4
غالبا ما اثيرت مسالة التوافق بين فحوى الكتاب المقدس و مدى تطابقه مع الأحداث و الحقائق العلمية . ونظرا للتطور العلمي الذي يشهده العالم و الذي جعل من عقلية الأنسان لا تتقبل المعلومات دون فحصها و محصها و غربلتها و تنقيتها من الشوائب و جعلها نقية ناصعة، فالمعلومة يجب ان تكون مدعمة بالبرهان العلمي و الدليل المنطقي حينها فقط سيكون الأنسان مستعدا لتصديقها و حفظها في ثنايا عقله *ان كان للعقل اية ثنايا*
و حرصا على عدم الاسهاب و تشتيت الأفكار ، فسوف الج مباشرة في موضوع كان اثاره الأستاذ الفاضل زيا اوديشو تحت عنوان ـ يا ابناء اشور نينوى لم تهتز ـ. و لعل ما حفزني للرد على هذا الموضوع هو ان الكاتب الفاضل انما يعبر عن راي العديد من ابناء الأعزاء ، حيث كان وما زال هذا الموضوع مثار جدل و نقاش بين عدد كبير من الأفراد و ان مصدر الاثارة فيه هو حبهم و غيرتهم الشديدين لقوميتهم .حيث ان سفر يونان اثار حفيظتهم لظنهم انه كتب لغرض تشويه صورة ابناء نينوى العظماء ، حيث انه يبرزهم على انهم شعب وثني لم يكن يعرف الله قبل مجئ يونان من اسرائيل لتلقينهم درسا في الايمان.
و لكني هنا اجزم بان العكس هو الصحيح وان السفر المذكور ربما يعطي انطباعا كهذا خاصة وانه كتب من قبل اناس يكنون اشد الكراهية للشعب الآشوري على مر العصور .
ولكن دراسة متانية للسفر و قراءة ما بين سطوره و الالمام الكامل بالكتاب المقدس بجزئيه نستطيع من خلالها ان نصل الى حقائق مذهلة لنسحب بها البساط من تحت اقدام الذين يحاولون تشويه صورة اعظم امبراطورية ظهرت على وجه البسيطة منذ نشاتها. و ساحاول بعون الله تبسيط بعض الامور في النقاط التالية ...
** ان الدولة الآشورية كانت امبراطورية مترامية الاطراف لا تحدها الا حدودا جغرافية ارتضاها اباطرتها طوعا و ليس تكليفا لانهم لو ارادوا توسيعها لفعلوا ذلك اعتمادا على قدراتهم الفريدة ، و لكن لحسابات عسكرية معينة فانهم فضلوا الاكتفاء بتلك الحدود . اما ثقافتهم و تاثيرهم الفكري و الديني ...الخ ، فلم يعرف لهم حدود لأنه كان منتشرا في كل اصقاع الارض ، وستكون لي وقفة مع هذا الموضوع لاحقا انشاء الله.
و قد يراني البعض مبالغا في هذا الامر ، ولكن بدراسة بسيطة للعهد القديم و كتب التاريخ سنرى تاثيرات الديانة و الفكر الآشوري متغلغلين في ثقافة العبرانيين و الشعوب القديمة ،بل ان تعاليم احيقار الحكيم مستشار الملك الآشوري سنراها جلية في احد اسفار العهد القديم باسلوبها المتميز .
يقينا ان اية حضارة كحضارة اشور لا يمكن ان تستند على قدم واحدة كما يعتقد البعض، و ما اقصده هو انه لا يمكن بناء اية حضارة اعتمادا على القوة العسكرية فقط ، اذ يجب ان تكون مدعومة باسس جوهرية اخرى كالعلم و السياسة الحكيمة ...و الايمان القويم ....الخ.
من هنا فان ايمان الآشوريين كان بديانة على مستوى حضارتهم ، اذ لا يمكن لاي شعب ان يبني حضارة عظيمة دون ان يسندها بدعائم قوية و منها الدين . و لعل ورود اسماء بعض الشخصيات البالغة التاثير في الديانة اليهودية في العهد القديم باللغة الاشورية لابرز دليل على تغلغل الدين الآشوري حتى في الشعب الذي يظن بانه الوحيد الذي عرف الله دون غيره ـــ سيكون لي موضوع اخر عن هذه الاسماء لاحقا ـــ .
