عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - جاسم الحلوائي

صفحات: [1]
1
حسن عوينة مناضلاً ثورياً باسلاً وانساناً رائعاً

جاسم الحلوائي
في يوم 7 آذار من عام 1963 أعلن الحاكم العسكري لسلطة الانقلاب الفاشي عن إعدام ثلاثة رفاق، اثنان منهم من أبرز قادة الحزب وهما: الرفيق حسين أحمد الرضي (سلام عادل)، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، ومحمد حسين أبو العيس، عضو المكتب السياسي. أما الثالث فهو الكادر الحزبي المتقدم والشاعر حسن عوينة. وهذا المقال مكرس للحديث عن الشهيد عوينة  لمناسبة حلول الذكرى السنوية ليوم الشهيد الشيوعي 14 شباط، ففي مثل هذا اليوم قبل اثنان وسبعون عاماً استشهد قادة حزبنا الأماجد.
 وقبل الدخول في الموضوع لا بد من الإشارة الى أن الرفاق الثلاثة لم يُقدموا الى أية محكمة ولو صُورية ولم يُعدموا شنقا، وإنما قتلوا تحت تعذيب وحشي باعتراف البعثيين أنفسهم في مذكراتهم عن نظامهم المقبور.
ولد الشهيد حسن محسن عوينة عام 1931 في مدينة النجف، وكان والده رجل دين. انخرط عوينة في النضال الوطني والثوري منذ أن كان طالبا في المتوسطة، وقد ساهم في وثبة كانون عام 1948 مساهمة فعالة من خلال القاء الخطب والقصائد الحماسية في المظاهرات والاجتماعات الجماهيرية.
تعرض عوينة للاعتقال أكثر من مرة في تلك الفترة مما اضطره الى مغادرة مدينة النجف ليقيم في بغداد. أعتقل في بغداد في عام 1949، وكان آنذاك حلقة الوصل بين بعض المنظمات خارج العاصمة وقيادة الحزب من خلال محل مكوى في علاوي الحلة في جانب الكرخ، وتعرض عند اعتقاله للتعذيب في دائرة التحقيقات الجنائية سيئة الصيت، وكان موقفه صلبا فتحَمل التعذيب وخرج من الامتحان سالما. حكمت عليه محكمة النعساني العسكرية بالسجن لمدة سنتين قضاها في سجن الكوت. كان سجن الكوت آنذاك بمثابة معهد لتخريج الكادر الحزبي. استفاد عوينة من السجن لتنمية إمكانياته بانخراطه بمختلف الفعاليات بما في ذلك قرض الشعر. ومن شعره آنذاك القصيدة المشهورة التي تحولت الى نشيد للشيوعيين ومطلعها:
حصن حزب أشاده فهد كيف تسطيع هدمه قرد
وبعد خروجه من السجن وخلال النصف الأول من الخمسينيات انتج حسن الكثير من الشعر وشهدت تلك الفترة ذروة عطائه الأدبي وقد نشر الكثير من القصائد في الصحف التقدمية آنذاك كالثبات والعقيدة وغيرهما.
ساهم حسن عوينة مساهمة فعالة في انتفاضة تشرين الثاني عام 1952. ولم يقتصر دوره في هذه المرة على الدعاية والتحريض، كما كان الحال في وثبة كانون، بل تعداه الى المساهمة في توجيه وتنظيم المظاهرات الجماهيرية والفعاليات النضالية الأخرى. واصبح عوينة بعد الانتفاضة هدفا ثمينا للأجهزة القمعية فاضطر للاختفاء وترك مقاعد الدراسة.
أعتقل حسن عوينة في بغداد مرة أخرى عام 1955، وكان آنذاك محترفاً للعمل الحزبي، وتعرض للتعذيب فصمد وصان أسرار الحزب. حكم عليه بالسجن لمدة سنتين ونصف قضاها في سجن بعقوبة. وفي هذا السجن التقيت حسن لأول مرة وليوم واحد فقط، وأعجبت بشخصيته وقد خلف لدي انطباعا حسنا. والتقيت به مرة أخرى، بعد أكثر من سنة في نفس السجن في القسم الانفرادي ولكن لفترة طويلة نسبيا، فنشأت بيننا علاقة ود متبادلة وراسخة.
كان حسن ممثلنا في السجن أمام ادارة السجن ومديرها علي زين العابدين، الذي اشتهرت ادارته بالقسوة والبطش ومصادرة أبسط الحقوق ومنها القراءة والكتابة بما في ذلك قراءة الصحف اليومية أو حتى حيازة ورقة أو قلم، وإخضاع السجن والسجناء للتفيش الدقيق يوميا وتعريضهم للعقوبات الفردية والجماعية لأتفه الأسباب أو بدون أسباب أصلا. في تلك الظروف الصعبة كان حسن يقوم بمهام خطيرة ومن هذه المهام حصوله على جريدة يومية بشكل سري. وكانت الأدبيات الحزبية تخبأ عنده تحت ملابسه الداخلية لأنه أقل عرضة من الآخرين للتفتيش الدقيق باعتباره ممثلنا، وقد عرفت هذا السر منه بعد ثورة 14 تموز. فقد كان حسن بعيداً عن الثرثرة وحب الظهور.
 بعد ثورة 14 تموز جمعتنا لجنة منطقة الفرات الأوسط، كنت أنا عضوا فيها وهو عضوا في مكتبها ويرأس تحرير جريدة "صوت الفرات" ومقرها في مدينة الحلة. كان حسن متفتح الذهن لا يتضايق من الاختلاف في الرأي وعادة ما كان يصغي للآخرين في الاجتماعات أولا ومن ثم يبدي رأيه باختصار ووضوح وقد يملّح رأيه بنكتة تسر الجميع.
عندما انتقلت للحلة كسكرتير للجنة المحلية كنت التقي عوينة يوميا. ولم تدم هذه الفترة أكثر من بضعة أشهر انتقلت بعدها الى الكوت في حين انتقلت عائلتي مع أخي حميد من كربلاء الى الكاظمية وأصبح البيت المركز الرئيسي للمراسلة وتوزيع الأدبيات بإشراف الشهيد حسن عوينة. وكثيرا ما كنت التقي حسن عند زيارتي لعائلتي. وقد ودعني عشية سفري الى الخارج للدراسة الحزبية في نهاية عام 1961، وكان ذلك وداعنا الأخير. وهكذا يمكن القول بأني عرفت حسن، خلال هذه السنوات، عن كثب.
لم أتذكر بأن علاقتي قد توترت مع حسن في يوم ما، مع أن توتر العلاقة، أحيانا، بين أعز الأصدقاء أمر طبيعي، ولكن أتذكر أن نقاشا حادا حصل بيننا في مدينة الحلة في خريف عام 1959 عندما اختلفنا في الرأي حول قصيدة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، نشرت في جريدة (صوت الأحرار)، كانت تؤله عبد الكريم قاسم وتصفه بالأوحد الأوحد، وقد اعترضت على ذلك فانسحب النقاش الى تقييم قاسم وسياسته التي انتقدتها وكنت أميل للتشاؤم من مآلها، ولم يتفق حسن معي في الرأي، فتحمست لرأيي وارتفع صوتي مشوبا بالتوتر العصبي، وهنا لاحظت بأن حسن خفض صوته دون المستوى العادي وقرأت اللوم في عينيه، فأفقت لنفسي فخفضت صوتي وندمت لتجاوزي على رفيق أعتبره معلمي. وقد اعتذرت له في نفس اليوم عن تصرفي غير الملائم وكان مثالا للتسامح.
امتاز حسن بنزاهته ومصداقيته وكان خفيف الظل سريع البديهة وحاضر النكتة وكانت تعليقاته لاذعة ولكنها مهذًبة، فلم أسمع منه يوما لفظة بذيئة. مع بوادر ارتداد قاسم وانتعاش الرجعية اغلقت جريدة (صوت الفرات) وفصل عوينة من نقابة الصحفيين باعتباره صحفيا طارئا، وهو الأديب والشاعر ورئيس تحرير جريدة، فأخذ حسن يقدم نفسه لمعارفه وأصدقائه متهكماً (صحفي طارئ)! متوخياً بذلك إدانة الإجراء التعسفي ضد حرية الصحافة والرأي.
تزوج حسن من زهور الحكيم شقيقة المناضل المعروف صاحب الحكيم وأنجبت منه ولداً اسمياه فلاح. تبادلت مع الدكتور فلاح الرسائل عندما كنت أكتب ذكرياتي، وقد نشرت تلك الرسائل على مواقع الانترنيت ولا تزال في أرشيفها، وتضمنها كتابي الذي صدر عن دار الرواد في بغداد عام 2006 تحت عنوان "الحقيقة كما عشتها". وقد جاء في نهاية جوابي على احدى رسائله ما يلي :
فرحنا كثيرا، أم شروق وأنا، عندما قرأنا عنوانك وعرفنا انك أنهيت تعليمك بمستوى دكتور في فرع علمي. فلا عجب، فهذا الشبل من ذاك الأسد. ومن حق أم فلاح أن تفتخر بك.
لا أظنني سأضيف جديداً لمعلوماتك لو كتبت لك انطباعاتي عن والدك، لأنني متأكد بأنك سمعت ذلك من غيري. فإن رقة أبو فلاح وشاعريته وذكاءه المتقد وانسجامه مع نفسه وصراحته وتواضعه الجم كان واضحاً للجميع. لقد كان حسن عوينة مناضلاً صلباً وإنساناً رائعاً ً. "
المجد والخلود للشهيد حسن عوينة وجميع شهداء الحزب والحركة الوطنية التقدمية.
المجد والخلود لشهداء انتفاضة تشرين العام 2019 ولجميع ضحايا الارهاب في العراق.


2
المشروعية التاريخية لثورة 14 تموز الخالدة
جاسم الحلوائي
هناك من يعتقد بأنه كان من الممكن للعراق أن ينمو ويتطور سلميا ولو ببطء دون ثورة 14 تموز 1958. ويعتقد حملة هذا الرأي أن ذلك كان أفضل للعراق من "الانقلاب العسكري" في 14 تموز، لكون هذا الحدث أدخل العراق في دوامة الانقلابات العسكرية والعنف. ولكن مجرى تطور الأحداث والظروف التي أحاطت بالبلاد، داخلياً وإقليميا وعالمياً، لاسيما خلال العقد الأخير قبل ثورة 14 تموز تفند الرأي المذكور. فالأقلية الحاكمة في العراق آنئذ، كانت تشكل حجر عثرة أمام طبيعة ووتيرة التطورات المطلوبة موضوعياً من النواحي السياسيةً والاقتصاديةً والاجتماعية في العراق. وقطعت تلك الأقلية السبل السلمية على القوى الوطنية، التي تنشد التغيير وتحمل مشروعا تقدميا، من أن تلعب دورها في تطوير البلد. واستخدمت تلك الأقلية العنف ضد أي تحرك جماهيري بما في ذلك التحركات المطلبية كإضرابات العمال وتمردات الفلاحين السلمية . وسأحاول هنا الإشارة إلى ملامح تلك الفترة بإيجاز.
لقد شهدت البلاد في خمسينات القرن الماضي نهوضاً وطنياً عاماً عكس نفسه في الاستعداد الجماهيري لخوض النضالات المطلبية والسياسية، والنزوع القوي نحو الاستقلال الناجز للعراق ورفض جميع الاتفاقيات المكبًّلة لحريته مع الدول الاستعمارية. وكانت الظروف الدولية مشجعة، وتمثل ذلك بانتصار الثورة الصينية وحصول الهند واندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية الأخرى على استقلالها. وعلى الصعيد الإقليمي، نالت سوريا ولبنان استقلالهما، وأممت إيران نفطها، وسقط النظام الملكي الموالي للاستعمار في مصر، وتصاعدت حركة السلام العالمية، وظهرت كتلة عدم الانحياز. في مثل هذه الظروف كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط العراق بالأحلاف العسكرية الاستعمارية. وقد حققت الفئة الحاكمة ذلك بانضمامها إلى حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية. وبذلك فضحت نفسها أكثر فأكثر باعتبارها فئة موالية للاستعمار.
أما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فإن أول ما نشخصه هنا هو تعمّق التمايز الطبقي في المجتمع خلال السنوات السابقة لثورة 14 تموز في كل من الريف والمدينة على السواء. ولكن هذا التمايز اتخذ في الريف أبعاداً أوسع، وأفرز نتائج أخطر امتدت آثارها إلى المدينة، لأن تعاظم الفقر الذي حاق بالفلاحين، دفع بمئات الألوف منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حاملين معهم إليها كل أوضار المجتمع الريفي الفقير المتخلف... وكان العامل الأول في إفقار الفلاحين هذا قد نبع عن اتساع عملية استيلاء الملاكين الكبار على الأراضي الزراعية.
وجرت العملية المذكورة نتيجة لسياسة الحكومة التي كان يهمها، خاصة في السنوات الأخيرة من عمرها، تطمين مصالح الإقطاعيين الذين باتوا أحد أعمدة النظام الأساسية. فشرّعت الكثير من التشريعات لتحقيق تلك السياسة، حتى بلغ التفاوت بين ملكية الأرض الزراعية، ما بين الفلاحين والملاكين، حداً لا مثيل له في أي بلد في العالم. إن 3% فقط من مجموع مالكي الأراضي الزراعية في العراق كانوا يملكون ثلثي الأراضي الزراعية في عام 1958. أما في مصر وسوريا فكانت النسبة تبلغ 35% و36% فقط من الأراضي الزراعية بيد الملاكين الكبار. وكان هناك ثمانية ملاكين عراقيين فقط بحوزة كل واحد منهم أكثر من مائة ألف (100000) دونماً. إن من يملك عشر هكتارات (الهكتار يساوي أربعة دوانم) فما فوق في الهند يُعد ملاكاً كبيراً. وكذا الحال في مصر فمن كان يملك 162,2 دونما فأكثر يُعد هو الآخر من الملاكين الكبار. وكانت حصيلة هذه السياسة تعاظم إفقار الفلاحين. ولم تستوعب الزراعة آنذاك وفي أغلب أشهر العام سوى 50% من الأيدي العاملة في الريف. ونتيجة لهبوط إنتاجية العمل في الزراعة العراقية، لم يحصل المنتجون المباشرون ما يسد رمقهم. وكان ذلك سبباً في تعاظم إفقار الفلاحين وبؤسهم المريع، فاضطروا إلى الهجرة بأعداد كبيرة صوب المدن، لاسيما الكبيرة منها.
أثار تأميم صناعة النفط في إيران عام 1951 حماسة الجماهير الشعبية للمطالبة بتأميم النفط العراقي. وأخذت الصحف تنشر البرقيات والعرائض الجماهيرية المطالبة بذلك. وعند مصادقة البرلمان الإيراني على قرار حكومة مصدق، طالب عشرون نائبا في البرلمان العراقي أن يحذو البرلمان العراقي حذو جاره. ومن أجل الالتفاف على هذه الحركة قامت الحكومة العراقية بالاتفاق مع شركات النفط ببعض الإجراءات الجزئية لتبديد زخم المطالبة، ولكن دون جدوى.
في شباط 1952 وقعت الحكومة اتفاقاً جديداً مع شركات النفط يقضي بأن تدفع الشركات إلى الحكومة العراقية ستة شلنات ذهبا عن الطن الواحد من النفط الخام. وطبقا للحسابات التي تجريها الشركات، زعم الطرفان أن حصة الحكومة باتت تعادل خمسين بالمائة من صافي الأرباح التي تحصل عليها الشركات. وألزمت الاتفاقية المذكورة الشركات بتصدير 30 مليون طن من النفط الخام سنويا. وقررت الفئة الحاكمة رصد 70% من عائدات النفط لمجلس الاعمار، الذي غرس الانكليز والأمريكان عناصرهم فيه باسم الخبرة والاستشارة منذ ظهوره للوجود في عام 1950. وجاءت استشارتهم بتوجيه الأموال للقطاع الزراعي بالأساس. وليس بهدف الارتقاء بأساليب الزراعة وزيادة إنتاجيتها، وإنما إلى العمل فقط على توسيع الأراضي الزراعية بدعوى أن استصلاح المزيد من الأراضي وتوزيعها على المزارعين الصغار سيحسن من شروط عمل الفلاحين لدى الملاكين الكبار ويخفف من وطأة البطالة. لكن الأراضي المستصلحة في ظل سياسات الحكم الموالية للملاكين الكبار كانت تقع في أيدي هؤلاء في النهاية. ورغم كل ما أنفق من أموال طائلة في هذا القطاع فإن قيمة الإنتاج الإجمالي للقطاع الزراعي تراجعت من 39% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد إلى 30% في عام 1958.
وحُرم القطاع الصناعي من أموال مجلس الاعمار بحجج مختلفة، في مقدمتها، عدم تمكن الصناعة الوطنية من منافسة الصناعة الأجنبية المستوردة إلا في ظل سياسة حماية شديدة ستؤدي إلى الاحتكار، وبالتالي زيادة أسعار المنتجات الصناعية المحلية، ومن شأن ذلك تدمير موارد البلاد وعرقلة تقدمها. ولكن ما لم يفصح عنه هؤلاء الخبراء، إنهم بتأكيدهم على تجنب الحماية، إنما يدافعون عن مصالح الشركات الاحتكارية الأجنبية، التي ظلت تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد حتى ثورة 14 تموز بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار. وأدى هذا الموقف من الصناعة الوطنية إلى أن يكون نموها بطيئاً ولا يتناسب مع إمكانيات ومتطلبات تطويرها، حيث لم يشتغل في الصناعة سوى 264 ألف شخص قبل ثورة 14 تموز 1958.
ومع تنامي الإنفاق الحكومي وشركات المقاولات، وأغلبها أجنبية، وتزايد الطلب على السلع الاستهلاكية والإنتاجية، تنامى عدد الذين يتعاطون التجارة بالجملة والمفرد. ومما له دلالته في هذا الصدد هو تأسيس العديد من الغرف التجارية الجديدة في الخمسينات إلى جانب غرف بغداد والبصرة والموصل، وذلك في كل من مدن العمارة والنجف وكربلاء والحلة وكركوك والناصرية. وبلغ عدد المسجلين في جميع الغرف التجارية 9423 تاجراً قبل ثورة 14 تموز. ويشير كل ذلك إلى نمو البرجوازية التجارية ونمو وعيها الطبقي. وشكل الصناعيون في الفترة موضوعة البحث اتحادهم الخاص بعد أن كانوا ينتمون إلى الغرف التجارية سابقاً.
وارتباطا بكل هذا. ومع تزايد الدور الذي باتت تلعبه الدولة في مختلف المجالات اتسع الجهاز الحكومي وأدى هذا ، إلى جانب عوامل أخرى، إلى اتساع التعليم بكل مراحله.
على أي حال، أدى الإنفاق الواسع على مشاريع مجلس الأعمار في بلد كان يشكو في الأساس من ضعف قدراته الإنتاجية، إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وواجه المستهلكون والمنتجون على السواء دوامة التضخم النقدي الذي عانى منه الكادحون آنذاك بوجه خاص، وكان ذلك أحد أسباب التوتر في قلب المجتمع.
في صيف عام 1954 أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب إلى 12 تشرين الأول جملة من المراسيم التعسفية التي اشتهرت باسم (المراسيم السعيدية). كانت هذه المراسيم معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة لدستور البلاد. وكانت باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي لم يعقد سوى جلسة واحدة انتخب فيها رئيسه. ولم يحظر نوري السعيد نشاط الأحزاب المجازة فحسب، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها وأغراضها أيضاً، وألغى امتيازات جميع الصحف. وأجاز فقط ثلاث صحف موالية للحكومة. وألزم نوري السعيد السجناء الشيوعيين الذين ينهون حكومياتهم بإعطاء براءة من الشيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا ستسقط عنهم الجنسية العراقية! وأقدمت حكومته فعلا على إسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين، ومن بينهم المحاميان المشهوران توفيق منير نائب نقيب المحامين وكامل القز انجي، وتم تسفيرهما إلى تركيا. كما أسقطت الجنسية عن عدد من الوطنيين ممن كانوا خارج البلاد وهم عزيز شريف وصفاء الحافظ وكاظم السماوي وعدنان الراوي.
وبادرت حكومة نوري السعيد بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصلت عدد كبير من أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزتهم في معسكرات تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وباتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للقبول في الكليات حتى ولو كان المرء قومياً! وأضحى جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيد لربط العراق بالأحلاف العسكرية الامبريالية. وعلى اثر تلك الإجراءات بدأت الحركة الوطنية الديمقراطية تعاني من التراجع. لقد كانت الحركة الوطنية في جزر، فلم تتمكن من التصدي الفعّال لإحباط مساعي الحكومة لعقد الحلف.
إن سياسة نوري السعيد قد عزلت العراق عن شقيقاته العربيات، وراح  السعيد  يتآمر ضدها على المكشوف، مما وسع السخط وعمّقه ضد الحكم الرجعي. ومن مؤشرات ذلك تحول إضراب قصابي الموصل، احتجاجاً على زيادة الضرائب، إلى إضراب عام شمل المدينة كلها ودام أسبوعا كاملاً، حيث عبر الموصليون فيه عن تضامنهم مع مصر التي أممت قناة السويس، وعن حقدهم على حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد واجه الحكم الاستبدادي الإضراب السلمي بإعلان حالة الطوارئ، وشن حملة واسعة من الاعتقالات شملت عدد من المحامين والنواب السابقين. وحُكم على 200 من أبناء المدينة بالسجن، وأرسل قسم منهم إلى سجن نقرة السامان الصحراوي.
وفي يوم 16 آب 1956، اليوم الذي حدده الامبرياليون لعقد مؤتمر لندن لتقرير طريقة الانتقام من مصر جراء إقدامها على تأميم قناة السويس وضرب مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة، عمّ الإضراب بغداد والموصل والرمادي والحي والحلة ومدن عراقية أخرى، رغم كل أساليب الحكومة الوحشية لإفشال الإضراب. وساهم في الدعوة للإضراب إلى جانب الحزب الشيوعي كل من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي. وخرجت الجماهير بمظاهرات تحمل الأعلام العربية وشعارات التضامن مع مصر. فقابلتها الشرطة بالرصاص واعتقلت أكثر من عشرين متظاهراً. وطُوقت السفارة المصرية لمنع دخول المتطوعين للدفاع عن مصر، وطالب زبانية السلطة المعتقلين بشتم الرئيس عبد الناصر. وكان الإضراب استجابة لدعوة اللجنة المركزية العربية التي تشكلت في دمشق، وقد عم الإضراب في نفس اليوم العديد من الدول العربية.
وعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي. ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي، فقطع علاقته الدبلوماسية مع فرنسا ولم يقطعها مع بريطانيا المعتدية. فزاد هذا الموقف من تأزم الأوضاع، فاجتمعت الأحزاب الوطنية والقومية، الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وعدد من الديمقراطيين المستقلين، لدراسة الموقف، وقررت تشكيل قيادة موحدة لقيادة النشاطات الاحتجاجية ضد العدوان وضد الحكم الرجعي. وفي إطار النشاط الطلابي تكونت لجنة طلابية عليا للتضامن مع الشعب المصري. وقد أشرفت هذه اللجنة على تعبئة الطلبة وقيادة مظاهراتهم.
اندلعت انتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها. وخرجت الجماهير الشعبية العراقية في مظاهرات احتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد عمت المظاهرات ثلاثين مدينة من جنوب العراق إلى شماله مرورا بوسطه. وكانت واسعة جداً في النجف، وساهمت فيها مختلف الفئات الاجتماعية بما في ذلك رجال دين بارزون. وقد استمرت المظاهرات في البلاد مدة شهرين، وتوّجت بانتفاضة الحي الباسلة. جوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس وبالقمع العنيف. وسقط الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب للفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين إلى السجون.
كانت السلطات تتحسس، وهي على حق، من أي شعار، حتى ولو كان شعارا قومياً عاما مثل "يعيش جمال عبد الناصر" لأنه ينطوي على عداء لحلف بغداد وحكومة نوري السعيد. وقد لعب الشيوعيون دوراً فعالاً، إن لم نقل طليعياً، في المظاهرات. وكان أول شهداء الانتفاضة الكادر الشيوعي الباسل عواد الصفار عضو لجنة منطقة بغداد الذي استشهد في العاصمة، وآخرهم الشيوعيان البطلان عطا الدباسة وعلي الشيخ حمود اللذان أعدما في ساحة الصفا التي تقع وسط مدينة الحي والتي كانت تنطلق منها المظاهرات، بعد أن قمعت الطغمة الحاكمة انتفاضة المدينة الباسلة مستخدمة حتى الأسلحة الثقيلة.
كانت الأحزاب السياسية حتى انتفاضة تشرين 1956 عازمة على إجراء التغيير في الحكم سلميا. وقد نصت وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي، الذي يمثل الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الصادرة في 1956 على اعتبار المعركة "ذات طابع سلمي غالب". وكانت هذه الانتفاضة ثالث انتفاضة خلال ثمانية أعوام، ولم تتمكن من تحقيق تغيير في طبيعة الحكم. وإن تمكنت الجماهير الشعبية من التنفيس عن مشاعرها في الانتفاضتين الأوليتين وتحقيق بعض المكاسب الجزئية، فإن الأجهزة القمعية التي تضاعفت قوتها آنذاك بفضل ازدياد عائدات النفط، وبفضل خبرة خبراء حلف بغداد، لم تسمح بتحرك جماهيري واسع في العاصمة بغداد، حيث قمعت بقسوة شديدة وبالرصاص جميع المبادرات النضالية. وقد استخدمت الحكومة الحديد والنار لقمع انتفاضتي النجف والحي. وإذا ما ناور النظام في الانتفاضتين السابقتين ولجأ إلى إجراءات تنفسية وتخديرية، فإنه لم يكتف بعدم لجوئه لذلك فحسب، بل تهجم نوري السعيد في خطابه رداً على الانتفاضة بعنف وصلافة. وقد ختم خطابه مردداً باستهتار الهوسة المعروفة (دار السيد مأمونة)، ليستفز المشاعر الوطنية والقومية ويدفع جميع القوى الوطنية إلى اليأس من إمكانية إجراء التغيير سلمياً. وهكذا لجأت الأحزاب السياسية إلى الجيش فوجدته جاهزاً للعمل. فتشكلت اللجنة العليا للضباط الأحرار في كانون الأول 1956. وكانت نواة هذه المنظمة قد تأسست في أيلول عام 1952، أي بعد انقلاب جمال عبد الناصر بشهرين.
كان الجيش العراقي شديد التأثر بما يجري في المجتمع العراقي. وكانت الأجواء السائدة في داخله أكثر إثارة للاستياء لأسباب ذاتية وموضوعية. فمن المعروف إن الجيش العراقي يعتمد على الخدمة الإلزامية، وإن قاعدته من الكادحين والفقراء الأكثر معاناة من سوء الأوضاع، حيث يتهرب أبناء الميسورين من أداء الخدمة بدفع البدل النقدي أو بالتحايل على القوانين مستغلين الفساد الإداري. أما بالنسبة للضباط فإن إجمالي سلك الضباط ينحدر من أصول تعود إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان للأوضاع وللأحداث الوطنية والقومية صداها وتفاعلاتها في الجيش، كانتفاضات الشعب المتتالية منذ 1948، واستخدام الجيش لقمع انتفاضات وتحركات الجماهير الواسعة منذ عام 1952، أي تحويل الجيش إلى قوة بوليسية سياسية لتصفية الخصوم السياسيين. وتواطؤ الحكام وخياناتهم في حرب فلسطين، ونجاح الضباط بقيادة جمال عبد الناصر للاستيلاء على السلطة عام 1952 وبدء الثورة المصرية، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وموقف الحكومة العراقية المهين للمشاعر القومية من العدوان، بعزلها العراق عن العالم العربي بحكم ارتباطها بحلف بغداد. كما يمكن أن يضيف المرء عوامل موضوعية أخرى كان لها صداها وتأثيرها في الجيش، مثل صفقة الأسلحة التي تلقاها المصريون من الاتحاد السوفييتي وبكميات هائلة لا يمكن مقارنتها بما حصل عليه نوري السعيد من حلفائه، والاتحاد مع الأردن عام 1958، كرد هاشمي على تأسيس الجمهورية العربية المتحدة، والذي لا يخدم سوى الأسرة الهاشمية المعزولة، في حين يرهق العراق مالياً .
ولم يأت تحرك الجيش لقلب نظام الحكم في 14 تموز، ولا تأسيس منظمة الضباط الأحرار بقرار من الأحزاب الوطنية. فقد كان لتأسيس المنظمة ظروفها الموضوعية والذاتية الخاصة بها. وقد تأسست المنظمة وترعرعت قبل أن تلتفت الأحزاب الوطنية إلى استخدام الجيش كرأس رمح لإسقاط النظام.
وهكذا نرى أن نظام الحكم الملكي بزعامة نوري السعيد لم يقف عائقاً أمام تطور البلد فحسب، بل وقد سد كل السبل أمام القوى الوطنية والتقدمية من أن تلعب دورها في تقدمه بالطرق السلمية. ومن هنا اكتسب سقوط النظام وبالعنف مشروعيته التاريخية.



3
المنبر الحر / رداً على استفسار
« في: 18:55 18/09/2019  »
رداً على استفسار
جاسم الحلوائي
استفسر أحد الرفاق عن مدى صحة معلومة تضمنها كتاب الدكتور سيف عدنان القيسي "قراءات في ذاكرة عزيز محمد"، ص 44، في حواره مع الرفيق الراحل عزيز محمد، سكرتير اللجنة المركزية الأسبق للحزب الشيوعي العراقي، والتي جاء فيها "حتى اضطررنا إلى تسليم اثنين من كوادرنا المعروفة وهما مهدي حميد وحمزة سلمان الجبوري لعبد الكريم قاسم تجنباً للاصطدام به".
وفِي إيضاح حول هذا الموضوع ذكرت ما يلي:
في أواخر عام 1961 أو في بداية عام 1962 حصل الحادث المذكور وكنت أنا خارج العراق، للدراسة الحزبية في بلغاريا مع مجموعة من الرفاق: عبد الرزاق الصافي وناصر عبود وآخرين.
ولكني اطلعت على الموضوع من خلال دراستي تاريخ الحزب.
في الفترة التاريخية المذكورة أعلاه اتخذ الزعيم عبد الكريم قاسم جملة من الإجراءات التي تخفف من الضغوط على الحزب والقوى التقدمية مقرونة بوعود لتحقيق المطالب الديمقراطية. قابلت قيادة الحزب تلك الإجراءات بحسن ظن وبتفاؤل مبالغ فيه وتم إخراج أعداد كبيرة من المناضلين المختفين إلى العلن من بينهم الرفيقان مهدي حميد وحمزة السلمان فتم اعتقالهما، ولم يكن من الصواب السماح لهذين الرفيقين بالخروج إلى العلن، لأنهما كانا مطلوبان من أجهزة الدولة.

هذا ما حصل

ومن المفيد إلقاء بعض الضوء على تلك الفترة التاريخية ولو بتركيز شديد. ففي الفترة المذكورة كان الرفيق الشهيد سلام عادل خارج الوطن بقرار حزبي، وكان على رأس الحزب الرفيق الراحل زكي خيري باعتباره نائب سكرتير الحزب. وبعد عودة الرفيق سلام عادل إلى الوطن انتقد موقف قيادة الحزب واللجنة المركزية وبعض إجراءاتهما، ومما جاء في رسالته المعنونة إلى أعضاء ومرشحي اللجنة المركزية ما يلي:
"توصلت سلم (سكرتارية اللجنة المركزية) في اجتماعها في 17 تموز 1962 إلى "أن تقديرات الحزب في أواخر السنة الماضية تجاه إجراءات التخفيف التي اتخذتها الحكومة، كانت تقديرات متفائلة أكثر مما ينبغي. إذ حمّلت هذه الإجراءات أكثر مما تستحق من مغزى واتخذ الحزب قرارات وتوجيهات كان بعضها خاطئاً استنادا إلى هذا التقدير الخاطئ، رغم أن الغرض الرئيس كان الاستفادة من تراجع السلطة الجزئي لمكافحة بعض مظاهر الانكماش والانعزال، رغم أن هذه الفترة تميزت من جهة أخرى بتنظيم حملات جماهيرية واسعة من أجل إعادة العمال المفصولين إلى أعمالهم ولوقف الاغتيالات في الموصل والحملات الانتخابية المهنية وخاصة لنقابة المعلمين، والحملة التثقيفية في منظمات الحزب ضد العزلة والانكماش، وإخراج أعداد كبيرة من المناضلين المختفين..الخ. وتنفيذا لقرار سلم وبتكليف منها أقدم التقرير التالي"1

ومما جاء في تقرير الرفيق سلام عادل ما يلي:

" ان اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد آنئذ في أوائل كانون الأول والذي عقد دون تحضير مناسب، قد انطلق في تقدير تلك المظاهر الجديدة بروح حسن الظن بالسلطة، وقدّرها تقديراً متفائلاً، وحمّل تلك الإجراءات أكثر مما تستحق من تفسير بالنسبة لمدى جدية السلطة في إجراء تغييرات في سياستها لصالح الشعب ومطالبه الديمقراطية. وبالتالي تسلسلت مناقشات الاجتماع وقراراته ليس إلى حد إنهاء الفترة الاستثنائية وحسب بل كذلك للسير إلى مدى أبعد نحو الانتخابات واختيار المرشحين لها وكيفية إعداد المناهج الانتخابية..الخ". 2
وهناك إشارة بأن تقرير الرفيق سلام عادل أقر بالإجماع من قبل اللجنة المركزية. 3
_____________________________
المصادر :
1- ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد، سلام عادل، سيرة مناضل الجزء الثاني ص 438.
2- نفس المصدر ص 439.
3- نفس المصدر ص 256.




4
القائد الفذ سلام عادل *

جاسم الحلوائي
في البدء أعتذر عن عدم إمكانيتي الحضور والمشاركة في هذا الحدث الكبير  وأشكر رفاق محلية النجف على دعوتهم الكريمة. وبهذه المناسبة أود أن اذكر أن أول وآخر لقاء لي مع الرفيق الشهيد الخالد سلام عادل كان عند حضوري كونفرس الفرات الأوسط الذي انعقد في عام 1956. وبعد ثورة 14 تموز 1958 عرفت أن الرفيق الذي كان مشرفا على الكونفرس هو الرفيق الخالد سلام عادل . إن أحد أسباب عدم لقائي به، بالرغم من أني كنت كادراً متقدماً، عضو لجنة منطقة وسكرتير محلية (محافظة واسط)، هو أن مسؤولياتي كانت خارج بغداد ومن ثم ارسلت للدراسة الحزبية خارج العراق. مع ذلك فقد واكبت قيادته وكنت شاهداً عليها واطلعت على الكثير من تفاصيلها، خاصة عندما ألًفت كتابي " محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي".
شهادتي الاستذكارية باختصار تتمثل بما يلي :- سلآم عادل يتعدى كونه شهيدا بطلاً فهذا أمر مفروغ منه ولكن قيمته الحقيقية كقائد هي في مواهبه القيادية المتعددة،  في مبادراته السياسية والتنظيمية وعقله الستراتيجي في التقاط الجوهري من الأشياء ونظرته البعيدة وقدرته على الاستفادة من الكفاءات والإمكانيات التي حوله، هذا إلى جانب تمتعه بالثقافة العامة ومشاركته في الفعاليات الفنية.
فقبل ثورة تموز المجيدة بادر الشهيد سلام عادل إلى توحيد الحزب بعد أن كان يعاني من انشقاق خطير، كما حاول بعد الثورة  ضم وإشراك الكثير من القيادات التاريخية والشابةً إلى قوام اللجنة المركزية وهيئات الحزب الأخرى،  دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش بل بمشاركة واعية. والإعداد للكونفرس الثاني للحزب عام 1956  وإعداد وثائقه التي تحسب من أهم وأنضج وثائق الحزب، آخذين بنظر الاعتبار سياقها التاريخي.  ثم جهود الرفيق في التحضير لقيام جبهة الإتحاد الوطني لعام 1957  وإقامة علاقة مع شبكة الضباط والجنود والأشراف على التنظيم العسكري والإعداد لثورة 14 تموز المجيدة بالتنسيق مع الضباط الأحرار.
وبعد الثورة، فقد كان الترويج لأهم شعارات الحزب  بمبادرة ومشاركة سلام عادل وقيادة الحزب بحيث أصبحت قوة مادية في الشارع العراقي. وتحققت هذه الشعارات على أرض الواقع مثل الخروج من حلف بغداد الاستعماري والتحرر من الاتفاقيات والمعاهدات الاسترقاقية والانسحاب من كتلة الإسترليني وقانون الإصلاح الزراعي واستعادة حقوقنا  من شركات النفط الاحتكارية  والانعطاف نحو المعسكر الاشتراكي والمطالبة بالحريات العامة والخاصة وقانون الأحوال الشخصية هذا وغيرها من الانجازات. وكان للحزب الشيوعي العراقي بقيادة الخالد سلام عادل بصمته في كل تلك الانجازات.
الذكر العطر دوما للقائد الخالد سلآم عادل .. رمز الشهادة والبطولة والقيادة الفذة.
كوبنهاكن / الدنمارك
____________________
* ألقى هذه الشهادة الاستذكارية، بالنيابة عني، الرفيق صالح العميدي في المهرجان الثالث للشهيد الخالد سلام عادل الذي أقيم في النجف في 9-16 آذار 2019. وقد أضفت إليها بعض التوضيحات.


5
لمناسبة مرور نصف قرن على استشهاد
المناضل الباسل ستار خضيّر


جاسم الحلوائي
 
الشهداء خالدون فهم باقون في وجدان وضمائر أهلهم ورفاقهم وأصدقائهم بمسيرتهم النضالية وأهدافها النبيلة . وما استذكار هؤلاء المناضلين إلا جزءاً من الوفاء لهم ولتأريخهم النضالي المجيد وتضحياتهم من أجل سعادة شعبهم وحرية وطنهم . إننا نحيي ذكراهم ونفتخر بهم ونواصل مسيرتهم. وسِجل الحزب الشيوعي العراقي حافل بالشهداء وأحد المشهورين منهم المناضل الباسل ستار خضير الذي اغتيل من قبل منظمة حنين الإرهابية التابعة لحزب البعث، وبأوامر وإشراف المجرمين صدام حسين وناظم كزار، وذلك في عام 1969. وقد هز اغتياله الرأي العام في بغداد وكل العراق.                           
مع أننا ترشحنا، الشهيد ستار خضير وأنا، لعضوية اللجنة المركزية في الاجتماع الكامل للجنة الذي انعقد في براغ عام 1964 وأصبحنا أعضاء فيها في عام 1965 فإنني لم التقيه إلا في ربيع عام 1968 في اجتماع اعتيادي للجنة المركزية، وقد عرفت بأنه يعمل في الخط العسكري شديد السرية، وهذا هو سبب استثنائه من حضور اجتماعات اللجنة المركزية وفعالياتها. وقد أعجبتني شخصيته ومداخلته في الاجتماع التي اتسمت بالدقة والتركيز والوضوح.
بعد استشهاده عرفت الكثير عنه وهو معروف ومنشور في الكثير من الكتابات والمقالات ولست بصدد تكرارها. ولكن سأشير إلى قضيتين لا تخلوان من مغزى ذي علاقة مباشرة بمجال عملي.
في عام 1964 وقبل أن نترشح للجنة المركزية سافر أغلب قادة الحزب الذين نجوا من كارثة انقلاب شباط الفاشي إلى خارج الوطن لحضور اجتماع اللجنة المركزية. فأنيط بالشهيد ستار خضير قيادة لجنة اقليم كردستان وأنيط بي قيادة لجنة التنظيم المركزية (لتم)، وبشكل مؤقت. وكنت معجبا بالتقارير التي تصلنا من مسؤول الإقليم لنضجها ودقتها. ومثال على هذه الدقة ، فقد كانت لدينا شفرة، لتداول الأسماء الصريحة للمرحلين، بين قيادة المناطق و(لتم)، معقدة نسبياً(استبدلناها لاحقا لتعقيدها) يعرفها مسؤولو المناطق فقط، وجميعهم كانوا يرتكبون أخطاء أحيانا في تلك الشفرة إلا مسؤول الإقليم وهو الشهيد ستار خضير.
في عام 1964 كنا مشغولين في إعادة بناء تنظيمات الحزب السرية وعند استلام مهمتي الجديدة واجهت مهمة استكمال بناء أجهزة لجنة التنظيم المركزية المختلفة ومن بينها تأسيس محطات للمراسلة مع مناطق العراق، ولم يكن تحقيق ذلك بالأمر اليسير في ظروف سرية العمل وإعادة البناء، وفي حينها أسست منظمة الإقليم محطة في بغداد وسلمتها لنا، وقد عرفت لاحقا بأن الشهيد ستار خضير كان وراء ذلك.
لقد كان غياب المناضل الشجاع ستار خضير بمؤهلاته وسماته القيادية خسارة كبيرة للحزب الشيوعي العراقي وللوطن لا يجبرها سوى ما ورثناه من قيم وأهداف نضالية نبيلة تلقفتها العديد من الأجيال منه، ومن جميع شهداء الحزب، وسيتواصل حضورها جيل بعد جيل حتى تحقيقها.


6


حول مطالبة إيران بتعويضات عن الحرب العراقية الإيرانية
جاسم الحلوائي
تصاعدت من جديد أصوات بعض المسؤولين الإيرانيين للمطالبة بتعويضات عن خسائر الحرب العراقية الإيرانية وذلك للضغط على الحكومة العراقية وابتزازها لتغيير موقفها الوطني والمسؤول الذي جاء على لسان رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، حيث أعلن فيه معارضة العراق للعقوبات الأمريكية على إيران من جهة والالتزام بها مضطرا، حفاظا على مصلحة العراق، من جهة أخرى. فقد طالبت  نائبة الرئيس الإيراني معصومة ابتكار العراق بدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت ببلادها جراء حرب الخليج الأولى في تغريدة نشرت يوم الجمعة 10 آب 2018  على حسابها الرسمي في "تويتر" وأشارت: "ينبغي إضافة التعويضات البيئية لحرب العراق والحرب الكويتية والأضرار التي لحقت بالخليج، وتقدر قيمتها بمليارات الدولارات". وجاءت تصريحات نائبة رئيس الجمهورية الإسلامية إضافة لتغريدة، نشرها قبلها بيوم واحد، نائب رئيس مجلس الشورى الإيراني محمود صادقي، حيث شدد على أن بغداد مطالبة بدفع 1100 مليار دولار كتعويضات عن تلك الحرب.
 وهذه ليست المرة الاولى التي يطالب بها الايرانيون بالتعويضات فقبل ثمان سنوات طالبوا بذلك أيضاً. فقد دعا،عضو لجنة السياسة الخارجية بمجلس الشورى الإسلامي الإيراني عوض حيدر بور، وزارة خارجية بلاده بمتابعة الحصول على تعويضات جراء حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، التي قال أنها تبلغ ألف مليار دولار. وفُسر التحرك الإيراني في حينه بأنه  رسالة واضحة مفادها: إذا لم تجر أمور تشكيل الحكومة بما ينسجم مع رغبتنا، فلدينا أوراق كثيرة يمكن أن نلعبها.
لم يصدر حتى الآن أي رد فعل من الحكومة العراقية على مطالبة نائبة الرئيس الإيراني معصومة ابتكار ولا على مطالبة نائب رئيس مجلس الشورى الإيراني محمود صادقي، رغم خطورتهما، في حين تُسمع بعض الأصوات العراقية غير الرسمية  التي تدعي أحقية مطالبة إيران بالتعويضات ، جاهلة أو متجاهلة، مجريات الحرب العراقية الإيرانية ومنعطفاتها وقرارات مجلس الأمن الدولي ومواقف المتحاربين منها ومدى مسؤولية كل طرف في هذه الحرب. 
لا شك بأن نظام صدام حسين الدكتاتوري يتحمل مسؤولية شن الحرب على الجارة إيران، ولكنه لا يتحمل مسؤولية استمرارها ثمان سنوات. لقد مرت الحرب بمرحلتين رئيسيتين مختلفتين جوهريا، ومسؤوليات النظامين العراقي والإيراني تختلفان تبعاً لكل مرحلةً.
بعد هزيمة الجيش العراقي في خرمشهر (المحمرة) في حزيران 1982، سحب صدام حسين آخر جندي عراقي من الأراضي الإيرانية، وطلب إيقاف القتال وإجراء مفاوضات لعقد صلح بين الطرفين المتحاربين. ثم لجأ النظام العراقي إلى مجلس الأمن مطالباً بإيقاف القتال. وصدر قرار من المجلس في تموز 1982 يقضي بذلك. إلا أن إيران رفضت القرار الأممي وطلبت، ضمن ما طالبت به، إدانة النظام العراقي ومحاكمته لعدوانه على إيران. وكان هذا طلباً تعجيزياً وستاراً تخفي وراءه إيران أهدافها التوسعية و حلمها في إقامة نظام إسلامي في العراق تابع لإيران، تحت شعار "الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء"، وهو شعار مشابه من حيث ديماغوغيته لشعار الدكتاتور صدام "الطريق إلى فلسطين يمر عبر عبادان". وهكذا رفضت إيران قرار مجلس الأمن وواصلت الحرب وقامت بتعرض عسكري خطير استهدف اقتطاع البصرة.
لم يهدف شعار "الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء" وغيرها من الشعارات المشابهة التي نادت بها الحكومة الإيرانية إلى رفع المعنويات. ولم يكن هدف تعرضات القوات المسلحة الإيرانية، التي بلغت أكثر من 25 تعرضا كبيرا، بعد تحرير الأرض الإيرانية ، هو لتعزيز المواقع الحدودية كما كانت تتظاهر به الحكومة الإيرانية، فهذه التعرضات استهدفت بالأساس احتلال البصرة من اجل إقامة حكومة إسلامية عراقية.ولعل مذكرات رفسنجاني خير شاهد على ذلك، حيث يذكر بأن بعض المتسرعين طالب بإقامة مثل هذه الحكومة في محافظة ميسان عند احتلال جزر مجنون وذلك في تشرين الثاني عام 1982. (هاشمي رفسنجاني. مذّكرات وخواطر، كتاب "بعد الأزمة"، ص 302، 2001). ومن اللافت للنظر هنا اعتراض رفسنجاني على الزمان والمكان فقط، وهو الذي كان آنذاك بمثابة القائد العام للقوات المسلحة.
لقد رفضت إيران إيقاف الحرب في بادئ الأمر، إلا أنها عادت وأذعنت للقرار بعد توالي انتصارات الجيش العراقي في شبه جزيرة الفاو والمعارك التالية لتحرير الأراضي المحيطة بميناء البصرة وحقل مجنون في الأهواز شرقي القرنة، والمناطق الواقعة شرقي علي الغربي وشيخ سعد، ومن ثم التقدم من جديد داخل الأراضي الإيرانية، وضرب إيران بصواريخ سكود. وكان رد العراق على الهجمات الإيرانية في الجبهة بصواريخ أرض ـ أرض مؤثرا جداً. فقد تعرضت الكثير من المدن الإيرانية القريبة من الحدود إلى قصف صاروخي مستمر كمسجد سليمان و بهبهان و دزفول و مهران و انديمشك و خرم آباد و باختران وايلام. وكانت خسائر الإيرانيين جسيمة بالأرواح والممتلكات. وأحرجت نداءات السكان المطالبة بالحماية من الصواريخ العراقية الحكومة الإيرانية. وضاعفت هجرة سكان تلك المدن إلى أماكن أخرى من مشاكل البلاد. كل هذه العوامل أرغمت الخميني على إصدار الآمر بوقف إطلاق النار و "تجرع السم" على حد قوله بعد ستة أعوام من قرار مجلس الأمن في تموز عام 1982 وبعد عام من صدور قرار مجلس الأمن رقم (589).
وفي النهاية لم تؤد طموحات حكام إيران التوسعية سوى إلى أن يتراجع الخميني عن عناده. ولم تحصل إيران في عام 1988 على أكثر مما كانت ستحصل عليه في عام 1982. وتبعاً لذلك تتحمل إيران المسؤولية في استمرار الحرب طيلة السنوات الست الأخيرة منها. فإن كان صدام مسؤولا عن إشعال فتيل الحرب وإلحاق الخسائر بإيران خلال السنتين الأوليين من الحرب، فإن النظام الإيراني هو الآخر يتحمل المسؤولية عن الخسائر التي لحقت بالعراق خلال السنوات الست الأخيرة منها، عندما رفض خلالها حكام إيران قرار مجلس الأمن في تموز 1982، ورفضوا أيضاً جميع الوساطات والمقترحات لإيقاف الحرب.
لقد سقط النظام الدكتاتوري المسؤول عن شن الحرب. وليس من العدل والإنصاف تحميل الشعب العراقي وزر جرائم النظام المقبور. ولقد رحل الخميني بعناده الذي لم ينفع معه غير تجرع السم، على حد تعبيره، ولا يتحمل الشعب الإيراني وزر عناده. ومن مصلحة الشعبين العراقي والإيراني عدم إثارة موضوع تعويضات الحرب. وإذا ما أثار حكام إيران الموضوع بشكل رسمي فليس من حق أي مسؤول عراقي التنازل عن الخسائر التي لحقت بالعراق خلال السنوات الستة الأخيرة من الحرب. وإذا ما قدرت خسائر إيران خلال سنتين من الحرب ﺒ 250 مليار دولار أو أكثر، فإن خسائر العراق خلال الست سنوات من الحرب تعادل ثلاثة أضعاف الخسائر الإيرانية، ويتحمل النظام الإيراني التعويض عن هذه الخسائر التي لحقت بالعراق.







 








7
ستون عاماً على ثورة 14 تموز والجدل حولها مستمر
جاسم الحلوائي

لقد كتب عن ثورة 14 تموز 1958 مئات الكتب وآلاف المقالات والبحوث، ولا زال الجدل حولها مستمراً بين مؤيديها وخصومها. وهذا الأمر طبيعي في الثورات التي تجري تغييراً جوهرياً في طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع. فالثورة الفرنسية العظمى مثلاً، والتي اندلعت في عام 1789، لم يُحتفل بها رسمياً، لوجود خلافات حولها، إلا بعد مرور مئة عام على قيامها!
إن ثورة 14 تموز أجرت تغييراً جذرياً في النظام وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلكً تغيير طبيعة علاقات الطبقات الاجتماعية. فقد قرر هذا الحدث مصائر بعض الطبقات ومستقبلها، بحيث صار بعضها جزءاً من تراث الماضي، كالإقطاعية والكومبرادورية وكان ذلك لصالح نمو وتطور طبقات وفئات أخرى، وحررت الثورة العراق من الأحلاف العسكرية ومن التبعية للاستعمار، ولذلك فإن لهذا الحدث أنصاره وخصومه.
وسأتوقف هنا عند رأي مهم جداً يتعلق بالمشروعية التاريخية للحدث، فهناك من يعتقد بأنه كان من الممكن للعراق أن ينمو ويتطور سلمياً ولو ببطء بدون ثورة 14 تموز. ويعتقد حملة هذا الرأي بأن ذلك كان أفضل للعراق، لأن هذا الحدث أدخل العراق في دوامة الانقلابات العسكرية والعنف. وهذا الاعتقاد لا يقتصر على الخصوم وحدهم، بل أن هناك وسطاً غيرهم وبعضهم من أبنائها، الذين ساندوها وضحوا من أجل تحقيق أهدافها، يتعاطف مع هذا الرأي. والسبب في ذلك يعود إلى شكل الثورة التي بادر في تفجيرها الجيش العراقي وإلى مسيرة الثورة المتذبذبة ومآلها المخيب للآمال بنهايتها الكارثية، وإلى الحروب والمحن والكوارث التي لحقت بالعراق بعد إسقاط حكومتها غدراً، وحتى يومنا هذا. وهذا الرأي، إن صح، فمن شأنه أن ينفي المشروعية التاريخية للثورة، فمن الأهمية بمكان مناقشته.
إن مجرى تطور الأحداث والظروف التي أحاطت بالبلاد، داخلياً وإقليميا وعالمياً، لاسيما خلال العقد الأخير الذي سبق ثورة 14 تموز ليس لصالح الرأي المذكور. فالأقلية الحاكمة في العراق آنذاك، باتت تشكل حجر عثرة أمام التطورات المطلوبة موضوعيا للعراقً من النواحي السياسيةً والاقتصاديةً والاجتماعية.
وسدت تلك الأقلية السبل السلمية بوجه القوى الوطنية، التي كانت تنشد التغيير وتحمل مشروعا تقدمياً سلمياً، من أن تلعب دورها في تطوير البلد. واستخدمت تلك الأقلية العنف ضد أي تحرك جماهيري بما في ذلك التحركات المطلبية كإضرابات العمال وتمردات الفلاحين السلمية. وسأحاول هنا الإشارة باختصار إلى بعض ملامح تلك الفترة.
فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، فإن أبرز ما يمكن ملاحظته هو تعمّق التمايز الطبقي في المجتمع خلال السنوات التي سبقت ثورة 14 تموز في كل من الريف والمدينة على حد سواء. ولكن هذا التمايز اتخذ في الريف أبعاداً أوسع، وأفرز نتائج أخطر امتدت آثارها إلى المدينة، لأن تعاظم الفقر الذي حاق بالفلاحين، دفع بمئات الألوف منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حاملين معهم إليها كل أوضار المجتمع الريفي الفقير المتخلف. وكان العامل الأول في إفقار الفلاحين هذا قد نتج عن اتساع عملية استيلاء الملاكين الكبار على الأراضي الزراعية.
وجرت العملية المذكورة نتيجة لسياسة الحكومة التي كان يهمها تطمين مصالح الإقطاعيين الذين باتوا أحد أعمدة النظام الأساسية. فشرّعت الحكومة الكثير من التشريعات لتحقيق تلك السياسة، حتى بلغ التفاوت ما بين ملكية الملاكين للأرض الزراعية وملكية الفلاحين، حداً لا مثيل له في أي بلد في العالم. إن 3% فقط من مجموع مالكي الأراضي الزراعية في العراق كانوا يملكون ثلثي الأراضي الزراعية في عام 1958. . وكان هناك ثمانية ملاكين عراقيين فقط بحوزة كل واحد منهم أكثر من مائة ألف (100000) دونماً.
أما القطاع الصناعي فقد حُرم من أموال مجلس الاعمار بحجج مختلفة. وظلت الشركات الاحتكارية الأجنبية تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد حتى ثورة 14 تموز بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار.

لقد شهدت البلاد في خمسينات القرن الماضي نهوضاً وطنياً عاماً عكس نفسه في الاستعداد الجماهيري لخوض النضالات المطلبية والسياسية، والنزوع القوي نحو الاستقلال الناجز للعراق ورفض جميع الاتفاقيات المكبًّلة لحريته مع الدول الاستعمارية. وكانت الظروف الدولية مشجعة لذلك، وتمثل ذلك في انتصار الثورة الصينية وحصول الهند واندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية الأخرى على استقلالها، والبدء عملياً بتصفية الإرث الاستعماري وتحرير المستعمرات نتيجة لنضال شعوبها. وعلى الصعيد الإقليمي، نالت سوريا ولبنان استقلالهما، وأممت إيران نفطها، وسقط النظام الملكي الموالي للاستعمار في مصر، وتصاعدت حركة السلام العالمية، وظهرت كتلة عدم الانحياز. في مثل هذه الظروف كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط العراق بالأحلاف العسكرية الاستعمارية. وقد حققت الفئة الحاكمة ذلك بانضمامها إلى حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية. وبذلك فضحت نفسها أكثر فأكثر باعتبارها فئة موالية للاستعمار.
في صيف عام 1954 أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب إلى 12 تشرين الأول جملة من المراسيم التعسفية التي اشتهرت باسم (المراسيم السعيدية). كانت هذه المراسيم معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة لدستور البلاد. وكان باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي كان يضم 11 نائباً معارضاً لم يتحملهم نوري السعيد وكان شرطه الأول لتشكيل الحكومة هو حل المجلس المذكور! ولم يحظر نوري السعيد نشاط الأحزاب المجازة فحسب، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها وأغراضها أيضاً، وألغى امتيازات جميع الصحف. وأجاز فقط ثلاث صحف موالية للحكومة. وألزم نوري السعيد السجناء الشيوعيين الذين ينهون مدة محكومياتهم بإعطاء براءة من الشيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا ستسقط عنهم الجنسية العراقية! وأقدمت حكومته فعلا على إسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين.
وبادرت حكومة نوري السعيد إلى شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصلت عدداً كبيراً من أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزتهم في معسكرات تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وباتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للقبول في الكليات حتى ولو كان المرء قومياً! وأضحى جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيد لربط العراق بالأحلاف العسكرية الامبريالية.
إن سياسة نوري السعيد قد عزلت العراق عن شقيقاته العربيات، وراح يتآمر ضدها على المكشوف، مما وسع السخط وعمّقه ضد الحكم الرجعي. فعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي. ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي. فاندلعت انتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها. وخرجت الجماهير الشعبية العراقية في مظاهرات احتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وجوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالقمع العنيف وذلك بإعلان الأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس. وسقط الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب إلى الفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين إلى السجون. وكان كاتب هذه السطور واثنان من أخوته من ضحايا تلك المحاكم.
كانت الأحزاب السياسية حتى انتفاضة تشرين 1956 عازمة على إجراء التغيير في الحكم سلميا. وقد نصت وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي، الذي يمثل الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الصادرة في أيلول 1956 على اعتبار المعركة "ذات طابع سلمي غالب". وكانت هذه الانتفاضة ثالث انتفاضة خلال ثمانية أعوام، ولم تتمكن من تحقيق تغيير في طبيعة الحكم.
فقد قمعت الحكومة بقسوة شديدة وبالحديد والنار جميع المبادرات النضالية. وتهجم نوري السعيد في خطابه رداً على انتفاضة تشرين بعنف وصلافة. وقد ختم خطابه مردداً باستهتار الأهزوجة لمعروفة (دار السيد مأمونة)، ليستفز المشاعر الوطنية والقومية ويدفع جميع القوى الوطنية إلى اليأس من إمكانية إجراء التغيير سلمياً. وهكذا لجأت الأحزاب السياسية إلى الجيش فوجدته جاهزاً للعمل.
وهكذا نرى أن نظام الحكم الملكي بزعامة نوري السعيد لم يقف عائقاً أمام تطور البلد فحسب، بل وقد سد كل السبل أمام الشعب وقواه الوطنية والتقدمية من أن تلعب دورها في تقدمه بالطرق السلمية. ومن هنا اكتسب سقوط النظام الرجعي، الموالي للاستعمار والإقطاع، وبالعنف، مشروعيته التاريخية.
ولم يكن ما حدث في 14 تموز انقلاباً عسكرياً كما يسميه خصومه بهدف انتزاع مشروعية الثورة التاريخية، فالانقلاب العسكري يقتصر على تغيير النخبة الحاكمة بالعنف عسكرياً، أو التهديد به، وتبديلها بأخرى. ولا تهدف إجراءات الانقلاب العسكري إلى تغيير طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع، أما دور الجماهير فيه فيكون صامتاً ومتفرجاً عموماً. بعكس الثورة التي تستهدف تغيير جذري في العلاقات الطبقية في المجتمع وتلعب أوساط واسعة من الجماهير في صنعها وتقرير نجاحها، وهذا ما حصل في ثورة 14 تموز.
ويعلق المؤرخ المشهور حنا بطاطو على دور الجماهير في كتابه الثالث (العراق:الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية ص 115) بالقول " كان لخروج مئة ألف شخص إلى الشوارع، والوحشية التي عبر فيها بعضهم ـ على الأقل ـ عن مشاعره، وزن كبير في تحديد النتيجة التاريخية لذلك اليوم المصيري... فقد عرقلت هذه الحركة أية أعمال مضادة معادية ممكنة لسدها الشوارع والجسور، لا في بغداد فحسب بل في مدن أخرى أيضاً. والأهم من هذا هو أنه كان للجماهير، بفضل عنفها، تأثير نفسي هائل، إذ إنها زرعت الرعب في قلوب مؤيدي الملكية وأسهمت في شل إرادتهم، وأعطت الانقلاب طابع العمل الذي لا سبيل إلى مقاومته، وهو ما شكل الحصن الحصين له".
وهكذا أسدل الستار على نظام الحكم الملكي الموالي للاستعمار والإقطاع، والذي عانى الشعب منه كثيراً واستلمت السلطة المعارضة متمثلة باللجنة العليا للضباط الأحرار وقادة من جبهة الاتحاد الوطني. وكان ذلك، فضلاً عن مساهمة الجماهير الفعالة في مساندة الثورة، بمثابة دلائل مهمة على أن الحدث ثورة، وهذه أولى حلقاتها. وتوالت الحلقات الأخرى سريعاً في السنة الأولى من الثورة. فقد ألغيت أغلب المراسيم التي أصدرها نوري السعيد. وأطلق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين. كما صدر قانون لتطهير الجهاز الحكومي وآخر لتطهير الجهاز القضائي. وشُرّع قانون الإصلاح الزراعي الذي حرر ملايين الفلاحين من سطوة الإقطاعيين وكبار الملاكين. وشاهد الفلاح بأم عينه واقتنع بأن سطوة الإقطاعيين والأثرياء التي ورثها أباً عن جد لم تكن قدراً من الله ينبغي الاستسلام له. فغدا مرفوع الرأس وأخذ يميّز بين أعدائه وأصدقائه.
وأطلقت الثورة إلى حدود معينة الحريات العامة والنشاطات الحزبية، فأمكن خلال فترة قصيرة جذب أعداد غفيرة، من شغيلة المدن والأرياف، نساء ورجالا، إلى النشاط السياسي. وتم تنظيمها في النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والاتحادات الطلابية، وكذلك في مختلف المنظمات الديمقراطية والمهنية. وامتد هذا النشاط السياسي إلى كل زاوية من زوايا البلاد. وفي هذه الفترة تواصلت المظاهرات والاجتماعات للمطالبة بتحقيق المطالب الشعبية المهمة التي لم تكن قد تحققت حتى ذلك الحين. وتولت كوادر ديمقراطية ويسارية مهمة الإشراف على الإذاعة والصحافة.
واستجابة لمطالب الجماهير، ورداً على حملات ناصر الدعائية، أقدمت حكومة عبد الكريم قاسم على فك ارتباط العراق بحلف بغداد في 24 آذار 1959، وإلغاء الاتفاقية الخاصة مع بريطانيا، واتفاقية الأمن المتبادل مع أمريكا مع ملحقاتها الاقتصادية والعسكرية. وأعلنت الثورة الخروج من منطقة الإسترليني. وعقدت الحكومة مع الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والفنية والتجارية تساعد على نهوض البلاد الصناعي والزراعي. وبتحقيق الاستقلال الناجز، وقضت الثورة على فئة الكومبرادور، وهي الفئة الاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بمصالح الاستعمار.
وأصدرت حكومة الثورة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، وهو أول قانون مدني ينظم العلاقات العائلية في العراق بعد أن كانت تخضع لشرائع وأعراف مختلف الطوائف والأديان المتواجدة في العراق. كما صدر القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي حرر 5, 99% من منطقة الامتياز الذي كان يشمل كل الأراضي العراقية من سيطرة شركات النفط الاحتكارية.
ولكن بعد السنة الأولى من الثورة تراجعت قيادتها أمام ضغط القوى الرجعية وبما يشبه الاستسلام لها، ومن ثم تحولت إلى حكم عسكري فردي. لقد وفر هذا الحكم، بسياسته المنافية لحقوق الشعب الديمقراطية وانعزاله عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الحريصة على الاستقلال الوطني والنهج الديمقراطي، الأجواء الملائمة للنشاط التآمري والرجعي. فتزايدت صلافة القوى الرجعية وتجاوزاتها على حقوق الجماهير التي حُرمت من وسائلها لتنظيم نفسها للدفاع عن حقوقها، وبالتالي الدفاع عن الحكم. وجاءت الحرب التي شنتها الحكومة ضد الشعب الكردي، لتُضعف كثيراً من قدراتها العسكرية، وتُزيد من أعبائها المالية، في وقت كان الحكم يُعاني من ضغط شركات النفط وسياساتها في خفض الإنتاج، مُستهدفة من ذلك إشغال الحكم عما كان يُدبّر له. وزادت مشكلة الكويت ومُطالبة عبد الكريم قاسم بها، من التعقيدات السياسية التي كان يواجهها. وهكذا وفر الحكم الظروف الملائمة لإسقاطه.
فهل سقطت ثورة 14 بسقوط حكم قاسم العسكري الفردي؟ أعتقد بأنها لم تسقط،، بمعنى معين، لأنها لم تكن، في التحليل الأخير، انقلاباً عسكرياً. فبقيت روحها حية في قلوب وعقول وضمائر العراقيين الذين واصلوا ويواصلون كفاحهم ببسالة من أجل تحقيق هدفها الأساسي، ألا وهو إقامة نظام وطني ديمقراطي مؤسساتي يسعى لتحقق العدالة الاجتماعية ويلبي، مطامح الشعب الكردي القومية، وكذلك حقوق القوميات وكافة مكونات الشعب العراقي.

