن بوخزات كوخزات دبابيس رفيعة الرؤوس  ؟

منظره في المرآة فعلا قبيح خاصة وهو الآن بلا أسنان . مجرد فم  ملتحم بالشفتين ثم مغارة تؤدي إلى البلعوم .من حق الأطباء في أوربا أن يرفعوا سعر كل ما يتعلق بالأسنان الى درجة فاحشة في تركيب ومعالجة وحشو وقلع الأسنان (رغم أن ذلك نادر الحدوث) فهم أي الأطباء يحاولون معالجتها بكافة الأساليب لإنقاذ الأسنان. بينما في وطنه القلع أول ما يلجأ إليه الطبيب.
كان  في الرابعة عشر من عمره تفقصه ضرسان .. إحداها قلعت من قبل طبيبة في مستوصف ، والأخرى بعد سنوات من قبل طبيب مسيحي ، وكان ضرسه يؤلمه إلى درجة لا تطاق ، رفض الطبيب بادي الأمر قلع السن رغم توسلاته لا لشيء إلا لأن اليوم كان يوم الأحد.. وبحكم ذلك لا يجوز العمل بالنسبة له كمسيحي ، لكن أمام الآمه المبرحة لان قلب الطبيب ،وقلع السن التي لم تنبت بعدها قط في فمه ..
قبل يومين تصدع قالب الفك الأسفل من أسنانه الاصطناعية ، ولم يجد من منقذ له غير الطبيب العراقي الدكتور نورس ، الذي لم تعترف جامعة جنيف بشهادته ، فآثر أن يعمل سرا مهنته بحث بات اسما معروفا بين المهاجرين العراقيين والعرب، خاصة وأنه كان متهاودا في أسعاره قياسا إلى الأسعار النارية للسن وملحقاتها من حشو وتركيب وتنظيف وتصليح المعطوبة أو المكسورة منها.
وكان الطبيب قد وعده بأن طقم أسنانه سيكون جاهزا في الساعة العاشرة ليلا .. العاشرة بالضبط . وهل له أن ينسى ذلك ، وخاصة أن  فكتوريا ستأتي إليه حسب الموعد المبرم بينهما قبل أربعة أيام ؟!
وفكتوريا كمثل أهل هذا البلد حريصة على الدقائق والثواني في مواعيدها  حتى لو كان السبب هو قضاء ليلة حمراء .
أغلب زبائنها وهي الخمسينية التي لم تزل (حسب رأيه) نارها فائرة ، كبار السن ، وتعمل في كل مرة أن تمر على أكبر عدد منهم دفعة واحدة .. ما عدا أيام الأحد التي تتقلد فيه صليبا ذهبيا ، وتذهب إلى الكنيسة القريبة من بيتها.
انه يراها امرأة جذابة ، سخية في اللحظات الحميمة ، منطقة حرة بلا حدود ، منزوعة السلاح .
تعرف العصب الحساس في جسد كل زبون ، لتطرحه أرضا من أول صراع في السرير. إنها بدينة نوعا ما لكن ذلك يزيدها جاذبية في نظره . . وماذا لو كانت بدينة تماما فهي ليست زوجته ولا تخصه ماعدا في اللحظات التي يلتحم فيها مع جسدها. .
الشيء الغريب بالنسبة إليه هو انه كلما طوى أعواما من عمره وشاخ ، ازداد ولها وولعا بالنساء جميعا، بحيث ترسخت لديه نظرية بدأ يؤمن بها إيمانا تاما بأن " ليست ثمة امرأة قبيحة في الكون " وبأن كل النساء جميلات. وكل مزاياهن الجسدية بمثابة عوامل جذب وإثارة له . ولم يكن يهمل ان يتساءل مع نفسه ، ترى هل هذا الشعور خاص به أم أن كل كبار السن يفكرون ويشعرون  بنفس الشيء؟.
لعل هذا الهيام بالجسد الانثوي بدأ مع زواجه من (بدرية) .. تلك الحية الرقطاء التي كانت ملاكا عندما كانا في العراق ، ناعمة وديعة ومطيعة له ، وعندما انطلقا بعد رحلة تشرد على أبواب معسكرات اللجوء ، حمد انه وجد معها مأوى في جنيف ،في هذا البلد الذي أشبعه بعد سنين من الطوى الروحي والجسدي ، واحتضته بإنسانية لم يرها في بلده ولا بين أهله وصحبه وخلانه.. لكنه أحس وكلما بدأت بدرية تتعود على طبيعة الحياة في هذه المدينة الهادئة ، وتتعرف على عوائل أخرى من اللاجئين، والتزاور مع بعض صديقاتها ، والتعرف على القوانين ونمط الحياة في جنيف، تتغير كلاما ولبسا وتصرفا . لم تجد بأسا بعد أن علمت بالحرية التي تتمتع بها حسب القوانين المرعية هنا ، حتى أخذت تلعن في حضوره في الليل والنهار العيب والحرام والتقاليد والعادات التي تربت عليها. ما لبثت أن بدأت تعيره بأنه متخلف ، غير متفتح ، ثم تطور الأمر إلى السخرية من هندامه وشعره الأصلع الذي كان يحاول تغطيته بلملمة الشعيرات الطويلة القليلة المتبقية لترميم صلعته، وبأنه لا يزال يفضل حياة الغاية على حياة الفردوس.
حاول كثيرا إن يخفف من رعونتها وذكرها بابنتيهما المتزوجتين في العراق ، كما حاول أن يشرح لها بأن الحياة ليست لهوا أو تسلية مشيرا إلى جارهم السويسري الذي يقيم في شقة تحت شقتهم قائلا :
ـ ألا ترين كيف انه وزوجته يطفئان ضوء الغرفة في العاشرة ليلا ، لينهضا مبكرين كآدميين متحضرين لأداء عمليهما على أحسن ما يرام ؟
وكانت معتادة بأن ترد عليه كلما تحدث عن جارهم بخير ، قائلة :
ـ ألم تجد من تستشهد بها غير هذه العائلة المعقدة التي تنام كالدجاج بعد هبوط الظلام !
لم ينفع معها كل الأساليب السلمية الهادئة التي تعامل بها معها ، كانت تحس كما علمت من النساء الأخريات من صديقاتها في العمل بأن القانون سيحميها من تعنت الزوج أو كائن من كان. وأحس هو بمرارة أن الرجل هنا لا يمكن أن يكون ( سي السيد) لمجرد انه زوج ورجل..
وعندما قرر أن يغير سياسته ويبرم شاربه أخذ يصرخ في وجهها ، لكن الأمر لم يطل به ،فقد وجد نفسه وجها لوجه أمام الشرطة الذين دقوا بابهم في منتصف الليل بعنف ، واكتفوا لأنها المرة الأولى بتحذيره وضرورة أن يحترم قوانين وطنه الجديد ، وإذا ما تكررت مغبته هذه فان اسلوبهم معه سيتغير أيضا.
ارتسمت إمارات الخبث والانتصار على وجه بدرية ، ومنذ تلك الليلة فارقت فراشهما المشترك وأخذت تنام بمفردها في غرفة أخرى . وكل ذلك كان إيذانا بعمق الهوة بينهما ، حتى انقطع عن التحدث مع بعضهما ، إلى أن اتخذت قرارا بأن تسكن بيتا مستقلا . ولم يكن بمقدوره فعل شيء.
ارتكن لأيام في زاوية غرفته ، بكي بصوت عال طويلا. .ثم خرج من عزلته حليق الشارب ، حيث اقتنع لم يكن رجلا في بيته فالأحرى أن يلقي بشاربه الذي لم يعني له شيئا إلى المزبلة وبئس المصير.
لكن ما باله يتذكر هذه المنغصات وفكتوريا بكل عظمتها وبهرجتها ستحضر إليه لتروي ظمأه.
 في الوقت الذي دقت فيه الساعة الجدارية الساعة التاسعة تماما ،دق جرس الباب ، هرع يفتح الباب بلهفة وكأنه يراها لأول مرة. ما أن أبصرته حتى أطلقت ضحكة مجلجلة ، وهي تشير إلى فمه المسحوب إلى الداخل .
أشارت بيدها إلى وجنتيه الممصوصتين :
ـ ما هذا ؟ ماذا حل بك يا خنزيري البري ؟ هل اختطف حدأة ما شفتيك الممتلئتين  ، متصورة بأنهما كتلة لحمة قانية ؟
تمنى من كل قلبه أن تتوقف عن مزاحها ، فرغم ما بينهما من عشرة ،استثقل سخريتها منه حتى لو كانت على سبيل المزاح. قال لها بانكسار :
ـ لقد انكسر الفك الأسفل من أسناني الاصطناعية يوم أول أمس .. وسيصلحها الطبيب مساء اليوم,
وكما اعتاد في كل مرة همس في أذنها :
ـ ألم يحن موعد إيوائنا إلى الفراش ؟ ..
نظرت إليه بشيء من التقزز :
ـ لم أتعود على النوم مع الشيوخ الذين يفقدون أسنانهم ..!
صمتت برهة وهي تطفيء عقب سيكارتها في المنفضة ثم قالت :
ـ لكن حفاظا للعشرة سأدخل معك الفراش على شرط أن تدفع 200 فرنك ..لأنني لم أنم في حياتي مع رجل بلا أسنان ..
صمتت برهة ثم أضافت :
ـ مع شرط عدم تقبيلي أو مص لساني !
حاول أخذ المبادرة منها فقال معاتبا :
ـ ما هذا يا فكتوريا ..أليس سعرك 75 فرنكا بالتمام والكمال في كل مرة ؟ ..رجاءا دعي الاستغلال !
لم يبد عليها أي تأثر من كلامه ، قالت بحزم :
ـ هذا شرطي الوحيد يا خنزيري البري ..
أمسك يديها كمن يتشبث بمنقذ ، قائلا لها بصوت حان :
ـ حسنا .. سأستلم أسناني سليمة من الطبيب في العاشرة من هذه الليلة، هل تنتظرينني ؟
طبعت قبلة على وجنته المتغضنة :
ـ الهذه الدرجة تودني يا حبيبي ؟ .. لا عليك لم يبق على الساعة العاشرة إلا ثلاث ساعات ،سأنتظرك هنا .. لا زبائن لي الليلة غيرك ؟
ـ سأذهب الآن إلى الطبيب وهو صديق عراقي .. إياك الرحيل !
غمزت له بعينها المدربة على الغمز ،وكأنها تقول له " لا تقلق ".

