يوم الوزن
نصرت مردان
جاء اليوم المشؤوم وحط على الأرواح والنفوس كما يحط غراب أسود على أرض يباب ،فاشتعلت النفوس بالانتظار والترقب ، وحبس الجميع أنفاسهم. كي يمر اليوم الذي أسمته الحكومة بـ (يوم الوزن) ،والمفروض فيه أن يتخلص فيه الكل من كروشهم ليصلوا الى الوزن المثالي الذي حددته الحكومة في يوم الوزن العظيم لترشيق أجساد الموظفين المشمولين من وزراء وعمداء وأساتذة ورؤساء الجامعات وعسكريين .
كان عقاب عدم الوصول الى الوزن المثالي الذي حددته الحكومة في المهلة المقررة في لائحتها بالنسبة للمشمولين بالقرار تنزيل الدرجة الوظيفية ليصبح المدير العام مديرا وهلم جرا وصولا إلى منصب لا شنة له ولا رنة . بالنسبة لنا كتدريسي الجامعة يتحول الأستاذ الجامعي الى مدرس ،والمدرس الى مدرس مساعد ،والمدرس المساعد إلى باحث .كان آنذاك مدرسا بكلية الادارة والاقتصاد بجامعة صلاح الدين في أربيل .
في اليوم المشؤوم كان كل مشمول بالقرار يبحث عن مخرج، وعن حل ناجع لترشيق وزنه خلال المهلة المحددة.. حتى الوصفات الشعبية بدأ يلجأ اليها أساتذة مختصون في الفيزياء والكيمياء ،ومختصون في فلسفة ديكارت ،وفي تربية النخل ،وتربية الديك الهندي ،وحافظو ألفية ابن مالك ، وتهافت التهافت، ورفع وتائر الانتاج والتسويق ، ، وأساتذة العلاقات العامة ،والحاسوب ،والصحافة والإعلام.
# # #
كلما يحل هذا اليوم اللعين يزداد توترا.يدخن كثيرا وتتابع عليه فناجين القهوة وأقداح الشاي، رغم علمه مسبقا بأنني سيقضي الليلة أرقا أو يصحو على كابوس مزعج بعد إغفاءة قصيرة.
تلقى من أبو أسعد اتصالا تليفونيا في وقت مـتأخر من الليل. كان مثله أيضا يطارد الراحة وسكينة النفس والرأس. كان صوته مرآة نفسه القلقة في هذا الليل الغافي.
ـ ها أبو سومر ..شنو الأخبار ؟
نفث دخان سيكارته باتجاه التليفون:
ـ لقد أتيت على قعر زجاجة خل العنب ..معدتي تحترق ..اللعنة ..
ـ وأنا من أنصار أقراص الإسهال ..أحس كلما ذهبت إلى المرحاض أن أمعائي ستغادر جسدي ..
ـ على كل حال يبقى على الموعد المشؤوم إلا ساعات ..
ـ حسب ميزاني في البيت ، فان وزني مطابق للوزن الرسمي المحدد لي ..
ـ أما أنا فقد تركت أمري إلى الله..
ـ ولماذا لم تشتر ميزانا ؟
ـ ثمة فرق بين الميزان العادي وميزان الحكومة .. الأول يخطيء على الأقل خمسة كيلوات ..
في الحقيقة الزيادة في وزنه في آخر قياس بيوم الوزن بلغت 600 غرام فقط ..ولا بد أن زجاجات الخل قد أذابت الشحوم التي اتخذت كرشه مستقرا لها منذ فترة طويلة.
لم يكن الفجر قد حل ،عندما تسلل إلى الحمام الشعبي الواقع في شارع الاسكان . كان جميع رواد الحمام في مثل هذه الساعة من التدريسيين المشمولين بالقرار ، وفي ذهن كل منهم أمنية وحيدة : أن يتطابق وزنه مع الوزن المثالي المحدد لكل واحد منهم.
رغم قسوة الرجيم الذي مارسه الا انه كان يعاني قلقا لا يهدأ ولا يستقر. الذين اختاروا الحمام لتخفيف أوزانهم ، والذين اختاروا هذه الطريقة قبل الوزن ،كانوا على يقين بأن أجسادهم بعد الجلوس على حجر الحمام الذي يسمى (حجر جهنم ) ستفقد عدة كيلوات عن طريق التعرق الشديد بعد البقاء لأطول فترة ممكنة فوق (حجر جهنم).