8
المنبر الحر / عزيز محمد!
« في: 19:19 18/06/2017  »
عزيز محمد!
إسحاق يعقوب الشيخ*

 
يأتون ويرحلون وتبقى بصماتهم في ذاكرة الحياة في التاريخ على طريق الكادحين خبزاً وحرية (!).
الرجال في الدنيا محطات وهو من المحطات التي اذا مررت عليها لا تريد ان تفارقها وعندما تفارقها تتشكل وجدانياً في أحاسيس بصماتها الانسانية: ان سمعة العراق في مجد سمعة نضال شعبه وتتمجد هذه السمعة العراقية نضالاً متفانياً منذ الاربعينات وحتى اليوم في هذه القامة التاريخية النضالية العظيمة: قامة الحزب الشيوعي العراقي متمثلة في رموز قادته.. وكان المناضل الكبير (عزيز محمد) احد قادته الذين ترجلوا الحياة تواً وتركوا بصمات ذاكرة تفاني نضالاتهم الوطنية في الحزب الشيوعي والشعب العراقي على حد سواء (!).
فالراحل الفذ المميز كما عرفته في بساطة متواضعة ودوده واخلاقيات كريمة شديدة البُعد في إمكانية تأثيرها وتراه في بصر وبصيرة تنم عن امكانياته الفذة في قيادة حزبه (...) وكنت المح الفرح يُزهر في الق عينيه وهو يلوي ذراعه على كتفي بمودة وعجب بهجة بشخصٍ من اصقاع صحراء جزيرة العرب يحمل ذات الافكار التي يحملها (!) وكنت أحسُ بدفء روحي كاني في لحظات معرفتي به: كنت أعرفه منذ سنوات فألمح تساؤلاً في عيونه فأقول له شأن فكري من شأن فكركم (...) ففي اوائل الخمسينيات كنا نذهب إلى البصرة.
وهناك تعرفنا على (جعفر الجزائري)، (ونوري الهواز) أتعرف احداً منهم اقول له: يهز كتفيه بالنفي وكنا نأخذ منهما اعداداً قديمة من نشرة الحزب وكنا نخفيها ونعود بها إلى الوطن ونوزعها على آخرين منا وكان البعض منا يُعيد كتابتها بخط يده ويقوم بتوزيعها (!) واحسب ان الافكار في تطواف منازلها في الحياة بين الناس ولا مصدات تستطيع ان توقفها: فمن الفكر إلى المادة ومن المادة إلى الفكر عفواً: فمن المادة أولاً ثم إلى الفكر ومن الفكر ثانياً إلى المادة ذلك ما يُحتسب في الحياة وذلك ما أدى إلى ضجة في صفوف الفلاسفة في التاريخ وحتى يومنا هذا (!).
وبعد أعوام طالت وأحداث تنامت أتلقى سيرته بعد رحيله واعجب لهذا العراقي الجميل الذي وضع كامل توجداته خُبزاً طرياً شهياً في تنور الحياة من أجل انتصار الحقيقة... واحسب ان امانة ثقافية رائعة قام بها الدكتور سيف أرحيم القيسي في نشر السيرة الذاتية لعزيز محمد السكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي: فيما جسد المستحيل في الاصرار والاخلاص لوطنٍ عراقي حر وشعب سعيد عند عزيز محمد وذلك في سيرته التي تُشكل مدرسة نضالية تتجدد بها الاجيال الشابة التي تنخرط وطنياً في صفوف الحزب الشيوعي العراقي.
إن سيرة حياة عزيز محمد تشكل امتداد عزم وتضحية حياة وتفاني إرادة وانكار ذات من اجل تحرير العراق من عبودية القهر والتخلف...
العزاء لأهل بيته ورفاق دربه ومحبيه ومُريديه وستبقى ذاكرته ملهم عزم واصرار للانسانية التقدمية في عراق الرافدين (!).
*صحيفة الأيام البحرينية 15 حزيران 2017.



http://www.alayam.com/Article/courts-article/406438/%D8%B9%D8%B2%D9%8A%D8%B2-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF.html#alst

9

ذكريات مع المناضل الكبير عزيز محمد

الصورة في أربيل أواخر كانون الثاني 2017
جاسم الحلوائي
مع أن الأخبار التي كانت تصلني من أربيل مباشرة، بعد تعرض الرفيق عزيز محمد إلى كسر في ساقه وملازمته الفراش، أشارت إلى احتمال مغادرته دنيانا، فاني قد صُدمت بوفاته وتألمت وحزنت بعمق، نظرا لوشائج الرفقة الطويلة التي ربطتنا والتي امتدت لستة عقود. وكلما هممت بالكتابة عنه، تنهال علي الذكريات  بحلوها ومرها وشجونها وملابساتها... فتمنعني من الكتابة. في نهاية المطاف آليت على نفسي أن أكتب قدراً من ذكرياتي عنه.
تعارفنا الذي امتد لستة عقود لم تكن لقاءاتنا فيها متواترة ومستديمة، سوى في الفترة التي  كنت سجيناً معه لأكثر من سنة قبل ثورة 14 تموز، 1958 والفترة التي كنت فيها عضواً في اللجنة المركزية (1964-1985) وخاصة خلال عمر سكرتارية اللجنة المركزية (1973-1978) التي كان يرأس الرفيق أبو سعود اجتماعاتها أسبوعياً. ولا يسعني أن أغطي كل تلك الفترات فقد تركت الكتابة منذ مدة غير قصيرة بسبب الأحوال الصحية وضريبة الشيخوخة، وسأكتفي  بأول فترة وبآخر لقاء معه.
فقد التقيته لأول مرة في سجن بعقوبة الانفرادي في عام 1957. لم نكن في بداية الأمر سوية في قسم واحد، فتعارفنا  من وراء القضبان وعلى عجل وكان مكبلاً بالحديد، فبادرني بالقول: "ما هي  علاقة الصهيونية بالانشقاق"؟ أجبته: "إذا أنت لا تعرف فكيف تريد مني أن أعرف". كان سؤال الرفيق عزيز محمد  يتعلق بمنظمة "راية الشغيلة" التي أشارت في بيان حلها في عام 1956 إلى دور للصهيونية في انشقاق الحزب في عام 1953.
 إن قصة هذا الانشقاق ودور عزيز فيه هو باختصار ما يلي: لقد كان العديد من كوادر الحزب يلاحظ بروز نزعة يسارية ـ انعزالية وسلوكاً بيروقرطياً وفردياً في قيادة الحزب. وقد تحولت تلك الملاحظة إلى "معارضة" داخل الحزب بعد صدور ميثاق (برنامج) جديد للحزب، في ربيع 1952، والذي صار يعرف باسم ميثاق "باسم"، نسبة إلى الاسم  الحزبي لبهاء الدين نوري قائد الحزب آنذاك. نشر هذا الميثاق دون عقد مؤتمر أو كونفرنس أو حتى اجتماع للجنة المركزية لمناقشته وإقراره. وغيّر الميثاق ستراتيجة الحزب لتلك المرحلة من حكومة وطنية ديمقراطية إلى جمهورية شعبية متماثلاً مع تجربة جمهورية الصين الشعبية. وقتها فجّر الميثاق الخلاف الفكري داخل الحزب وكانت اللجنة القيادية المسؤولة في "سجن الموقف" في بغداد أبرز المعارضين في السجون، وكان سكرتيرها الرفيق عزيز محمد ومن بين أعضائها  الرفاق جمال الحيدري وإبراهيم شاؤول وحمزة سلمان ويعقوب مصري.
وقد كتب الرفيق عزيز محمد رسالة إلى قيادة الحزب تتضمن ملاحظات حول الميثاق الجديد، باعتباره يحرق مرحلة التحرر الوطني وبالتالي لا يعير أهمية لتجميع القوى الوطنية. وأشير في هذه الرسالة إلى أن الحزب يبالغ في تقدير قواه ويقلل من دور الأحزاب الوطنية (البرجوازية)، وان المهمة الراهنة هي إقامة حكم وطني ديمقراطي وإن شعار الجمهورية الشعبية من شأنه التفريط بقوى متمسكة بالملكية. وقد عُرفت هذه الرسالة برسالة "م" نسبة إلى الاسم الحزبي للرفيق عزيز محمد آنذاك (مخلص). وكان رد فعل بهاء على الرسالة، هو عزل عزيز عن مهمته القيادية واحتجاجاً على هذا الإجراء اعتذر أعضاء اللجنة الآخرون عن استلام المهمة. فقرر بهاء طردهم جميعاً من الحزب! فقرروا الانشقاق عن الحزب وسموه انتشالاً وأصدروا جريدة باسم "راية الشغيلة" ومن هنا جاء اسم منظمتهم.
وانشقت المنظمة داخل السجن، وأصبح لكل جناح قاعته ولجنته الخاصة. وقد التحقت بالمنظمة المنشقة كوكبة لامعة من كوادر الحزب، استشهد الكثيرون منهم بعد ذلك تحت التعذيب الوحشي مثل جمال الحيدري وحمزة سلمان وحسن عوينة ونافع يونس وعدنان البراك وإبراهيم حكاك وعواد الصفار (استشهد في انتفاضة 1956. ومن بين الكوادر أيضاً التحق بالمنظمة الرفاق عادل مصري وعبد الرزاق الصافي وسلام الناصري وإبراهيم شاؤول وعادل سليم وكاظم فرهود ويوسف حنا وعبد الحسين خليفة وحسين سلطان وغيرهم.
كنت مهتماً في السجن بمعرفة تفاصيل تاريخ الحزب وقادته ولم يكن ذلك، إطلاقاً، عن سابق تصميم أو لأني قد أحتاج إلى ذلك لكتابة ذكرياتي في يوم ما، والتي لم أفكر في كتابتها، بل كانت محض نزعة غريزية بحكم قناعتي الراسخة بارتباطي المصيري بالحزب. و قد لقيت ضالتي في الرفاق القدامى. ولم يبخل الرفيق عزيز محمد، الذي عشت معه في زنزانة واحدة لفترة طويلة بالإجابة على أي سؤال لديه معلومات عنه، ما عدا الحديث عن ظروف انشقاق منظمة راية الشغيلة. فقد باءت محاولاتي لتحفيزه، على الحديث عن تفاصيل  ذلك بالفشل. إن كل ما سمعته منه هو: "صدّقني لم نكن نفكر يوما بالانشقاق عن الحزب، لا أدري كيف حصل ذلك".  يقولها متوتراً ويُغلق الموضوع. ومرة أجابني: "جلسنا على سطح الفرن" ولم يكمل كلامه إنما نفخ بيده وضرب الهواء بقوة، وكأنه يصفع أحداً، وأضاف "لعد شعبالك؟" (ما الذي يخطر ببالك إذن؟)
وأعتقد بأنه كان يريد أن يسخر من عملية الانتشال (الانشقاق)، وأراد بحركته وكلامه ذاك أن يرسم صورة كاريكتيرية لها.
تحولت سجون الشيوعيين في العهد الملكي  المباد إلى مدارس لتخريج الكوادر الحزبية. ولمكافحة هذه الظاهرة قام النظام الملكي  ببناء سجن بعقوبة الانفرادي بإشراف "النقطة الرابعة الأمريكية" سيئة الصيت. وتعرض السجناء في هذا السجن إلى ظروف قاهرة تكتنفها صعوبات جمة. وفي هذه الظروف التقيت وعشت مع الرفيق عزيز محمد حوالي سنة في زنزانة واحدة، حتى إطلاق سراحنا بعد ثورة تموز.
إن أحلك الظروف التي واجهتنا في سجن بعقوبة الانفرادي هو حرماننا من الكتب والصحف والورق والأقلام، والتفتيش اليومي المصحوب بالإهانات والعقوبات بالسجن الانفرادي أو بالمقرعة لأسباب تافهة. كانت أخبار الحزب ومنشوراته تصلنا ونتداولها سراً، وتستنسخ الكراريس على دفتر أوراق لصنع السكائر اليدوية (دفتر لف). وكانت جريدة البلاد، وغيرها تصلنا بشكل سري وغير منتظم، ونتداول أهم ما فيها سراً.
لم يتوان الحزب يوماً عن المطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين، ولا عن فضح ما يتعرضون له من تنكيل. فعلى سبيل المثال، نشرت جريدة "اتحاد الشعب" في عددها الصادر في تشرين الأول 1957 ما يلي:
"مرة أخرى نعود للتحدث للرأي العام العراقي والعربي والعالمي عما يلاقيه السجناء الأحرار في سجن بعقوبة. فوراء البوابة السوداء لهذا السجن يجري أبشع أنواع التنكيل بحق معارضي حلف بغداد ومبدأ آيزنهاور والمناضلين في سبيل حقوق الشعب العراقي الدستورية وفي سبيل حرية الأمة العربية ووحدتها. ولم يعد أحد يجهل أساليب التعذيب التي تتبعها إدارة سجن بعقوبة تجاه هؤلاء المناضلين وبإشراف من (لجنة مكافحة النشاط الهدام) التابعة لحلف بغداد...إننا نناشد كل الوطنيين الشرفاء ورجال المعارضة الوطنيين ورجال القانون وكل ضمير إنساني أن يرفع صوته استنكاراً لهذه الأساليب الوحشية" 
وما أن طرأ تحسن نسبي على ظروف السجن، وذلك بالاكتفاء بغلق أبواب الزنزانات من الساعة العاشرة ليلا إلى الساعة الثامنة صباحاً، ومن الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة من بعد الظهر، حتى أقيمت في السجن دورات تدريسية تضم الواحدة منها بحدود 5ـ 7 رفاق لتدريس الاقتصاد السياسي واللغة العربية واللغة الإنكليزية و...الخ. وكان الاشتراك في دورة واحدة إلزاميا. ويتم التدريس بشكل شفهي. واستخدم المساهمون في دورات اللغة الإنكليزية قطعة صغيرة من لـّب قلم الرصاص ليكتبوا الكلمات الجديدة على أذرعهم، بعد أن يشدوا تلك القطعة برأس ثلاثة عيدان شخاط!
كان في السجن لجنة حزبية مشكلة بقرار حزبي من قبل قيادة الحزب في الخارج وتضم كل من زكي خيري وعزيز محمد ومهدي حميد وبهاء الدين نوري وعمر علي الشيخ وهادي هاشم الأعظمي، وكان الأخير المسؤول الأول في السجن.
كانت علاقتي بالرفيق أبو سعود علاقة رفاقية عادية، أي أنها لم تكن علاقة صداقة ضيقة. وكان هو قد ترك التدخين حديثاً، فكان يلف لي السكائر ولم يفته أن يخبرني بأنه يقوم بذلك لرغبته بشم رائحة التتن ليس إلا، ويبتسم. وكانت السكارة التي يلفها غاية في الرشاقة.
صباح ثورة 14 تموز كنا في الفرن، فقد كان الدور في ذلك اليوم لفريقنا، الذي يضم الرفاق عزيز محمد وسلام الناصري وأكرم حسين وعدنان عبد القادر وأنا وآخرين. وبين الساعة السادسة والنصف والسابعة صباحاً، صاح أحد السجانين وهو يركض بجوار باب الفرن "انقلاب" فاندهشنا. ولم تدم دهشتنا طويلا فقد مر سجان آخر راكضاً وصائحاً "صارت جمهورية" تحلقنا حول الطاولة المخصصة لتقطيع العجين ووزن (الشنكة) وتهيئتها، وكان ذلك عملي في الفرن. بادر الرفيقان عزيز محمد وسلام الناصري بالقول: "ستفشل"!؟ لا أتذكر موقفي بالدقة ولكن ما أتذكره بالتأكيد هو أنني لم أعترض عليهما خاصة وإنني كنت أنظر إليهما باعتبارهما من أساتذتي. ولكن قلبي بالتأكيد لم يكن معهما ليس لطبيعتي المتفائلة فحسب، بل أن معظم السجناء الجدد استوعبوا الأمر بنحو أسرع من السجناء القدماء. ولم تدم هذه الحالة طويلا فقد تبددت بفضل المنحى السريع للتطورات.
عندما عدنا إلى جناحنا في السجن بعد انتهاء عملنا في الفرن وجدنا أبواب الغرف مغلقة، خلافا للعادة. وهذا الإجراء هو أول رد فعل لمدير السجن على الحدث. كانت الأناشيد الوطنية تسمع من راديو بغداد بواسطة مكبرة الصوت. وقد فتحت أبواب الغرف لاحقاً في نفس اليوم. ساد القلق الموقف، فنحن سجناء عزل تحت رحمة قوى غاشمة، فلم تغب عنا حتى هواجس الانتقام في حالة فشل الثورة أو حتى نجاحها.  جاءت التشكيلة الوزارية بشخصيات وطنية وقومية معروفة لنا لتشير إلى أن تحولاً جذرياً قد حصل. بعد فترة خفت القيود علينا، فأخذت الصحف تدخل إلى السجن وأبواب الغرف أصبحت مفتوحة دائما. وبعد حوالي الأسبوعين من الثورة  صدر أول مرسوم جمهوري بقائمة أسماء المطلق سراحهم، وقد أطلق سراحهم فورا، وتوالت المراسيم وأطلق سراحنا جميعا خلال بضعة أسابيع.
في لقائي الأخير مع الرفيق عزيز محمد  في اربيل حيث زرتها لبضعة أيام في كانون الثاني 2017  ذكّرته بسؤاله حول علاقة الصهيونية بانشقاق الحزب عندما تعارفنا في السجن. رد علي قائلا: "سألت الرفيق سلام عادل أيضاً أول ما التقيته، بعد خروجي من السجن في إثر ثورة 14 تموز، ولم أحصل على جواب".
اللقاء الأخير مع الرفيق أبو سعود جرى قبل عدة أشهر من رحيله، وتحديداً في نهاية كانون الثاني 2017. عندما اتصلنا تلفونياً، واتفقنا على موعد لاصطحابي إلى بيته، عرض علي أن أقيم معه خلال وجودي في اربيل، إذا ما أعجبني المكان، فشكرته واعتذرت بكل ود. زارني في نفس اليوم في الفندق الذي أقيم فيه وبعد  استراحة قصيرة أخذني إلى بيته. وحال جلوسنا بادرني بالسؤال عن إحدى مداخلاتي في المؤتمر العاشر للحزب، وكان يصغي باهتمام، كعادته، ويبتسم لما هو مثير في الحديث دون أن يعلق. وعندما انتهيت سألته سؤالاً محدداً، أجابني بكلمة واحدة كانت تكفيني. وبعدها تشعب الحديث. اعتذرت عن تناول العشاء فقد كنت شبعانا ولم تجد معي إغراءاته لتناول كبة برغل، وتعشى هو عشاء بسيطاً. لم أتبين ماذا كان يأكل لتجنبي النظر إليه وهو يعاني صعوبة كبير في تناول طعامه بسبب الرعاش في يده.
وجدت عزيز بنشاط ذهني جيد وبذاكرة جيدة أيضاً نسبة لعمره الذي ناهز الثالثة والتسعين. يعاني من رعشة اليدين ولكن ذلك لم يعقه عن تناول طعامه وشرابه، واستخدام العكازة في حركته، وتفقد  مجايليه من الرفاق مثل الشاعر دلزار (97 عاماً) وكريم أحمد (94 عاما) وعمر علي الشيخ ناهز (90 عاماً). ولكن أعاقه في السنين الأخيرة من عمره من حضور الكثير من الدعوات المهمة. وأخبرني بأن أخشى ما يخشاه هو أن يصبح مقعداً، وتحققت أمنيته!
بيت الرفيق عزيز قديم وأثاثه بسيط وقديم، ولم تدخله التكنولوجية الحديثة، فلا وجود للكومبيوتر ولا  للانترنيت ولا للتلفون الذكي، وعرفت بأنه يقرأ يومياً ما معدله 5 ساعات. سألته كيف تتسلى؟ أجاب بأنه يشاهد الرياضة في التلفزيون. يعني لا موسيقى ولا غناء ولا أفلام ولا مسلسلات وكل هذه متيسرة في التلفزيون. عندما هممت بالمغادرة  جدد عرضه بالإقامة معه وأراني الغرفة المهيأة لإقامتي ومن ثم غرفته وهما تحتويان على أسرة من الطراز القديم وأجواءهما كئيبة، فعلقت عفو الخاطر بكلمة واحدة وهي: دروّشة، سمعني ولم يعلق. شكرته مجددا على عرضه لاستضافتي وغادرت.
وعند مغادرتي أربيل أصر على أن يرافقني إلى المطار وكان يحمل كارت يعفي سيارته من التفتيش، ويتجدد هذا الكارت كل ستة أشهر بعد دفع مئة ألف دينار. عند وصولنا المطار كان معي حقيبتان. ذهبت لأجلب عربة لهما، وعندما عدت وجدت الرفيق عزيز متجها نحو باب المطار وهو يسحب إحدى الحقيبتين بيده اليمنى وعكازته بيده اليسرى! وبعد أن  لحقت به داخل المطار، وجدته قد حجز لي موقعأ في الدور. لقد تأثرت كثيراً لتصرفه هذا الذي يجسد تواضعه الجم ووفاءه غير المحدود لتاريخنا النضالي المشترك، والذي هو جزء من التاريخ النضالي للحزب الشيوعي العراقي، ورغبت أن أعبر له بعبارة مؤثرة تتناسب مع لطفه، عندما تعانقنا عناق الوداع، فقلت له "مرافقتك لي أعتز بها كثيراً وستبقى خالدة في ذاكرتي". وقد ظل واقفا يراقبني حتى غبت عن النظر بأخر تلويحة من أيدينا.هل كل هذا الاهتمام بتوديعي مبعثه شعوره بأنه الوداع الأخير؟ ربما. أما أنا فلم يخطر ذلك ببالي.
كانت علاقتي بالرفيق عزيز علاقة رفاقية عادية أي لم تكن علاقة صداقة ضيقة، كما ذكرت سابقاً. وبدا لي بأنه كان يحرص على أن تكون علاقاته مع الرفاق الآخرين على مسافة واحدة، غير مقاسة بالسنتيمترات، فهناك هامش معين للبعد والقرب، ولكني أعتقد أنه لم تكن لديه علاقة صداقة حميمة خاصة مع أحد يفتح فيها قلبه ويتبادل همومه معه، فجميع الرفاق أصدقائه. ولا أحسب بأن ذلك كان درءاً لتهمة العلاقات التكتلية، بقدر ما هو سلوك حزبي نابع من مستوى رفيع وخصلة قيادية.  وظل هذا السلوك ملازماً له، وكان ذلك أحد أسباب انتخابه واستمراره سكرتيرا للجنة المركزية لمدة طويلة. هذا إلى جانب تواضعه وإخلاصه للحزب وقضيته، وصلابته أمام العدو وعفة لسانه، فهو يتجنب الإساءة إلى أحد، بمن فيهم خصومه ولم يحقد على أحد ويتجنب استخدام الألفاظ البذيئة، و يده بيضاء، وقبل هذا أو ذاك فأن إنسانيته عميقة . وكان يعوض عن مستواه النظري والثقافي باستثمار كل إمكانيات الرفاق الأكفأ منه في هذا الميدان. الرفيق أبو سعود قليل الكلام ولكنه متفوه ضليع باللغتين العربية والكردية وعندما يتكلم تكون  أفكاره واضحة ومرتبة. ويصغي بانتباه وتفهم ولا يتنصل عن مسؤوليته عن اخطاءه. ولكن هل تعرضت بعض خصاله تحت ضغط هذا الظرف أو ذاك للاهتزاز مؤقتاً؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال، إلا بالإيجاب، لأن الرجل كان إنساناً طبيعياً وليس معصوماً. وكل من التقى به بعد تخليه عن مسؤوليته السابقة لمس خصاله الحميدة الجيدة. وإن  "دروًشته"، التي سبق وأن أشرت إليها، بمعناها الايجابي أي الزهد بمتع الحياة، دليل على ذلك.
لقد رفض الرفيق عزيز محمد بجد ترشيحه سكرتيراً للجنة المركزية في الاجتماع الكامل للجنة في براغ عام 1964، معلنا بأنه غير مؤهل لتلك المهمة وطلب دراسة حزبية، ولكن الاجتماع رفض اعتذاره وأصر على ترشيحه وإرساله للدراسة الحزبية في نفس الوقت! شارك  في الاجتماع عامر عبد الله وبهاء الدين نوري عضوا مكتب سياسي سابقاً وكذلك باقر إبراهيم وسلام الناصري عضوان مرشحان للمكتب السياسي، الم يكن أحدهم مؤهلاً لسكرتارية اللجنة المركزية آنذاك؟ كلا لم يكن، ليس بدليل عدم انتخابهم لهذا المركز في الاجتماع فحسب، بل  بدليل عملي فقد عاد بعد الاجتماع بهاء الدين نوري كمسؤول أول مع عدد من أعضاء المكتب السياسي الجديد مع كامل الصلاحيات، ولم يدبروها وناخو تحت العبء، فطلبوا من الرفيق عزيز محمد قطع دراسته التي باشرها والعودة إلى الوطن لممارسة مهامه، وظل هذا القرار المجحف يحز في نفسه. بناء على ذلك أجد بأن الرفيق عزيز محمد يبالغ بتواضعه عندما يحسب وجود آخرين أكفا منه وبأنه كان سكرتيراً توافقياً. باعتقادي كان الأكفأ ضمن ظروف الحزب آنذاك، لخصاله القيادية والأخلاقية التي أشرت إليها، وهذا ما لمسته حتى أخر اجتماع كامل للجنة المركزية حضرته وانتخبته في عام 1984. 
ومهما قيل ويقال فسيبقى الرفيق عزيز محمد قامة شيوعية عراقية وأممية وكردية مميزة، في تاريخ العراق الحديث، ومن حق الشيوعيين وكل العراقيين المنصفين أن يفتخروا به، فقد ظل واقفاً ولم ينحن أمام العواصف، مهما كان سعيرها، تماماً كنخيل جنوب العراق،  وشامخا وثابتاً لا يتزحزح، كجبال كردستان، عن حلمه ونضاله من أجل عراق حر وشعب سعيد وعالم يسوده السلام.




10
لمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين لثورة 14 تموز المجيدة

ثورة 14 تموز بين أنصارها وخصومها
جاسم الحلوائي
لقد كتب عن ثورة 14 تموز 1958 مئات الكتب وآلاف المقالات والبحوث، ولا زال الجدل حولها مستمراً بين مؤيديها وخصومها. وهذا الأمر طبيعي في الثورات التي تجري تغييراً جوهرياً في طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع. فالثورة الفرنسية العظمى مثلاً، والتي اندلعت في عام 1789، لم يُحتفل بها، لوجود خلافات حولها، إلا بعد مرور مئة عام على قيامها!
إن ثورة 14 تموز أجرت تغييراً جذرياً في النظام وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلكً تغيير طبيعة علاقات الطبقات الاجتماعية. فقد قرر هذا الحدث مصائر بعض الطبقات ومستقبلها، بحيث صار بعضها جزءاً من تراث الماضي، كالإقطاعية والكومبرادورية  وكان ذلك لصالح نمو وتطور طبقات وفئات أخرى، وحررت الثورة العراق من الأحلاف العسكرية ومن التبعية للاستعمار، ولذلك فإن لهذا الحدث أنصاره وخصومه.
وسأتوقف هنا عند رأي مهم جداً يتعلق بالمشروعية التاريخية للحدث، فهناك من يعتقد بأنه كان من الممكن للعراق أن ينمو ويتطور سلمياً ولو ببطء بدون ثورة 14 تموز. ويعتقد حملة هذا الرأي بأن ذلك كان أفضل للعراق، لأن هذا الحدث أدخل العراق في دوامة الانقلابات العسكرية والعنف. وهذا الاعتقاد لا يقتصر على الخصوم وحدهم، بل أن هناك وسطاً غيرهم وبعضهم من أبنائها، الذين ساندوها وضحوا من أجل تحقيق أهدافها، يتعاطف مع هذا الرأي. والسبب في ذلك يعود إلى شكل الثورة التي بادر في تفجيرها الجيش العراقي  وإلى مسيرة الثورة المتذبذبة ومآلها المخيب للآمال بنهايتها الكارثية، وإلى الحروب والمحن والكوارث التي لحقت بالعراق بعد إسقاط حكومتها غدراً، وحتى يومنا هذا. وهذا الرأي، إن صح، فمن شأنه أن ينفي المشروعية التاريخية للثورة، فمن الأهمية بمكان مناقشته.
إن مجرى تطور الأحداث والظروف التي أحاطت بالبلاد، داخلياً وإقليميا وعالمياً، لاسيما خلال العقد الأخير الذي سبق ثورة 14 تموز تفند الرأي المذكور. فالأقلية الحاكمة في العراق آنذاك، باتت تشكل حجر عثرة أمام التطورات المطلوبة موضوعيا للعراقً من النواحي السياسيةً والاقتصاديةً والاجتماعية.
وسدت تلك الأقلية السبل السلمية بوجه القوى الوطنية، التي كانت تنشد التغيير وتحمل مشروعا تقدمياً سلمياً، من أن تلعب دورها في تطوير البلد. واستخدمت تلك الأقلية العنف ضد أي تحرك جماهيري بما في ذلك التحركات المطلبية كإضرابات العمال وتمردات الفلاحين السلمية. وسأحاول هنا الإشارة باختصار إلى بعض ملامح تلك الفترة.
فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، فإن أبرز ما يمكن ملاحظته هو تعمّق التمايز الطبقي في المجتمع خلال السنوات التي سبقت ثورة 14 تموز في كل من الريف والمدينة على حد سواء. ولكن هذا التمايز اتخذ في الريف أبعاداً أوسع، وأفرز نتائج أخطر امتدت آثارها إلى المدينة، لأن تعاظم الفقر الذي حاق بالفلاحين، دفع بمئات الألوف منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حاملين معهم إليها كل أوضار المجتمع الريفي الفقير المتخلف. وكان العامل الأول في إفقار الفلاحين هذا قد نتج عن اتساع عملية استيلاء الملاكين الكبار على الأراضي الزراعية.
وجرت العملية المذكورة نتيجة لسياسة الحكومة التي كان يهمها تطمين مصالح الإقطاعيين الذين باتوا أحد أعمدة النظام الأساسية. فشرّعت الحكومة الكثير من التشريعات لتحقيق تلك السياسة، حتى بلغ التفاوت ما بين ملكية الملاكين للأرض الزراعية وملكية الفلاحين، حداً لا مثيل له في أي بلد في العالم. إن 3% فقط من مجموع مالكي الأراضي الزراعية في العراق كانوا يملكون ثلثي الأراضي الزراعية في عام 1958. . وكان هناك ثمانية ملاكين عراقيين فقط بحوزة كل واحد منهم أكثر من مائة ألف (100000) دونماً.
أما القطاع الصناعي فقد حُرم من أموال مجلس الاعمار بحجج مختلفة.  وظلت الشركات الاحتكارية الأجنبية تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد حتى ثورة 14 تموز بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار.

لقد شهدت البلاد في خمسينات القرن الماضي نهوضاً وطنياً عاماً عكس نفسه في الاستعداد الجماهيري لخوض النضالات المطلبية والسياسية، والنزوع القوي نحو الاستقلال الناجز للعراق ورفض جميع الاتفاقيات المكبًّلة لحريته مع الدول الاستعمارية. وكانت الظروف الدولية مشجعة لذلك، وتمثل ذلك في انتصار الثورة الصينية وحصول الهند واندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية الأخرى على استقلالها، والبدء عملياً بتصفية الإرث الاستعماري وتحرير المستعمرات نتيجة لنضال شعوبها. وعلى الصعيد الإقليمي، نالت سوريا ولبنان استقلالهما، وأممت إيران نفطها، وسقط النظام الملكي الموالي للاستعمار في مصر، وتصاعدت حركة السلام العالمية، وظهرت كتلة عدم الانحياز. في مثل هذه الظروف كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط العراق بالأحلاف العسكرية الاستعمارية. وقد حققت الفئة الحاكمة ذلك بانضمامها إلى حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية. وبذلك فضحت نفسها أكثر فأكثر باعتبارها فئة موالية للاستعمار.
في صيف عام 1954 أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب إلى 12 تشرين الأول جملة من المراسيم التعسفية التي اشتهرت باسم (المراسيم السعيدية). كانت هذه المراسيم معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة لدستور البلاد. وكان باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي كان يضم 11 نائباً معارضاً لم يتحملهم نوري السعيد وكان شرطه الأول لتشكيل الحكومة هو حل المجلس المذكور! ولم يحظر نوري السعيد نشاط الأحزاب المجازة فحسب، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها وأغراضها أيضاً، وألغى امتيازات جميع الصحف. وأجاز فقط ثلاث صحف موالية للحكومة. وألزم نوري السعيد السجناء الشيوعيين الذين ينهون مدة محكومياتهم بإعطاء براءة من الشيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا ستسقط عنهم الجنسية العراقية! وأقدمت حكومته فعلا على إسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين.
وبادرت حكومة نوري السعيد إلى شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصلت عدداً كبيراً من أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزتهم في معسكرات تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وباتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للقبول في الكليات حتى ولو كان المرء قومياً! وأضحى جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيد لربط العراق بالأحلاف العسكرية الامبريالية.
إن سياسة نوري السعيد قد عزلت العراق عن شقيقاته العربيات، وراح يتآمر ضدها على المكشوف، مما وسع السخط وعمّقه ضد الحكم الرجعي. فعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي. ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي. فاندلعت انتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها. وخرجت الجماهير الشعبية العراقية في مظاهرات احتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وجوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالقمع العنيف وذلك بإعلان الأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس. وسقط الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب إلى الفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين إلى السجون. وكان كاتب هذه السطور واثنان من أخوته من ضحايا تلك المحاكم.
كانت الأحزاب السياسية حتى انتفاضة تشرين 1956 عازمة على إجراء التغيير في الحكم سلميا. وقد نصت وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي، الذي يمثل الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الصادرة في أيلول 1956 على اعتبار المعركة "ذات طابع سلمي غالب". وكانت هذه الانتفاضة ثالث انتفاضة خلال ثمانية أعوام، ولم تتمكن من تحقيق تغيير في طبيعة الحكم.
فقد قمعت الحكومة بقسوة شديدة وبالحديد والنار جميع المبادرات النضالية. وتهجم نوري السعيد في خطابه رداً على انتفاضة تشرين بعنف وصلافة. وقد ختم خطابه مردداً باستهتار الهوسة المعروفة (دار السيد مأمونة)، ليستفز المشاعر الوطنية والقومية ويدفع جميع القوى الوطنية إلى اليأس من إمكانية إجراء التغيير سلمياً. وهكذا لجأت الأحزاب السياسية إلى الجيش فوجدته جاهزاً للعمل.
وهكذا نرى أن نظام الحكم الملكي بزعامة نوري السعيد لم يقف عائقاً أمام تطور البلد فحسب، بل وقد سد كل السبل أمام الشعب وقواه الوطنية والتقدمية من أن تلعب دورها في تقدمه بالطرق السلمية. ومن هنا اكتسب سقوط النظام الرجعي، الموالي للاستعمار والإقطاع، وبالعنف، مشروعيته التاريخية.
ولم يكن ما حدث في 14 تموز انقلاباً عسكرياً كما يسميه خصومه بهدف انتزاع مشروعية الثورة التاريخية، فالانقلاب العسكري يقتصر على تغيير النخبة الحاكمة بالعنف عسكرياً، أو التهديد به، وتبديلها بأخرى. ولا تهدف إجراءات الانقلاب العسكري إلى تغيير طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع، أما دور الجماهير فيه فيكون صامتاً ومتفرجاً عموماً. بعكس الثورة التي تستهدف تغيير جذري في العلاقات الطبقية في المجتمع وتلعب أوساط واسعة من الجماهير في صنعها وتقرير نجاحها، وهذا ما حصل في ثورة 14 تموز.
ويعلق المؤرخ المشهور حنا بطاطو على دور الجماهير في كتابه الثالث (العراق:الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية ص 115) بالقول " كان لخروج مئة ألف شخص إلى الشوارع، والوحشية التي عبر فيها بعضهم ـ على الأقل ـ عن مشاعره، وزن كبير في تحديد النتيجة التاريخية لذلك اليوم المصيري... فقد عرقلت هذه الحركة أية أعمال مضادة معادية ممكنة لسدها الشوارع والجسور، لا في بغداد فحسب بل في مدن أخرى أيضاً. والأهم من هذا هو أنه كان للجماهير، بفضل عنفها، تأثير نفسي هائل، إذ إنها زرعت الرعب في قلوب مؤيدي الملكية وأسهمت في شل إرادتهم، وأعطت الانقلاب طابع العمل الذي لا سبيل إلى مقاومته، وهو ما شكل الحصن الحصين له".
وهكذا أسدل الستار على نظام الحكم الملكي الموالي للاستعمار والإقطاع، والذي عانى الشعب منه كثيراً واستلمت السلطة المعارضة متمثلة باللجنة العليا للضباط الأحرار وقادة من جبهة الاتحاد الوطني. وكان ذلك، فضلاً عن مساهمة الجماهير الفعالة في مساندة الثورة، بمثابة دلائل مهمة على أن الحدث ثورة، وهذه أولى حلقاتها. وتوالت الحلقات الأخرى سريعاً في السنة الأولى من الثورة. فقد ألغيت أغلب المراسيم التي أصدرها نوري السعيد. وأطلق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وكان كاتب هذه السطور وأحد إخوته من بينهم. كما صدر قانون لتطهير الجهاز الحكومي وآخر لتطهير الجهاز القضائي. وشُرّع قانون الإصلاح الزراعي الذي حرر ملايين الفلاحين من سطوة الإقطاعيين وكبار الملاكين. وشاهد الفلاح بأم عينه واقتنع بأن سطوة الإقطاعيين والأثرياء التي ورثها أباً عن جد لم تكن قدراً من الله ينبغي الاستسلام له. فغدا مرفوع الرأس وأخذ يميّز بين أعدائه وأصدقائه.
وأطلقت الثورة إلى حدود معينة الحريات العامة والنشاطات الحزبية، فأمكن خلال فترة قصيرة جذب أعداد غفيرة، من شغيلة المدن والأرياف، نساء ورجالا، إلى النشاط السياسي. وتم تنظيمها في النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والاتحادات الطلابية، وكذلك في مختلف المنظمات الديمقراطية والمهنية. وامتد هذا النشاط السياسي إلى كل زاوية من زوايا البلاد. وفي هذه الفترة تواصلت المظاهرات والاجتماعات للمطالبة بتحقيق المطالب الشعبية المهمة التي لم تكن قد تحققت حتى ذلك الحين. وتولت كوادر ديمقراطية ويسارية مهمة الإشراف على الإذاعة والصحافة.
واستجابة لمطالب الجماهير، ورداً على حملات ناصر الدعائية، أقدمت حكومة عبد الكريم قاسم على فك ارتباط العراق بحلف بغداد في 24 آذار 1959، وإلغاء الاتفاقية الخاصة مع بريطانيا، واتفاقية الأمن المتبادل مع أمريكا مع ملحقاتها الاقتصادية والعسكرية. وأعلنت الثورة الخروج من منطقة الإسترليني. وعقدت الحكومة مع الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والفنية والتجارية تساعد على نهوض البلاد الصناعي والزراعي. وبتحقيق الاستقلال الناجز، قضت الثورة على فئة الكومبرادور، وهي الفئة الاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بمصالح الاستعمار.
وأصدرت حكومة الثورة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، وهو أول قانون مدني ينظم العلاقات العائلية في العراق بعد أن كانت تخضع لشرائع وأعراف مختلف الطوائف والأديان المتواجدة في العراق. كما صدر القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي حرر 5, 99% من منطقة الامتياز الذي كان يشمل كل الأراضي العراقية من سيطرة شركات النفط الاحتكارية.
ولكن بعد السنة الأولى من الثورة تراجعت قيادتها أمام ضغط القوى الرجعية وبما يشبه الاستسلام لها، ومن ثم تحولت إلى حكم عسكري فردي. لقد وفر هذا الحكم، بسياسته المنافية لحقوق الشعب الديمقراطية وانعزاله عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الحريصة على الاستقلال الوطني والنهج الديمقراطي، الأجواء الملائمة للنشاط التآمري والرجعي. فتزايدت صلافة القوى الرجعية وتجاوزاتها على حقوق الجماهير التي حُرمت من وسائلها لتنظيم نفسها للدفاع عن حقوقها، وبالتالي الدفاع عن الحكم. وجاءت الحرب التي شنتها الحكومة ضد الشعب الكردي، لتُضعف كثيراً من قدراتها العسكرية، وتُزيد من أعبائها المالية، في وقت كان الحكم يُعاني من ضغط شركات النفط وسياساتها في خفض الإنتاج، مُستهدفة من ذلك إشغال الحكم عما كان يُدبّر له. وزادت مشكلة الكويت ومُطالبة عبد الكريم قاسم بها، من التعقيدات السياسية التي كان يواجهها. وهكذا وفر الحكم الظروف الملائمة لإسقاطه.
فهل سقطت ثورة 14 بسقوط حكم قاسم العسكري الفردي؟ أعتقد بأنها لم تسقط،، بمعنى معين، لأنها لم تكن، في التحليل الأخير، انقلاباً عسكرياً. فبقيت روحها حية في قلوب وعقول وضمائر العراقيين الذين واصلوا ويواصلون كفاحهم ببسالة من أجل تحقيق هدفها الأساسي، ألا وهو إقامة نظام وطني ديمقراطي مؤسساتي  يسعى لتحقق العدالة الاجتماعية ويلبي مطامح الشعب الكردي القومية.










11
هل رحل المناضل عزيز سباهي عنّا نهائياً؟ *
جاسم الحلوائي
برحيل الرفيق عزيز سباهي (أبو سعد) رحلت عنًا قامة شيوعية ووطنية شامخة، وصحفي وكاتب وباحث مرموق ومتنوع الإنتاج وغزيره. وكذلك فهو فنان مبدع حالت ظروف ذاتية وموضوعية دون بروز إبداعه، فهو إلى جانب كونه خطاطاً معترفاً ببراعته فهو رسام أيضاً.
ولكن هل رحل المناضل عزيز سباهي نهائياً، كما يرحل يومياً الكثيرون؟ كلا وألف كلا! لقد رحل أبو سعد بجسده ولكن أفكاره وإبداعاته باقية وستبقى إرثا خالداً.  فقد ترك لنا تراثاً ثريا سيظل يتحدث عنه، ويذكرنا به، ويبقيه حياً دائم الحضور بيننا وتتحدث عنه الأجيال القادمة، متجسداً ذلك في خمسة عشر كتاباً بين مؤلف ومترجم،  هذا إلى جانب العديد من الأعمال والدراسات. وقد غطى إنتاجه ميادين الفلسفة والتاريخ ومختلف فروع الاقتصاد والحياة الاجتماعية والإثنية. ولم تقتصر بحوثه على شؤون العراق بل شملت بلداناً عربية وأجنبية أيضاَ.
ومن أبرز مؤلفاته التاريخية كتابه الكبير"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، وبصدور هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، التي تجاوزت (1500) صفحة من القطع الكبير، أصبح لدى القارئ، ولأول مرة، تاريخ مدونّ ومطبوع يغطي حوالي ستة عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. وبذلك توفر مصدر مهم للثوريين ولجميع المناضلين من أجل غد أفضل، ولجميع الباحثين في تاريخ العراق المعاصر بشكل عام وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي بشكل خاص. وكان لي شرف تقديم قراءة نقدية موسعة لكتابه المذكور، وقد صدرت القراءة في كتاب تحت عنوان "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي".
إن حياة الرفيق عزيز سباهي النضالية، بوصفه كادراً شيوعياً، زاخرة بالنشاطات السياسية الوطنية في مختلف الظروف وأصعبها، فكان كاتباً نشطاً وبارزاً في صحافة الحزب الشيوعي العلنية والسرية وعضواً في هيئة ومجلس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة" لسنوات طويلة. وشغل عضوية اللجنة الاقتصادية المركزية للحزب الشيوعي العراقي خلال السنوات 1974ـ 1978. وأصبح عضوا في قيادة تنظيم الخارج وفي لجنة العمل الأيديولوجي المركزية في السنوات الأخيرة من الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي.
وقد تعرض الرفيق عزيز سباهي خلال نضاله من أجل حرية وطنه وسعادة شعبه إلى ثمانية عشر عاما من السجن والإبعاد، بما في ذلك سنوات عديدة قضاها في سجن نقرة السلمان الصحراوي وفي سجن بعقوبة الانفرادي، وتحمل صنوف التعسف والاضطهاد الذي تعرض له السجناء الشيوعيون العراقيون. واضطر للهجرة من العراق في عام 1978 أثناء تعرض الحزب الشيوعي العراقي للقمع الوحشي من قبل النظام الدكتاتوري المقبور. لقد استفاد سباهي من إقامته في السجون لتطوير إمكانياته، فطوّر لغته الإنكليزية وأغنى معارفه، حيثما أمكن ذلك.
لقد التقيت الفقيد عزيز سباهي لأول مرة في سجن بعقوبة الانفرادي في عام 1957 وقد قيدت رجليه بسلسلة حديدية، لأنه كان من ضمن المحكومين بالأحكام الثقيلة. وكان على وشك إنهاء محكوميته البالغة عشر سنوات ليتم إبعاده بعدها إلى ناحية بدرة لمدة ثلاث سنوات، لم يقضها حيث تحرر في إثر ثورة 14 تموز المجيدة. وتجددت لقاءاتنا في سبعينات القرن الماضي لاهتمامنا المشترك بالحركة الفلاحية والمسألة الزراعية وفي الثمانينات في لجنة العمل الأيديولوجي وكونفرنسات تنظيم الخارج للحزب في براغ. وقد زارني في أواخر القرن الماضي هنا في الدنمارك، عندما كان في مرحلة جمع المعلومات لكتابة تاريخ الحزب، واستمر التواصل بيننا بالرسائل والتلفونات والايميلات.
الرفيق عزيز سباهي مدرسة في الأخلاق والخصال الحميدة فهو جم التواضع، زاهد، متسامح ومرن، يتقبل الرأي المخالف وكذلك الانتقاد برحابة صدر، حسن الإصغاء، مثابر، مجتهد، قارئ نهم، ناكراً لذاته ومهذب الألفاظ. لقد كان إنساناً رائعاً، وهذا ما يبقيه، إضافة إلى أفكاره وإبداعاته، حياً في ذاكرتنا وضمائرنا.
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتوجه بأحر التعازي والمواساة لرفيقة دربه وشريكة حيات العزيزة ليلى الشيخ (أم سعد)  وأبنائه الأعزاء سعد وسامرة وزياد، ونعزي الأصدقاء الأعزاء عبد الإله سباهي (أبو صبحي) شقيق الفقيد وكوثر (أم صبحي) وصبحي وجميع أهله ومحبيه وقرائه.
ونعزي أنفسنا والشعب العراقي لخسارة قلم مكرس للحرية والعدالة والمساواة والسلام، ليس للشعب العراقي بكل مكوناته فحسب، بل وللشعوب العربية والبشرية جمعاء.
الذكر الطيب للفقيد الغالي عزيز سباهي والصبر والسلوان لذويه ولجميع محبيه.
* الكلمة التي ألقيت في الحفل التأبيني الذي أقيم للفقيد عزيز سباهي في كوبنهاكن
يوم 7 شباط 2016


12
حول "صندوق الأبنوس"*
جاسم الحلوائي
في البدايةً، بودي أن أهنئ الكاتب عبد الإله سباهي على صدور مجموعته القصصية "صندوق الأبنوس" بعد صدور مجموعته الأولى "أولاد المهرجان" في عام 2010، وقصة "اللطلاطة" في عام 2011.
لديّ انطباعات وملاحظات عامة عن المؤلفات الثلاثة وخاصة الأخير منها.
تتسم قصص الكتب الثلاثة بالواقعية والسلاسة والأصالة المملحة بالسخرية والحِكم والمقولات الشعبية. وتتسم كذلك بتنوع مواضيعها ورسائلها الهادفة، التي من شأنها أن تغني القارئ معرفة وتنويراً، خاصة عندما يتناول سباهي مواضيع غير مطروقة مثل السحر والأحجار الكريمة وغيرها. أما عندما يتناول مواضيع مطروقة، فإنه يضيف إليها ويغنيها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عند إشارته إلى عادات وتقاليد ومعاناة الصابئة المندائيين، وإلى طبيعة الأهوار وظروفها غير المألوفة، وإلى غيرها من المواضيع.
وقبل هذا وذاك، فإن الكاتب عبد الإله يمتلك ناصية السرد، ولا تعوزه مهارة الحبكة. فلا تثير قراءة قصصه الملل في القارئ وإنما تشده، ويعد هذا الأمر عنصراً حاسماً في نجاح أو فشل الإنتاج القصصي. 
مع ذلك، يلاحظ القارئ أحياناً كبوات في السرد، عندما يتحول السرد القصصي إلى ما يشبه التقرير الصحفي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عند التطرق إلى الحرب العراقية الإيرانية في قصة "صندوق الأبنوس"، ص 80، يذكر الكاتب سباهي وبدون مقدمات ما يلي: " اندلعت حرب العراق مع جارتها إيران في 22/9/ 1980 وكانت حرباً بدون أسباب ظاهرة...والخ.
ويلاحظ المرء كذلك أن هناك مبالغة في إيضاح السرد على حساب أسس بناء القصة، التي تتطلب إخفاء الفكرة الرئيسية، إلى حد ما، ودفع القارئ لتخمينها  ويساعد ذلك على تشويق القارئ واندماجه بأجواء القصة. أما الهدف النهائي للقصة، فينبغي أن يترك لاستنتاج القارئ، بعد أن تجري تنويهات أو تلميحات فنية، وبدون شرح وتوضيح، يذّكر المرء بالمقالات.
ويبقى التساؤل قائما حول مدى تطابق خصائص القصة القصيرة، التي إحداها التكثيف، على بعض القصص التي سميت بالقصيرة مثل: "جذور واهية" 88 صفحة في كتاب "أولاد المهرجان" أو "صندوق الأبنوس" 80 صفحة. أما "اللطلاطة" فقد ظُلمت عندما سميت قصة فهي مقسمة إلى خمسة أجزاء وفي كتاب واحد تجاوزت صفحاته المئتين، وكان الصحيح تسميتها رواية.
لاحظت أن هناك أخطاء مطبعية في كتاب  "صندوق الأبنوس" واستخدام غير سليم لرموز الكتابة مثل القويسين والقوسين والتنوين وغيرها، ويبدو أن الكتاب لم يدقق مثل كتب الكاتب السابقة و التي قد خلت من هذه الأخطاء.
رؤية الكاتب عبد الإله سباهي رؤية تقدمية وعلمية راسخة وبنفس الوقت مرنة، وهي تكمن في أساس نجاح كتاباته. ويبدو أنه يتقصى بدأب المواضيع التي يكتب عنها. ولكن يبدو لي أن خيبات أمله تجد لها إسقاطات غير سليمة أحياناً في كتاباته. مثل سؤاله في قصة "مأمون الألماني" الذي نص على ما يلي: "أيعقل أن يضحي مأمون بشبابه في الكفاح من أجل وطن حر وشعب سعيد فيجد ترابه يداس تحت أقدام جنود (المارينز) والناس تبحث في النفايات عن كسرة خبز؟". هذا السؤال ينطوي على تشكيك بجدوى الكفاح من أجل مستقبل أفضل ما دامت نتائجه المباشرة غير مضمونة، وهذا غير صحيح،  لأن مثل هذه الضمانات لم ولن تتوفر. فقد كان الكفاح وسيظل من أجل غد أفضل روح تاريخ البشرية، فالمستوى المعاشي والحضاري في هذا البلد الذي نقيم فيه والبلدان المشابهة له ليس بمعزل عن تلك الروح، بدءاً من ثورات العبيد في روما قبل الميلاد حتى يومنا هذا، وكان قائد إحداها سبارتاكوس، الذي أعدم وزملاؤه من قبل الأسياد بعد فشل ثورتهم، بمثابة المَثل الثوري للمناضل الاشتراكي الكبير والمفكر العبقري كارل ماركس (1818-1883) . وستستمر هذه الروح إلى أمد بعيد رغم كل التضحيات، حتى زوال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وتبعاً لذلك زوال كل مظاهر الوحشية والعنف في المجتمع البشري.
على أية حال، إن أي ضعف أو هفوة في كتاب "صندوق الأبنوس" لا يقلل من قيمته الأدبية والمعرفية. فالكتاب جدير بالقراءة.
----------------------
* ورقة ألقيت في الأمسية الثقافية التي استضاف فيها نادي الكتاب والسينما في الدانمارك الأستاذ عبد الإله سباهي احتفاء بصدور مجموعته القصصية الجديدة "صندوق الأبنوس" وذلك في يوم 9 آب 2015.


13
الحزب الشيوعي العراقي والإعلام الإلكتروني
جاسم الحلوائي
أصبح الحاسوب وتطبيقاته جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمعات، ثم ولدت شبكة الإنترنت من رحم هذه التقنية، فأحدثت ثورة الإنفوميديا (الوسائط الإعلامية) التي يستند عليها الإعلام الإلكتروني.
والإنفوميديا، هو اندماج التكنولوجيتين‹ الأعظم قوة والأكثر انتشارا، وهما المعلوماتية Information ووسائل الإعلام Media. وتتكون تكنولوجيا المعلومات مـن كـومـبـيـوتـرات وأجهزة تخزين المعلومات. أما تكنولوجيا وسائل الإعلام فهي عبارة عن أجهزة سمعيـة وبـصـريـة كالتليفزيون والـراديو والهاتف وغيرها. والكومبيوتر هو القوة المحركة وراء ذلك الاندماج، وفي الماضي، كان هناك خط فاصل محدد يفصل بين‹ كل تكنولوجيا.
لقد ساهمت الإنفوميديا  في ظهور نوع جديد من الإعلام، وهو الإعلام الإلكتروني المقروء والمرئي والمسموع، الذي يعتبر ظاهرة إعلامية جديدة يتميز بسرعة الانتشار والتغيير، والوصول إلى أكبر عدد من الجمهور وبأقصر وقت ممكن وأقل تكلفة، كما يوفر للمتابع التمتع بحرية أوسع بالمقارنة مع الصحافة المطبوعة. ويحقق التفاعل بين القارئ والكاتب من خلال التعليقات على الأخبار والمقالات. والتفاعل السريع مع الأحداث في لحظة وقوعها في الزمان والمكان. وإضافة إلى ذلك فإن هذا الإعلام يوفر أرشيفاً ومكتبة، ويوفر كذلك البحث عن المواضيع بكل سهولة. وتبعاً  لذلك، بات الإعلام الحديث يشكل نافذة مهمة جداً تسمح بنشر المعلومات والحصول عليها. ومن أبرز أنواع الإعلام الحديث هو الجريدة الإلكترونية، التي جرت العادة على تسميتها بالموقع مقترناً باسمها الإعلامي. وعلى غرار كل تطور، فإن هناك جوانب سلبية معينة في الإعلام الحديث، إلاّ أن تأثيرها محدود ولا يتناسب مع أهميته الهائلة إطلاقاً.
لقد انطلق أول موقع للصحافة الإلكترونية على الانترنت في عام 1993 في كلية الصحافة والاتصال الجماهيري في جامعة فلوريدا في الولايات المتحدة. وتعد صحيفة إيلاف التي صدرت في لندن عام 2001 أول صحيفة إلكترونية عربية وبتقنية تضاهي مثيلاتها العالمية.
في عام 1999 انطلق موقع الطريق التابع للحزب الشيوعي العراقي، بمبادرة فردية من أحد كوادر الحزب في السويد، وكانت خطوة هامة جداً ومبكرة تستحق التثمين. ولكن الموقع لم يطرأ عليه التطور المطلوب، وظل يعمل بإمكانيات شحيحة وبتقنية ضعيفة وإخراج متواضع لفترة طويلة نسبياً. ومع ولادة العديد من المواقع العربية والعراقية المتطورة، وخاصة بعد سقوط النظام الدكتاتوري في عام 2003، وانتشار الإنترنيت في العراق، تعزز الطموح والاهتمام لدى الحزب وقيادته بتطوير موقع الطريق. 

ومع تراكم التجارب والبحث المستمر عن الجيد والأجود من المستلزمات الضرورية، وبالاقتران مع استيعاب متطلبات الإعلام الإلكتروني وتطبيق إمكانيات الإنفوميديا المتنوعة، انطلق قي 10 شباط 2010 موقع الطريق باسم جديد وهو "الحزب الشيوعي العراقي". وتم تحديث وتصميم الموقع في حزيران 2013. ويمكن القول بأن الموقع الحالي يختلف نوعياً من حيث الشكل والمضمون عن الموقع السابق، فالموقع الحالي  يأتي في مقدمة مواقع الأحزاب الشيوعية العربية من حيث سرعة نشر الأخبار  والمساحة المتوفرة للمقالات وللآراء الحرة، وكذلك بعدد الأقسام والنوافذ وتنوعها. وباعتقادي أنه يضاهي، من نواحي عديدة، المواقع العربية المرموقة والمتطورة، ويشهد الموقع ونوافذه المختلفة إقبالا واسعاً، حيث يصل عدد زواره أكثر من 20 ألف زائر في اليوم أحياناً.
ينشر الموقع صحيفة "طريق الشعب" بانتظام. ويمكن للقارئ تصفحها بطريقة الكترونية وكذلك بطريقة پي دي أف، و في الليلة التي تسبق صدورها الورقي. هذا إلى جانب وجود مواد الصحيفة المكتوبة التي توفر إمكانية الاستنساخ. وهناك أرشيف للأعداد السابقة، ولأعداد "الطريق الثقافي"؛ أي الملحق الثقافي للجريدة.
وعندما نقوم بجولة على الصفحة الرئيسية، نشاهد بأن الموقع ينشر صحيفة "ريڱاي كردستان" لسان حال الحزب الشيوعي الكردستاني- العراق، ومجلة "الثقافة الجديدة"، إضافة إلى مطبوعات حزبية، مثل "الشرارة" وهي سياسية ثقافية عامة تصدرها محلية الحزب الشيوعي في النجف، و صحيفة "بيرموس" وهي فكرية سياسية ثقافية عامة، تصدرها منظمة القوش، ونشرة العمال التي تهتم بالعمال وشغيلة اليد. وانطلاقاً من مبدأ التضامن الأممي، ينشر الموقع صحف بعض الأحزاب الشقيقة، منها "الاتحاد" التي تصدرها الحركة التقدمية الكويتية، وصحيفة "الميدان" للحزب الشيوعي السوداني، وهناك أرشيف لجميع هذه المطبوعات. كما ينشر الموقع بانتظام ما يصدر من بيانات الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وغيرها من البلدان.
وإذا تحولنا إلى نوافذ الموقع في أعلى الصفحة، لوجدنا أن هناك اثني عشر قسماً وهي: الأخبار، المنبر الحر، المدارات، المجتمع المدني، أدب وفن، التحالف المدني الديمقراطي، فضاءات، الكاريكتير، الصورة، البوستر، الملفات، والإعلانات عن الفعاليات السياسية والثقافية والفنية.
إننا لو توقفنا عند قسم الأخبار، لوجدنا أن هناك تحسناً كبيراً في هذا القسم. فالأخبار تنشر بحرية وبدون تحفظ وعلى مسؤولية مصادرها. وكما أشرنا سابقاً بأن إحدى مميزات الإعلام الإلكتروني هي السرعة، وهذا القسم يحتاج إليها أكثر من أي قسم آخر. ولذا ينبغي العمل على توفير مستلزمات تحسين السرعة وعلى مدار الساعة من العاشرة صباحاً حتى العاشرة مساءً!. إن الحركة الدائرية للأخبار لا تعزز السرعة، فالقارئ ليس لديه الوقت الكافي لكي يقرأ عناوين أخبار يومين، وان ما يهمه هو معرفة آخر الأخبار. أعتقد من الأفضل أن تكون آخر الأخبار على الصفحة الرئيسية ثابتة، وتتحرك عند إنزال خبر أو أخبار جديدة، وتأخذ الأخبار القديمة طريقها إلى الأرشيف مع تثبيت آلية (مزيداً من الأخبار).
وبودنا أن نتوقف أيضاً عند قسم "المنبر الحر"، حيث تنشر المقالات التي لا تتطابق بالضرورة مع سياسة الحزب، وهي تنشر على مسؤولية كتابها. ولقد شهد هذا القسم أيضا تطوراً ملموساً. لقد أشرنا  سابقاً إلى أن إحدى ميزات الإعلام الإلكتروني هي سعة الحرية. و تطبيق هذه المقولة في هذا القسم يكتسب أهمية أكبر من الأقسام الأخرى. فينبغي أن يكون صدر الموقع رحباً، لكي يحافظ على كتابه ويزيدهم ويعزز حيوية الموقع، فيسمح بالاختلاف أو النقد لهذا الجانب أو ذاك من سياسة الحزب وتاريخه، ولا يسمح بنشر مقالات تعود لأشخاص معادين للحزب، أو مواد تتقاطع كلياً مع سياسة الحزب ونهجه العام، أو تتعمد الإساءة للحزب وتاريخه.
وبالإضافة إلى نوافذ "أقسام الموقع"، هناك نافذة لبث فضائية "ريكا" (الطريق) التلفزيونية، و"فيديو الموقع"، الذي ينشر أفلام فيديو عن نشاطات الحزب ولقاءات تلفزيونية لرفاق في قيادة الحزب وأنشطة حزبية متنوعة. هذا فضلا عن نوافذ "المكتبة الصوتية" و"مكتبة الكتب" و"البوم الصور" و "الأغاني". وبودنا هنا أن نتوقف قليلاً عند "مكتبة الكتب".
من المعروف أن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي تعرض في العقود الأخيرة ولا يزال يتعرض إلى التشويه، فقد تحوّلت بعض الإشاعات المغرضة والإساءات البالغة الموجهة إليه إلى "حقائق راسخة" حتى لدى كتاب ومفكرين ومتخصصين في تاريخ العراق المعاصر، وبعضهم من يحمل شهادات عالية. ولذا فمن المفيد أن تضم المكتبة كتاب عزيز سباهي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" والكتاب المكمل له " "محطات مهمة من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، لكاتب هذه السطور، هذا إضافة إلى مطبوعات دار الرواد الأخيرة، وإصدارات موقع الناس، التي تتناول تاريخ الحزب أو الدفاع عنه.
لم يتوقف التغيير فقط على طبيعة الإعلام القديم بظهور الإعلام الجديد، وإنما تعداه لطبيعة الجمهور وموقعه من العملية الإعلامية، المكونة من مرسل ومستقبل ووسيلة ورسالة ورجع صدى، وخاصة جمهرة الشبيبة وهي الشريحة الأكثر تفاعلاً مع قضايا الحداثة والتجديد والعصرنة. فهم يحسنون استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي الفيسبوك والتويتر التي توفر لهم كل المكونات المذكورة ويتم استخدامها من قبلهم على نطاق واسع، بما في ذلك تنظيم النشاطات والفعاليات، خصوصاً في مجال النشاط الديمقراطي والجماهيري، ولم يعد هذا الجمهور منجذباً للإعلام الذي يبقيه كمتلقي فقط. فالمطلوب من موقع الحزب أن يأخذ متطلبات جمهور الإعلام الإلكتروني بنظر الاعتبار. فإذا كانت إمكانية التعليق على المقالات في حقل "المنبر الحر"غير ناضجة  في الوقت الحاضر، فمن الممكن الاقتصار على التقييم بواسطة عدًاد، أو ذكر عدد قراء المقال بعدّاد، والآلية الأخيرة متوفرة في مواقع متواضعة جداً. ويمكن فتح باب "سؤال وجواب". كما يمكن للمرء أن يقترح أيضا توفير إمكانية الحوار المفتوح.
من المعروف أن وظيفة موقعي الفيسبوك وتويتر هي التواصل الاجتماعي، ويلاحظ أن هناك نقص في هذين الموقعين العائدين للحزب الشيوعي العراقي في إطار هذه الوظيفة بالذات. إن جمهور هذين الموقعين لا يمكن أن يرجع إلى الوراء ويكون مجرد متلق، حيث يقرأ نفس المواد المنشورة في موقع الحزب، وغالبيتها العظمى سياسية، وبدون أي تفاعل. من الممكن أن يدخل المتابع على  الموقع ويستحسنه، ولكنه لا يعود إليه ثانية!. فالمطلوب هو إعادة الوظيفة الاجتماعية للموقعين المذكورين وتفعيلهما.
على أي حال، لابد من القول أن الإعلام الإلكتروني أصبح محور الحياة المعاصرة وله أهميه كبيرة، لإحاطته بمختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية، وأصبح مستخدمو الإنترنت في العراق في تزايد مستمر في ظل ثورة الانفوميديا، كل ذلك وغيرها من الأسباب التي لا حصر لها، تؤكد أن الإعلام الإلكتروني هو إعلام المستقبل.
ولم يقتصر نشاط الشيوعيين على إعلامهم الإلكتروني، فيساهم الكثيرون منهم، وبمختلف مستوياتهم، في نشر نتاجاتهم في عشرات المواقع الإلكترونية، ولديهم حساباتهم الشخصية في الفيسبوك وتويتر، ولدى بعضهم مدونات شخصية. ويساهمون كذلك في البالتوك والحوارات المفتوحة. ويعمل بعض الشيوعيين في إدارة بعض المواقع اليسارية والديمقراطية، أو لديهم موقعهم الإلكتروني الخاص. وهناك موقع خاص للأنصار الشيوعيين باسم "ينابيع العراق".
ومن المؤسف أن وسطاً من المثقفين و السياسيين داخل الوطن يعاني من الأمية الإلكترونية، ويبررون ذلك بمختلف المبررات، وفي حقيقة الأمر أن ما يعوزهم هو إرادة التعلم والاستعداد لبذل جهد معين للتغلب على صعوبة البداية، وإذا لم يتدارك هؤلاء وضعهم، فسيجدون أنفسهم خارج سياق العصر ومتطلباته. فتراهم لا يتمكنون حتى من استخدام التلفون الذكي، والذي بات من الضروريات لوسط متزايد من الناس، في الوقت الذي أصبح استخدامه شائعاً ليس في أوساط الشبيبة بل وحتى في أوساط الفتيان.
وبهذه المناسبة أرجو أن يسمح لي القارئ بأن أستثني كبار السن من النقد الموجه للأميين الكترونياُ. فلم تسمح لهم ظروفهم، بما في ذلك أوضاعهم الصحية، من استخدام الكومبيوتر. وكم كنت أتمنى أن أتبادل، مع العديد من أصدقائي المسنين، المعلومات بشكل مباشر وسلس، أو أمرر لهم ما أقرأه من مواد ممتعة أو مفيدة.
ولمناسبة العيد الثمانين للصحافة الشيوعية، بودي أن أحيي وأقدر عالياً جهود جميع العاملين في إعلام الحزب الشيوعي العراقي، الذين يضحون بالكثير في سبيل تحقيق إعلام نظيف وصادق ومعاصر، يسهم في تحرير وطننا الغالي من الغزو الداعشي الوحشي، ويكافح ببسالة مع التيار الديمقراطي والقوى الرافضة بصدق للطائفية، من أجل إقامة نظام ديمقراطي مدني يستنهض القيم الوطنية ويقضي على الفساد ويحرص على تحقيق العدالة الاجتماعية.
المصادر
1- ثورة الإنفوميديا، تأليف الدكتور فرانك، ترجمة حسام الدين زكريا، مراجعة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة - الكويت، كانون الثاني 2000.
2- الويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
3- موقع "موهوبون" الإلكتروني.
4- رسالة من الرفيق سلم علي (أبو جواد)، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، تتضمن معلومات حول موقع الحزب. وأخرى من يونس بولص متي (أبو سيفان)، تتضمن ملاحظات ومقترحات حول موقع الحزب القديم.


14
المنبر الحر / أبو شروق !
« في: 19:33 01/06/2015  »

أبو شروق !

إسحاق الشيخ يعقوب

أكثر من نصف قرن كنت و إياه و آخرين ( ... ) على مقاعد المدرسة العليا نتلقى أصول "الفقه" الماركسي و كان هو من العراق و كنت أنا من السعودية و كان هو غير اسمه و كنت أنا غير اسمي و كان يناديني (الحجي) و كنا جميعاً نناديه ( أبو حقي ) لأنه يقول الحق و لو على نفسه و كان هو دون غيره الأقرب إلى قلبي و كان التجاذب الكيميائي يجاذب نفسينا و كان لهذا التجاذب دور على ما أظن في تجذير الصداقة بيننا على مدار أكثر من سنة ..

بعدها غادرت و غادر فتقطعت سبل علاقة صداقتنا على مدار أكثر من نصف قرن، إلا أن ذاكرتي لسبب أو بدون سبب ما أكثر ما تنبش جمالية و حميمية ذكراه (... ) و كنا خليط دول عربية فالبعض منا مات موتة ربه و البعض منا مات موتة سياسية و البعض منا استشهد في خضم الصراع السياسي (!) نصف قرن لا أدريه ولا يدريني في خضم غمرة العمل السياسي الذي انغمرنا فيه ... و قد تجشم عن حق مخاطر العمل السياسي و انغمر فيه بجدارة فائقة و عزيمة شجاعة متوثبة متمردة و هو من الكوادر السياسية الحزبية العراقية الفاعلة الذي يجعل العاصفة أن تنحني ولا ينحني لها (!) و كنت اقرأ له أحيانا في الصحف ولا أدريه و كان يقرأ لي أيضا في الصحف ولا يدريني (!) و كانت هواجسي تقلب المقالات السياسية و الفكرية هنا و هناك علّ عيني تقع على صورته لأدريه فقد حفرت تقاطيع وجهه في ذاكرتي حفراً و أصبحت ذاكرته تعاودني بمناسبة و بدون مناسبة .

و بعد أكثر من خمسين عاماً رنّ هاتفي رنيناً مميزاً فزّ قلبي في ذات الرنين،  رفعت مقبض الهاتف قربته إلي أذني و كان الصوت يأتيني من بعيد قائلاً أنت ( الحجي ) أنا ( أبو حقي ) فراح شريط الذاكرة يأخذني أخذاً إلى أيام الدراسة و في تفاصيل علاقات تضج بالفكر و السياسة و الفلسفة (...) و كم توهجنا بهجة عارمة التألق كوننا بعد هذا العمر لم نزل نغد السير على ذات الطريق و على ذات الأفكار و المبادئ الإنسانية و عندما بعث إلي كتابه (الحقيقة كما عشتها ) تناهبته ( نعيمة ) و الأولاد و البنات و كلهم يريدون أن يعرفوا شيئاً بشغف عن صديق والدهم التراثي الذي كان يُحدثهم عنه (...) حقاً أن سيرة جاسم الحلوائي زاخرة بالنضال و التفاني من اجل انتصار الإنسانية العراقية على الظلم و الكراهية و أن تغمر المحبة و السلم وجه الأرض (...) و إني أجده في سيرته الذاتية كما عرفته صادقاً مخلصاً موضوعياً أميناً على معتقداته السياسية و الحزبية و في ذات طبيعته ودوداً محباً عاشقاً للحياة يغضب ضاحكاً و يضحك غاضباً و يكاد أحيانا أن ينقلب على ظهره من شدة الضحك (!) جاسم الحلوائي في سيرته الذاتية (الحقيقة كما عشتها) يتشكل في نشاطه السياسي و الفكري و تفانيه المنقطع النظير في الالتزام بإرادة العمل التنظيمي مقدماً نموذج نوعية المثقف العضوي في حزب الطبقة العاملة (...) و احسب أن كتاب (الحقيقة كما عشتها) للمثقف العضوي جاسم الحلوائي جدير بأن يكون منهلا فكرياً و ثقافياً و تنظيمياً للشبيبة العراقية التي يتجدد بها حزب الطبقة العاملة ( الحزب الشيوعي العراقي ) ضمن مسيرته النضالية من أجل وطن حر و شعب سعيد (!)
إن كتاب ( الحقيقة كما عشتها ) للصديق الفاضل جاسم الحلوائي يشكل ملحمة نضالية متميزة المصداقية و الأمانة في العمل المتفاني من اجل الحرية والديمقراطية و الانتصار على الجهل و الظلم و التخلف و في تحقيق أماني وطموحات كادحي الوطن العراقي في حياة حرة أبية كريمة (!)
تعليق أبو شروق (جاسم الحلوائي) على المقال
شكراً جزيلاً، عزيزي أبا سامر، على مقالك الجميل، فقد عبرت فيه عن طبيعة صداقتنا الجميلة والنادرة والمثيرة، خير تعبير. وكان بودي أن أعلن تحفظي على مديحك لشخصي، ولكنني خشيت أن أخدش مصداقيتك التي لا أشك فيها، ففضلت أن أقول بأنني أتمنى أن أكون كما وصفتني.
أتمنى لك وللعائلة الكريمة دوام الصحة وأجمل الأمنيات

15
المنبر الحر / إنصافاً للتاريخ
« في: 13:19 04/05/2015  »
إنصافاً للتاريخ

جاسم الحلوائي
نشر الأستاذ حامد الحمداني مقالاً في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 24 نيسان 2015 تحت عنوان " من ذاكرة التاريخ: البعثيون والشيوعيون والجبهة الوطنية"
لقد استعرض الكاتب طبيعة العلاقة بين الشيوعيين والبعثيين منذُ أن عاد البعثيون إلى الحكم عن طريق انقلاب 17ـ 30 تموز 1968 وحتى انهيار "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية". إن استعراض الأستاذ الحمداني تضمن الكثير من المعلومات الصحيحة، ولكن المقال احتوى أيضا، بعض النواقص والأخطاء المهمة التي لم تنصف الحزب الشيوعي العراق، حيث أظهرت الحزب وقيادته بمظهر الضعيف والمستسلم والمهزوم، وتوحي نهايات المقال وكأنما الحزب الشيوعي العراقي انتهى بنهاية تلك المرحلة. وهذا هو الانطباع الذي يخرج به قارئ المقال. وبالتالي لم ينصف الكاتب حامد الحمداني التاريخ، إن لم نقل شوّهه! وهذا ما نأسف له أشد الأسف، لأننا لم نكن نتوقع ذلك من كاتب نجّله ونحترمه ونحسبه ملماً بتاريخ العراق المعاصر، بما في ذلك تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. (مقال الحمداني مرفق)
قبل التطرق إلى نواقص وأخطاء المقال، لابد من الإشارة إلى أننا عندما نتناول مواقف الحزب الشيوعي وخلفياته في ذلك العهد أو أي عهد آخر، لا نقصد تبريرها، وإنما نعرض واقع الحال كما هو آنذاك إنصافاً للتاريخ. وللحزب تقييمه لتلك الفترة، التي يتناولها الأستاذ الحمداني، والذي أقر في مؤتمره الرابع المنعقد في عام 1985، بعد مناقشة مسودته في منظمات الحزب ونشر التقييم في وثيقة تحت عنوان "تقييم تجربة حزبنا النضالية للسنوات 1968-1979" والذي ينتقد الحزب فيه أخطاءه في ذلك العهد.
وسأجمل ملاحظاتي في عدد من الأمور التي تؤكد رأيي  في مقال الحمداني:
أولاً- يذكر الكاتب الحمداني في مقاله، بعد التطرق إلى الضربة التي وجهت إلى القيادة المركزية في شباط عام 1969 ما يلي: " إلا أن تلك الضربة كان تأثيرها ما يزال يفعل فعله، حيث فقد الحزب العديد من أعضائه إما قتلاً أو سجناً أو اعتكافاً عن مزاولة أي نشاط سياسي بسبب فقدان الثقة التي سببتها اعترافات عزيز الحاج و بيتر يوسف وحميد خضر الصافي وكاظم رضا الصفار أعضاء القيادة .
أما الحزب الشيوعي [ اللجنة المركزية ] فقد ألتزم جانب السكوت عما جرى، وتمسك بالهدنة المعلنة مع حكومة البعث ثم بادر الطرفان البعث والشيوعي بالتقارب شيئاً فشيئاً بعد أن أقدمت حكومة البعث على جملة من القرارات والإجراءات التي أعتبرها الحزب الشيوعي مشجعة على هذا التقارب، وبالتالي التعاون والسعي لإقامة جبهة وطنية فيما بعد". انتهى الاقتباس.
ليس من الصحيح  القول بأن الحزب الشيوعي العراقي "ألتزم جانب السكوت عما جرى"، فقد أدان الحزب القمع الوحشي الذي تعرضت له المنظمة المنشقة وطالب بإطلاق سراح المعتقلين. ويشير إلى ذلك د. رحيم عجينة في مذكراته على الوجه التالي:
"تعرض المنشقون على الحزب (القيادة المركزية) لحملة اعتقالات واسعة ورافقتها انهيارات مهينة وظهور على شاشة التلفزيون. وعندما سمعنا باعتقال عزيز الحاج بادرنا إلى بحث الموضوع في لجنة العلاقات (وكانت تضم اللجنة آنذاك عامر عبد الله ومكرم الطالباني ومهدي الحافظ وماجد عبد الرضا، ويشرف عليها مباشرة عزيز محمد. ج) وقررنا أن نلتقي بالبعثيين ونطلب منهم الحفاظ على حياته، بالرغم مما سببه للحزب من أضرار جسيمة، لأننا توقعنا إعدامه بسبب تبني المنشقين الكفاح المسلح ضد البعثيين.
من أجل ذلك قابل بعضنا عبد الله سلوم السامرائي وآخرون عبد الخالق السامرائي وقدمنا طلبنا لهم. لكن الذين قابلوا عبد الله سلوم حصلوا على تأكيد أن حياة عزيز الحاج لن تمس لأنه بعد إلقاء القبض عليه مباشرة طلب اللقاء مع المسؤولين في القيادة البعثية!!
وعليّ أن أذكر أننا شجبنا الحملة الإرهابية الشرسة التي تعرضت لها هذه المجموعة وطالبنا بوقفها وإطلاق سراحهم وأدّنا بقوة ما تعرضوا له من تعذيب وقتل تحت التعذيب واستشهاد عدد منهم استشهاداً بطولياً". انتهى الاقتباس. [1]
فهل أنصف الحمداني التاريخ بادعائه بأن الحزب "ألتزم جانب السكوت عما جرى"؟!
ثانياً- ولتبشيع "سكوت" الحزب على القمع الوحشي، الذي تعرض له شيوعيون منشقون عنه، فإن الكاتب الحمداني يقفز على الأحداث ويشير إلى تطور علاقة الحزبين الشيوعي والبعث والسعي لإقامة جبهة وطنية. وسنتناول ما قفز عليه الكاتب وأسباب ذلك لاحقاً.
يذكر الكاتب الحمداني في مقاله ما يلي:
"وفي العاشر من تموز( يذكر الكاتب اليوم ولم يذكر العام، وهو 1970، وسيظهر لنا بأن ذلك لم يكن سهواً، وإنما له علاقة بالقفزة إياها.ج) تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة بينهما ، طالباً من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط
1ـ اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي.
2 ـ وجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية.
3ـ وجوب إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية.
4 ـ وجوب عدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والقوات المسلحة.
5ـ العمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وحزب البعث.
6ـ القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير فلسطين.
ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد، وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني عارضاً على الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني القبول به لإقامة جبهة وطنية بين الأطراف الثلاث". انتهى الاقتباس.
إن الشروط المذكورة طرحت على جميع الأحزاب والقوى الوطنية، ولم تقتصر على الحزب الشيوعي العراقي، ونشرت في جريدة الثورة في 10 تموز 1970، ومن غير الصحيح الإيحاء بأن الشروط كانت مقبولة من قبل قيادة الحزب الشيوعي، عندما يذكر الأستاذ الحمداني : "ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد..."
لقد رفض الحزب الشيوعي العراقي شروط البعث و فنّد في جريدته "طريق الشعب" في عددها الصادر في الأول من آب 1970 الأسس التي بني عليها حزب البعث شروطه، وسماها "شروط البعث التعجيزية للجبهة"، وقال: "إننا لا نتجنى على الحقيقة والواقع إذا قلنا: إن الشروط التي يطرحها البعث كأساس لإقامة الجبهة لا يمكن أن تحظى بتأييد الحزب أو منظمة وطنية في العراق بما فيها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتحالف مع البعث على أساس اتفاقية 11 آذار 1970". وعاد الحزب الشيوعي وكرر في رده الطويل الذي شغل عدداً كاملاً من جريدته، ما كان يؤكد عليه دوماً وهو إن "أي حزب من الأحزاب السياسية المتحالفة غير مطالب بالتخلي عن أيديولوجيته وبرامجه الإستراتيجية (...) إن الاستقلال الفكري والتنظيمي والسياسي، وحتى النشاط العملي والأيديولوجي المستقل لجميع الأحزاب والقوى السياسية المتحالفة هو مبدأ يجب مراعاته في أي تحالف يراد له الحد الأدنى والضروري من الدوام والتماسك" وأختتم الحزب مناقشته بالمطالبة بإلغاء تلك الشروط. [2]
وظهر أن كاتب المقال هو عبد الرزاق الصافي، فهو يذكر في مذكراته ما يلي: "في اجتماع ساحة الكشافة طرح البعث الحاكم عشرة شروط لإقامة الجبهة وشرطاً آخر من غير رقم. وعكست الشروط التي طرحها رغبته الواضحة في الهيمنة على الجبهة سياسياً وتنظيمياً وفكرياً. وكانت هذه الشروط موضع مناقشة وتفنيد في مقال كتبته في "طريق الشعب". [3]
وأكد المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي المنعقد في أيلول 1970 رفض شروط البعث بنص صريح وهو: "... رفض المؤتمر شروط "البعث" لقيام الجبهة، وهذه الشروط تقتضي بالجوهر بأن تسلم جميع الأحزاب السياسية بقيادة البعث لها ولسلطة الدولة والمنظمات الاجتماعية، وأن تقبل برنامج حزب البعث وأيديولوجيته دونما حاجة لبرنامج مشترك يتضمن نقاط الالتقاء وتجنب نقاط الخلاف، على أن يسمح البعث لقاء قبول الأحزاب الوطنية بهذا، بإصدار جريدة والمشاركة الشكلية في الحكم". [4]
ثالثاً- وليثبت الأستاذ الحمداني إيحاءه بأن الشروط كانت مقبولة من قبل قيادة الحزب، فإنه يربط إعلان شروط البعث في 10 تموز 1970 تعسفياً بحدث وقع بعد سنة وأربعة أشهر،  عندما طرح البعث مسودة ميثاق العمل الوطني في 15 تشرين الثاني 1971 حيث  يذكر: " وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني...الخ. ولكي يبرر قوله "وما لبث" فانه لم يذكر العام الذي طرحت فيه شروط البعث،كما مر بنا، وليقفز على المرحلة التي سبق وأن أشرنا إليها، والتي حصل ما حصل فيها بما في ذلك القطيعة بين الحزب الشيوعي والبعث. فيذكر ممثل الحزب الشيوعي مع البعث د. رحيم عجينة: "أوقف الحزب كل حوار مع قيادة البعث احتجاجاً على هذه الحملة الإرهابية وأبلغناهم أن لكل حزب طريقه. وانشغلنا في (طريق الشعب) بإدانة الإرهاب والمطالبة بوقفه وتكريس أغلب صفحاتها لتعريته، وشددنا من الحملة العالمية لفضح الإرهاب وطالبنا بإدانته وإعلان التضامن مع الحزب ونضاله في سبيل الديمقراطية"[5]
وهذه المرحلة التي تجاهلها الكاتب الحمداني والتي تعرض فيها الحزب الشيوعي العراقي إلى حملة إرهابية شرسة، سببها الأساسي رفض الحزب لشروط البعث في التحالف قبل إعلانها وبعده.
لقد أعتقل وعُذب في هذه الحملة الإرهابية ، التي بدأت في ربيع 1970 وتواصلت حتى صيف 1971، آلاف الشيوعيين تعذيباً وحشياً واستشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب أو الاغتيال من بينهم  محمد الخضري وعلي البرزنجي وماجد العبايجي ومشكور مطرود وحسين نادر وأحمد رجب وعبد الله صالح ومحمد حسين الدجيلي وعبد الأمير رشاد وجواد عطية وكاظم الجاسم و عزيز حميد وغيرهم. واغتيل لاحقاً شاكر محمود، وقبل هذه الحملة جرى اغتيال الشهيد ستار خضير عضو اللجنة المركزية، وأستشهد تحت التعذيب عبد الأمير سعيد.
 