أراد أن يطبع قبلة سريعة على فمها كما تعود كل مرة ، لكنه توقف بعد برهة . لبس معطفه بهدوء ، بينما جلست هي على طرف السرير لتناول كأسا من بقايا بيرة .
خرج مسرعا ، يحدوه الأمل في أن لا يسبقه الزمن ،ودقائق الساعة الجدارية ذات الرقاص المزعج.
نظرت إلى الخارج ، رأته في موقف الترام وحيدا ،رافعا ياقة معطفه .
لم تمر إلا دقائق حتى أقبل الترام الذي كان خاليا من الركاب, قفز إليه ، حيث انطلق به في هدأة الليل الملبد بغيوم داكنة . 
                                                                 21/5/2014
                                                             الساعة الثالثة إلا ربعا
                                                               مقهى الميكروس
 


       


5

أخي العزيز الأستاذ أمير المالح
تلقيت بأسى بالغ وفاة صديقي القديم شقيقكم الدكتور سعدي المالح
آواسيك من القلب على هذا الرحيل المفاجيء للفقيد الكبير يا أخي العزيز
متمنيا للمرحوم   رحمة الله الواسعة ..ولكم الصبر الجميل والسلوان على هذا المصاب الجلل

                                               نصرت مردان
                                                   جنيف

6
أدب / لقد شخت قبل الأوان
« في: 19:20 22/07/2013  »


 لقد شخت قبل الأوان
 


نصرت مردان


منذ الصباح الباكر
تتابع طيور الزاجل
تكتب شعرا للمرأة التي
ترثي زوجها المفقود
منذ ربع قرن في
فيافي عربستان

تكتب رسائل كمناشير سرية
إلى رامبو أمير العبيد
في (هرات)
لعللك تتعلم منه أبجدية
السير في السهول والجبال
دون خوف

يوصلك المرتزقة
إلى  رامبو بسيوفهم
تسير معهم في الطريق
الذي نسي الرب
أن يضع خاتمة لها

تغمز بنت الجيران
التي لم تتناول التفاحة
بعد مع رجل  
 لتطرد من بيت العائلة  
 تعشش الكآبة
من رحمها وحتى الشفاه
تقول لها :
صبرا فسيوسوس الشيطان  
في صدرك
في مساء ما !
تقول ذلك
لأنك تعلم أن
الكلمة الطيبة صدقة .


تترجل عن حصانك
للص أعرج
تخلف عن زملائه
في سلب القافلة
المتجهة إلى طشقند
تواسيه بقافلة على
وشك أن تصل الطريق
التي يرقد فيها
جريحا من خنجر الغدر

تتوسل بالعندليب أن
يغرد خارج القفص
 تأمل أن ينفك طلسمه
ليتحول إلى  الرجل السكران
الذي كانه
الرجل الذي نسي
أشعاره في بنطال جان دمو
في حانة ، ما قبل الثورة !


يشكو لك القرنفل
ويقول باكيا :
كيف لي أن أتحدث
مع المارينز
بعد التحرير
في الساحة الخضراء
بين الجثث المتطايرة
عند عودتها إلى بيوتها
كل مساء ؟

البيت  الذي تتنفس
فيه كل يوم
لا يفتح لك بابه
تبحث لنفسك
عن بيت جديد
مفتوح الجهات
على البحر
الذي لا يراه غيرك .

بعد نصف قرن
توقظك أمك
تقول : حان وقت المدرسة
تذهب مرتعبا
إلى الصف
كل من فيه
شاخ وابيض شعره
يشكون لك
من ضغط الدم والكوليسترول
يدخل المعلم الصف
بسدراته ، حليق اللحية كالعادة
يقترب منك قائلا :
لماذا شخت يا نصرت   قبل الأوان ؟

  
  22 .9 .2004
  جنيف


7
أدب / رد: ماأحلى الرجوعَ إليهِ
« في: 01:08 13/02/2013  »
استاذي العزيز الشاعر صلاح نوري
اتابع دوما ماتكتب ، وخاصة قصائدك الجميلة والمتميزة
التي تبدو دائما كسحب بيضاء فوق سماء موطننا العزيز
كركوك الحبيبة ، قصائد مليئة بالشجن والحنين الى كل
مافي كركوك ، الحنين الى قلعتها التي تنظر من علِ الى
قلب المدينة ، مدينتنا جميعا.

نصرت مردان
جنيف

8
أدب / فندق الوطن
« في: 20:56 12/02/2013  »
                      

فندق الوطن
 
نصرت مردان

  
   قص

                                                                  
استند على يديه ونهض.استغرب أن أحدا من المارة لم يضحك عليه. ألم يكن يرونه ؟. . هل تزحلق
بسبب قشرة موز أم بلغم انطلق من فم مصدور ؟.
أبصر أمامه بائعا متجولا ، يبيع الزازير المشوية في قدر كبير. تقدم من البائع ووضع في يده دينارا. لم يتكلم مع البائع ، وبدوره لم يكلمه البائع ، بل وضع عددا من الطيور المشويّة في كيس من النايلون ، مضيفا إليه قليلا من حسائها من القدر الكبير الذي كان يغلي فوق العربة.
نظر إليه البائع متسائلا :
ـ هل سبق وان تعارفنا ؟.
ـ ربما
ولم يزد. أخذ يمر من تحت المظلات التي كانت تحمي واجهة الدكاكين من المطر. كان المدخل إلى مقهى الديوك رطبا، ولم يكن ثمة احد أمامه.
دخل المقهى ملقيا التحية على الجالسين .جلس على نفس الطاولة التي تغوط عليه الديك أمس بعد انتهائه صراعه الدامي منتصرا.ارتفعت شتيمة من أحد الجالسين.
طلب فنجانا من النادل. هل كان الوقت مبكرا ؟.  سأل النادل:
ـ أليس هناك صراع للديكة هذا المساء؟.
ـ ليس ثمة عراك هذه الليلة ..
ثم قال له كمن يحذره:
ـ إياك أن تهمل المجيء إلى هنا ليلة الأربعاء فسيكون هنالك عراك شرس بين الديك الجديد لتحسين بيك ، وديك مجيد قهوجي.
سأله الرجل الذي أطلق شتيمته قبل قليل:
ـ ترى بكم اشتراه ؟.
ـ يقول تحسين بك أن صاحب الديك ، امتنع عن بيعه لفترة طويلة ، إلى أن تمكن من إقناعه بثمن مغر ، يكفي لشراء حصان!..
ـ ياله من رجل !
ـ انه معتاد على الانتصار دائما !

قال له بائع التذاكر ، وهو يقدم له بطاقته :
ـ لم تمر إلا دقائق قليلة على عرض الفيلم .
كان على الشاشة رجلان يتلاكمان بعنف. لم تكن القاعة مزدحمة. كان بطل وبطلة الفيلم غارقين في قبلة عنيفة. كانت تقول له ، سأرافقك أنا أيضا ،بينما كان البطل يقول لها ، كلا ، لا أريد أن تقتحمي المتاعب، وهو يضع يده على صرتها ويلمسها برقة في حركات متتابعة من يده اليمنى ،بين صفير بعض المراهقين من المتفرجين.
هبط على روحه نوع من الضجر الذي لا يقاوم .نهض يحاول الخروج ، اصطدم في الظلمة بأحدهم، الذي مالبث أن سمع صوته وهو يقول :
ـ انتبه أيها السكير القذر !
هل ثمة من يخاطبه ،أم أن الصوت جاءه من الفيلم؟..
وجد نفسه خارج الصالة.  
فجأة انزلقت قدمه بسبب قشرة موز أو بصقة بلغم ، انطلقت من فم مصدور. أحس بيد تساعده على النهوض .كان يد بائع التذاكر في السينما. مشيا معا حتى الشارع.
ـ هل استدعي لك سيارة ؟
أومأ له بالإيجاب.
ساعده الشاب حتى باب التاكسي.
ـ إلى أين ؟
ـ إلى فندق الوطن.