# # #
كانت القاعة في الساعة المحددة للوزن مزدحمة بتدريسي جامعة صلاح الدين . في الكلية كان القليل من التدريسيين غير المشمولين بالوزن ،ينتظرون ،وعلى وجوههم البعض منهم ابتسامة استهزاء عند ذكر اسماء بعض المشمولين من زملائهم بالوزن :
ــ حتما أبو سومر سيفشل في الاختبار ،فقامته قصيرة لا تتناسب مع كرشه ّ!
ــ لكنني أعتقد أن الدكتور فتح الله .. سيجتاز الاختبار .
نفث الدكتور خالد دخان سيكارته بعيدا ،وهو يحرك الملعقة في قعر قدح الشاي :
ــ تراهن على زجاجة ويسكي ؟
ــ ــ نعم أراهن بعد أن رأيت مدى التزامه بالوصفة التي كتبها له الطبيب للنحافة.. ألم تر وجهه المستدير وقد تحول من شدة النحول الى طبق صغير؟!
ـ وهل تعتقد أن رئيس القسم بكرشه الضخم سيفلح في هذا اليوم الذي ستضحك فيه وجوه، وتسود وجوه ؟
علق الدكتور علاء الجالس ببدلته الزيتونية ونظارته المعتمة :
ـ يا أخي على الجميع من المشمولين بالوزن الاقتداء بالرفيق طه ياسين رمضان. هل رأيتم كيف تخلص من وزنه الزائد ، وبات رشيقا خلال فترة قصيرة . لقد كان أول من لبى نداء القيادة بقرار الترشيق..لماذا لا يقتدي الآخرون به ؟.
في الحقيقة كان هذا السؤال يدور في ذهن الجميع دون أن يجرأ واحد منهم على الإفصاح عنه. كيف أذاب
الرفيق بحيث رشق كرشه الذي كان يبدو دائما محشورا عنوة في بنطاله ؟.. كان الجميع يعرفون الجواب ، لكنهم كانوا يفضلون السكوت الذي هو أثمن من الذهب في هذه الحالة.
# # #
كانت قناني الخل قد حفرت أمعاءه ـ وتركت بالتأكيد بصماتها على معدته التي باتت مرشحة في أن تتحول في يوم ما إلى بيت الداء في جسمه.
عندما اقترب من الطبيب المسؤول عن قراءة جهاز الوزن ، كان أعضاء اللجنة المشرفة على تسجيل الوزن في سجلاتها على بعد أمتار من الجهاز. استجمع شجاعته.لحظتها بوجيب قلبه الأخذ بالارتفاع. استطاع أن يقول بصوت يشبه الهمس :
ـ أنا من طرف الدكتور عاصم ..
لم ينبس الطبيب بكلمة بل نظر الى وجهه بدقة وكأنه يريد أن يحفظ ملامحه. مجرد دقيقة كانت فاصلة بين أن يذكر الزيادة في وزنه أو ينطق الكلمة السحرية (مطابق)..!
صعد على الجهاز ، وهو يحس بنبضات قلبه المذعور،وكأنه قلب طائر تائه في ليل البروق والعواصف .صعد وهو يردد مايحفظه من ضراعات وأسماء الأئمة الأطهار.
كان شبه غائب عن الوعي عندما وصلت الى سمعه الكلمة المعجزة : مطابــــــــــــــــق !
اكتسى وجهه الكئيب والعابس مسحة من ابتسامة رضا وسعادة. لم يعلم هل أن الحكمة كانت في ذكر اسم صديقه الدكتور عاصم السحري ، أم ان الفضل في النتيجة تعود الى زجاجات الخل التي لا يتذكر عددها ،والتي تناولتها لشهور عدة قبل حلول اليوم الموعود.
# # #
في الكلية كان المدرسون غير المشمولين بيوم الوزن بانتظار العائدين.
سأله د.طارق المعروف بخبثه وتصيده للأخبار عن النتيجة ، أجابه بهدوء :
ــ مطابق والحمدلله ..