واستولت السلطة على جميع أجهزة الطباعة المركزية واعتقلت ثابت حبيب العاني العضو المرشح للمكتب السياسي وتعرض لتعذيب وحشي، وكذلك عامل النفط توفيق أحمد، عضو اللجنة المركزية وسكرتير لجنة منطقة بغداد، الذي لم يستطع الصمود أمام التعذيب فأسقط سياسيا. ودمرت منظمة الحزب في مدينة بغداد.
وتواصلت الحملة الإرهابية وطالت كردستان، حيث أختطف في كركوك الرفيق علي حسين البرزنجي عضو اللجنة المركزية و40 رفيقاً، وتم السطو على مطبعة الحزب، ونقل المعتقلون إلى قصر النهاية. ولم يكن نهج الحزب السياسي المعتمد سوى المعارضة غير المطلقة وبالوسائل السلمية، والتي كانت مقتصرة على مطبوعات الحزب السرية وصلاته المباشرة. وقد أدينت الحملة الإرهابية  من قبل القوى التقدمية العربية وقوى اليسار العالمي، وكانت ضعيفة جداً في البلدان الاشتراكية.
لقد ورد ذكر هذه الحملة الإرهابية في الكثير من مذكرات قادة الحزب وكوادره، وهي بالعشرات، ووردت في أبرز الكتب عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، مع ذلك تجاهلها، الأستاذ حامد الحمداني، وكأنه لم يسمع بها ولم يقرأ عنها وهو المهتم بتاريخ العراق المعاصر؟! ويجد القارئ في الهامش سبعة مصادر تناولت الحملة الوحشية المذكورة، على سبيل المثال لا الحصر! [6]
رابعاً- يعدد الأستاذ الحمداني تنازلات الحزب الشيوعي العراقي في تحالفه مع حزب البعث، وهي صحيحة، وسبق أن ذكرت بأن الحزب خطأها في تقييمه للتجربة، ولكن الأستاذ الحمداني يبالغ ويحمل بعض هذه الأخطاء أحياناً أكثر مما تحتمل، فتفقد مصداقيتها لمن يعرفها، وتضلل من لا يعرفها. وعلى سبيل المثال، إشارته بأن الحزب الشيوعي العراقي أقر "بأن انقلاب 17ـ 30 تموز ثورة وطنية ديمقراطية اشتراكية!!". إن ذكر الاشتراكية بالصيغة المذكورة هنا لم ترد في ميثاق العمل الوطني الذي يستشهد به الحمداني ولا في أي وثيقة من وثائق الحزب الشيوعي العراقي.
إن المفاهيم الخاطئة حول هذا الموضوع، والتي اعتبرها تقييم الحزب المشار إليه أعلاه، "مقولات معزولة عن الظرف التاريخي الملموس وطبيعة البعث الطبقية والإيديولوجية وممارساته السياسية"، هي حول إمكانية وصول المتحالفين "سوية إلى بناء الاشتراكية" أو "تملك (الجبهة) أفقاً ستراتيجياً لمواصلة التحالف، حتى بناء الاشتراكية".  وهناك فرق نوعي بين هذه الصيغ الخاطئة والصيغة التي يذكرها الحمداني. وهذا الفرق كان يدركه صدام حسين. ففي لقائه مع مكرم الطالباني، جرت مناقشة بينهما في شباط 1979 حول مفردة "حتى" وفسرها صدام بأن المقصود بمواصلة التحالف "حتى بناء الاشتراكية"، هو أن القيادة يجب أن تتحول  إلى الشيوعيين عند بناء الاشتراكية. ويبدو أن ذلك ظل هاجسه، فقد مات صدام حسين  "وفي نفسه شيء من حتى"! وقد نقل الطالباني الحديث لنا في مقر جريدة "طريق الشعب" بحضور عبد الرزاق الصافي وسلام الناصري وكاتب هذه السطور.
خامساً- يذكر الأستاذ الحمداني ما يلي: " أحدثت موافقة قيادة الحزب الشيوعي على شروط البعثيين وتوقيعه على ميثاق الجبهة شرخاً كبيراً بين القيادة من جهة والكادر وقواعد الحزب من جهة أخرى، حيث لم تستطع قواعد وكوادر الحزب هضم تلك الشروط، وكان الشعور بخيبة الأمل والقلق على المستقبل، وعدم الثقة بالبعثيين سائداً صفوف الحزب وجانباً كبيراً من كوادره..."
وعلق قبل ذلك على قرار الحزب بالموافقة على الاشتراك بالحكومة بوزيرين بقوله: "أحدث ذلك القرار انقساماً في صفوف الحزب الشيوعي، وتباعداً بين القاعدة والقيادة"
 وبعد إقامة الجبهة يقول الحمداني أيضاً: " لم تمضي فترة طويلة من الزمن حتى بدأ التناقض ظاهراً بين قيادة الحزب وقواعده..."
أعتقد ليس لدى الحمداني أدلة ملموسة تثبت ادعاءاته حول حصول انقسام أو شرخ أو تناقض بين قاعدة الحزب وقيادته، أو الشعور بخيبة الأمل، بينما هناك أدلة ملموسة تثبت بأن بعض ما يقوله الحمداني لا أساس له من الصحة والبعض الآخر مبالغ به كثيراً، إن لم نقل بأنه يجافي الحقيقة والواقع.
ﻔ-;---;-----;---"في الفترة التي عقدت فيها الجبهة الوطنية، مارس الحزب نشاطه بصورة شبه علنية، استطاع النهوض من جديد وتضاعفت عضويته، ونمى كادره على مختلف المستويات. فقد نمت عضويته لتبلغ حوالي 75% بالقياس إلى أكبر نمو شهدته عضويته في تاريخه، أي في السنوات الأربع التي تلت انتصار ثورة 14 تموز 1958". [7]
 
لا شك كان هناك بعض الكوادر والأعضاء الذين لديهم تحفظات على سياسة الحزب التحالفية مع البعث، ولكن نسبتهم لم تكن كبيرة، ففي المؤتمر الوطني الثالث للحزب الشيوعي العراقي، المنعقد بعد ثلاث سنوات  من عقد الجبهة، والذي حضره 300 مندوب منتخب من المنظمات، عارض ثلاث مندوبين نهج الحزب التحالفي مع البعث، والحق يقال، فقد كانت المعارضة الحقيقية أكبر من العدد المذكور، وعبرت عن نفسها بمعارضة موضوعة التطور اللارأسمالي (الذي سمي لاحقاً بالتوجه الاشتراكي)، وكان عددهم 30 مندوباً فقط. وتمثل هذه الظاهرة أمرا طبيعيا وصحياً داخل إي حزب سياسي، ولم ينشق أو يترك الحزب أي واحد من المعارضين . وإذا كان نصف أعضاء اللجنة المركزية تقريباً، قد عارضوا قرار انضمام الحزب للجبهة عند اتخاذه، حيث كان الموافقون نصف زائداً واحد، فلم يبق سوى رفيق واحد معارضاً لها في المؤتمر الثالث للحزب.
خامساً- ويجافي الأستاذ الحمداني الحقيقة مرة أخرى، عندما يدّعي بهروب بعض قادة الحزب في الضربة التي وجهت للحزب في عام 1978، حيت يقول: "لكن معظم أعضاء القيادة كان قد أفلت من الاعتقال وهرب البعض منهم إلى خارج العراق". ليس لدى الأستاذ الحمداني أي دليل ملموس على هروب قادة حزبيين، فلم يخرج أي قيادي إلى خارج العراق ،ً بدون قرار حزبي إطلاقاً، وينطبق هذا الأمر على شبكة واسعة من الكادر المتقدم والمتوسط. وجميع أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية ومعهم مئات الكوادر والأعضاء، نساءً ورجالاً، عادوا إلى الوطن في كردستان ليساهموا في حركة الأنصار ضد النظام الدكتاتوري، وبناء تنظيمات في المنطقة العربية، باستثناء عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، كانت منوطة بهم مهمات في الخارج. واستشهد الكثيرون من العائدين، بمن فيهم أبناء بعض قادة الحزب. وأرسل العشرات من الرفيقات والرفاق للمنطقة العربية لإيجاد ركائز أو تعزيز ما موجود منها، من بينهم عدنان عباس عضو اللجنة المركزية، واستشهد عدد غير قليل منهم. وفي أول فرصة، بعد انتفاضة 1991، رحلت مجموعة من أعضاء اللجنة المركزية من كردستان إلى بغداد والمحافظات الأخرى بينهم، من القدماء، عضو المكتب السياسي عمر علي الشيخ وعادل حبه عضو سكرتارية اللجنة المركزية. فلمصلحة من تغيّب هذه الروح الجهادية العالية ونكران الذات المتناهي ومحاولة إظهار قيادة الحزب وكأنها مهزومة، والإيحاء بأن الحزب الشيوعي قد انتهى مع انهيار تحالفه مع البعث. وليس هذا الأمر فقط دليل على خطأ ما يوحي به الحمداني. فقد أصبح الحزب بعد انتقاله إلى المعارضة عنصراً أساسياً في التحالفات التي أقيمت بين القوى الوطنية والإسلامية طيلة سنوات الثمانينيات وبداية التسعينيات.
سادساً- وفي نهاية مقاله يشير الأستاذ الحمداني إلى ما يلي:" كما قامت السلطات البعثية بكبس مقرات الحزب، وصحيفته [طريق الشعب] وصادرت مطبعة الحزب وكل الوثائق الموجودة...". بودنا أن نطمئن القراء بأنه لم يتسن للبعث السطو على أية وثيقة مهمة. وما يذكره الحمداني لا أساس له من الصحة، فقد تم نقل جميع الوثائق إلى خارج الوطن بشكل سري بإشراف كاتب هذه السطور وبمساعدة الفقيد حميد بخش، قبل غلق المقر العام للحزب، الذي أغلق على يد كاتب هذه السطور. وهي محفوظة الآن في أرشيف الحزب الذي يحوي وثائقه منذ تأسيسه، في مكان أمين جداً لا يمكن أن يتعرض للخطر أو التلف، بأي حال من الأحوال.
سابعاً- باعتقادي بان الموضوع الذي تناوله الأستاذ الحمداني " البعثيون والشيوعيون والجبهة الوطنية" تجاهل الإشارة إلى بعض الأمور السياسية ذات العلاقة المباشرة بالموضوع وأهمها:
1- التحذير من الارتداد الوارد في برنامج الحزب الشيوعي العراقي الذي أقره المؤتمر الوطني الثالث للحزب (1976) فهناك "فقرة ضافية عن أخطار الارتداد في مسيرة العراق كاستدراك وذلك في الفصل الأول من الوثيقة البرنامجية لأن تجربة مسيرة العراق لم تكن محسومة وان مقومات الارتداد موجودة، و كما جرى التأكيد على البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية الحكومية، المالية والعسكرية، وإن مقومات الارتداد لا تقتصر على الاقتصاد وإنما في فكر حزب البعث أيضاً". [8]
2-  اجتماع اللجنة المركزية الكامل التاريخي والجريء المنعقد في آذار 1978، التي تصدى فيه لحزب البعث، في  ثلاثة جوانب أساسية في نهج السلطة في التقرير الصادر عنه وهي:
ا- السياسة التي يصر الحزب الحاكم على انتهاجها في معاداة الديمقراطية وما يمس الحزب الشيوعي منها، واستمرار الأوضاع الاستثنائية، ومواصلة الحكم على هذا الأساس والمماطلة والتسويف في تشريع الدستور، وفي إقامة المؤسسات الديمقراطية، ومن بينها المجلس الوطني.
ب- سياسة التبعيث القسري التي تسير عليها الدولة في مختلف الميادين، وفي عامة البلاد، واتباع سياسة التعريب القسري الذي تمارسه السلطة ضد الشعب الكردي والأقليات القومية، وتشويه الحكم الذاتي في كردستان.
ج- السير على سياسة معادية للدول العربية المتحررة، لاسيما سوريا واليمن الديمقراطية. [9]
3- رد فعل حزب البعث على تقرير اللجنة المركزية والذي كان عنيفاً، بالرغم من أن معالجاته كانت في إطار الجبهة الوطنية والقومية التقدمية. وجنّد حزب البعث صحيفة "الراصد" للتهجم على التقرير سياسياً وفكرياً. وظل البعث يطالب الحزب الشيوعي بسحب التقرير والتراجع عنه. إلا أن طلب حزب البعث قوبل بالرفض القاطع.
وفي الختام نود أن نذّكر بإشارتنا في بداية المقال بأن للحزب الشيوعي تقييمه لتلك الفترة والذي أقر في مؤتمره الرابع المنعقد في عام 1985، بعد مناقشته في منظمات الحزب، ونشر في وثيقة تحت عنوان "تقييم تجربة حزبنا النضالية للسنوات 1968-1979" والذي يؤشر فيه إلى ما هو صحيح وما هو خاطئ في سياسته في ذلك العهد، وبمقاييس زمن إقراره، ولم يتطرق الأستاذ الحمداني للتقييم المذكور، لا من بعيد ولا من قريب!؟.
وباعتقادنا أن التقييم المذكور وكذلك تقييمات الحزب السابقة تحتاج إلى مراجعة في ضوء فكر الحزب الذي تجدد في مؤتمره الخامس المنعقد في عام 1993. وعند مراجعة كاتب هذه السطور النقدية لهذه التجربة، ضمن دراسة شاملة لتحالفات الحزب السياسية منذ تأسيسه حتى يومنا هذا، توصل إلى ما يلي: "إن تحالف إي حزب سياسي مع حزب حاكم في نظام لا يقوم على أسس ديمقراطية مؤسساتية، هو خطأ مبدأي يرتكبه الحزب غير الحاكم، لا بسبب عدم توفر تكافؤ الفرص فحسب، بل لتعذر ضمان استقلال الحزب سياسياً وتنظيمياً وفكرياً، وهو مبدأ أساسي في أي تحالف سياسي". وقد نشر الحزب هذه الدراسة، التي تتضمن هذا الاستنتاج، في جميع وسائل إعلامه المركزية: مجلة "الثقافة الجديدة" وموقع الحزب الالكتروني، وجريدة "طريق الشعب"، وذلك في ربيع عام 2014. والاستنتاج معروض للتدقيق والإغناء.
1 أيار 2015
رابط مقال الأستاذ حامد الحمداني
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=465211
 


[1] - د. رحيم عجينة، "الاختيار المتجدد - ذكريات شخصية وصفحات من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ص 99.
[2] - أنظر عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" الجزء الثالث، دار الرواد المزدهرة، بغداد، ص 100 والهامشين 128 و129. أنظر كذلك جاسم الحلوائي "الحقيقة كما عشتها"، دار الرواد للطباعة والنشر، ص 125.
[3] - عبد الرزاق الصافي، "شهادة على زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتية"، الجزء الثاني، ص 116 وما يليها.
[4] - تقييم تجربة حزبنا النضالية للسنوات 1968-1979، أقره المؤتمر الوطني الرابع للحزب الشيوعي العراقي، ص 20 وما يليها.
[5] -  د. رحيم عجينة، مصدر سابق، ص 104.
[6] - هذه بعض الكتب التي تناولت الحملة التي تجاهلها الأستاذ حامد الحمداني، على سبيل المثال لا الحصر: ا- عزيز سباهي، مصدر سابق، ص 108. ب- د.رحيم عجينة، مصدر سابق، ص 102 وما يليها. ج- كريم أحمد "المسيرة" ص 200. د- جاسم الحلوائي، "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، ص 358 وما يليها ه- د.سيف عدنان القيسي، "الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر 1968- 1979"، ص 339 وما يليها. و- جاسم الحلوائي، "الحقيقة كما عشتها"، ص 220. ز- عبد الرزاق الصافي، مصدر سابق  ص 121 وما يليها.
[7] - باقر إبراهيم، مذكرات، دار الطليعة- بيروت ص 152. بالمناسبة، كان باقر إبراهيم في حينه عضواً في المكتب السياسي والمسؤول الأول عن الشؤون التنظيمية في الحزب.
[8] - د. رحيم عجينة، مصدر سابق، ص129.
[9] - عزيز سباهي، مصدر سابق، ص 162.

16
ضوء على رواية شاكر الأنباري"أنا ونامق سبنسر"

جاسم الحلوائي
في قراءة الكاتب زهدي الداوودي لرواية "منازل الوحشة" للكاتبة دنى غالي، وعند إشارته إلى انشداده لأجواء الرواية وأهمية ذلك، استشهد بقول الناقد الألماني مارسيل رايش – رانيسكي في كتابه "من يكتب، يستفز" والذي جاء فيه: "إن الروائي مسموح له كل شيء على الإطلاق، وعلى سبيل المثال، يمكنه أن يقوم بمخالفات ضد المنطق أو ضد الذوق السليم. فقط شيء واحد غير مسموح له مهما كانت الأعذار: هو أن يبعث الملل في نفس القارئ".
إنني أشهد بأن رواية الكاتب شاكر الأنباري "أنا ونامق سبنسر"، التي لم تخل كلياً من أمور غير منطقية، وأخرى تخدش الحياء العام، لم تبعث في نفسي الملل ، بل وأمتعتني كذلك. وربما أن أحد أسباب ذلك هو أن لديّ معرفة وعلاقة حميمية بالأماكن التي يرد اسمها في الرواية. فقد أقمت في جميع المدن والعديد من المناطق التي مر بها بطل الرواية بما في ذلك كردستان وسوق قاسم رش على الحدود العراقية - الإيرانية وكرج وكوجه مروي في إيران، هذا فضلا عن طهران ودمشق. وقبل هذا وذاك، بغداد عاصمة وطني الأول، و كوبنهاكن عاصمة وطني الثاني. والمدينة الوحيدة التي لم أقم فيها هي ساو باولو في البرازيل. ولكن السبب الأهم لاستمتاعي بالرواية، هو أن الرواية تتناول شأناً وظاهرة سياسية وإنسانية عامة تجلت بقوة في العراق. وهذا ما شجعني على الإدلاء بدلوي في إلقاء الضوء عليها.
أنا على قناعة بأن الرواية الناجحة، إضافة إلى كونها لا تبعث الملل عند القارئ، فهي تلك التي تتضمن موضوعاً رئيسياً وتبعث برسالة. وسأتوقف عند هذا الأمر لقربه من ميدان اهتمامي كناشط سياسي، علماً بأنني لست بناقد أدبي وإنما قارئ عادي يتذوق الرواية أكثر من أي لون آخر من ألوان الأدب.

أعتقد بأن رواية الروائي شاكر الأنباري تتضمن موضوعاً سياسياً وإنسانياً مهماً، ألا وهو الأمن والاستقرار وأهميتهما الحيوية بالنسبة لحياة الإنسان والشعوب. ويشير الكاتب في سياق الرواية  بأن هذين العاملين المذكورين لا يكتسبان طعمهما الحقيقي إلا عندما يتوفران في الوطن الذي ولد الإنسان فيه وترعرع في كنفه. وهذه الفكرة هي رسالة الرواية، على ما أعتقد، وكما سنرى لاحقاً.
إن بطل الرواية الذي أنهى دراسته الجامعية وصديقه نامق مدرس التاريخ، يهربان من بغداد ويصلان إلى إحدى قواعد الأنصار، وذلك لكي لا يتحولا إلى وقود لحرب عبثية هي الحرب العراقية - الإيرانية.  ويترك الصديقان قاعدة الأنصار، قبل أن ينخرطا في الحركة الأنصارية، ويخرجا من العراق، ويصلان إلى الدنمارك عبر طهران ودمشق، مجتازين صعوبات جمة، وينضم إليهما نادر الذي يصادفوه ويصادقوه في مخيم كرج في إيران.
يلاحظ أن بطل الرواية الرئيسي تتنازعه نزعتان الأولى: "كوزموبوليتية، "أي نزعة إنسان لم يعد ينتمي إلى مكان بعينه.... إنساناً كونياً" ص 22. وهذه النزعة تجد تعبيرها أيضاً في البيتين من الشعر التي تتصدر الرواية وهي للشاعر الصوفي محي الدين بن عربي المتوفي في عام 1240 ميلادية والتي تقول:
رأى البرْقَ شرقيّاً، فحنّ له     ولو لاحَ غربيَّاً لحنَّ إلى الغربِ
فإنّ غَرامي بالبُرَيْقِ ولمحِهِ    وليسَ غرَامي بالأماكِنِ والتُّرْبِ
 ويؤكد الراوي هذه النزعة الكزوموبوليتية بتقييمه الإيجابي للهجرة واللجوء، والإيحاء إلى عالم يجمع، من خلال الظاهرة المذكورة، مختلف الأقوام والأعراق والديانات. فيذكر البطل ما يلي:" أعتقد أن رؤية مثل هذه، وبوجود عشرات الملايين من المهاجرين من القارات هي ما يصنع الحضارة الكونية الجديدة، أي الحضارة المتعددة الأسماء، والأديان، والأطعمة، والألوان واللغات... والهجرة أصبحت عنواناً لحضارتنا الحديثة...الخ" ص 26 و 13.
يتحدث الراوي وكأن الهجرة ظاهرة جديدة، وهي ليست كذلك. فإذا ضربنا صفحاً عن الهجرات لبناء عالم جديد في أمريكا واستراليا ونيوزيلانده، وعرجنا على الهجرات بسبب الحروب والثورات والقمع في العصر الحديث، فسنلاحظ الكثير من الهجرات خلال القرنين الماضيين. وقد حدثت هذه الهجرات منذ أواسط القرن التاسع عشر حيث اندلعت الثورات في العديد من الدول في وسط أوربا وهاجر في حينها الكثيرون، ثم كومونة باريس 1871 فالثورة الروسية الفاشلة في عام 1905  لتأتي بعدها الحربين العالميتين الأولى والثاني. لقد خلفت كل هذه الأحداث الكثير من موجات الهجرة واللجوء واندمج الكثير من المهاجرين مع مرور الوقت، وتعاقب الأجيال، بمجتمعات دول اللجوء. إن أحد أحدث مظاهر الهجرة هي هجرة العراقيين الكثيفة في العقود الأخيرة، وهذا ما يشير إليه الكاتب أيضاً.
أما النزعة الثانية التي تتقاذف بطل الرواية، فهي الحنين إلى أجواء الوطن، حيث بقي العراق همه الذي لم يتمكن التخلص منه ص 57. فهو يعيش في بلد يوفر له الاستقرار والأمان والعيش الكريم مع ضمان اجتماعي وصحي، ومع ذلك يطلق زوجته ويترك طفلتين لا يتجاوز عمرهما الثلاث سنوات، وهما بأمس الحاجة إلى حنان أبيهما. ويتوجه بطل الرواية إلى البيئة المشابهة والقريبة جداً من الوطن (سوريا)، قبل سقوط النظام الدكتاتوري، ثم يقيم في الوطن بعد سقوط النظام، ويعمل مترجماً  من الانكليزية في إحدى الصحف.
ويعود بطل الرواية من جديد إلى الدنمارك بعد عقد من الزمن.  وهنا يلتقي بصديقه نامق الذي يعاني من اليأس وفقدان الاهتمام بشؤون العراق، وقلقه من مرض ابنته المصابة باللوكيميا، حيث تؤكد الفحوصات أن لا شفاء لها. أما صديقه الآخر نادر، والذي أقام عنده الراوي، فقد طلق زوجته البولونية المدمنة على الكحول والسهرات. وفي هذا البيت تربت أبنته كارين التي انحرفت هي الأخرى عن الطريق القويم وأخذت ترافق المنحرفات. وظل نادر يفتش في المزابل على أجهزة وسلع تركها أصحابها لسقوط موديلاتها أو لقدمها (تلفون، مسجل، سجادة، كومبيوتر و..الخ) ليبيعها في بولونيا. وهكذا يصاب البطل بخيبة أمل، وتتعمق خيبة أمله بعد تسريحه من عمله فيقول: "شعرت أنني غريب تماماً. هذه مدينة ليست مدينتي، لم أعش طفولتي فيها، ولا أعرف أصدقاء المدرسة فيها. هذه مدينة تعتقد أنني مختلف، ولا أنتمي إليها" ص 121. فأخذ بطل الرواية يفكر بالعودة إلى العراق.... إلى أرض العنف والدمار. إن الحافز الكبير لعودته جاء نتيجة لتنكر ابنته الكبرى نجمة أبوته من خلال قصة كتبتها وأرسلتها على بريده الإلكتروني. وقد أبدع الكاتب في تأليفها أيما إبداع، ومما جاء فيها: "...لكنك لست أبي، لأنني لا أعرفك. لم تقل لي تصبحين على خير حين أنام في السرير، ولم تشتر لي هدايا رأس السنة، كل الآباء هنا يفعلون ذلك. كما لم تعلمني الحساب واللغة، ولم توصلني يوما إلى مدرستي، لذلك لا أصدق أنك أبي ... لماذا لم تشتق لي، وكأنني لم أكن موجودة في حياتك! ... لا أحتاج إليك. عد من حيث أتيت، لا أريد أن أراك مرة أخرى".
وقد تحمس بطل الرواية للعودة إلى العراق، عندما كلف بكتابة ملف عن العنف لجريدة الأخبار التي تصدر باللغة العربية في الدنمارك ويرأس تحريرها مراد قامشلي. وذهب ليعيش في بغداد وسط الانفجارات والبارات! ويقيم علاقة حب مع سُرى وهي امرأة متزوجة و في نفس الوقت موظفة وعشيقة صديقه سامر الذي آواه وساعده. وعندما تنكشف العلاقة يطرده سامر وتقطع الحبيبة علاقتها به. وتتوقف الجريدة في الدنمارك عن الصدور فتنقطع عنه المنحة. ويتفضل عليه صديق قديم في الإقامة في أحد البيوت وحيداً في حر تموز وينتظر حوالة من أخته ليعود إلى الدنمارك. وهو في تلك الحالة في بغداد يشعر بالغربة والضياع.
وهنا تتجلى قمة مصداقية الكاتب، حيث يتعرى تماما متحدياً كل من يلومه في هذا الكون عندما يقول: "في الحقيقة أنني لم أعد بقادر على الاستقرار في بغداد فقط، بل في كل مدن العالم. خمسة وعشرون سنة من الفراق حولتني إلى مواطن يكره بلده. فحين تجد أن بلدك لم يعد ممكناً العيش فيه، ألا تكرهه في النهاية؟ ألا تمتلك الحق بكرهه؟ إن لم نقل تكره العالم كله. وتكره الحياة، وترغب في مغادرتها سريعا؟" ص139.
ما وصل إليه بطل الرواية من يأس وجزع وقبله بطلّي الرواية الآخرين نامق ونادر، يؤكد أن استقرار وأمن البلد، الأمن من جميع النواحي، هما الضمان لعدم تشتت أبناء البلد وضياعهم من جهة، وحبهم لوطنهم وتشبثهم به والدفاع عنه من جهة أخرى. وهذه هي رسالة الرواية الرئيسية، وهي ليست رسالة وطنية فحسب، بل وإنها عالمية أيضاً. وهناك إلى جانب الموضوع الرئيسي، هناك مواضيع و رسائل وعبر أخرى غير قليلة في الرواية، فعلى سبيل المثال : الحب، الخيانة، الوفاء، العنف، الموقف من العمل،الهجرة، والأبوة، فهنيئاً لمؤلفها على هذا المنجز. وهنيئاً لقراء العربية لحصولهم على رواية أخرى جديرة بالقراءة.

17
هل رفع الحزب الشيوعي العراقي شعار إسقاط السلطة
في نيسان 1965؟ - رد ثان على السيد همام المراني
جاسم الحلوائي
نشر الأستاذ همام عبد الغني المراني في موقع الناس مقالاً بتاريخ 19 كانون الثاني 2015 تحت عنوان " بعيداً عن التسطيح والشخصنة - مع الأستاذ جاسم الحلوائي". وذلك رداً على مقالي المؤرخ في 24 كانون الأول 2014 " حول تخلي الحزب الشيوعي العراقي(ح.ش.ع) عن خط آب 1964 وذيوله - رد على الأستاذ همام عبد الغني المراني. (رابط مقال المراني مرفق، وكذلك رابط مقالي)
إن ما حفزني للرد على المقال المذكور هو محاولة الكاتب المراني نفي موقف سياسي مهم ﻠ( ح.ش.ع)، ألا وهو رفعه شعار إسقاط حكم عبد السلام عارف الدكتاتوري العسكري في تقرير اللجنة المركزية الصادر في نيسان عام 1965. في حين لا يوجد كتاب مكرس لتاريخ ﺍﻠ(ح.ش.ع) إلاّ ويذكر ذلك عند تناول هذه الفترة التاريخية. ولم تكن هذه الحقيقة موضع خلاف يوماً ما بين مَن أيّد خط  آب ومَن عارضه، ورغم ذلك ينفي الكاتب المراني الحقيقة المذكورة ويلتبس عليه تسلسل الأحداث ويكتنفها التشوش الذي قد ينعكس على القارئ غير المطلع على تلك الفترة التاريخية.
ولكي يؤكد الكاتب المراني نفيه المذكور لموقف الحزب فإنه يستشهد بمقتطفين من مقالي ينهيهما بما يلي: " وهكذا أخي الكريم فإنك لم تأتِ بأية فقرة صريحة تشير الى أن الحزب آنذاك رفع شعار إسقاط السلطة في ذلك الاجتماع". المقصود اجتماع نيسان المذكور أعلاه.
ولكي يبرهن على رأيه هذا فإنه يرتكب خطأين مهمين جداً في طريقة استشهاده. الأول: هو أنه يأخذ نصف فقرة من مقالي ويترك نصفها الآخر الذي يتعارض مع رأيه. فهو يقول: " وفي الأستشهادين اللذين أوردهما الأستاذ جاسم الحلوائي , للتدليل على التخلي عن خط آب , لم يذكر بوضوح موضوع اسقاط النظام . فقد جاء في رد الأستاذ الحلوائي ما يلي : "إن البيان، أو بالأحرى التقرير الذي صدر عن اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965 قد تخلى فعلاً عن خط آب ... قالت ل . م . في تقريرها "إن الحزب الشيوعي " حامل الرسالة التاريخية للطبقة العاملة " وُجِدَ ليبقى، وان " تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي" العراقي قد فشلت،  ومع كل الضجيج المثار عن "الاشتراكية"، فإن سياسة السلطات، تتناقض سياسياً واقتصادياً وإيديولوجيا مع أبسط مفاهيم ومتطلبات البناء الاشتراكي "ودعا الحزب الشيوعي الناصريين إلى الانسحاب من الحكم والانضمام إلى صفوف المعارضة الشعبية".
أما كامل الفقرة في مقال كاتب هذه السطور فهي:" إن التقرير الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965، واستنادا إلى عزيز سباهي وحنا بطاطو،  "قد تضمن تعديلاً أساسياً في سياسة الحزب. إذ طالب بإسقاط الحكم الدكتاتوري العسكري، والدعوة إلى إقامة حكومة ائتلاف وطني ديمقراطية، تنهي الأوضاع الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وتصفي مخلفات انقلاب شباط، وتحقيق الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان. وقالت اللجنة المركزية في تقريرها: إن الحزب الشيوعي "حامل الرسالة التاريخية للطبقة العاملة" وجد ليبقى ...إلى آخر الفقرة التي يذكرها الكاتب المراني. لقد حذف الكاتب المراني نصف الفقرة، لأن شعار إسقاط الحكم الدكتاتوري العسكري واضح وضوح الشمس في النصف المحذوف. هذا إضافة إلى أن الفقرة مستندة  إلى مصدرين مهمين جداً وموثقين بهامش يشير إلى صفحات الكتب، حذفت أيضاً!
أما الخطأ المهم الثاني، فهو أن الكاتب المراني يذكر ما يلي: "وفي الاستشهاد الثاني يقول الحلوائي " ففي بيان صادر من الحزب الشيوعي العراقي في 22 كانون الأول 1964 (إي قبل اجتماع نيسان 1965 - همام) لمناصرة المناضلين في " اللجنة الثورية " الذين اعتقلوا بتهمة تدبير انقلاب ضد الحكم جاء فيه " إن شعبنا يرى استمرار سياسة الإعدامات والمشانق , استهتاراً بلائحة حقوق الإنسان , وبجميع مبادئ العدل والقانون والقيم الخلقية , واستجابةً لإرادة الاستعمار والرجعية . إن شعبنا يتساءل: من المسؤول عن هذا الاستهتار بأرواح أبناء الشعب ومصادرة حرياتهم ؟ إن القوى القومية المشتركة في الحكم تسيء إلى سمعتها والى الوحدة نفسها إذا لم تتخذ موقفاً صريحاً وحازماً ضد هذه السياسة الهوجاء " ...
وهكذا فإن هذه اللهجة الحازمة، والإدانة التامة ل "سياسة الأعدامات والمشانق " تنتهي بدعوة القوى القومية المشتركة في الحكم للمحافظة على سمعتها، بالقول " إن القوى القومية المشتركة في الحكم تسيئ الى سمعتها والى الوحدة نفسها، إذا لم تتخذ موقفاً صريحاً وحازماً ضد هذه السياسة الهوجاء " . وهكذا أخي الكريم فإنك لم تأتِ بأية فقرة صريحة تشير الى ان الحزب آنذاك رفع شعار اسقاط السلطة في ذلك الأجتماع .
لا توجد علاقة لهذه الفقرة الصادرة في بيان للحزب في 22 كانون الأول 1964 باجتماع نيسان 1965؟! وقد حذف المراني مبررات إيرادها من قبل كاتب هذه السطور، وهي كما جاء في المقال: "ومباشرة بعد وصولهما (بهاء الدين نوري وعامر عب الله) أخذت أدبيات الحزب تجري تعديلاً في خطابها باتجاه إدانة النظام والتشكيك بإخلاصه للقضايا الوطنية. ففي بيان صادر من الحزب الشيوعي العراقي في 22 كانون الأول 1964 لمناصرة المناضلين من "اللجنة الثورية".. إلخ". فالمقتطف دليل على تغيّر الخطاب ولا علاقة له بشعار إسقاط السلطة وهو قبل اجتماع نيسان بأربعة أشهر والمراني يعرف ذلك، مع ذلك يجيّره لحساب اجتماع نيسان!؟
إذا لم يقتنع الكاتب المراني بسباهي وبطاطو، فسأذكر له مقتطفاً لأحد معارضي خط أب يشير إلى شعار إسقاط السلطة موضوع الخلاف، وهو الفقيد زكي خيري. إنه يذكر، في كتابه المشترك مع سعاد خيري والموسوم "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" ص 438، ما يلي: "فأخذت اللجنة المركزية للحزب بنفسها تعدل الخطة السياسية التي أقرتها بالاجتماع السابق (آب 1964). فقررت في اجتماع نيسان 1965: "إن الوقائع أثبتت أن مشاكل العراق الملحة لا تجد سبيلها إلى الحل على أيدي زمرة عارف - يحي الرجعية، بل إن هذه الزمرة سارت بالبلاد حثيثاً نحو الحرب الأهلية وتنكرت بجوهر سياستها العامة لمصالح حركة التحرر العربي وأساءت إلى قضية التضامن والوحدة العربية. لذا فإن جماهير الشعب وجميع القوى المعادية للاستعمار على اختلاف قومياتها وميولها السياسية مدعوة إلى أن توحد جهودها: أولاً لإسقاط حكم عارف - يحي العسكري الدكتاتوري...".
أعتقد بأن المراني سيقتنع بأن اللجنة المركزية قد رفعت شعار إسقاط السلطة في نيسان 1965. فإذا كان اعتقادي في محله، فسيجد طريقه للإجابة على الأسئلة التي يطرحها. فعندما يعرف بأن الحزب تخلى عن خط أب ورفع شعار إسقاط السلطة في تقرير يبرر ذلك، فسيعرف لماذا لم يصدر تقريراً من اجتماع ال(25). وسيعرف طبيعة الإلحاح الذي تعرضت له قيادة الحزب لعقد الاجتماع المذكور و...إالخ
لقد اعتذر الكاتب المراني في مقاله، عن التصرف على هواه بمقتطف لكاتب هذه السطور، اعتذاراً مبهماً. فهو يستخف به تارة، ويبرره تارة أخرى.
هذا في المرة السابقة، أما بعد الخطأين المهمين المذكورين أعلاه، واللذين ارتكبهما في طريقة مناقشته غير السليمة، أرى أن ذلك يتطلب منه اعتذارا صريحاً لا يقبل التأويل للقراء.
في الختام لابد من هذه الملاحظة، لقد ذكر المراني ما يلي: " حين تحدث (الفقيد ثابت العاني) عن وثيقتي التقييم لسياسة الحزب، ذكر ان احداهما من اعداد الفقيد زكي خيري وعزيز الحاج، والأخرى اعدها بهاء الدين نوري،  بينما تذكر أنت، بأنك ساهمت في كتابتها".
لم أذكر بأنني ساهمت في كتابة تقرير التقييم، وإنما ذكرت مساهمتي في كتابة وثيقة الانتفاضة الشعبية المسلحة، وإن ما جاء في مقالي هو التالي: " وهذا الصراع، حول أساليب الكفاح وكيفية تنفيذها، استمر بعدئذ بين اتجاهين تبلورا في وثيقتين واحدة تدعو إلى تهيئة مستلزمات الانتفاضة الشعبية المسلحة، وكان كاتب هذه السطور أحد المشاركين في كتابتها، والأخرى تدعو إلى الانقلاب العسكري، كتبها الفقيد عامر عبد الله وطرحت الوثيقتان  للمناقشة على اللجان المحلية.
20 كانون الثاني 2015
رابط مقال الأستاذ همام المراني
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/is/18d.htm
رابط مقال جاسم الحلوائي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=447359

18
حول طريق التطور "اللارأسمالي"

جاسم الحلوائي
لقد تكرر مصطلح التطور "اللارأسمالي" والذي بات يُعرف فيما بعد بالتوجه الاشتراكي في مناقشاتنا السابقة. ومن المفيد إعطاء فكرة عن مفهوم هذا المصطلح لجمهور القراء، وخاصة للمناضلين الشباب منهم.  لقد ظهر هذا المصطلح في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في الحركة الشيوعية العالمية لتوصيف الطريق الذي يمكن أن تشقه الدول المستقلة، ضعيفة أو متوسط التطور في مستواها الاقتصادي - الاجتماعي وعبر التخطيط المركزي، وتحت راية الاشتراكية وبقيادة "الديمقراطيين الثوريين" من مختلف شرائح البرجوازية الصغيرة، وذلك بمساعدة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى. وسنتوقف هنا عند التجربة المصرية لعلاقتها الوثيقة بخط آب، الذي سبق وأن كان موضع نقاش قبل أسابيع قليلة في عدد من المواقع الألكترونية.
كانت مصر في مقدمة البلدان العربية التي سارت في طريق ما يعرف بالتطور اللارأسمالي بقيادة جمال عبد الناصر، ولم يجبرها أحد على ذلك. لقد أرادت مصر التغلب على تخلفها بأسرع الطرق، فجربت تشجيع الرأسمال الخاص لتصنيع البلد ولكن هذه التجربة فشلت، لأن الرأسماليين المصريين الكبار رفضوا توظيف رساميلهم وفق الخطة التي رسمتها الدولة، وفضلوا أن يوظفوها في ميادين الربح العاجل، ولم يصغوا إلى مناشادات عبد الناصر، فلجأ هو في عام 1961 إلى انتهاج سياسة اقتصادية جديدة، تمثلت في تأميم الدولة للمؤسسات الاقتصادية الأجنبية في مصر، والمشاريع الكبيرة للرأسمال المصري الخاص، وتبنى التخطيط الاقتصادي ــ الاجتماعي المركزي، على غرار ما كان يجري في الاتحاد السوفييتي. ولجأ النظام المصري إلى الاعتماد على المعونات الاقتصادية من الاتحاد السوفيتي وحليفاته، واتجه إلى توظيف مدخرات الدولة، وعمل على تعميق الإصلاح الزراعي. وبموجب هذه الإجراءات، بات في حيازة الدولة 70% من الإنتاج و50 % من العمالة و90% من جملة الاستثمارات الجديدة في قطاع الصناعة المصرية. وعلى أي حال، فإن الزيادة الحقيقية في دخل الفرد الواحد لم ترتفع في الفترة ما بين 1960 و1965 إلا بمقدار 3,6%. وقد انخفضت هذه النسبة إلى 1% في الفترة ما بين 1966 و1975. 
وقد دهش الكتاب والمنظرون في الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية، كما يشير زكي خيري، لما يجري في مصر. فرأى بعضهم إنه طريق جديد للتطور وإنه يتجنب التطور الرأسمالي فأطلقوا عليه اسم التطور اللارأسمالي. ودار صراع فكري واسع ومتشعب حول الطبقة المؤهلة لقيادة هذا الطريق وصرح زعيم ألمانيا الديمقراطية أولبرخت قائلاً: " إن أناساً مثل جمال عبد الناصر فقط يبنون الاشتراكية في إفريقيا"! وانعقدت ندوة في  برلين عام 1963 حضرها ممثلو الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية، ودار نقاش حاد جداً حول مصير الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية  .
وكان من بين ما أفرزته هذه التطورات، هو تعمق الروابط بين القاهرة وموسكو، بما في ذلك الدعم الأيديولوجي لنظام جمال عبد الناصر من المنظرين السوفييت، الذين لم يفتهم الاستناد على بعض النصوص في الماركسية- اللينينية حول إمكانية تجنب الطريق الرأسمالي، معزولة عن ظروفها.
وانعكس تعمق الروابط بين القاهرة وموسكو،إيجاباً على علاقة موسكو ببغداد. ورحب نيكيتا خروشوف بمبادرة بغداد لإيقاف الحرب في كردستان في 10 شباط 1964، واعتبرها خطوة محسوبة "لتعزيز هيبة الجمهورية العراقية في أعين شعوب العالم". واستأنف الاتحاد السوفييتي تزويد العراق بالسلاح، بعد أن توقف ذلك إثر انقلاب شباط 1963. وفي 26 أيار 1964 وقع عارف وناصر اتفاقاً تمهيدياً للوحدة، ما بين مصر والعراق، نص على أن البلدين يدرسان وينفذان الخطوات الضرورية لإقامة وحدة بين البلدين ووضع سياسة مشتركة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وتنسيقها وفقاً للخطة المرسومة، وإنهما يعملان على تحقيق وحدة عقائدية بين شعبي البلدين من خلال منظمات شعبية وعمل شعبي يوّحد هذه المنظمات في المستقبل  .
كان هناك اتجاهان بين أنصار طريق التطور اللارأسمالي أو التوجه الاشتراكي في الحركة الشيوعية العالمية، الأول: يرى أن اشتراك الشيوعيين في قيادته هو شرط لنجاحه. أما الاتجاه الثاني فيرى بأنه من الممكن أن يقتصر دور الشيوعيين على دعم وتأييد قيادة "الديمقراطيين الثوريين". وكان هذان الاتجاهان المذكوران موجودين في الحزب الشيوعي العراقي أيضاً. الاتجاه الأول مثبت في وثائق المؤتمر الثالث والاتجاه الثاني ضعيف وجد تعبيره في مواقف معينة. على أي حال لم تزك الحياة كلا الاتجاهين.

لقد تبنى الحزب الشيوعي العراقي طريق التطور "اللارأسمالي" في عام 1964 وتخلى عنه بعد بضعة أشهر، كما مر بنا. وعاد وتبنى ذلك في عام 1975 وتخلى الواقع عنه، هذه المرة، وفشلت تجربة تجنب طريق التطور الرأسمالي عالمياً.
تشير تجربتنا في العراق والتجربة العالمية، لحد الآن، إلى عدم وجود طريق للنمو والتطور أمام البلدان الضعيفة، أو متوسطة التطور، في مستواها الاقتصادي - الاجتماعي، ما دام النظام الرأسمالي قائماً عالمياً، سوى طريق التطور الرأسمالي، ولكن من الممكن تقليص مصائبه وويلاته، وما يضمن ذلك هو النظام الديمقراطي المؤسساتي، بما يعنيه من إقامة مجتمع مدني ومجلس نواب ودستور دائم والفصل بين السلطات، وإقرار حق تقرير المصير للقوميات، وفصل الدين عن الدولة، وضمان حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل بالحقوق والواجبات ... وإن الكفاح من أجل المزيد والمزيد من العدالة الاجتماعية يمر عبر تحقيق وترسيخ النظام الديمقراطي ومن ثم تطوير الديمقراطية في مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

وإن الوصول إلى الاشتراكية يمكن أن يتحقق بطرق مختلفة، حسب خصائص كل بلد، و أن طريق بلادنا الخاص إلى الاشتراكية سيكون، كما جاء ذلك في برنامج الحزب الشيوعي العراقي، "محصلة عمل فكري وسياسي تراكمي ومتدرج، وأيضاً محصلة نضال قوى سياسية متعددة وتحالفات واسعة، وسيتم الوصول إليها عبر عدد من المراحل الانتقالية التي يمكن أن تستمر طويلاً".
ومن غير الممكن الحديث، منذ الآن، عن سمات تلك المراحل، وتحدياتها ومتطلباتها، وظروفها الإقليمية والدولية المناسبة.

أوائل كانون الثاني 2015



19
حول تخلي الحزب الشيوعي عن خط آب 1964 وذيوله
(رد على الأستاذ همام عبد الغني المراني)
جاسم الحلوائي
نُشر في موقع الناس في 17 كانون الأول مقالاً بقلم الأستاذ همام عبد الغني المراني تحت عنوان "مرةً أخرى مع خط آب 1964
وآثاره المدمرة". لقد أبدى الكاتب ملاحظات على المساجلة التي دارت بيني وبين الكاتب كريم الزكي، وكان نصيبي منها ملاحظتين وسأبدأ، برد على مقاله، بهما:
يشير الأستاذ المراني في ملاحظته الأولى إلى أن: قول الأستاذ الحلوائي ان الحزب كان قد تخلى عن خط آب في اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965" , وأقول صراحة انني اسمع بهذا "التخلي" لأول مرة , بعد مضي خمسين عاماً على الحدث . فقد كنت آنذاك " من الكادر المتقدم " , وفي تنظيم مهم , وكنت قريباً من اللجنة المركزية , فلم أبلغ بقرار كهذا مطلقاً , بل انني لم اسمع به إلا من خلال مقال الأستاذ جاسم الحلوائي , رغم اننا كنا " نأكل ونشرب" نقاشات وصراعات حول هذا الموضوع ..." (رابط المقال مرفق).
في الحقيقة أنني أستغرب شديد الاستغراب من هذ القول لأن أبرز كتاب عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والموسوم "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" للكاتب عزيز سباهي يعنون الفصل الرابع من الجزء الثالث من كتابه على النحو التالي: "التخلي عن خط أب وحديث "العمل الحاسم"، ويذكر مقتطفات من تقرير اللجنة المركزية الصادر في نيسان 1965، سنشير إليها لاحقاً. ويتناول الموضوع ذاته، الكتاب المكمل لكتاب عزيز سباهي والموسوم "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي - قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي"، لكاتب هذه السطور. وقد تولى الحزب طبع الكتابين وتوزيعهما. 
وهناك العديد من الكتب والمذكرات التي أشارت إلى تخلي الحزب عن خط آب في نيسان 1965. وآخر ما اطلعت عليه هو جزء من مذكرات الفقيد ثابت حبيب العاني، المنشور في الحوار المتمدن بتاريخ 20 كانون الأول، تحت عنوان "خط آب في مذكرات الفقيد ثابت العاني" وعنوانها في المذكرات هو: "التخلي كلياً عن "خط آب" ومما جاء فيها: "وبسبب هذه المعارضة الواسعة في الحزب لخط آب، فلم يكتب لهذا "الخط" الاستمرار سوى بضعة أشهر. وجرى التخلي عنه لاحقاً في اجتماع اللجنة المركزية في نيسان عام 1965.
إن البيان، أو بالأحرى التقرير، الذي صدر عن اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965 قد تخلى فعلاً عن خط آب. فبدلاً من الدعوة إلى تماثل نظام عبد السلام عارف مع نظام عبد الناصر، والذي كان يدعو إليه خط آب، فإن التقرير الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965، واستنادا إلى عزيز سباهيً وحنا بطاطو،  "قد تضمن تعديلاً أساسياً في سياسة الحزب. إذ طالب بإسقاط الحكم الدكتاتوري العسكري، والدعوة إلى إقامة حكومة ائتلاف وطني ديمقراطية، تنهي الأوضاع الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وتصفي مخلفات انقلاب شباط، وتحقيق الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان. وقالت اللجنة المركزية في تقريرها: إن الحزب الشيوعي "حامل الرسالة التاريخية للطبقة العاملة" وجد ليبقى، وإن "تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي" العراقي قد فشلت، ومع كل الضجيج المثار عن "الاشتراكية" فإن سياسة السلطات " تتناقض سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، مع أبسط مفاهيم ومتطلبات البناء الاشتراكي"، ودعا الحزب الشيوعي الناصريين إلى الانسحاب من الحكم، والانضمام إلى صفوف المعارضة الشعبية". 
ما هو الاستنتاج الذي يمكن أن يستنتجه المرء من ادعاء الكاتب المراني بأنه لم يسمع بالتخلي عن خط آب "إلا من خلال مقال الأستاذ جاسم الحلوائي". هناك احتمالان، فأما أن الكاتب همام عبد الغني لم يكن قد اطلع على تقرير اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965، وهو كادر متقدم، وأنه لم يطلع على مذكرات قادة الحزب وأهم الكتب عن تاريخ الحزب الشيوعي العرقي، فهذه مصيبة، أو أنه أطلع على ذلك ولكنه لم يميز الفرق النوعي السياسي والفكري بين خط آب وتقرير نيسان، وفي هذه الحالة، فإن المصيبة أعظم.
 ويواصل الكاتب فيذكر ما يلي: "أما الملاحظة الأخرى : التي لفتت نظري في مقال المناضل الحلوائي , وهي من نفس المنطلق والتبرير , قوله " ان المناضلين الذين رسموا خط آب , ما أن وطأت أقدامهم ارض العراق حتى احسوا بخطأهم وتراجعوا عمه (عنه)" , وهذا الكلام يغاير الحقيقة تماماً ففرسان خط آب 1964 , بقوا مصرين على ذلك النهج حتى بعد ادانته بشدة في اجتماع تشرين الأول 1965..."
مع الأسف أن الكاتب لم يكن أميناً في استشهاده وإن نص ما جاء في مقال كاتب هذه السطور هو "...أن أبرز قادة ذلك الخط ما أن وطأت أقدامهم الواقع، واقع العراق وواقع المنظمات، حتى أخذوا يعيدون النظر بتقديراتهم الخاطئة". لا يجوز إطلاقاً عند الاستشهاد بمقتطف من كاتب تغيير حرف واحد من النص حتى ولو كان خطأ نحوياً أو حتى مطبعياً، ومن الممكن تصحيح مثل هذه الأخطاء وحصر ذلك بين قوسين. ومن مقارنة النصّين سيجد القارئ أن الكاتب المراني أعاد صياغة نص كاتب هذه السطور على هواه، في محاولة لتسهيل تفنيده!؟
لنرى الآن هل ان كلام كاتب هذه السطور يغاير الحقيقة، كما يدّعي الكاتب المراني؟ إن أول من وصل إلى العراق من قادة الحزب هو بهاء الدين نوري، أحد منظري خط آب، وذلك في تشرين الثاني 1964، كما جاء في مذكرات العاني المشار إليه أعلاه. ووصل بعده الفقيد عامر عبد الله، أحد أبرز المساهمين في تحرير وثيقة خط آب، بحوالي الشهر. ومباشرة بعد وصولهما أخذت أدبيات الحزب تجري تعديلاً في خطابها باتجاه إدانة النظام والتشكيك بإخلاصه للقضايا الوطنية. ففي بيان صادر من الحزب الشيوعي العراقي في 22 كانون الأول 1964 لمناصرة المناضلين من "اللجنة الثورية"، الذين اعتقلوا بتهمة تدبير انقلاب ضد الحكم، جاء فيه: "إن شعبنا يري استمرار سياسة الإعدامات والمشانق استهتاراً بلائحة حقوق الإنسان، وبجميع مبادئ العدل والقانون والقيم الخلقية، واستجابة لإرادة الاستعمار والرجعية. إن شعبنا يتساءل: من المسؤول عن هذا الاستهتار بأرواح أبناء الشعب ومصادرة حرياتهم؟ إن القوى القوميىة المشتركة في الحكم، تسيء إلى سمعتها وإلى الوحدة نفسها، إذا لم تتخذ موقفاً صريحا وحازمأ ضد هذه السياسة الهوجاء" 
لا شك بأن هذا الخطاب يختلف عن خطاب خط آب ويؤكد، بدون لبس، ما ذهبت إليه وهو: " أن أبرز قادة ذلك الخط ما أن وطأت أقدامهم الواقع، واقع العراق وواقع المنظمات، حتى أخذوا يعيدون النظر بتقديراتهم الخاطئة" وأضيف الآن، وشرعوا بتغيير خطابهم السياسي.
وما يورده الكاتب عزيز سباهي في هذا الصدد يعزز رأيي ويلقي الضوء على ظروف تخلي الحزب عن خط آب، فيذكر ما يلي: " وإذ وجد رفاق اللجنة المركزية العائدون، والذين أسهموا في وضع الخط السياسي لآب، إن القاعدة الحزبية ومعظم شبكة الكادر الحزبي، ساخطة على هذا الخط، راحوا يعيدون النظر في قناعاتهم السابقة، وقرروا التخلي عما توصلوا إليه في براغ قبل أشهر، وشرعوا يعيدون النظر أيضاً في خطابهم السياسي إلى الشعب. وقد زاد من حماستهم في هذا الشأن، ان حكومة عبد السلام عارف شنت في آذار 1965، الحرب من جديد، على الشعب الكردي، ودخلت في مباحثات مع شركات النفط للمساومة معها، وأصدرت محاكمها أحكاماً جديدة بالإعدام ضد عناصر وطنية بدعوى أنها قاومت انقلاب شباط، وكانت يومها نزيلة سجونها ومواقفها طول هذا الوقت". ويستطرد  الكاتب سباهي القول "وفي خارج البلاد أيضاً كانت قيادة الحزب تعيد منذ ربيع 1965 النظر في سياسة الحزب. إذ دعا سكرتير الحزب، عزيز محمد، في آذار 1965 القادة في الخارج إلى اجتماع تطرق فيه إلى أن بياناً سياسياً سيصد قريباً عن مركز الحزب يعيد النظر في سياسة الحزب العامة، وقد جرى توزيع مسودته على نطاق ضيق[اللجان المحلية]لغرض مناقشته. 
أما إدانة خط آب فقد تقرر بإجماع الحاضرين، في اجتماع تشرين الأول 1965،  وكان كاتب هذه السطور حاضراً في الاجتماع، وتقرر نشره. وقد نشر بمربع صغير في النشرة الداخلية المسماة "مناضل الحزب" التي صدرت بعد الاجتماع المذكور مباشرة.   ويشير ثابت حبيب العاني إلى ذلك أيضاً في الجزء المنشور من مذكراته الذي مر ذكره. مع ذلك يقول الكاتب المراني لم يصدر "بيان عن الأجتماع ومقرراته" في حين كان هذا القرار واحداً من أهم قرارات الاجتماع.
مع ذلك فقول الكاتب " ففرسان خط آب 1964 , بقوا مصرين على ذلك النهج حتى بعد ادانته بشدة في اجتماع تشرين الأول 1965..." فيحتاج إيضاحاً. إذ أن هناك التباساً لدى الكاتب، فهو يخلط الخط السياسي الجديد بأساليب الكفاح وتنفيذ تلك الأساليب. فبعد إقرار الخط السياسي الجديد، تفجر في الحزب صراعاً فكرياً حول أساليب الكفاح، وكانت هذه القضية واحدة من الأمور التي بحثها اجتماع اﻠ(25) في تشرين الأول، وإن هذه التسمية لهذا الاجتماع لم تأت اعتباطاً أو تهكماً كما يتصوره البعض ومنهم الكاتب المراني، وسأوضح ذلك لاحقاً.
نعود لأساليب الكفاح. كان هناك اتجاهان رئيسيان في اجتماع تشرين الأول 1965. لقد عبر عامر عبد الله  عن أحدهما في مطالعته، (وهو واحد ممن يسميهم المراني بفرسان آب الذين أصروا على ذلك النهج)، ويمكن تلخيصها، كما يشير إلى ذلك عزيز سباهي أيضاً، بالمبادرة إلى استخدام قوى الحزب في الجيش لانتزاع السلطة بانقلاب عسكري، ينهض به الحزب الشيوعي وحده. إذ أن القوى الوطنية الأخرى لا ترغب في مساندة انقلاب عسكري يقوم به الشيوعيون. وبرّر دعوته إلى "العمل الحاسم" لكون النظام الحاكم يعيش أضعف حالاته، بعد أن خرج عليه القوميون الناصريون، وينصرف جيشه إلى محاربة الشعب الكردي. وحذر عامر عبد الله من تفويت الفرصة، فعبد الرحمن البزاز، رئيس الوزراء، يسعى إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن تعزز مكانة النظام.
بينما رأى بهاء الدين نوري، أن الحزب لن يستطيع القيام بانقلاب عسكري لوحده، وحتى لو نجح الحزب في بادئ الأمر، فإنه سيواجه تحالفاً واسعاً من قوى مضادة، تعادي الشيوعية، وإن نجاح الانقلاب يتطلب تأمين تعاون القوى الوطنية الأساسية في البلاد.
وبعد مناقشات واسعة أقر الاجتماع بأغلبية كبيرة خطة "العمل الحاسم". وتقرر تشكيل وحدات مدنية عسكرية لدعم الانقلاب. وسمي هذا التنظيم ﺒ"خط حسين". وقرر الاجتماع الحصول على تأييد ودعم القوى الأخرى، لاسيما القوى الكردية، والقاسميين والقوى القومية التي تنادي بالاشتراكية. كما جرى التأكيد على أن لا يُقدم الحزب على عمل بمفرده، إلا إذا تعّذر الحصول على دعم الآخرين، وأن تكون قيادة الحزب قد تأكدت من أن الظروف مؤاتية تماماً لنجاح الانقلاب. والتأكيد الأخير كان ضمن الرسالة التي أرسلت من قادة الحزب في الخارج في إثر اجتماع دعا إليه سكرتير اللجنة المركزية الرفيق عزيز محمد وعقد في براغ بحضور أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية الموجودين في الخارج، ولجنة تنظيم الخارج في 18 – 19 من تشرين الثاني عام 1965. وعرضت على الاجتماع التقارير المرسلة من بغداد عن الاجتماع. 
بعد اجتماع تشرين الأول 1965، لم تكن هناك معارضة تذكر حول ضرورة استخدام العنف لإسقاط حكم عارف، ولكن النقاش ظل يتواصل حول أساليب الكفاح وكيفية التنفيذ في أجواء يشوبها التوتر وحتى تبادل الاتهامات. وكانت هذه الأجواء محصورة في بغداد. وكان كاتب هذه السطور بعيداً عنها ولم يكن طرفاً فيها.   فقد أعتقل بعد اجتماع تشرين الأول 1965 بعشرة أيام، وهرب من المعتقل مع المناضل عمر على الشيخ، بعد أن قضى فيه ستة أشهر. ونُسب فور هروبه من المعتقل سكرتيراً للمنطقة الجنوبية. وما سمعه هو أن اتهامات كانت توجه  من مناصري العمل الحاسم إلى عناصر في قيادة الحزب بدعوى أنها تعرقل التنفيذ، في حين سمع من الطرف الآخر، اتهامات بأن أنصار العمل الحاسم يرومون القيام بمغامرة مصيرها الفشل لعدم توفر أهم مستلزمات نجاحها. وهذا الصراع، حول أساليب الكفاح وكيفية تنفيذها، استمر بعدئذ بين اتجاهين تبلورا في وثيقتين واحدة تدعو إلى تهيئة مستلزمات الانتفاضة الشعبية المسلحة، وكان كاتب هذه السطور أحد المشاركين في كتابتها، والأخرى تدعو إلى الانقلاب العسكري، كتبها الفقيد عامر عبد الله وطرحت الوثيقتان  للمناقشة على اللجان المحلية. وقد جرى تعشيق المشروعين في وثيقة واحدة في اجتماع كامل للجنة المركزية عقد في شباط 1967. إن هذا الصراع لم يكن له علاقة بخط آب السياسي والفكري، بل بأساليب الكفاح التي من ِشأنها أن تحقق الهدف الأساسي الوارد في تقرير نيسان، ألا وهو إسقاط الحكم الدكتاتوري العسكري وإقامة حكومة ائتلاف وطني ديمقراطية. 
أما لماذا سمي اجتماع تشرين الأول  في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي باجتماع اﻠ(25)؟ لقد سمي الاجتماع بهذا الاسم ، لأنه لا هو بالموسع للجنة المركزية ولا هو بالكونفرنس، ولا هو بالاستشاري، ولذلك سمي باجتماع ﺍﻟ(25)، وهو عدد حضوره. فتحت الضغط والإلحاح استجاب المركز الحزبي الذي يقوده بهاء الدين نوري بالوكالة إلى عقد اجتماع حضره سبعة أعضاء من (ل.م) وعضوان مرشحان، وستة عشر كادراً حزبياً متقدما، جميعهم من بغداد باستثناء أثنين أو ثلاثة، فأصبح المجموع (25). ونظراً للارتباك الذي رافق تنظيم الاجتماع، فلم يحضره أي مندوب من منظمة الفرع في كردستان، بالرغم من وصول وفد كبير منهم إلى بغداد، كما لم يُشارك في الاجتماع أي مندوب من الخارج لا من قادة الحزب ولا من كوادره، وكان مجموع المؤهلين منهم لحضور مثل هذا الاجتماع يتجاوز عدد الذين حضروه!!، بينهم سكرتير اللجنة المركزية ولم تحضره ولا رفيقة واحدة. ولم تقدم إلى الاجتماع أية وثيقة للمناقشة. فالتسمية لم تأت اعتباطاً ولم تكن للسخرية. 
لقد جلب انتباهي في الجزء المنشور من مذكرات الفقيد ثابت حبيب العاني المرفق، قوله " وانتقد (الاجتماع الذي عقد في براغ والمذكور أعلاه) الظروف الشاذة التي أدت إلى عقد "اجتماع 25"، بما يعني ادانة "اجتماع 25". 
لا توجد أية إدانة لاجتماع اﻠ(25). وفي رسالة قادة الحزب في الخارج إلى المركز الحزبي في الداخل، والتي مر ذكرها، إقراراً بالإجراءات التي توصل إليها اجتماع اﻠ(25) بشأن قيادة الحزب، ووافقوا على أن يستمر المركز القيادي في بغداد بنشاطه حتى ينعقد المؤتمر الثاني للحزب، أو حتى أن يعقد الحزب كونفرنساً أو أن تعقد اللجنة المركزية اجتماعاً كاملاً لها. وكانت أية إدانة لاجتماع اﻠ(25)، يعني سحب الشرعية من قيادة الحزب في الداخل لأنها كانت منتخبة من الاجتماع المذكور، ولم يحصل ذلك، كما هو معروف. 
على أي حال، يبدو لي أن وهَم الكاتب المراني، حول عدم تخلي الحزب عن خط أب ورسمه خط سياسي وفكري جديد في نيسان 1965، دفعه لارتكاب خطأ كبير عندما نسب رفع شعار إسقاط السلطة الذي ورد في تقرير نيسان إلى اجتماع تشرين الأول عنوة، حيث يقول ما يلي: "وفي نهاية الجلسة الأولى للإجتماع , حيث تقرر ادانة خط آب ورفع شعار اسقاط السلطة". ومن حقنا أن نسأل كيف رُفع الشعار ولم تصدر وثيقة من الاجتماع؟ كما يؤكد ذلك الكاتب همام نفسه حيث يذكر "لم يصدر بيان عن الأجتماع ومقرراته، كما جرت العادة لإجتماعات قيادة الحزب..." ولنضع السؤال بصيغة أخرى، كيف يبدل حزب سياسي سياسته 180 درجة بدون وثيقة تعلل ذلك؟ الجواب واضح، هو أن الوثيقة كانت موجودة والشعار مرفوع منذ نيسان، والمظاهر الايجابية التي ظهرت على المنظمات بدأت بتلك الوثيقة، ولا زال كاتب هذه السطور يتذكر ذلك. فقد كان سكرتيراً لمنطقة بغداد أنذاك، ومساهماً في إقرار الوثيقة في اجتماع اللجنة المركزية التي أقرته، وهناك تفاصيل عن هذا الاجتماع بعضها طريفة في كتاب كاتب هذه السطور "الحقيقة كما عشتها". 
لقد اعتبر الكاتب همام عبد الغني المراني ادعاء الكاتب كريم الزكي "كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تعمل جاهدةً لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة" مجرد عبارة غير دقيقة وردت بسبب الحماس، بدلاً من إدانة ذلك باعتباره تشويهاً لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي المجيد. هذا بالرغم من معرفة المراني بأن ما يدّعيه كريم شيء، وانتهاج سياسة خاطئة شيء آخر مغاير تماماً، على حد تعبير الكاتب المراني ذاته.
ومن أجل أن يبرر خطأ كريم، راح الكاتب يقوّل كريم أقوالاً لم يقلها، عندما يذكر: " كما ان عبارة "كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تعمل جاهدةً لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة" هي الأخرى غير دقيقة , فانتهاج سياسة خاطئة شيئ و "تعمل جاهدةً لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة" شيئ آخر مغاير تماماً , رغم انني اوافق [على. ج ] رأي الكاتب, ( لم يرد الرأي الذي سيذكره في مقال الكاتب كريم، كي يؤيده!؟ ج) بأن خط آب لو قُدر له ان يستمر لفترة طويلة , ولم يواجه ذلك الرفض القاطع من كوادر وقواعد وجماهير الحزب لوصل الى تلك النتيجة , رغم انها مستبعدة تماماً في العراق , استناداً لمكانة وجماهيرية الحزب ونفوذه الأدبي والسياسي وجذوره العميقة في المجتمع العراقي".
لو كان هذا الرأي قد ورد في مقال كريم، لما علق كاتب هذه السطور عليه أصلاً رغم مآخذه الأخرى على مقاله" أما إذا أضيفت للأسباب التي استبعدت فيها احتمال ذوبان الحزب في الاتحاد الاشتراكي العربي، ما يلي:"...ولتركيبة الحزب الشيوعي العراقي القومية غير القابلة للذوبان في منظمة قومية عربية" لاتفقت مع هذا الطرح تماماً. أما حل الحزب، الذي ورد في ادعاء كريم، فهو أمر غير ممكن، فليس هناك جهة تملك مثل هذه الصلاحية، بما في ذلك المؤتمر الوطني للحزب. فقد أوجدت الحزب الشيوعي العراقي ضرورة اجتماعية تاريخية، وعندما تنتفي هذه الضرورة، فعند ذاك تنتفي ضرورة وجوده أيضا.
لقد لاحظنا كيف دلس الكاتب عبد الغني أخطاء الكاتب كريم، أما عندما وصل الأمر لإبداء ملاحظاته على مقالي، فقدم لها وجهة نظره في كتابة التاريخ، والتي يعوزها عنصر مهم في كتابة التاريخ، حسب فهمي وتجربتي المتواضعة في هذا الميدان، ألا وهي الأدلة الموثقة وخاصة في الأمور الخطيرة، وعدم الاعتماد على الذاكرة، خاصة عندما يبلغ الإنسان من العمر عتيّاً. فالقارئ غير مجبر على تصديق الكاتب، أما الأدلة الموثقة فمن شأنها إقناع القارئ. وفي هذا الاطار، من الضروري هنا التمييز بين ما هو مهم وخطير وموضع خلاف، وبين ما هو غير ذلك. 
يذكر الكاتب عبد الغني في مقاله ما يلي:"ان هذه الأحداث مضى عليها نصف قرنٍ من الزمن , وأصبحت تاريخاً يفترض بمن يتعرض لها او يتناولها , ان يكون دقيقاً وأميناً في تسجيلها , اذا كنا نريد فعلاً ان نصون تاريخ الحزب ونحافظ عليه من التشويه والأجتهادات الشخصية". هذا صحيح ولكن لماذا لم يذكر ذلك في مقدمة المقال، وجاءت بعد أن أنهي ملاحظاته على مقال الكاتب كريم وجعلها مقدمة لملاحظاته على مقال كاتب هذه السطور؟ فالأمر واضح فهو يريد الإيحاء للقارئ بأن كاتب هذه السطور لم يكن دقيقًا وأمينا و...الخً. وبصرف النظر إن كان يوحي او لم يوح، فسأترك للقارئ أن يحكم من منهما لم يكن دقيقاً وأميناً؟ ومن منهما يحرص على تاريخ الحزب الشيوعي العراقي من التشويه، كاتب هذه السطور، أم الأستاذ همام عبد الغني المراني ؟
رابط مقال الأستاذ همام عبد الغني المراني
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/is/17d1.htm
رابط جزء من مذكرات الفقيد ثابت حبيب العاني
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=446746