* * *

 كان قد مرّ زمن طويل على آخر زيارة له لفندق الوطن. ولا يعلم ماالذي ذكره في تلك اللحظة بهذا الفندق ، الذي يمتاز بصالته الواسعة التي تقدم فيه مختلف المشروبات وأنواع من الطعام في جو من الود والألفة ، كانت تقبل زيارة حتى غير المقيمين في الفندق.
 نزل من السيارة على أمل أن يرى المتقاعد أبو إكرام وهو يسكن قريبا من الفندق، وكان قد جلس معه عدة مرات ، حيث كان يشكو له صعوبة الحياة بعد التقاعد ، وخوفه من العزلة بعد انتشار أبناءه الخمسة في الشتات.لكنه رغم ذلك كان دائم الترديد: لم يبق لي أحد هنا بعد وفاة زوجتي وسفر أبنائي ، ثم يضيف بألم :
ـ أصبح فندق الوطن ، وطني !
دخل صالة الفندق وما أن رأى النادل أبي يونان، حتى طلب بصوت مسموع :
ـ أبو يونان ، كأس فودكا من إيدك الحلوة !
فوجيء من النادل بإشارة تحذير، ثم يشير بإصبعه للوحة على جدار الصالة وبحروف كبيرة ( ممنوع تناول وبيع المشروبات الكحولية) ، ( ممنوع لعب الطاولة والورق)..
استغرب كثيرا من هذا التغيير الطارئ على الحياة في الصالة. في السابق لم تكن هناك الا ممنوعات قليلة ، كانت تبدو مضحكة وغبية ، خاصة وأن معظمها كان على وزن : (ممنوع البصاق) ،( ممنوع الغناء بأمر السيد مدير الأمن) ، ( ممنوع تغيير الكاسيت بأمر المدير)..وعندما ظهر جهاز الفيديو ، أضيف إلى قائمة الممنوعات (ممنوع وضع شريط فيديو في الجهاز بأمر الإدارة).
كل المطلوب لو كنت وحيدا أن تجلس وتشرب بصمت مثل مومياء إن لم يكن إلى جانبك من تثرثر معه.
ـ ماالذي حصل يا أبا يونان..انقلاب أم ثورة ؟!  
أجابه النادل وهو يزفر دخان سيكارته بسأم بالغ :
ـ لقد تغير صاحب الفندق ، ومعه تغير كل شيء ، وقد طلب مني الاستمرار في العمل حتى نهاية الشهر..
ثم واصل جملته التي لم تنته بسؤال مرير:
ـ أين سأجد عملا في هذا العمر ؟!.  
أحس بأن تغييرا ما طرأ على الزبائن .لم تكن الضحكات الجذلى منطلقة كعادتها من الصالة الكبيرة . استغرب عندما تناهى الى سمعه أحاديث الحلال والحرام ، وإرضاع الكبير ،والمفاخذة ، وعبارات عن الشيعة والسنة يطلقها رجال ذوو لحى، لم يرهم من قبل قط.
نظر بحيرة الى (أبو يونان) كمن يبحث عنده عن جواب. كانت وحدها الهمهمات ترتفع في حديث لا ينقطع. ترى ماذا حل بتلك الأغاني الجميلة التي يسبح فيها نهر دجلة، متغامزا مع الفرات ؟ .. أين صوت عفيفة اسكندر الذي كان ينزل كالندى على قلوب رواد صالة الفندق ، وهم في جلسة صفاء
مع خلانهم ، لترحل بهم الى اللحظات السعيدة والمترعة بالبهجة في حياتهم.
كانت الصالة التي طالما قهقهت ، واستمعت الى النكات ، وأشواق العشاق ، ثقيلة الظل تبدو غارقة  في نقاشات عقيمة متقطعة مع حماس أو لحظات غضب على وجوه أصحابها .. نظر الى وجه ( أبو يونان) فوجده واجما بعد أن وضع قدحا جديدا من الشاي أمامه. .
استغرب من وضعه. ما الذي يجبره على البقاء هنا، مادام سئما الى هذا الحد؟.. لمَ لا يغادر الفندق الذي بدأ بهويته الجديدة غريبا عليه؟!.. إذا كانت خيمة الضجر قد هبطت على روحه الى هذا الحد ، وهو الذي لايربطه علاقة وثيقة بالفندق ، فكيف الحال ياترى مع ( أبو إكرام) الذي كان لا يفارق صالة الفندق إلا للذهاب الى بيته بقصد النوم فقط ؟.. وجد نفسه يسأل ( أبو يونان):
ـ ترى ما أخبار صديقنا (أبو إكرام) ؟
سمع رده الذي أتاه كالهمس :
ـ لقد زارنا مرة واحدة ،بعد بيع الفندق الى صاحبه الجديد..وعندما لم يجد أحدا من أصحابه القدامى الذين كانوا يقاسمونه الثرثرة ولعب الطاولة وشرب الشاي ،والبيرة مع بداية حلول المساء قبل ذهابه الى البيت ، قال لي في زيارته الأخيرة  بعد أن رأى تغير وجه الفندق وروحه: " لقد فقدت آخر ملاذ لي ..فقدت وطني ، فندق الوطن ".
دخل أبو يونان ، الصالة الكبيرة وهو يحمل أقداحا من الشاي . سمع قرقرة الناركيلة ،وسعالا ، وكلاما لا ينتهي .. كانت وجوهم تشي وكأنهم يتحدثون عن أمر سري ، أو يتأمرون .
وجد نفسه يغادر فندق الوطن دون أن يودع (أبو يونان) الذي كان مشغولا في المطبخ بغسل الأقداح وإعداد النركيلات.  
أن أفضل شيء ينبغي القيام به هو الذهاب غدا لرؤية سباق العراك بين ديك تحسين بيك الذي عمت شهرته بين محبي الديوك قبل ان يخوض أي سباق ضد ديك مجيد القهوجي ، والذي هو من أشهر مربي الديوك في كركوك. فهو يعرف عن ظهر قلب الديكة الشرسة ، المغرمة بالعراك : هرات ، كرمنشاه، أورفه . ولو سألته عن مكان هذه المدن على الخارطة ، لما استدل عليها أبدأ. ومثلما يجوز الغش في كل شيء فيمكن إعطاء الديكة قبل العراك حبوبا منشطة ، والبعض من مدربي الديكة يضعون مرآة أمام الديك بحيث يعتقد أنه أمام منافس له فيروح يهجم على صورته في المرآة نقرا ورفسا.
كان الليل قد قطع مسافة طويلة ، بحيث ازدادت الأزقة الجانبية ظلاما على الرغم من النور البائس
الذي كان لا يكاد يضيء أسفل  أعمدة النور فيها. كان التعب قد تمكن منه ، وكان يود الوصول مسرعا الى بيته وفراشه الذي سينطرح عليه دون أن يخلع ملابسه .
أمام باب البيت ارتعب من وجود ديك ضخم ينتظره، وازداد رعبا حينما سمعه يحدثه قائلا :
ـ أنا ديك تحسين بيك !.. هل ستأتي غدا لرؤيتي؟  


                                                    12/1/2013  

                                        

9
صذيق العمر الفنان لطيف نعمان ، لعل مايميز كتاباتك مصداقيتها مهما كان موضوع النص ، وبسبب رهافة احاسيسك الجياشة فنصك الحالي
السيري ، يأتي مؤثرا تذكر القارئ بايام سوداء قضت على احلامنا و امانينا .. اشد على يدك بشوق ، منتظرا دائما جديدك

10
تسلط الحزب وتأليه الرئيس ،نبؤة تنبأ بها جورج أوريل
             
نصرت مردان

ولد أريك ارثر بلير الذي عرف فيما بعد باسم جورج أوريل عام 1903 بمنطقة البنغال الهندية. سافر منها إلى إنكلترة في الثامنة عمره ،وعاد إليها وهو في الثامنة عشرة. وأصبح منذ  تلك الفترة أهم معارضي الاستعمار البريطاني في الهند.لم يكتف بذلك،بل قام في المراحل التالية من عمره بزيارة العديد من الدول الأوربية للمشاركة في النشاطات المناهضة للاستعمار.
أحدث تطوعه للقتال في الحرب الأهلية الإسبانية تغييرات جوهرية في حياته ،حيث انضم إلى عضوية اتحاد العمال الماركسي ـ التروتسكي. لكن أوريل عاش أكبر خيباته عند قيام ستالين بمطاردة أنصار تروتسكي. وكما يذكر برتراند رسل ،إن حالة الكآبة الشديدة التي عاشها أوريل أدت إلى إصابته بمرض السل الرئوي،والى حالة الخيبة والتشاؤم التي طوقت حياته ،والتي عبر عنها بروايته الخالدة (1984)

تعززت شهرة أوريل في 1945 بعد نشر روايته (حقل الحيوانات) .لكنه شهرته الحقيقية تبدأ بعد مكوثه في المصحة بسبب إصابته بالسل كما أسلفنا،حيث كتب في هذه المرحلة روايته 1984 .