** اما بالنسبة لمن اتهم الملك الاشوري بالتمرد و التعالي على الله ، فانه مخطئ تماما لان الملوك الآشوريين على وجه الخصوص كانوا اناسا في ذروة الثقافة و الايمان بالله الذي لم تعرفه البشرية الا لاحقا بعد تدوين الكتاب المقدس خاصة اذا علمنا بان الملك كان يمثل سلطة الله على الارض، ان سفر يونان خير دليل على ان الملوك الآشوريين كانوا يعرفون الله خير من شعب الله نفسه ــ فمن فمهم ندينهم ــ و اليك الادلة ...
1ــجاء في سفر يونان // و صار قول الرب الى يونان بن امتاي قائلا قم اذهب الى نينوى العظيمة و ناد عليها لانه قد صعد شرهم امامي // * يونان 1 ،1ــ2 * . هكذا نرى بان الله تعالى يصف نينوى ب / العظيمة / و اذ كانت نينوى عظيمة في نظر الله ، فلم يكن ترابها و بناؤها هو الذي عظمها بل شعبها العظيم الى الله ، و لا ننسى بان ذلك الشعب هو نفسه الذي اختاره الله ليكون قضيب / عصا/ يده المباركة التي كان يعلم به الامم .
2 ـــ اختار الله يونان الذي ننعته ب / النبي/ و في حقيقة الامر فان يونان لم يكن نبيا بالمعنى الشمولي لهذه الكلمة ، فالنبي كاشعيا و ارميا تكون على عاتقه رسالة الهية مستمرة لا يتوانى عن نشرها بين الناس طوال حياته . اما بالنسبة ليونان فانه عمل كواعظ وانتهت مهمته بايصال الانذار الى اهل نينوى و لا نسمع او نقرا عنه شيئا بعد ذلك . و حسنا فعل سيدنا المسيح عند كلامه عن يونان فانه لا يستبق اسمه بلفظة /نبي/ بل يورده باسمه الشخصي فقط دون اضافات بل ان في بعض نسخ الانجيل فان الرب يدعوه /الكارز او الواعظ او المنادي / * متي 12، 41 * و * لو 11 ، 32 * .
3 ـــ لم يجهد يونان نفسه كثيرا في سبيل اقناع الآشوريين بالتوبة بل ان مناداته في شوارع نينوى كانت كافية لاقناع الناس و الملك على حد سواء بان يتوبوا و يصوموا اغرب و اشهر صوم شهدته البشرية منذ فجر التاريخ ، فهل كان الآشوريون غافلين عن الله ؟ فلو امعننا النظر قليلا فسنرى ان السرعة في تنفيذ امر يونان و الصوم العجائبي الذي نفذوه لهو خير دليل على انهم كانوا على دراية و معرفة قوية بالله .
4 ـــ حينما جاء يونان الى نينوى و نادى بين الناس، لم يبدر من الشعب اي فعل استغراب عن مقصد يونان /بان الله غاضب / ، ولم يسالوه عمن يكون الله ، بل تابوا مباشرة و دون مقدمات وبدون اي تردد ، و هذا و ان دل على شئ فيدل على ان الآشوريين كانوا على دراية بماهية الله ، و جل خطيئتهم في تلك الفترة انهم حادوا عن طريقه ، و قد تابوا عنها بعيد مناداة يونان .