20
عرض كتاب جاسم الحلوائي "موضوعات سياسية وفكرية معاصرة"
مزاحم مبارك مال الله
كتاب من القطع المتوسط يقع في 196 صفحة ،صدر عن مطبعة إيلاف للطباعة الفنية الحديثة لعام 2014 ،وهو المنشور رقم(1) من منشورات موقع الناس الألكتروني ،وقد أجتهد القائمون على الموقع وفي مقدمتهم الرفيق يونس بولص متي والذي آثر أن يجمع مقالات الرفيق جاسم الحلوائي في هذا الكتاب بمناسبة الذكرى الستين لعضويته في الحزب.
يحتوي الكتاب على المعالجات الفكرية والسياسية والتاريخية المعاصرة التي أنبرى أليها الحلوائي. وجاء في مقدمة موقع الناس:"إن اختيار كتابات المناضل جاسم الحلوائي لم يأتِ محض صدفة ،فهو مناضل مخضرم أقتحم سوح النضال منذ خمسينيات القرن الماضي وعاش تجارب الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية العراقية بانتصاراتها وانتكاساتها".
وتضيف المقدمة: "ولم يفتر حماس الحلوائي ولم يبخل بعطائه لا عندما كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب(1964 ـ 1985)، وعضو سكرتاريتها (1974 ـ 1978) ،ولا عندما أصبح ضمن قاعدة الحزب".
وتضيف:"الحلوائي من المساهمين بفعالية في المؤتمر الوطني الخامس للحزب 1993 ـ مؤتمر الديمقراطية والتجديد ـ ، لقد أصبح الحلوائي منسجماً أكثر مع نفسه في هذا المؤتمر".
الكتاب يحتوي على 12 مقالاً كتبها الرفيق الحلوائي، تنوعت بمواضيعها مبتدءاً بالمؤتمر الوطني الخامس ،إضافة الى الحوار الذي أجراه معه الكاتب والصحفي داود الأمين ،ويحتوي أيضاً على الرسالة التي بعثها الحلوائي الى الدكتور عبد الحسين شعبان حول كتاب شعبان الموسوم "عامر عبد الله النار ومرارة الأمل".
المقال الأول/(مؤتمر الديمقراطية والتجديد 1993 منعطف مصيري في تأريخ الحزب الشيوعي العراقي) ،يقول الحلوائي:
"حرر هذا المؤتمر الحزب من الجمود العقائدي والنصيّة "،و"كان بمثابة ثورة على "المسلمات" المكبّلة لعقل الحزب وتفكيره ،وبات الحزب أدق فهماً للمنهج الديالكتيكي المادي في تناول مختلف الأمور،وقد جدّد الحزب أيديولوجيته في هذا المؤتمر ،وفي الوقت الذي ظّل الحزب متمسكاً بخياره الاشتراكي كهدف بعيد فأنه صحح هويته ومرجعيته الفكرية وبنيته وتنظيمه ونشاطه ،ومن حيث علاقاته بالقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى".
أن الرفيق الحلوائي في مقاله القيّم هذا يتناول أبرز الأسباب في أطلاق أسم "مؤتمر الديمقراطية والتجديد"على هذا المؤتمر،وكذلك يتناول كيفية حصول التجديد، والولادة العسيرة وأبرز نتائجه.
المقال الثاني/(تجربة ح.ش.ع في مجال التحالفات السياسية ودورها ـ 1934 ـ 2014)، يتناول الحلوائي المسيرة الجبهوية وتحالفات الحزب بتسلسلها الزمني ووفق خط بياني متصاعد مع المصالح الطبقية والسياسية للشعب العراقي ،مبتدءاً من لجنة التعاون الوطني ،لجنة الارتباط، جبهة وطنية للانتخابات البرلمانية عام 1954،محاولة تشكيل قيادة موحدة لانتفاضة تشرين 1956 ،الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ،جوقد، جود، الجبهة الكردستانية العراقية ،لجنة العمل المشترك.
المقال الثالث/(أثورةً كانت أم أنقلاباً عسكرياً؟)
ويتناول فيه الجدل حول تسمية ما حصل يوم 14 تموز 1958 فيقول: "أن الخلاف حول التسمية ليس أمراً شكلياً ،بل هو نابع من الخلاف حول طبيعة ما حدث". فالحدث أجرى تغييراً جذرياً في النظام على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية "،فلهذا الحدث أنصاره وخصومه ،ثم يضيف: "أن عدم أطلاق صفة الثورة على ما حصل يوم 14 تموز 1958 من شأنه أن ينزع عنها مشروعيتها التأريخية"، ثم يضيف:"أن الحدث أخذ شكل انقلاب عسكري وتحول الى ثورة شعبية في لحظة تأريخية واحدة، ... أن الجدل عمّقه مسيرة الثورة المتذبذب ومآلها".
المقال الرابع/(مؤامرة الشواف في الموصل آذار 1959)
يستعرض الرفيق الحلوائي التركيبة الاقتصادية الاجتماعية للموصل، وتضمن مقاله هذا عدة عناوين(الأستعدادات للمؤامرة، مؤامرة مكشوفة ،الشروع بالمؤامرة، قمع التمرد ،من المسؤول، الاغتيالات في الموصل)، فقد أستند الى العديد من المصادر،إضافة الى كونه أحد الذين عاصروا تلك المرحلة وأحداثها.
المقال الخامس/(أحداث كركوك في تموز 1959)
يستهل الحلوائي هذا المقال بالاستشهاد بثلاثة شهادات صدرت عن ثلاث مؤرخين مشهود لهم علميتهم وحياديتهم، حول الانطباعات السلبية التي علقت في أذهان الناس عن ح. ش.ع إزاء أحداث كركوك في تموز 1959 ،وهم كل من حنا بطاطو، والكاتب المحامي جرجيس فتح الله والمؤرخ ألن دان، مشيراً الى إن الثلاثة أكدوا براءة الشيوعيين من تلك الأحداث.
ثم يستعرض بعدد من السطور مدينة كركوك ووصف سكانها. وتحت عنوان ثورة 14 تموز في نفس المقال يذكر الحلوائي استغلال القوى المضادة للثورة التركيبة الاجتماعية والطبقية في المدينة واستخدامها بأعمال مضادة للثورة ودور القنصليات الأجنبية في هذه الأعمال(حسب إفادة ناظم الطبقجلي)في أفادته أمام المحكمة العسكرية الخاصة.
ثم وتحت عنوان"قاسم يستغل الحادث ضد الحزب الشيوعي"فيمر على موقف قاسم، وما صوّر لقاسم من أحداث والتي أدت به الى أن يصرّح تصريحاته الخطيرة في كنيسة مار يوسف يوم 19 تموز والتي ادت الى تصعيد الموقف ضد الشيوعيين والقوى الوطنية والديمقراطية. وتحت عنوان "شهادة مهمة" يدرج الحلوائي ما ذكره الرفيق عزيز محمد حول أحداث كركوك والتي جاءت في المقابلة التي أجرتها مجلة (الوسط)الصادرة في لندن عام 1997.
المقال السادس/ (انقلاب 8 شباط 1963)
في بداية المقال يوجز الحلوائي الظروف والأسباب التي أدت الى قيام الانقلاب الدموي في شباط 1963،والقوى المحركة والمنفذة له والدوائر التي تعاونت على تنفيذه. وتحت عنوان "الحزب الشيوعي يقف ببطولة ضد الانقلاب الفاشي"، استعرض الحلوائي بطولة وثبات قادة الحزب وقواعده، والبيانات التي أصدرها الحزب في دعوة الشعب لمقاومة الفاشيين ،وتحت هذا العنوان يستعرض الكثير من ملاحم البطولة للشيوعيين ومناصريهم والوطنيين والديمقراطيين في أماكن عديدة من بغداد وخارجها.
وفي عنوان"الصمود البطولي"يصف الرفيق الحلوائي صمود الشهيد البطل سلام عادل والشهيد البطل محمد حسين ابو العيس الذي مارس الأنقلابيون معه شتى أنواع التعذيب أمام زوجته الرفيقة الأديبة سافرة جميل حافظ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة أمامها، ويقول الحلوائي (لم يكن بوسع أي كاتب مهما أوتي من براعة التصوير ،أن يعرض القصة الكاملة لما جرى في قصر النهاية وملعب الإدارة المحلية والنادي الأولمبي وبناية محكمة الشعب وغيرها من أماكن جرى تحويلها الى مقرات للتحقيق والتعذيب).
وبنفس المقال وتحت عنوان (أخر ما كتب سلام عادل) وهو ما قدمه الشهيد من تقييم أولي للانقلاب تم توزيعه على لجان المناطق والمحليات، هي أخر رسالة منه ،فيقول "أن انقلاب ـ الردة ـ في 8 شباط بدأ فكرياً وسياسياً واقتصاديا منذ أواسط  1959ثم يقول الشهيد :" ان السبب الرئيسي الذي أدى الى سيطرة الانقلابيين على الحكم هو العزلة التي أصابت تدريجياً ديكتاتورية قاسم عن الشعب وعن القوى الوطنية".
المقال السابع/(انتفاضة معسكر الرشيد في 3 تموز 1963)
يورد الحلوائي مجموعة من أسماء الشيوعيين الذين وبمحاولات فردية حاولوا أعادة بناء التنظيم الحزبي بعد انقلاب شباط الأسود، ومنهم إبراهيم محمد علي الديزئي ومحمد حبيب وحسن سريع وحافظ لفتة وهاشم الآلوسي وحامد الحمداني. ويقول أنضم الى المجموعة ما يقارب من الفي شخص ،حزبيين ولا حزبيين ،أغلبهم من العسكريين جنوداً ومراتب ،توزعوا على العديد من معسكرات بغداد وغيرها. أمّنت المجموعة الاتصال بقيادة الحزب والتي طلبت التريث وإعطاء الفرصة للحزب كي يعيد ترتيب أوضاعه ،الاّ أن المجموعة لم تقتنع.
المقال الثامن/(قطار الموت)
المقال التاسع/(ترسيخ الديمقراطية في العراق الضمان الأكيد لتحقيق طموحات الشعب الكردي القومية)
في البداية يثبّت الحلوائي حق الشعب الكردي في تقرير مصيره ،ثم يتطرق الى الأخطاء التي ارتكبتها الحركة القومية الكردية وخصوصاً في تحالفها مع أعداء عبد الكريم قاسم ،مشيراً الى مواقف ح .ش.ع من القضية الكردية وتبني الحزب عام 1962 برنامجاً متقدماً ومتطوراً لحل المسألة الكردية وكرس الحزب كل طاقاته وإمكاناته السياسية والجماهيرية من أجل تحقيقه، وأصطدم الحزب بقوة بحكم قاسم وقدّم على هذا الطريق التضحيات الكبيرة.
المقال العاشر/(من الذي يجب أن يدفع تعويضات خسائر الحرب العراقية ـ الإيرانية)
ألف مليار دولار تطالب إيران ان يدفعها العراق، كورقة ضغط بعد زوال النظام ،وقد أورد الحلوائي تصريحات الخبير القانوني(طارق حرب في 13/5/2010) الخطيرة ودون أدراك مدى مسؤولية وخطورة ما يقول ،حينما صرّح:"أن المبلغ المطلوب من الجانب الإيراني قد يكون محلاً للنقصان أو أن يكون أقرب الى الواقع".
ثم يقول الحلوائي :"ليس من مصلحة الشعبين العراقي والإيراني إثارة موضوع التعويض عن خسائر الحرب ،أما إذا أثار حكام إيران الموضوع بشكل رسمي فليس من حق أي مسؤول عراقي التنازل عن خسائر العراق التي يتحملها الجانب الإيراني ،فما بعد حزيران 1982 سحب صدام أخر جندي عراقي من الأراضي الإيرانية وطالب بإيقاف الحرب وحينها لجأ الى مجلس الأمن الذي اصدر قرار إيقاف الحرب في تموز 1982 الذي رفضته إيران".
المقال الحادي عشر/(الديمقراطية ودكتاتورية البروليتارية)
يقول الحلوائي:أن الشكل الديمقراطي للحكم هو نقيض لأي شكل من أشكال الحكم الدكتاتوري بما في ذلك دكتاتورية البروليتارية ،لأن الدكتاتورية ترفض تداول السلطة وفصل السلطات. ويضيف:"تخلت الحركة الشيوعية العالمية أو غالبيتها ،عن مفهوم دكتاتورية البروليتارية، ليس بسبب تعارضه مع أسس الديمقراطية فحسب ،بل ولأن تحقيقه لا يمكن أن يتم الاّ بالعنف، لذلك تخلى ح.ش.ع أيضاً عنه في المؤتمر الوطني الخامس ولم يعد اليه في مؤتمراته اللاحقة".
المقال الثاني عشر/(التراث الأشتراكي في برنامج ح. ش. ع)
في هذا المقال يستعرض الحلوائي وباختصار جميل فكرة الاشتراكية والتي وصفت بالطوباوية ومن ثم ظهور مفهوم الاشتراكية العلمية والمستند الى المادية التاريخية والديالكتيكية ،وأن الشعوب مرت بمراحل تاريخية كثيرة جداً بكل خصالها السياسية فتكوّن تراثاً اشتراكيا ضخماً عبر مئات السنين ،لذلك فالحلوائي يعتقد(أن عبارة "سائر التراث الاشتراكي" الواردة في برنامج ح.ش.ع ،تعني الاشتراكية الطوباوية وتراث الأمميات الثلاث وكل تراث المدارس الاشتراكية التي رافقت الماركسية وتبعتها بما في ذلك التجربة السوفيتية الفاشلة في بناء الاشتراكية، ويسترشد الحزب بما هو صحيح من هذا التراث).
أرى أن مقالات الرفيق الحلوائي لها قيمة فكرية عالية تستدعي من كل شيوعي أن يقرأها، كما أن الجهد الذي بذله رفاق موقع الناس أنما يستحق كل التثمين والشكر.



21
تعليق على مقال كاتب لم يسمح بالتعليق
جاسم الحلوائي

نشر الكاتب كريم زكي مقالاً في موقع "الحوار المتمدن" بتاريخ الأول من تشرين الثاني 2014 تحت عنوان " محطات من السفر النضالي لقوى اليسار العراقي (الكفاح المسلح )"، (رابط المقال مرفق). وكتبت  تعليقاً تعذر عليّ نشره، لأن الكاتب لم يسمح لا بالتعليق ولا بالتقييم المتوفران في الموقع المذكور، فاضطررت لنشره بشكل مستقل.

جاء في المقال ما يلي: "عاد (الرفيق خالد احمد زكي) من لندن بعد خط آب المشؤوم الذي انتهجته قيادة الحزب والذي حاولت من خلال هذا النهج التحريفي والخياني تذويب الحزب بالاتحاد الاشتراكي الناصري الذي كانت حكومة العارفين تنتهجه بعد انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تعمل جاهدة لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة ، مما اثار سخط وهيجان كل كوادر الحزب وتنظيماته في عموم العراق ، مما حفز الرفيق الشهيد خالد احمد زكي للعودة للعراق..."

بصفتي شاهد عيان، حيث كنت كادراً متقدماً عند إقرار اللجنة المركزية خط أب 1964، كما حضرت اجتماع اللجنة المركزية، بصفتي مرشحاً للجنة المركزية، المنعقد في نيسان 1965 والذي تخلى فيه الحزب عن خط آب ورفع شعار إسقاط سلطة عارف. كما كنت حاضراً في الاجتماع الموسع، الذي حضره عدد من كوادر الحزب المتقدمة إلى جانب أعضاء اللجنة المركزية الموجودين في الداخل، والذي أدان خط آب اليميني وتبنى نهج الكفاح المسلح. بإمكاني أن أنفي نفياً قاطعاً إدعاء الكاتب بأن "كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تعمل جاهدة لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة". لم أقرأ أية وثيقة تتضمن ذلك، ولم أسمع من أي قائد حزبي، لا تصريحاً ولا تلميحاً، ما يدعيه الكاتب.  فهذا الادعاء عار عن الصحة. وإذا لم يرد الكاتب على اعتراضي بأدلة موثقة، فإن ادعاءه سيدخل في باب التشويه المتعمد لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي المجيد وتاريخ العراق المعاصر، شاء ذلك أم أبى.
لقد شاع استخدام مصطلح "تصفوي" في إدانة خط آب في حينه. كان استخدام المصطلحات مثل : تصفوية، يمينية، يسارية، ذيلية، مارتوفية، تيتوية، تروتسكية و...الخ، شائعا سابقا لوصم سياسة هذا الحزب الشيوعي أو ذاك، أو الآراء المخالفة داخل الحزب.  ولم تعد تلك المصطلحات مستخدمة في حزبنا منذ مؤتمره الخامس المنعقد في عام 1993 والمسمى " مؤتمر الديمقراطية والتجديد". وهذا ما انتهجته جميع الأحزاب الشيوعية التي جددت نفسها ودمقرطتها. فتلك المصطلحات كانت تستخدم لقمع الأفكار والسياسات المخالفة.
لا اعتراض لديً على وصف خط آب بالتصفوي واليميني، ضمن تلك الظروف التاريخية، أما في حقيقته فهو نهج سياسي وفكري خاطئ وطارئ على الحزب الشيوعي العراقي. ولكن هذا شيء، وادعاء الكاتب بأن "كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تعمل جاهدة لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة"، شيء آخر.
وكان الحزب، عندما تبنى النهج المذكور، قد خرج للتو من مذبحة انقلاب شباط الفاشي، الذي صفى قيادة الحزب وشبكة واسعة من كوادره، ودمر معظم منظماته وخلف ردود فعل سياسية وفكرية واسعة ومتباينة وحادة شملت الحزب كله، وهذا ما يحصل عادة لكل حركة سياسية أو حزب سياسي كبير يتعرض إلى انتكاسة كبيرة. 
إنني على قناعة بأن اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في آب 1964 في براغ لو كان قد عقد في العراق وضم جميع قادة الحزب، لما تبنَ خط آب، بدليل أن أبرز قادة ذلك الخط ما أن وطأت أقدامهم الواقع، واقع العراق وواقع المنظمات، حتى أخذوا يعيدون النظر بتقديراتهم الخاطئة. وما أن اجتمع شمل عدد منهم، حتى كتبوا وثيقة تؤسس لخط سياسي وفكري جديد طرح للمناقشة على اللجان المحلية. كما أن اجتماع اللجنة المركزي المنعقد في نيسان 1965  والذي تخلى عن خط آب ضم عشرة رفاق ستة منهم كانوا حاضرين في اجتماع آب وهم كل من بهاء الدين نوري، عامر عبد الله، صالح دكلة، ناصر عبود، حسين سلطان وآرا خاجدور.


وإضافة إلى ذلك، فمن غير الصحيح اعتبار خط آب كان محفزاً لعودة الشهيد خالد احمد زكي إلى العراق، كما جاء في المقال. فقد عاد الشهيد إلى العراق في عام 1967، أي بعد ما يقارب السنتين من تخلي الحزب عن خط آب وإدانته وتبني الكفاح المسلح. فلماذا هذا الربط المفتعل؟ أترك الجواب لاستنتاج القارئ اللبيب.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=443989


22
قراءة نقدية في كتاب "الحزب الشيوعي العراقي في عهد
البكر ( 1968- 1979)". للدكتور سيف عدنان القيسي
( 5- الأخيرة)
 
جاسم الحلوائي
يذكر القيسي في الصفحة 364 من كتابه ما يلي:"إن قيادة الحزب الشيوعي اتخذت قرارها بالموافقة على الاشتراك في الحكومة، بعد نصيحة قدمها رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي ( اليكسي كوسجين)". لقد كنت حاضراً اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في ربيع 1972، الذي اتخذ القرار وكان الاجتماع في بيت الفقيد الدكتور رحيم عجينة.  ولم أسمع بهذه النصيحة. وبصرف النظر عن وجودها أو عدم وجودها، فإن القرار أُتخذ بعد مناقشته في اللجنة المركزية وبقناعتها، وفي أجواء الحوار حول ميثاق الجبهة وبُعيد عقد معاهدة الصداقة والتعاون العراقية-السوفيتية وعشية تأميم النفط، وأذكر ذلك ليس تبريراً وإنما توضيحاً.
إن ذكر نصيحة كوسجين من قبل القيسي، وما أشار إليه المشرف الدوري في مقدمته والتي يذكر فيها: ".. إن العلاقات العربية السوفيتية شهدت تقدماً إيجابياً خلال تلك المرحلة[سبعينيات القرن الماضي] وكانت توجهات الحزب الشيوعي  السوفيتي والحكومة السوفيتية أن يكون الحزب الشيوعي العراقي مهادناً للسلطة الحاكمة.."، تبدو وكأنها محاولة للإيحاء بأن العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والحكومة السوفيتية، كانت علاقة تابع ومتبوع. وبصرف النظر عما يقصدانه، نود الإشارة إلى أن الحكم الدكتاتوري المقبور حاول أن يرسخ هذا المفهوم عند أكثر من جيل من العراقيين بترديده " الحزب الشيوعي العميل"، بعد أن حسر نفوذ (ح.ش.ع)، بقمعه الوحشي، في الساحة العراقية، أكثر من عقدين من الزمن. وما عدا ذلك فإن هذه القضية واحدة من القضايا التي غالباً ما  تعرضت ولا تزال إلى التشويه واللبس في تاريخ (ح.ش.ع)، مما تتطلب وقفة جديىة لتوضيح حقيقة تلك العلاقة والتي لا يجوز تبسيطها والحكم عليها من خلال موقف معين أو تجريد الموقف من ظروفه، لوضع الأمور في نصابها.
وسوف لا نذهب بعيداً إلى مرحلة تأسيس (ح.ش.ع)، حيث كان عضواً في منظمة الكومنتيرن (الأممية الشيوعية) وملزماً بشروط عضويتها وقراراتها، ولو لم يكن كذلك لما كان وجوده ممكناً إطلاقاً.  وبعد حل الكومنتيرن (1943)، ظلت الحركة الشيوعية العالمية تنظر بتقدير عال للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وتعتبره طليعة الحركة الشيوعية العالمية وتسترشد بتجربته، ولكنها كانت أحزاباً مستقلة ومسؤولة عن رسم سياستها وبرامجها ومنطلقة من مبدأ التضامن الأممي في معالجة الشؤون الدولية،  وملزمة أدبياً بمحتوي البيانات التي كانت تصدر عن اجتماعات الأحزاب الشيوعية في العالم. وكان (ح.ش.ع)يشارك في هذه الاجتماعات بأعلى المستويات ولم يتخلف عن حضورها حتى في أصعب الظروف.
لقد ساد الإرث الثقافي للعهد الستاليني، على مجموع الحركة الشيوعية العالمية مع استثناءات محدودة، مثل يوغسلافية والحزب الشيوعي الإيطالي. ولقد تثقف بهذا الإرث مؤسس وبان (ح.ش.ع) الرفيق فهد ومجايليه والذي يعتبر "الموقف من الحزب الشيوعي السوفيتي والدولة السوفيتية هو المحك الأساسي عن مدى إخلاص كل حزب شيوعي وكل رفيق شيوعي، وبالتالي فإن التعلم منهما هو بمثابة تعلم الانتصار"1.  هذا الإرث الثقافي الأيديولوجي  أخذ بالانحسار تدريجياً، وخاصة بعد رحيل ستالين في عام 1953 وحل الكومنفورم (مكتب الإعلام الشيوعي) في عام 1956، وقد تلاشى مع مرور الزمن.
لقد واجه السوفييت في خمسينيات القرن الماضي، التعارض بين الالتزامات الأممية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ومصالح الدولة السوفيتية ومحاولة التوفيق بينهما عند ظهور الدول التقدمية المعادية للإمبريالية والشمولية في نفس الوقت، مثل نظام عبد الناصر وبومدين في الجزائر وما شابه ذلك لاحقاً. وقد اشتد هذا التعارض في ظروف الحرب الباردة التي كانت تقتضي دعم هذه الأنظمة من جهة ودعم الأحزاب الشيوعية من جهة أخرى. وكان السوفييت يحاولون حل هذا التعارض بإيجاد توافق بين هذه الأنظمة والأحزاب الشيوعية لبلدانها.
كانت هذه هي الحالة في الحركة الشيوعية العالمية عندما أعيدت علاقات (ح.ش.ع) بالحركة الشيوعية العالمية مجدداً، بعد أن انقطعت في إثر انتكاسة (ح.ش.ع)  في نهاية العقد الرابع بعد إعدام قادة الحزب الشيوعي في عام 1949، وذلك في مؤتمر الكومنولث المنعقد في لندن في عام 1954 والذي حضره الرفيق سلام عادل ممثلاً عن الحزب. 
أود التأكيد هنا على أن رأي السوفيت في سياسة الحزب ومواقفه لم تطرح بشكل رسمي للمناقشة في اللجنة المركزية خلال الواحد والعشرين عاماً التي كان كاتب هذه السطور عضواً فيها (1964-1985). ولم يصل إلى سمعه بأنه طُرح قبل هذا التاريخ أو بعده، سوى مرة واحدة، سيأتي بيانها. ولكن الرأي السوفيتي كان حاضراً في أذهان أعضاء اللجنة المركزية من خلال السياسة المعلنة في وسائل الإعلام ومن قراءاتهم الشخصية ومن محاضر اللقاءات الرسمية بين ممثلي الحزبين ومن نصائح السوفييت المباشرة وغير المباشرة، والأخيرة كان ينحصر تداولها في المكتب السياسي عادة، حرصاً على عدم ثلم استقلالية قرارات اللجنة المركزية. وعند تفاقم الخلاف الصيني السوفيتي درست اللجنة المركزية ﻠ(ح.ش.ع) ذلك في اجتماع استثنائي في صيف 1961 وصوّتت اللجنة المركزية بأكثرية صوت واحد فقط لصالح نهج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. 2
لم تكن مواقف (ح.ش.ع)  المتفقة مع رأي السوفيت بمعزل عن قناعة اللجنة المركزية، بدليل الاختلافات المهمة السياسية والفكرية التي حدثت بين الحزبين، وعلى سبيل المثال:
*- في نيسان 1965، قررت اللجنة المركزية في اجتماعها رفع شعار إسقاط سلطة عبد السلام عارف، وذلك خلافاً لسياسة السوفيت. وقد تخلى الحزب عن موضوعة التطور اللارأسمالي لمدة عشر سنوات، أي منذ هذا الاجتماع حتى منتصف عام 1975، حيث أقرت اللجنة المركزية مشروع برنامج جديد للحزب حوى هذه الموضوعة بصيغتها الجديدة " التوجه الاشتراكي"، والذي أقر في مؤتمر الحزب الثالث في عام 1976. وكان التخلي عن موضوعة التطور اللارأسمالي، مخالفاً  لموقف السوفيت والأحزاب الشيوعية التي تؤيد الموضوعة.
*- بعد مجيء حزب البعث للسلطة عام 1968، واتخاذه جملة من الإجراءات التقدمية في مجالات مختلفة، بما في ذلك تطوير علاقاته بالدول الاشتراكية والإتحاد السوفيتي، ولكن دون التخلي عن سياسة قمع الحريات الديمقراطية وقمع المخالفين له، رغب السوفييت  بتعاون الحزب الشيوعي مع حزب البعث. ففي ربيع 1971، وكان الحزب يتعرض إلى حملة إرهابية واسعة شملت اعتقال وتعذيب آلاف الشيوعيين تعذيباً وحشياً واستشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب أو الاغتيال. في هذا الوقت بالذات استفسر السوفيت من القائم بأعمال السكرتير الأول للجنة المركزية الرفيق زكي خيري عن شروط الحزب للتحالف مع حزب البعث، فأجابهم زكي خيري: "إن شرطنا هو أن يدلنا حزب البعث على قبور شهدائنا!". *3  وواضح من الجواب رفض التحدث بالموضوع ، إن لم يكن احتجاجاً على الوساطة.
*- لم يكن موقف الحزب المعادي لسلطة البعث، بعد حملة القمع الوحشي التي تعرّض لها عام 1978، وقراره بخوض الكفاح المسلح لإسقاطه، محل قناعة السوفيت أو تعاطفهم. علماً بأن شعار إسقاط السلطة تقرر في اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في موسكو عام 1980. وقرار المباشرة بخوض الكفاح المسلح هو الآخر تقرر في اجتماع اللجنة المركزية ﻠ(ح.ش.ع) في موسكو عام 1981، بالرغم من موقف السوفييت المعارض للمواجهة مع حزب البعث.
*- في صيف عام 1982، وعلى أثر انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية، التي كان قد احتلها في بداية الحرب العدوانية على الجارة إيران، وعودة تدفق الأسلحة السوفيتية إلى العراق، وصل إلى الحزب عرض من صدام حسين عبر الرفاق السوفيت وقد سلموه للرفيق زكي خيري في دمشق والذي أرسله بدوره إلى قيادة الحزب التي كانت قد تجمعت في كردستان. وكان عرض صدام يتضمن نقداً ذاتياً لأخطائه في السنوات الأخيرة تجاه (ح.ش.ع)، وأشار إلى أنه يدرك صعوبة استعادة الثقة بين الطرفين، وسيصدر عفواً عاماً، ويدعو للعودة إلى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية والعودة للدفاع عن الوطن، وهو في كل ذلك لا ينطلق من موقف الضعف.
كان كاتب هذه السطور في دمشق ومتوجهاً إلى كردستان فحمّله زكي خيري رسالة إضافية تفيد بأن السوفيت متجاوبون مع العرض، وكان ذلك جواباً على استفسار من قيادة الحزب في كردستان. ودارت مناقشة بين رفاق اللجنة المركزية انتهت بإرسال جواب قاطع برفض التفاوض أو الحوار 4 وهذه هي المرة الوحيدة التي تدرس اللجنة المركزية موضوعاً بالارتباط المباشر مع رأي السوفيت.
بعد ثورة 14 تموز كان المكتب السياسي يستشير القيادة السوفيتية في بعض الأمور، ولا يلتزم إلا بما يقتنع به. ولي في هذا الخصوص مثالان:
الأول: اختلف أعضاء المكتب السياسي فيما بينهم حول حل تنظيمات الحزب في الجيش. فهناك فريق أراد  حلها حرصاً على علاقة حسنة مع الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة والجمهورية، أما الفريق الثاني فرأى إبقاءها حرصاً على مستقبل الثورة، فعبد الكريم قاسم إنسان معرّض للموت أو الاغتيال. وباقتراح من عضو المكتب السياسي جورج تلو عرض الموضوع على القيادة السوفيتية، وحمل عامر عبد الله، الذي كان في موسكو، جواباً تحريرياً بخط سوسلوف عضو المكتب السياسي ومسؤول لجنة العمل الأيديولوجي في اللجنة المركزية جاء فيه: "إن احتفاظكم بتنظيمكم الحزبي في الجيش يدل على جديتكم وحرصكم على ضمان انتصار ثورة الشعب" 5 .  وأخذ المكتب السياسي بالجواب.
أما الموقف الثاني، فأنقله من كتاب الرفيق زكي خيري وهو: "في بداية 1960، قام قاسم بإجازة جميع الأحزاب التي طلبت الإجازة باستثناء حزبنا، إذ أجاز بدلاً منه حزباً وهمياً بنفس الاسم لداود الصايغ الذي كان من زمن مضى عضواً في اللجنة المركزية لحزبنا وتواطأ مع قاسم لترويض حزبنا عن طريق هذه المناورة الخسيسة... وجاءتنا فتوى من سوسلوف بأن نقتدي بمثل البلاشفة الذين وافقوا على الوحدة مع المنشفيك في المؤتمر الرابع للحزب في استكهولم (مؤتمر الوحدة). فرفضنا هذه الفتوى. وشتان بين المنشفيك الذين كانوا آنذاك الأكثرية في الحزب الروسي وبين داود الصايغ الفرد الصنيعة! الذي لم يستطع حتى جمع الحد الأدنى من المؤسسين(60) توقيعاً. فأوعزنا لبعض رفاقنا غير المعروفين آنذاك بالتوقيع معه" 6
الأمثلة التي مرت بنا تشير، بما لا يقبل الشك، إلى أن من يدّعي بأن علاقة (ح.ش.ع) مع السوفيت في النصف الثاني من القرن الماضي، كانت علاقة تابع ومتبوع، فهو أما  أنه لا يعرف تاريخ هذه العلاقة وأما أنه يعرف ويحرّف. ومن غير الصحيح تعليق أخطاء الحزب الشيوعي العراقي على شماعة السوفيت، فالحزب وخاصة قيادته هي المسؤولة الأولى عن إنجازات الحزب وإخفاقاته.
وجدير بالإشارة إن الاختلافات في المواقف لم تؤثر على المساعدات التي كان يقدمها السوفيت للحزب، الزمالات الدراسية والحزبية ومقاعد المعالجة والراحة والاستجمام، شأنهم في ذلك شأن كل الأحزاب الشيوعية الحاكمة، والتي كانت تقدم مثل هذه المساعدات أيضاً للأحزاب والقوى التقدمية في البلدان النامية.
ولكن هل حصل يوماً ما ضغط من السوفيت لتبني رأياً محدداً؟ أجل حصل ذلك مرة واحدة ويتيمة، على حد علمي. ولم يكن ذلك اتجاهاً عاماً بأي حال من الأحوال. ففي المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي الذي عقد في شباط 1959، طلب الرفاق السوفيت من الرفيق سلام عادل إضافة عبارة "ابن الشعب البار" إلى ألقاب عبد الكريم قاسم في كلمته التي كان يريد إلقاءها أمام المؤتمر باسم (ح.ش.ع)، ولم يكن لديهم اعتراض آخر على نصها، فرفض سلام عادل ذلك وجادل السوفيت طويلاً بحضور الرفيق خالد بكداش الذي تدخل في النقاش وخاطب سلام عادل: "لماذا هذا الإصرار منك على الامتناع؟ لعل الرفاق السوفيت يعرفون عن قاسم ما لا تعرفون"! وفي آخر المطاف تجاوب سلام عادل وأضاف العبارة 7.
ولعل أحسن شهادتين مكتوبتين، وإحداهما تكمل الأخرى، يمكنهما أن تلخصا حقيقة تلك العلاقة، ويمكن للمرء أن يركن إلى صدقيتهما، لأنهما صادرتان عن قائدين هما الأكثر معرفة بطبيعة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في عقودها الأخيرة، ولأنهما جاءتا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبالتالي فهما خاليتان من المجاملة. إحدى هاتين الشهادتين هي للرفيق عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية السابق ﻠ(ح.ش.ع)  ويذكرها سيف القيسي ذاته في كتيبه الصادر حديثاً وهي: " حاول الكثير من الكتاب والمعلقين أن يشيروا إلى تأثير السوفيت وإملاء رغباتهم علينا، وهو أمر يمكن دحضه في مواقف كثيرة. كنا نقرأ رأي السوفيت ونحلل مواقفهم بقدر ما يتعلق الأمر بسياستنا، لكننا لم نكن نستلم إيعاز منهم في تقرير سياستنا. وأود أن أؤكد على أننا لم نتأثر بتلك الإيحاءات، لكوننا نحن من يحدد الموقف في ظل الوضع العام الذي يعيشه حزبنا لا السوفيت. نعم كنا نسترشد بنظرياتهم وطروحاتهم لأنهم أصحاب تجربة طويلة. علماً بأنهم كانوا يؤكدون دوماً على ضرورة التقارب [مع نظام البعث] بما يخدم حزبنا. ولا أنكر دور مصالحهم المتبادلة مع الحكم في العراق والتي كان لها تأثير في إيجاد تفاهم مع النظام".
أما الثانية فهي للرفق زكي خيري، الذي كان يحل محل عزيز محمد عند غياب الأخير،حيث يذكر ما يلي: "كان الرفاق السوفيت يردون على كل استفسار نوجهه إليهم في المنعطفات السياسية الحادة ويقدمون لنا النصح الخالص. ولم يكن رد الفعل من جانبنا إيجابياً دائماً. ولم يقاطعوننا بسبب توترنا بل يواصلون الحوار بروح رفاقية ونفس طويل. وكنا نحن الذين نعرض عليهم خلافاتنا وعلى أشقائنا الشيوعيين الأجانب لنتسلح بفتاويهم في جدالنا مع بعضنا 8 .
*****
نعود إلى كتاب القيسي. هناك معلومات غير دقيقة وردت في كتابه جراء عدم التحقيق في مدى صحتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر ورد في الصفحة (122) من الكتاب ما يلي"وعلى الرغم من إطلاق سراح معظم الشيوعيين من السجون والمعتقلات، لمجرد نشرهم إعلانات في الصحف تبرئهم من المبادئ "الشيوعية والفوضوية"، فإنهم وبدون شك ظلوا حاقدين على شخص عبد السلام عارف..". إن هذه المعلومة غير دقيقة، فلم يطلق سراح معظم الشيوعيين لإعطائهم البراءة فقد كانت نسبتهم ضئيلة. ففي سجن نقرة السلمان الذي كان يضم أكبر عدد من السجناء "لم يتجاوز عدد المتبرئين عن 40 سجيناً من مجموع ما يزيد عن الألفين سجين"، كما يذكر ذلك أحد السجناء.9   ومن بينهم أناس بسطاء لا علاقة لهم بالسياسة. وقد لعبت قصيدة "البراءة" للشاعر الكبير مظفر النواب دوراً مؤثراً في التصدي لهذا الإجراء التعسفي.  وبدلاً من أن يدين القيسي هذا الإجراء المنافي لحقوق الإنسان فانه يستسيغه بقوله: "لمجرد نشرهم"ّ!
وهناك أخطاء معلوماتية لا يستهان بها في الكتاب، لم أتوقف عندها لعدم تأثيرها سياسياً وفكرياً على الكتاب. وكانت الفرصة متوفرة لدى الكاتب للتوثق منها من قادة الحزب وكوادره الذين التقاهم.  وسأذكر ما انتبهت إليها في الهامش 10 وسنكتفي بهذا القدر من الملاحظات والتي تركزت على منهجية وأسلوب البحث بالدرجة الرئيسية.
الخاتمة
إن هناك جوانباً إيجابيتاً في الكتاب سبق وأن ذكرناها في سياق القراءة وهي، الإشارة إلى السيرة الذاتية السياسية لكثرة من الشخصيات العامة في الهوامش. وثمّنا جهود القيسي لاعتماده كم كبير من المصادر المتنوعة وتمكنه من الوصول إلى وثائق لم تكن معروفة سابقاً. وإضافة لذلك فإن الكتاب يحوي معلومات واسعة عن الوضع السياسي بشكل عام وعن مواقف (ح.ش.ع) بشكل خاص خلال تلك الحقبة من التاريخ.
ولكن المنهجية الخاطئة التي اتبعت في البحث شوّهت حقائق كبرى في تاريخ العراق المعاصر، كما مر بنا. إن ما أورده القيسي من معلومات في كتابه، عما تعرّض له (ح. ش.ع) من قمع وغدر وإجحاف في عهد البكر من جهة، وعن مواقفه الإيجابية ومرونته وتنازلاته من الجهة الأخرى، تخطئ تلك المعلومات أطروحته الأساسية في الكتاب، والتي تعد مرحلة البكر "قمة الانفتاح العلني السياسي والفكري والتنظيمي بالنسبة ﻠ(ح.ش.ع)". وتخطئ رأي المشرف القائل: "وكلاهما [الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث] يريد أن يفرض إرادته الفكرية والسياسية".
ومن اللافت للنظر أن هناك اهتماماً بالكم على حساب النوع في تدوين الكتاب. إذ أن هناك كم كبير من الوقائع والأحداث وجرى الإطناب في سردها على حساب البعد التحليلي والدقة. ولم تستخدم المصادر بشكل سليم أحياناً، كما مر بنا. ولم يجر العناية بلغة الكتاب إذ تفتقر إلى السلاسة والوضوح المطلوبين، علاوة على الأخطاء اللغوية التي لا يمكن غض النظر عنها. فهي ليست مجرد زلات قلم، وقد أشرنا إلى نماذج من تلك الأخطاء في سياق القراءة.
وأخيراً، نعتقد أن المشرف يتحمل مسؤولية أخطاء الكتاب لا لكون المشرف مسؤولاً عن كل ما تحتويه الأطروحة (ما عدا الأمور التي يسجل تحفظه عليها) فحسب، بل بسبب منهجيته الخاطئة، فلولا منهجيته لما وقع القيسي بتلك الأخطاء، بدليل أن القيسي في كتاباته الأخيرة، بما فيها كتيبه الأخير "قراءة في ذاكرة عزيز محمد..."، لم يرتكب فيها أخطاء كالتي أشرنا إليها خلال هذه القراءة، لتحرره نسبياً من طوق منهجية المشرف، والاقتراب من منهجية أخرى في البحث التاريخي، وهي منهجية تعتمد البحث عن الحقيقة وتوثيقها والدفاع عنها بصرف النظر عمن يحترمها أو لا يحترمها. وبذلك يمكن استخلاص تجارب وخبر التاريخ بشكل سليم لتوظيفها للحاضر والمستقبل.
وإن فكرة الوسطية التي يشير إليها القيسي، في تعليقه المنشور على الحلقة الثالثة في موقع "الحوار المتمدن" قائلاً "... برغم كل الظروف التي نمر بها نبقى في كفة الوسطية"، هي منهجية منافية للبحث التاريخي العلمي الذي يتطلب التحيز للحقيقة وعدم الزوغان عنها، فالوسطية في البحث التاريخي لا ينتج عنها سوى تشويه الحقائق التاريخية، شئنا ذلك أم أبينا.


____________________________________
 1 -  كاظم حبيب وزهدي الداودي، "فهد والحركة الوطنية في العراق"، ص142.
 2 - جاسم الحلوائي، "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، ص234.
 3- * ذكر الرفيق زكي خيري ذلك في الرسالة الموجهة إلى الرفاق الموجودين في كردستان، كتدبير صياني، وهم كل من كريم أحمد الداود عضو المكتب السياسي، وشاكر محمود ومهدي عبد الكريم وبهاء الدين نوري وكاتب هذه السطور أعضاء اللجنة المركزية.
 4 -  للمزيد أنظر باقر إبراهيم، مذكرات. ص 208.
 5 - زكي خيري ، صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم. ص 228.

 6 - المصدر السابق، ص231.
 7 -  المصدر السابق. ص 200.
 8 -  المصدر السابق. ص 228
 9 - محمد علي الشبيبي، " ذكريات الزمن القاسي"، منشورات مكتبة الحكمة، ص128.
وقد أكد الشبيبي، خلال مخابرة تلفونية لكاتب هذه السطور بأن المتبرئين بينهم أناس بسطاء لا علاقة لهم بالسياسة.
 10 - * معلومات غير صحيحة:
أ- لم يحضر الرفيقان عزيز محمد وزكي خيري الاجتماع الحزبي الذي عقد في حزيران 1964 لكوادر الحزب الشيوعي في موسكو، كما جاء في الصفحة (138) الهامش (35). وخلط القيسي هذا الاجتماع بالاجتماع الكامل للجنة المركزية في أب (1964) كما جاء في الصفحة (127) الهامش (34).
ب - لم ينتخب عزيز الحاج للجنة المركزية بعد عودته من الخارج، كما جاء في الصفحة (158) فقد كان عضو فيها قبل ذلك.
ج- لم يكن الدكتور صلاح خالص أحد أقطاب الحزب، كما جاء في الصفحة (303)، وإنما كان عضواً عادياً في الحزب.
د- لم تكن لجنة النظام الداخلي في المؤتمر الوطني الثالث للحزب برئاسة كريم احمد، كما جاء في الصفحة (476)، بل كانت برئاسة عمر علي الشيخ، وكان كاتب هذه السطور عضواً فيها.

23
قراءة نقدية في كتاب "الحزب الشيوعي العراقي في عهد
البكر ( 1968- 1979)". للدكتور سيف عدنان القيسي
(4)
جاسم الحلوائي
إن سيف القيسي لم يواصل الالتزام التام بمنهج أستاذه المشرف في"مساواة الضحية بالجلاد"، في عهدي الأخوين عارف وفي عهد البكر، ولكن لم يتخلص من شراكه. وما يورده القيسي من معلومات عما تعرّض له (ح. ش.ع) من قمع وغدر وإجحاف في عهد البكر من جهة، وعن مواقفه الإيجابية ومرونته وتنازلاته، من الجهة الأخرى، لا ينسف رأي المشرف القائل: "وكلاهما يريد أن يفرض إرادته الفكرية والسياسية"، كما مر بنا في الحلقة الأولى فحسب، بل وينسف ما ذهب إليه هو نفسه أيضاً في أطروحته، التي تعد مرحلة البكر "قمة الانفتاح العلني السياسي والفكري والتنظيمي بالنسبة ﻠ(ح.ش.ع)".
لقد أشار القيسي، في شكره للمشرف الذي سبق وأن أشرنا إليه، إلى حرص المشرف "على تعلم المنهجية العلمية والدقة في الأخذ بالمصادر، والتأكد من المصدر ومنهجيته قبل الأخذ به".
من الصعب تدقيق كل الاستشهادات والاقتباسات والشروحات في كتاب القيسي وفحصها، فعددها (1826) هامشاً. ولم أتول أخذ مثل هذه المهمة على عاتقي، ولكن من خلال ما مر بنا في الحلقة السابقة، ومن خلال فحص ما يهمني تبيانه، وجدت إخفاقاً جدياً في الالتزام بالحرص المذكور.  وهذا الإخفاق يتحمل مسؤوليته المشرف نفسه أيضاً، فهو مسؤول عن التحقق والتأكد من كل شيء في الأطروحة.
وقبل الشروع بإيراد بعض الأمثلة على عدم الدقة وعلى عدم الاستخدام الصحيح للوثائق وخضوعها لمنهج الأستاذ المشرف الخاطئ، بودنا الإشارة إلى ملاحظتين عامتين، الأولى إيجابية، وهي الإشارة إلى السيرة الذاتية السياسية لكثرة من الشخصيات العامة في الهوامش، وهو جهد كبير يستحق القيسي عليه الثناء. والثانية سلبية وهي أن القيسي يخلط ضمير المتكلم بضمير الغائب، في أحيان كثيرة، وبذلك يشوّش القارئ العادي، الذي لا يراجع المصادر، خاصة عندما لا يحصر قول القائل بقويسين. فعلى سبيل المثال لا الحصر: يذكر القيسي في الصفحة (367) ما يلي: "وتأسيساً على هذه الظروف الجديدة وبسياسة الإنفتاح [الانفتاح]، تمكن (ح. ش.ع) من إعادة تنظيم صفوفه فخلال هذه المدة إنتظمت [انتظمت] في لجنة منطقة بغداد وحضرت أول اجتماع لها...الخ. القارئ العادي لا يفهم من هذه الصيغة سوى أن القيسي كان عضوا في لجنة منطقة بغداد، وربما يشكك بأية معلومة مخالفة لها، لأنها صريحة وواضحة. فقبل التحول إلى صيغة الغائب يجب أن تكون هناك إشارة تشعر القارئ بأن الكلام لا يتعلق بالكاتب، لكي تتسم الكتابة بالسلاسة والوضوح المطلوبين.
وسأدرج الإخفاقات في استخدام المصادر هنا، وفقاً لتسلسلها في الكتاب وليس لمستوى أهميتها وهي:
1-  في الصفحة 132 من كتابه يشير القيسي إلى اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965، والذي تقرر فيه رفع شعار إسقاط السلطة. لقد كان كاتب هذه السطور حاضراً في الاجتماع المذكور، ويستشهد القيسي بما جاء في الصفحة 107 من كتابه " الحقيقة كما عشتها"على النحو التالي: "وقد أقر هذا الشعار (إسقاط السلطة) بالأغلبية حيث تحفظ عليه  بهاء الدين نوري الذي طالب بطرح البديل وهو إقامة حكومة ائتلاف وطني ديمقراطي".
أما ما جاء في الكتاب، فهو ما يلي: " وقد أقر هذا الشعار بالأغلبية، حيث تحفظ عليه الرفيق  بهاء الدين نوري الذي طالب بالاكتفاء بطرح البديل، وهو إقامة حكومة ائتلاف وطني ديمقراطي". هناك فرق مهم بين النصين، ولا أقصد في ذلك بعض الشكليات في الصياغة مثل عدم حصر المقتبس بقويسين وحذف الفوارز وحذف كلمة رفيق عند ذكر بهاء. إنما أقصد حذف كلمة " الاكتفاء" من صيغة كاتب هذه السطور، فظهر الأمر وكأن البديل لم يكن مطروحاً في بيان الحزب، خلافاً للواقع. فأين الدقة في ذلك؟
2- هناك تناقضات في الكتاب لا يصح التغاضي عنها، فعلى  سبيل المثال لا الحصر، يذكر القيسي في الصفحة 154 ما يلي: "وفي عام 1968 أوقف الاتحاد السوفيتي البث في الإذاعة المعارضة للحكومة العراقية وهي "صوت الشعب العراقي". أما في الصفحة 166 فيذكر ما يلي: "ولم يكن قد مضى أسبوع واحد على قرارات الكونفرنس كاملة، توقفت عن البث "صوت الشعب العراقي"، وهذا ما أكده عزيز محمد لإنتفاء [لانتفاء] حاجة بقاء الاذاعة، لاسيما وعودة الكثيرين إلى العمل داخل العراق".
بالمناسبة إن الإذاعة كانت في بلغاريا، ولا علاقة للاتحاد السوفيتي بها. والمفروض أن القيسي يعرف بأنها كانت في بلغاريا، ولديه مصدر يشرح بالتفصيل كيف تأسست وعملت وتوقفت الإذاعة هناك.*1 
3- ومراعاة لمنهجية المشرف "مساواة الضحية بالجلاد" سنلاحظ كيف أن القيسي لم يخفف من جرائم الجلاد فحسب، عند استشهاده بالفقيد سليم إسماعيل البصري في الصفحة (200) من كتابه، بل ويحاول إيجاد الذرائع للقمع الذي مارسه النظام البعثي. ويذكر القيسي مقتبساً بدون حصره بين القويسات وهذا من حقه، مادام يشير إلى المصدر، بشرط الحفاظ على المحتوى. وسنلاحظ عند المقارنة، كيف أخفق في تحقيق الشرط المذكور، عندما يذكر ما يلي:
"واستطاع (ح. ش.ع) الفوز النسبي في الانتخابات العمالية على الرغم من "التزوير والإرهاب والتهديد"، إذ نحصل [حصلنا] على العديد من اللجان النقابية في الميناء والسكك والنفط ثم جرى حلها من قبل البعث، وسادت النقابات بعض المظاهر المنبوذة اجتماعياً مثل الاعتداء على الشيوعيين"
أما البصري فيذكر ما يلي: "واستطعنا في الانتخابات العمالية رغم التزوير والإرهاب والتهديد، الذي مارسه الأمن والبعث، أن نحصل على العديد من اللجان النقابية في الميناء، والسكك والنفط، ثم جرى حلّها من قبل البعث وجرى تزوير نتائجها واضطهاد العمال وضربهم!!  كما فصل بعضهم من العمل وسادت النقابات بعض المظاهر المنبوذة اجتماعياً باسم البعث مثل الاعتداء على العمال (وخصوصاً الشيوعيين منهم) بالضرب والإهانات وطردهم وتهديدهم...الخ".
جميع الجمل والعبارات المائلة والتي تحتها خط حذفت من نص البصري  للتخفيف عن كاهل الجلاد، وكذلك حصر هذه العبارة من قبل القيسي بقويسات "التزوير والإرهاب والتهديد" هو للتشكيك بمصداقيتها وتصب في نفس الهدف. ولم يكتف القيسي بذلك فراح يفتش عن الأعذار لسلوك الجلاد بتعليقه مباشرة على تلك الأحداث بقوله:
"وبهذا بدأ الصراع هذه المرة بين الجانبين بحكم قوة حزب البعث من خلال وجوده على رأس السلطة وبحكم ديمقراطية [ديمقراطيةّ!؟] الإنتخابات [الانتخابات] وهم على قناعة بأن الشيوعيين لديهم القوة الكامنه في الفوز بالانتخابات، بعد ما حققه الشيوعيين خلال فترة حرية المد النسبي في ظل نظام عبد السلام عارف، في الانتخابات العمالية والمهنية والطلابيه". وهكذا ينزلق الكاتب للدفاع عن الجلاد، شاء أم أبى، جراء الاسترشاد بمنهج أستاذه المشرف الخاطئ في البحث والقائم على مبدأ "كسب احترام الجميع لمضمون ما يكتبه".
4- يذكر القيسي في الصفحة 364 من كتابه ما يلي:" إن قيادة الحزب الشيوعي اتخذت قرارها بالموافقة على الاشتراك بالحكومة، بعد نصيحة قدمها رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي ( اليكسي كوسجين)". ونظراً لأهمية توضيح حقيقة العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، فسنتوقف عند هذا الموضوع في الحلقة القادمة.
5- لم يستخدم القيسي الوثائق بشكل سليم أحياناً، فهو لم يميز بين قوة المصدر وضعفه، بين مصداقيته وعدم مصداقيته، فالوثيقة الحزبية، لحزب ما، تختلف عن مقال لكاتب من نفس الحزب أو كتاب لأحد الكتاب المستقلين أو المرتدين والموتورين على الحزب، عندما يتعلق الأمر بموقف أو رأي ما لذلك الحزب. ولم يدقق القيسي في المصادر كي يستخلص النتائج  المقنعة، إنما يقتطف، كما يبدو، ما يروق له بدون تمحيص، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر القيسى قي الصفحة 411 من كتابه ما يلي:
"ولا بد من الإشارة إلى أن إنبثاق [انبثاق] الجبهة قد حقق أهدافاً سياسية سواء للبعث أوﻠ(ح. ش.ع)، فقد حقق البعث ما كان يأمله من إعتراف [اعتراف] الشيوعيين بشرعية حكم البعث من خلال إقراره بأن إنقلاب [انقلاب] السابع عشر من تموز 1968 "ثورة وطنية ديمقراطية إشتراكية [اشتراكية]". ويثبت القيسي في الهامش المصدر وهو لأحد الكتاب . في حين لم يطلق الحزب صفة الاشتراكية على انقلاب 17 تموز إطلاقاً.
 وارتكب القيسي خطأً فاحشاً في عدم تحقيقه في هذا الأمر الخطير في وثائق (ح. ش.ع) قبل تبنيه من قبله. فالاقتباسات  ليست اصطياداً لجملة من هنا وفقرة من هناك، من دون تمحيص وتحقيق. إن أهم الوثائق التي تعبّر عن نهج  (ح. ش.ع)  السياسي والفكري والتنظيمي والستراتيجي  في عهد البكر هي برنامج (ح. ش.ع) ونظامه الداخلي وتقرير اللجنة المركزية والتي أقرت في المؤتمر الوطني الثالث للحزب المنعقد في عام 1976. فمن الواجب العودة إليها في مثل هذه الأمور المهمة. وحتى عند العودة إليها وللحزب رأي آخر بها لاحقا، فتتطلب الأمانة الإشارة إلى ذلك الرأي. لقد قدم الحزب الشيوعي تقييمه لتلك الفترة، والذي أقره المؤتمر الرابع المنعقد في تشرين الثاني 1985. والوثيقة موجودة لدى القيسي وهي تحت عنوان: "تقييم تجربة حزبنا النضالية للسنوات 1968- 1979". وتتضمن هذه الوثيقة رأي الحزب  وانتقاده لأخطائه السياسية والفكرية في تلك الفترة، ولم يعط القيسي الأهمية المطلوبة للوثيقة المذكورة، إن لم نقل أهملها.
وليس من الصحيح أيضاً ما يدّعيه القيسي في خاتمة الكتاب "فقد كان من بين مقررات المؤتمر الثالث ﻠ(ح.ش.ع) الذي عقد عام 1976، إقراره بدور حزب البعث وقيادته للعراق نحو الإشتراكية [الاشتراكية]". إن المفاهيم الخاطئة والتي وردت في التقرير السياسي للمؤتمر، والتي اعتبرها تقييم الحزب المشار إليه "مقولات معزولة عن الظرف التاريخي الملموس وطبيعة البعث الطبقية والإيديولوجية وممارساته السياسية" هي حول إمكانية وصول المتحالفين "سوية إلى بناء الاشتراكية" أو "تملك [الجبهة] أفقاً ستراتيجياً لمواصلة التحالف، حتى بناء الاشتراكية" 2 . وهناك فرق نوعي بين هذه الصيغ والصيغة التي يذكرها القيسي. وهذا الفرق كان يدركه صدام حسين. ففي لقائه مع مكرم الطالباني، الذي سيجري ذكره في الفقرة السابعة أيضاً، جرت مناقشة بينهما في شباط 1979 حول مفردة "حتى" وفسرها صدام بأن المقصود ﺒ"حتى بناء الاشتراكية" هو أن القيادة يجب أن تتحول للشيوعيين عند بناء الاشتراكية. ويبدو أن ذلك ظل هاجسه، فقد مات صدام حسين  "وفي نفسه شيء من حتى"! وقد نقل الطالباني الحديث لنا في مقر جريدة "طريق الشعب" بحضور عبد الرزاق الصافي وسلام الناصري وكاتب هذه السطور.
والأكثر أهمية من ذلك هو أن القيسي لم يشر إلى التحذير من الارتداد الوارد في برنامج الحزب الذي أقره المؤتمر الوطني الثالث ﻠ(ح.ش.ع) فهناك "فقرة ضافية عن أخطار الارتداد في مسيرة العراق كاستدراك وذلك في الفصل الأول من الوثيقة البرنامجية لأن تجربة مسيرة العراق لم تكن محسومة وان مقومات الارتداد موجودة، و كما جرى التأكيد على البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية الحكومية، المالية والعسكرية، وإن مقومات الارتداد لا تقتصر على الاقتصاد وإنما في فكر حزب البعث أيضاً".3 
 
6- إن الأمانة في البحث تقتضي التمييز بين كتابين مختلفين صدرا في زمنين مختلفين باسم زكي خيري، الأول ومعنون: "صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضر - زكي خيري". وقد طبع هذا الكتاب في حياته". ويمكن إرجاع محتواه دون تحفظ إلى الفقيد زكي خيري. أما الثاني فمعنون: "صدى السنين في كتابات شيوعي عراقي مخضرم - زكي خيري"، وهو من إعداد سعاد خيري. وقد جرى تأليف وطبع هذا الكتاب بعد وفاة زكي خيري. ولا توجد أية إشارة في الكتاب الثاني تؤكد ادعاء القيسي بأنه الجزء الثاني من صدى السنين. فقد أشارت الكاتبة في مقدمة الكتاب الثاني بما يلي: " يشكل هذا الكتاب دراسة [...] وتكملة لكتابنا "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي". وبناء على  ذلك فلا  يجوز الاقتباس من الثاني،  دون الإشارة إلى أن الكتاب من إعداد سعاد خيري. مع ذلك فقد أجاز القيسي لنفسه ما هو غير جائز واقتبس نصاً أدرجه في الصفحة 477 من كتابه وراح ينسب هذا الاقتباس إلى الفقيد زكي خيري، وكتب في الهامش " زكي خيري، صدى السنين، ج 2 " وقد تكرر هذا الهامش الخاطئ مرارا في الكتاب؟!
لقد اقتبس القيسي من كتاب سعاد خيري ما يلي: "ويذكر زكي خيري بأن المؤتمر الوطني الثالث ﻠﻠ(ح.ش.ع) قد أضاف الى اللجنة المركزية عناصر موالية للبعث وتجاهل حملات البعث التصفوية ضد الحزب، وأقر بأن التحالف له آفاق ستراتيجية وأعاد انتخاب عزيز محمد سكرتير أول ﻠ(ح.ش.ع) فقد سرب صدام حسين شرطه هذا حسب ما يذكر زكي خيري، من خلال مناصريه في اللجنة المركزية لحزبنا قائلاً: "إننا نتحالف مع أفراد وليس مع الحزب"!
لقد واكب زكي خيري التحضير للمؤتمر الوطني الثالث المنعقد في عام 1976 من بدايته حتى نهايته، ورأس اللجنة التي أعدت برنامج الحزب، وكان كاتب هذه السطور عضواً فيها. ووافق على كل وثائق المؤتمر وقراراته وما نتج عنه من انتخاب اللجنة المركزية والمكتب السياسي وسكرتارية اللجنة المركزية. ودافع عن سياسة الحزب ونهجه أقوى دفاع في المؤتمر. لقد حضر المؤتمر (300) مندوب، وأظن أن أغلبهم أحياء ويؤيدون ما أقوله. وأستطيع أن أطمئن القيسي بأن الصورة كلها لا أساس لها من الصحة بخصوص تدّخل صدام في شؤون قيادة الحزب.  لقد كنت عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية وعضواً في اللجنة المركزية التي أقرت قائمة أعضاء ومرشحي اللجنة المركزية التي طرحت على المؤتمر. وقد استشارني الرفيق عزيز محمد بأسماء المرشحين للمكتب السياسي والسكرتارية أيضاً. كما لم يطرق سمعي قول صدام :"إننا تحالفنا مع أفراد وليس مع الحزب". إن تصديق ما قيل على لسان صدام حسين، ينقض كل ما ورد في كتاب القيسي عن هيكلية الجبهة، وعن اجتماعات اللجنة العليا، حيث كان زكي خيري يرأس وفد (ح.ش.ع) بالذات عند غياب عزيز محمد. كما أن القيسي يتجاهل نشاطات واجتماعات سكرتارية الجبهة ولجان المحافظات واجتماع وخطاب صدام  فيها، هذه وغيرها وردت في الصفحات التالية من كتاب القيسي (411،428،442،446،562).
7- يذكر القيسي في الهامش المرقم 95 في الصفحة 565 من كتابه، مستشهداً بكتاب كاتب هذه السطور "الحقيقة كما عشتها" حول عودة التحالف مع البعث في شباط 1979، ما يلي: "بصدد ذلك الموضوع يذكر جاسم الحلوائي عن تلك الاتصالات بالقول"ناقشنا في القيادة عودة التحالف مع البعث وأن الرفاق في القيادة يعتقدون بعدم إمكانية تحقيق ذلك وقد اختلفت معهم وطلب صدام حسين عرض الموضوع على قيادة الحزب والتي كانت غالبيتها في الخارج فوعد مكرم بعرض الموضوع على قيادة الحزب. عقد اجتماعان للرفاق المركزيين في الداخل وتقرر إرسال عبد الرزاق الصافي إلى الخارج لعرض الطلب على قيادة الحزب وقد عاد الصافي بمذكرة تتضمن شروطاً، كانت من وجهة نظر حزب البعث، تعجيزية.." ويذكر الصفحة في كتاب " الحقيقة كما عشتها" وهي: 165.
أما النص الذي ورد في الصفحة المذكورة من الكتاب، فهو ما يلي:
"في شباط المذكور [1979] أرسل صدام حسين بطلب الرفيق مكرم الطالباني العضو المرشح للجنة المركزية وأهم ما قاله له:
- ناقشنا في القيادة عودة التحالف مع الحزب الشيوعي وإن الرفاق في القيادة يعتقدون بعدم إمكانية تحقيق ذلك، وقد اختلفت معهم لأني أعتقد خلاف ذلك ..." وطلب صدام عرض الموضوع على قيادة الحزب. وقد وعده مكرم بذلك.عقد اجتماعان للرفاق المركزيين في الداخل...الخ".
لولا الانطباع الذي تكوّن لديّ عن سيف، من خلال بضعة رسائل الكترونية بيننا، ومن خلال تعاوننا معه (عادل حبه وأنا) لإصدار كتيبه المعنون "قراءة في ذاكرة عزيز محمد"، بأنه شاب طيب، لاتهمته بالتشويه المتعمد لموقفي. فقد أظهرني متهافتاً على عودة التحالف مع البعث بعد خراب البصرة، بتقويله قولاً هو بالأصل لصدام حسين بعد تغييره من: "ناقشنا في القيادة عودة التحالف مع الحزب الشيوعي". إلى: "ناقشنا في القيادة عودة التحالف مع البعث"، والمختلف مع القيادة هو صدام وليس كاتب هذه السطور، وبذلك انقلب المعنى رأساً على عقب وتشوّهت الحقيقة. وجدير بالإشارة أن موقفي المتصلب من عودة التحالف مع البعث قد ورد في فقرة ضافية قبل الفقرة التي يستشهد بها القيسي مباشرة وتحت عنوان "بعد خراب البصرة". فأين العلمية والدقة والأمانة في الاستشهاد المذكور؟

________________________________________
1 - * يكرس الرفيق عبد الرزاق الصافي، وهو أحد العاملين الأساسيين في"صوت الشعب العراقي" منذ تأسيسها حتى إغلاقها، الموضوع السادس عشر من كتابه "شهادة على زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتية، الجزء الثاني" لعمله في إذاعة "صوت الشعب العراقي" في بلغاريا. وفي نهايات الموضوع يذكر ما يلي: "بعد توقف إذاعة "صوت الشعب العراقي" عن البث، لم يعد هناك من مبرر لبقائي فترة أطول في بلغاريا". وهذا المصدر موجود لدى القيسي.

 2 - تقييم تجربة حزبنا النضالية للسنوات 1968- 1979". أقره المؤتمر الوطني الرابع للحزب الشيوعي العراقي 10-15 تشرين الثاني 1985.  ص60-61.
 3 - رحيم عجينة، مصدر سابق ص129.