بطل الرواية وينستون يعمل موظفا في وزارة الشباب .مهمته تحريف التاريخ لدولة اوقيانوستا .حيث يقوم بتنظيم الصحف والإصدارات كل يوم وفق السياسة الإعلامية للدولة .
في الرواية يقوم رئيس النظام الذي لا يعرف أحد متى ظهر ،واستولى على السلطة ،وكم يبلغ من العمر،والذي يعرف باسم (الأخ الأكبر) بوضع شاشات في غرفة كل بيت ،حيث يراقب الجميع من خلالها . التفكير والمعرفة من الآثام التي لا تغتفر في هذه الدولة. كل هذا التسلط والتحكم في مصير المواطنين يحدث بسبب قبول ورضوخ الشعب لهذه الإجراءات التعسفية.

في رواية 1984 المستقبل مغيب، والماضي يتواجد مع المستقبل دائما. الدولة تعلن أعداء الأمس في الغد كحلفاء وأصدقاء لها، وكأنها لم تحاربها قط حتى الأمس القريب !
الشك والارتياب من كل شيء، وفي كل زمان ومكان.جميع المواطنين مدانون ومشكوك في ولائهم.الهدف الرئيسي للحزب الحاكم ،هو الجيل الجديد دائما. لذلك يخضع الشباب لدورات التثقيف السياسي التي تخدم مصلحة الحزب، والأخ الأكبر (رئيس الدولة).وضمن إعداد الشباب لهذه المهمة يتم إرغامهم بالترهيب وعادة بالترغيب بكتابة تقارير للحزب.لذلك لا يتوانى الصبية المنخرطين في دورات الإعداد الحزبي من كتابة التقارير عن والديهم أو حتى أقرب المقربين إليهم .

في الدولة التي تخيلها أوريل في 4198 ، يعمل  ونستون  وجوليا  كمراقبين لعمل الآلات الضخمة،  تطبع الكتب بكميات هائلة، عن مسيرة الحزب وحياة القائد. وتكتب المكائن والمطابع روايات عن الحزب وأيدلوجيته وثقافته باستمرار.
لا يجد ونستون وهو يشعر بالاشمئزاز ،من وسيلة للتنفيس عن غصبه المكبوت، إلا تسجيل انتقاداته وتنديده بالحزب وقوانينه وإجراءاته وزعيمه الأخ الأكبر على شكل ملاحظات سرية في دفتر صغير… ثم يتحول هذا الشعور بالرفض إلى رفض صريح حينما يبدأ بكتابة ملاحظاته أمام أجهزة المراقبة .
كما تختار جوليا خرق ممنوعات الحزب ،في ممارسات جنسية عديدة بهدف الانتقام من الحزب،لمجرد أن هذه الممارسات تدخل ضمن ممنوعاته.
يجد ونستون الذي يحصر رفضه في الكتابات والملاحظات الرافضة لممارسات الحزب،  وجوليا هي منطقة محرمة، يبدأ بها تمرده ،حيث يبدأ بينهما التقارب الإنساني النبيل الذي يرفض الوصاية على المشاعر الإنسانية. ولا تلبث أن تتحول العلاقة بينهما إلى حب جارف .حيث يختاران للقائهما سطح أحد الدكاكين في منطقة بائسة ،منسية في حي الفقراء .

وكما هو متوقع فان أجهزة النظام القمعية تعلم بما يقوم به العاشقان ،وتعتبر حبهما تحديا لأوامر الحزب.و يلجأ الحزب إلى قتل هذا الحب ليس بالتصفية الجسدية للعاشقين بل بإرغامهما على قتل هذا الحب . ويترك لهما الخيار في اختيار نهاية مجهولة لحبهما . ويقنع أوريل بأسلوبه الطافح بالحيوية والمعاناة ، بطل روايته ،ونستون  بالتنكر لهذا الحب .
في رواية اوريل (1984 ) يستسلم النور للظلام ، والحب إلى الهزيمة على يد الرعب والخوف والإرهاب.
يقول برتراند رسل (( لقد فقد أوريل بعد خيباته ومكابداته المتعددة تفاؤله بمصير البشرية ،وهو الأمر الذي منعه ليكون نبيا لعصرنا. ولكن من يستطيع أن يتهم أوريل بالمبالغة  ؟))

حقا ترى من يستطيع أن يشعر بالتفاؤل بالمستقبل بعد إنهائه لقراءة رواية (1984 ) لأوريل؟ أن  ما تنبأ به من مصير للعالم قبل أكثر من نصف قرن ، لا يزال حتى عام 2012  قدرا وكابوسا في واقعنا العربي البائس، المبتلي بالأنظمة القمعية .



11
استمعت بقراءة النص المكتوب باسلوب سلس ومطواع .. ولعل أجمك
مافي هذه القصة نهايتها المفاجئة والجميلة التي تدل على تمكن القاص
لطيف نعمان من أدوات السرد والقص .. وهو بذلك مرشح أن يكتب لنا
قصصا متألقة في توالي الأيام .. تحياتي في شخص القاص الى كل الأحبة
في عينكاوة .
 
           نصرت  مردان
              جنيف 

12
أدب / يوم الوزن
« في: 22:22 20/07/2012  »
                                                      

يوم الوزن



 
      نصرت مردان   




جاء اليوم المشؤوم وحط على الأرواح والنفوس كما يحط غراب أسود على أرض يباب ،فاشتعلت النفوس بالانتظار والترقب ، وحبس الجميع أنفاسهم. كي يمر اليوم الذي أسمته الحكومة بـ (يوم الوزن) ،والمفروض فيه أن يتخلص فيه الكل من كروشهم ليصلوا الى الوزن المثالي الذي حددته الحكومة في يوم الوزن العظيم لترشيق أجساد الموظفين المشمولين من وزراء وعمداء وأساتذة ورؤساء الجامعات وعسكريين  .
كان عقاب عدم الوصول الى الوزن المثالي الذي حددته الحكومة في المهلة المقررة  في لائحتها بالنسبة للمشمولين  بالقرار تنزيل الدرجة الوظيفية  ليصبح المدير العام مديرا وهلم جرا وصولا  إلى منصب لا شنة له ولا رنة . بالنسبة لنا كتدريسي الجامعة يتحول  الأستاذ الجامعي الى مدرس ،والمدرس الى مدرس مساعد ،والمدرس المساعد إلى باحث .كان آنذاك مدرسا بكلية الادارة  والاقتصاد بجامعة  صلاح الدين في أربيل .
في اليوم المشؤوم كان كل مشمول بالقرار يبحث عن مخرج، وعن حل ناجع لترشيق وزنه خلال المهلة المحددة.. حتى الوصفات الشعبية بدأ يلجأ اليها أساتذة مختصون في الفيزياء والكيمياء ،ومختصون في فلسفة ديكارت ،وفي تربية النخل ،وتربية الديك الهندي ،وحافظو ألفية ابن مالك ، وتهافت التهافت، ورفع وتائر الانتاج والتسويق ، ، وأساتذة العلاقات العامة ،والحاسوب ،والصحافة والإعلام.

                                                          #   #    #

كلما يحل هذا اليوم اللعين يزداد توترا.يدخن كثيرا وتتابع عليه فناجين القهوة وأقداح الشاي، رغم علمه مسبقا بأنني سيقضي الليلة أرقا أو يصحو على كابوس مزعج بعد إغفاءة قصيرة.
تلقى من أبو أسعد اتصالا تليفونيا في وقت مـتأخر من الليل. كان مثله أيضا يطارد الراحة وسكينة النفس والرأس. كان صوته مرآة نفسه القلقة في هذا الليل الغافي.
ـ ها أبو سومر ..شنو الأخبار ؟
نفث دخان سيكارته باتجاه التليفون:
ـ لقد أتيت على قعر زجاجة خل العنب ..معدتي تحترق ..اللعنة ..
ـ وأنا من أنصار أقراص الإسهال ..أحس كلما ذهبت إلى المرحاض أن أمعائي ستغادر جسدي ..
ـ على كل حال يبقى على  الموعد المشؤوم إلا ساعات ..
ـ حسب ميزاني في البيت ، فان وزني مطابق للوزن الرسمي المحدد لي ..
ـ أما أنا فقد تركت أمري إلى الله..
ـ ولماذا لم تشتر ميزانا ؟
ـ ثمة فرق بين الميزان العادي وميزان الحكومة .. الأول يخطيء على الأقل خمسة كيلوات ..
في الحقيقة الزيادة في وزنه في آخر قياس بيوم الوزن بلغت 600 غرام فقط ..ولا بد أن زجاجات الخل قد أذابت الشحوم التي اتخذت كرشه مستقرا لها منذ فترة طويلة.  