نظر إليه بارتياب :
ــ معقول ..؟! .. وكرشك هذا ؟.
قال له بلا مبالاة :
ـ مالك وكرشي .. المهم النتيجة .
ــ واسطة ؟ ..
ترك سؤاله دون جواب.
تلقى التهنئة من بعض زملائه ،وبعض طلبته وكأنه قد نجح في عبور نهر المانش ..
بدأت الألسنة تلوك ماحدث للبعض في يوم الوزن ، وقد استغرب كيف يصل القيل والقال والشائعات بهذا اليسر للمتعطشين للثرثرة وجلد ذات الآخرين.
ــ إليكم خبر الموسم : نجاح رئيس نقابة المعلمين بكرشه الاسطوري في الاختبار .
ــمستحيل ..
ـــ واسطة..! ، قال أحد الحاضرين .
تدخل آخر :
ــ يا أخي اتق الله .. لقد تحول الرجل الى هيكل عظمي من جراء الرجيم القاسي الذي يمارسه منذ أشهر ترك تناول الرز الذي كان يعتبره ملك الأكلات ، وجرب أنواع أقراص التنحيف ، حتى تلك التي تستعملها النساء للحصول على قد رشيق ..
وفعلا فقد تحول رئيس نقابة المعلمين وكأنه مصاب بمرض سري من شدة نحافته. كان خائفا في أن يفقد منصبه بسبب كرشه ، المنصب الذي كان يمنحه نوعا من الزهو ، والمكانة الهامة في دنيا الناس.
لم يكن قادرا على المشي بشكل طبيعي .قاده اثنان من زملائه صوب جهاز الوزن ،وهو يتصبب عرقا ، وكأنه لا يستطيع بقوة سرية من عدم التحديق في وجه قارئ الأوزان بدلا من لوحة الأرقام .بعد زمن طويل بلغ ما يقارب الدهر سمع صوتا عميقا ،وهو ينطق بالكلمة السحرية : مطابق !
فوقع على أثرها فجأة مغشيا عليه وهو يردد قبل أن يسقط : الحمد لله !
قبل يومين من الموعد المقرر للوزن أشيع بأن رئيس قسم الإدارة قد أجرى عملية جراحية مفاجئة. وكان هو أيضا أحد المهمومين بزيادة الوزن ، ويزداد قلقا كلما اقترب اليوم المشؤوم.
عندما وصل ليزوره ويهنئه بنجاح العملية ، شاهد جمعا من زملائه يهنئونه بنجاح العملية المفاجئة ،واستئصال الزائدة الدودية.
ــ حمدالله على السلامة يا دكتور..
ــ حمد لله لأنك تداركت الأمر في حينه يا دكتور ، قبل أن تنفجر الزائدة الدودية وتؤدي الى مضاعفات لا تحمد عقباها.
في الخروج خرج جميع الزوار في آن واحد، تاركين الفرصة لرئيس القسم لكي يريح جسده المنهك من آثار العملية المفاجئة. ما أن تقدموا خطوات مبتعدين حتى أخذوا يضحكون ، معلقين على رئيس القسم بأنه ثعلب مكّار ، قابل البلاء قبل وقوعه خشية أن يفقد منصبه كرئيس قسم بتنزيله درجة وظيفية بسبب زيادة الوزن ، بعد أن فشل في إزالة شحومه الزائدة.
صرخ زميله في الليل البهيم :
ــ أحلق شاربي ..إذا لم يكن قد أجرى عملية جراحية والتي بسببها تغيب عن يوم الوزن بإجازة مرضية .
ــ ولكن ماذا سيفعل بعد ستة أشهر حينما يعاد اختبار الأوزان ثانية ..؟
ضحك أحدهم بلا مبالاة :
ــ ستة أشهر من الزمن فترة طويلة. من يدري ماالذي سيحصل ، وما الذي سيستجد من أحداث؟
غابوا وغاب معهم في ظلمة الليل.
بعد أشهر احتل العراق ، الكويت ..فطمرت أحداثها الجسام ، مكابدات يوم الوزن والترشيق ،وقضت عليه. . من يومها لم يعد أحد في العراق معاديا لكرشه .
30/ 6/ 2012