24
قراءة نقدية في كتاب "الحزب الشيوعي العراقي في عهد
البكر ( 1968- 1979)". للدكتور سيف عدنان القيسي
(3)
جاسم الحلوائي
يقع كتاب القيسي في 686 صفحة من القطع الكبير.  ويحوي مقدمة وأربعة فصول وخاتمة وملحقين أحدهما لبعض الوثائق والآخر لبعض الصور. تناول الفصل الأول بمباحثه الثلاثة نشاط (ح.ش.ع) للفترة 1958-1968. وجاء تقسيم المباحث على الحكومات الثلاث في تلك الفترة وهي: قاسم والبعث والأخوين عارف. أما الفصل الثاني فيتضمن مبحثين متداخلين  يغطي الفترة الممتدة من الانقلاب البعثي الثاني17 تموز 1968 حتى 1971. كما يتضمن الفصل الثالث أيضاً مبحثين، يتناول الأول منه نشاط (ح. ش. ع) منذ 1971 وحتى عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في السابع عشر من تموز 1973. أما المبحث الثاني فيتناول نشاط ومواقف (ح ش ع) منذ انعقاد الجبهة حتى انعقاد المؤتمر الثالث أيار 1976. أما الفصل الرابع، فإنه يتضمن كذلك مبحثين، الأول من المؤتمر الثالث 1976 حتى آذار 1978، والمبحث الثاني من آذار 1978 حتى انهيار الجبهة التام في تموز 1979.
لقد اعتمد القيسي على كم كبير من المصادر المتنوعة، بلغت أكثر من 400 مصدر، من بينها وثائق حكومية وأخرى حزبية وكذلك مخطوطات غير منشورة، وبعض هذه المصادر غير معروفة . هذا فضلا عن مراجعة حوالي 200 كتاب من الكتب العربية والأجنبية، بما فيها أكثر من خمسين كتاباً من المذكرات الشخصية. وقام المؤلف بإجراء 20 مقابلة مع قادة الحزب الشيوعي العراقي وأعضائه بمن فيهم الرفيق عزيز محمد السكرتير السابق للجنة المركزية والرفيق حميد مجيد موسى السكرتير الحالي للجنة المركزية. وبصرف النظر عن مدى وكيفية استفادة  الكاتب من تلك المصادر، وهذا ما سنتطرق إليه لاحقاً، فان مجرد الوصول إليها واعتمادها في البحث تطلب بالتأكيد جهداً كبيراً، يستحق القيسي الثناء عليه.
يذكر الأستاذ أسامة الدوري في مقدمته آنفة الذكر بأن سيف القيسي " لم يكن متعاطفاً مع أي طرف سياسي" أما الدكتور عقيل الناصري فيشير في مقاله المرفق بالحلقة الأولى بأن "القيسي لم يتعاطف مع الرؤية الفلسفية ﻠ(ح. ش.ع)". مهما يكن من أمر، فان القيسى الذي سعى لكي يكون موضوعياً، فأنه توفق في ذلك أحياناً، وأخفق أحيانا أخرى، متأثراً بمنهج أستاذه الخاطئ، ألا وهو: "كسب احترام الجميع لمضمون ما يكتبه". وكيف لا يتأثر وهو القائل بحق أستاذه، في مستهل الكتاب وتحت عنوان "شكر وتقدير،ما يلي: "أتقدم بجزيل الشكر والامتنان، إلى أستاذي المشرف الدكتور أسامة عبد الرحمن الدوري لرعايته الأبوية ولدوره في التوعية والتوجيه والنصح السديد، وحرصه على تعلم المنهجية العلمية والدقة في الأخذ بالمصادر، والتأكد من المصدر ومنهجيته قبل الأخذ به أدعو الله أن يحفظه ويجعله لنا ذخراً أبا وأستاذا نقتدي به، وأن يبقى نبعاً صافياً أنهل منه العلم والصدق وحب العلم". وسأذكر فيما يلي أهم ما جلب انتباهي في ما يتعلق الأمر بتأثر القيسي بمنهج أستاذه الخاطئ.
إن عنوان الكتاب هو: "الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر" (1968- 1979). واختير هذا العنوان ضمن إطار منهجية الدكتور الدوري، أستاذ القيسي، الخاطئة.
يشير القيسي في مقدمته للكتاب إلى أن الفترة (1968- 1979) "أهم المراحل في تاريخ العراق بالعموم، والحزب الشيوعي العراقي بالخصوص لما تركته من مردودات ايجابية وسلبية له" و "كون المرحلة (1968- 1979) تعد قمة الإنفتاح [الانفتاح] *  العلني السياسي والفكري والتنظيمي بالنسبة (ح.ش.ع)".
سوف لا نناقش خطأ اعتبار هذه المرحلة "أهم المراحل في تاريخ العراق" تجنباً لتشعب الموضوع، فإن ما يهمنا تأكيده هو أن الفترة المذكورة لم تكن أهم مرحلة في تاريخ (ح. ش. ع)، ولم تعد قمة الانفتاح العلني والسياسي والفكري والتنظيمي بالنسبة له. وليس هناك شيوعي واحد لديه حد أدنى من المعرفة بتاريخ حزبه يؤيد هذا الرأي الخاطئ. وهناك معطيات في كتاب القيسي نفسه تؤكد بأن الفترة التي أعقبت ثورة 14 تموز 1958، والسنة الأولى منها تحديداً هي المرحلة الأهم في تاريخ (ح.ش.ع). فقد كان الحزب قاب قوسين أو أدني من استلام السلطة. وهذا ما أثار الرعب لدى الدوائر الامبريالية رغم محاولات (ح.ش.ع) لتبديد، كما يشير القيسي في كتابه، مخاوفها. (48)
وكان بإمكان الحزب أن يملأ الشوارع بالجماهير بنداء واحد منه، والمظاهرة التي اعتبرت مليونية في بغداد في الأول من أيار 1959، عندما كان نفوس العراق لا يتجاوز الستة ملايين، والتي طالبت الزعيم عبد الكريم قاسم بإشراك الحزب بالسلطة، مشهورة، وقد أشار إليها القيسي أيضا. (ص47) وقبل هذا بصفحة واحدة يقول القيسي ذاته عن تلك الفترة ما يلي"وهكذا أصبح واضحاً للقاصي والداني، هيمنة (ح.ش.ع) على إدارة شؤون البلاد، بعد انحسار دور القوميين". إذن ليدلنا القيسي في أي يوم من أيام مرحلة (1968- 1979) يمكن أن ينطبق عليها الوصف المذكور على لسانه. وبعيداً عن خلط الأوراق،ومن أجل توضيح الأمور، نتساءل هل حصل ما يشابه ذلك في الفترة الممتدة من ربيع 1970 حتى خريف 1971 حينما تعرض (ح.ش.ع) إلى القمع الوحشي وتحطمت منظماته في طول البلاد وعرضها، كما جرت الإشارة إلى ذلك آنفاً؟! 
صحيح أن الحزب تمتع في فترة الجبهة بالعلنية نسبياً، ولكن من غير الصحيح القول بأنها كانت" قمة الانفتاح العلني السياسي والفكري والتنظيمي بالنسبة (ح.ش.ع)"؟ فخلال تلك"القمة" وفي عهد البكر أُجبر (ح.ش.ع)" على حل منظماته الديمقراطية تحت تهديد حزب البعث باعتقال أعضائها. واضطر الحزب على حلها، لتجنيب أعضائها الملاحقات والاضطهاد ولتجنب الاصطدام مع البعث وتعريض استقرار البلد للاهتزاز وتعريض الحزب للقمع. *  وهل هناك وجه للمقارنة بين هذه الحالة وبين ما يشير إليه القيسي في كتابه عن طبيعة علاقة (ح.ش.ع) بالمنظمات الديمقراطية في السنة الأولى من ثورة 14 تموز، حيث بدا للقيسي وعلى حد تعبيره ﺒ"أن (ح.ش.ع) أخذ زمام الأمور على صعيد المنظمات المهنية والاجتماعية، سواء العمال أم الفلاحون والمعلمون والطلبة، حتى هيمنت كوادر (ح.ش.ع) على أكثر من (700) جمعية ونقابة ومؤسسة اجتماعية". (ص49)
وفي "قمة الانفتاح المزعومة" تلك كنّا نتهامس في مقراتنا بالأمور السياسية الحساسة. ونستخدم أجهزة الراديو في اجتماعاتنا للتشويش على أجهزة الإنصات التي زرعتها الأجهزة الأمنية في  مقراتنا.
ومن خلال عنوان الكتاب أيضا، يريد الكاتب أو المشرف أن يوحى للقارئ بأن "قمة الانفتاح العلني السياسي والفكري والتنظيمي بالنسبة (ح.ش.ع)" كانت في ظل حزب البعث وفي عهد البكر. وثُبت هذا العهد في خلاف صريح لمحتوى الكتاب الذي يحوي ثلاثة مباحث من مجموع تسعة مباحث تغطي عهدي ثورة 14 تموز والأخوين عارف. وكان الأجدر أن يكون عنوان الكتاب، على سبيل المثال، "الحزب الشيوعي العراقي في ثلاثة عهود 1958-1979".
وبصدد مقاومة انقلاب شباط الأسود فاجأنا القيسي برأي غريب وهو ما يلي: "ومن الأمور المثيرة للانتباه أن قادة (ح. ش. ع) من الكرد، تنصلوا عن فكرهم الأممي وتراجعوا إلى القومية وما يؤكد ذلك أن مكتب لجنة الفرع الكردستاني ﻠ (ح. ش. ع) قرروا [قرر] الإيعاز [الايعاز] الى منظمات الفرع في المدن التوجه الى الريف والإلتحاق [الالتحاق] بالثورة الكردية". (ص86) . ليس هناك علاقة للفكر الأممي بمثل هكذا موقف، يبدو أن القيسي يقصد الفكر الوطني. فبصرف النظر عن هذا وذاك، فان مبعث استغرابنا هو أن القيسي يذكر، ما هو خلاف ذلك تماماً، في كتيبه المعنون "قراءات في ذاكرة عزيز محمد السكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي- بغداد 2014"، وهي حوارات أجراها القيسي في عام 2012 واستشهد بها مراراً في كتابه موضوع هذه القراءة، ما يلي:
"في صبيحة انقلاب الثامن من شباط 1963 كنت في كركوك. ولما سمعنا خبر الانقلاب، قمنا بتنظيم عدد من المظاهرات ضد الانقلاب. ووجهنا نداءً إلى الضباط الشيوعيين من أجل التوجه صوب المقرات العسكرية للمقاومة ومنع سيطرة الانقلابيين على الوضع. ولكن الضباط مُنعوا من الدخول إلى معسكراتهم بعد سيطرة الضباط الموالين للانقلاب على الوضع. ويضاف إلى ذلك أن منطقة كركوك لم تكن منطقة متعاطفة بشكل كبير مع الشيوعيين بعد أحداث تموز 1959. وبالرغم من ذلك نظمنا جيوب للمقاومة، وشرعنا ببناء الربايا، واستمرت مقاومتنا لثمانية أيام. وبعد انتهاء المقاومة في بغداد والمدن العراقية الأخرى، وجدنا أنه من الضروري الانسحاب بعد أن حسم الموقف لصالحهم".  وبناء على ذلك فان ما ادّعاه القيسي لا أساس له من الصحة.
يشير القيسي، في خاتمة أطروحته إلى أن الشيوعيين حملوا السلاح ضد انقلاب شباط 1963 "لإدراكهم أنهم سيتعرضون للانتقام عن مواقفهم إبان حكم عبد الكريم قاسم". هذا الرأي غير دقيق، فقد حمل الشيوعيون السلاح، أولاً وقبل كل شيء، لإدراكهم أن أي انقلاب ضد الحكم الوطني، سيكون وراءه الاستعمار والرجعية، وسيهدد منجزات ومكاسب ثورة 14 تموز 1958 الوطنية، وتعهدوا للشعب بمقاومته. وكان الشيوعيون على إدراك بأنهم مستهدفون لوطنيتهم وتقدميتهم، ولأنهم يقفون عائقاً أمام مآرب الاستعمار والرجعية والقوى المغامرة. وكانت المنظمات مدعوة للنزول إلى الشارع فورا لمقاومة أي انقلاب.
ومع الأسف الشديد فإن القيسي يجنح إلى الانتقائية في استشهاداته، أحياناً. فبصدد انقلاب شباط، يذكر في كتابه ما يلي: " والأهم من كل ما تقدم، يرمي (ح.ش.ع) بالسبب الرئيسي [لفشل مقاومة انقلاب شباط] على التنظيم الشيوعي في الجيش".  كان من الأجدر، عند الحديث عن فشل مقاومة انقلاب شباط، الاستشهاد برأي قائد الحزب وليس برفيق لم يكن في القيادة آنذاك. فبعد أيام قليلة من الانقلاب، قدّم سلام عادل تقييماً أولياً للانقلاب، وُزع على لجان المناطق واللجان المحلية، ودعاه "ملاحظات أولية"، وكانت هذه آخر رسالة يوجهها إلى الحزب. ويقول سكرتير الحزب فيها ما يلي: "إن السبب الرئيسي الذي أدى إلى سيطرة الانقلابيين على الحكم هو العزلة التي أصابت تدريجياً دكتاتورية قاسم عن الشعب وعن القوى الوطنية. ولكن الانقلاب الرجعي الراهن يبدأ بعزلة أشد من تلك العزلة التي انتهت إليها دكتاتورية قاسم. ولابد لمثل هذا الحكم المعزول أن يجابه نهايته السريعة جداً.."  وهذه الرسالة كاملة موجودة في مصادر القيسي، ومع ذلك فإنه يتجاهلها. إن عتبنا على القيسي ليس لتجاهلها لكونها المصدر الأقوى فحسب، بل لمعقولية ومنطقية حجتها أيضاً.
لم يشأ سلام عادل الإشارة في ملاحظاته الأولية إلى مسؤولية الحزب وسياسته في هذه الرسالة. ولكن يقال بأنه عندما استمع إلى ما قاله الشهيد جمال الحيدري، وهما في السيارة  يوم 8 شباط في شوارع بغداد: "إن الانقلاب كما يبدو قد بدأ منذ الصباح"، علق سلام عادل قائلاً: "كلا، لقد بدأ الانقلاب في منتصف تموز 1959، وسهلت الكتلة [اليمينية في قيادة الحزب] مروره"   
ويطنب سيف القيسي في ذكر الشيوعيين الذين انهاروا تحت التعذيب ويشرح اعترافاتهم وتنازلاتهم. ولكن لم يشرح  لنا القيسي ولا صورة واحدة من صور الصمود البطولي لقادة الحزب وكوادره وأعضائه أمام أساليب تعذيب وحشية، فعدد من مصادره تحوي ذلك. لنر ماذا جاء في أحد مصادره:
" بيد أن البعثيين لم ينقلوا لنا في مذكراتهم صور الصمود البطولي، الذي قابل به قادة الحزب الشيوعي ما صُب عليهم من ألوان التعذيب وأفانينه إلا النادر منها. إلا أن ما نقل عن هؤلاء القادة عن طريق من نجا من المعتقلين من الموت بصورة من الصور، يكفي للتعريف بالشجاعة الهائلة التي واجه بها سلام عادل الجلادين وهم يجربون معه كل ما أتقنوه من فنون التعذيب. فهل يتجرأ ممن بقي من سلطة الانقلاب، على الحديث عن هذا الإنسان الكبير وما جرى له من تعذيب يفوق قدرة البشر دون أن يتفوه بشيء؟ وأية كلمة يمكن أن تقال وهم يتلذذون بقطع أوصاله، أو ضغط عينيه، حتى تسيلا دماً وتفقدا ماء البصر.أو كيف قطعوا أعصابه بالكلابين أو كيف واصلوا ضربه على الرأس حتى لفظ أنفاسه؟ والصمود الأسطوري ذاته يتكرر مع عبد الرحيم شريف، ومع محمد حسين أبو العيس وهو يكابد العذاب أمام زوجته الشابة والأديبة الموهوبة سافرة جميل حافظ التي كانت تعّذب أمامه هي الأخرى حتى لفظ أنفاسه أمامها".
"... والثبات الذي لا يعرف الحد للدكتور محمد الجلبي، وهو يتجرع الموت قطرة فقطرة..والحديث يطول عن صلابة نافع يونس أو حمزة السلمان أو حسن عوينة أو صاحب الميرزا أو صبيح سباهي أو طالب عبد الجبار أو الياس حنا كوهاري (أبو طلعت) أو هشام إسماعيل صفوت أو إبراهيم الحكاك أو الصغيرين الأخوين فاضل الصفار (16سنة) ونظمي الصفار (14 سنة) اللذين عُذبا  أمام أمهما التي كانت "تتسلى" عنهما بالضرب الذي تتلقاه وهي حامل، وفضّل فاضل الموت على أن يدل الجلادين على الدار التي يسكنها زوج أمه جمال الحيدري. لم يكن بوسع أي كاتب، مهما أوتي من براعة التصوير، أن يعرض القصة الكاملة لما جرى في (قصر النهاية) و(ملعب الإدارة المحلية) و(النادي الأولمبي) وبناية (محكمة الشعب) وغيرها من الأماكن التي جرى تحويلها إلى مقرات للتحقيق والتعذيب". 
لم يكتف القيسي بعدم ذكر أية صورة من صور هذا التعذيب الوحشي، فذهب في تقصيره أبعد من ذلك عندما سخر، بصيغة انتقادية، من انهيار الشيخ الجليل الدكتور إبراهيم كبة، العالم الاقتصادي المعروف، بقوله: " ويبدو أن الخوف والقلق والرعب الذي ولدته أساليب التعذيب أوصلت إبراهيم كبة أن يكون ملكياً أكثر من الملك.." !! (ص95).
والتزاماً بمنهج المشرف أسامة الدوري، "مساواة الضحية بالجلاد"، وضع القيسي التجاوزات التي حصلت  من قبل الشيوعيين في عهد قاسم، وأغلبها كانت ردود فعل على الانقلابات العسكرية المشبوهة ضد الحكم الوطني، في سلة واحدة مع الجرائم البربرية التي ارتكبها حزب البعث في انقلاب شباط الفاشي، واعتبرها "ثأر وانتقام متبادل".(ص 87) وعزز ذلك بقوله: "وهكذا أعطى الحزبان الشيوعي والبعث صورة التحزب الأعمى في المشهد السياسي العراقي وهوس الحزبية القاتلة والأنانية الحمقاء.."!! (ص118)
_______________________________

 -* يستخدم القيسي الهمزة التي تقع في أول الكلمة، حسب مزاجه، وليس وفقاً لقواعد اللغة العربية. هناك كُتّاب  يساوون همزة القطع بهمزة الوصل، ويتجنبون بذلك كتابة الهمزة على حرف الألف في بداية الكلمة، ويهملونها حتى في كتابة حرفي إنّ وأنّ. لأن حذف الهمزة لا يحدث التباساً في المعنى، وجرياً على قول الموسوعي العربي الكبير أبو عثمان الجاحظ: "خذ من النحو ما يجنبك فاحش الخطأ"، وأنا أفهم ذلك ولكن لا أتبعه. أما أن تُستعمل الهمزة بشكل خاطئ وفي كتاب أكاديمي، ينبغي أن يتعلم الآخرون منه، فلا يجوز السكوت على الخطأ.  لذلك فإنني مُجبر على  تصحيحه، حيثما أعثر على خطأ في المقتبسات التي أستشهد بها.  ومن اللافت للنظر هو أن مقدمة الدوري اعتمدت تجنب همزة القطع ولم تستعملها إلا نادراً، ومع ذلك لم يخل هذا النادر من الخطأ!  فقد جاء في نهايات المقدمة: "لا أريد إستعراضاً" والصحيح أن تكتب بدون همزة، لأن الاسم من ماضي سداسي.(جاسم)
  - * إنني عندما أتطرق إلى مواقف الحزب وخلفياتها في ذلك العهد، لا أقصد تبريرها، وإنما أعرض صورة الحال كما هي آنذاك. وللحزب تقييمه الذي أقر في مؤتمره الرابع المنعقد في عام 1985، والذي ينتقد فيه كل تنازلاته في ذلك العهد. والتقييم المذكور وكذلك تقييمات الحزب السابقة تحتاج إلى مراجعة في ضوء فكر الحزب الذي تجدد في مؤتمره الخامس المنعقد في عام 1993. وعند مراجعتي النقدية لهذه القضية توصلت إلى ما يلي: " هو: "إن تحالف إي حزب سياسي مع حزب حاكم في نظام لا يقوم على أسس ديمقراطية مؤسساتية، هو خطأ مبدأي يرتكبه الحزب غير الحاكم، لا بسبب عدم توفر تكافؤ الفرص فحسب، بل لتعذر ضمان استقلال الحزب سياسياً وتنظيمياً وفكرياً، وهو مبدأ أساسي في أي تحالف سياسي". وقد نشر الحزب دراستي التي تتضمن هذا الاستنتاج في جميع وسائل إعلامه المركزية: مجلة "الثقافة الجديدة" وموقع الحزب الالكتروني وجريدة "طريق الشعب". وهي موجودة في مكتبة التمدن تحت عنوان " تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مجال التحالفات السياسية ودروسها  (1934-2014)". (جاسم)

  - قراءات في ذاكرة عزيز محمد السكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي- بغداد 2014"، ص45.
  -  القيسي، ص92. إن صفحة كتاب زكي خيري التي يستشهد بها القيسي ليست 248 وإنما 241. وإذا توخينا الدقة فإن زكي خيري لم يقل"السبب الرئيسي" بل قال: "كنا نعول"!
  - عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، الجزء الثاني، ص552.

 - ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد. سلام عادل ، الطبعة الأولى ص 153. (المصدر موجود لدى القيسي). نقل الحديث إلى ثمينة، كاظم الصفار،الذي كانت له علاقة حزبية بجمال الحيدري وهو نسيبه. ونقله إليّ أيضاً عندما التقيت به في بغداد في بداية كانون الثاني 1964. (جاسم)
  - سباهي، مصدر سابق، ص 552.


25
قراءة نقدية في كتاب "الحزب الشيوعي العراقي في عهد
البكر ( 1968- 1979)". للدكتور سيف عدنان القيسي
(2)
جاسم الحلوائي
كانت سياسة البعث، قبل قيام الجبهة وبعدها، قائمة على إبقاء (ح. ش. ع) في دائرة محددة والسعي إلى إعادته إلى هذه الدائرة بالقوة ولو بالحديد والنار. وقد رسم طه الجزراوي بيده دائرة على ورقة ليوضح مقصدهم للرفيقين عامر عبد الله ورحيم عجينة وذلك في وقت مبكر، وتحديداً عقب الهجوم على عمال الزيوت النباتية والتجمع الجماهيري في ساحة السباع في بغداد في تشرين الثاني 1968، كما يشير إلى ذلك رحيم عجينة في مذكراته (الخيار المتجدد، ص97). أما بعد ما يقارب عشر سنوات من التاريخ المذكور، فقد تحوّلت تلك السياسة إلى نهج يستهدف التخلص من (ح.ش.ع)، أما بإخراجه من الساحة كلياً أو تحويله إلى حزب كارتوني لا حول له ولا قوة ، ينفذ ما تطلبه منه سلطة البعث إرضاءً للرجعية العربية، وخاصة العربية السعودية وإرضاءً للغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد صرّح صدام حسين، كما يشير إلى ذلك رحيم عجينة في مذكراته المذكورة (ص134) عن الوجهة السياسية الجديدة لحزب البعث في أحد اجتماعات اللجنة العليا للجبهة آنذاك بقوله : "إن تحالفهم مع الحزب الشيوعي العراقي لا يشكل قوة لهم وإنما يشكل عبئاً عليهم، فدول المنطقة والدول الغربية غير مرتاحة من هذا التحالف". فلا غرو من أن يحمل عزة الدوري معه 500 نسخة من صحيفة "الراصد"، أخذها من المطبعة بنفسه، عند سفره إلى السعودية ليقدمها عربوناً للحلفاء الجدد. وقد وصلت إلى الحزب الشيوعي في حينها رسالة تتضمن الخبر المذكور من عامل يعمل في المطبعة التي طبعت الصحيفة المذكورة وقرأها كاتب هذه السطور.
كان على اللجنة المركزية أن تدرس تدهور الأوضاع وقد قامت بذلك، ولو أن الدراسة جاءت متأخرة لبعض الوقت، ففي اجتماعها الكامل المنعقد في آذار 1978، وضعت اللجنة المركزية النقاط على الحروف في أهم القضايا الملتهبة، واقترحـت المعالجات الضرورية بما في ذلك المطالبة بإنهاء فترة الانتقال وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستوراً دائماً للبلاد. وكان كل ما طالبت به اللجنة المركزية وارداً في ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية.
كان رد فعل حزب البعث على تقرير اللجنة المركزية عنيفاً، بالرغم من أن معالجاته كانت في إطار الحرص على ديمومة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية. وجنّد حزب البعث صحيفة "الراصد" للتهجم على التقرير سياسياً وفكرياً. وظل البعث يطالب الحزب الشيوعي بسحب التقرير والتراجع عنه. إلا أن طلب حزب البعث قوبل بالرفض من قبل قيادة الحزب الشيوعي.
ولم يكتف البعث بالهجوم السياسي والفكري على الحزب الشيوعي وملاحقة أعضائه بل وأردف ذلك بعمل استفزازي وإجرامي خطير وذلك باعتقال وإعدام 31  شاباً من رفاق وأصدقاء الحزب العسكريين والعاملين في القوات المسلحة بتهمة التآمر على نظام الحكم.  وهذه التهمة ملفقة فهناك شروط ومستلزمات للانقلابات العسكرية يعرفها البعثيون جيداً. ولم يكن لهؤلاء الشباب أي نشاط سياسي في الجيش وكانت علاقات الشيوعيين منهم فردية بتنظيماتهم المدنية. وهذه الصيغة لوضع الشيوعيين في الجيش كانت باتفاق الحزبين، الشيوعي والبعث، ويمكن اعتبار الإعدامات "القشة" التي قصمت ظهر تحالف حزب البعث و(ح.ش.ع). وأدى إلى نهاية الجبهة، "لينفرد حزب البعث بإدارة البلاد والعباد بعد أن استطاع أن يتبع شتى الأساليب من قتل وتشريد وإبعاد وسجن وتعذيب...الخ" كما ورد في نفس مقدمة الدكتور أسامة عبد الرحمن الدوري بالذات.
ويؤكد كل ما مر بنا، خلال الفترة من سيطرة حزب البعث على السلطة ثانية عام 1968 حتى انهيار الجبهة في عام 1979، بأن الحزب الشيوعي العراقي، الذي لم يمس شعرة واحدة من أي بعثي، والذي دعم كل إجراء لصالح الشعب وصالح حركة التحرر الوطني العربية وكذلك الحركة القومية الكردية، ولم يستخدم أية وسيلة عنفية لفرض آرائه، كان الضحية وحزب البعث كان الجلاد. وإن رأي الدكتور الدوري "وكلاهما يريد أن يفرض إرادته الفكرية والسياسية" هو تجني صريح على الحقيقة والواقع، ودليل على فشل منهجية كسب احترام الجميع، أو بعبارة أخرى منهجية مساواة الضحية بالجلاد،
أما تبعات هذه المنهجية الخاطئة وخطورتها فسأتناولها من زاويتين. الأولى خطورتها على الوضع السياسي الراهن في العراق، والثانية تأثيرها السلبي على أطروحة سيف القيسي.
يذكر الدكتور الدوري في مقدمته للكتاب ما يلي" وللأسف الشديد إن القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003، والتي تحمل شعارات الديمقراطية والحرية، ظلت مرة أخرى تتناحر حتى وقتنا الحاضر وظلت دماء العراقيين تسيل بغزارة وظل الخوف بين مكونات الشعب العراقي هو العامل المسيطر، وكأن هذه القوى التي عانت لعشرات السنين لم تستفد من تجارب الماضي القريب، ولهذا سيبقى العراق ضعيفاً يئن من جراحات تمزقه وتناحره ولا يستطيع اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، على الرغم من كل إمكانياته البشرية والمادية الكبيرة، ما دامت القوى السياسية تؤمن بقيم الثأر والانتقام والعداوات وعدم الثقة".
في إطار مسعى الدكتور أسامة الدوري لكسب احترام الجميع، فأنه يخلط الأوراق في الفقرة المشار إليها أعلاه، فهو يخلط بين الصراعات التناحرية العنيفة التي لا يمكن أن تنتهي إلا بانتصار أحد طرفي الصراع، وبين الاختلافات والصراعات السياسية بين القوى السياسية المساهمة في العملية السياسية والتي يسميها الدكتور " القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003، والتي تحمل شعارات الديمقراطية والحرية"
هناك صراع دموي أحد أطرافه المنظمات الإجرامية، القاعدة وفلول البعثيين، أسلاف الداعشيين، من جهة، وكل مكونات الشعب العراقي من الجهة الأخرى. فقد شرع الإرهابيون بإجرامهم منذ آب 2003 عندما فجروا سيارة مفخخة قرب السفارة الأردنية في بغداد، مما أدى إلى مقتل نحو 11 شخصاً على الأقل. ثم تفجير سيارة مفخخة بالقرب من مقر الأمم المتحدة في بغداد، مما أدى إلى مقتل 22 شخصاً أكثرهم أجانب، من بينهم المبعوث الدولي الخاص للأمم المتحدة البرازيلي سيرجي دي ميللو. وكلا التفجيرين لم تكن لهما علاقة ﺒ"القوى السياسية الجديدة". وتبع ذلك عشرات الآلاف من تفجيرات السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والاغتيالات والسطو المسلح وخطف الناس للحصول على الفدية وغيرها من الاعتداءات المسلحة والتجاوزات على حرية الناس وأموالهم وأعراضهم ومقدساتهم. وراح ضحية الأعمال الإرهابية مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء من جميع مكونات الشعب العراقي بدون أدنى استثناء، بينهم الكثير من النساء والأطفال.
وجرياً على منهج كسب احترام الجميع لم يشر الدكتور الدوري في مقدمته المؤرخة في شباط 2014، لا من قريب ولا من بعيد، إلى منظمة القاعدة ونشاطاتها الإرهابية، فهو لم يسمها لكي يخلطها بصراعات "القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003"؟! وهذه أخطر نتيجة لمنهجية كسب احترام الجميع. فالصراع هنا صراع مصيري، فأما انتصار قوى الإرهاب وأما انتصار الشعب العراقي بكل مكوناته. ولا يجوز خلط هذا الصراع بصراعات " القوى السياسية الجديدة" بصرف النظر عن أخطائها في إدارة الصراع رغم أهميتها، وهي تتعلق بفشل قيادة الحكومة قي إدارة الصراع مع الإرهابيين بشكل صحيح، وتحملها قسطاً وافراً من مسؤولية تكاثر حواضن الإرهابيين وإخفاقها في حل مشاكلها بتلبية مطالب سكانها المشروعة. وعدم مكافحة النزعات الطائفية، بل وتشجيع غلوائها عملياً. وفشلت الحكومة في معالجة استشراء الفساد المالي والإداري وغيرها من المظاهر السلبية والإخفاقات التي كانت ولا تزال تصب لصالح الإرهابيين. مع ذلك ينبغي عدم الخلط بين شكلين من الصراع مختلفين نوعياً، الأول رئيسي والآخر ثانوي، ومن المفروض أن يخضع الثاني لمصلحة حل الأول بنجاح. والمشهد السياسي الراهن يؤكد ذلك. فعندما استفحل خطر الإرهابيين وأصبح يهدد الجميع لاحظنا انحسار الصراعات بين قوى العملية السياسية وميلها إلى الالتقاء، بهذا الشكل أو ذاك، في خندق واحد. 
فالصراعات والخلافات بين "القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003" هي ليست تناحريه،  و نابعة بالأساس من مصالح اجتماعية واقتصادية متباينة، ولا يغّير من طبيعتها غير التناحرية كونها مشوبة بنزعات الثأر والانتقام والطائفية والشوفينية بجانب ضيق الأفق القومي، ولا باحتدامها وشدتها  وخروجها عن المألوف أحياناً. ولا يمكن التخلص من هذه الصراعات بالمواعظ، ولكن من المكن ومن الضروري تنظيمها وتجنب احتدامها واشتدادها. ولم تجد البشرية لحد الآن من وسيلة لإدارة هذه الصراعات وتجنب انفجارها أفضل من النظام الديمقراطي المؤسساتي. فاختلافات هذه القوى يجب أن تحل وفق الدستور، رغم نواقصه الجدية، وداخل مجلس النواب أما بالتوافق أو بالأغلبية.
ورغم أن الديمقراطية في العراق لا تزال تحبو وتعاني من المحاصصة الطائفية والفساد الإداري والمالي والتدخل الخارجي، ومن عدم قناعة بعض القوى التي بيدها دفة الحكم بالديمقراطية، بل ترى فيها مجرد وسيلة للوصول إلى الحكم، فإنها تمكنت من تجاوز أزمات الحكم نسبياً وخاصة الأزمة الأخيرة، عندما تشبث رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بالكرسي. فقد تمكن مجلس النواب إجراء تداول في هرم السلطة، أدى إلى فتح بعض الآفاق الواعدة بالتغيير الايجابي. وعلى القوى الحريصة فعلاً على تجنيب "القوى السياسية الجديدة" من الاصطدام والاحتراب والحريصة أيضاً على إقامة نظام ديمقراطي، شحذ الهمم والكفاح من أجل إحراز النصر في الصراع التناحري، الانتصار على الداعشيين أحفاد القاعدة وفلول البعث من جهة، والسعي لتغيير توازن القوى ووجهة العملية السياسية سلمياً، بما يضمن إقامة نظام وطني ديمقراطي مزدهر، من الجهة الأخرى، بدلًا من نشر اليأس والقنوط وفقدان الأمل، الذي يشيعه الدكتور الدوري بعد خلطه للأوراق، عندما يشير في مقدمته إلى القول: "ولهذا سيبقى العراق ضعيفاً يئن من جراحات تمزقه وتناحره ولا يستطيع اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، على الرغم من كل إمكانياته البشرية والمادية الكبيرة، ما دامت القوى السياسية تؤمن بقيم الثأر والانتقام والعداوات وعدم الثقة"
لقد لاحظنا خطورة منهج كسب احترام الجميع على الوضع السياسي الراهن وسنشير إلى تأثيره على كتاب سيف القيسي من خلال قراءته.
20 تشرين الأول 2014



26

قراءة في كتاب "الحزب الشيوعي العراقي في عهد
البكر ( 1968- 1979)". للدكتور سيف عدنان القيسي
(1)
جاسم الحلوائي
صدر الكتاب عن دار الحكمة- لندن-2014، وهو بالأصل أطروحة أكاديمية نال عليها القيسي شهادة الدكتوراه في فلسفة التاريخ من كلية الآداب - جامعة بغداد، وبإشراف الأستاذ الدكتور أسامة عبد الرحمن الدوري. وتعتبر هذه الأطروحة مكملة لأطروحته السابقة لنيل شهادة الماجستير والمعنونة " الحزب الشيوعي العراقي 1948-1958" والتي صدرت في كتاب عن دار الحصاد - دمشق في عام 2012 بعنوان : "الحزب الشيوعي العراقي من إعدام فهد إلى ثورة 14 تموز".
لقد تناول الكثير من الباحثين تاريخ الحزب الشيوعي العراقي (ح. ش. ع). فقد كتب في هذا الموضوع أنصاره وخصومه وأعداؤه وكتاب آخرون محايدون. وألقت مذكرات وذكريات بعض قادته الضوء على مراحل مختلفة من تاريخه. ويعد كتاب الأستاذ عزيز سباهي  "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"(ثلاثة أجزاء)، الذي كتبه بتشجيع ودعم من قبل قيادة الحزب، أشمل دراسة لتاريخ الحزب . فهذا المؤلف يغطي تاريخ الحزب منذ تأسيسه في عام 1934 حتى نهاية القرن الماضي. ويعد هذا الكتاب والكتاب المكمل له "محطات مهمة في تاريخ (ح.ش.ع)- قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي الصادر في عام 2009 لكاتب هذه السطور، هما الأقرب لوجهة نظر الحزب وهو الذي قام بطبعهما وتوزيعهما.
وتواصلت الكتابات عن تاريخ الحزب، وقد اتسعت بعد سقوط النظام الدكتاتوري، حيث توفرت الفرصة للطلبة في الجامعات العراقية بتقديم البحوث التي تخص الأحزاب السياسية العراقية والمنظمات الديمقراطية ورموزها القيادية والبارزة، وبالأخص تلك التنظيمات ذات المنحى اليساري. وكان للحزب الشيوعي العراقي حظ وافر منها. فلدينا، بحدود معرفتي، بحوث حول د. نزيهة الدليمي وسلام عادل وعامر عبد الله وكذلك أطروحة مؤيد شاكر الطائي الموسومة "الحزب الشيوعي العراقي 1935-1949" ورسالة مناف الخزاعي الموسومة " الحزب الشيوعي العراقي 1959-1963" كذلك رسالة بديع السعدي المعنونة: "الحزب الشيوعي العراقي 1963-1968". وأخيراً، وليس آخراً، رسالة ذكرى عادل عبد القادر بعنوان: " رابطة المرأة العراقية ودورها في الحركة النسوية العراقية 1952-1975". والتي دافعت عنها في يوم 12. تشرين الأول 2014. ونالت عنها شهادة الماجستير بامتياز.
فلا غرو في هذه الكثرة من البحوث وهي ليست أمراً عرضياً، ﻓ (ح.ش.ع) هو أقدم حزب سياسي عراقي ما يزال ينشط حتى الآن. وناضل هذا الحزب ويواصل النضال من أجل حرية العراق وسعادة شعبه ومن أجل الديمقراطية طيلة ثمانية عقود من تاريخ العراق المعاصر. وترك الحزب بصماته، المتفاوتة في القوة والتمييز، على كل الأحداث المهمة التي شهدها العراق خلال المدة المذكورة، حيث كانت  مشاركته فيها جدية ومخلصة. فقد ساهم الحزب بفعالية في نضالات شعبنا وكادحيه وخاصة العمال والفلاحين وفي انتفاضات شعبنا قبل ثورة 14 تموز 1958 الوطنية الديمقراطية، وكانت مساهمته بارزة في التهيئة لهذه الثورة ونجاحها وتحقيق إنجازاتها.كما لم تكن الانجازات التي تحققت في سبعينيات القرن الماضي بمعزل عن نشاطه. وقدم الحزب تضحيات جسيمة على هذا الطريق.
وإلى جانب النجاحات الكبيرة عبر مسيرته، فقد كانت للحزب كبواته التي يعترف بها، وقد اعتاد على تقييم سياساته بين مرحلة وأخرى ولم يبخل بالنقد الذاتي لأخطائه والذي وُصف أحياناً، من قبل بعض المراقبين، بالجلد الذاتي. وقد مارس الحزب عملية إعادة النظر ببعض المنطلقات النظرية التي بدت خاطئة ولم تصمد أمام التجربة التاريخية. واستطاع الحزب من تجديد نفسه في مؤتمره الخامس (مؤتمر الديمقراطية والتجديد- 1993). وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبها، فقد لعب الحزب الدور الطليعي في توعية وتنظيم العمال والفلاحين وأوساط واسعة من المثقفين حول المطالب الاجتماعية الكبرى في الحقل الاجتماعي وناضل من أجل تحقيقها. ودعم طموح الأكراد في نيل حقوقهم المشروعة، ودافع عن مصالح الأقليات القومية واحترام حق كل المكونات الدينية في ممارسة حقوقها وشعائرها. ورفض الحزب بثبات التمييز الطائفي والعنصري ودافع عن النظرة العلمية والتقدمية في شتى الميادين وعن حقوق المرأة وإعلاء دورها في المجتمع. ولم يبخل الحزب خلال تاريخه بالتضامن مع نضال الشعوب العربية وكل شعوب العالم من أجل الحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية. وقام الحزب بكل ذلك منذ اليوم الأول لتأسيسه، ولم ينحرف عن تأدية مهامه النبيلة تلك طوال مسيرته إطلاقاً. وهذا ما يُفسر لنا، استمرارية الحزب ونهوضه وظهوره على المسرح السياسي مجدداً، رغم كل كبواته ورغم تعرضه للقمع الوحشي مراراً ولفترات طويلة جداً من حياته وبشكل لم يتعرض له أي حزب سياسي عراقي، وهذا ما يفسر لنا أيضاً إقبال الشبيبة على الانغمار في دراسة تاريخه.
لقد قام د.عقيل الناصري بتقديم عرضً للكتاب في مقاله المنشور في موقع الحوار المتمدن (رابط المقال مرفق)، مع مقدمة موجزة وجميلة عن تاريخ (ح.ش.ع).  لقد أشار الناصري في نهاية عرضه إلى اعتقاده ﺒ"أن الكتاب سيثير العديد من التحفظات سواءً على منهجيته الأكاديمية الصارمة.. أو على تحليل الأبعاد الخلفية لقرارات (ح.ش.ع).. والتي تعكس ماهية التبدلات في سياسة الحزب المتأثرة بالظروف الذاتية داخل الحزب والموضوعية المتعلقة بموقف السلطات منه".
وفعلا، فقد أثار الكتاب لدي ملاحظة جدية ومهمة تتعلق بالأساس بمنهجية البحث، وليس لصرامتها، التي سنعود إليها، بل لخطلها، حسب قراءتي. ومنهجية البحث يتحمل مسؤوليتها بالدرجة الرئيسية المشرف على البحث. لذلك سأتوقف عندها أولاً.
لم يوجه الدكتور أسامة الدوري الطالب سيف القيسي الوجهة الصحيحة في البحث فهو بدلاً من توصيته الالتزام بالموضوعية وذلك بالتحري عن الحقيقة وتثبيتها بعد توثيقها، بصرف النظر عمن يحترمها أو لا يحترمها، فانه يوصيه بأن يكون مضمون كتابه محترماً من الجميع! فماذا ستكون نتيجة هذه المنهجية عندما يكون هناك طرفان في الصراع أحدهما ضحية والآخر جلاد؟ فكيف يمكن كسب احترام الجلاد؟ لا يمكن كسب احترامه إلا بالتستر على جرائمه أو بالتخفيف منها وإلصاق تهم زائفة بالضحية. ونتيجة ذلك ستكون عدم احترام الضحية للمنجز وبالكاد كسب احترام  بعض أعوان الجلاد السابقين. والنتيجة المضّرة في هذه المنهجية،هي تشويه الحقيقة التاريخية ، شئنا أم أبينا. وعندما تشوه الحقيقة التاريخية فلا يمكن استخلاص دروس  التجربة التاريخية بشكل صحيح وتوظيفها لخدمة الراهن والمستقبل، كما سنرى ذلك مما يلي من هذا المقال.
يقول المشرف الدكتور أسامة عبد الرحمن الدوري في مقدمته للكتاب ما يلي: "... ولهذا فقد أوصيت العزيز سيف، هذه المرة أيضاً، وأثناء إشرافي عليه بمرحلة الدكتوراه، إننا قضاة التاريخ، وهو أمر أوصيه لكل طلبتنا الأعزاء، فعلينا أن نبتعد عن الميل والهوى لننجز عملاً علمياً يبقى أثراً تاريخياً موزوناً يأخذ مكانه في المكتبة العربية ويحترم مضمونه الجميع".
أعتقد بأن منهجية الدكتور الدوري خاطئة وإن نتائجها خطيرة، لأن السعي لكسب احترام الجميع لمضمون الدراسات والبحوث، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتعارض مع مقولات الابتعاد عن الميل والهوى ولا تنجز عملاً علمياً حقيقياً. فالأحداث التاريخية تكتنفها صراعات تقف وراءها طبقات وفئات اجتماعية مختلفة المصالح وبالتالي مختلفة في الاتجاهات السياسية والفكرية وكذلك مختلفة في السلوك والأفعال وهذه الاتجاهات فيها الصحيح وفيها الخطأ، وبدون الالتزام الصارم بما هو صحيح، وتأشير الخطأ وإدانته عندما يتطلب الأمر، لا يمكن انجاز عمل علمي ومفيد.
لقد طبق الدكتور الدوري منهجه هذا في مقدمته المذكورة، فلنر إلى أين أوصلته، فهو يذكر ما يلي: "واللافت للانتباه ان من يطلع على علاقة البعثيين والشيوعيين يجد انها كانت لهما اهداف مشتركة عديدة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، اسقاط النظام الملكي، والتخلص من التبعية للاستعمار، ولكن بعد نجاح ثورة 14 تموز 1958 نجد ان التناحر سرعان ما دبَّ بينهما، والمشكلة انه لم يكن تنافساً فكرياً سياسياً من أجل خدمة العراق والعراقيين بل كان صراعاً دموياً التزم كل منهما توجهاً مناقضاً للآخر وكلاهما يريد ان يفرض إرادته الفكرية والسياسية بدل أن تتلاقح الافكار من اجل بناء وطن مزدهر، فسالت الدماء غزيرة دون ان يحقق اي منهما اهدافه، وفي مجتمع شرقي يكون الانتقام والثأر هو العامل الطاغي أكثر من التسامح سارا على طرفي نقيض وتعمقت العداوات وعدم الثقة بين الطرفين".
إن التنافس الفكري والسياسي لا يتعارض مع فرض الإرادة الفكرية والسياسية. ففي أعرق النظم الديمقراطية في العالم عندما لا يحصل اتفاق بين الأحزاب السياسية ولا تتلاقح أفكارها فإنها تلجأ إلى التصويت في البرلمان وتتغلب إرادة الأغلبية. فالمشكلة في عراق ذلك اليوم، الذي كان يمر بفترة انتقال حيث لا وجود للبرلمان (مجلس النواب)، لم تكن في فرض الإرادة وإنما في أسلوب فرضها، سلمي أم عنفي. فمن الذي اختار الطريق العنفي لفرض إرادته؟
لكي لا ندخل في متاهة التفاصيل، سنتوقف عند قضية السلطة فهي القضية الأساسية لأي حزب سياسي. فمن المعروف أن جميع الأحزاب التي كانت مشتركة في جبهة الاتحاد الوطني تمثلت في الحكومة التي تشكلت بعد ثورة 14 تموز 1958 ما عدا (ح. ش. ع)، رغم أنه كان أكبر الأحزاب جماهيرية وأكثرها تضحية. فالغالبية العظمى من السجناء السياسيين الذين أطلق سراحهم في إثر الثورة كانوا شيوعيين. ولم يكن عدم تمثيل (ح. ش.ع) في الحكومة من مصلحة الثورة والوطن، فسعى الحزب لمعالجة هذا الخلل بمختلف الطرق السلمية وقد تتوجت بالمظاهرة السلمية المليونية في الأول من أيار 1959 والتي طالبت بإشراك الحزب في السلطة. لم تستجب السلطة، فكف الحزب عن المطالبة وواصل نضاله السلمي من أجل تحقيق هدفه المركزي ألا وهو إرساء الحكم على أسس ديمقراطية.
أما حزب البعث فخرج ممثلوه من الحكومة ولجأ إلى العنف لتحقيق هدفه المركزي، وهو إسقاط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وتحقيق الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ثم ساهم في جميع المؤامرات الانقلابية وحاول اغتيال عبد الكريم قاسم وقام باغتيال مئات الشيوعيين وأخيراً جاء بقطار أمريكي إلى الحكم، باعتراف علي صالح السعدي (أمين سر القيادة القطرية)، عندما نفذوا انقلاب 8 شباط المشؤوم. لم يخل سلوك الشيوعيين من تجاوزات هنا أو هناك والكثير منها رد فعل تجاه المؤامرات على الحكم الوطني والجمهورية الفتية دفاعاً عن النفس، ولكن هل من الإنصاف والموضوعية مساواة الشيوعيين والبعثيين في مسؤولية الدماء الغزيرة التي سالت في تلك الفترة؟! ولماذا لم يشر الدوري، عندما يتطرق إلى انقلاب شباط الأسود، إلى قتل مجموعة كبيرة من قادة وكوادر وأعضاء (ح. ش.ع) تحت طائلة التعذيب الوحشي من بينهم قائد الحزب سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي ومحمد حسين أبو العيس أعضاء المكتب السياسي؟!
ويتجسد خطل منهجية كسب احترام الجميع، أو بعبارة أخرى منهجية مساواة الضحية بالجلاد عندما يسحب الدوري حكمه عن مسؤولية الدماء التي سالت بعد ثورة 14 تموز على فترة ما بعد انقلاب 17تموز 1968 وتحالف الحزبين في سبعينيات القرن الماضي، فيذكر الدوري في نفس المقدمة ما يلي: "وحتى عندما استلم حزب البعث الحكم ثانية عام 1968 وإعلانه إنه يريد التعاون مع الحزب الشيوعي لم تستمر العلاقة طويلاً للأسباب التي ذكرناها آنفاً،..." والمقصود بالأسباب المذكورة آنفاً، هي: "وكلاهما يريد أن يفرض إرادته الفكرية والسياسية". فهل حقا كان (ح. ش. ع) في وضع يمكن أن يفرض إرادته في تلك الفترة؟! أنظر إلى أي مستوى من تشويه الحقائق تؤدي منهجية كسب احترام الجميع!
إن (ح. ش. ع) يُلام في هذه الفترة على المبالغة في مرونته وعلى تنازلاته تجنباً للاصطدام مع حزب البعث، وليس العكس، لاعتقاده بأن الاصطدام لم يكن بأي حال من الأحوال في مصلحة الوطن والشعب العراقي، وبدافع هذه المصلحة، أولاً وقبل كل شيء، مسك الحزب بيده اليسرى جرحه الغائر بجسده في عام 1963 وجرحه الندي من الحملة الإرهابية التي بدأت في ربيع 1970 وتوقفت في خريف 1971، واعتقل خلالها آلاف الشيوعيين وتعرضوا للتعذيب الوحشي، واستشهد العديد منهم تحت التعذيب أو الاغتيال، من بينهم محمد الخضري وعلي البرزنجي عضو اللجنة المركزية وماجد العبايجي وشاكر مطرود وكاظم الجاسم وعزيز حميد وحسين نادر وأحمد رجب وعبد الله صالح ومحمد حسين الدجيلي وعبد الأمير رشاد وجواد عطية. واعتقل عضو المكتب السياسي ثابت حبيب العاني وتعرض إلى تعذيب وحشي. وقبل هذه الحملة جري اغتيال ستار خضير عضو اللجنة المركزية واستشهد تحت التعذيب الكادر العمالي عبد الأمير سعيد. ودمرت منظمات الحزب في طول البلاد وعرضها ولم يكن نهج الحزب السياسي المعتمد سوى المعارضة السلمية لسياسات الحكومة الخاطئة. أجل مسك الحزب جراحاته التي لا تطاق بيده اليسرى ومد يده اليمنى لحزب البعث.
أما حزب البعث فقد غدر بالحزب الشيوعي بعد إعلان قيام الجبهة الوطنية مباشرة، ففي اليوم التالي لتوقيع ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية،  "وزعت تعليمات على الجهاز الحزبي، تطلب فيه القيادة القطرية تقديم أفكار ومقترحات لتفتيت الحزب الشيوعي العراقي وكان اخطر تلك المقترحات التي أخذت طريقها إلى التنفيذ، أن يجري تلغيم الحزب الحليف بزرع أفراد مندسين من أجهزة الحزب الحاكم والأمانة العامة  في صفوفه، وإذا أقتضى ذلك تركهم أعمالهم والتحاقهم بإعمال أخرى في محافظات ثانية".   
وبودنا التوقف عند تعامل سيف القيسي الخاطئ مع هذا النص وسنواصل مناقشة المشرف في الحلقة القادمة . إن القيسي يستشهد أيضا بالمقتبس المذكور وبالشكل التالي:"فما أن وقع اتفاق الجبهة بين الطرفين حتى شرع حزب البعث في اليوم التالي بالتحديد بالتعميم على جهازه الحزبي طالب [طلب] القيادة القطرية تقديم مقترحات وأفكار لتفتيت (ح.ش.ع)".   من الملاحظ أن القيسي اكتفى بهذا الجزء ولم يذكر بقية النص الذي أشير فيه "وكان اخطر تلك المقترحات التي أخذت طريقها إلى التنفيذ، أن يجري تلغيم الحزب الحليف بزرع أفراد مندسين من أجهزة الحزب الحاكم والأمانة العامة  في صفوفه، وإذا أقتضى ذلك تركهم أعمالهم والتحاقهم بإعمال أخرى في محافظات ثانية". وهكذا لم يذكر القيسي الأمر الأخطر، والذي أخذ طريقه للتطبيق العملي، وهو توجه حزب البعث للاندساس في صفوف (ح.ش.ع) وقبل أن يجف حبر المواثيق والعهود المتبادلة. وبدلاً من ذكر هذا الغدر  بالحليف وإدانته باعتباره سلوكاً لا أخلاقياٌ، فان القيسي تجاهله تماماً؟ّ!
أواسط تشرين الأول 2014
رابط مقال د. عقيل الناصري
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=418045

________________________________
  -  حسن العلوي، العراق دولة المنظمة السرية، 1999، ص88).

  - سيف عدنان القيسي، "الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر ( 1968- 1979)، ص 540.


27
قراءات في ذاكرة عزيز محمد السكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي
مسيرة ونضال

لقراءة المقال كاملا انقر على الرابط التالي :

http://uploads.ankawa.com/uploads/1411324280971.pdf


28
العراق لم يمت لكي ينبعث من جديد
جاسم الحلوائي
نشر الأستاذ حازم صاغية مقالاً في جريدة "الحياة" الغراء في تاريخ 17 آب 2014 تحت عنوان "وداعاً (مؤلماً) يا عراق" (رابط المقال مرفق).
لقد كتبت تعليقاً على المقال وحاولت نشره في حقل التعليقات، إلا أن حيز التعليق لم يسع لكامل التعليق. ولأن التعليق لا يحتمل الاختصار أكثر مما هو عليه، فآثرت نشره مقالاً مستقلا .
مع الأسف الشديد يمكن القول أن مقال صاغية غير موفق في تحليله ويدعو إلى اليأس والقنوط في استنتاجه، خلافاً لما عودنا عليه. إنه غبر موفق لأن الكاتب يحسب أن تغيير المالكي حصل بعوامل خارجية فقط، حيث يذكر ما يلي"لقد أزيح المالكي واختير العبادي في واشنطن وطهران والرياض وعواصم أخرى، وذلك لأن بغداد لا تملك من القوة والعزم ما يتيح لها أن تزيح أحداً أو أن تفرض أحداً سواه. هكذا حل التدويل الصارخ والكامل لمسألة يُفترض أصلاً أن تكون عراقية".
بلا ريب، لا يمكن أن نتجاهل العوامل الخارجية. فقد كانت واضحة للعيان، وخاصة بالنسبة للعامل الأمريكي. ولكن الكاتب يتجاهل تماماً العوامل الداخلية والتي كانت في أساس هذا التغيير، وأهمها رفض أحزاب وقوى سياسية واسعة للمالكي وسياساته ومحاولتها تغييره منذ مدة طويلة، ثم تآزرت مع تلك القوى المرجعية الدينية في النجف بشكل غير مباشر في البدء ومباشر وقوي أخيراً بعد كارثة وزلزال 10 حزيران، الذي  أدى إلى استحواذ "داعش" على مدينة الموصل ومدن وأراضي عراقية أخرى في عدد من المحافظات، وأدى كل ذلك إلى تخلي قيادة حزب الدعوة بالذات عن دعم تشبث المالكي بالسلطة.
إن كاتب المقال يتجاهل هذه الحقائق، ويثير اليأس والقنوط عندما ينهي مقاله بما يلي" فالعراق، في آخر المطاف، استنزف ذاته ولم يبق منه، لا في بغداد ولا في الأطراف، ما يعول عليه أو ما ينبعث منه طائر فينيق!"
إن استنتاج صاغية اليائس هذا نتيجة طبيعية لتحليله المذكور، فالقوى الداخلية التي كانت تروم تغيير المالكي كانت متبرمة من سياساته وسلوكه الخاطئ في إدارة الحكم، وليس من شخص المالكي وحسب. وقد اقترن رفض تلك السياسات بتحركات شعبية سياسية ومطلبية، لا يمكن الاستهانة بتأثيرها، في مختلف مناطق العراق وطيلة السنوات الأخيرة من حكم المالكي.  وبالتالي فإن التغيير الذي حصل سوف لا يمكن أن يقتصر على تغيير الأشخاص، بل وسيشمل السياسات بهذا القدر أو ذاك. وإن كفاح الجماهير الشعبية والقوى الحريصة على إقامة نظام مدني ديمقراطي اتحادي في العراقي وضغطها على السلطات بمختلف الوسائل السلمية وعلى مختلف الأصعدة سيلعب دوراً مهماً في مدى عمق وشمولية التغيير.
http://www.alhayat.com/Opinion/Hazem-Saghieh/4147265/%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D9%8B-(%D9%85%D8%A4%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%8B)-%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82



29
المشروعية التاريخية لثورة 14 تموز الخالدة
جاسم الحلوائي
هناك من يعتقد بأنه كان من الممكن للعراق أن ينمو ويتطور سلمياً ولو ببطء بدون ثورة 14 تموز. ويعتقد حملة هذا الرأي أن ذلك كان أفضل للعراق من "الانقلاب العسكري" في 14 تموز، لأن هذا الحدث أدخل العراق في دوامة الانقلابات العسكرية والعنف. ولكن مجرى تطور الأحداث والظروف التي أحاطت بالبلاد، داخلياً وإقليميا وعالمياً، لاسيما خلال العقد الأخير الذي سبق ثورة 14 تموز تفند الرأي المذكور. فالأقلية الحاكمة في العراق آنذاك، كانت تشكل حجر عثرة أمام التطورات المطلوبة موضوعياً من النواحي السياسيةً والاقتصاديةً والاجتماعية في العراق. وسدت تلك الأقلية السبل السلمية بوجه القوى الوطنية، التي كانت تنشد التغيير وتحمل مشروعا تقدمياً سلمياً، من أن تلعب دورها في تطوير البلد. واستخدمت تلك الأقلية العنف ضد أي تحرك جماهيري بما في ذلك التحركات المطلبية كإضرابات العمال وتمردات الفلاحين السلمية. وسأحاول هنا الإشارة إلى ملامح تلك الفترة بإيجاز.
لقد شهدت البلاد في خمسينات القرن الماضي نهوضاً وطنياً عاماً عكس نفسه في الاستعداد الجماهيري لخوض النضالات المطلبية والسياسية، والنزوع القوي نحو الاستقلال الناجز للعراق ورفض جميع الاتفاقيات المكبًّلة لحريته مع الدول الاستعمارية. وكانت الظروف الدولية مشجعة لذلك، وتمثل ذلك في انتصار الثورة الصينية وحصول الهند واندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية الأخرى على استقلالها،  والبدء عملياً بتصفية الإرث الاستعماري وتحرير المستعمرات نتيجة لنضال شعوبها. وعلى الصعيد الإقليمي، نالت سوريا ولبنان استقلالهما، وأممت إيران نفطها، وسقط النظام الملكي الموالي للاستعمار في مصر، وتصاعدت حركة السلام العالمية، وظهرت كتلة عدم الانحياز. في مثل هذه الظروف كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط العراق بالأحلاف العسكرية الاستعمارية. وقد حققت الفئة الحاكمة ذلك بانضمامها إلى حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية. وبذلك فضحت نفسها أكثر فأكثر باعتبارها فئة موالية للاستعمار.
أما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، فإن أبرز ما يمكن ملاحظته  هو تعمّق التمايز الطبقي في المجتمع خلال السنوات التي سبقت ثورة 14 تموز في كل من الريف والمدينة على حد سواء. ولكن هذا التمايز اتخذ في الريف أبعاداً أوسع، وأفرز نتائج أخطر امتدت آثارها إلى المدينة، لأن تعاظم الفقر الذي حاق بالفلاحين، دفع بمئات الألوف منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حاملين معهم إليها كل أوضار المجتمع الريفي الفقير المتخلف. وكان العامل الأول في إفقار الفلاحين هذا قد نتج عن اتساع عملية استيلاء الملاكين الكبار على الأراضي الزراعية.
وجرت العملية المذكورة نتيجة لسياسة الحكومة التي كان يهمها، خاصة في السنوات الأخيرة من عمرها، تطمين مصالح الإقطاعيين الذين باتوا أحد أعمدة النظام الأساسية. فشرّعت الحكومة الكثير من التشريعات لتحقيق تلك السياسة، حتى بلغ التفاوت بين ملكية الملاكين  الفلاحين للأرض الزراعية، ما بين الفلاحين والملاكين، حداً لا مثيل له في أي بلد في العالم. إن 3% فقط من مجموع مالكي الأراضي الزراعية في العراق كانوا يملكون ثلثي الأراضي الزراعية في عام 1958. أما في مصر وسوريا فكانت النسبة تبلغ 35% و36% فقط من الأراضي الزراعية بيد الملاكين الكبار. وكان هناك ثمانية ملاكين عراقيين فقط بحوزة كل واحد منهم أكثر من مائة ألف (100000) دونماً. علماً أن من يملك عشر هكتارات (الهكتار يساوي أربعة دوانم) فما فوق في الهند يُعد ملاكاً كبيراً. وكذا الحال في مصر فمن كان يملك 162,2 دونما فأكثر يُعد هو الآخر من الملاكين الكبار. وكانت حصيلة هذه السياسة تعاظم إفقار الفلاحين. ولم تستوعب الزراعة آنذاك وفي أغلب أشهر العام سوى 50% من الأيدي العاملة في الريف. ونتيجة لهبوط إنتاجية العمل في الزراعة العراقية، لم يحصل المنتجون المباشرون على ما يسد رمقهم. وكان ذلك سبباً في تعاظم إفقار الفلاحين وبؤسهم المريع، فاضطروا إلى الهجرة بأعداد كبيرة صوب المدن، لاسيما الكبيرة منها.
لقد أثار تأميم صناعة النفط في إيران عام 1951 حماسة الجماهير الشعبية للمطالبة بتأميم النفط العراقي. وأخذت الصحف تنشر البرقيات والعرائض الجماهيرية المطالبة بذلك. وعند مصادقة البرلمان الإيراني على قرار حكومة مصدق، طالب عشرون نائبا في البرلمان العراقي أن يحذو البرلمان العراقي حذو جاره. ومن أجل الالتفاف على هذه الحركة قامت الحكومة العراقية بالاتفاق مع شركات النفط ببعض الإجراءات الجزئية لتبديد زخم المطالبة، ولكن دون جدوى.
في شباط 1952 وقعت الحكومة اتفاقاً جديداً مع شركات النفط يقضي بأن تدفع الشركات إلى الحكومة العراقية ستة شلنات ذهبا عن الطن الواحد من النفط الخام. وطبقا للحسابات التي تجريها الشركات، زعم الطرفان أن حصة الحكومة باتت تعادل خمسين بالمائة من صافي الأرباح التي تحصل عليها الشركات. وألزمت الاتفاقية المذكورة الشركات بتصدير 30 مليون طن من النفط الخام سنويا. وقررت الفئة الحاكمة رصد 70% من عائدات النفط لمجلس الاعمار، الذي غرس الانكليز والأمريكان عناصرهم فيه باسم الخبرة والاستشارة منذ ظهوره للوجود في عام 1950. وجاءت استشارتهم بتوجيه الأموال للقطاع الزراعي بالأساس. وليس بهدف الارتقاء بأساليب الزراعة وزيادة إنتاجيتها، وإنما إلى العمل فقط على توسيع الأراضي الزراعية بدعوى أن استصلاح المزيد من الأراضي وتوزيعها على المزارعين الصغار سيحسن من شروط عمل الفلاحين لدى الملاكين الكبار ويخفف من وطأة البطالة. لكن الأراضي المستصلحة في ظل سياسات الحكم الموالية للملاكين الكبار كانت تقع في أيدي هؤلاء في النهاية. ورغم كل ما أنفق من أموال طائلة في هذا القطاع، فإن قيمة الناتج الإجمالي للقطاع الزراعي تراجعت من 39% من مجموع الناتج القومي الإجمالي للبلاد إلى 30% في عام 1958.
وحُرم القطاع الصناعي من أموال مجلس الاعمار بحجج مختلفة، وفي مقدمتها، عدم تمكن الصناعة الوطنية من منافسة الصناعة الأجنبية المستوردة إلا في ظل سياسة حماية شديدة ستؤدي إلى الاحتكار، وبالتالي زيادة أسعار المنتجات الصناعية المحلية، ومن شأن ذلك تدمير موارد البلاد وعرقلة تقدمها. ولكن ما لم يفصح عنه هؤلاء الخبراء، إنهم بتأكيدهم على تجنب الحماية، إنما يدافعون عن مصالح الشركات الاحتكارية الأجنبية، التي ظلت تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد حتى ثورة 14 تموز بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار. وأدى هذا الموقف السلبي من الصناعة الوطنية إلى أن يكون نموها بطيئاً ولا يتناسب مع إمكانيات ومتطلبات تطويرها، حيث لم يشتغل في الصناعة سوى 264 ألف شخص قبل ثورة 14 تموز 1958.
ومع تنامي الإنفاق الحكومي وشركات المقاولات، وأغلبها أجنبية، وتزايد الطلب على السلع الاستهلاكية والإنتاجية، تنامى عدد الذين يتعاطون التجارة بالجملة والمفرد. ومما له دلالته في هذا الصدد هو تأسيس العديد من الغرف التجارية الجديدة في الخمسينات إلى جانب غرف بغداد والبصرة والموصل، وذلك في كل من مدن العمارة والنجف وكربلاء والحلة وكركوك والناصرية. وبلغ عدد المسجلين في جميع الغرف التجارية 9423 تاجراً قبل ثورة 14 تموز. ويشير كل ذلك إلى نمو البرجوازية التجارية ونمو وعيها الطبقي. وشكل الصناعيون في الفترة موضوعة البحث اتحادهم الخاص بعد أن كانوا ينتمون إلى الغرف التجارية سابقاً.
وارتباطا بكل هذا. ومع تزايد الدور الذي باتت تلعبه الدولة في مختلف المجالات اتسع الجهاز الحكومي وأدى هذا ، إلى جانب عوامل أخرى، إلى اتساع التعليم بكل مراحله.
على أي حال، أدى الإنفاق الواسع على مشاريع مجلس الأعمار في بلد كان يشكو في الأساس من ضعف قدراته الإنتاجية، إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وواجه المستهلكون والمنتجون على السواء دوامة التضخم النقدي الذي عانى منه الكادحون آنذاك بوجه خاص، وكان ذلك أحد أسباب التوتر في قلب المجتمع.
في صيف عام 1954 أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب إلى 12 تشرين الأول جملة من المراسيم التعسفية التي اشتهرت باسم (المراسيم السعيدية). كانت هذه المراسيم معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة لدستور البلاد. وكانت باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي لم يعقد سوى جلسة واحدة انتخب فيها رئيسه. ولم يحظر نوري السعيد نشاط الأحزاب المجازة فحسب، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها وأغراضها أيضاً، وألغى امتيازات جميع الصحف. وأجاز فقط ثلاث صحف موالية للحكومة. وألزم نوري السعيد السجناء الشيوعيين الذين ينهون مدة محكومياتهم بإعطاء براءة من الشيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا ستسقط عنهم الجنسية العراقية! وأقدمت حكومته فعلا على إسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين، ومن بينهم المحاميان المشهوران توفيق منير نائب نقيب المحامين وكامل القزانجي، وتم تسفيرهما إلى تركيا. كما أسقطت الجنسية عن عدد من الوطنيين ممن كانوا خارج البلاد وهم عزيز شريف وصفاء الحافظ وكاظم السماوي وعدنان الراوي.
وبادرت حكومة نوري السعيد إلى شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصلت عدد كبير من أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزتهم في معسكرات تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وباتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للقبول في الكليات حتى ولو كان المرء قومياً! وأضحى جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيد لربط العراق بالأحلاف العسكرية الامبريالية. وعلى اثر تلك الإجراءات بدأت الحركة الوطنية الديمقراطية تعاني من التراجع. لقد كانت الحركة الوطنية في جزر، فلم تتمكن من التصدي الفعّال لإحباط مساعي الحكومة لعقد الحلف.
إن سياسة نوري السعيد قد عزلت العراق عن شقيقاته العربيات، وراح يتآمر ضدها على المكشوف، مما وسع السخط وعمّقه ضد الحكم الرجعي. ومن مؤشرات ذلك تحول إضراب قصابي الموصل، احتجاجاً على زيادة الضرائب، إلى إضراب عام شمل المدينة كلها ودام أسبوعا كاملاً، حيث عبر الموصليون فيه عن تضامنهم مع مصر التي أممت قناة السويس، وعن حقدهم على حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد واجه الحكم الاستبدادي الإضراب السلمي بإعلان حالة الطوارئ، وشن حملة واسعة من الاعتقالات شملت عدد من المحامين والنواب السابقين. وحُكم على 200 من أبناء المدينة بالسجن، وأرسل قسم منهم إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي.
وفي يوم 16 آب 1956، اليوم الذي حدده الامبرياليون لعقد مؤتمر لندن لتقرير طريقة الانتقام من مصر جراء إقدامها على تأميم قناة السويس وضرب مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة، عمّ الإضراب بغداد والموصل والرمادي والحي والحلة ومدن عراقية أخرى، رغم كل أساليب الحكومة الوحشية لإفشال الإضراب. وساهم في الدعوة للإضراب إلى جانب الحزب الشيوعي كل من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي. وخرجت الجماهير بمظاهرات تحمل الأعلام العربية وشعارات التضامن مع مصر. فقابلتها الشرطة بالرصاص واعتقلت أكثر من عشرين متظاهراً. وطُوقت السفارة المصرية لمنع دخول المتطوعين للدفاع عن مصر، وطالب زبانية السلطة المعتقلين بشتم الرئيس عبد الناصر. وكان الإضراب استجابة لدعوة اللجنة المركزية العربية التي تشكلت في دمشق، وقد عمّ الإضراب في نفس اليوم العديد من الدول العربية.
وعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي. ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي، فقطع علاقته الدبلوماسية مع فرنسا ولم يقطعها مع بريطانيا المشاركة في العدوان. فزاد هذا الموقف من تأزم الأوضاع، فاجتمعت الأحزاب الوطنية والقومية، الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وعدد من الديمقراطيين المستقلين، لدراسة الموقف، وقررت تشكيل قيادة موحدة لقيادة النشاطات الاحتجاجية ضد العدوان وضد الحكم الرجعي. وفي إطار النشاط الطلابي تكونت لجنة طلابية عليا للتضامن مع الشعب المصري. وقد أشرفت هذه اللجنة على تعبئة الطلبة وقيادة مظاهراتهم.
اندلعت انتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها. وخرجت الجماهير الشعبية العراقية في مظاهرات احتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد عمت المظاهرات ثلاثين مدينة من جنوب العراق إلى شماله مرورا بوسطه. وكانت واسعة جداً في النجف، وساهمت فيها مختلف الفئات الاجتماعية بما في ذلك رجال دين بارزون. وقد استمرت المظاهرات في البلاد مدة شهرين، وتوّجت بانتفاضة الحي الباسلة. وجوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس وبالقمع العنيف. وسقط الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب إلى الفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين إلى السجون.
كانت السلطات تتحسس، وهي على صواب، من أي شعار، حتى ولو كان شعارا قومياً عاما مثل "يعيش جمال عبد الناصر"، لأنه ينطوي على عداء لحلف بغداد وحكومة نوري السعيد. وقد لعب الشيوعيون دوراً فعالاً، إن لم نقل طليعياً، في المظاهرات. وكان أول شهداء الانتفاضة الكادر الشيوعي الباسل عواد الصفار عضو لجنة منطقة بغداد الذي استشهد في العاصمة، وآخرهم الشيوعيان البطلان عطا مهدي الدباس وعلي الشيخ حمود اللذان أعدما في ساحة الصفا التي تقع وسط مدينة الحي والتي كانت تنطلق منها المظاهرات، بعد أن قمعت الطغمة الحاكمة انتفاضة المدينة الباسلة مستخدمة حتى الأسلحة الثقيلة.
كانت الأحزاب السياسية حتى انتفاضة تشرين 1956 عازمة على إجراء التغيير في الحكم سلميا. وقد نصت وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي، الذي يمثل الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الصادرة في أيلول 1956 على اعتبار المعركة "ذات طابع سلمي غالب". وكانت هذه الانتفاضة ثالث انتفاضة خلال ثمانية أعوام، ولم تتمكن من تحقيق تغيير في طبيعة الحكم. وإن تمكنت الجماهير الشعبية من التنفيس عن مشاعرها في الانتفاضتين الأوليتين ( 1948، 1952)  وتحقيق بعض المكاسب الجزئية، فإن الأجهزة القمعية التي تضاعفت قوتها آنذاك بفضل ازدياد عائدات النفط، وبفضل خبرة خبراء حلف بغداد، لم تسمح بتحرك جماهيري واسع في العاصمة بغداد. فقد قمعت بقسوة شديدة وبالرصاص جميع المبادرات النضالية. وقد استخدمت الحكومة الحديد والنار لقمع انتفاضتي النجف والحي. وإذا ما ناور النظام في الانتفاضتين السابقتين ولجأ إلى إجراءات تنفسية وتخديرية، فإنه لم يكتف بعدم لجوئه لذلك فحسب، بل تهجم نوري السعيد في خطابه رداً على الانتفاضة بعنف وصلافة. وقد ختم خطابه مردداً باستهتار الهوسة المعروفة (دار السيد مأمونة)، ليستفز المشاعر الوطنية والقومية ويدفع جميع القوى الوطنية إلى اليأس من إمكانية إجراء التغيير سلمياً. وهكذا لجأت الأحزاب السياسية إلى الجيش فوجدته جاهزاً للعمل. فتشكلت اللجنة العليا للضباط الأحرار في كانون الأول 1956. وكانت نواة هذه المنظمة قد تأسست في أيلول عام 1952، أي بعد انقلاب جمال عبد الناصر بشهرين.
كان الجيش العراقي شديد التأثر بما يجري في المجتمع العراقي. وكانت الأجواء السائدة في داخله أكثر إثارة للاستياء لأسباب ذاتية وموضوعية. فمن المعروف إن الجيش العراقي يعتمد على الخدمة الإلزامية، وإن قاعدته من الكادحين والفقراء الأكثر معاناة من سوء الأوضاع، حيث يتهرب أبناء الميسورين من أداء الخدمة بدفع البدل النقدي أو بالتحايل على القوانين مستغلين الفساد الإداري. أما بالنسبة للضباط فإن إجمالي سلك الضباط ينحدر من أصول تعود إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان للأوضاع وللأحداث الوطنية والقومية صداها وتفاعلاتها في الجيش، كانتفاضات الشعب المتتالية منذ 1948، واستخدام الجيش لقمع انتفاضات وتحركات الجماهير الواسعة منذ عام 1952، أي تحويل الجيش إلى قوة بوليسية سياسية لتصفية الخصوم السياسيين. وتواطؤ الحكام وخياناتهم في حرب فلسطين، ونجاح الضباط بقيادة جمال عبد الناصر للاستيلاء على السلطة عام 1952 واندلاع الثورة المصرية، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وموقف الحكومة العراقية المهين للمشاعر القومية من العدوان، بعزلها العراق عن العالم العربي بحكم ارتباطها بحلف بغداد. كما يمكن أن يضيف المرء عوامل موضوعية أخرى كان لها صداها وتأثيرها في الجيش، مثل صفقة الأسلحة التي تلقاها المصريون من الاتحاد السوفييتي وبكميات هائلة والتي لا يمكن مقارنتها بما حصل عليه نوري السعيد من حلفائه، والاتحاد مع الأردن عام 1958، كرد "هاشمي" على تأسيس الجمهورية العربية المتحدة، والذي لا يخدم سوى الأسرة الهاشمية المعزولة، في حين يرهق العراق مالياً .
ولم يأت تحرك الجيش لقلب نظام الحكم في 14 تموز، ولا تأسيس منظمة الضباط الأحرار بقرار من الأحزاب الوطنية. فقد كان لتأسيس المنظمة ظروفها الموضوعية والذاتية الخاصة بها. فقد تأسست المنظمة وترعرعت قبل أن تلتفت الأحزاب الوطنية إلى استخدام الجيش كرأس رمح لإسقاط النظام.
وهكذا نرى أن نظام الحكم الملكي بزعامة نوري السعيد لم يقف عائقاً أمام تطور البلد فحسب، بل وقد سد كل السبل أمام القوى الوطنية والتقدمية من أن تلعب دورها في تقدمه بالطرق السلمية. ومن هنا اكتسب سقوط النظام وبالعنف مشروعيته التاريخية.


30
رسالة مفتوحة إلى الدكتور عبد الحسين شعبان
جاسم الحلوائي
لقد توجهت لك بالشكر على إهدائي كتابك عن الفقيد عامر عبد الله. وكنت أروم إرسال ملاحظاتي لك شخصياً، ولكني عدلت عن ذلك و قررت نشر الملاحظات طالما أن الكتاب أصبح في متناول القراء. وما أنشره، ليس بقراءة كلاسيكية للكتاب، بل إنها مجرد ملاحظات.
إن قراءتي لكتابك الموسوم "عامر عبد الله، النار ومرارة الأمل" وعنوانه الفرعي "فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية" غيّرت انطباعي الايجابي عن شكل الكتاب وحجمه وفهرسته ( يقع الكتاب في 344 صفحة من القطع الكبير). لقد خيب الكتاب أملي في الكثير من مواضيعه. وهنا لا يدور الحديث عن الاختلاف في وجهتي نظرنا السياسية، ولا عن الاختلاف في مفاهيم الوطنية والقومية والماركسية وغيرها، فمثل هذه الاختلافات مشروعة ومفهومة. إنما الحديث يدور حول تناول غير منصف لأمور مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي.
وهذه بعض الأمثلة، على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: تذكر في الصفحة 85 من الكتاب ما يلي: "عدت لسؤاله [عامر عبد الله] عن ملف كركوك وعلى الرغم من أنه لم ينف مسؤولية الحزب الشيوعي ومسؤولية الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارت)، لكنه عارض الرواية السائدة في حينها والتي استخدمها قاسم ضد الشيوعيين والتي تم تلوينها (في الحقيقة تشويهها، ج)، ولاسيما في ظل حكم حزب البعث 1968-2003 لاحقاً..." وتنتهي الفقرة بما يلي: " وبالعودة للوثائق فان الرفيق عزيز محمد الأمين العام السابق للحزب كان مسؤولا حزبيأ عن لجنة محلية كركوك. (خط التشديد غير موجود في الأصل. ج)
سأذكر لك هنا ثلاث شهادات محايدة ومهنية قبل التعليق على كلامك.
يقول الباحث حنا بطاطو: " لا شيء آذى الشيوعيين بقدر ما فعلت أحداث كركوك الدموية في 14 ـ 16 تموز (يوليو). ومع ذلك، فقد أصبح مؤكداً الآن أن هذه الأحداث لم تكن مدّبرة من قبل زعمائهم، ولا هم سمحوا بها. ويمكن أن تعزى هذه الأحداث جزئياً إلى طبيعة تلك الأزمنة، من أفعال القسوة القصوى التي كانت شائعة في لحظات عدم الاستقرار الاجتماعي والغليان غير الطبيعي" (1).
 أما الكاتب جرجيس فتح الله، فيكرر ما قاله بطاطو ولكن بصيغة أخرى فيبدأ مقالته عن الموضوع بالقول:" لم يلحق الحزب الشيوعي العراقي والشيوعيين العراقيين من أذى ...  قدر ما ألحقتهما بهم وقائع الرابع عشر والخامس عشر من شهر تموز 1959. ولم يفعل شيئاً كثيراً في تخفيف الشعور العام ضدهم، انكشاف حقائق كثيرة كانت محض خيال ابتدعه أعداؤهم للنيل منهم، وبعد أن عُريت أعمال النهب والقتل عما ألبستها أجهزة الإعلام الخارجية من مبالغات وتهويل. وما أحدثته هجوم الصحف المحلية المعارضة لحكم (قاسم) المعادية للشيوعيين من آثار عميقة في النفوس". ويضيف فتح الله قائلاً: " على أن ما بات في حكم المؤكد الآن وبالشكل الذي لا يقبل الجدل أن تلك الأحداث الأليمة لم تكن مدبرة، وإنما هي بنت ساعتها. إن قادة الحزب الشيوعي في العاصمة لم يكونوا وراءها ولم يأمروا بها ولم يوطئوا لها عن قصد وإنما فوجئوا بها مثل غيرهم" (2).
 