لم يكن الفجر قد حل ،عندما تسلل إلى الحمام الشعبي الواقع في شارع الاسكان . كان جميع رواد الحمام في مثل هذه الساعة من التدريسيين المشمولين بالقرار ، وفي ذهن كل منهم أمنية وحيدة : أن يتطابق وزنه مع الوزن المثالي المحدد لكل واحد منهم.
رغم قسوة الرجيم الذي مارسه الا انه كان يعاني  قلقا لا يهدأ ولا يستقر. الذين اختاروا الحمام  لتخفيف أوزانهم ، والذين اختاروا هذه الطريقة قبل الوزن ،كانوا على يقين بأن أجسادهم بعد الجلوس على حجر الحمام الذي يسمى (حجر جهنم ) ستفقد عدة كيلوات عن طريق التعرق الشديد بعد البقاء لأطول فترة ممكنة فوق (حجر جهنم).

#    #    #
كانت القاعة في الساعة المحددة للوزن مزدحمة بتدريسي جامعة صلاح الدين . في الكلية كان القليل من التدريسيين غير المشمولين بالوزن ،ينتظرون ،وعلى وجوههم البعض منهم ابتسامة استهزاء عند ذكر اسماء بعض المشمولين من زملائهم بالوزن :
ــ حتما أبو سومر سيفشل في الاختبار ،فقامته قصيرة لا تتناسب مع كرشه ّ!
ــ لكنني أعتقد أن الدكتور فتح الله .. سيجتاز الاختبار .

نفث الدكتور خالد  دخان سيكارته بعيدا ،وهو يحرك الملعقة في قعر قدح الشاي :
ــ  تراهن  على زجاجة ويسكي ؟
ــ ــ نعم أراهن بعد أن رأيت مدى التزامه بالوصفة التي كتبها له الطبيب للنحافة.. ألم تر وجهه المستدير وقد تحول من شدة النحول الى طبق صغير؟!
ـ وهل تعتقد أن رئيس القسم بكرشه الضخم سيفلح في هذا اليوم الذي ستضحك فيه وجوه، وتسود وجوه ؟  
علق الدكتور علاء الجالس ببدلته الزيتونية ونظارته المعتمة :
ـ يا أخي على الجميع من المشمولين بالوزن الاقتداء بالرفيق طه ياسين رمضان. هل رأيتم كيف تخلص من وزنه الزائد ، وبات رشيقا خلال فترة قصيرة . لقد كان أول من لبى نداء القيادة بقرار الترشيق..لماذا لا يقتدي الآخرون به ؟.
في الحقيقة كان هذا السؤال يدور في ذهن الجميع دون أن يجرأ واحد منهم على الإفصاح عنه. كيف أذاب
الرفيق بحيث  رشق كرشه الذي كان يبدو دائما محشورا عنوة في بنطاله ؟.. كان الجميع يعرفون الجواب ، لكنهم كانوا يفضلون السكوت الذي هو أثمن من الذهب في هذه الحالة.

                                                       #    #   #

كانت قناني الخل قد حفرت أمعاءه ـ وتركت بالتأكيد بصماتها على معدته التي باتت مرشحة  في أن تتحول في يوم ما إلى بيت الداء في جسمه.
عندما اقترب من الطبيب المسؤول عن قراءة جهاز الوزن ، كان أعضاء اللجنة المشرفة على تسجيل الوزن في سجلاتها على بعد أمتار من الجهاز. استجمع شجاعته.لحظتها بوجيب قلبه الأخذ بالارتفاع.  استطاع أن يقول بصوت يشبه الهمس :
ـ  أنا من طرف الدكتور عاصم ..
لم ينبس الطبيب بكلمة بل نظر الى وجهه بدقة وكأنه يريد أن يحفظ ملامحه. مجرد دقيقة كانت فاصلة بين أن يذكر الزيادة  في وزنه أو ينطق الكلمة السحرية (مطابق)..!
صعد على الجهاز ، وهو يحس بنبضات قلبه المذعور،وكأنه قلب طائر تائه  في  ليل البروق والعواصف .صعد وهو يردد مايحفظه من ضراعات  وأسماء الأئمة الأطهار.
كان  شبه غائب عن الوعي عندما وصلت الى سمعه الكلمة المعجزة : مطابــــــــــــــــق !
اكتسى وجهه الكئيب والعابس مسحة من ابتسامة رضا وسعادة. لم يعلم هل أن الحكمة  كانت في ذكر اسم صديقه الدكتور عاصم السحري ، أم ان الفضل في النتيجة تعود الى زجاجات الخل التي لا يتذكر عددها ،والتي تناولتها لشهور عدة قبل حلول اليوم الموعود.

#    #    #

في الكلية كان المدرسون غير المشمولين بيوم الوزن بانتظار العائدين.
سأله د.طارق المعروف بخبثه وتصيده للأخبار عن النتيجة ، أجابه بهدوء :
ــ مطابق والحمدلله ..  
نظر إليه بارتياب :
ــ  معقول ..؟! .. وكرشك هذا ؟.
قال له بلا مبالاة :
ـ مالك وكرشي .. المهم النتيجة .
ــ واسطة ؟ ..
ترك سؤاله دون جواب.
تلقى التهنئة من بعض زملائه ،وبعض طلبته وكأنه قد نجح في عبور نهر المانش ..
بدأت الألسنة تلوك ماحدث للبعض في يوم الوزن ، وقد استغرب كيف يصل القيل والقال والشائعات بهذا اليسر للمتعطشين للثرثرة وجلد ذات الآخرين.
ــ إليكم خبر الموسم : نجاح رئيس نقابة المعلمين بكرشه الاسطوري في الاختبار .
ــمستحيل ..
ـــ واسطة..! ، قال أحد الحاضرين .
تدخل آخر :
ــ  يا أخي اتق الله .. لقد تحول الرجل الى هيكل عظمي من جراء الرجيم القاسي الذي يمارسه منذ أشهر  ترك تناول الرز الذي كان يعتبره ملك الأكلات ، وجرب أنواع أقراص التنحيف ، حتى تلك التي تستعملها النساء للحصول على قد رشيق ..
وفعلا فقد تحول رئيس نقابة المعلمين وكأنه مصاب بمرض سري من شدة نحافته. كان خائفا في أن يفقد منصبه بسبب كرشه ، المنصب الذي كان يمنحه نوعا من الزهو ، والمكانة الهامة في دنيا الناس.
لم يكن قادرا على المشي بشكل طبيعي .قاده اثنان من زملائه صوب جهاز الوزن ،وهو يتصبب عرقا ، وكأنه لا يستطيع بقوة سرية من عدم التحديق في وجه قارئ الأوزان بدلا من لوحة الأرقام .بعد زمن طويل بلغ ما يقارب الدهر سمع صوتا عميقا ،وهو ينطق بالكلمة السحرية : مطابق !
فوقع على أثرها فجأة مغشيا عليه وهو يردد قبل أن يسقط  : الحمد لله !

قبل يومين من الموعد المقرر للوزن أشيع بأن رئيس قسم الإدارة قد أجرى عملية جراحية مفاجئة. وكان  هو أيضا أحد المهمومين بزيادة الوزن ، ويزداد قلقا كلما اقترب اليوم المشؤوم.
عندما وصل ليزوره ويهنئه بنجاح العملية ، شاهد جمعا من زملائه يهنئونه بنجاح العملية المفاجئة ،واستئصال الزائدة الدودية.
ــ حمدالله على السلامة يا دكتور..
ــ حمد لله لأنك تداركت الأمر في حينه يا دكتور ، قبل أن تنفجر الزائدة الدودية وتؤدي الى مضاعفات لا تحمد عقباها.
في الخروج خرج جميع الزوار في آن واحد، تاركين الفرصة لرئيس القسم لكي يريح جسده المنهك من آثار العملية المفاجئة. ما أن تقدموا خطوات مبتعدين حتى أخذوا يضحكون ، معلقين على رئيس القسم بأنه ثعلب مكّار ، قابل البلاء قبل وقوعه خشية  أن يفقد  منصبه  كرئيس قسم بتنزيله درجة وظيفية بسبب زيادة الوزن ، بعد أن فشل في إزالة شحومه الزائدة.
صرخ زميله في الليل البهيم :
ــ أحلق شاربي ..إذا لم يكن قد أجرى عملية جراحية والتي بسببها تغيب عن يوم الوزن بإجازة مرضية .
ــ ولكن ماذا سيفعل بعد ستة أشهر حينما يعاد اختبار الأوزان ثانية ..؟
ضحك أحدهم بلا مبالاة :
ــ ستة أشهر من الزمن فترة طويلة. من يدري ماالذي سيحصل ، وما الذي سيستجد من أحداث؟
غابوا وغاب معهم في ظلمة الليل.