و اذا عرفنا ما تعنه التوبة فسنعي حقيقة هذا الكلام ، اذ ان التوبة تعني // العودة الى الطريق الصحيح بعد ضلاله لفترة معينة //. اذا فالآشوريون تابوا اي عادوا الى طريق الايمان بالله ، اذ ان الكتاب المقدس لا يذكر بان الله ارسل يونان ليهديهم اليه ، بل ليتوبوا / الرجاء التركيز على فعل التوبة/ فقط اي ليعودوا الى ايمانهم السابق بالله
و لو قارنا هذا الكلام بما حدث للنبي موسى حينما كلمه الله من العليقة في جبل حوريب ، فان النبي موسى لم يكن حينها يعرف الله ، هذا مما دعا الله لتعريف نفسه قائلا...//انا اله ابيك اله ابراهيم و اله اسحق و اله يعقوب// * خروج 3 ،6 * . والظاهر كذلك بان الشعب العبراني ايضا لم يكن يعرف الله انذاك لذا كان على النبي موسى ان يساله عن اسمه * خر 3 ، 13 ــ 14 * . بينما و في الجانب الاخر لم تبدر من الآشوريين اية ردة فعل تثير الشكوك او السؤال عن كنهه . بل يذكر السفر بان الملك طالب الشعب بان / يرجعوا عن طريق الرديئة/ * يو 3 ، 8 * و كذلك يذكر // فلما راى الله اعمالهم انهم ــ رجعوا ــ عن طريقهم ...// * يو 3 ، 10 *. و من السهولة ان نعرف بان الرجوع هو العودة الى الطريق الذي كانوا عليه قبل ان يصعد شرهم الى الله . و يقينا فان ذلك كان طريق الله كما نعرفه في يومنا هذا .
5 ـــ بعد انذار يونان لاهل نينوى فانهم صاموا صوما اشبه ما يكون بالاعجوبة ، فالملك و الشعب صاموا ثلاثة ايام دون ان ياكلوا او يشربوا شيئا ، بل كان طلب الملك ان لا تذق الناس و لا حتى البهائم و لا البقر و لا الغنم لا ترع و لا تشرب ماء ، ليس هذا فحسب بل يتغطى الجميع / الناس و البهائم / بالمسوح * يو 3 ، 7ــ8 * . افليس كل هذا مبعث فخر و شرف لشعب مؤمن بالله ؟ ام انه تحقير و استخفاف كما يدعي البعض؟ اليس هذا الشعب حقا يفرض احترامه على الآخرين ؟
** ان سفر يونان هو اقصر الأسفار المقدسة في العهد القديم ، وليس هذا وليد صدفة بل، ان الاعتقاد السائد هو ان كاتبه // او ربما جامعي الأسفار المقدسة// قدحذف الكثير الكثير مما فيه تمجيد و تعظيم لشعب عرف الله بدون انبياء مرسلين اليه .
** ان قصة يونان حقيقية و يكفينا ان السيد المسيح استشهد بها و عظم من شان الآشوريين من خلال حديثه عنها * متي 12، 4 * * لوقا 11 ، 32 *.
هكذا اخي العزيز زيا فان نينوى لم تهتز لانسان ولكنها اهتزت لرهبة الله لان الشعب الآشوري عرفه و اتقاه اكثر من الشعب اليهودي نفسه المتخم بالأنبياء ....... كيف لا و هو الشعب الذي استخدمه الله لمعاقبة بقية الشعوب و خاصة اليهود . انظر * الملوك الثاني 17، 1ــ3 // 17 ، 7 ــ23 // 15 ، 7 ــ 20 // 15 ، 27ــ30 * .
بل و احيانا كان اليهود يستنجدون بالآشوريين لانقاذهم من اليهود انفسهم * الملوك الثاني 16 ، 7 ــ9 *.
و لا ينكر العهد القديم بان الملك الآشوري طلب ارسال كاهن الى السامرة ليعلم شعبها قضاء اله الأرض *الملوك الثاني 16، 7 ــ 9 *.
اخيرا عزيزي الأخ زيا فاني اثمن افراطك في الشعور القومي المتقد في قلبك و الذي بدا واضحا من خلال كتابتك ، و نصيحة من اخيك ارجو ان تتقبلها ، فان الشعور القومي ان لم يكن مروضا بالعلم و مباركا بالايمان فان اشجاره لا تؤتي ثمارها المرجوة.
هرمز عوديشو ريحانا
ونــــــــــــــــــزر كنــــــــــــدا
عرض المشاركات