 ويقول المؤرخ ألن دان: "وليس ثمّ دليل قانوني يثبت صدور أمر من مركز ح. ش. ع. (الحزب الشيوعي العراقي) في بغداد لتنفيذ مخطط مذبحة. ولكن يمكن التأكيد وبصورة معقولة إن أمراً كهذا لم يصدر قط"(3).
 هذه ثلاث شهادات محايدة تبرئ ساحة الحزب من المسؤولية في أحداث  كركوك.  أنت تذكر في كتابك أحيانا شهادات مخالفة لما يقوله عامرعبد الله، وتذكر أحياناً حتى مجرد شهادة شفهيةً. لماذا لا تذكر واحدة من هذه الشهادات التي تفند تأكيد عامر عبدالله على مسؤولية الحزب. إذا لم تكن قد اطلعت على هذه الشهادات المارة ذكرها آنفاً فهي المصيبة بعينها، لأنه لا يجوز أن يتناول أي كاتب حدثاً تاريخياً مهماً وحساساً مثل أحداث كركوك دون الأطلاع على ما كتب في مثل هذه المؤلفات التاريخية. أما إذا كانت مرت عليك وأهملتها، فالمصيبة أعظم!
وإلى ماذا تلمح عندما تذكر ما يلي: " وبالعودة للوثائق فان الرفيق عزيز محمد أمين العام السابق للحزب كان مسؤولا حزبيأ عن لجنة محلية كركوك". والصحيح كان سكرتيراً لفرع الحزب في كردستان ومقره في كركوك وعضوا في المكتب السياسي آنذاك.  حتى الأعمى لا يفوته بانك تريد أن تلمح إلى مسؤولية الرفيق عزيز بالأحداث.فلماذا لم تذكر شهادته عن تلك الأحداث وهي منشورة، فهو شاهد عيان، ما دمت قد ذكرت وجوده في كركوك، وها أنا أورد نبذة من شهادته:
"كانت علاقتنا بعبد الكريم قاسم جيدة طوال السنة الأولى من عمر الثورة، غير أنها بدأت تنتكس بعد ذلك بسبب خوفه من تنامي نفوذ حزبنا وتأثيره في مجرى السياسة العراقية، ربما خلافاً لما يريده هو من الانفراد بالقرارات المهمة، ولكبح التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي كنا ندعو اليها، وهي، بطبيعة الحال، أكثر مما كان هو مستعداً لقبولها".
"واستُغلت أحداث كركوك أبشع استغلال لتعكير العلاقة بيننا وبين عبد الكريم قاسم. كنت مسؤولاً عن منظمة حزبنا في كردستان، ولهذا أستطيع أن أعطي شهادة دقيقة عما حصل. كان الجو في كركوك عشية الذكرى الأولى للثورة متوتراً. وتقرر إقامة موكب موحد للاحتفال بالذكرى. الأخوة التركمان أرادوا موكباً مستقلاً. وهو من حقهم، غير أنه في الأجواء المتوترة تلك بدا غير مقبول لأطراف أخرى لسنا من بينها".
"تعرض الموكب لإطلاق رصاص، ولم تعرف الجهة التي أطلقت منها وسببت الفوضى، بل الهستيريا، حتى الآن. فقدت السيطرة على الوضع. وحدثت انتهاكات، وأعمال تصفية ضد التركمان، ولم يكن لنا فيها، كمنظمة، أي دور. بالعكس بذلنا أقصى ما نستطيع من جهود لحقن الدماء ولم نوفق".
 "ومع ذلك وجه الاتهام إلى حزبنا وكانت هناك أوساط مستعدة لتقبل هذا الاتهام، إن لم تكن مستعدة لتلفيقه والنفخ فيه. ولفقت فعلاً صور عن فظاعات، وأرسلت إلى الزعيم امرأة على مستوى عال من البراعة في التمثيل. وزعمت أنها عُذبت، وشرعت بالتعري أمامه لتريه آثار التعذيب المزعومة. فأستثير الزعيم أيما استثارة ومنعها من ذلك. ولابد أنه صدّق ما زعمته. وألقى بعدها خطاباً في كنيسة مار يوسف استخدم فيه نعوتاً قاسية ضدنا. وبعد هذا الوقت الطويل الذي مر على الأحداث أستطيع أن أؤكد أن منظمة حزبنا لم تكن لها يد في ما حدث، ولا أستطيع أن أنفي ممارسات قد يكون أعضاء أو مناصرون لنا قد ارتكبوها بخلاف موقفنا"(4).  
 إن الشهادات المحايدة التي صدرت تؤكد ما ذهب إليه الرفيق عزيز محمد "بأن منظمة حزبنا لم تكن لها يد في ما حدث"، هذا فضلا عن أن قادة الحزب قد "فوجئوا بها مثل غيرهم"، كما مر بنا، على لسان جرجيس فتح الله. ومع الإقرار بدور دسائس الدوائر الاستعمارية وشركة النفط في أحداث كركوك، فللأحداث أسبابها الذاتية في المجتمع الكركوكلي. فكما يشير حنا بطاطو عن حق: "وعلى العموم، وبشكل عام،: كانت جذور الضراوة الوحشية التي أمسكت بتلابيب المدينة تعود إلى العداوة المتأصلة بين الأكراد والتركمان"(5).  إن معالجة هذا الجذر وما نشأ عنه يتحمل مسؤوليته قادة الأكراد والتركمان في المدينة. وكان للشيوعيين دورٌ في الأحداث "لا كشيوعيين بل كأكراد" على حد تعبير بطاطو، عندما تصرفوا "خلافاً لموقف المنظمة".

 
ثانياً: مثل آخر على عدم انصافك التاريخ، هو محاولتك تقزيم دور قائد الحزب الشهيد سلام عادل في الفترة التي كان يقود الحزب، والتي تحققت خلالها إنجازات مهمة جدا للحزب والوطن.
إنك تذكر في كتابك ما يلي:"ولعل انطباعاتي الشخصية، بأن عامر عبد الله لا يريد أن يكون الشخص الأول، وانما يريد توجيه الشخص الأول، على أن يُترك له كامل الحرية للتصرف، وبذلك يكون أكثر انسجاماً، وأظن إن فترة 1956-1958 سارت بهذا الاتجاه، لاسيما في ظروف العمل السري".
خلاصة قولك بأن سلام عادل، الذي كان يقود الحزب في الفترة المذكورة، كان ينفذ توجيهات عامر عبد الله. لا أشك بأن الفقيد كان يحاول أن يوحي بذلك أمام أناس يجهلون تاريخ الحزب فتأخذهم الانطباعات والظنون بإصدار أحكام تصل إلى مستوى التزوير لتاريخ الحزب. أما أن تصدر منك وأنت على اطلاع على تاريخ الحزب وتذكر ذلك بدون أدلة، فالأمر يثير علامة استفهام كبيرة، وكبيرة جداً حول دوافع ما سطرته في الكتاب.
هناك اجماع بين جميع قادة الحزب، وأقروا به في اجتماع اللجنة المركزية الكامل في آب 1964، وبما فيهم عامر عبد الله، بأن سلام عادل كان قائداً مبادراً. ويضيف عزيز محمد في هذا السياق: "لو كان بيننا الآن لما انتخبنا غيره" (في حديث لعزيز مع الكاتب بعد الاجتماع المذكور). إنني سأذكر هنا بعض المبادرات التي أقدمت عليها قيادة سلام عادل بغياب عامر عبد الله، والتي تعرفها جيداً، وتعرف أيضاً بأنها حصلت عندما كان عامر عبد الله خارج الوطن عشية ثورة 14 تموز!؟
* توجيهات  مهمة جدا إلى منظمات الحزب عشية ثورة تموز:
"نظراً للأوضاع السياسية المتأزمة، الداخلية والعربية، ووجود احتمالات تطورها بين آونة وأخرى.. بغية ضمان وحدة النشاط السياسي في منظماتنا الحزبية في الظروف الطارئة أو المعقدة نرى من الضروري التأكيد في الوقت الحاضر على أن شعارتنا الأساسية هي:
1.   الخروج من ميثاق بغداد، وإلغاء الاتفاقية الثنائية مع بريطانيا والوقوف ضد مبدأ آيزنهاور.
2.   إطلاق الحريات الديمقراطية لجماهير الشعب (حرية التنظيم الحزبي والنقابي وحرية النشر والاجتماع ...الخ) وإعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين وإطلاق سراحهم، وإلغاء المراسيم والقوانين غير الدستورية التي تستهدف ضرب الحركة الوطنية.
3.   اتخاذ التدابير الفعالة لحماية ثروتنا الوطنية واقتصادنا الوطني والعمل على حل المشاكل المعيشية لجماهير الشعب.
4.   قيام حكومة تنتهج سياسة وطنية عربية مستقلة تدعم نضال الشعب اللبناني وسائر الشعوب العربية وتخدم السلم... وتحول "الاتحاد العربي إلى اتحاد حقيقي بين الأردن والعراق يضمن مصالح شعبنا ويخدم النضال ضد الاستعمار والصهيونية، ومن أجل الوحدة العربية، وإقامة اتحاد فيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة.

ونرى من المناسب التأكيد على: (1) ضرورة تجنب إبراز شعارات مبهمة أو متطرفة أو تلك التي تمجد هذا الزعيم أو ذاك من قيادة الحركة الوطنية أو العربية على حساب طمس شعاراتنا الأساسية، والتقليل من شأن نضال الجماهير الشعبية والجبهة الوطنية. (2) ضرورة إبداء اليقظة السياسية العالية تجاه مختلف المناورات والمؤامرات وتجاه نشاط عملاء الاستعمار، والعمل بحزم وأمانة تامة لسياسة الحزب. واعتبار أن واجبنا الأساسي في كل الظروف هو تعبئة أوسع الجماهير الشعبية ولفها حول الشعارات الصائبة في اللحظة المعينة، حول الشعارات الكبرى في حركتنا الوطنية الديمقراطية.
12 تموز 1958" (6)

إن التأكيد رقم واحد في الفقرة الأخيرة ينم عن قابلية التنبؤ لقيادة سلام عادل بمسار الأحداث واحتمالاتها. ويعلق بطاطو الذي أورد التوجيه موضحاً استحقاق إيراده نصاً في كتابه بقوله: " ليس فقط لأنه حدد المواقف الأساسية عشية الانقلاب، بل أيضاً لأنه ينظر إلى ما بعد 14 تموز (يونيو) وينذر بالنزاع المأساوي القومي ـ الشيوعي الذي كان له أن يأتي"(7).
إن هذا التوجيه، الذي حصل وكان عامر عبد الله خارج الوطن، بمحتواه وأسلوبه وتوقيته وأهميته المصيرية يؤشر الى طراز رفيع من المستوى القيادي لقيادة سلام عادل لا يباريه فيه أحد.
* برقيته إلى مجلس السيادة للجمهورية العراقية ورئيس مجلس الوزراء عبد الكريم قاسم في الصباح الباكر من يوم 14 تموز 1958 وباسم سكرتير اللجنة المركزية.
* نداءاته لمقاومة انقلاب شباط الفاشي 1963، صباح يوم الانقلاب وظهيرته.
* إشرافه الدائم على ما يكتب في الجريدة بما في ذلك ما يكتبه عامر عبد الله أو غيره، كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.
ثالثاً: تذكر في الصفحة 41 من كتابك ما يلي: "لعل الدور القيادي والمؤهلات الريادية لشخصية عامر عبد الله جعلته مبرزاً بين أقرانه ورفاقه أينما عمل وحيثما كان، لدرجة أنه حتى عندما كان يستبعد أو يقال من مواقعه القيادية، كان الآخرون يحسبونه القائد الفعلي للحزب الشيوعي ومنظره الحقيقي، نظرا لما تركه من تأثير فكري وسياسي على مجمل عمل الحزب، حيث صاغ عامر عبد الله لنحو ثلاثة عقود أهم وثائقه النظرية وتقاريره السياسبة...".
سوف أناقش الفكرة الأخيرة من هذه الفقرة قبل التطرق إلى المبالغات في مدح مؤهلات عامر عبد الله.
إذا عرفنا بأن عامر عبد الله أصبح خارج اللجنة المركزية في المؤتمر الرابع المنعقد عام 1985، فالثلاثة عقود تبدأ من عام 1956. لقد عقد الحزب خلال هذه الفترة كونفرنسين الثاني والثالث، وعقد ثلاثة مؤتمرات الثاني والثالث والرابع. ومن المعروف أن وثائق الحزب الأساسية النظرية والسياسية والتنظيمية أي برامج الحزب وتعديلات أوتجديد النظام الداخلي أو تقييماته لفترات تاريخية مهمة تقر في هذه الاجتماعات، فباستثناء الكونفرنس الثاني الذي كان لعامر عبد الله دوراً مهماً في صياغة وثيقته، وهذا ما سأتطرق اليه لاحقاً،فان عامر عبد الله ليست له أي مساهمة في كتابة وثائق الحزب الصادرة من الكونفرنس الثالث والمؤتمرات الثلاثة المذكورة، ولا بجملة واحدة وأتحدى من يثبت العكس.
كان لعبد الله دور بارز في اللجان التي كانت تشكل لوضع مسودات أو الصيغة النهائية للعديد من بيانات اللجنة المركزية. ولكن لم يؤخذ بكل ما يكتبه. على سبيل المثال، لا الحصر، كان هناك مشروعان لبيان سياسي في اجتماع اللجنة المركزية في نيسان  1965 لتصحيح خط آب كتب أحدهما عامر عبد الله وكتب الآخر بهاء الدين نوري. لقد تبنى الاجتماع بأغلبية الأصوات بيان بهاء الدين كأساس للنقاش. وجدير بالإشارة أن المشروعان لم يتضمنا شعار إسقاط السلطة، بل اكتفيا بطرح البديل، وقد أضيف الشعار في الاجتماع. وقد حضر هذا الاجتماع عشرة رفاق الأحياء منهم لحد الآن هم: آرا خاجدور وناصر عبود وسلام الناصري وكاتب هذه السطور. ويبدو أن دور عامر عبد الله كان كبيراً في صياغة قسم من التقرير السياسي الصادر عن الكونفرنس الثاني وليس كله كما تشير أو توحي بذلك في أكثر من مكان في كتابك. فالتقرير ينقسم قسمين ألأول سياسي والثاني تنظيمي. سألت مرة باقر إبراهيم، بعد انقلاب شباط 1963، مَن هو كاتب القسم التظيمي لتقرير الكونفرنس الثاني ، وكنت معجباً بمستواه؟ فأجابني: مَن يكون غير سلام عادل. أما كل من يعرف إمكانيات جمال الحيدري فلا يمكن أن يصدق بان، ما جاء عن القضية الكردية في التقرير، يمكن أن يكتبه عامر عبد الله  رغم وجود جمال الحيدري. وعلى أي حال، لا يمكن أقرار نشر  مقال في الجريدة بدون تدقيق وإقرار سلام عادل، كما سنرى لاحقاً، فكيف بتقرير كونفرنس، الذي كان بمثابة وثيقة برنامجية. وباعتقادي بأن تقرير الكونفرنس الثاني هو نتاج مساهمة قيادية جماعية، خاصة أن هذا الأسلوب في القيادة شرع في الانتشار في الحركة الشيوعي العالمية بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي.
وهناك شهادة ذات وزن صادرة من رفيق عمل مع عامر عبد الله وسلام عادل عن قرب ويقارن بينهما  وهو الفقيد زكي خير، ولا بد أنها مرت عليك لأنك تستشهد أحياناً بكتابه، وهي مقنعة في موضوعيتها.
يذكر الفقيد زكي خيري"كان الرضي قائدا حزبياً للرجال [!] ومعتداً بنفسه ويمتاز عن منافسيه بالمبادرة السياسية والثبات والإصرار على قناعاته والجدال عليها دون كلل. وكان دبلوماسياً حاذقاً أيضاً. برزت مواهبه هذه في تأليف جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 وفي التنسيق مع حركة الضباط الأحرار. وكان يعرف كيف يشخص ويستخدم الكفاءات الحزبية وكيف يصطفي الكوادر الجديدة بسرعة. وقد قدم عامر عبد الله بسرعة خاطفة إلى المكتب السياسي عبر اللجنة المركزية وكان يستعين به على كتابة التقارير والمقالات السياسية بعد أن يحدد له الموضوعات ورؤوس الأقلام ويناقشها معه بعد تحريرها وتدقيقها من جديد ويقرها للطبع والنشر، وبالطبع هذا لا يعني إنه كان مصيباً دائماً. كان عامر عبد الله يتمتع يثقافة سياسية أوسع نسبياً وبمران وكفاءة في التحرير ولكنه دون الرضي صبراً في الجدل والمزيا الأخرى"(8)
فكم هو بعيد عن الحقيقة ادعاءك الذي تورده في كتابك " ...حيث صاغ عامر عبد الله لنحو ثلاثة عقود أهم وثائقه النظرية وتقاريره السياسبة...". وكم هي بعيدة عن الحقيقة مبالغاتك عن مؤهلات عامر عبد الله بهدف تحجيم دور سلام عادل، ولمصلحة من يتم ذلك عندما نعرف بان مصير عامر السياسي كان مؤسفاً وهذا ما كررته أنت مراراً في كتابك، في حين استشهد قائد الحزب سلام عادل ببطولة. وإن استشهاده هو بالذات وبالطريقة البطولية التي استشهد بها هي أحد جذور الحزب الشيوعي العراقي غير القابلة للاقتلاع من تربة وطننا الغالي. وإن أي محاولة لتقزيم هذه القامة العظيمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، مصيرها الفشل.
ليس بإمكاني التوقف عند كل ما أراه خاطئاً في الكتاب فهو يغطي فترات طويلة من تاريخ الحزب. أرسل لك كتابي "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" وستعرف رأيي في الكثير من الأحداث والأمور الواردة في كتابك وهي خاطئة أو يعوزها الدقة مثل أحداث الموصل والكتلة الرباعية وأهمية وطبيعة وثيقة الكونفرنس الثاني ودور قيادة سلام عادل في التحالفات السياسية وكذلك أخطاء الحزب بقيادة سلام عادل أو بعض معالجات سلام عادل نفسه و...الخ
ولكن لا يسعني وأنا أنهي هذه الرسالة إلاّ أن أتطرق إلى قضية شخصية. تشير في أكثر من مكان إلى إخراجي من اللجنة المركزية في المؤتمر الرابع مع من خرج أو لم ينتخب، وهذا صحيح ولكن ليس من الصحيح الإيحاء للقارئ بأن مصيري كان كمصير الآخرين، عندما تذكر وكان جاسم الحلوائي قد لجأ إلى الدنمارك بدون ايضاح موقفي. فأنت تعرف بأني بقيت مع الحزب ورفضت أي نشاط مهما ضؤل خارج إطاره، لقد انيطت بي تمثيل الحزب أمام الحزب الشيوعي البلغاري وقيادة منظمة بلغاريا وكنت عضواً في لجنة العمل الأيديولوجي المركزي. وحضرت جميع كونفرنسات الخارج في الثمانينات. وذهبت بقرار حزبي لاجئا إلى الدنمارك بعد أن تعذر بقائي في بلغاريا أو الانتقال إلى بلد آخر، وانتظمت في منظمة الدنمارك، وأحضر الاجتماعات بانتظام وكونفرنسات الخارج عندما تعقد في الدنمارك. ولم أنقطع شهراً واحدا عن دفع اشتراكي. وحضرت المؤتمر الخامس والثامن والتاسع كمندوب. فسيرتي السياسية تختلف عن الآخرين.
أنا الآخر عشت وعانيت من الأجواء الغريبة التي سادت الحزب وقيادته. ولكني اختلفت مع الآخرين في طريقة العلاج، فتجربتي علمتني بأن تلك الأجواء ومسببيها ليست نهاية المطاف. فالحرص على وجود الحزب واستعادة عافيته يتم من داخل الحزب وليس من خارجه. وهذا ما شرع به الحزب في المؤتمر الذي تلى المؤتمر الرابع مباشرة وقد لعبت دوراً ملموساً في المؤتمر الخامس، فقد هيأنا أنا والفقيد حميد بخش مسودة  جديدة للنظام الداخلي، جددت بنية الحزب الفكرية والتنظيميه. وكان بإمكان الآخرين أن يسلكوا نفس سلوكي ويكرسوا إمكانياتهم لتقوية الحزب لا لإضعافه  وينقذوا أنفسهم من التهميش والإقصاء الذي يشكون منه أو يتحججون به ومن المصير السياسي المؤسف الذي وصلوا إليه.
مع تقديري
الهوامش
  - حنا بطاطو، العراق ـ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الجزء الثالث، ص223.
2- جرجيس فتح الله المحامي، "العراق في عهد قاسم"، الجزء الثاني، دار نبز للطباعة والنشر السويد ـ 1989، ص733. خط التشديد ليس في الأصل.
3- اوريل دان، "العراق في عهد قاسم" الجزء الأول، ترجمة جرجيس فتح الله، دار نبز للطباعة والنشر 1989، ص282. خط التشديد ليس في الأصل.
4- مقابلة مع عزيز محمد أجرتها مجلة "الوسط" الصادرة في لندن العدد 288 التاريخ 4 آب 1997. عزيز سباهي، مصدر سابق، ص446 وما يليها. والهامش رقم 21.
5ـ بطاطو، مصدر سابق، ص224.
6 ـ  راجع سباهي، مصدر سابق، ص273 ـ 275.
7ـ بطاطو، مصدر سابق، ص113.
8- زكي خيري، "صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم". مركز الحرف العربي- السويد. طبعة ثانية 1996. ص 207







31
تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مجال
التحالفات السياسية ودروسها  (1934-2014)(*)
(3- 3)
جاسم الحلوائي
الجبهة الوطنية والقومية التقدمية
في تموز 1968 استولى حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة مجدداً. وفي تشرين الثاني 1971 طرح مشروع "ميثاق العمل الوطني" فدخل الحزب الشيوعي معه في حوار أفضى، بعد تلكؤ الحوار وتوقفه أحياناً بسبب سعة الخلافات بين الحزبين، إلى إعلان الجبهة بين الطرفين في تموز 1973. وأخذت الجبهة تلفظ أنفاسها منذ آذار 1978 في إثر تقرير اللجنة المركزية الصادر عن اجتماعها الكامل في الشهر المذكور الذي وضعت فيه النقاط على الحروف في أهم القضايا الملتهبة، واقترحـت المعالجات الضرورية بما في ذلك المطالبة بإنهاء فترة الانتقال وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستوراً دائماً للبلاد. لا يسع المجال هنا للدخول في تفاصيل مقدمات ونتائج هذه الجبهة. (1)
كان رد فعل حزب البعث على تقرير اللجنة المركزية عنيفاً، بالرغم من أن معالجاته كانت هادئة. فجنّد حزب البعث صحيفة "الراصد" للتهجم على التقرير سياسياً وفكرياً. وظل البعث يطالب الحزب الشيوعي بسحب التقرير والتراجع عنه. إلا أن طلب حزب البعث قوبل بالرفض القاطع. فلجأ البعث إلى القمع الوحشي وتحول الحزب الشيوعي إلى المعارضة وإلى الدعوة لإسقاط السلطة.
لقد قيّم الحزب الشيوعي العراقي هذه التجربة وساهمت في تقييمها بعض منظمات الحزب قبل إقرارها في اللجنة المركزية ومن ثم في المؤتمر الرابع المنعقد في تشرين الثاني 1985. لقد أقرت الوثيقة عندما كان الحزب يخوض الكفاح المسلح ضد حكم البعث. مع ذلك فأن وثيقة تقييم التجربة لا تخطّئ نهج الحزب في  التحالف والذي أدى إلى اتفاق الجبهة. فقد جاء فيها "إن تجربة التحالف مع حزب حاكم كانت الأولى من نوعها في ممارسات حزبنا النضالية، وكان على حزبنا خوضها بثقة لا تتزعزع بقدرته على تحقيق مكتسبات هامة للجماهير ولقضية النضال ضد الامبريالية، وتعزيز مكانته في الحياة السياسية للبلاد، وبقدرته على الصمود والحفاظ عل استقلاله السياسي والتنظيمي والايديولوجي". (2) ولكن الوثيقة تعترض على سلوك الحزب السياسي وخاصة بعد دخول الحزب للجبهة. وتنتقد هذه الوثيقة جميع التنازلات التي حصلت بعد إعلان الجبهة.
أعتقد كان من شأن هذا النهج الذي رسمته الوثيقة أن يؤدي إلى الاصطدام بين الحزبين، البعث والشيوعي، وكان ذلك من مصلحة الحزب الشيوعي سياسياً، لاسيما إذا كان الاصطدام يدور حول قضية مبررة ومفهومة داخليا وعربياً وأممياً، على سبيل المثال:

إن ميثاق العمل الوطني ينص على أن الجبهة "تجسد القيادة المشتركة لنضال الشعب العراقي". على الرغم من ذلك فقد راح البعث يثقف أعضاءه بصيغة "الحزب القائد"، ويعلن ذلك في صحافته. وفي كانون الثاني 1974 عقد حزب البعث مؤتمره القطري الثامن، وقد أكد في التقرير الصادر عنه على تعزيز قيادة حزب البعث على الجيش وأجهزة الدولة. وقد ربط التقرير بين مسألة توسيع الجبهة وبين تعزيز الدور القيادي لحزب البعث فيها، وأعتبر ذلك مهمة مركزية. وبعد فترة وجيزة من صدور التقرير السياسي، أصدر "مجلس قيادة الثورة" قراراً يعتبر هذا التقرير قانوناً للدولة والمجتمع. وتشير وثيقة التقييم، التي تورد هذه المعلومات إلى أن الحزب لم يعارض هذا القرار علناً.
 كان، كما أعتقد، من الممكن للحزب أن يعارض القانون بشكل رسمي ويطالب بإلغائه، حتى إذا أدى ذلك إلى انهيار الجبهة، لأن ذلك يشكل انتهاكاً صريحاً لميثاق العمل الوطني الذي ينص على القيادة المشتركة للجبهة. لقد كان انهيار التحالف آنذاك، والحزب قد أعاد بناء تنظيماته، ومنظماته الديمقراطية قائمة، أفضل للحزب من الانهيار الذي وقع بعد أربع سنوات من الرخاوة.
ولكن الوثيقة لم تقتصر على نقد الجوانب والنتائج السلبية للجبهة، وإنما أشارت إلى جوانبها الإيجابية كذلك وأهمها:
إن شعارات الحزب قد تحولت خلال الجبهة إلى قوة مادية، إذ لم تكن المنجزات الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت قبل وأثناء الجبهة بمعزل عن نضال حزبنا الشيوعي، مثل: تأميم النفط، توسيع الإصلاح الزراعي جوهريا، إبرام اتفاقية آذار 1970 التي نقلت القضية الكردية نقلة تاريخية، القضاء التام على ظاهرة البطالة، ارتفاع مستوى معيشة الشعب وتقلص نسبة الأمية وتطور الأدب والفنون بمختلف فروعه تطورا مشهوداً. وإن الجماهير نفسها قد عرفت كيف أن هذه المكاسب قد تحققت بنضال الشيوعيين، وكيف أن الانقضاض عليها لم يكن بمعزل عن اضطهاد الشيوعيين. وكما توفرت للحزب تجربة عملية عن أهمية الحفاظ على استقلاله السياسي والأيديولوجي والتنظيمي خلال التحالفات، وهي تجربة مهمة. "...وبالرغم من الخسائر الجسيمة التي لحقت بحزبنا، بسبب حملات الإرهاب الوحشية، فقد اكتسب الحزب دماً جديداً، دم الشباب الذي مهما استنزفه الإرهاب البعثي البوليسي الآن أو في المستقبل، فسيبقى منه رصيد يمنح الحزب طاقة متجددة، وهذا ما أثار ويثير غيظ البعث الحاكم في العراق". (3)
وإذا أردنا النظر إلى تلك التجربة بوعينا اليوم، فأعتقد إن الدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه من التجربة، في ظل الظروف الجديدة ومن منطلقنا الأيديولوجي والإستراتيجي المتجددين، هو: إن تحالف إي حزب سياسي مع حزب حاكم في نظام لا يقوم على أسس ديمقراطية مؤسساتية، هو خطأ مبدأي يرتكبه الحزب غير الحاكم، لا بسبب عدم توفر تكافؤ الفرص فحسب، بل لتعذر ضمان استقلال الحزب سياسياً وتنظيمياً وفكرياً، وهو مبدأ أساسي في أي تحالف سياسي.
(جوقد) و(جود)
الجبهة الوطنية القومية الديمقراطية (جوقد)  تشكلت في دمشق في عام 1980 وضمت إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي (حشع)، كل من الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، حزب البعث الموالي لسورية، الحزب الاشتراكي في العراق، الحزب الاشتراكي الكردستاني (حسك) والتجمع الديمقراطي العراقي. وقد رفض (أوك) والبعث ضم الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) إلى الجبهة، مما دفع الحزب الشيوعي و(حسك) إلى تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. ونتيجة لذلك جمدت (جوقد) عضوية الحزب الشيوعي و (حسك) في (جوقد)  وأصبح ذلك أحد الأسباب للصدامات المسلحة في كردستان بين (أوك) من جهة و(حدك) و(حشع) و (حسك)من جهة أخرى، والتي أدت لاحقاً إلى كارثة بشت آشان. ثم انضم إلى (جود) كل من (باسوك)، الحزب الاشتراكي العراقي، حزب الشعب الديمقراطي الكردستاني (حشدك) والتجمع الديمقراطي العراقي.
أعتقد أن رغبة قيادة الحزب الشيوعي العراقي في الوقوف على الحياد بين القوتين المتصارعتين (حدك) و (اوك) والسعي لإنهاء حرب اقتتال الأخوة، لم يتحوّل إلى موقف سياسي صارم في التعامل مع هذا الموضوع الحساس والخطير منذ البداية. كما أعتقد بأنه كان على الحزب أن لا يدخل في أي جبهة يكون طرف واحد من طرفي الصراع (حدك واوك)  مساهماً فيها. وكان من شأن هذا الموقف أن يصون موقف الحزب الحيادي ويجنبه التذبذب والأخطاء جراء قصر النظر السياسي أو ميول وأهواء بعض الكوادر بمن فيهم بعض قادة الحزب المتحيزة نسبياً إلى هذا الطرف أو ذاك، وهي أهواء ونزعات مشروعة، كوجهة نظر، ولا يمكن تجنبها أو إزالتها، وهي انعكاس لواقع موضوعي تعيشه كردستان. و يمكن أن تأخذ وجهة النظر تلك طريقها للتطبيق العملي عند توفر هامش الاجتهاد أو التمتع بصلاحيات في اتخاذ موقف معين. ويوفر الموقف الصارم للحزب إمكانية التعاون والتعامل والتوسط بدون حساسية وبمصداقية واضحة بين الطرفين المتصارعين والتأثير عليهما لوضع حد لصراعهما المسلح، بما في ذلك السعي لإبعاد (اوك) عن التعاون مع السلطة. كما يوفر هذا الموقف كذلك وضع أفضل للحزب الشيوعي للتأثير على الأطراف الأخرى ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بهذا الصراع. وإذا كانت ذرائع الاحتكاك والاصطدام بين الحزب الشيوعي والقوى الأخرى عديدة ومتنوعة وبعضها من دسائس العدو، فالموقف الحيادي الصارم سياسياً كان من شأنه أن يوفر إمكانية أفضل للسيطرة على تلك الصراعات وتحجيمها.   
لم يكن دخول الحزب الشيوعي في (جوقد) صحيحاً. ولم يكن مجبراً على ذلك، ولم يؤثر خروجه منها تأثيراً سلبياً على وجوده في الشام. كما لم يكن دخوله ﻟ (جود) صحيحاً. وكانت هناك فرصة، وان كانت متأخرة نسبياً، لتصحيح الخطأ والانسحاب من (جود)، إلا أن قيادة الحزب الشيوعي، وكان كريم أحمد قائماً بأعمال السكرتير ميدانياً آنذاك في كردستان، لم تستثمرها وارتكبت خطأً سياسياً خطيراً عندما لم تتخذ موقفاً صارماً بوجه تهديد (حدك و حسك) بإخراج الحزب الشيوعي من (جود) إن لم يساهم معهما في عملية عسكرية لطرد (اوك) من منطقة باليسان و" كان موقفنا خاطئاً متردداً وتركنا الأمر لهم [لقيادة منطقة باليسان وكان مسؤولها الحزبي يوسف حنا] بالتصرف كما يريدون فاشتركوا في العملية". كما يذكر كريم أحمد في كتابه "المسيرة" (ص 236 وما يليها).
كانت هناك فرصة لتصحيح الخطأ. فقد كان الحزب الشيوعي خارج (جوقد) وسيكون خارج (جود) أيضاً. وإذا كان (اوك) قد دخل في مفاوضات مع السلطة لتأمين جانبها في خطته لتصفية أو تحجيم خصومه، فلم يعد الحزب الشيوعي خصماً له، ولم يكن (اوك) بحاجة إلى توسيع دائرة خصومه. ربما يرى البعض أن دخولنا في (جوقد) لم يكن خاطئاً ولكن دخولنا في (جود) هو الخطأ، وكانت خطة قيادة الحزب في الشام هي إقامة علاقة ثنائية مع (حدك) وليس الدخول معه في جبهة. ولم تكن مثل هذه الخطة صحيحة، لأنها لا توفر الموقف الحيادي الصارم بين الطرفين وفيه تحيز ﻟ(أوك). ومن المشكوك فيه قبول (حدك) بوضع لا يكون فيه على قدم المساواة مع (اوك) أو يظهر وكأنه تابع ﻟ(جوقد).
وإذا كانت الجبهة مع حزب البعث الحاكم قد وفرت للحزب الشيوعي تجربة عملية قاسية حول أهمية الحفاظ على استقلاله السياسي والأيديولوجي والتنظيمي خلال التحالفات، كما مر بنا، وهي تجربة كانت شاخصة عندما درست اللجنة المركزية في عام 1980 انضمام الحزب إلى جوقد، واشترط الإجماع في قراراتها، فإن تجربة (جوقد) و (جود) وفرت تجربة عملية تشير إلى أن بعض التحالفات والجبهات ليست غير مفيدة فحسب، بل ويمكن أن تكون وبالاً على الحزب والحركة الوطنية والديمقراطية إذا لم تحسب أبعادها وتأثيراتها السياسية الآنية والمستقبلية بشكل جيد. إن هذا الاحتمال لم يكن وارداً في ذهن أعضاء اللجنة المركزية، بمن فيهم كاتب هذه السطور، آنذاك بسبب خطأ فكري يتمثل في النظر إلى كل تجميع للقوى أو الدخول إلى أي جبهة، هو قوة للحزب وللحركة الوطنية والديمقراطية، ما دام استقلال الحزب، السياسي والفكري والتنظيمي، مضموناً. ولم تزك تجربتا (جوقد) (وجود) تلك النظرة، كما أعتقد.
الجبهة الكردستانية العراقية
عالج الحزب الشيوعي موضوع الجبهة الكردستانية في صحافته وفي النقاشات التي دارت مع الأحزاب الكردية. و في صيف 1987 بادرت قيادة (أوك)، بعد المصالحة الشاملة معها، بالاتصال بالأحزاب الأخرى ودفعها لتشكيل الجبهة الكردستانية. وفي المداولات الأولية التي جرت في دشت كويزة، قدم (أوك) مشروعاً للجبهة  ساهم في صياغته وإغنائه الفقيد الدكتور رحيم عجينة الذي كان يترأس وفد حزبنا. وكان التعاون جيداً بين جميع الحاضرين. أما في المداولات الأخيرة في رازان أوائل 1988 فترأس الوفد الرفيق عزيز محمد. وبعد إقرار البرنامج والنظام الداخلي والبيان الختامي، استضاف الحزب الشيوعي الاجتماعات الختامية للتوقيع على الوثائق في مقره في خواكورك.، وذلك في حزيران 1988. وهكذا انبثقت الجبهة الكردستانية العراقية (جكع) لتضيف تحالفاً جديدا في تاريخ الحركة الوطنية والكردستانية.
لجنة العمل المشترك
بعد غزو العراق للكويت وما نتج عنه من عزلة إقليمية ودولية شاملة حفز قوى المعارضة العراقية لتشكل لجنة العمل المشترك (لعم) في دمشق في 29 كانون الأول 1990 من أطراف (جوقد)، (جود)، منظمة العمل الإسلامي، المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة.  وصدر بيانها البرنامجي. لقد "فشلت (لعم) منذ يوم ولادتها لأنها جمعت جهات متناقضة لا تؤمن بالبرنامج الذي أقرته، وإنما يؤمن كل طرف منها بجزء من البرنامج ولا يؤمن بالجزء الذي يؤمن به الطرف الآخر" و"وجهت ضربة قاتلة لتجمع المعارضة في لجنة العمل المشترك في مؤتمر بيروت وبعده مباشرة حينما لجأت الجبهة الكردستانية إلى التفاوض مع صدام حسين". (4)
كانت هناك بعض الضغوطات والتدخلات في شؤون قوى المعارضة الإسلامية وإلى حد ما الكردستانية وخاصة من إيران قبل غزو الكويت، وبعد الغزو دخلت السعودية وغيرها من الدول المجاورة على الخط. أما بعد هزيمة النظام عسكرياً فقد هيمنت أمريكا على المعارضة. ومع هذا التدخل الواسع للدول الخارجية، نشطت وبشكل فعال قوى معارضة جديدة وبالعشرات والتي لم يكن لها وجود سابقاً، أو كانت ممالئة للنظام أو جزءً منه. وكانت هذه القوى ومَن ورائها تسعى لتنظيم اصطفاف المعارضة على هواها متجاوزة (لعم) كمؤسسة، فلفظت الأخيرة أنفاسها.
دخلت المعارضة العراقية بعد انهيار (لعم) دوامة الوفود واللجان والمؤتمرات، والصراع على نسب التمثيل. فعقدت مؤتمرات فينا وصلاح الدين ولندن. وساهم الحزب الشيوعي العراقي في مؤتمر صلاح الدين فقط والذي انعقد في نهاية العام 1992 وانبثق منه "المؤتمر الوطني العراقي الموحد" وانسحب منه الحزب الشيوعي بقرار من المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي  المنعقد في تشرين الثاني 1993 لارتباط المؤتمر الوطني العراقي الموحد بقوى خارجية وبأمريكا.
وبانتهاء لجنة العمل المشترك انتهت مرحلة التحالفات السياسية على شكل جبهات وطنية تضم القوى الوطنية كافة. أما بعد سقوط النظام فتغيرت طبيعة التحالفات جذريا لاختلاف مواقع القوى واصطفافاتها ولظهور قوى جديدة. ولكن نهج الحزب الشيوعي التحالفي ظل ثابتاً متجهاً نحو تجميع قوى التيار الديمقراطي والدخول في تحالفات انتخابية مع القوى والشخصيات التي تكافح وتسعى من أجل إقامة نظام مدني ديمقراطي حقيقي، ويسعى هذا النهج للاستفادة من تجارب الحزب الغنية التي تراكمت لثمانية عقود مجيدة في هذا الميدان، وقد حاولت تلخيصها في مقدمة هذا المقال تحت عنوان محاولة تعريف.
الهوامش
*- الحلقة الثالثة من مقال نشر في العدد 364 من مجلة "الثقافة الجديدة" الصادرة في آذار 2014، ضمن ملف بمناسبة الذكرى الثمانين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي. وكان الموضوع محور ندوة في لندن أقامتها منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا في 13 آذار 2014 لنفس المناسبة واستضافة به الكاتب.

11- لقد تناول كاتب هذا المقال موضوع هذه الجبهة بعشرات الصفحات في كتابه "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي". وهناك فصل مكرس لها تحت عنوان " الظروف التي أحاطت بإعلان الجبهة عام 1973".

2- تقييم تجربتنا النضالية للسنوات 1968- 1979 ص 38. أقره المؤتمر الوطني الرابع للحزب الشيوعي العراقي في تشرين الثاني 1985.

3- المصدر السابق ص 64.
4- د. رحيم عجينة "الخيار المتجدد" ص 279. 
المصادر
1- عزيز سباهي، "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" ثلاثة أجزاء، الجزءان الأول و الثاني منشورات الثقافة الجديدة 2002 و2003 على التوالي. الثالث دار الرواد - بغداد 2005 وجميعها طبعة أولى.
2- د. رحيم عجينة الاختيار المتجدد، ذكريات شخصية وصفحات من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. دار الكنوز الأدبية بيروت- لبنان.
3- حنا بطاطو، "العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية. ترجمة عفيف الرزاز. الجزء الثاني، الناشر روح الأمين. 1427 هجرية.
4- د. كاظم حبيب و د. زهدي الداوودي، "فهد والحركة الوطنية العراقية. دار الكنوز الأدبية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 2003.
5- د. ماهر الشريف، الأممية الشيوعية وفلسطين 1919-1928 ، بيروت، دار ابن خلدون، 1981.
6- وثائق الحزب الشيوعي العراقي.



32
تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مجال
التحالفات السياسية ودروسها  (1934-2014) ( )
(2- 3)
جاسم الحلوائي
جبهة وطنية للانتخابات البرلمانية في عام 1954
بعد اعتقال بهاء الدين نوري في نيسان 1953 تولى الرفيق كريم أحمد سكرتارية اللجنة المركزية. وبعد فترة وجيزة ضُمّ الرفيق حسين أحمد الرضي (سلام عادل) إليها. وقد لعب الاثنان دوراً أساسيا في محاولة التخلص من النهج اليساري الانعزالي، وانعكست تلك المحاولة في الوثيقة التي صدرت عن اجتماع اللجنة المركزية في كانون الثاني 1954، والموسومة (جبهة الكفاح الوطني ضد الاستعمار والحرب). كما انعكست في السلوك العملي للحزب بصورة أصح، فقد دخل الحزب مع قادة حزب الاستقلال في جبهة، كما سنرى، بعد أن هاجمهم بشدة في الوثيقة المذكورة. فعندما أعلنت حكومة أرشد العمري في أيار 1954، عن إجراء انتخابات برلمانية في 9 حزيران، سعى الحزب (وكان سلام عادل مسؤولاً عن لجنة العلاقات الوطنية بالإضافة إلى قيادته للجنة بغداد) إلى تشكيل جبهة وطنية. وبتضافر جهود الحزب وجهود الأحزاب الوطنية الأخرى أعلن في 12 أيار 1954 عن تأليف جبهة وطنية للانتخابات. ونشر ميثاقها ذي الطابع الوطني الديمقراطي في اليوم التالي، موقعاً من قبل الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وكذلك من ممثلي العمال والفلاحين والمحامين والطلاب والأطباء والشباب، الذين كانوا يمثلون في حقيقة الأمر الحزب الشيوعي العراقي.
تضمن الميثاق العديد من المطالب وكان في مقدمتها المطالبة بإطلاق الحريات الديمقراطية في مختلف جوانبها، وحرية الانتخابات. ودعا إلى إلغاء معاهدة 1930 والقواعد العسكرية وجلاء الجيوش الأجنبية ورفض جميع الأحلاف العسكرية الاستعمارية بما فيها الحلف التركي- الباكستاني، ورفض المساعدات العسكرية الأمريكية. ودعا إلى التضامن العربي في سبيل الجلاء والتخلص من الاستعمار ودعم القضية الفلسطينية وربط الحل النهائي لمشكلة فلسطين بالقضاء على الاستعمار والصهيونية، كما دعا إلى اتخاذ العراق موقفاً مؤيداً في الميدان الدولي لحل المشاكل الدولية بالطرق السلمية. وطالب بتحقيق العدل الاجتماعي، وإنهاء دور الإقطاع، وحل المشاكل الاقتصادية القائمة كمشكلة البطالة وغلاء المعيشة، ورفع المستوى المعيشي للشعب بوجه عام، وتشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها وإزاحة الآثار الأليمة التي خلفتها كارثة الفيضان.
نشط الحزب الشيوعي في الدعاية الانتخابية من خلال بياناته ومساهماته في الاجتماعات الانتخابية ونشطت كذلك أحزاب الجبهة الأخرى. لقد فزعت الحكومة من النشاط المذكور فلم تواصل دور المحايد المزعوم فزيفت وزوّرت الانتخابات، خاصة خارج المدن الكبيرة. ويذكر الجادرجي في مذكراته بأنه في بعض "المناطق خارج المدن، الريف، أجرت السلطات عملية الانتخاب في الليل، ولما حل يوم الانتخاب لم يجد الناخبون صناديق الاقتراع، فقد كانت ممتلئة وأرسلت لتصنيف الأصوات". ( ) ورغم التزوير فازت الجبهة ﺒ 11 مقعداً في البرلمان، فلم تحتملهم الفئة الحاكمة والمستبد نوري السعيد الذي حل البرلمان بعد جلسته الأولى.
نهج واقعي في التحالفات السياسية
استهدفت اللجنة المركزية بقيادة الرفيق سلام عادل في بيانها السياسي العام الصادر عن اجتماع تموز 1955 تحت عنوان ( في سبيل الحريات الديمقراطية وفي سبيل المصالح الحيوية لجماهير الشعب)، ضمن ما استهدفته، إقناع القوى السياسية الوطنية بضرورة العمل الموحد. وقد واصل الحزب هذا النهج، وذلك بمعالجة شروط تلك القوى وملاحظاتها وتحفظاتها، التي وردت في مذكرة للجادرجي وقدمت للحزب في نهاية نيسان 1955، ساعيا بقوة إلى تبديد شكوكها حول صدق دعوته للتحالف والجبهة، تلك الشكوك التي تراكمت بشكل خاص في فترة انحراف الحزب نحو التطرف اليساري، وذلك في  بياناته ووثائقه وسلوكه اللاحق. ومن المفيد اطلاع القارئ الكريم على تلك الشروط قبل تناول معالجات الحزب لها.
جاء الإفصاح عن تلك الشروط في مذكرة الجادرجي للحزب التي وردت في الصفحة 660 وما يليها من مذكراته.  ومن المفيد إطلاع القارئ على ملخصها، كما عرضها وعلق عليها الباحث حنا بطاطو في كتابه الثالث ص 68.
يشير بطاطو إلى ما جاء في ملاحظات الجادرجي وهي: "مهما كانت عناصر اليسار معتدلة في برنامجها فإنها ستوصم بالشيوعية... وستحارب بشراسة على هذا الأساس، إذا ما توحدت هذه العناصر فيما بينها فقط". لذلك، فإن عليهم أيضا أن يتحدوا مع "عناصر وطنية مستقلة وعناصر أخرى". وأضاف الجادرجي كذلك أنه لن تكون هنالك أية فرصة للنجاح أمام جبهة إذا لم تتخل "بعض عناصر اليسار" عن فكرة ترؤّس الآخرين"، أو إذا لم تسر بثبات و ﺑ "إيمان صادق" في طريق"غير استفزازي". وكان يجب توفير ضمانات فعالة لتهدئة مخاوف شركاء المستقبل من أنهم قد يستخدمون أو يزج بهم "في حالات أو معارك لم يتصوروها أو لم يوافقوا عليها مسبقا"، وكذلك فإنه لا يمكن السماح لسياسة "مواجهة الآخرين بالأمر الواقع مهما كانت الظروف". ويجب تجنب تلفيق التهم أو الاتهام بلا  تمييز بسوء التصرف عند اختلاف الآراء مهما كان الثمن. ويجب التأكد لكل طرف في الجبهة أنه لن ينظر اليه كمشارك "عرضي" في الحركة بل جزء أساسي منها و"لزمن غير محدود": وبكلمات أوضح، يجب عدم استحضار مسألة "المرحلة التاريخية"، التي يكررها البعض بمناسبة وبلا مناسبة على الإطلاق". وأخيراً، يجب بذل كل الجهود بهدف إزالة الانطباع الخاطئ السائد بأن اليساريين أو التقدميين لم يبالوا بالقومية العربية. وما يجب إيضاحه للجميع هو أن اليساريين أو التقدميين لم يقدموا للآخرين أية تنازلات تتعلق بأصالة مشاعرهم نحو الأمة، لأنهم كانوا قوميين من دون أن يكونوا متعصبين (أوشوفينيين). ورأى الجادرجي أن إيضاح هذه النقطة يُسهل جلب من يسمون أنفسهم قوميين، والذين لا رغبة لأحد بتجاهلهم، إلى الحركة.
ويستكثر بطاطو ذاته، قبل الشيوعيين، بعض من تلك الشروط فيعلق عليها بالقول: "واضح أن الجادرجي طلب الكثير، وطلب ما يقرب المستحيل، على الأقل في إحدى النقاط، وهي الطلاق الفعلي ـ وليس الاسمي ـ  للتحالف من أي "حدود زمنية" والواقع أن التحالفات، أية تحالفات، والتي يدخلها الشيوعيون والتي لا يدخلونها، تكون دوماً انتقالية بجوهرها، من حيث أن الأوضاع تفرضها وأن طبيعة الأشياء نفسها تتغير وليست ثابتة.
لم يشر بطاطو إلى مسألة هامة وردت في مذكرة الجادرجي وهذا نصها: "العناصر اليسارية التي يمكن اعتبارها نواة الحركة، هي بحاجة إلى مرجع يقره اليساريون ويرتضيه الوطنيون من مستقلين وغيرهم". لم يسم الجادرجي المرجع، تواضعاً أو دبلوماسية، ولكن المقصود معروف، فقد كان الجادرجي عميد المعارضة المعترف به في أوساط المعارضة والفئة الحاكمة على حد سواء.
كانت شروط القوى الوطنية ومخاوفها التي وردت في مذكرة الجادرجي قد لقيت التفهم من قبل القيادة الجديدة للحزب. ويمكن تلمس الروح الإيجابية والمرونة التي صار الحزب يخاطب بها القوى الوطنية في الدعوة المخلصة التي تنهي بها اللجنة المركزيه بيانها في تشرين الثاني 1955.  وقد جاء فيه: "إن اللجنة المركزية لحزبنا ترى أن التعارف والتقارب والاتفاق والتعاون بين القوى الوطنية هو أمر ممكن وضروري، وهو الطريق الوحيد لإحراز النصر...ومن جانبنا فإننا نرى من المفيد تماماً، ومن الممكن أيضا، إجراء اتفاقات حتى مع الذين لا يعارضون سوى وجه معين، من دون غيره، من وجوه السياسة السعيدية... وليس لدينا أقل ميل لفرض مناهجنا السياسية على الآخرين...إن إعادة النظر وتقليب صفحات الماضي ينبغي أن لا يكون معرقلا لوحدة النضال... إن طبيعة النضال الصادق الحازم ضد حكومة نوري السعيد تستلزم سيادة الروح الإيجابية العملية في علاقات القوى الوطنية... ومن وحدة عمل جميع هذه القوى، ومن الروح المتأهبة المقدامة لأوسع جماهير الشعب يجب أن نستمد الثقة بالنجاح". ( )
محاولة تشكيل قيادة موحدة لانتفاضة تشرين 1956
 وعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي، ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي. فقطع علاقاته الدبلوماسية مع فرنسا ولم يقطعها مع بريطانيا المعتدية، فزاد هذا الموقف من تأزم الأوضاع، فاجتمعت الأحزاب الوطنية والقومية، الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وعدد من الديمقراطيين المستقلين، لدراسة الموقف، فقررت تشكيل قيادة موحدة لقيادة النشاطات الاحتجاجية ضد العدوان وضد الحكم الرجعي. إلا أن تلك القيادة قد اعتقلت في مساء يوم تأليفها. وفي إطار النشاط الطلابي تكونت لجنة طلابية عليا للتضامن مع الشعب المصري. وقد أشرفت هذه اللجنة على تعبئة الطلبة وقيادة مظاهراتهم. ( )
يشير المكتب السياسي في تقريره الصادر في الأول من أيار 1957، المعنون "انتفاضة 1956 ومهامنا في الظرف الراهن"، إلى "انعدام الخطة الموحدة الواضحة في تحريك الجماهير خلال الانتفاضة. وأرجع الحزب ذلك إلى مواقف بعض الأحزاب الوطنية، التي  أدركت ضرورة العمل الموحد والخطة المشتركة، إلا أن هذه الخطوة جاءت متأخرة. مع ذلك أكد التقرير على أن الحاجة قائمة وملحة للجبهة الوطنية. وسيسعى الحزب، كما جاء في التقرير، بكل ما يملك من جهد لتحقيقها.
تحقيق الجبهة الوطنية الموحدة
أكدت انتفاضة تشرين لعام 1956 أن لا مناص من العمل الجبهوي، وأن تعاون الأحزاب الوطنية مع الحزب الشيوعي العراقي بات أمراً لا يمكن تجاهله لشعبية هذا الحزب والهيبة التي اكتسبها بفضل جهاديته. والأهم من ذلك أن قواعد الأحزاب الوطنية اطمأنت للتعاون مع الشيوعيين من خلال نضالاتهم اليومية. ولم تأت هذه القناعة اعتباطاً، وإنما نتيجة لأن الحزب قد أكد منذ قرارات اللجنة المركزية في عام 1955، والكونفرنس الثاني في عام 1956 وبعدها، على تجنب كل ما يسيء إلى سمعته من سلوك متياسر وانعزالي، وأن يعمل بحرص على تطوير أشكال التعاون مع القوى الوطنية الأخرى لما فيه مصلحة الشعب والبلاد.
ويذكر محمد حديد في حوار له مع مجلة "الثقافة الجديدة" العدد الرابع تموز عام 1969 ما يلي: "كانت اللقاءات تجري بين هذا الحزب أو ذاك، ثم استدعت بعض المواقف أن تجري مداولات بين هذه الأحزاب جميعا إلى أن تطور الأمر إلى تأليف جبهة وطنية فعلاً باتفاق الأحزاب الأربعة على منهج مشترك وتكوين لجنة عليا في شباط 1957 وأطلق عليها اسم (جبهة الاتحاد الوطني)". وفي 9 آذار 1957 صدر البيان الأول عن اللجنة العليا، وكان قد وضعه إبراهيم كبة. وقد تضمن البيان خمسة أهداف هي: 1ـ تنحية وزارة نوري السعيد وحل المجلس النيابي. 2ـ الخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع سياسة البلاد العربية المتحررة. 3ـ مقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي. 4ـ إطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية. 5ـ إلغاء الإدارة العرفية وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين والموقوفين السياسيين وإعادة المدرسين والموظفين والمستخدمين والطلاب المفصولين لأسباب سياسية. ويشير محمد حديد في كتابه، "مذكراتي... الصراع من أجل الديمقراطية في العراق" الصادر عام 2006، إلى أن المبادر إلى طرح فكرة الجبهة هو الحزب الشيوعي العراقي ممثلا بسكرتير لجنته المركزية الشهيد سلام عادل (حسين أحمد الرضي)، وأن محمد حديد اتفق معه على مفاتحة حزب الاستقلال بموضوع إقامة الجبهة، على أن يتولى سلام عادل مفاتحة حزب البعث العربي الاشتراكي.
 لم تضم الجبهة الحزب الديمقراطي الكردستاني، لذلك قام الحزب الشيوعي العراقي بعقد اتفاق ثنائي معه على أهداف جبهة الاتحاد الوطني ذاتها. وظل موضوع أسباب استبعاد الكردستاني محل أخذ ورد بين من كتبوا عن الموضوع. وظهرت أخيراً شهادة ذات وزن ثقيل تضع النقاط على الحروف. يقول محمد حديد في صفحة 295 من كتابه، الذي سبق وأن أشرنا اليه، بهذا الصدد ما يلي: "اتصلت في اليوم التالي (من لقائه بسلام عادل) بالسيد محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال...وأخبرته عن موضوع لقائي بسلام عادل، فأبدى محمد مهدي اقتناعاً بالفكرة (فكرة إقامة جبهة وطنية)، من حيث المبدأ، إلا أنه أخبرني أنه يريد العودة إلى جماعته ليتداول في الأمر. وفي ما يتعلق بالأكراد أخبرني محمد مهدي كبة أنه من حيث المبدأ ضد الفكرة، لأنهم في حزب الاستقلال، لا يحبذون توجه الأكراد في مغالاتهم بالقومية الكردية إلى حد الانفصال عن الكيان العراقي، الذي يعمل بدوره على الانضمام إلى كيان عربي أكبر". (خط التشديد غير موجود في الأصل. جاسم).
وكان لإعلان قيام الجبهه وميثاقها صدى ايجابي واسع بين صفوف الشعب، ورفع معنويات المناضلين وكانت القاعدة السياسية التي لا غنى  عنها لانتصار ثورة 14 تموز المجيدة. لقد بذل الحزب الشيوعي العراقي جهوده لجمع شمل الجبهة بعد الثورة ولكن جهوده لم تفض إلى نتيجة، فقد تبدلت الظروف وتغيرت الأحزاب ومصالحها وأهدافها الملحة وأساليب تحقيق تلك الأهداف وبات الطرق على هذه القضية كالطرق على حديد بارد.

_______________________________
  - الحلقة الثانية من مقال نشر في العدد 364 من مجلة "الثقافة الجديدة" الصادرة في آذار 2014، ضمن ملف بمناسبة الذكرى الثمانين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي. وكان الموضوع محور ندوة في لندن أقامتها منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا في 13 آذار 2014 لنفس المناسبة واستضافة به الكاتب.

   - مذكرات كامل الجادرجي ص 637.

   - جريدة "القاعدة" العدد 10، السنة 13، أواسط تشرين الثاني 1955. أنظر عزيز سباهي، مصدر سابق، الجزء الثاني، ص 167،178.

   - راجع سباهي، مصدر سابق، ص301 وما يليها.



33
تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مجال
التحالفات السياسية ودروسها  (1934-2014)
(1-3)


جاسم الحلوائي
محاولة تعريف
إن التحالف السياسي هو اتفاق بين أحزاب أو مجموعات أو شخصيات سياسية مستقلة على برنامج سياسي ويمكن أن يكون اقتصادي واجتماعي أيضاً، أو الاتفاق على قضية سياسية محددة. وعادة ما يكون الاتفاق بين قوى متقاربة سياسياً وذات مصلحة مشتركة في الاتفاق. إن الاتفاق على برنامج سياسي لابد وأن يستهدف تغييراً، جزئياً أو كلياً، في طبيعة السلطة، أو تغييراً ملموساً في توازن القوى يخدم الهدف المذكور ويوفر إمكانية تحقيق البرنامج المتفق عليه. ويفرض التحالف التزام المشتركين بالاتفاق وبما يتخذه من قرارات، ومن حق أطرافه الاحتفاظ باستقلالها السياسي والفكري والتنظيمي. ومن ضمانات نجاح أي تحالف سياسي امتداده للقواعد الشعبية للأحزاب والقوى المتحالفة ورفضه تدخل الدول والقوى السياسية الخارجية في شؤونه الداخلية.
إن التحالفات السياسية تفرضها الظروف الموضوعية، حيث أن هناك طبقات وفئات اجتماعية مختلفة المصالح في المجتمع، وعادة ما يجمع بعضها في هذه المرحلة أو تلك من تطور المجتمع أهداف مشتركة وأن تحالفها يعزز موقعها في الصراع من أجل تحقيق أهدافها. فالعمل ضمن مجموعة هو أقوى من العمل على انفراد. فالفرد في المجموعة هو أقوى من أن يعمل لوحده، بشكل عام. وما ينطبق على الفرد ينطبق على الأحزاب والقوى السياسية أيضاً. والتحالف فضلاً عن كونه يجمع وينسق بين القوى المتحالفة ويركز على هدف معين تحدده قيادة التحالف، فهو يشجع فئات من خارج التحالف أن تعمل على تحقيق ذلك الهدف أيضاً.
وتبعاً لذلك فان التحالفات السياسية، كنهج سياسي، قضية ثابتة في سياسة الحزب الشيوعي العراقي ونجدها في كل برامجه ويكافح من أجل تحقيقها، ولكن ليس بأي ثمن كان.
وقبل الولوج في  تجربة الحزب الشيوعي العراقي في هذا الميدان بودي إلقاء نظرة تاريخية سريعة على مكانة هذه القضية في سياسات الحركة الشيوعية العالمية تجاه البلدان المستعمرة والتابعة، فالحزب الشيوعي العراقي جزء من هذه الحركة وكان عضواً في الأممية الشيوعية (الكومنتيرن) التي انحلت في عام 1942.
كانت سياسة الأممية الشيوعية (الكومنتيرن)، التي تأسست في عام 1919، تجاه البلدان المستعمرة والتابعة في مؤتمراتها العالمية الأولى تقوم على أساس دعم الحركات الوطنية التي كانت تخوض النضال ضد الامبريالية وتدعو إلى الجبهة المتحدة المعادية للامبريالية. ولكن في مؤتمرها العالمي السادس في موسكو في صيف العام 1928، تخلى الكومنتيرن عن سياسة "الجبهة المتحدة المعادية للامبريالية"، وتبنّى سياسة "طبقة ضد طبقة"، التي انطوت على موقف انعزالي من البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمرة والتابعة. وطرح المؤتمر أمام الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان مهمات "يسارية"، مثل مهمة " إنجاز الثورة الزراعية" و" إقامة حكومة العمال والفلاحين"، كخطوة على طريق  "ديكتاتورية البروليتاريا".
وقد انعكس هذا التوجه اليساري الانعزالي على سياسة الحزب الشيوعي العراقي، وهو في بداية تأسيسه، فدعت جريدة الحزب "كفاح الشعب"، في عددها الثالث الصادر في آب 1935، إلى النضال من أجل "تركيز السلطة في أيدي العمال والفلاحين ومن أجل إطلاق الثورة الاجتماعية،بلا تأخير، في كل مجالات الحياة الأخرى وتحرير الناس من أشكال الخضوع المتنوعة". 
(  )

وجدير بالإشارة أن هذه الدعوات اليسارية الانعزالية صدرت في الوقت الذي تخلى الكومنتيرن، في مؤتمره السابع المنعقد في تموز 1935، عن سياسة مؤتمره السادس المتمثلة بشعار "طبقة ضد طبقة" وتبنى شعار الجبهات الشعبية ضد الفاشية والحرب والجبهات الوطنية في المستعمرات. وتخلى الحزب الشيوعي العراقي عن تلك السياسة الانعزالية في حينه أيضاً.
وظلت الحركة الشيوعية العالمية بعد حل الكومنتيرن تدعو إلى الجبهات الوطنية والوطنية الديمقراطية من على منابرها ومؤتمراتها العالمية لبلدان "العالم الثالث".
لم تطرح أسلاف الأممية الثالثة (الأممية الشيوعية)، الأممية الأولى والثانية قضية التحالفات السياسية لا في البيان الشيوعي ولا في وثائقها الأخرى. لقد طرح كارل ماركس تحالف العمال الطبقي مع الفلاحين بعد تجارب الثورات في وسط أوربا في عام 1848 وتجربة كومونة باريس في عام 1871، وشبّه الفلاحين بالجوقة التي بدونها يتحول غناء الطبقة العاملة المنفرد في جميع البلدان الفلاحية إلى غناء طير التّم (غناء الاحتضار). وطبّق البلاشفة بقيادة لينين مقولة ماركس في روسيا وطوّروها بما يتناسب وظروف عصرهم وبلدهم، وتحولت مقولة تحالف العمال والفلاحين إلى قضية مبدأيه في سياسة الأحزاب الشيوعية في البلدان الفلاحية. ولهذا التحالف مستلزمات، تختلف كثيراً أو قليلاً من بلد لآخر ومن مرحلة لأخرى وأعتقد بأنها تحتفظ بحيويتها، من حيث المبدأ، لحد الآن، بالنسبة للأحزاب الشيوعية في البلدان النامية. وهذه المستلزمات وباختصار: 1- امتلاك الحزب برنامج زراعي يعبر عن حاجات المرحلة التاريخية. 2- موقف صحيح من مختلف مراتب الفلاحين. 3- وجود تنظيمات حزبية في أوساط الفلاحين. 4- دعم المنظمات الديمقراطية والتعاونية في الريف. 5- قيادة النضالات المطلبية للفلاحين.
( )

الجبهة الوطنية الموحدة: طريقنا وواجبنا التاريخي
بعد إعادة تأسيس الحزب بقيادة الرفيق فهد وبالارتباط مع محاولة الحزب للحصول على إجازة العمل لحزب قانوني كواجهة له في عام 1942، شرع الحزب بالدعوة إلى الجبهة الوطنية الموحدة. وكثف نشاطه في هذا الميدان حين شرعت الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني بكتابة الرسائل والمذكرات واقتراح المشاريع للأحزاب الوطنية الديمقراطية. وقد أنيطت مهمة العلاقات الوطنية بالرفيق صارم (حسين محمد الشبيبي) الذي كتب أول دراسة عراقية شاملة حول الجبهة تحت عنوان: " الجبهة الوطنية الموحدة: طريقنا وواجبنا التاريخي" وقد تحولت الدراسة إلى كراس قدم له الرفيق فهد. إن العنوان يشير بوضوح  إلى أن الدعوة للجبهة لم تكن تكتيكا طارئا بالنسبة للحزب بل نهجاً سياسياً ثابتاً تمليه ظروف موضوعية تاريخية. مع ذلك ظلت القوى الديمقراطية تتجاهل دعوات الحزب وتطالب بتوحيد الأحزاب في حزب واحد، مما اضطر الشبيبي إلى التوقف طويلاً لمعالجة هذه القضية، بمنهج علمي رصين على غرار معالجاته للقضايا الأخرى، ومما جاء فيها:
"...أما الآن فقد دخل العراق في مرحلة تبلورت فيها المصالح الطبقية وخبرت الجماهير الشعبية خلال نضالها مواقف الطبقات المتملكة، فالأمر يختلف فهذه الطبقات المتملكة ومنها البرجوازية الحرة تناضل "متى ما وجدت الظروف الملائمة للنضال" أي متى ما اقتضت ذلك مصالحها وتترك النضال وتصفي منظماتها متى ما تهددت مصالحها وهي لا تكتفي بترك النضال وحدها بل تصر على العناصر الواعية وعلى الجماهير الشعبية بوجوب ترك النضال إلى حين تنهض البرجوازية مرة أخرى، أي إلى حين ترى الطبقات المتملكة أن النضال في مصلحتها وقد دلتنا على هذه الحقيقة مواقف هذه الطبقات في النضال الوطني عندنا. إنها بعد أن حصلت على المعاهدة العراقية الانكليزية عزلت أحزابها وحرمت على الغير تأليف الأحزاب والنقابات بحجة أن الوقت لم يحن بعد لتأليف الأحزاب، فحزب واحد لجميع الديمقراطيين (بزعامة البرجوازية الحرة والمثقفين المرتبطين بها) من السهل أن يقضى عليه متى وجدت قيادته أن المصلحة - مصلحتها- تقتضي بحله كما حلت من قبل الأحزاب الوطنية ومن ضمنها جمعية الإصلاح الشعبي". 
( )

لجنة التعاون الوطني
كانت معاهدة 1930 الاسترقاقية المبرمة بين حكومتي بريطانيا والعراق مرفوضة من قبل القوى الوطنية العراقية وتكافح من أجل إلغائها. أما الفئة الحاكمة العراقية فكانت تسعى إلى تعديلها. في تشرين الثاني 1947 خرجت "القاعدة"، جريدة الحزب الشيوعي العراقي المركزية،  على الرأي العام بمقالة اتهمت فيها حكومة صالح جبر بإجراء مفاوضات سرية مع بريطانيا لإعادة النظر بالمعاهدة، وأردفت ذلك بمطالبتها بإسقاط حكومة صالح جبر. وكانت الأجواء قبل التاريخ المذكور مشحونة بتصريحات وتسريبات تشير إلى عزم الحكومة على تعديل المعاهدة. واستعداداً لمواجهة الأوضاع المقبلة أفلح الحزب في تكتيل القوى اليسارية في إطار (لجنة التعاون الوطني) في تشرين الأول 1947، وضمت اللجنة ممثلين عن الحزب الشيوعي العراقي، حزب الشعب، حزب رزكاري كرد والجناح اليساري من الحزب الوطني الديمقراطي، واختير كامل قزانجي لرئاسة اللجنة. وقد أشاد الرفيق فهد برسالة من سجنه في الكوت بتأليف اللجنة المذكورة وأوصى الرفاق بقيادتها وتوسيع نشاطها والحذر من تدخل الآخرين في شؤون منظما الحزب.
( )

لقد لعبت اللجنة المذكورة دوراً واضحاً في وثبة كانون المجيدة في بغداد وخاصة في أوساط الطلبة حيث شكلت لها لجنة في هذا الميدان، ولم تنخدع بمناورات الوصي التي أدت إلى انسحاب الأحزاب الوطنية المؤقت من الوثبة وهي في ذروتها. وقد انفرط عقد (لجنة التعاون الوطني) بعد انتصار الوثبة بإسقاط حكومة صالح جبر ومعاهدة بورت سموث.
لجنة الارتباط
أسهم الحزب الشيوعي مع الأحزاب الوطنية الأخرى في الدعوة إلى الإضرابين السياسيين اللذين حصل الأول في 14 تشرين الأول 1951، تأييدا لنضال الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني. والثاني في 19 شباط 1952 احتجاجا على اتفاقية النفط (المناصفة) الذي عقدتها الحكومة العراقية مع شركات النفط الأجنبية. وقد شمل الإضراب الأخير عدداً من المدن ورافقته تظاهرات واصطدامات عنيفة مع البوليس. وكان للتعاون بين القوى السياسية الوطنية خلال الإضراب الأخير خصوصاً أثره في تكوين لجنة الارتباط بين الأحزاب الوطنية في 17 تشرين الثاني 1952، التي شارك فيها الحزب الشيوعي من خلال حركة أنصار السلام، دون ذكر اسمها صراحة، وكان يمثلها عامر عبد الله وعبد الوهاب محمود، إلى جانب حزب الجبهة الشعبية الموحدة والوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال. لقد لعب طلبة القوى المذكورة دوراً فعالاً في إطلاق شرارة انتفاضة تشرين الثاني 1952 التي انطلقت من كليات الطلبة في بغداد واختفى دورها ميدانياً بعد تطور الانتفاضة وهيمنة الحزب الشيوعي على قيادتها وانفراده بقراراتها، وانحلت بانتهاء الانتفاضة.
(  )




34
رد على الأستاذ جاسم الزيرجاوي
جاسم الحلوائي
لست بصدد التوقف عند تفاصيل مقال السيد جاسم الزيرجاوي المنشور في الحوار المتمدن في 22 آذار 2014 تحت عنوان "جاسم الحلوائي و دكتاتورية البروليتارية"  في البداية، أنا أيضاً أتمنى له الصحة والعمر المديد، وكنت أتمنى أن يتجنب السخرية والاستخفاف في المناقشات الجدية وأن لا يفيض بالإكثار من اقتباسات الكتب للظهور بأنه الأفهم بين الجميع، وقد وصل به الأمر بأن يقول وبكل صراحة ما يلي:
" مع الأسف الشديد لم يعرف الأستاذ جاسم معنى ديكتاتورية البروليتارية, بالمفهوم الماركسي لها, وأكاد اجزم ان حشع منذ 1934 ولحد اليوم لم يعرف معنى ديكتاتورية البروليتارية,بالمفهوم الماركسي, نعم الاستاذ و حشع يعرفونها, بصيغتيها اللاتينية والمعربة, كمصطلح كما ورد في المقال". (خط التشديد مني. الحلوائي). إن الزيرجاوي يعتقد بأنه الوحيد الذي يفهم معنى دكتاتورية البروليتارية، في حين أن جميع الشيوعيين بدءاً من  الرفيق فهد وحسين الشبيبي وزكي خيري وعزيز شريف ويوسف زلخا ويعقوب مصري وجيلهم، وسلام عادل وعامر عبدالله وجمال الحيدري و رحيم شريف ومحمد حسين أبو العيس ونزيهة الدليمي وجيلهم، و المئات من الكوادر الحزبية التي درست في المعاهد الماركسية اللينينية، ومئات المثقفين من أعضاء الحزب الذين نالوا أعلى الشهادات في العلوم الاجتماعية والاقتصادية من أشهر الجامعات والمعاهد العالمية مثل صفاء الحافظ وصباح الدرة وكاظم حبيب ورائد فهمي وحميد مجيد، و العديد من المثقفين والكتاب البارزين مثل عبد الرزاق الصافي ورحيم عجينة وبشرى برتو وعادل حبه وكامل شياع ومفيد الجزائري ورضا الظاهر وحسان عاكف وسلم علي وهادي محمود وعزيز سباهي وصالح ياسر ومهدي جابر مهدي (سامي خالد) وغيرهم، كل هؤلاء وغيرهم كثيرين من قادة الحزب وأعضائه لم يفهموا معنى دكتاتورية البروليتارية. فلم يفهم محتوى هذه المقولة سوى الزيرجاوي. ولا أود أن أحكم على هذا الادعاء، وأترك الحكم للقارئ اللبيب.
وبعد ادعائه ذاك يطرح السؤال التالي: ما هي ديكتاتورية البروليتارية؟ لم يضع الكاتب الزيرجاوي بأيدينا سوى مقتطفات من كتب ماركس درسناها ومرت بنا عشرات المرات بمختلف اللغات الأجنبية فضلاً عن العربية.
وعندما وصل إلى لينين أثبت السيد جاسم بأن أي شيوعي عراقي قد مر بمدرسة حزبية في أي بلد اشتراكي أو أي شيوعي دخل مدارس الحزب في الوطن يفهم دكتاتورية البروليتارية أفضل من جاسم الزيرجاوي، لأن جميعهم درسوا كتاب لينين "خطتان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية " يقول الأستاذ جاسم الزيرجاوي:
"لينين و ديكتاتورية البروليتارية:
مع لينين سارت الامور بطريقة مختلفة. في عام 1905 واثناء النقاش عن مسألة تحالف البروليتارية و الفلاحين , فقد صاغ لينين، مفهوما مركبا هو ( الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للبروليتارية و الفلاحين ) للدلالة على الاسلوب الخاص بالبلشفية على عكس المناشفة ..".
إن هذا الشعار ونصه الدقيق هو: "دكتاتورية البروليتارية والفلاحين الديمقراطية الثورية"، هو ليس مفهوماً مركبا لدكتاتورية البروليتارية، وإنما هو الشعار السياسي الاستراتيجي للبلاشفة في مرحلة الثورة الديمقراطية وليس في مرحلة الثورة الاشتراكية. وعنوان الكتاب الذي يحوى المناقشة مع المناشفة صريح وهو، كما ذكرت، "خطتان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" حيث يشير لينين فيه إلى ما يلي:
"غير أن هذه الدكتاتورية لن تكون بكل تأكيد دكتاتورية اشتراكية، بل دكتاتورية ديمقراطية، وهي لن تستطيع مساساً بأسس الرأسمالية (دون جملة كاملة من المراحل الانتقالية في التطور الثوري) إنما تستطيع في أفضل الأحوال توزيع الملكية العقارية توزيعاً جديداً جذرياً لصالح الفلاحين، وتطبيق الديمقراطية التامة ... فهذا الانتصار لا يجعل من ثورتنا البرجوازية ثورة اشتراكية بأي شكل من الأشكال".  المصدر: لنين المختارات في عشر مجلدات، المجلد الثاني. دار التقدم- موسكو، 1975، ص 449.