بعد أشهر احتل العراق ، الكويت ..فطمرت أحداثها الجسام ، مكابدات يوم الوزن والترشيق ،وقضت عليه. . من يومها لم يعد أحد في العراق معاديا لكرشه .


                                               30/ 6/ 2012





13
  وداعا د. خوشابة يوخنا  !


المرحوم الراحل الدكتور خوشابة يوخنا مع أفراد أسرته .
 

                                                                                                                       نصرت مردان

ربما كلمة الوداع هذه ، تأتي متأخرة بعض الشيء لأن صديقي الحبيب والعزيز دائما الدكتور خوشابة يوخنا قد غادرنا مأسوفا عليه في 29 / 10/ 2010 بمدينة كاليفورنيا ، وعذري في ذلك إنني لم أعرف بنبأ رحيله المفجع إلا مؤخرا ، على أثر اتصال شقيقه الأصغر أخيقار ( أخّو ) المقيم في كندا بي قبل أيام.
كما يرحل الطيبون والشرفاء عن دنيانا ، رحل العزيز خوشابة في أحضان الغربة التي ابتلعته رغما عنه. رحل طائر ( عرفة) مبكرا طاويا بين جناحيه سنوات من المسرة والخيبة والانكسارات والوجع الأليم.
رحل بصمت بعد أن خذله قلبه بعد أن حمل لسنوات طويلة من مهنته كمختص في أمراض القلب ، الشفاء والأمل والتفاؤل إلى قلوب الآخرين ، واشتعاله كشمعة أمل لهم  في الليل العراقي الطويل.
لو سألت الآن شوارع جمهوريتنا الحبيبة ( جمهورية عرفة) وكل أزقتها وأشجارها وبيوتها الأليفة المتعانقة ليلا ونهارا عن ابنها الحبيب خوشابة يوخنا ، ماذا ستقول ؟ غير الحديث عن ألفة أبنائها ومحبيها . ستتحدث طويلا عن تلك السنوات الدافئة التي جمعتنا في فردوس الحب والصداقات الجميلة ، تلك السنوات التي همسنا فيها للأشجار وللريح والبيوت وأشجار الكالبتوس ومياه ( الكهريز) البراقة الصافية وأسماكها الوديعة التي كانت تنظر لنا بإلفة ومودة أسماء حبيباتنا.
بدأت صداقتي مع الراحل العزيز خوشابة  منذ أن بدأنا نسكن في ( جمهورية عرفة ) قبل أكثر من نصف قرن لم ينقطع بيننا التواصل إلا برحيله لدراسة الطب في جيكوسلوفاكيا ، وانتقالي للدراسة في تركيا. وقد استمرت مراسلتي معه لسنوات . عند عودتي للعراق كنت دائم السؤال عنه ، وكان عند صديقي العزيز فرج نعمان المقيم في عينكاوة  الخبر اليقين عنه وعن كافة أصدقائي من المسيحيين الأعزاء الذي تفرقوا في الشتات. حيث أخبرني إن العزيز خوشابة يعمل طبيب متخصص في أمراض القلب في النجف أو كربلاء كما أتذكر ، وأنه قام بإجراء عملية قسطرة لابنته. 
علمتنا ( جمهورية عرفة) معنى النبل والتسامح والمحبة بلا حدود والود الجميل الذي يتسامى فوق سرطان الطائفية والمذهبية الذي يخيم على سماء الوطن مثل غراب أسود كريه .
لم نهتم يوما بلغة الآخر وديانته ومذهبه أو قوميته فالصداقة كانت فوق كل الاعتبارات ، لذلك كل سكان هذه الجمهورية الغالية كانوا يتزاورن في الأعياد الدينية والمناسبات السعيدة.
كان باب بيت عائلة الراحل خوشابة مفتوحا لأصدقائه ، وكان والده ووالدته وبقية أسرته يقابلون تلك الزيارات بروح عالية من كرم الضيافة ومن التقدير والاحترام . ولم يكن من الغريب في هذه الحالة ، أن يعكس خوشابة في صداقاته تلك المعاني الإنسانية التي تربى عليها في كنف والديه .
كان ودودا وحميميا ، لا تكاد البسمة  تفارق شفتيه ، شغوفا بالرياضة . ولم  تخلو أحاديثنا في الأمسيات
في الشوارع أو قرب حوانيت ( الكانتين) ، وبالضبط أمام دكان العم عثمان بائع الخضراورات والفواكه في النهار، والذي كان يتحول في الليل إلى محل لشرب المرطبات وتناول الهمبركر. نتحدث عن السياسة والرياضة والسينما، وكانت الحصة الكبرى في أحاديثنا الهامسة، حديثنا عن  افتناننا الباهر ببعض فتيات الحي من الآشوريات الفاتنات اللاتي كن يعشعشن في قلوبنا وأحاسيسنا ، كما يعشعش طائر جميل في عشه الدافيء.
كنت ومعي الصديق العزيز المرحوم موفق ناظم توفيق ، الذي غيبه الموت في الحرب العراقية ـ الإيرانية ، والدكتور عبدالأمير عسكر من أقرب أصدقاء العزيز خوشابة ، نحيط به كما يحيط السوار بالمعصم. كان  يغني لنا أغنية عبدالحليم حافظ التي اشتهرت في الزمن الجميل ( لا تكذبي ) ، وكنت أرد عليه بأغنية فريد الأطرش ( عدت يا يوم مولدي ). كنا نتبادل أسرارنا العاطفية ، ونلقي نكاتا نضحك لها ، لا تزال تحفظها شوارع ( جمهورية عرفة) ، ونتحدث عن أحلامنا التي كنا على يقين بأنها ستتحقق لا محال في المستقبل . 
رغم مرور مايقارب نصف قرن على سحر تلك الصداقات ، لا تزال صورة العزيز خوشابة براقة ، ساطعة  في ذاكرتي لا مكان فيها للموت والرحيل المفجع . بعيدة عن يد الزمن الغادر .
عندما تلقيت نبأ رحيله من شقيقه أخيقار ( أخّو) امتلأت ذاكرتي بالبروق ، وحملت لي العواصف شذرات من سنوات الصداقة التي جمعتني معه .
عزائي لعائلته ولأسرته الكريمة بالصبر والسلوان على فراقه الأليم ، ولتظلله في ليل الرقدة الأبدية رحمات اليسوع.



14
في عيد ميلاد الشاعر مؤيد الراوي،
       تقاسيم على ذاكرة زمن مضى



أنت ثمل ..
وأنا مجنون
لا أحد في الجوار
يرينا الطريق إلى المنزل

               ( مولانا جلال الدين الرومي )

                                                           نصرت مردان     


يقينا لا تعلم بأننا كنا نستقبل نفس النهار ، ونمضي تحت نفس النجوم المعلقة كإيقونات مضيئة في السماء، في حي ( عرفة ) المضاءة بضوء أحمر مشتعل ، هو ظلال ( بابا كركر) القانية التي كانت تهبط على أسطح منازلنا كل مساء في ( المكان الأول) الذي بحت بسيرته التي توازت مع سيرتك الشخصية في كركوك.
لم نكن ننتمي معا إلى حي (عرفة ) فحسب، بل كنا نسكن نفس الزقاق في البيوت المخصصة للعاملين في شركة النفط. كان بيننا ثلاثة عشر بيتا فقط، يمتد مثل حرف (L). رغم ذلك كان موقع بيتنا يسمح لي رؤية البيت الذي تقطنه.  كنت أعرفك حق المعرفة، بينما أنت لم تعرفني قط. لكم طرقت بابكم ، ولكم فتحت لي الباب بوسامتك التي كانت مثار إعجاب المراهقات الأثوريات.
كنت أطرق باب بيتكم للسؤال عن شقيقك صديقي (فؤاد) الذي كان يماثلني في العمر. ولكم تشاجرت معه أثناء لعبة كرة القدم ، وكم مرة قتلته مع سبق الإصرار والترصد في الأفلام التي كنا نشترك في تمثيلها ، وكانت دائما أفلام عن صراع الكاوبوي مع الهنود الحمر. حيث كنت أعد السيناريو دائما وأموت في نهاية الفيلم، وعندما كنت أسقط على الأرض جثة هامدة لم تكن تفوتني فرصة أن اعزف بفمي وأنا ميت موسيقى تصويرية مناسبة ومؤثرة، لزيادة تأثير الفيلم على جمهورنا الافتراضي.
كنت أراك وسيما، فارع الطول، تقف أمام الباب مع مغرمة شقراء من بنات الجيران، أو تجلس في حديقة المنزل الخلفية أو تقرا بينما والدك يسقي الزهور فيها.
في نفس الحي كنتُ زميل (جورج دمو) شقيق جان دمو حيث كانوا يسكنون قريبا منا. وكنت مع جورج في نفس المدرسة ( مدرسة الخالدية الابتدائية للبنين). ومن محاسن الصدف أن يزاملني في نفس المدرسة ( أنور بولص) شقيق الشاعر الراحل سركون بولص ، وأن يكون المعلم الذي يقوم بتدريسنا مادة (العلوم)  القاص المرحوم يوسف الحيدري.
كنت محاطا  وبشكل لا إرادي منذ طفولتي ب(جماعة كركوك) الثقافية. دون أن أعي بان مثل هذا الارتباط غير الواعي سيزيد من شغفي فيما بعد بمتابعة كل تحركات ونشاطات أفراد هذه المجموعة التي تعتبر احد أهم روادها ، بعد أن تعرفت على بعضهم فيما بعد مثل : جان دمو ، جليل القيسي ، يوسف الحيدري، فاضل العزاوي والمرحوم قحطان الهرمزي. دون أن يسعفني الحظ في سنواتي التي تحول فيها الهم الثقافي إلى الهم الرئيسي في حياتي بل محورها الوحيد  في التعرف عليك وعلى سركون بولص و أنور الغساني ، ولعل التفسير الوحيد ذلك هو رحيلكم من كركوك أولا ومن العراق فيما بعد. رغم أن الحظ حالفني في أن أتبادل حديثا هاتفيا قبل فترة ليست طويلة مع الشاعر الراحل أنور الغساني.
من يقرأ ( المكان الأول) يشعر كم أن مدينتك الطيبة تركت بأحداثها وشخصياتها وجغرافيتها من أثر في ذاكرتك الخصبة. ومن الغريب حقا أن أي شاعر أو مثقف من الأجيال الثقافية المتعاقبة في كركوك مهما بلغ طيشه ونزقه لم يحاول أن يشكك أو يقلل من قيمة منجزكم الثقافي والإبداعي . بل ظل دائما يحتفظ بقدر كبير من الإعجاب والتقدير تجاهكم.
 ثمة حالة تواصل غريبة تستحق الوقوف عندها بالتحليل والتفسير لمعرفة مبررات هذا الموقف من قبل مثقفي كركوك  بشكل خاص تجاه (جماعة كركوك). لربما لأنهم يعتبرونكم جزءا مضيئا من التاريخ الإنساني والثقافي والإبداعي لهذه المدينة التي حملتم اسمها أو ظل لصيقا بكم في منافيكم والبلدان التي هاجرتم إليها ، ولم تستطع كل المراحل المأساوية التي مرت بالعراق وعلى كركوك بالذات من طمسها أو إلغائها.
أعلم ياسيدي بأنه قد كٌتب الكثير عنك وعن منجزك الشعري ، وبلمسة بسيطة يمكن الوقوف عبر الانترنيت على كل ماقاله عنك الكتاب والنقاد والمثقفون ، لكنني أود هنا أن أنقل لك ماذكره عنك ابن مدينتك  الشاعر المبدع فاروق مصطفى في كتابه (هديل الغمام بين يدي كركوك) لأنه فيه عودة إلى ( المكان الأول) :
" .. كان الشاعر "مؤيد الراوي" ينفرد بالجلوس في مقهى "المجيدية" كنا نذهب إليه ونجالسه ونسمعه أشعارنا وبعد الاستماع يشير علينا بملاحظاته برفع هذا السطر وتقديم هذه الكلمة ويدلنا على إيقاع الكلمات وعلى موسيقاها وكيف تتوصل إلى تفجيرها، ومؤيد في مقدمة شعراء كركوك الحداثويين، كان جمرة من الإبداع وهو يضم إلى موهبته الشعرية مواهب أخرى في الرسم والخط، حتى ان إحدى تخطيطاته في الرسم احتلت الغلاف الأخير من احد أعداد مجلة "شعر" البيروتية، ومن مكانه في المقهى كان يراقب ويتأمل صغار السنونو وهي تطل بأعناقها الصلعاء من أعشاشها في سقائف المقهى، ولن أنسى هذا الإنسان عاشق السنونوات الحالمات الذي جسر أحلامه فسالت على برار واسعة.
(...) ومرت الأعوام ففي بداية الثمانينات هدمت البناية القديمة لمقهى المجيدية وأقيم مكانها بناء جديد ولكن كلما أمر من أمام المقهى ، اسمع صوت الصديق مؤيد ينساب من داخله وكأنه يدعوني وصحبي إلى منادمةٍ شعرية لم تبدأ بعد الا إننا سكرنا بصهبائها منذ أعوام عديدة احترقت في جنونات تقادم الأزمنة الخائبة. ". 
لقد تركت غناءك ياسيدي عند حافات  المدينة ، وتركت أصداءك لتزهر كزهرة برية في ( دامر باش) و( تعليم تبة) ، لتعبر القلعة ونهر ( الخاصة) متدثرا بالغيوم المهاجرة . تركت المدينة كنهر محمل بالأحزان وغوايات الذكرى لتلقي على الرياح ذكريات تأبى إلا أن تظل  كطائر يلقي بظل شفيف من جناحيه على كاهل ( قلعة كركوك) المثقلة بالأحزان  وبالكآبات بعد أن أضاعت أحياءها وأحباءها تحت ضربات معول الغدر .
ترى جنودا يلبسون دروع الماضي
يبنون القلاع ثم يهدمون أسوارها
مثقلين بالحديد تتلصص عليهم. يحرثون حدائق (الماز)
وفي الفجر خوفا من الذئاب , يصرخ الموتى على تلة (دامر باش) .

في ذكرى ميلادك النهر سيتبعك، والنهار سيبحث عنك، وكتابك سيظل مفتوحا. وتلك الأشجار التي رسمتها في دفاترك المنسية في كركوك ستظل وارفة وظليلة.
تستطيع الآن ياسيدي أن تهبط نحو أشجار الذاكرة ، فنحن نعد لك وليمة يحضرها كل من أحببتهم واحبوك .
 في عيد ميلادك لن يغيب صوتك عن أزقات وشوارع وأحياء كل المدن التي حللت فيها،  ونادمت في لياليها أحبائك وخلانك في يوم ما. كل عام وأنت بخير .   

                                                             



هامش :
   

                قصائد برقية إلى شعراء مدينتي
                                 
                                          نصرت مردان


سركون بولص
               في شارع (تكساس)*
               أخلدت البيوت للنوم
               أغمضت الشرفات عينيها
               بعد رحيلك
               لم تقل (ماريا) قط:
              (( پشينه))               
               لمن طرح عليها السلام قائلا:
               ((پشلا مالاخ ))**

مؤيد الراوي                  
            وحدها شجرة الكالبتوس
            في (عرفة)*
           تصر على ذكراك
            لا تزال تتنفس
                 كما كانت
                    أمام الدار
                    قبل رحيلك .
        شاخ تلاميذك
     في مدرسة المأمونية
          ولم يتعلموا الرسم بعد!

جان دمو
       عاتبة عليك حانات بغداد
       والصعاليك الذين
       غيبوا الزمان والمكان
       لا يزالون في
       الحانات الممهورة
       بالشمع الأحمر
       يشربون نخبك بإصرار!

فاضل العزاوي

اغتالوا (القلعة )*
القوا من أحضانها
  كل الأحياء التي تعرفك
  صمت (حميد نايلون)
وهجر (هجري ده ده ) الشعر*
صارت (القلعة ) عارية
غادرها الأبناء عنوة
الواحد تلو الآخر
 
 اللعنة
ما الذي أبقوه
للشاعر لو عاد إلى المدينة !

                                       نصرت مردان

                                     2/1/2002         
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شارع تكساس ،شارع في كركوك يسكنه المسيحيون.
** السلام ورده في اللغة الآشورية.
* عرفة ،اسم حي في كركوك ،كان يسكنه الشاعر مؤيد الراوي.
*قلعة كركوك .حميد نايلون والشاعر التركماني (هجري ده ده) من شخصيات رواية (آخر الملائكة) للعزاوي.
   


         
   

15
ما الذي أفعله في مدينة أنتِ لست فيها ؟
[/color]





نصرت مردان


إلى الصديق ـ الأخ الفنان لطيف نعمان ، ثانية ، مع بالغ الود.   