وهكذا فإن الزيرجاوي الذي لا يميز بين دكتاتوريتين تختلفان نوعياً، الأولى ديمقراطية لانجاز الثورة الديمقراطية جذرياً، والثانية دكتاتورية البروليتارية لإنجاز الثورة الاشتراكية، مع ذلك يدعي إدعائه الاستفزازي المذكور أعلاه.
لا أود الاسترسال في مناقشة الكاتب في أمور هي بعيدة عن ما يشغل بال العراقيين. وسأكتفي بهذا القدر. ونظراً لحصول تشوش في استشهادات السيد جاسم الزيرجاوي بمقالي فنسب نصوصاً لي وهي من وثائق الحزب، وأخذ أجزاء وترك أجزاء أخرى منها، تلك التي تبين طريق الحزب الشيوعي العراقي إلى الاشتراكية، فإني أضع رابط مقالي هنا لإزالة التشويش.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=406672
ويجد القارئ في مقالي النص الكامل وغير المجزأ حول طريق الحزب الشيوعي العراقي إلى الاشتراكية، وأعتقد بأنه تطبيق مبدع وعصري للماركسية على ظروف بلادنا بعيداً عن الجمود العقائدي والنصية. وما مطروح قابل للتدقيق والإغناء، فالقضية مطروحة للنقاش عالمياً.



35
لمناسبة مرور عشرين عاماً على انعقاد المؤتمر الوطني الخامس للحزب الشيوعي العراقي
مؤتمر الديمقراطية والتجديد (1993)
منعطف مصيري في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي
جاسم الحلوائي

عقد الحزب الشيوعي العراقي، منذ تأسيسه في عام 1934 حتى مؤتمره الثامن المنعقد في أيار 2007، ثمانية مؤتمرات، هذا فضلا عن العديد من الكونفرنسات، وجميعها لا تخلو من جديد بحكم حركة الواقع المتغير والمتجدد دوماً وباستمرار، ولكن لم ينل أي منها تسمية "مؤتمر الديمقراطية والتجديد"سوى المؤتمر الخامس المنعقد في عام 1993. وسيبقى هذا المؤتمر علامة مضيئة ومنعطفاً مهما في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. لقد حرر هذا المؤتمر الحزب من الجمود العقائدي والنصية، وأنقذه من أزمة شاملة كادت تعصف بمصيره. كان المؤتمر بمثابة ثورة على "المسلّمات" المكبلة لعقل الحزب وتفكيره. لقد أدت نتائج المؤتمر إلى تغيير طبيعة الحزب وطريقة تفكيره. وبات الحزب، كما أعتقد، أدق فهماً للمنهج العلمي المادي الديالكتيكي في تناول مختلف الأمور التي واجهته وتواجهه. وتستحق مجلة "الثقافة الجديدة" التثمين على مبادرتها إلى الاحتفاء بيوبيلية هذا المؤتمر، حيث تمر في تشرين الأول من هذا العام الذكرى الخامسة عشر لانعقاده.
ومن الملاحظ أن الكتابات التي تناولت هذا المؤتمر لم تعطه حقه كاملا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أن الرفيق عزيز سباهي، الذي تولى مشكوراً مهمة كتابة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، يكتب بعد مرور أكثر من عشر سنوات على انعقاد المؤتمر المذكور ما يلي: " أتيحت للمندوبين الأجواء التي تساعد على المكاشفة وحرية النقد. لذلك أطلق على المؤتمر اسم"مؤتمر الديمقراطية والتجديد" (1). مع عدم إهمال السبب الذي يذكره سباهي، إلا أن هذا ليس هو السبب الجوهري في هذه التسمية، فسبب التسمية أعمق بكثير من ذلك. فقد جدّد الحزب أيديولوجيته في هذا المؤتمر. وفي الوقت الذي ظلّ الحزب متمسكاً بخياره الاشتراكي كهدف بعيد، فإنه صحح هويته ومرجعيته الفكرية. وتحوّل الحزب من حزب شديد المركزية ذي ضبط حديدي إلى "حزب ديمقراطي من حيث جوهره وأهدافه وبنيته وتنظيمه ونشاطه، ومن حيث علاقاته بالقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى"، كما نص على ذلك في مقدمة نظامه الداخلي الجديد الذي أقره المؤتمر، هذا فضلا عن تجديد قيادته، بما في ذلك الشخصية الأولى في الحزب، ومصادقته على تشكيل الحزب الشيوعي الكردستاني ـ العراق.
وتأسيساً على ذلك فإن هناك ضرورة لنظرة تاريخية تلقي الضوء على أبرز الأسباب التي دعت إلى أن يُطلق على المؤتمر الخامس اسم"مؤتمر الديمقراطية والتجديد". وسيكرس هذا المقال لشرح ذلك، إضافة إلى كيفية حصول التجديد والولادة العسيرة التي مرت به وأبرز نتائجه.

***
تأخرت قيادة الحزب الشيوعي العراقي كثيراً في تحليلها للبريسترويكا. ولم ترصد قيادة الحزب ما كان يجري في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى، كي تُراجع أوضاع الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية ومجمل نشاطه العام، إلا بعد أن أخذت الأنظمة الاشتراكية بالانهيار في نهاية ثمانينات القرن الماضي. وقبل الدخول في مديات تأثير كل ذلك على الحزب، نلقي الضوء بشكل مرّكز على الأوضاع الصعبة والمعقدة التي كان يعيشها الحزب خلال الفترة التي ظهرت فيها البريسترويكا حتى ولوج الحزب درب التجديد.

كان الحزب الشيوعي العراقي يعيش، شأنه شأن جميع الأحزاب الشيوعية الأخرى، أزمة فكرية وتنظيمية منذ أمد بعيد. وكان الحزب بأمس الحاجة إلى التجديد والديمقراطية. ولم يتمكن المؤتمر الرابع ( تشرين الثاني 1985) من القيام بتلك المهمة والبريسترويكا لم تكن قد بلغت أسماعه أو دقت بابه بقوة بعد. فالمؤشرات الأولى للبريسترويكا طرحت في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي في عام 1984، أما في اجتماعها المنعقد في نيسان 1985 فقد تصدت إلى مراجعة المسيرة الماضية لبناء "الاشتراكية" بروح انتقاديه أكثر جرأة وصراحة. فقد أشارت الوثيقة الصادرة عن هذا الاجتماع إلى أنه قد جرى باسم الاشتراكية والبناء الاشتراكي، التجاوز على القوانين الموضوعية لتطوّر المجتمع والدعوة إلى استباق الزمن وحرق المراحل وفرض الاشتراكية بأوامر إدارية فوقية، دون مراعاة مستويات النضج المادي والروحي للمجتمع. وكل هذا يُشّكل خروجاً على الاشتراكية العلمية التي نادى بها ماركس.

لقد عانى الوضع التنظيمي للحزب الشيوعي العراقي في أعقاب المؤتمر الوطني الرابع، كما يشير إلى ذلك التقرير السياسي والتنظيمي المقدم إلى المؤتمر الخامس (1993)، صعوبات جمة شأنه في ذلك شأن كل مجالات عمل الحزب الأخرى، وبدرجات متفاوتة من قطاع إلى آخر، سواء في داخل الوطن أو في العمق أو في كردستان وفي الخارج. ويعود ذلك إلى الإرهاب وتصاعد وتائره وما رافقه من ركود فكري، و"ضعف المتابعة لمجريات الواقع الموضوعي، وما سببه من عدم استقرار المنظمات واضطراب حياتها التنظيمية وشللها أحياناً، إضافة إلى هجرة الكادر وتناقص الإمكانيات المالية. وجاء انحسار الحركة الأنصارية، كما يشير التقرير المذكور، في صيف 1988 في أعقاب حملتي الأنفال الأولى والثانية وتشديد الإرهاب في كردستان وسائر أنحاء الوطن، واضطرار أعداد كبيرة من الرفاق والكوادر إلى الابتعاد عن ساحة النضال ليزيد من الصعوبات التي يواجهها الحزب باستعادة كيانه الذي أثخن بالجراح طيلة ما يزيد على عشر سنوات.

وشهدت منظمات الحزب خارج الوطن في تلك الفترة، وفقاً للتقرير المذكور، اضطراباً شديداً في عملها جراء عوامل عديدة، وخصوصاُ في الجانب الفكري والإحباط الناجم عن تراجعات الحركة الشيوعية العالمية والوضع غير الطبيعي الذي عانت منه لجنة تنظيم الخارج وعدم استقرارها والذي وصل بعض الأحيان إلى حالة قريبة من الشلل (*).

ويضاف إلى كل ذلك النواقص الذاتية الخطيرة في الهيئات القيادية للحزب "بدءاً باللجنة المركزية ومكتبها السياسي، التي تمثلت في بعض الأساليب والإجراءات التنظيمية الخاطئة وفي عجزها عن معالجة الكثير من الظواهر غير الصحيحة في حياة الحزب وما سببه ذلك من انعكاسات سلبية على حياة المنظمات وعلى عدد ليس بالقليل من الرفاق والكوادر الحزبية" (2) .

يضاف إلى تلك الصعوبات أيضاً التخريب الذي مارسته عناصر قيادية خرجت على الحزب في أوائل وأواسط الثمانينات، وواصلت نشاطها وتبشيرها بمواقفها الاستسلامية الداعية إلى التهادن مع الدكتاتورية في صحيفتها "المنبر"، ويرددها من ارتضى التسيب في صفوف الحزب. كل ذلك أحدث بلبلة وتشويشاً، غذته أجواء الإحباطات التي سادت في الحركة الشيوعية وحالة الجزر التي كانت تعاني منها الحركة الثورية والأزمة التي يعاني منها الحزب.

ولا يمكن أن ننسى تشتت كوادر الحزب بين الداخل الذي يعيش في ظل الدكتاتورية، والجبل المنعزل إلى حد كبير، والمنافي البعيدة والقريبة، كظرف غير مساعد لعملية تتطلب توحيد الطاقات وتفاعل فكري جماعي لمواجهة انعطاف خطير في حياة الحزب.

ومع كل تلك الظروف الموضوعية غير المؤاتية للشروع في تجديد الحزب، فقد كان هناك قصور ذاتي لا يمكن التغاضي عنه. فلقد تخلفت قيادة الحزب عن استيعاب مغزى البريسترويكا. ففي اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في عام 1988 ، أي بعد ثلاث سنوات من الشروع بها، جرى التطرق إلى البريسترويكا بشكل عرضي. وفي اجتماعها في آذار 1989 توقفت اللجنة المركزية عندها دون أن تتفاعل مع جوهرها رغم انهيار عدد من الأنظمة "الاشتراكية". ولكن كل ما كان يحيط بالحزب يشير إلى عدم إمكانية الاستمرار على ذلك الوضع، وباتت دراسة وضعه بعمق وإجراء مراجعة شاملة لأيديولوجيته وبرنامجه ونظامه الداخلي وخطابه السياسي وقيادته، أمر لا يقبل التأجيل ويتوقف عليه مصير الحزب اللاحق.

وتبعاً لذلك، وفي نشرة عممها المكتب السياسي في أيلول 1989، تمت دعوة منظمات الحزب والرفاق المعنيين إلى المساهمة مع قيادة الحزب في سعيها لإعادة صياغة الوثائق البرنامجية للحزب وتدقيق المفاهيم وتطوير استنتاجات الحزب وحصيلة تجربته النضالية. واتخذ هذا المسعى للتجديد، كما تشير وثائق المؤتمر الوطني الخامس، منحى أكثر ملموسية في آذار 1990، إذ طرحت اللجنة المركزية تقريرها "في سبيل استنهاض قوى الشعب لتحقيق السلم والبديل الديمقراطي"، للمناقشة في منظمات الحزب. ومما جاء في هذه الوثيقة ما يلي:

" وفي هذا الإطار شرع المكتب السياسي للحزب منذ دورته في أيلول 1989 بإعادة تقييم وضع الحزب وحياته الداخلية على أرضية إشاعة أوسع ديمقراطية فيها بما يرفع دور الشيوعيين في رسم سياسة الحزب وإبداعهم في تطبيقها، وقدرتهم على تقويمها وتصويبها، وتعديل مسارها، ومتابعة عمل قيادة الحزب وانتخابها، وحجب الثقة عنها عند الضرورة، وتجديدها باستمرار". وتذهب الوثيقة إلى أبعد من ذلك لتقول: "إن الواقع الذي آلت اليه الأوضاع في بلدان أوربا الشرقية "الاشتراكية" والأشواط التي قطعتها (البريسترويكا) لإعادة البناء في الاتحاد السوفييتي، على مختلف الصعد والميادين، جعلت من الضروري تجاوز العموميات، والانتقال إلى التحديات الملموسة لمفاهيم التجديد، خصوصا فيما يتعلق بتفاعل الحزب مع جوهرها واستنتاجاتها الجديدة، والأخذ بنظر الاعتبار تأثيراتها المباشرة على الوضع في العراق، ومحيطه العربي والإقليمي".

كما جاء فيها أيضاً "إن إقرار حزبنا بالظروف الموضوعية التاريخية لعملية التجديد وطابعها الشمولي الخلاق، ينطوي على وعي المخاطر التي تحيطها وتلازمها، وتناقضاتها، والعوامل التي تتحكم بمجراها، وتكبحها أو تغيّر وجهة جريانها، مما يستلزم التأكيد على قيم الاشتراكية أفضلياتها" (3).

وتواصل هذا المسعى في اجتماع اللجنة المركزية في أيلول 1991 الذي اقر فيه مشروعا الوثيقة البرنامجية للحزب والنظام الداخلي. كما جرى التوقف عند موضوعة التجديد أكثر من مرة في عام 1992 ، وكان آخرها في النشرة الداخلية التي عممها المكتب السياسي في أعقاب اجتماع (ل.م) في تشرين الأول 1992. وتتوجت مساعي التجديد بعقد المؤتمر الوطني الخامس، مؤتمر الديمقراطية والتجديد، والذي سنتوقف عنده لاحقاً (4).
***
في إطار عملية التجديد، توقفت اللجنة المركزية في اجتماعها (آذار 1990) عند القضية الكردية، ولاحظت أن الحزب كان قد حدد موقفاً مبدئياً من القضية باعترافه بحق تقرير المصير للشعب الكردي، كما أقر بوحدة وطنه المجزأ. ومن هذا المنطلق كان الحزب قد صاغ شعار الحكم الذاتي لكردستان العراق في إطار جمهورية عراقية ديمقراطية. لكن الحكم الدكتاتوري عمد إلى تشويه هذا الشعار حين اضطر إلى التسليم به في السبعينات وما رافق ذلك من ممارسته الجائرة. لذلك أضاف الاجتماع إلى هذا الشعار صفة "الحقيقي"، ليصبح الشعار: "الحكم الذاتي الحقيقي". وعند دراسة دور منظمة الحزب في كردستان، دعا الاجتماع إلى تحقيق أقصى استقلالية لها في إطار الحزب الشيوعي العراقي، بما في ذلك وضع برنامجها ونظامها الداخلي وعقد مؤتمراتها وانتخاب لجنتها المركزية. بيد أن الاجتماع رفض إقامة حزب شيوعي كردستاني، باعتبار أن الحزب الشيوعي العراقي قد نشأ على أساس أممي، وسيظل هكذا.

وفي أيلول 1991 وفي أعقاب انتفاضة آذار المجيدة، وبعد إعلان منطقة كردستان شمال خط العرض 36 منطقة ملاذ آمن من قبل مجلس الأمن الدولي، تدارست اللجنة المركزية، كما يشير إلى ذلك التقرير السياسي والتنظيمي المقدم إلى المؤتمر الخامس (1993)، مستجدات القضية الكردية عند صياغة مشروعي برنامج الحزب ونظامه الداخلي، وقررت تبني شعار تطوير الحكم الذاتي وصولا إلى الفدرالية. ودعا الاجتماع إلى تحويل منظمة إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي إلى الحزب الشيوعي الكردستاني(العراق)، تقوده لجنة مركزية منتخبة في مؤتمر المنظمة ويضع برنامجه ونظامه الداخلي ويرسم سياساته وخططه في الشؤون الكردستانية ويطبقها بشكل مستقل، انطلاقاً من الخصوصية القومية التي يتمتع بها إقليم كردستان العراق والتطورات التي طرأت عليه بالاستناد إلى المنطلقات العامة لوثائق الحزب الشيوعي العراقي.

وأعار الحزب، كما جاء في نفس التقرير، اهتماماً كبيراً للقوميات والأقليات الأخرى، مؤكداً على ضرورة تمتعهم بحقوقهم القومية والإدارية والثقافية. وفي هذا الصدد يؤكد الحزب على دعمه الدائم لنضال الآشوريين والكلدان الذين يجمعهم تراث وتاريخ وأرض ولغة مشتركة، ويتوجه إليهم لتوحيد نشاطهم المشترك لنيل حقوقهم القومية المشروعة وتعزيز دورهم في المسيرة النضالية للشعب العراقي. كما يؤكد على دعمه لنضال التركمان من أجل حقوقهم القومية (5).

في صيف 1992 شهدت منظمة الحزب في الإقليم، نشاطاً ملحوظاً لوضع القرارات التي توصلت إليها اللجنة المركزية للحزب قبل عام، ولانتخاب المندوبين إلى المؤتمر الوطني الخامس الذي تقرر عقده آنذاك. وقد استغلت مجموعة ذات أفق قومي ضيق، العمل من جانبها للهيمنة على كونفرس أربيل، وقد جاء في التقرير السياسي والتنظيمي المقدم إلى المؤتمر الوطني الخامس في هذا الصدد ما يلي: " انشغلت بعض منظمات الإقليم وخاصة أربيل في صراعات فكرية بعد قرار حزبنا بتحريك شعاره حول القضية الكردية وتحويل منظمة الإقليم إلى حزب شيوعي كردستاني. ولم تخلُ هذه الصراعات من دوافع ذاتية وتداخلات خارجية لتأجيجها نحو أهداف تخريبية لشق منظمة الإقليم وإضعاف دورها. ومما يؤسف له، أن قيادة الإقليم لم تستطع إدارة الصراع بالشكل الذي يؤدي إلى تعزيز التوجهات الإيجابية وتطويق الاتجاهات الضارة وعزلها. وقد نتج عن ذلك مشاكل أثناء عقد كونفرنس أربيل وما تلاه من تداعيات أدت إلى خروج عدد من أعضاء المنظمة وتشكيلها تجمعات بمسميات عديدة رافعين راية العداء لمنظمة حزبنا في كردستان وسياسة الحزب تجاه القضية القومية الكردية. وتتحمل قيادة الحزب جزءاً من مسؤولية هذا الوضع لعدم متابعة منظمة الإقليم وتوجيهها لإدارة الصراع بشكل سليم واتخاذ الإجراءات الكفيلة لعدم تفاقم المشكلة" (6).

وأخيراً عقدت منظمة إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي مؤتمرها الثاني في أواخر حزيران 1993 وأقرت برنامج الحزب الشيوعي الكردستاني ـ العراق، والنظام الداخلي وانتخبت اللجنة المركزية للحزب. وبذلك انفتح الطريق واسعاً أمام استكمال التحضيرات لعقد المؤتمر الوطني الخامس وقد تم عقده في تشرين الثاني من نفس العام.

ما الجديد في المؤتمر الوطني الخامس ؟

أولاً: على الصعيد الأيديولوجي، لم تعد مرجعية الحزب الشيوعي العراقي وهويته الفكرية محصورة بالماركسية ـ اللينينية، فقد بات يسترشد (كما تشير وثائق المؤتمر الخامس، ص 100) بالماركسية، مستفيداً من سائر التراث الإنساني الاشتراكي و مستلهماً كل ما هو تقدمي في حضارة شعوب وادي الرافدين والرصيد النضالي لتاريخ شعبنا العراقي...الخ. وحذفت اللينينية، التي لم تكن موجودة في حياة لينين والتي أتى بها ستالين محولاً إياها إلى عقيدة جامدة. وبذلك تحرر الحزب من بعض استنتاجاتها التي لم تزكها الحياة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، افترض لينين إمكانية تطوير الثورة الديمقراطية بقيادة الطبقة العاملة ( أو بزعامتها) إلى ثورة اشتراكية دون توقف، حارقاً بذلك مرحلة تاريخية. وطبقت فرضيته في روسيا، و تحوّلت فرضيته إلى "نظرية"، يُتهم من يزوغ عنها بالانحراف. وفشل تطبيقها في الصين وفيتنام وكوريا، هذا فضلاً عن الجمهوريات السوفييتية الآسيوية وجنوب أوربا، لأن جميعها بلدان غير متطورة رأسمالياً.

لقد ظهر لاحقاً أن ما بُني في هذه البلدان لم تكن الاشتراكية الحقيقية التي حلم بها الاشتراكيون وتنبأ بها ماركس، لا من حيث إنتاجية العمل ووفرة الإنتاج ولا من حيث البناء السياسي والحضاري المتطور لتلك الأنظمة. والأنكى من ذلك أن هذه الأنظمة لم تكن قابلة للإصلاح، كأنظمة "اشتراكية"، فانهارت ما أن تم الشروع في إصلاحها. وظل ما تبقى من هذه الأنظمة يعيش حالة من الركود والتخلف سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أو عاد إلى طريق التطور الرأسمالي، كما هو الحال بالنسبة لفيتنام والصين بصرف النظر عن التسمية التي يطلقها الرفاق الصينيون على طريق تطورهم، وهي "اشتراكية السوق". وفرض هذا الطريق بالضرورة تغييرات في البنية السياسية، ففسح المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني (2002) المجال لانضمام رجال الأعمال وممثلي الفئات الرأسمالية الجديدة إلى الحزب باعتبارهم من القوى المنتجة! (7).

لقد تحدّث كارل ماركس عن الثورة الدائمة عندما نشبت في أواسط القرن التاسع عشر في وسط اوربا، وذلك في خطاب إلى "العصبة الشيوعية في نيسان 1850، ولكنه أخضع ذلك لتناسب القوى الاجتماعية، الذي لم يتغير تغيراً جذرياً في حينه وبالتالي لم تتمكن الثورة من الاستمرار، ولم يربط ماركس ذلك بتوفر أقلية نشطة قادرة على استلام السلطة بغض النظر عن نضوج الظروف..

ثانيا:ً على الصعيد الإستراتيجي. كانت "نظرية" تطوير الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية في صلب أيديولوجية الحزب الشيوعي العراقي. وعلى أساسها، وليس على أساس واقع العراق وظروفه الملموسة، وُضعت إستراتيجية للحزب تقضي بتطوير الثورة الوطنية الديمقراطية والتحول إلى الثورة الاشتراكية وذلك بإقامة "جمهورية ديمقراطية تلعب فيها الطبقة العاملة دوراً طليعياً وقيادياً". وأكد المؤتمر الوطني الرابع (1985) أيضاً على هذه الستراتيجية من حيث الجوهر.

لقد انتقد الراحل زكي خيري برنامج الحزب (الميثاق الوطني) في عهد الرفيق فهد والوثيقة البرنامجية التي صدرت عن الكونفرنس الثاني (1956) في عهد الرفيق سلام عادل، لعدم تبني الوثيقتين الشعار الإستراتيجي المذكور أعلاه (8). في حين يعترف الجميع بالإنجازات التي تحققت للحزب والوطن في عهدي الرفيقين فهد وسلام عادل بفضل البرنامجين المذكورين اللذين لم يحرقا المراحل ويمثلان تطبيقاً خلاقاً للماركسية على ظروف العراق.

لقد تحرر الحزب في مؤتمره الوطني الخامس من سياسة حرق المراحل، وحدد هدفه بإقامة نظام ديمقراطي فيدرالي موحد. ولم يطرح قضية النظام الديمقراطي هذه المرة كنظام عابر أو مؤقت، وإنما كنظام مؤسساتي، متخلياً بذلك عن مختلف الصيغ الديمقراطية التي تبناها في بعض مراحل تاريخه والتي تضفي على الديمقراطية صفة الثورية أو الشعبية أو الموجهة. فقد جاء في برنامج الحزب الذي أقره المؤتمر ما يلي: " سن قانون ديمقراطي لانتخاب مجلس تأسيسي للبلاد، يشرع دستوراً ديمقراطياً دائماً، يضمن فصل السلطات الثلاث واستقلالية القضاء، ويرسي الأسس القانونية لحياة ديمقراطية مستقرة وراسخة، وإجراء انتخابات ممثلي الشعب بحرية، وعلى أساس حق التصويت العام والمتساوي والمباشر لكل البالغين قانونياً، ذكوراً وإناثاً، وبالاقتراع السري. وانتخاب المجالس البلدية، وضمان إجراء انتخابات ديمقراطية للمجلس الوطني الكردستاني وعلى الأسس نفسها" (9) . هذه الصيغة عن النظام الديمقراطي تختلف عن الصيغ السابقة في برامج الحزب، وهي متجددة ومهمة جداً.

ثالثاً: إطلاق حرية التفكير والقبول بالتعددية الفكرية. فعلى هذا الصعيد توجه الحزب، كما جاء في وثائق المؤتمر، نحو فحص المقولات والمفاهيم النظرية انطلاقاً من نبذ الاستنساخ والنقل الآلي للتجارب، واستلهام المنهج الماركسي لمعاينة الواقع الموضوعي وتطوراته والواقع الملموس لنضال شعبنا ومشاكله وتقاليده وتراثه الثوري، والاستفادة من التجربة العالمية. وجاء في الوثائق أيضاً، ويمكن القول إننا نفهم مراحل التطور بطريقة أكثر وعياً بعيداً عن النزعة الارادوية. فقد أظهرت التجربة العالمية أن عملية التطور الاجتماعي أعقد مما كان يجري تصورها.

وفي الوقت الذي أكد المؤتمر على خيار الحزب الاشتراكي، فإنه اكتفى بتحديد المسار العام وتجنب الخوض في المسائل غير الآنية، والتنبؤات البعيدة. فمثل هذه التنبؤات بحاجة ماسة وجدية لتنشيط البحث العلمي لإغنائها عبر الاستفادة من الطاقات العلمية لرفاق الحزب وأصدقائه. كما يتطلب ذلك تعميق الدراسات حول ما يواجه الحزب من قضايا، مع القبول بالتعددية في الآراء واحترام الاجتهاد، وضمان حرية الاستنتاجات النظرية وحرية الرأي التي هي مستلزمات أساسية لأي بحث علمي.

رابعاً: الهوية الطبقية. عند تحديد الهوية الطبقية للحزب، تخلى المؤتمر عن كونه حزب يمثل الطبقة العاملة حصراً، وأقر بأنه حزب الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين وجميع شغيلة اليد والفكر. وتخلى الحزب عن الإشارة إلى سلطة الطبقة العاملة (دكتاتورية البروليتارية) والتحالف بقيادة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي. ولتأكيد هوية الحزب الوطنية، أشار المؤتمر إلى أن الحزب الشيوعي العراقي حزب وطني مستقل، يضع المصالح العليا للشعب والوطن فوق أية مصلحة أخرى. وأكد في فقرة ضافية على أممية الحزب (10).

خامساً: على الصعيد السياسي. سعى الحزب لتكون وجهته العامة متمثلة بالتمسك، أكثر من أي وقت مضى، بالواقعية السياسية وبالمرونة في التعامل مع الأحداث.... والسعي لتجنب الارادوية والجملة الثورية في صياغة الشعارات السياسية، ورسم المواقف والتكتيكات اليومية...الخ.
هذا على صعيد التجديد، أما على صعيد دمقرطة الحزب فيمكن الإشارة إلى ما يلي:
أولاً: سعى الحزب أن يتضمن نظامه الداخلي أحكاماً عديدة تفرض سيادة الديمقراطية في كامل نشاطه. فقد اعتمد مبدأ الانتخابات والترشيح الفردي، واعتمد مبدأ التصويت السري والفرز العلني للأصوات. ونص النظام الداخلي أيضاً على قاعدة إجراء المشاورات والاستفتاءات عند المنعطفات، وقلّص صلاحيات المكتب السياسي لصالح الدور الذي تلعبه اللجنة المركزية (ل.م). وتحول السكرتير العام للحزب إلى سكرتير (ل.م)، وزيدت اجتماعات (ل.م) . وأعطيت المنظمات الحزبية صلاحيات أوسع من ذي قبل، وقلص من التدرج الهرمي في التنظيم، وزيد من دور الكونفرنسات، وقلصت الفترة بين المؤتمرات (11).
وفي الوقت الذي أكد النظام الداخلي الجديد على وحدة الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية، فإنه أكد على حق الأقلية في مناقشة سياسة الحزب وشؤونه الداخلية والتعبير عن رأيها في القضايا الفكرية والسياسية والإعلان عنه في الصحافة الحزبية، على أن لا يعيق ذلك التزامها بتنفيذ هذه القرارات وبما لا يضر بسلامة الحزب.

ثانياً: أقر المؤتمر في بداية أعماله ولأول مرة نظام إدارة الجلسات، وانتخب هيئة رئاسة غالبية أعضائها من خارج (ل.م). وأصبح ذلك تقليداً في جميع المؤتمرات الكونفرنسات الحزبية على صعيد المركز والمنظمات الحزبية على حد سواء. وعرض لأول مرة في تاريخ الحزب على المؤتمر تقرير مالي يحدد موارد الحزب المالية ومصادرها وأوجه صرفها، لدراسته وإقراره. وصادق المؤتمر على تكوين الحزب الشيوعي الكردستاني ـ العراق، وعلى ترتيب شكل علاقته بالحزب الشيوعي العراقي.

ثالثاً: جرى انتخاب اللجنة المركزية وفقاً للنظام الداخلي الجديد على أساس الترشيح الفردي. وقدم كل مرشح وبدون استثناء معلومات عن نفسه، وخضع للمساءلة والتقييم، سلباً أو إيجاباً، من قبل المندوبين. وكانت بعض ملاحظات وانتقادات المندوبين لبعض المرشحين شديدة ولكنها في إطار اللياقة والأدب. ولم يفز بعض المرشحين جراء الانتقادات التي وجهت لهم. كانت نتيجة الانتخابات هي أن شكّل الرفاق الجدد ما يقارب نصف قوام (ل.م) الجديدة. وقد امتنع ما يقارب نصف أعضاء اللجنة المركزية القديمة عن ترشيح أنفسهم، وغالبيتهم بدافع الرغبة في إفساح المجال أمام عملية التجديد.
***
وهناك حادث له مغزى معين حصل في المؤتمر لم يتطرق اليه من تحدث عن هذا المؤتمر أو كتب عنه، وهو أن شعار رفع الحصار الاقتصادي عن العراق، لم يكن متضمناً ، في بدء المؤتمر، لا في الشعار الرئيسي للمؤتمر ولا كشعار مستقل بأية صيغة من الصيغ في قاعة المؤتمر، مع أن عشرات الشعارات كانت تزين القاعة. وما أن طرح التقرير السياسي للمناقشة، وكانت المادة الأولى في جدول العمل بعد المقدمات والإجراءات الأصولية، حتى فتح النقاش حول الموضوع. و طرح موضوع الحصار الاقتصادي، وتحمس لرفع الشعار بالأساس المندوبون من خارج الوطن. ويبدو الأمر وكأنه مفارقة أن يتحسس مندوبو الخارج معاناة الجماهير أفضل مما يتحسسه رفاق الداخل. وفي واقع الأمر أن القمع الوحشي للنظام الدكتاتوري وأخطاء الحزب في زمن التحالف مع البعث خلف أثراً نفسياً عميقاً لدى رفاق الداخل والوسط الذي يتحركون فيه، جعلهم يخشون من أي موقف أو شعار يلتقي مع النظام من قريب أو بعيد بصرف النظر عن مدى صوابه. وأخيراً تضمن الشعار الرئيسي للمؤتمر رفع الحصار الاقتصادي. على أي حال، أن الحادث يعكس مدى ديمقراطية المؤتمر ويجير لصالحها.
***
ومن الجدير هنا الإشارة إلى مناقشة "مبدأ" المركزية الديمقراطية في بناء الحزب. فقد استأثر هذا "المبدأ" باهتمام المؤتمرين. وأكد المدافعون عن بقاء "المبدأ" في النظام الداخلي على أن كل منظمة أو مؤسسة ستظل في حاجة إلى مركز، إلى قيادة تدير نشاط هذه المنظمة وتضبط حركتها وتوجهها بما يتفق والأهداف أو الأغراض التي تضعها المنظمة لنفسها. وقد أقرت الأغلبية بقاء "المبدأ" المذكور في النظام الداخلي. أما الذين كانوا يدعون إلى حذف "المركزية الديمقراطية" فقد كانوا يرومون حذف النص فقط والإبقاء على جميع الآليات التي تنظم ذلك والمنصوص عليها في النظام الداخلي وبدون استثناء، مستندين إلى أن هذا "المبدأ" الذي غلبت عليه المركزية، وشملت حتى إدارة الصراع الفكري في الحزب واستمر مفعوله عشرات السنين، قد خلق تقاليد وعادات بيروقراطية لديها قوة الاستمرارية. وفي الحقيقة إن مصطلح "المركزية الديمقراطية" بحد ذاته ليس مبدأ لا يجوز التخلي عنه، بل هو مجموعة آليات لإدارة شؤون الحزب، وهي مثبتة بالتفصيل في النظام الداخلي ولا حاجة للنص على المصطلح، وهذا ما فعله المؤتمر الوطني الثامن، حيث ألغى مصطلح "المركزية الديمقراطية" وأبقى على الآليات، آخذاً برأي الأقلية في المؤتمر الخامس! (**).

إن كل ما مر بنا عن المؤتمر من تجديد وديمقراطية، فرض، باستحقاق وجدارة، أن يُطلق على المؤتمر الوطني الخامس اسم "مؤتمر الديمقراطية والتجديد". فالأمر يتعدى كونه قد "أتيحت للمندوبين الأجواء التي تساعد على المكاشفة وحرية النقد". فالتسمية تعود بالأساس إلى مضمون الوثائق التي أقرها المؤتمر، وللآليات الجديدة التي اتبعها في أعماله، وللنتائج التي تمخض عنها، بما في ذلك تجديد قيادة الحزب.
***
لم تكن عملية التجديد والدمقرطة في الحزب الشيوعي بالأمر اليسير. فقد واجهت العملية منذ البداية اتجاهين خاطئين: الأول، الذي كان السبب الرئيسي في تأخر التجديد في الحزب، وهو الاتجاه المحافظ المتسم بالجمود والانشداد للماضي. أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه العدمي المتسم بالتحلل من أي نوع من أنواع الالتزامات الفكرية والسياسية. وكان الرأي العام الحزبي مع الاتجاه الذي تبلور في المؤتمر الخامس.
ومن النتائج الايجابية البارزة للتجديد والديمقراطية هي انتظام عقد مؤتمرات الحزب وكونفرنساته. ففي عام 1997 عقد المؤتمر الوطني السادس وأعقبه في عام 1999 الكونفرنس الخامس. وفي عام 2001 انعقد المؤتمر الوطني السابع. وجاء الكونفرنس السادس بعد الغزو وسقوط النظام الدكتاتوري. وقد انتظمت اجتماعات اللجنة المركزية وتقاربت الفترات بينها مع اطلاع المنظمات على ما يدور في اجتماعاتها. وأصبح طرح مسودات الوثائق الحزبية المركزية على المنظمات للمناقشة، تقليدا راسخا في الحزب، هذا فضلا عن الاستفتاءات حول بعض المواقف السياسية. واعتمد في إقليم كردستان ومنظمات الخارج مبدأ انتخاب الهيئات القيادية ومسؤوليها ومندوبيها للمؤتمرات والكونفرنسات. كل ذلك ساعد على مشاركة القاعدة الحزبية في رسم سياسة الحزب وانتخاب قادته.
وتحسن خطاب الحزب السياسي وجرى العمل على تدقيقه والاعتماد أكثر فأكثر، كما تشير وثائق المؤتمر الوطني السادس (ص 38 وما يليها)، على الوقائع والحقائق الموضوعية في معالجة المهمات والحلول والتخلص من الأحكام الجاهزة واعتماد المحاججة والمنطق العلميين في التعامل مع المشاكل ووجهات النظر المختلفة والمخالفة. ولتنشيط الصراع الفكري وتحسين أدواته جرى إيلاء اهتمام جدي للرأي الأخر وإفساح المجال لطرحه على مجموع الحزب، سواء في صحافته العامة أو في النشر الداخلي. هذا فضلاً عن تحفيز دائرة واسعة من الكوادر على إبداء آرائهم في سياسة الحزب.
إلا أنه رغم ما تحقق من نجاحات، كما تشير الوثيقة المذكورة في نفس الصفحات، فليس من الصحيح تجاهل واقع أن الحزب لم يتخلص بعد من جميع الشوائب والعيوب في هذا المجال. وإن هذه العملية تتطلب وعياً عالياً ودأباً متواصلاً . وتؤكد الوثيقة على أن عملية التجديد وترسيخ الديمقراطية هي عملية عسيرة ومعقدة، بسبب بعض المفاهيم النظرية المشوهة، وقوة العادة وما تركته التقاليد والممارسات السابقة من آثار يصعب تجاوزها بسهولة وبفترة زمنية قصيرة. هذا إلى جانب التأثير السلبي للظروف الموضوعية في بلادنا ومستوى الوعي الديمقراطي في المجتمع العراقي، وعموم الأجواء المحيطة بعمل الحزب، المتمثلة بنظام القمع والإرهاب، ومستوى التطور الحضاري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وفي الحقيقة أن نظام القمع والإرهاب الدكتاتوري أضفى على الحياة السياسية الركود وحد من إمكانيات الحزب في التجديد مما حدا بسكرتير اللجنة المركزية الرفيق حميد مجيد موسى أن يعلن في كلمة افتتاح المؤتمر الوطني السابع للحزب (2001) ما يلي: " نعم، إن جديدنا، هو القديم ذاته في الظروف الجديدة، الظروف التي تتصاعد فيها من مختلف أنحاء الدنيا، وهي تدخل القرن الحادي والعشرين، دعوات الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية. في حين يبقى شعبنا يعيش تحت نير أعتى الدكتاتوريات في العالم اليوم وأكثرها استهتاراً بالإنسان وحقوقه. إنها الظروف التي تجعل من الدكتاتورية عندنا أبشع وجه وأشد وطأة، بل وأكثر عاراً على البشرية جمعاء"
لقد جاء الغزو وسقوط النظام الدكتاتوري وقرار مجلس الأمن المرقم 1483 الذي شرع الاحتلال، وإقامة مجلس الحكم بإشراف الحاكم الأمريكي بول بريمر ليضع الحزب ليس أمام ظروف جديدة كل الجدة، بل وأمام ثوابت كان من المستحيل تجاوزها إلى الأمس القريب. ولكن لم يعد بالإمكان الركون إلى هذه الثوابت والأخذ بها في الواقع الجديد المعقد والشائك، إذا ما أراد الحزب وضع مصلحة الوطن والشعب العراقي فوق أي اعتبار آخر. وكان على الحزب أن يلامس الواقع ويحلله تحليلاً على أساس المنهج المادي الديالكتيكي وليس على أساس "المسلمات" التي لا علاقة لها بالواقع. هذا المنهج الذي يتطلب، ضمن ما يتطلب، التحليل الملموس للواقع وليس الأخذ ﺑ"المسلمات" والمفاهيم الجاهزة عند تناول أية ظاهرة سياسية واجتماعية. ولم يكن الأمر هيناً على الحزب وهو الذي عارض، وهو على حق، الحرب بقوة لأسباب مبدأيه ـ أخلاقية، وكان خطابه متطابقاً مع خطاب اليسار العالمي المتشنج تجاه أمريكا. ورغم ذلك لم يتمسك الحزب بـ"المسلمات" والنظرة التبسيطية للواقع، بل اختار دعم العملية السياسية التي تستهدف استعادة سيادة العراق واستقلاله وإقامة النظام الديمقراطي الفدرالي الموحد الآمن والمستقر، بالتعاون مع ذات القوى التي كان الحزب قد تحالف معها، بهذا الشكل أو ذاك، في الكفاح من أجل الإطاحة بالنظام الدكتاتوري. وكان التجديد في أيديولوجية الحزب وهويته في مؤتمره الخامس في صلب هذا الموقف السليم وتداعياته. وهذا الموقف السليم هو من أبرز النتائج السياسية للمؤتمر الخامس "مؤتمر الديمقراطية والتجديد".
(1) عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، الجزء الثالث، ص265.
(*) أعتقد بأن حالة الاضطراب الشديد لا تشمل جميع منظمات الحزب في الخارج، فلم تكن منظمة بلغاريا للحزب الشيوعي العراقي تعاني من ذلك في تلك الفترة. راجع قراءة في كتاب عزيز سباهي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" الحلقة 42 المنشورة في المواقع الالكترونية في 30 أيار 2008.
(2) التقرير السياسي والتنظيمي للمؤتمر الوطني الخامس للحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني الخامس المنعقد في 1993 ص 72 ـ 75.
(3) "في سبيل استنهاض قوى الشعب لتحقيق السلم والبديل الديمقراطي"، آذار 1990. الوثيقة منشورة كاملة كملحق في كتاب سباهي الثالث والمقتبسات من الصفحة 306.
(4) راجع التقرير السياسي والتنظيمي للمؤتمر الوطني الخامس، مصدر سابق، ص 57 وما يليها.
(5) راجع المصدر السابق، ص 71.
(6) راجع التقرير السياسي، مصدر سابق، ص 75 وما يليها.
(7) خيارنا الاشتراكي. مصدر سابق، ص 22 وما يليها. راجع كذلك مقال الرفيق عادل حبه"مناقشة لمسودة ورقة العمل المقدمة إلى المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي: "خيارنا الاشتراكي والدروس المستخلصة من تجارب البناء الاشتراكي"، ويجد القارئ المقال في موقع الرفيق عادل حبه الاليكتروني.
(8) زكي خيري وسعاد خيري، "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي". ص118 ص 225 وما يليها.
(9) وثائق المؤتمر الوطني الخامس، مصدر سابق، ص 102. خطوط التشديد غير موجودة في الأصل.
(10) المصدر السابق، ص 58، 100،113 ـ 115.
(11) راجع سباهي، مصدر سابق، ص 298.
(**) كنت من الداعين إلى حذف "المركزية الديمقراطية" في المؤتمر الخامس، وكنت مع حذفها في اللجنة المكلفة بوضع المشروع. فقد كنت عضواً في اللجنة التي وضعت المسودة، وكانت متكونة من الرفاق حميد مجيد (أبو داود) وحميد بخش (أبو زكي) ومني. وكنت أيضاً مع حذف التحذير من "التكتل" لا تشجيعاً له وإنما لإعطاء مزيداً من الحرية في تبادل الرأي، وهذا ما تحقق في المؤتمر الوطني الثامن.أيضا. (جاسم)


المصادر
1. عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، الجزء الثالث.
2. وثائق الحزب في مؤتمراته الأربعة الأخيرة.
3. جاسم الحلوائي، "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" قراءة نقدية في كتاب عزيزسباهي: عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. كتاب معد للطبع.

أواخر آب 2008

عن مجلة "الثقافة الجديدة" عدد مزدوج 326 ــ 327
 


36

لمناسبة مرور خمسة وخمسين عاماً على ثورة 14 تموز المجيدة


أثورة كانت أم انقلاب عسكري؟
جاسم الحلوائي

الخلاف حول تسمية ما حصل في يوم 14 تموز 1958 في العراق ليس أمراً شكلياً، بل هو نابع من الخلاف حول طبيعة الحدث. فهذا الحدث أجرى تغييراً جذرياً في النظام وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلكً تغيير طبيعة علاقات الطبقات الاجتماعية. فقد قرر هذا الحدث مصائر بعض الطبقات ومستقبلها، بحيث صار بعضها جزءاً من تراث الماضي، وكان ذلك لصالح نمو وتطور طبقات وفئات أخرى. ولذا فلهذا الحدث أنصاره وخصومه.
إن عدم إطلاق صفة الثورة على ما حصل يوم 14 تموز 1958  ينزع عنها مشروعيتها التاريخية، وهذا ما يسعى إليه خصومها وأيتام خصومها. ولكن، والحق يقال، ليس الخصوم وحدهم من يعترض على تسميتها بثورة، بل أن هناك وسطاً غيرهم ومن أبنائها، الذين ساندوها وضحوا من أجل تحقيق أهدافها، يشاركهم هذا الرأي. والسبب في ذلك يعود إلى شكل الحدث والذي أخذ شكل انقلاب عسكري وثورة شعبية في لحظة تاريخية واحدة ومنذ اليوم الأول لوقوعه، مما أثار ولا يزال يثير جدلاً حول طبيعتها. ومما زاد من هذا الجدل وعمقه هي مسيرة الثورة المتذبذبة ومآلها، بل وهناك من لا يكتفي بتحميلها مسؤولية الحكم العسكري الفردي الذي انتهى بانقلاب شباط الفاشي في عام 1963 فحسب، بل ويحّملها ظلماً كل ما أعقبها من انقلابات وأنظمة دكتاتورية، وما رافقها ونتج عنها من عنف وحروب وكوارث مختلفة حتى يومنا هذا.

إن الخلاف الرئيسي حول تسمية الحدث، أو بعبارة أدق حول تحديد طبيعته ينحصر في مفهومين هما : ("الثورة" و "الانقلاب العسكري")، وهذا الخلاف ليس شكلياً، كما أسلفنا، وإنما جوهرياً، فالثورات في التاريخ البشري لعبت دوماً دوراً في تغيير مجرى التاريخ وتقدمه، وتكتسب مشروعيتها من ضرورتها التاريخية، خلافا للانقلاب العسكري الذي لا مشروعية له. فما هي الثورة وما هو الانقلاب العسكري؟

الثورة تستهدف إسقاط نظام حكم، بالعنف أو بطريقة سلمية، نظام يقف عائقاً أمام تطور البلد وإقامة نظام جديد يختلف عن القديم سياسياً واقتصادياً واجتماعيا. وتستهدف الثورة إرساء نظام يفسح المجال لتطور المجتمع في مختلف مناحي الحياة المادية والروحية. تقوم بالثورة قوى معارضة للنظام القديم تسعى لتحقيق الهدف المذكور. إن استلام السلطة من قبل تلك المعارضة يمثل نجاح الثورة، ويشكل الحلقة الرئيسية الأولى فيها والتي تتواصل حركتها وحلقاتها بخط متعرج غالباً وأحياناً شديد التعرج، من أجل تحقيق هدفها المنشود. وتلعب أوساط واسعة من الجماهير النشطة سياسياً دوراً فعالاً في الثورةً. أما الانقلاب العسكري فهو يقتصر على تغيير النخبة الحاكمة بالعنف عسكرياً، أو التهديد به، وتبديلها بأخرى. ولا تهدف إجراءات الانقلاب العسكري تغيير طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع، أما دور الجماهير فيه فيكون صامتاً ومتفرجاً عموماً.

هل كان النظام الملكي بطبيعته الموالية للاستعمار والإقطاع عائقاً أمام تطور المجتمع العراقي؟ الجواب على هذا السؤال مهم جداً لأنه يُعد المدخل لإثبات مشروعية أو عدم مشروعية الثورة. فهناك من يعتقد بأنه كان من الممكن للعراق أن ينمو ويتطور سلميا ولو ببطء دون ثورة 14 تموز. ويعتقد حملة هذا الرأي أن ذلك كان أفضل للعراق من "الانقلاب العسكري" في 14 تموز، لكون هذا الحدث أدخل العراق في دوامة الانقلابات العسكرية والعنف. ولكن مجرى تطور الأحداث والظروف التي أحاطت بالبلاد، داخلياً وإقليميا وعالمياً، لاسيما خلال العقد الأخير قبل ثورة 14 تموز تفند الرأي المذكور. فالأقلية الحاكمة في العراق آنئذ، كانت تشكل حجر عثرة أمام طبيعة ووتيرة التطورات المطلوبة موضوعياً من النواحي السياسيةً والاقتصاديةً والاجتماعية في العراق. وقطعت تلك الأقلية السبل السلمية على القوى الوطنية، التي تنشد التغيير وتحمل مشروعا تقدميا، من أن تلعب دورها في تطوير البلد. واستخدمت تلك الأقلية العنف ضد أي تحرك جماهيري بما في ذلك التحركات المطلبية كإضرابات العمال وتمردات الفلاحين السلمية . وسأحاول هنا الإشارة إلى ملامح تلك الفترة بإيجاز.

لقد شهدت البلاد في خمسينات القرن الماضي نهوضاً وطنياً عاماً عكس نفسه في الاستعداد الجماهيري لخوض النضالات المطلبية والسياسية، والنزوع القوي نحو الاستقلال الناجز للعراق ورفض جميع الاتفاقيات المكبًّلة لحريته مع الدول الاستعمارية. وكانت الظروف الدولية مشجعة، وتمثل ذلك بانتصار الثورة الصينية وحصول الهند واندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية الأخرى على استقلالها. وعلى الصعيد الإقليمي، نالت سوريا ولبنان استقلالهما، وأممت إيران نفطها، وسقط النظام الملكي الموالي للاستعمار في مصر، وتصاعدت حركة السلام العالمية، وظهرت كتلة عدم الانحياز. في مثل هذه الظروف كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط العراق بالأحلاف العسكرية الاستعمارية. وقد حققت الفئة الحاكمة ذلك بانضمامها إلى حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية. وبذلك فضحت نفسها أكثر فأكثر باعتبارها فئة موالية للاستعمار.

أما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فإن أول ما نشخصه هنا هو تعمّق التمايز الطبقي في المجتمع خلال السنوات السابقة لثورة 14 تموز في كل من الريف والمدينة على السواء. ولكن هذا التمايز اتخذ في الريف أبعاداً أوسع، وأفرز نتائج أخطر امتدت آثارها إلى المدينة، لأن تعاظم الفقر الذي حاق بالفلاحين، دفع بمئات الألوف منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حاملين معهم إليها كل أوضار المجتمع الريفي الفقير المتخلف... وكان العامل الأول في إفقار الفلاحين هذا قد نبع عن اتساع عملية استيلاء الملاكين الكبار على الأراضي الزراعية.

وجرت العملية المذكورة نتيجة لسياسة الحكومة التي كان يهمها، خاصة في السنوات الأخيرة من عمرها، تطمين مصالح الإقطاعيين الذين باتوا أحد أعمدة النظام الأساسية. فشرّعت الكثير من التشريعات لتحقيق تلك السياسة، حتى بلغ التفاوت بين ملكية الأرض الزراعية، ما بين الفلاحين والملاكين، حداً لا مثيل له في أي بلد في العالم. إن 3% فقط من مجموع مالكي الأراضي الزراعية في العراق كانوا يملكون ثلثي الأراضي الزراعية في عام 1958. أما في مصر وسوريا فكانت النسبة تبلغ 35% و36% فقط من الأراضي الزراعية بيد الملاكين الكبار. وكان هناك ثمانية ملاكين عراقيين فقط بحوزة كل واحد منهم أكثر من مائة ألف (100000) دونماً. إن من يملك عشر هكتارات (الهكتار يساوي أربعة دوانم) فما فوق في الهند يُعد ملاكاً كبيراً. وكذا الحال في مصر فمن كان يملك 162,2 دونما فأكثر يُعد هو الآخر من الملاكين الكبار. وكانت حصيلة هذه السياسة تعاظم إفقار الفلاحين. ولم تستوعب الزراعة آنذاك وفي أغلب أشهر العام سوى 50% من الأيدي العاملة في الريف. ونتيجة لهبوط إنتاجية العمل في الزراعة العراقية، لم يحصل المنتجون المباشرون ما يسد رمقهم. وكان ذلك سبباً في تعاظم إفقار الفلاحين وبؤسهم المريع، فاضطروا إلى الهجرة بأعداد كبيرة صوب المدن، لاسيما الكبيرة منها.

أثار تأميم صناعة النفط في إيران عام 1951 حماسة الجماهير الشعبية للمطالبة بتأميم النفط العراقي. وأخذت الصحف تنشر البرقيات والعرائض الجماهيرية المطالبة بذلك. وعند مصادقة البرلمان الإيراني على قرار حكومة مصدق، طالب عشرون نائبا في البرلمان العراقي أن يحذو البرلمان العراقي حذو جاره. ومن أجل الالتفاف على هذه الحركة قامت الحكومة العراقية بالاتفاق مع شركات النفط ببعض الإجراءات الجزئية لتبديد زخم المطالبة، ولكن دون جدوى.

في شباط 1952 وقعت الحكومة اتفاقاً جديداً مع شركات النفط يقضي بأن تدفع الشركات إلى الحكومة العراقية ستة شلنات ذهبا عن الطن الواحد من النفط الخام. وطبقا للحسابات التي تجريها الشركات، زعم الطرفان أن حصة الحكومة باتت تعادل خمسين بالمائة من صافي الأرباح التي تحصل عليها الشركات. وألزمت الاتفاقية المذكورة الشركات بتصدير 30 مليون طن من النفط الخام سنويا. وقررت الفئة الحاكمة رصد 70% من عائدات النفط لمجلس الاعمار، الذي غرس الانكليز والأمريكان عناصرهم فيه باسم الخبرة والاستشارة منذ ظهوره للوجود في عام 1950. وجاءت استشارتهم بتوجيه الأموال للقطاع الزراعي بالأساس. وليس بهدف الارتقاء بأساليب الزراعة وزيادة إنتاجيتها، وإنما إلى العمل فقط على توسيع الأراضي الزراعية بدعوى أن استصلاح المزيد من الأراضي وتوزيعها على المزارعين الصغار سيحسن من شروط عمل الفلاحين لدى الملاكين الكبار ويخفف من وطأة البطالة. لكن الأراضي المستصلحة في ظل سياسات الحكم الموالية للملاكين الكبار كانت تقع في أيدي هؤلاء في النهاية. ورغم كل ما أنفق من أموال طائلة في هذا القطاع فإن قيمة الإنتاج الإجمالي للقطاع الزراعي تراجعت من 39% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد إلى 30% في عام 1958.

وحُرم القطاع الصناعي من أموال مجلس الاعمار بحجج مختلفة، في مقدمتها، عدم تمكن الصناعة الوطنية من منافسة الصناعة الأجنبية المستوردة إلا في ظل سياسة حماية شديدة ستؤدي إلى الاحتكار، وبالتالي زيادة أسعار المنتجات الصناعية المحلية، ومن شأن ذلك تدمير موارد البلاد وعرقلة تقدمها. ولكن ما لم يفصح عنه هؤلاء الخبراء، إنهم بتأكيدهم على تجنب الحماية، إنما يدافعون عن مصالح الشركات الاحتكارية الأجنبية، التي ظلت تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد حتى ثورة 14 تموز بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار. وأدى هذا الموقف من الصناعة الوطنية إلى أن يكون نموها بطيئاً ولا يتناسب مع إمكانيات ومتطلبات تطويرها، حيث لم يشتغل في الصناعة سوى 264 ألف شخص قبل ثورة 14 تموز 1958.

ومع تنامي الإنفاق الحكومي وشركات المقاولات، وأغلبها أجنبية، وتزايد الطلب على السلع الاستهلاكية والإنتاجية، تنامى عدد الذين يتعاطون التجارة بالجملة والمفرد. ومما له دلالته في هذا الصدد هو تأسيس العديد من الغرف التجارية الجديدة في الخمسينات إلى جانب غرف بغداد والبصرة والموصل، وذلك في كل من مدن العمارة والنجف وكربلاء والحلة وكركوك والناصرية. وبلغ عدد المسجلين في جميع الغرف التجارية 9423 تاجراً قبل ثورة 14 تموز. ويشير كل ذلك إلى نمو البرجوازية التجارية ونمو وعيها الطبقي. وشكل الصناعيون في الفترة موضوعة البحث اتحادهم الخاص بعد أن كانوا ينتمون إلى الغرف التجارية سابقاً.

وارتباطا بكل هذا. ومع تزايد الدور الذي باتت تلعبه الدولة في مختلف المجالات اتسع الجهاز الحكومي وأدى هذا ، إلى جانب عوامل أخرى، إلى اتساع التعليم بكل مراحله.

على أي حال، أدى الإنفاق الواسع على مشاريع مجلس الاعمار في بلد كان يشكو في الأساس من ضعف قدراته الإنتاجية، إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وواجه المستهلكون والمنتجون على السواء دوامة التضخم النقدي الذي عانى منه الكادحون آنذاك بوجه خاص، وكان ذلك أحد أسباب التوتر في قلب المجتمع.

في صيف عام 1954 أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب إلى 12 تشرين الأول جملة من المراسيم التعسفية التي اشتهرت باسم (المراسيم السعيدية). كانت هذه المراسيم معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة لدستور البلاد. وكانت باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي لم يعقد سوى جلسة واحدة انتخب فيها رئيسه. ولم يحظر نوري السعيد نشاط الأحزاب المجازة فحسب، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها وأغراضها أيضاً، وألغى امتيازات جميع الصحف. وأجاز فقط ثلاث صحف موالية للحكومة. وألزم نوري السعيد السجناء الشيوعيين الذين ينهون محكومياتهم بإعطاء براءة من الشيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا ستسقط عنهم الجنسية العراقية! وأقدمت حكومته فعلا على إسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين، ومن بينهم المحاميان المشهوران توفيق منير نائب نقيب المحامين وكامل القزانجي، وتم تسفيرهما إلى تركيا. كما أسقطت الجنسية عن عدد من الوطنيين ممن كانوا خارج البلاد وهم عزيز شريف وصفاء الحافظ وكاظم السماوي وعدنان الراوي.

وبادرت حكومة نوري السعيد بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصلت عدد كبير من أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزتهم في معسكرات تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وباتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للقبول في الكليات حتى ولو كان المرء قومياً! وأضحى جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيد لربط العراق بالأحلاف العسكرية الامبريالية. وعلى اثر تلك الإجراءات بدأت الحركة الوطنية الديمقراطية تعاني من التراجع. لقد كانت الحركة الوطنية في جزر، فلم تتمكن من التصدي الفعّال لإحباط مساعي الحكومة لعقد الحلف.

إن سياسة نوري السعيد قد عزلت العراق عن شقيقاته العربيات، وراح يتآمر ضدها على المكشوف، مما وسع السخط وعمّقه ضد الحكم الرجعي. ومن مؤشرات ذلك تحول إضراب قصابي الموصل، احتجاجاً على زيادة الضرائب، إلى إضراب عام شمل المدينة كلها ودام أسبوعا كاملاً، حيث عبر الموصليون فيه عن تضامنهم مع مصر التي أممت قناة السويس، وعن حقدهم على حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد واجه الحكم الاستبدادي الإضراب السلمي بإعلان حالة الطوارئ، وشن حملة واسعة من الاعتقالات شملت عدد من المحامين والنواب السابقين. وحُكم على 200 من أبناء المدينة بالسجن، وأرسل قسم منهم إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي.

وفي يوم 16 آب 1956، اليوم الذي حدده الامبرياليون لعقد مؤتمر لندن لتقرير طريقة الانتقام من مصر جراء إقدامها على تأميم قناة السويس وضرب مصالحهم الستراتيجية في المنطقة، عمّ الإضراب بغداد والموصل والرمادي والحي والحلة ومدن عراقية أخرى، رغم كل أساليب الحكومة الوحشية لإفشال الإضراب. وساهم في الدعوة للإضراب إلى جانب الحزب الشيوعي كل من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي. وخرجت الجماهير بمظاهرات تحمل الأعلام العربية وشعارات التضامن مع مصر. فقابلتها الشرطة بالرصاص واعتقلت أكثر من عشرين متظاهراً. وطُوقت السفارة المصرية لمنع دخول المتطوعين للدفاع عن مصر، وطالب زبانية السلطة المعتقلين بشتم الرئيس عبد الناصر. وكان الإضراب استجابة لدعوة اللجنة المركزية العربية التي تشكلت في دمشق، وقد عم الإضراب في نفس اليوم العديد من الدول العربية.

وعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي. ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي، فقطع علاقته الدبلوماسية مع فرنسا ولم يقطعها مع بريطانيا المعتدية. فزاد هذا الموقف من تأزم الأوضاع، فاجتمعت الأحزاب الوطنية والقومية، الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وعدد من الديمقراطيين المستقلين، لدراسة الموقف، وقررت تشكيل قيادة موحدة لقيادة النشاطات الاحتجاجية ضد العدوان وضد الحكم الرجعي. وفي إطار النشاط الطلابي تكونت لجنة طلابية عليا للتضامن مع الشعب المصري. وقد أشرفت هذه اللجنة على تعبئة الطلبة وقيادة مظاهراتهم.

اندلعت انتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها. وخرجت الجماهير الشعبية العراقية في مظاهرات احتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد عمت المظاهرات ثلاثين مدينة من جنوب العراق إلى شماله مرورا بوسطه. وكانت واسعة جداً في النجف، وساهمت فيها مختلف الفئات الاجتماعية بما في ذلك رجال دين بارزون. وقد استمرت المظاهرات في البلاد مدة شهرين، وتوّجت بانتفاضة الحي الباسلة. جوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس وبالقمع العنيف. وسقط الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب للفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين إلى السجون.

كانت السلطات تتحسس، وهي على حق، من أي شعار، حتى ولو كان شعارا قومياً عاما مثل "يعيش جمال عبد الناصر" لأنه ينطوي على عداء لحلف بغداد وحكومة نوري السعيد. وقد لعب الشيوعيون دوراً فعالاً، إن لم نقل طليعياً، في المظاهرات. وكان أول شهداء الانتفاضة الكادر الشيوعي الباسل عواد الصفار عضو لجنة منطقة بغداد الذي استشهد في العاصمة، وآخرهم الشيوعيان البطلان عطا الدباس وعلي الشيخ حمود اللذان أعدما في ساحة الصفا التي تقع وسط مدينة الحي والتي كانت تنطلق منها المظاهرات، بعد أن قمعت الطغمة الحاكمة انتفاضة المدينة الباسلة مستخدمة حتى الأسلحة الثقيلة.

كانت الأحزاب السياسية حتى انتفاضة تشرين 1956 عازمة على إجراء التغيير في الحكم سلميا. وقد نصت وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي، الذي يمثل الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الصادرة في 1956 على اعتبار المعركة "ذات طابع سلمي غالب". وكانت هذه الانتفاضة ثالث انتفاضة خلال ثمانية أعوام، ولم تتمكن من تحقيق تغيير في طبيعة الحكم. وإن تمكنت الجماهير الشعبية من التنفيس عن مشاعرها في الانتفاضتين الأوليتين وتحقيق بعض المكاسب الجزئية، فإن الأجهزة القمعية التي تضاعفت قوتها آنذاك بفضل ازدياد عائدات النفط، وبفضل خبرة خبراء حلف بغداد، لم تسمح بتحرك جماهيري واسع في العاصمة بغداد، حيث قمعت بقسوة شديدة وبالرصاص جميع المبادرات النضالية. وقد استخدمت الحكومة الحديد والنار لقمع انتفاضتي النجف والحي. وإذا ما ناور النظام في الانتفاضتين السابقتين ولجأ إلى إجراءات تنفسية وتخديرية، فإنه لم يكتف بعدم لجوئه لذلك فحسب، بل تهجم نوري السعيد في خطابه رداً على الانتفاضة بعنف وصلافة. وقد ختم خطابه مردداً باستهتار الهوسة المعروفة (دار السيد مأمونة)، ليستفز المشاعر الوطنية والقومية ويدفع جميع القوى الوطنية إلى اليأس من إمكانية إجراء التغيير سلمياً. وهكذا لجأت الأحزاب السياسية إلى الجيش فوجدته جاهزاً للعمل. فتشكلت اللجنة العليا للضباط الأحرار في كانون الأول 1956. وكانت نواة هذه المنظمة قد تأسست في أيلول عام 1952، أي بعد انقلاب جمال عبد الناصر بشهرين.

كان الجيش العراقي شديد التأثر بما يجري في المجتمع العراقي. وكانت الأجواء السائدة في داخله أكثر إثارة للاستياء لأسباب ذاتية وموضوعية. فمن المعروف إن الجيش العراقي يعتمد على الخدمة الإلزامية، وإن قاعدته من الكادحين والفقراء الأكثر معاناة من سوء الأوضاع، حيث يتهرب أبناء الميسورين من أداء الخدمة بدفع البدل النقدي أو بالتحايل على القوانين مستغلين الفساد الإداري. أما بالنسبة للضباط فإن إجمالي سلك الضباط ينحدر من أصول تعود إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

وكان للأوضاع وللأحداث الوطنية والقومية صداها وتفاعلاتها في الجيش، كانتفاضات الشعب المتتالية منذ 1948، واستخدام الجيش لقمع انتفاضات وتحركات الجماهير الواسعة منذ عام 1952، أي تحويل الجيش إلى قوة بوليسية سياسية لتصفية الخصوم السياسيين. وتواطؤ الحكام وخياناتهم في حرب فلسطين، ونجاح الضباط بقيادة جمال عبد الناصر للاستيلاء على السلطة عام 1952 وبدء الثورة المصرية، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وموقف الحكومة العراقية المهين للمشاعر القومية من العدوان، بعزلها العراق عن العالم العربي بحكم ارتباطها بحلف بغداد. كما يمكن أن يضيف المرء عوامل موضوعية أخرى كان لها صداها وتأثيرها في الجيش، مثل صفقة الأسلحة التي تلقاها المصريون من الاتحاد السوفييتي وبكميات هائلة لا يمكن مقارنتها بما حصل عليه نوري السعيد من حلفائه، والاتحاد مع الأردن عام 1958، كرد هاشمي على تأسيس الجمهورية العربية المتحدة، والذي لا يخدم سوى الأسرة الهاشمية المعزولة، في حين يرهق العراق مالياً .

ولم يأت تحرك الجيش لقلب نظام الحكم في 14 تموز، ولا تأسيس منظمة الضباط الأحرار بقرار من الأحزاب الوطنية. فقد كان لتأسيس المنظمة ظروفها الموضوعية والذاتية الخاصة بها. وقد تأسست المنظمة وترعرعت قبل أن تلتفت الأحزاب الوطنية إلى استخدام الجيش كرأس رمح لإسقاط النظام.

وهكذا نرى أن نظام الحكم الملكي بزعامة نوري السعيد لم يقف عائقاً أمام تطور البلد فحسب، بل وقد سد كل السبل أمام القوى الوطنية والتقدمية من أن تلعب دورها في تقدمه بالطرق السلمية. ومن هنا اكتسب سقوط النظام وبالعنف مشروعيته التاريخية.ً ولنر الآن دور الجماهير في هذا الحدث.

في الساعة الخامسة من صباح 14 تموز 1958، دخل اللواء العشرون بغداد وتوجهت قطعاته كل نحو هدفه المحدد. وسارع الضباط الأحرار في معسكرات بغداد للسيطرة على المعسكرات وإسناد القوات الزاحفة على بغداد. وقبل ذلك بادر اللواء التاسع عشر الذي يقوده عبد الكريم قاسم باعتقال قائد الفرقة الثالثة غازي الداغستاني في مقره. وعند قصر الرحاب حيث تقيم العائلة المالكة، جرت معركة قصيرة مع القوات العسكرية التي تحمي القصر، وانتهت المعركة بالقضاء على الملك فيصل وولي العهد عبد الإله وبعض أفراد العائلة المالكة الآخرين. أما نوري السعيد الذي تمكن من الفرار من بيته، فقد ميزه الناس وهو متنكر بزي امرأة وقضوا عليه فوراً، في اليوم التالي.

وفي الساعة السادسة من صباح نفس يوم 14 تموز، تلا العقيد الركن عبد السلام عارف بصوته البيان الأول للثورة من دار الإذاعة معلناً نهاية الحكم الملكي وقيام الجمهورية العراقية. وفور الاستماع إلى هذا النبأ العظيم، سارع الضباط الأحرار إلى الاستيلاء على المعسكرات، واعتقال كبار الضباط وكذلك أي ضابط حاول التحرك ضد "الانقلاب". وقُبرت أهم محاولة تحرك ضد "الانقلاب" في مهدها، وهي محاولة قائد الفرقة الأولى عمر علي، ومقرها في لواء الديوانية، وقد ساهم في إحباطها الفلاحون.

انطلقت الجماهير الشعبية في كل مكان وفي جميع أنحاء البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهي تعلن عن فرحتها بالثورة، وتعّبر عن عزمها على إسنادها وحمايتها، وذلك منذ لحظة إعلان البيان الأول في الصباح الباكر، ومع النداءات التي كان يطلقها عبد السلام عارف من الإذاعة لدعم الثورة. لقد انطلقت الجماهير الشعبية إلى الشوارع وهي تجمع بين الفرح العارم بالثورة وسخطها على الحكام السابقين. و تظاهرت أعداد غفيرة من العراقيين، وكانت المظاهرات تتعاظم مع كل ساعة تمر على قيام الثورة. وأثار هذا التحرك الجماهيري الهلع والخوف لدى قوى النظام السابق ومؤيديه .

ويعلق الباحث حنا بطاطو على ذلك في كتابه الثالث (العراق:الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية ص 115) بالقول " كان لخروج مئة ألف شخص إلى الشوارع، والوحشية التي عبر فيها بعضهم ـ على الأقل ـ عن مشاعره، وزن كبير في تحديد النتيجة التاريخية لذلك اليوم المصيري... فقد عرقلت هذه الحركة أية أعمال مضادة معادية ممكنة لسدها الشوارع والجسور، لا في بغداد فحسب بل في مدن أخرى أيضاً. والأهم من هذا هو أنه كان للجماهير، بفضل عنفها، تأثير نفسي هائل، إذ إنها زرعت الرعب في قلوب مؤيدي الملكية وأسهمت في شل إرادتهم، وأعطت الانقلاب طابع العمل الذي لا سبيل إلى مقاومته، وهو ما شكل الحصن الحصين له".

وهكذا أسدل الستار على نظام الحكم الملكي الموالي للاستعمار، والذي عانى الشعب منه كثيراً واستلمت السلطة المعارضة متمثلة باللجنة العليا للضباط الأحرار وقادة من جبهة الاتحاد الوطني. وكان ذلك، فضلاً عن مساهمة الجماهير الفعالة في مساندة الثورة، بمثابة دلائل مهمة على أن الحدث ثورة، وهذه أولى حلقاتها.

وتوالت الحلقات الأخرى سريعاً في السنة الأولى من الثورة. فقد ألغيت أغلب المراسيم التي أصدرها نوري السعيد. وأطلق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين. كما صدر قانون لتطهير الجهاز الحكومي وآخر لتطهير الجهاز القضائي. وشُرّع قانون الإصلاح الزراعي الذي حرر ملايين الفلاحين من سطوة الإقطاعيين وكبار الملاكين. وشاهد الفلاح بأم عينه واقتنع بأن سطوة الإقطاعيين والأثرياء التي ورثها أباً عن جد لم تكن قدراً من الله ينبغي الاستسلام له. فغدا مرفوع الرأس وأخذ يميّز بين أعدائه وأصدقائه.

وأطلقت الثورة إلى حدود معينة الحريات العامة والنشاطات الحزبية، فأمكن خلال فترة قصيرة جذب أعداد غفيرة، من شغيلة المدن والأرياف، نساء ورجالا، إلى النشاط السياسي. وتم تنظيمها في النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والاتحادات الطلابية، وكذلك في مختلف المنظمات الديمقراطية والمهنية. وامتد هذا النشاط السياسي إلى كل زاوية من زوايا البلاد. وفي هذه الفترة تواصلت المظاهرات والاجتماعات للمطالبة بتحقيق المطالب الشعبية المهمة التي لم تكن قد تحققت حتى ذلك الحين. وتولت كوادر ديمقراطية ويسارية مهمة الإشراف على الإذاعة والصحافة.

واستجابة لمطالب الجماهير، ورداً على حملات ناصر الدعائية، أقدمت حكومة عبد الكريم قاسم على فك ارتباط العراق بحلف بغداد في 24 آذار 1959، وإلغاء الاتفاقية الخاصة مع بريطانيا، واتفاقية الأمن المتبادل مع أمريكا مع ملحقاتها الاقتصادية والعسكرية. وأعلنت الثورة الخروج من منطقة الاسترليني. وعقدت الحكومة مع الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والفنية والتجارية تساعد على نهوض البلاد الصناعي والزراعي. وبتحقيق الاستقلال الناجز، قضت الثورة على فئة الكومبرادور، وهي الفئة الاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بمصالح الاستعمار.

وأصدرت حكومة الثورة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، وهو أول قانون مدني ينظم العلاقات العائلية في العراق بعد أن كانت تخضع لشرائع وأعراف مختلف الطوائف والأديان المتواجدة في العراق. كما صدر القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي حرر 5, 99% من منطقة الامتياز الذي كان يشمل كل الأراضي العراقية من سيطرة شركات النفط الاحتكارية.