ما الذي أفعله في مدينة أنتِ لستِ فيها ، حتى لو كانت نهاراته أليفة ،ونهره يمشي في مجراه كتلميذ مهذب في طريقه إلى المدرسة ؟
ما الذي افعله في مدينة ،يفتشون في بواباتها عنكِ في قلبي كمنشور سري ، ويمدون أيديهم إلى طفولتي المستقرة في أعمق نقطة من ذاتي ؟
ما الذي أفعله في مدينة ، حياتي فيها مرتبط بصك غفران أو إنصاف همجي لم يعد في قلبه مكانا للحب ؟
ما الذي أفعله في مدينة لا تنتظريني في غرف أحد فنادقها ، تنتظريني بلهفة بعد سنوات الفراق القسري ؟ .. ما الذي أفعله في مدينة لا تطلين منها على وحدتي كقمر منير في الليل ، وكشمس الضحى في ساحاتها وشوارعها ؟
ما الذي افعله في مدينة جرفوا فيها كل أحلامي ، وألقوا بقصيدتي الأولى في صندوق النفايات ، مدينة ودعتني شابا ، وتنتظر إيابي كهلا محطم الأحلام ؟
ما الذي افعله في مدينة مات فيها الأصدقاء والشعراء ، وأصبح فيها آخرون على مشارف النهاية ؟
ما الذي افعله في مدينة ألبسوك فيها الحجاب ، وغطوا نور عينيك الجميلتين بالظلام ؟
ما الذي أفعله في مدينة يفتح فيها لي باب بيتي ، غريب ، لم أره ولم يرني ، محتلا كل أركان الغرفة التي قبلتك فيها أول مرة ، ونحن نرتعش من اللهفة ، بعد لقاء شفتينا في لقاء فيه كل سذاجة القبلة الأولى ، ظل فيه القلب يهفو وينبض وينظر إلى الحياة من خلف ستار وردي . غرفة تعاهدنا فيها على الوفاء ، ورددنا لبعضنا بإخلاص وهمس وقبل " زوجتك نفسي ..وأنا  قبلت منكِ الزواج " ؟
كيف أفهم هذا الغريب ،أن أبي الطيب كان يجلس وحيدا في هذه الصالة ويستمع إلى أخبار العالم من الراديو ؟
كيف افهمه أن شجرة التوت التي يقف تحتها ، غرستها بيدي ، واحتضنتك في ظلها ، في باحة بيتنا في نهار تمنيت أن لا ينتهي أبدا ؟
ماذا أفعل في مدينة ، تمر من سمائها الطائرات بدل أسراب السنونو ، وتمتليء  شوارعها التي طالما ذرعناها معا ،  بالجثث ، ويعشش في زواياها الخوف والموت ؟
ماذا أفعل في مدينة تغتال الشعر والشعراء ، والحب والمحبين ، مدينة تمنع تجوال العشاق ، وتمنع الرغبة واللهفة ، مدينة تخاف فيها العصافير من البشر ، والبشر من البشر ؟
ما الذي افعله في مدينة أنتِ لست فيها ؟

 2/6/ 2006[/b]

16
                              حكاية صورة
                                                 نصرت مردان
إلى الصديق المخرج لطيف نعمان
[/color]
صدى أيام كان شاهدا عليها .

صورة عليها تاريخ 28/1/1972 ، تجمع ثلاثة شبان يجلسون في شرفة كازينو (النصر) المعروفة في كركوك ،  ينظرون إلى عدسة المصور مبتسمين . يطل من عيونهم التفاؤل والأمل  بالمستقبل .
 أحد الموجودين في الصورة هو أنا . أما الآخرين فهما صديقا العمر المرحومين موفق ناظم وداوود زيا .
كنا مهووسين بالجمال والفن والمسرح والأدب . نقضي ساعات طوال لمناقشة فيلم سينمائي شاهدناه في السينما أو في التلفزيون . كنا نؤمن بصدق أن العدالة التي نحلم بها سيتحقق يوما ما . وأن القصيدة ستصبح بمعزة الخبز للبشر . وأن الأشرار سوف يهزمون لا محالة أمام قوى الخير والمحبة .
في هذا التاريخ كنت استعد للسفر للدراسة في تركيا مع مجموعة من الأصدقاء . صدرت الموافقة الأمنية للجميع ما عداي . وكلما كنت أراجع للسؤال عن مصير طلبي ، كان الجواب لا يتغير : تعال بعد أسبوع !
ولم تنته هذه الأسابيع . ولم يكن يسمح بالمراجعة إلا من شباك غرفة صغير. أما الدخول إلى مبنى الأمن لمتابعة الموضوع فأنه كما يقول المثل كان : من سابع المستحيلات .
أعيتني الحيلة وبدأت خيبة الأمل تنتابني إلى أن أشار علي أصدقائي أن اطرح الموضوع على احد الأشخاص من الذين كانوا يعملون في دائرة الأمن ، وكان يسكن منطقتنا ( عرفة ) . بعد مفاتحته ، رافقني إلى مبنى مديرية أمن كركوك . أدخلني غرفة كان فيها عدة أشخاص ، وقد بدأوا باستفزازي  قائلين : لماذا أحرقت مدرسة ثانوية كركوك ؟
ثم انفجروا ضاحكين حينما رأوا في وجهي علامات الدهشة والاستغراب . خرجت من المبنى غاضبا . وأخذت أجتر ألآمي طويلا . ترى لماذا يماطلون معي ؟ فأنا غير منتمي لأي حزب ، وليس لي أي نشاط غير الأدب .
أشار علي البعض أن اكتب رسالة إلى مدير أمن كركوك أشرح فيه حالتي ، وأطلب مقابلته . بعد فترة أتاني الجواب وذهبت بقلب متوجس . ولم يكن في الغرفة مدير الأمن بل مساعده . ذكرت له أن زملائي ، راجعوا المديرية معي في نفس اليوم قد حصلوا على الموافقة بينما أنا لا أزال انتظر .
 نظر إلي طويلا ثم مد يده إلى اضبارة أمامه قائلا :
ـ أنت كاتب سياسي !
استغربت مما قاله فقلت ، أنا قاص وكاتب مسرحي .
أخرج ورقة من أمامه واخذ يهزها أمامي بعصبية :
ــ ما هذا إذن ؟!
تمعنت ، كانت الورقة التي في يده رسالة بخط يدي ، كنت بعثتها قبل أشهر إلى مجلة ( الصياد ) اللبنانية
ردا على بيان أصدرته ( حركة التقدميين التركمان ) ، وهي حركة اصطنعها نظام البعث البائد من بعض التقدميين لبث الفرقة بين التركمان  ! .. وكان أيسر طريقة أمام هذه الحركة كما يفعل البعض الآن ، هو أن تهاجم هذه الحركة التقدمية التركمان ، وتنعتهم بالرجعية وأعداء التقدم ، وتصفهم بأنهم يعارضون قيام الحكومة بمنح الأخوة الأكراد الحكم الذاتي . وكنت قد أرسلت رسالة إلى المجلة ، أنفي فيها صفة الرجعية والعمالة التي الصقها الحركة التقدمية جدا بالتركمان ، واؤكد أن منح الحكم الذاتي للإخوة الأكراد خطوة ايجابية لا يمكن لأي تركماني أن يعارضها على عكس ما تدعيه الحركة المذكورة ، وان أعضاء الحركة يحاولون الاصطياد في الماء العكر .
قلت لمعاون مدير الأمن :
ــ الرسالة أمامك وليس فيها ما يسيء إلى الحكومة ، بل بالعكس فإنها تشيد بقرار منح الأكراد الحكم الذاتي.
نظر إلي تارة والى رسالتي التي تم القبض عليها قبل وصولها إلى مجلة (الصياد) تارة أخرى ، ثم قال بصوت  أجش :
ــ اذهب إلى قسم الجوازات وخذ جوازك .
فانطلقت كالطير إلى دائرة الجوازات ، وكانت ملاصقة لدائرة الأمن آنذاك وأنا غير مصدق .
سافرت لكنني ظللت على صلة وثيقة بالوطن وبصديقي العزيزين الآشوري داوود زيا ، والعزيز موفق ناظم ، شقيق الدكتور صبحي ناظم ، وأبن أخت الأستاذ فاضل الصالحي رئيس بلدية كركوك الأسبق .
في سنوات الجمر والخراب والدمار قتل موفق الذي كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه حتى في اشد اللحظات حزنا وكآبة ، موفق الذي كان يحب النساء الجميلات والمسرح والحياة وكركوك ، قتل  في بدايات  الحرب الإيرانية ، ولم  يعثر على جثته حتى الآن .
كما مات قبل عام داوود زيا بعد ان أصيب بسرطان في المخ بمنفاه السويدي ، داوود الذي تخرج من أكاديمية الفنون المسرحية كمخرج ، والذي  انبهر بالمسرح بعد ان قام بدور (الفدائي ) في مسرحيتي (الناقوس )  .. وكنا نخطط أن اكتب أنا وأن يخرج هو مسرحياتي . هو أيضا تشرد لسنوات طويلة عند سنوات دراستي ، في ايطاليا بعد أن اضطر لمغادرة العراق  ، ثم تركها ليعيش حتى موته كلاجيء سياسي في السويد.
لم يبق مما كانوا في الصورة غيري . لا أزال أتذكر بأسى ، أيامي مع صديقي العمر موفق وداوود . أحاول ان أعيش فيما تبقى من حياتي بشرف ، في عالم فقد كل إحساسه بالجمال والحب والإنسانية ، أحاول ان لا أفقد حتى آخر لحظات حياتي العالم الذي خلقته لنفسي . العالم الذي  لا يسع إلا للجمال والشعر والأدب والكلمة الطيبة والصدق في زمن الكذب والدجل والزيف والخيانة وسطوة الأقوياء[/b]

صفحات: [1]