ولكن بعد السنة الأولى من الثورة تراجعت قيادتها أمام ضغط القوى الرجعية وبما يشبه الاستسلام لها، ومن ثم تحولت إلى حكم عسكري فردي. لقد وفر هذا الحكم، بسياسته المنافية لحقوق الشعب الديمقراطية وانعزاله عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الحريصة على الاستقلال الوطني والنهج الديمقراطي، الأجواء الملائمة للنشاط التآمري والرجعي. فتزايدت صلافة القوى الرجعية وتجاوزاتها على حقوق الجماهير التي حُرمت من وسائلها لتنظيم نفسها للدفاع عن حقوقها، وبالتالي الدفاع عن الحكم. وجاءت الحرب التي شنتها الحكومة ضد الشعب الكردي، لتُضعف كثيراً من قدراتها العسكرية، وتُزيد من أعبائها المالية، في وقت كان الحكم يُعاني من ضغط شركات النفط وسياساتها في خفض الإنتاج، مُستهدفة من ذلك إشغال الحكم عما كان يُدبّر له. وزادت مشكلة الكويت ومُطالبة عبد الكريم قاسم بها، من التعقيدات السياسية التي كان يواجهها. وهكذا وفر الحكم الظروف الملائمة لإسقاطه.

فهل سقطت ثورة 14 بسقوط حكم قاسم العسكري الفردي؟ أعتقد بأنها لم تسقط،، بمعنى معين، لأنها لم تكن، في التحليل الأخير، انقلاباً عسكرياً. فبقيت روحها حية في قلوب وعقول وضمائر العراقيين الذين واصلوا ويواصلون كفاحهم ببسالة من أجل تحقيق هدفها الأساسي، ألا وهو إقامة نظام وطني ديمقراطي مؤسساتي يلبي مطامح الشعب الكردي القومية باعتباره "شريكا في هذا الوطن" على وفق الدستور المؤقت الصادر في 27 تموز 1958.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: استفاد كاتب المقال من كتابه الصادر في عام 2009 والموسوم "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي: "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، خاصة الفصول 3، 4، 5 و6 . والتي تتناول الجزء الثاني من كتاب عزيز سباهي.
 


 
 
 
 


37
حول خطاب الحزب الشيوعي العراقي
جاسم الحلوائي
علق الأستاذ الفاضل رياض الشمري في موقع النور الالكتروني على مقالي الموسوم " انتفاضة معسكر الرشيد في 3 تموز 1963" والمكرس لمناسبة مرور نصف قرن على وقوعها. وبما أن مناقشة ما ورد في التعليق يحتاج إلى حيز أكبر من حيز التعليقات والردود، فقد آثرت نشر تعليقه ومناقشتي له بشكل مستقل.
نص تعليق الأستاذ رياض الشمري
"الأستاذ الفاضل جاسم الحلوائي مع التحية. شكرا جزيلا لمقالتك هذه وكل التحية الى انتفاضة معسكر الرشيد التي كانت تحدياً شجاعاً ضد فاشية طغمة حزب البعث عام 1963 ولكن ومع احترامي للحزب الشيوعي العراقي كحزب عريق في نضاله الوطني المشرف وتضحياته الجسام من اجل الدفاع عن القضايا العادلة لشعبنا العراقي وكحزب لم يخرج من صفوفه عميل للأجنبي مثلما خرج العملاء للأجنبي من بين صفوف الاحزاب القومية والإسلامية العراقية إلا أنه حزب لا يزال الى اليوم يعيد نفس خطاباته السياسية القديمة التي لم تعد تتماشى مع المتغيرات المتسارعة على الساحة العراقية والعربية والعالمية.اتمنى على الحزب الشيوعي العراقي ان يخرج من جموده العقائدي ويتجه نحو التفاعل مع المتغيرات التي تقودها الجماهير الشعبية وخاصة الشباب لان الشباب هم اليوم اداة وعماد التغيير نحو الافضل وشباب مصر وجماهيرها هم اكبر برهان كما سيجد الحزب الخلل في عدم فوزه في الأنتخابات النيابية رغم قول الجماهير عنه بأنه انظف حزب سياسي على الساحة العراقية. أعتقد ماركس بان الثورة الاشتراكية ستنجح اولا في بريطانيا باعتبارها دولة صناعية كبرى وتضم ملايين العمال لكن لينين استطاع بذكائه ان يصنع اول ثورة اشتراكية في روسيا البلد الذي غالبية سكانه كان من الفلاحين وليس من العمال لذلك فأن الشيوعيين العراقيين بحاجة اليوم الى ذكاء لينين اكثر من حاجتهم الى قراءة تعاليمه. مع كل احترامي".

الأستاذ الفاضل رياض الشمري، إنني أثمن رغبتك وطموحك بأن ترى الحزب الشيوعي العراقي موجوداً بقوة على الساحة السياسية ولاعباً قوياً فيها، وهذا هو دافع ملاحظاتك التي أراها جدية، لذلك اسمح لي بمناقشتها.
تشير في تعليقك إلى أن الحزب الشيوعي العراقي " لا يزال الى اليوم يعيد نفس خطاباته السياسية القديمة التي لم تعد تتماشى مع المتغيرات المتسارعة على الساحة العراقية والعربية والعالمية".
لا أعرف أي خطاب تقصد فخطابات الحزب السياسية مختلفة جداً عن بعضها البعض، فخطابه في الحرب العالمية الثانية يختلف عن خطابه في فترة حلف بغداد. وكلا الخطابين يختلفان عن خطابه في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم. وجميع هذه الخطابات تختلف عن خطاب الحزب خلال انقلاب شباط الفاشي. وتبدلت خطاباته واختلفت بما لا يقل عن خمس مرات أخرى، تبعاً لمتغيرات الظروف ومراحل النضال وبشكل خاص بالارتباط مع تغيرات طبيعة السلطة أوالنظام، فخطابه قبل سقوط النظام الدكتاتوري يختلف عن خطابه بعد سقوطه. واختلف خطابه جذرياً من الناحية السياسية والفكرية في مؤتمره الخامس المنعقد في عام 1993 والذي سمي بحق مؤتمر الدمقراطية والتجديد. وهذه التسمية لا يحملها أي مؤتمر من مؤتمرات الحزب التسعة التي عقدت طيلة حياته سوى المؤتمر المذكور. ولا غرو في ذلك فقد جاء هذا المؤتمر بعد التحولات العميقة والواسعة التي جرت في الواقع بعد انهيار النظام الاشتراكي السابق، وانتهاء الحرب الباردة ونشوء القطب الواحد، وتأثيرات العولمة والثورة التكنولوجية والمعلوماتية، وما رافق كل ذلك وتبعه من تجديد أيديولوجي حصل لدي الحزب الشيوعي العراقي.
لقد تحول الحزب من حزب شديد المركزية ذي ضبط حديدي إلى حزب ديمقراطي، من حيث جوهره وأهدافه وبنيته وتنظيمه ونشاطه، ومن حيث علاقاته بالقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى. و تبنى الحزب التعددية والتداول السلمي للسلطة، وتخلى عن موضوعة ديكتاتورية البروليتاريا، ولكنه ظل متمسكاً بخياره الاشتراكي وبمبدأ التضامن الأممي.
ولولا هذا التحول لما تمكن الحزب، كما أعتقد، من المساهمة في العملية السياسية التي نشأت بعد سقوط النظام الدكتاتوري واحتلال العراق، وكان من الممكن أن يصطف الحزب كما اصطف بعض الشيوعيين، الجامدين عقائديا، صراحةً مع حارث الضاري الذي صرح جهاراً: "القاعدة منّا ونحن منها".
إن عدم فوز الحزب الشيوعي العراقي في الانتخابات النيابية لا يعود إلى طبيعة خطابه السياسي، بل يعود إلى ظرف موضوعي اقتصادي –اجتماعي ونتائج ما أحدثه النظام السابق من خراب اجتماعي واقتصادي وفكري وتأثير ما يجري في المنطقة من طغيان التعصب القومي والطائفي والتشدد الديني، إلى جانب قانون الانتخابات الظالم الذي سمح للقوائم الكبيرة أن تلتهم أصوات القوائم الأصغر. هذا القانون الذي اعترضت عليه المحكمة الاتحادية، ولكن لم تجرأ على إلغاء عواقبه. وقد فاز الحزب مع التيار الدمقراطي بجملة مقاعد في الانتخابات المحلية الأخيرة بنفس خطابه السابق ولكن في ظل نظام انتخابي آخر وهو نظام سانت ليغو العادل نسبياً. أقول نسبياً لأن الحزب يطمح أن يكون العراق دائرة انتخابية واحدة، وتمنح المقاعد المتبقية للمتبقي الأقوى. وبذلك تتحقق العدالة في توزيع المقاعد. إن مثل هذا النظام الانتخابي من شانه أن يعزز الهوية الوطنية على حساب الهويات الفرعية المدمرة لاسيما الهويات الفرعية المقيتة كالطائفية والعشائرية.
إنني أشاركك الرأي من أن الشباب أداة وعماد التغيير، وأعرف بأن ذلك ما يتبناه الحزب أيضا،ولديه خطط عملية من أجل تحريك الشباب وتعبئتهم، إلا أن ذلك دون الطموح. وفي كل الأحوال، فلا أمل في التغيير  بدون الشباب، فتيات وفتيان بطموحاتهم  وخيالهم الواسع وحماسهم ونشاطهم.
لقد اختتمت رسالتك بالقول: "اعتقد ماركس بان الثورة الاشتراكية ستنجح اولا في بريطانيا بأعتبارها دولة صناعية كبرى وتضم ملايين العمال لكن لينين استطاع بذكائه ان يصنع اول ثورة اشتراكية في روسيا البلد الذي غالبية سكانه كان من الفلاحين وليس من العمال لذلك فأن الشيوعيين العراقيين بحاجة اليوم الى ذكاء لينين اكثر من حاجتهم الى قراءة تعاليمه".
وهنا أتوقف عند قضيتين ، الأولى: لا أعتقد بإمكان أي إنسان بمفرده أن يحقق ثورة مهما بلغ من ذكاء. فالثورة تتحقق في ظل نضوج الظروف الموضوعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والذاتية المتمثلة في دور الجماهير وطليعتها. والقائد الناجح سواء أكان حزباً أم زعيم سياسي هو الذي يستوعب الحالة الثورية ولديه وضوح استراتيجي ويستخدم تكتيكات صائبة لإنجاح الثورة، وهذا ما فعله لينين الذي لم يكن وحده، بل كان معه قادة لامعين آخرين.
القضية الثانية: إن أكثر البحوث رصانة تعزو أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي والنظام الاشتراكي إلى جملة عوامل منها تخلف روسيا "البلد الذي كان غالبية سكانه من الفلاحين" وتؤكد هذه البحوث على صواب نظرية ماركس القائلة بإمكانية تحقق التحول الاشتراكي في البلدان الصناعية المتطور وليس في بلدان ضعيفة التطور.
مع تقديري واحترامي


 


38
المنبر الحر / قطار الموت
« في: 23:41 07/07/2013  »
لمناسبة مرور خمسين عاماً على جريمة "قطار الموت"

قطار الموت
جاسم الحلوائي
عرف الشعب العراقى "قطار الموت" بعد انقلاب 8 شباط الاسود عام 1963. وكان هذا القطار يشتمل على 15 عربة مخصصة لنقل البضائع والمواشي،وهي شبيهة بعلبة حديدية صماء محكمة الاغلاق بلا نوافذ ولا مقاعد وغير مبطنة ومطلية بالقير. وكان المنفذ الوحيد للهواء الخارجي داخل العربات هو الشقوق الضيقة جداً الموجودة بين أبواب العربات وإطاراتها.
إثر انتفاضة معسكر الرشيد أصاب الذعر حكام الانقلاب كثيراً، وأقلقهم بوجه خاص وجود مئات من الضباط الشيوعيين والقاسميين في سجن رقم 1 في معسكر الرشيد قريباً من أي ثائر آخر مثل الشهيد البطل حسن سريع يمكن أن يحررهم. تداولوا في أمر قتلهم، ولكنهم خافوا عاقبة الأمر. فاختاروا طريقة تؤدي إلى موتهم، وعندها يمكن تلفيق أي عذر لذلك بما فيه الإهمال أو التقصير من موظف ما. وهكذا تم حشر السجناء في صيف تموز القائظ في ذلك القطار وهم في حالة يرثى لها جراء الجوع والعطش والقلق. وكان السجناء مكبّلين بالسلاسل ومربوطون إلى بعضهم، بقصد إرسالهم إلى سجن "نقرة السلمان" الصحراوي سيء الصيت. وبسبب الحرارة الشديدة ونقص الأوكسجين وفقدان السوائل، أخذ السجناء يفقدون قدرتهم على تحمل الحرارة. فأوصاهم الجراح العسكري العميد رافد أديب بابان، الذي كان من ضمن المعتقلين، أن يشربوا العرق الذي تنضحه أجسادهم باستخلاصه من ملابسهم الداخلية. ومن حسن الصدف أن يعرف سائق القطار الشهم عبد العباس المفرجي، بهوية ركابه في محطة الهاشمية في محافظة الحلة من أحد الأشخاص، فانطلق بالقطار بأقصى سرعته مخالفاً الأوامر والتعليمات، رغم احتجاج وصراخ الحرس القومي والجنود الذين يحرسون القطار. فوصل القطار إلى مدينة السماوة قبل موعده بحوالي الساعتين.

                 
             السائق عبد العباس المفرجي               العميد الطبيب رافد أديب صبحي بابان

وكان الموقوفون في الرمق الأخير ومغمى على الكثيرين منهم. وفي محطة السماوة استقبلت الجماهير القطار وهي تحمل صفائح الماء البارد واللبن والرقي (البطيخ الأحمر) ، متحدّية بذلك الحكام الفاشست. فبادر الدكتور العميد رافد أديب بابان إلى تحذير الأهالي من الاقتراب من الموقوفين وسقيهم الماء، وطلب ملحاً فاستجاب المواطنون لطلبه، وجلبوا كميات من الملح. وتوّلى الأطباء العسكريون السجناء إسعاف رفاقهم، وقد استشهد منهم الرئيس الأول يحيى نادر. وصارت تعرف هذه الحادثة  ﺒ"قطار الموت". وهي واحدة من جرائم حزب البعث التي لا تنسى.
و كان من ركاب هذا القطار، الذي كان يحمل 520 معتقل سياسي، العقيد ابراهيم حسن الجبورى، العقيد نادر جلال نادر،العقيد حسن عبود، العقيد سلمان عبد المجيد الحصان، المقدم عدنان الخيال، المهندس الضابط عبد القادر الشيخ، الرئيس صلاح الدين رؤوف، الضابط يحى نادر، الضابط محمود جعفر الجلبي، العقيد لطفي طاهر، الضابط ساجد نوري، الضابط نوري الونة،الضابط غضبان السعد، الضابط غازي شاكر الجبوري، الضابط ابراهيم الجبوري، الضابط عبد السلام بالطة، الضابط الطبيب رافد صبحي أديب الضابط الطيارعبد النبي جميل، الضابط الطيار حسين علي جعفر، الضابط طارق عباس حلمي، الضابط عزيز الحاج محمود، مكرم الطالباني،عزيز الشيخ محمود، عبد الوهاب الرحبي، كريم الحكيم، الدكتور احمد البامرني، علي حسين رشيد، جميل منير العاني، شاكر القيسي، حامد الخطيب، فاضل الطائي، عبد الصمد نعمان،علي ابراهيم، الطبيب سعيد غدير، الطبيب قتيبة الشيخ نوري،الطبيب سعد عزيز، الطبيب صلاح العاني والطبيب طارق عواد.  
وورد ذكر هذا القطار في قصيدة الشاعر الكبير سعدي يوسف "إعلان سياحي لحاج عمران" أديس أبابا 19 آب 1983.
يا بلاداً بين نهرين
بلاداً بين سيفين
بلاداً كلما استنفرت الأسلاف، دقت طبلة الأجلاف..
قوميون لم يستنطقوا التاريخ إلا في قطار الموت.





39
انتفاضة معسكر الرشيد في
3 تموز 1963
جاسم الحلوائي

تشير المصادر المختلفة إلى أن انتفاضة معسكر الرشيد أو حركة حسن سريع بدأت بمحاولات فردية قام بها شيوعيون، من مستوى لجان المحلية وما دونها، لإعادة بناء التنظيم الحزبي على مستوى القاعدة الحزبية. ويُشار بوجه خاص، إلى أن كادراً حزبياً عمالياً، يُدعى إبراهيم محمد علي الديزئي من مدينة مخمور، كان يعمل في إطار اللجنة المحلية للمشاريع العمالية الصغرى التابعة إلى منطقة بغداد، هو الذي بدأ هذا النشاط وقاده. وقد امتد نشاط هذا التنظيم واتسع بسرعة بين الطلاب والجنود. وكان من بين الذين انخرطوا في هذا النشاط و بهمة عالية، محمد حبيب (أبو سلام)، وهو عامل خباز، وكان يقود "لجنة قاعدية" وينتظم في لجنة قضاء يقودها الشهيد إبراهيم محمد علي. وكان حبيب هو المسؤول الحزبي عن المجموعة الصِدامية الشجاعة التي قادت ونفذت انتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963، بقيادة المناضل الشجاع الرفيق حسن سريع. وانضم إلى هذا النشاط الخياط حافظ لفتة، والطالب هاشم الآلوسي، وكلاهما أصبحا من قادة هذا التنظيم، الذي صار يعرف ﺑ"اللجنة الثورية". وقد ظلت هذه المجموعة تسعى للاتصال بقيادة الحزب. و"يبدو أن الشهيد حسن سريع كان صاحب الدور الأوفر في التهيئة والتحضير والكسب للانتفاضة ، إذ كان رصينا ، محبوبا ، تعّلق به الجنود وصف الضباط من أقرانه كثيرا ، فكان يجمع بين الشجاعة والإقدام والطيبة وكرم النفس ، ومن هنا كانت شخصيته قوية وجذابة فنال حب الجنود واحترامهم". (راجع نعيم الزهيري، رسالة العراق العدد 88 السنة 8 نيسان / 2002 ص15 ،16).

ويُفيد الكاتب حامد الحمداني بأن محمد حبيب "أخذ يتهرب من اللقاء مع إبراهيم في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ الانتفاضة، وبات واضحا أنه أراد الانشقاق عن الحزب والاستئثار بالحركة لنفسه". إن الحمداني عديل إبراهيم محمد علي، وكانا يقيمان في بيت واحد وأعتقل الاثنان في يوم 18  تموز. وقد استشهد إبراهيم ببطولة بعد يومين من اعتقاله .

لقد انضم إلى المجموعة ما يقارب من ألفي شخص، من حزبيين ولا حزبيين، وأغلبهم من العسكريين، جنوداً ومراتب، يتوزعون على العديد من معسكرات بغداد وغيرها.

وفي بداية أيار 1963، كما يذهب تقرير قدمه هاشم الآلوسي إلى الحزب لاحقاً، سعى منظمو المجموعة إلى الاتصال بقيادة الحزب في بغداد. وقد نصحهم جمال الحيدري والعبلي بالتريّث وإعطاء الفرصة للحزب لكي يعيد ترتيب أوضاعه ويغدو قادراً على التحرك. إلا أن المجموعة لم تقتنع بهذا الرأي، وأصرت على مواصلة استعداداتها، وكانت تتحرك باسم الحزب وقيادته. كذلك اتصلت هذه المجموعة بمنظمة الحزب في الفرات الأوسط لتضمن تأييدها، ولم تتمكن أن تثبت إدعاءها بأنها مخوّلة من قيادة الحزب، إلا أنها حصلت على وعد عام بالمساندة بعد التنفيذ.

في حزيران 1963 شاءت الصدف، وربما بسبب كثرة التحرك والاستعجال، أن القي القبض على عريفين من قادة المنظمة. وخشية من أن يبوحا بخطط التحرك، تحت التعذيب، سارع محمد حبيب، وكان كثير الاعتداد بنفسه. إلى تقديم الموعد من 5 إلى 3 تموز، وبمعزل عن مسؤوله الحزبي إبراهيم محمد علي.

في فجر 3 /تموز 1963 قامت مجموعات من الجنود وضباط الصف يقودهم النائب العريف حســن ســريـع بالاستيلاء على وحدة قطع المعادن ( ومنها انطلقت الشرارة ) وعلى مشاجب سلاح سرايا الحراسة في معسكر الرشيد ، وسيطروا عليها واعتقلوا ضباطها. كما احتلوا كتيبة الدبابات الأولى وحاولوا استخدامها ، إلا أنها كانت فارغة من بطاريات التشغيل، وتم اعتقال قائد الكتيبة وهو ضابط برتبة مقدم وضباطه الأربعة. كما احتل المنتفضون مطار الرشيد العسكري، إذ كانت الطائرات الحربية جاهزة بحمولتها القتالية بسبب الحرب في كردستان، وعلى استعداد للطيران بعد أن يتم تحرير جمهرة الطيارين الشيوعيين المعتقلين في سجن رقم  في المعسكر ذاته. كما تمت السيطرة على مدخليّ المعسكر والمستشفى العسكري ومقر اللواء الخامس عشر وغيرها من الوحدات العسكرية. كما اعتقل المنتفضون منذر الونداوي القائد العام للحرس القومي والقوة الجوية ، ومساعده نجاد الصافي ووزير الخارجية طالب شبيب ووزير رئاسة الجمهورية حازم جواد وغيرهم . حتى وصل عدد المعتقلين إلى 180 شخصاً .

وتوّجهت مجموعة من المنتفضين لاحتلال السجن العسكري رقم واحد وتحرير السجناء. بيد أن هؤلاء لم يباغتوا السرية التي تحرس السجن، لذا واجهوا مقاومتها فعجزوا عن احتلاله وتحرير الضباط المعتقلين فيه . كما أنهم لم يعتقلوا رئيس الجمهورية آنذاك عبد السلام عارف الذي كان بيدهم صيدا سهلا .

لقد أكدت الحركة، كما جاء في تقييم الحزب لها، على"عجز أعنف موجة إرهابية على قتل الروح الثورية للشعب العراقي، وعرّت عزلة حكم انقلابيي شباط حتى في معسكرات الجيش التي كانت تحت قبضتهم. وكانت عملاً بطولياً حقاً، ولا يتنافى تثميننا لها مع كونها كانت عملاً متسرعاً ألحق من الناحية العملية أضراراً وضربات جديدة بالحزب والحركة...الخ" ( راجع عزيز سباهي، "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، الجزء الثاني  ص571 وما يليها.



40
انقلاب 8 شباط الفاشي ــ 1963
جاسم الحلوائي

في شهر شباط الحالي عام 2013، يكون قد مر علينا نصف قرن على انقلاب 8 شباط الفاشي الذي وجّه ضربة صاعقة لحلم الشعب العراقي وطموحه في سبيل إقامة نظام وطني ديمقراطي يمهد الطريق لتطور العراق وازدهاره ويوفر لشعبه حياة حرة وكريمة. لقد كافح الشعب العراقي من أجل تحقيق هذا الهدف طويلاً، وقدم ولايزال يقدم في سبيل ذلك تضحيات غالية. فما الذي حدث في شباط 1963؟ وكيف ولماذا حلت بالعراق هذه الكارثة الوطنية. هذه محاولة للإجابة على هذه الأسئلة بشكل مركز.

بعد أن لملم حزب البعث قواه إثر الضربة التي وجهت له بعد محاولته الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم في أواخر عام 1959، توّجه للتآمر من أجل الإطاحة بالحكم والسيطرة على السلطة بانقلاب عسكري بالتحالف مع قوى أخرى، قومية ورجعية ومحافظة. والتقت هذه المحاولات مع ما كانت تدبّره الدوائر الأمريكية وعملاؤها في العراق والبلدان المجاورة له. كما تطابقت هذه المساعي مع ما كانت تسعى اليه الجمهورية العربية المتحدة، وتوافقت مع الجهود الحثيثة لشركات النفط العاملة في العراق للتخلص من حكم قاسم، ولاسيما بعد إصدار القانون رقم 80 الذي انتزع من هذه الشركات كل الأراضي التي لم تستثمرها حتى ذلك الحين، والتي تؤلف (5 ,99%) من مجموع مساحة البلاد التي كانت تدخل ضمن امتيازها.

ووّفر حكم الزعيم عبد الكريم قاسم العسكري الفردي، بسياسته المنافية لحقوق الشعب الديمقراطية وانعزاله عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الحريصة على الاستقلال الوطني والنهج الديمقراطي، الأجواء الملائمة للنشاط التآمري والرجعي. فتزايدت صلافة القوى الرجعية وتجاوزاتها على حقوق الجماهير التي حُرمت من وسائلها لتنظيم نفسها للدفاع عن حقوقها، وبالتالي الدفاع عن الحكم. وجاءت الحرب التي شنتها الحكومة ضد الشعب الكردي، لتُضعف كثيراً من قدراتها العسكرية، وتُزيد من أعبائها المالية، في وقت كان الحكم يُعاني من ضغط شركات النفط وسياساتها في خفض الإنتاج، مُستهدفة من ذلك إشغال الحكم عما كان يُدبّر له. وجاءت مشكلة الكويت ومُطالبة عبد الكريم قاسم بها، لتزيد من التعقيدات السياسية التي كان يواجهها، وأعطت الذريعة للدوائر البريطانية لنشر قواتها  وتحشيدها قريباً من الحدود العراقية. وتهيأ كبار العسكريين المحافظين، على اختلاف ولاءاتهم، والإقطاعيون والأغوات والرجعيون وعملاء الاستعمار، لضم قواهم إلى كل من يبادر إلى عمل مضاد للحكم. وحين انحصر الفعل على البعث والقوميين العرب، استعدوا للسير وراء أي منهما أو كلاهما.

في 3 كانون الثاني 1963 أصدر الحزب الشيوعي العراقي بياناً يُحذر فيه قاسم من انقلاب عسكري يقوم به حزب البعث، وسينطلق من كتيبة الدبابات التابعة للفرقة الرابعة المدرعة في (أبو غريب). وكان يقود هذه الكتيبة يومئذ العقيد خالد الهاشمي، عضو المكتب العسكري لحزب البعث. وكان لدى قاسم المعلومات ذاتها. وقد اتخذ قاسم جملة من الإجراءات بما في ذلك اعتقال عدد من قادة البعث، ولكن تلك الاجراءات لم تكن بالمستوى المطلوب. وخوفاً من مزيد من الاعتقالات، قرر قادة  الانقلاب الذين ما زالوا طلقاء تنفيذ ضربتهم يوم 8 شباط، بدلاً من يوم 25 كما كان مقرراً لها.

بدأ تنفيذ الانقلاب في الساعة الثامنة من صباح 8 شباط 1963. وكانت المهمة الأولى أمام الانقلابيين هي شل سلاح الطيران في معسكر الرشيد الذي كان يضم عدداً كبيراً من ضباط الطيران الشيوعيين بقيادة قائد القوة الجوية الزعيم الركن الطيار الشيوعي جلال الأوقاتي. وكانت نقطة الانطلاق في الانقلاب اغتياله. فقامت مفرزة مسلحة من الانقلابيين بمهاجمة جلال الأوقاتي قرب بيته الذي كان تحت مراقبة البعثيين خلال اليومين الأخيرين، وقتلوه في الساعة الثامنة والنصف. وشُرع بقصف معسكر الرشيد وتم تحطيم الطائرات التي كانت جاثمة فيه في الساعة التاسعة، وقتل الضباط الشيوعيون وأعتقل جميع الضباط غير البعثيين. وبعد دقائق شنت الطائرات هجوماً على وزارة الدفاع. كما اتجهت بعض الدبابات من (أبوغريب) نحو مرسلات الإذاعة، وأذاع الانقلابيون بيانهم من هناك. كما اتجهت دبابات أخري نحو دار الإذاعة في الصالحية، بينما اتجهت أربع دبابات إلى وزارة الدفاع.

واستخدم الانقلابيون الخداع والكذب والتزييف منذ بيانهم الأول. وكان قادة الدبابات التي هاجمت وزارة الدفاع يرددون مع الجماهير الغاضبة "ماكو زعيم إلا كريم"، ويرفعون صور قاسم لكي تتمكن الدبابات من شق طريقها وسط الجموع الغاضبة. وراح الانقلابيون  يذيعون برقيات مزورة لتأييد حركتهم من آمري الوحدات العسكرية في مختلف المواقع.

اقترح الزعيم الركن طه الشيخ أحمد ذو الميول الشيوعية، ومدير الحركات العسكرية، كما يشير بطاطو، تحريك القوات جيدة التجهيز التي هي بإمرتهم، وأن يجربوا الانقضاض المباشر على مواقع المتآمرين وقياداتهم، في مسعى لتحريك الجنود والضباط المترددين في معظم الوحدات العسكرية، بدلا من أن يقبعوا في وزارة الدفاع وينتظروا مصيرهم، فوزارة الدفاع هي الشرك الذي سيقعون فيه. وألح الزعيم الركن طه الشيخ أحمد على توزيع الأسلحة الخفيفة والذخائر على الجماهير المحتشدة خارج وزارة الدفاع والتي تطالب بالسلاح. ولكن مقترحات طه الشيخ أحمد لم تجد لها صدى وقبول عند قاسم، الذي فضّل خطة دفاعية وهي البقاء في وزارة الدفاع.

الحزب الشيوعي يقف ببطولة
ضد الانقلاب الفاشي

سارع سلام عادل، إلى جمع من أمكن الاتصال بهم من أعضاء اللجنة المركزية في بغداد، ومن قادة منظمة العاصمة لتحديد الموقف من الانقلاب. وقد توصل المجتمعون إلى أن الانقلاب لا يستهدف عبد الكريم قاسم وأركان حكومته وحدهم، وإنما يستهدف كذلك ضرب الحزب الشيوعي والقضاء عليه. اتصل سلام عادل بالجادرجي ومحمد حديد اللذين أخبراه، كل على حدة، بأنهما ضد الانقلاب ولكن ليس لديهما إمكانية للمقاومة. وفي الحال سارع سلام عادل إلى تحرير بيان طلب أن يوّزع بأكبر قدر ممكن، وأن يُتلى على جموع الناس حيث تحتشد، وأن يُلصق في المحلات العامة. وانطلق الجميع لاستنفار منظماتهم والجماهير المحيطة بها. ومما جاء في البيان، الذي ذيّل باسم الحزب الشيوعي العراقي ووزع في الساعة العاشرة من صباح 8 شباط، ما يلي:

" إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية!
أيها المواطنون! يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم! أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية الديمقراطية!
قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة بائسة للسيطرة على الحكم تمهيداً لإرجاع بلادنا إلى قبضة الاستعمار والرجعية.... ثم يدعو البيان الجماهير قائلاً: "إلى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني، وعن مكاسب شعبنا! إلى تشكيل لجان الدفاع عن الاستقلال الوطني في كل معسكر، وفي كل محلة ومؤسسة وفي كل قرية!
إلى الأمام، إلى تطهير الجيوب الرجعية، وسحق أية محاولة استعمارية في أية ثكنة وفي أية بقعة من بقاع البلاد".
وينتهي البيان بالآتي: "إننا نطالب الحكومة بالسلاح!
فإلى الأمام إلى الشوارع! إلى سحق المؤامرة والمتآمرين".

إثر ذلك، اندفعت الجماهير بأعداد هائلة إلى الشوارع، من كل مكان، وخاصة من المناطق الكادحة. وقد أثار حماستها بيان الحزب الذي وزع في الشوارع والأماكن الشعبية، وتوّلى البعض قراءته على الجماهير. وتوجهت جموع غفيرة صوب وزارة الدفاع لدعم القوات العسكرية ولتحصل على السلاح. ولكن قاسم رفض تزويد الجماهير بالسلاح. فأصدر الحزب الشيوعي البيان الثاني في الساعة الحادية عشر، وقد جاء فيه:" ... إننا ندعو الجماهير لمهاجمة الجيوب الرجعية وسحقها دون رحمة وعدم الانتظار. إن استقلالنا الوطني أمام خطر مؤكد... إن مكتسبات الثورة أمام خطر مؤكد... استولوا على السلاح من مراكز الشرطة ومن أي مكان يوجد فيه ... إلى السلاح! إلى الهجوم من كل أنحاء بغداد والعراق لسحق جيوب عملاء الاستعمار" .

ولم تستطع دبابات المتآمرين اختراق شارع الرشيد بسهولة. فقد تصّدت لها الجماهير وعلى رأسها الشيوعيون. فلجأت الدبابات الأخرى إلى الخُدعة، فراح الضباط المتآمرون يشاركون الجماهير هتافهم: "ماكو زعيم إلا كريم"، كما مر بنا. فانطلت الحيلة على الجماهير واستطاعت الدبابات النفاذ إلى داخل الوزارة.  ودارت معركة حامية الوطيس في وزارة الدفاع ابتدأت من الساعة  الثالثة بعد الظهر من يوم ثمانية شباط واستمرت حتى التاسعة مساء.  وقد أبدى العميد عبد الكريم جدة وقواته من الانضباط العسكري، والعقيد وصفي طاهر، بسالة كبيرة في التصدي لهجوم المتآمرين، حتى استشهادهما. وكذلك لعب الرئيس الأول الشيوعي سعيد مطر دوراً بطولياً في المعركة. وحين انتهت المقاومة استطاع سعيد مطر أن يفلت وينضم إلى الجماهير التي كانت تقاتل في حي الأكراد. ولم يبق من المقاتلين الذين كان يربو عددهم على 1500 مقاتل في وزارة الدفاع إلا بضعة أنفار. فاعتقل الانقلابيون عبد الكريم قاسم والمهداوي وطه الشيخ أحمد وتم إعدامهم  خلال ساعة واحدة.

وفي الساعة الثامنة والدقيقة العشرين مساء 8 شباط أذيع البيان رقم 13 الذي أباح قتل الشيوعيين "أينما وجدوا". وعلى الرغم من ذلك خاضت الجماهير في محلات عديدة من بغداد معارك مشهودة قادها الشيوعيون. ففي الكاظمية، خاضت الجماهير معركة باسلة كان يقودها هادي هاشم، عضو سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والمقدم المتقاعد خزعل السعدي، وعضو لجنة منطقة بغداد للحزب حمدي أيوب العاني وانضم إليهم الشاعر المعروف مظفر النواب ومحمد الوردي. وقد استطاعت الجماهير في المدينة أن تخوض معركة استمرت أربع ساعات مع شرطة النجدة، وأن تستولي على مشاجب السلاح في المركز المذكور، وتتسلح بها للسيطرة على مراكز الشرطة الأخرى، وتستولي على مشاجب السلاح فيها.  وقد سيطرت الجماهير على المدينة برمتها حتى جسر الصرافية من جهة الكرخ. واشتدت المعارك في مناطق عمال النسيج في البحية وفي مدينة الكادحين (الشعلة). وساهمت النسوة لاسيما الشيوعيات في المقاومة ببسالة واستشهد العديد منهن في ساحة المعركة، ومنهن الرفيقة مريم رؤوف الكاظمي. واستمر القتال حتى اليوم الثالث.. واستشهد في معارك الكاظمية العديد من أبنائها بينهم شيوعيون معروفون مثل علي عبد الله وناظم جودي وسعيد متروك الذي قام بتغطية عملية الانسحاب لوحده، حيث قاوم لعدة ساعات شاغلاً قوات العدو، حتى تم الانسحاب التام وأطلق آخر طلقة لديه. ولم يصدق المتآمرون أن شخصاً واحداً كان يدير تلك المقاومة، فانتقموا من بسالته بقتله بمنتهى الوحشية . 

وفي (ﻋﮝد الأكراد)، في باب الشيخ، قاومت الجماهير من الأكراد الفيليين الذين يزدحمون في المنطقة وكادحي باب الشيخ والتحقت بهم الجماهير القادمة من مدينة الثورة ومختلف مناطق بغداد. وقد قدر عدد المقاومين بأربعة آلاف في اليوم الأول. وقاد المعركة ببسالة واقتدار محمد صالح العبلي، عضو المكتب السياسي ، ويعاونه عدد من كوادر الحزب وقادة منظمة بغداد، من بينهم لطيف الحاج وباسم مشتاق وكامل كرم وكريم الحكيم والدكتور حسين الوردي وصباح أحمد. وكانت الجماهير تتسلح ببعض البنادق والمسدسات والقنابل اليدوية التي كانت مخزونة وفق خطة الطوارئ للحزب الشيوعي، إضافة إلى ما يملكه أبناء الشعب، وبالعصي والفؤوس والأسلحة البيضاء. وقد حاول المقاومون اقتحام مركز باب الشيخ والاستيلاء على أسلحته، ولكنهم لم يفلحوا. وقد امتازت المقاومة هنا بحسن التنظيم، واستطاعت أن تصمد وتقاوم لثلاثة أيام بالرغم من وحشية القوات الانقلابية. وكان سكان المحلات الشعبية المحيطة بحي الأكراد تتعاطف مع المقاومين، وتمدهم بالغذاء والعتاد والأدوية، وترعى جرحاهم. ولما اتضح للقيادة في اليوم الثالث أنه من المتعذر مواصلة القتال، وأنه لم يعد هناك من داع لاستمراره بعد أن استتب الأمر للانقلابيين، أمرت قيادة المقاومة المقاومين بالانسحاب بانتظام، والاحتفاظ بأسلحتهم.

كما زحف سكان العديد من المناطق الكادحة في الكرخ نحو الإذاعة في الصالحية في محاولة جريئة للاستيلاء عليها  وطرد الانقلابيين منها. وكان يقودهم شيوعيون معروفون وهم: ليلى الرومي وبلال علي ومتي هندي هندو ، ولكن المحاولة جوبهت بمقاومة ضارية من قبل القوة العسكرية التي تحتل الإذاعة، ولحقت بالمقاومين خسارة فادحة.

وتحركت الجماهير في بعض المدن الأخرى. ففي الكوت تظاهرت جماهير المدينة وتوجهت إلى السجن مطالبة بتحرير السجناء السياسيين، وجلهم من الشيوعيين، الذين كانت تتعالى هتافاتهم مطالبة بإفساح المجال لهم بمشاركة الشعب في مقاومة الانقلاب، وهم يحاولون كسر أبواب السجن. وتحت ضغط الجماهير من خارج السجن والسجناء من داخله، أذعن الحراس للضغط، وسارعوا إلى فتح أبواب السجن. فانضم السجناء السياسيين إلى الشعب الساخط يتقدمهم الكادر الشيوعي الباسل محمد الخضري. وفي البصرة، قامت مظاهرات متفرقة، لاسيما في حي الجمهورية،وتحّشد بضع مئات من الجماهير أمام مقر متصرفية اللواء في (العشار). وتفرقت بعد أن أطلق الرصاص صوبها.

 لقد تجاوز الحكام الجدد كل الحدود في تعاملهم البربري مع المناطق التي وقفت ضدهم. ويشير الباحث حنا بطاطو في الجزء الثالث من كتابه الموسوم " العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية" ص 298 – 300  ما يلي: "وعوملت المناطق التي وقفت في وجههم كأنها بلد عدو. وانتشرت قوات الحرس القومي ووحدات من القوات المسلحة تمشط البيوت وأكواخ الطين في هذه المناطق. وجرى إعدام كل شيوعي ـ حقيقي أو مفترض لإبدائه أقل مقاومة أو لمجرد الاشتباه بنيته في المقاومة. وملأ عدد الذين اعتقلوا بهذه الطريقة السجون الموجودة، فتم تحويل النوادي الرياضية ودور السينما والمساكن الخاصة وقصر النهاية، وحتى جزء من شارع الكفاح في الأيام الأولى، إلى معسكرات اعتقال". أما عن القتلى فيقول بطاطو ما يلي: " في تقديرات الشيوعيين أن لا أقل من 5000 (مواطن) قتلوا في القتال الذي جرى من 8 إلى 10 شباط. وقدّر مراقب دبلوماسي أجنبي حسن الإطلاع ولا يرغب في ذكر اسمه أن مجموع عدد القتلى بحوالي 1500، ويتضمن هذا الرقم ما يزيد على مئة جندي سقطوا داخل وزارة الدفاع. (الخطوط ليست موجودة في الأصل،جاسم ).

ومنذ اليوم الأول للانقلاب واستناداً إلى البيان رقم 13، شنّ الحرس القومي حملة اعتقالات واسعة في جميع أنحاء العراق طالت عشرات الألوف من الناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولاسيما في المدارس والمعامل والجيش. إلا أن الجهاز القيادي الأساسي للحزب الشيوعي وما يرتبط به من شبكة كوادر ظل سليماً، بوجه عام. كما سلمت مطابع الحزب ومحطاته الأساسية. ولم تؤد القوائم التي كانت تذيعها المحطة السرية الأجنبية، الغرض الذي توّخاه منظموها، إي اعتقال قادة الحزب وشبكة الكادر الحزبي الذي يرتبط بها. وكانت قيادة الحزب قد عمدت، بعد فشل المقاومة مباشرة، إلى مطالبة جميع القادة والكادر الحزبي بتبديل بيوت سكناهم وأماكن التقاءاتهم. وعمدت إلى تغيير طرائق ورموز الاتصالات ومواعيدها...الخ. وبفعل التعذيب الوحشي انهار البعض، وأدى ذلك إلى اعتقال سلام عادل في يوم 19 شباط 1963 والعديد من قادة الحزب. ولم ينج من الاعتقال في بغداد سوى جمال الحيدري والعبلي وعزيز الشيخ.

الصمود البطولي   

بيد أن البعثيين لم ينقلوا لنا في مذكراتهم ، كما يشير سباهي في كتابه الموسوم "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، صور الصمود البطولي، الذي قابل به قادة الحزب الشيوعي ما صُب عليهم من ألوان التعذيب وأفانينه إلا النادر منها. إلا أن ما نقل عن هؤلاء القادة عن طريق من نجا من المعتقلين من الموت بصورة من الصور، يكفي للتعريف بالشجاعة الهائلة التي واجه بها سلام عادل الجلادين وهم يجربون معه كل ما أتقنوه من فنون التعذيب. فهل يتجرأ ممن بقي من سلطة الانقلاب، على الحديث عن هذا الإنسان الكبير وما جرى له من تعذيب يفوق قدرة البشر دون أن يتفوه بشيء؟ وأية كلمة يمكن أن تقال وهم يتلذذون بقطع أوصاله، أو ضغط عينيه، حتى تسيلا دماً وتفقدا ماء البصر.أو كيف قطعوا أعصابه بالكلابين أو كيف واصلوا ضربه على الرأس حتى لفظ أنفاسه؟ والصمود الأسطوري ذاته يتكرر مع عبد الرحيم شريف، ومع محمد حسين أبو العيس وهو يكابد العذاب أمام زوجته الشابة والأديبة الموهوبة سافرة جميل حافظ التي كانت تعّذب أمامه هي الأخرى حتى لفظ أنفاسه أمامها".

ويواصل سباهي "... والثبات الذي لا يعرف الحد للدكتور محمد الجلبي، وهو يتجرع الموت قطرة فقطرة..والحديث يطول عن صلابة نافع يونس أو حمزة السلمان أو حسن عوينة أو صاحب المرزا أو صبيح سباهي أو طالب عبد الجبار أو الياس حنا كوهاري (أبو طلعت) أو هشام إسماعيل صفوت أو محمد الوردي أو إبراهيم الحكاك أو الصغيرين الأخوين فاضل الصفار (16سنة) ونظمي الصفار (14 سنة) اللذين عُذبا  أمام أمهما التي كانت "تتسلى" عنهما بالضرب الذي تتلقاه وهي حامل، وفضّل فاضل الموت على أن يدل الجلادين على الدار التي يسكنها زوج أمه جمال الحيدري. لم يكن بوسع أي كاتب، مهما أوتي من براعة التصوير، أن يعرض القصة الكاملة لما جرى في (قصر النهاية) و(ملعب الإدارة المحلية) و(النادي الأولمبي) وبناية (محكمة الشعب) وغيرها من الأماكن التي جرى تحويلها إلى مقرات للتحقيق والتعذيب".

حاول الانقلابيون أن يدخلوا في روع الناس بأن وحشيتهم في  تصفية الشيوعيين والقوى الديمقراطية الأخرى كانت بسبب المقاومة المسلحة في بداية الانقلاب. بيد أن الانقلابيين أنفسهم قد فندوا، في أكثر من وثيقة وتصريح رسمي، ادعاءاتهم بأنفسهم، إذ كانوا يؤكدون عزمهم المسبق على تصفية الحزب الشيوعي والحركة الديمقراطية بصرف النظر عن الموقف الذي تتخذه من انقلابهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن الرجوع إلى تصريح ميشيل عفلق إلى جريدة " ليموند" الفرنسية الذي نشر في جريدة "الأخبار" العراقية في 24 آذار 1963، وقد جاء فيه ما يلي: "إن الأحزاب الشيوعية ستمنع وتقمع بأقصى ما يكون من الشدة في كل بلد يصل فيه حزب البعث إلى الحكم". لذلك فلم يكن أمام الحزب الشيوعي العراقي من خيار، لحظة وقوع الانقلاب ، سوى المقاومة، ليس دفاعاً عن النفس فحسب، بل ووفاء لالتزاماته أمام الشعب العراقي بالوقوف بوجه المؤامرات الاستعمارية والرجعية، دفاعاً عن الاستقلال الوطني وراية 14 تموز. فبرهن الشيوعيون كعهدهم دائما أنهم لا يتركون ساحة الكفاح ولا يتخلون عن الشعب حين تهب أعاصير الإرهاب. وقد ساهمت تضحياتهم ونضالاتهم إسهاماً فعالاً في تعرية الحكم الفاشي وعزله داخليا وعربيا وعالمياً والتعجيل بسقوطه. لقد كانت المقاومة مأثرة تاريخية على الرغم من فشلها وقد قيّمها الكونفرنس الحزبي الثالث للحزب الشيوعي العراقي  تقييماً إيجابياً.

آخر ما كتبه سلام عادل

بعد أيام قليلة من الانقلاب، قدّم سلام عادل تقييماً أولياً للانقلاب، وُزع على لجان المناطق واللجان المحلية، ودعاه "ملاحظات أولية". وكانت هذه آخر رسالة يوجهها إلى الحزب. ويقول سكرتير الحزب فيها ما يلي: "إن انقلاب (الردة) في 8 شباط قد بدأ فكرياً وسياسياً واقتصادياً منذ أواسط 1959، حينما تصرف قاسم بما يشبه الاستسلام للقوى السوداء التي أخذت تسترجع المواقع واحداً بعد آخر، في الجيش والدولة وفي الحياة الاقتصادية والمجتمع، منذ ذلك الحين فإن الخط البياني لتفاقم التهديد الرجعي وتفاقم أخطار الردة، قد تموج لعدة فترات صعوداً ونزولاً، ولكن كخط عام بقي يتصاعد. وفي 8 شباط 1963 أسقطت الرجعية الفاشية السوداء حكم قاسم واستولت على الحكم... وعندما انفجرت جماهير الشعب الكادح للوقوف بوجه المتآمرين بعزم وإصرار ووعي عظيم، اصطدمت لا بالعناصر الرجعية المتآمرة من أجهزة الجيش والدولة فحسب، بل جابهت قمع عدد غير قليل من أعوان قاسم نفسه ممن كان يعتمد عليهم والذين فضّلوا الركوع أمام الرجعية وتسهيل مهمتها في استلام الحكم والوقوف ضد المقاومة الشعبية الباسلة".

ويفند سلام عادل في ملاحظاته الأولية ادعاءات الانقلابيين ويدافع عن سياسة الحزب ويحدد مسؤولية الأطراف والقوى السياسية المختلفة العربية منها والكردية... ويقول سلام عادل:" إن السبب الرئيسي الذي أدى إلى سيطرة الانقلابيين على الحكم هو العزلة التي أصابت تدريجياً دكتاتورية قاسم عن الشعب وعن القوى الوطنية. ولكن الانقلاب الرجعي الراهن يبدأ بعزلة أشد من تلك العزلة التي انتهت اليها دكتاتورية قاسم. ولابد لمثل هذا الحكم المعزول أن يجابه نهايته السريعة جداً على يد شعبنا المجاهد الباسل، وبتضافر سائر طبقاته وقومياته وقواه الوطنية والديمقراطية وبالدرجة الأولى بتحالف العمال والفلاحين وسائر الكادحين والمثقفين الثوريين عرباً وأكراداً وغيرهما، وبالقيادة الحازمة الواعية للطبقة العاملة والحزب الشيوعي"

¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬المصادر
1-   عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، الجزء الثاني2003.
2-   حنا بطاطو ، العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الجزء الثالث 1990.
3-   زكي خيري وسعاد خيري - دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، 1984.
4-    جاسم الحلوائي، "محظات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، 2009.

نشر هذا المقال في جريدة "طريق الشعب" يوم الأربعاء 6 شباط  2013

41
رد أخير على الأستاذ موسى فرج
 
جميع القوميات صغيرها وكبيرها لها حق تقرير المصير
جاسم الحلوائي
لم أكن أرغب بالتشعب في النقاش مع الأستاذ موسى فرج، ولكن أسلوبه في النقاش يجبر المرء على ذلك. فقد عنون مقاله المنشور في موقع الناس في 10 حزيران 2012 على الوجه التالي: "رداً على :( والحوار لازال مع الأستاذ موسى فرج .. لا مكيال ولا مكيالين ): أيها القراء..احكموا سياسيا بيني وبين الأستاذ جاسم الحلوائي ..." (رابط مقال الأستاذ فرج مرفق)
إن طلب ترك خلافنا للقراء ليحكموا عليه كان مقترحي وذلك في تعليقي على مقاله السابق في باب التعليقات في موقع "الحوار المتمدن". ولم يدر بخلدي هذه الطريقة الاستعراضية وكأننا لا ندخل في نقاش وحوار بقدر ما ندخل في حلبة للمصارعة والملاكمة.
لم يذكر الأستاذ فرج عنوان مقالي بشكل صحيح وعنوان مقالي هو الآتي: "والحوار متواصل مع الأستاذ موسى فرج_ مكيال واحد أم مكيالين ؟ والفرق واضح بين "مكيال واحد أم مكيالين؟" وبين العنوان الذي نسبه إليّ "لامكيال ولا مكيالين" فالأخير تشويه للأول وهذا غير لائق في الحوار.
ويتصدر مقال الأستاذ فرج مايلي:
المشتكي : موسى فرج .. شغله : ديمقراطي ..
المشكو منه : جاسم الحلوائي .. شغله : (يُسأل عنه) ..
طرح غريب  والأغرب من كل ذلك عبارة (يُسأل عنه).. وكأن الحلوائي نكرة غير معروف للقراء. لقد كنت أتصور بأن الأستاذ فرج يعرفني لاسيما وأن معرفتي لا تحتاج إلى أكثر من نقرة على صورتي في الحوار المتمدن لتظهر سيرتي الذاتية، وهذه التقنية يعرفها أي مستخدم للكوميوتير. وتحت سيرتي الذاتية يجد كتابي المعنون "الحقيقة كما عشتها" والذي يحوي ذكرياتي ومعلومات تفصيلية عني منذ أن ولدت في عام 1932 حتى إصابتي بسكتة قلبية وخروجي من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في عام 1985. و إلى جانب ذلك الكتاب سيجد كتاباً آخراً تحت عنوان"محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، وهو كتاب يتناول تاريخ العراق الحديث وخاصة تاريخ الحزب الشيوعي للنصف الثاني من القرن العشرين، وبإمكان الأستاذ فرج الاطلاع على آرائي بشكل مفصل. أما قرائي فقد قرأوا الكتابين على شكل حلقات وكانت تنشر في قرابة خمسة عشر موقعاً. ويمكن الاطلاع على الكتابين وعلى سيرتي الذاتية أيضاً في عدد من المواقع مثل "الناس" و"ينابيع العراق" و"النور" وغيرها.
إن المعلومة التي كتبها عني الأستاذ موسى فرج تعوزها الدقة وهي : "الأستاذ جاسم الحلوائي.. أكن له كل الاحترام لأن واحدة فقط من بين مؤهلاته أنه كادراً متقدماً في الحزب الشيوعي العراقي منذ عام 1954 ولا زال (عفيه قرصاغ)..
لم أكن كادراً متقدما منذ عام 1954، إذ كان هذا تاريخ انتمائي للحزب، ولست كادراً حزبياً ، فأنا عضو عادي في الحزب حالياً، أنتظم في هيئة حزبية قاعدية. وما أكتبه يعبر عن رأيي الشخصي.
في رده الأول على مقالي حمّلني الأستاذ موسى فرج كلاماً لم أقله وقد غضيت النظر عنه تجنباً للتفاصيل والتشعب. وقد عاد وكرر ذلك في مقاله هذا فاقتضى التنويه. فهو يقول: "أولا : ذهب صديقي الحلوائي مثلما فعل معظم من كتبوا عن الدستور إلى أن المشاكل الناجمة عن تطبيقه ناتجة عن العجالة في إعداده وضعف البناء والركاكة والتداخل والتعارض .. الجميع .. الحكومة والبرلمانيون والساسة والأكاديميون.. الموالون والمناوئون يتحدثون عن المطبات والألغام والقنابل الموقوتة ... حتى بات ذلك يشكل لازمة لكل متحدث في هذا المجال .. ". أنني لم أذهب هذا المذهب وإن تقويل الآخر في الحوار أمر غير جائز إطلاقاً.
إن ثلاثة أرباع مقال الأستاذ موسى فرج تكرار لمقال سابق، وخلافنا سيبقى قائما مادام يعتبر المكونات الطائفية مساوية للمكون القومي الكردي. وفي الحقيقة أن تسمية الطوائف بالمكونات هي تسمية مجازية – رجعية وهي آيلة للزوال لا كطائفة بل كمكونات مفتعلة، و تاريخ تطور الشعوب والبلدان المتطورة والمتطورة نسبياً يشهد على ذلك. ويمكن ملاحظة بوادر تصدع المكونات الطائفية العراقية منذ الآن حسب الاصطفافات السياسية الجديدة التي نشهدها. ومبدأ حق تقرير المصير لا ينطبق عليها لأن مصيرها مقرر. فالعرب (السنة والشيعة) في العراق لديهم دولتهم المستقلة. وكان الأكراد شركاء شكليين لهم في أحسن الأحوال ومضطهدين ومهمشين في أغلب الأحوال في دولة العراق العربية حتى عام 2003، عام سقوط النظام الدكتاتوري. وبصراحة أن مساواة المكون الكردي ومخاطبتهم على قدم المساواة مع مكونات مفتعلة ورجعية كالمكونات الطائفية يُعد خلطاً للأوراق وموقف لا ديمقراطي يستهدف مصادرة الحقوق القومية للأكراد.
إن مبدأ حق تقرير المصير هو مبدأ ديمقراطي. إن أول دولة، وليس حركة سياسية،  تبنته هي الحكومة الأمريكية وقد وردت ضمن مبادئ ويلسون، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الأربعة عشر، والتي قدمها للكونغرس الأمريكي في 8 كانون الثاني 1918. وأدرجت المبدأ المذكور لاحقاً في ميثاق عصبة الأمم ومن ثم في ميثاق هيئة الأمم المتحدة وتطور تعريفه لاحقاً في قراراتها وبياناتها.
وينطوي حق تقرير المصير على مستويات متباينة في التطبيق، تبدأ بالإدارة الذاتية وتنتهي بالانفصال مروراً بالحكم الذاتي والفدرالية والكونفدرالية. ويطبق هذا الحق حسب الظروف التاريخية والجغرافية الملموسة، وطبقاً لرغبة غالبية أفراد قومية معينة، وبالاستناد على الحقوق المتساوية لجميع القوميات صغيرها وكبيرها.
والآن وصلت لسؤال يطرحه عليّ الأستاذ فرج في هذه الفقرة:
"طيب أستاذ جاسم الحلوائي.. أنت تستند إلى حق تقرير المصير وهذا من وجهة نظرك يشمل الشعوب والقوميات وليس من حق أي طائفة او محافظة في العراق .. ماشي .. لن أقول لك حدد الفرق العرقي بين الايرلنديتين ، ولكني استند إلى حجتك بالذات الشعوب والقوميات وليست الطوائف والمحافظات حدد لي الفارق في الخصائص التي تستند عليها بين الكورد والتركمان ..؟ بين الكورد والكلدوآشوريين ..؟ بين الكورد والسريان ..؟ فان لم تجد ما يفتقر إليه أي منها من خصائص غير الناحية العددية والقوة ، ففي هذه الحالة أنت تكيل بمكيالين ولست أنا الذي لا اقر بحق تقرير المصير .. وفي هذه الحالة فاني كديمقراطي أقول لك أن التركمان في العراق قومية وليست طائفة وان الكلدوآشوريين قومية وليست طائفة ولهما مثلما للكورد .. الخ"
 وجوابي هو بلا شك أن جميع القوميات التي ذكرتها وغيرها لها حق تقرير المصير، والمكيال واحد كما ترى. ولكن مستوى حق تقرير المصير يعتمد، كما ذكرت أعلاه، على الظروف التاريخية والجغرافية الملموسة و...الخ. فالقوميات التي تقطن في أطراف الدول، وتتوفر لديها مقومات دولة قابلة للحياة ويرى أغلبية أفرادها أن من مصلحتهم الانفصال فمن حقهم ذلك، وستقف الشرعية الدولية معهم. أما إذا كانت هناك أقلية قومية ليست في الأطراف فلا يتوفر لها مقومات حق الانفصال لأن من شأن ذلك تصديع إن لم نقل تفتيت القومية الكبيرة ودولتها، وفي ذلك مخالفة لمبدأ الحقوق المتساوية للقوميات كبيرها وصغيرها. وهذا ما ترفضه الشرعية الدولية. وبالعكس ستسند أي مستوى آخر مناسب، من المستويات الأخرى من حق تقرير المصير المذكورة أعلاه والتي تجد فيه غالبية أفراد القومية الصغيرة مصلحتها والتي لا تلحق ضررا بالقومية الكبيرة. ولنا في ذلك مثل الاتحاد السوفياتي التي انفكت عنها الجمهوريات الخمس عشر الكبيرة بقومياتها المعروفة، ولكن بقيت جمهوريات ذات حكم ذاتي ومناطق قومية مثل تاتارستان وبشكيرستان وعدد آخر تتمتع بحقوق خاصة بها دون أن تنفصل عن روسيا الاتحادية بعد عام 1990.
هذا وارجو الكف عن التحذير من عدم الرد، كما فعلت في مقالك الأخير، فلا يجمع ذلك أي جامع مع الخطاب الديمقراطي. فليس من الصحيح الضغط على حرية الآخرين. الكاتب حر في أن يرد أو أن لا يرد فلا داعي لإحراجه أمام القراء. ولا أخفي عليك بأن اسلوبك لا يشجع على مواصلة النقاش. وأشير هنا إلى مثل واحد على ذلك:
"ناس تريد تنفصل في كيانات خاصة بها .. توجد إمكانية قيام كونفيدراليه ومعناها دول مستقلة مثل الكومنولث الذي يربط استراليا والباكستان وجنوب أفريقيا ونيوزلنده وكندا ببريطانيا حيث تربطهم علاقة حب عذري بالتاج البريطاني .. إن كانت هكذا إمكانيه قائمة فلتكن كونفيدرالية وكفا الله العراقيين الأزمات"
وفي نفس المقال تقول مخاطبا الكرد "أنت موّقع في الدستور على فيدراليه وفي واقع الحال ماخذ أكثر من الكونفيدراليه".
يعني كردستان تتمتع باستقلالية أكثر من كندا واسترالية و...الخ. أترك الحكم للقارئ. وإذا كانت تتمتع بأكثر من الكونفدرالية، لماذا تقترح الكونفدرالية عليها. ألا تجد أن هناك انعدام في التوازن يصعب تفسيره؟؟
أعتقد بعد هذا سيعذرني القارئ في حالة عدم مواصلة المناقشة.
مع تقديري واحترامي
12 حزيران 2012


42

والحوار متواصل مع الأستاذ موسى فرج


مكيال واحد أم مكيالين ؟
جاسم الحلوائي
في مقالي الموسوم " الفيدرالية العراقية في الميزان" أشرت إلى أن أنني "بصدد التوقف عند النص الدستوري المتعلق بالفيدرالية، وتحديداً النص الذي يبيح تحوّل كل محافظة من محافظات العراق أو عدد منها إلى إقليم ولم يكن في نيتي البحث في إقليم كردستان، لأنه موضوع واسع فتجنبت الدخول فيه خاصة وأنني سبق وأن كتبت مقالاً مكرساً لذلك.
وهنا أحب أن أتوقف عند قضية مهمة يبدو أننا (الأستاذ موسى فرج وأنا) ،مع الأسف، مختلفان حولها وهي مبدأ حق تقرير المصير.
يذكر الأستاذ العزيز موسى فرج في مقاله الموسوم " الأستاذ جاسم الحلوائي وأنا و خاتمة الأحزان ..." ما يلي: ". وفي هذه الحالة إن كانت الفيدرالية لا هي علاج لمشكلة قائمة ولا هي وسيلة لتحقيق العدالة وإنما غاية تجد المجموعات السكانية فيها ما يستكمل شخصيتها .. ففي هذه الحالة أقول لصديقي الحلوائي: لماذا تكيل بمكيالين ..؟ فإما أن تقر بهذا الحق لكل من طلبه وتوفرت فيه مقوماته أو ترفضه على الجميع أو أن لديك بديل أفضل فهاته .."
قلت ذلك واقوله هنا ايضاً وبدون تردد أن الفيدرالية هي حل لمسألة (مشكلة) الشعب الكردي في ظروف العراق الملموسة، انطلاقاً من مبدأ حق تقرير المصير الذي تقره الشرعية الدولية في ميثاق هيئة الأمم المتحدة ووثائقها المختلفة، وهي ليست للطوائف أو المحافظات، أو لمجموعات سكانية، فهي للشعوب والقوميات. والأكراد ليسوا طائفة بل شعب وقومية. وأقول في الظروف الملموسة، لأن حق تقرير المصير يبيح الانفصال وتكوين دولة مستقلة ومن حق الشعب الكردي أن يمارس هذا الحق مدعوماً من الشرعية الدولية عندما تتوفر شروط ذلك والظروف الملائمة، وفي مقدمة هذه الظروف، هو وجود نظام ديمقراطي يقر مبدأ حق تقرير المصير بما في ذلك حق الانفصال للشعب الكردي. ولكن ليس من حق أي طائفة أو محافظة في العراق أن تنفصل، لأنها لا تملك مثل هذا الحق دولياً.
وهكذا ترى يا صديقي العزيز بأن ليس هناك كيل سوى بمكيال واحد ولكن هناك اختلاف في فهمنا لمبدأ حق تقرير المصير. فمثلك عن سعدي الحلي لا ينطبق على الحالة. (رابط مقال الأستاذ موسى فرج مرفق) كما أن مثلك الآخر عن الزوج والزوجة والطلاق فإنه  غير موفق، حيث تقول: " فاني لو كنت زوجة شرعية لصديقي الحلوائي وكان في دخوله وخروجه يسمعني سيمفونيته المعتادة : راح أطلقج وأتزوج أخرى لأن الله حلل الزواج والطلاق وحرّم الزنا مثلما حلل البيع والشراء وحرم الربا .. قسماً عظماً لأزهقن يوما وأسوي بزوجي الحلوائي ..فلك ... وأقول له : أنا علمانية يا هذا ..برّا... مع حبي وتقديري.." وسيكون جوابي عندما تصل الأمور إلى هذا الحد: دعي عنك هذه "البرّا"! لأنها غير علمانية. فهذا البيت مشترك ويجب أن نقتسمه، خذي حقك على داير مليم وأأخذ حقي بالتمام والكمال على وفق الجغرافية والتاريخ، كما اتفقنا سابقاً. ومن مصلحتينا أن يتم ذلك بطريقة ودية لأننا سنبقى جيران حتى أبد الآبدين. أما أن تجدي بأن الظروف غير ملائمة لتقسيم البيت، فلنتفق: إني سأترك تهديدي بالطلاق وأنتِ بطّلي هذه "البرّا" لأن تداعياتها وخيمة على الطرفين. فلنجلس ونتحاور ونتفاهم.
واستكمالاً للموضوع أعيد نشر المقال حول إقليم كردستان والذي أشرت اليه في المقدمة وستجد، ضمن ما تجد، بعضاً مما ذهبت اليه في مقالك. مع تقديري واعتزازي.
9 حزيران 2012

ترسيخ الديمقراطية في العراق
الضمان الأكيد لتحقيق طموحات الشعب الكردي القومية

مع أن للشعب الكردي في العراق الحق بالانفصال وتكوين دولته المستقلة وفقاً للشرائع الدولية، كما يهمه الاعتراف بهذا الحق من قبل الآخرين، إلا أنه لم يسع إلى تحقيق ذلك، لمعرفته بعدم إمكانية تحقيقه في الظروف الراهنة لأسباب عديدة لسنا بصددها هنا. لذلك كافح الشعب الكردي لنيل ما يمكن تحقيقه من حقوقه المشروعة ضمن دولة العراق. وقد لعب كفاح الشعب الكردي لنيل حقوقه القومية دوراً مهماً في تاريخ العراق المعاصر لارتباط قضيته ارتباطاً عضوياً بقضية الديمقراطية. ومن هنا باتت القوى الديمقراطية واليسارية حليفة للقضية الكردية وتبنّى الطرفان شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان" منذ مطلع ستينات القرن الماضي. ودخلت القوى الديمقراطية في تحالفات مع القيادات القومية الكردية. ولم يتغير موقفها من دعم الحقوق القومية الكردية رغم الصراعات والاصطدامات، الدموية أحياناً، التي حصلت بينها وبين القيادات القومية الكردية.

وقد جوبه كفاح الشعب الكردي من أجل تحقيق طموحاته القومية دوماً بنزعة الحكام العرب الشوفينية وأدى ذلك إلى صدامات دموية راح ضحيتها الكثير من العراقيين عرباً وأكراداً ومن أبناء القوميات الأخرى. وقد تحمّل الشعب الكردي، الذي يشكل القومية الثانية في العراق، الكثير من الكوارث والمآسي لاسيما في عهد النظام الدكتاتوري البعثي. وإن حملات الأنفال الوحشية وجريمة قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية وتعرض أهاليها للإبادة خير شاهد على سياسة الإبادة الشاملة سيئة الصيت التي اتبعتها الدكتاتورية تجاه الشعب الكردي.

وكأية حركة سياسية ـ اجتماعية تاريخية مهمة، تغطي مراحل ومنعطفات عديدة وتشكل تاريخا مديدا، لا يمكن أن تخلو من أخطاء، والحركة الكردية غير مستثناة من ذلك. إن الإشارة إلى تلك الأخطاء تكتسب أهمية خاصة في الظروف الراهنة التي يمر بها الشعب الكردي وفيدراليته للاستفادة من دروسها وعبرها.

ومن الأخطاء البارزة التي ارتكبتها الحركة القومية الكردية هي تحالفها مع حزب البعث المعروف بشوفينيته وبعدائه للديمقراطية في عام 1962 من أجل إسقاط حكم عبد الكريم قاسم. ولم يكن ذلك الخيار هو الخيار الوحيد أمام الحركة، كما قيل في حينه. لقد كان أمام قيادة الحركة القومية الكردية في عهد قاسم خياران، الأول هو فرض الحل السلمي الديمقراطي للمسألة على أساس الحكم الذاتي. وتطلب هذا الحل تحالف متين مع الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية التي تتحالف أو تتعاطف معه كالحزب الجمهوري، الذي رفض عبد الكريم قاسم إجازته، ومع القوى الديمقراطية البرجوازية العربية، وهو ما رفضته القيادة الكردية. أما الخيار الثاني فهو التعاون مع القوى القومية العربية لإسقاط حكم عبد الكريم قاسم. وهو طريق ملغوم، نظراً لموقف هذه القوى المعادي لأبسط الحقوق القومية الكردية، وهو موقف معلن ومعروف، ولارتباط ما كانت تخطط له هذه القوى بالمصالح الغربية. واختارت القيادة القومية الكردية الخيار الثاني في نهاية المطاف، وقبلت بمجرد وعد شفهي بتحقيق مطالبها من قبل طاهر يحيى ومن ثم من علي صالح السعدي، أمين عام حزب البعث العراقي، وهو ذات الحزب الذي اعتبر الحكم الذاتي بمثابة "خيانة للقومية العربية والوحدة الوطنية". وقد تنكر انقلابيو شباط الفاشي لوعودهم. وكان الحكم الذي أتى به انقلاب 8 شباط هو أسوء من حكم قاسم للعراقيين عرباً وكرداً وغيرهما من مكونات الشعب العراقي. وقد شن الحكم المذكور، بعد بضعة أشهر من نجاح الانقلاب، الحرب ضد الشعب الكردي.

وقد أشار أكثر من قائد كردي إلى الموقف الخاطئ للقيادة القومية الكردية من حكم عبد الكريم قاسم وفي مقدمتهم السيد مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان الذي ذكر في الفصل المكرس لثورة 14 تموز 1958 من كتاب "البارزاني والحركة التحررية الكردية" ما يلي: "كان خطأً كبيراً السماح للسلبيات بالتغلب على الإيجابيات في العلاقة مع عبد الكريم قاسم، مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعملائه في الداخل والشوفينيين وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبد الكريم قاسم. فمهما يقال عن هذا الرجل فإنه كان قائداً فذاً له فضل كبير يجب أن لا ننساه نحن الكرد أبداً... وكان التعامل معه ممكناً لو أحسن التقدير".

لقد كان من الممكن أن يؤدي تعاون الحزب الديمقراطي الكردستاني مع الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية الأخرى إلى فرض تحقيق قدر من الحقوق القومية الكردية على عبد الكريم قاسم، خاصة وأن تياراً أخذ ينمو في الحزب الشيوعي العراقي باتجاه الاقتراب جدا من أهداف الحركة القومية الكردية. واتضح ذلك عندما تبنّى الحزب الشيوعي، في ربيع 1962، برنامجاً متقدماً ومتطوراً لحل المسألة الكردية. وكرّس الحزب الشيوعي كل طاقاته وإمكانياته السياسية والجماهيرية المختلفة من أجل تحقيقه. واصطدم الحزب بقوة بحكم قاسم وقدّم على هذا الطريق تضحيات كبيرة. وتعمّق نهج الحزب في الابتعاد عن قاسم والاقتراب أكثر فأكثر من الحركة القومية الكردية في الربع الأخير من العام المذكور. وتشير التجربة التاريخية بأنه كان على القيادة الكردية اختيار هذا الطريق، طريق التعاون مع القوى المؤمنة بالحقوق القومية الكردية في برامجها المعلنة وسلوكها العملي، وعدم الاعتماد على وعود لفظية من قوى لا تؤمن بأبسط حقوقهم القومية، وانجرارها إلى تأييد انقلاب فاشي، كانت عواقبه وتداعياته وخيمة على الشعبين الكردي والعربي في العراق. وكان وراء ذلك الموقف الخاطئ المتمثل في التحالف مع حزب البعث لإسقاط حكم عبد الكريم قاسم، النظرة القومية الضيقة التي انطلقت من "مصلحة" الكرد بمعزل عن مصلحة ومصير العراق ومصير الديمقراطية فيه، والتسرع في طرح مطالب لم تنضج ظروفها. والنتيجة لم تكن لا لصالح الكرد ولا لصالح العراق.

إن هذه النظرة القومية الضيقة كانت في صلب جميع أخطاء الحركة الكردية بما في ذلك عدم التشخيص الصحيح لحلفائها وأعدائها الحقيقيين، ومن ذلك تحالف قيادة الحركة الكردية مع شاه إيران ومن وراءه من الدول الغربية في أواسط سبعينات القرن الماضي. وأضحت نتائج هذا التحالف معروفة، فقد عقد صدام حسين اجتماعاً مع شاه إيران في آذار 1975، ووقع اتفاقية الجزائر المعروفة. وتنازل صدام بموجب الاتفاقية عن السيادة على نصف شط العرب، مقابل وقف المساعدات الإيرانية عن الحركة الكردية ووقف التسلل بين البلدين. وما أن أعلنت اتفاقية الجزائر وموقف الشاه في إيقاف مساعداته للحركة الكردية، حتى انهارت الحركة الكردية فورا وبقرار من قيادتها، الأمر الذي ألحق بها هزيمة عسكرية وسياسية وفكرية. إن ارتهان قضية الشعب الكردي للقوى الرجعية الداخلية والخارجية والابتعاد عن أو معاداة القوى الديمقراطية، الحليف الأساسي للشعب الكردي، هو موقف خاطئ لم يجلب الخير للشعب الكردي.

إن النظرة القومية الضيقة ( الانعزالية) في ظروف الحركة الكردية في العراق، تمثلت وتتمثل أولا وقبل كل شيء في تجاهل الكفاح من أجل الديمقراطية لكل العراق والتركيز على تحقيق مكاسب قومية آنية غير راسخة للشعب الكردي. وكانت هذه النظرة في الغالب ردة فعل على الممارسات الشوفينية لدى حكام العراق وبعض الأوساط القومية العربية. وقد وصلت ردة الفعل هذه لدى القيادات الكردية، على أثر تعرض الشعب الكردي للإبادة الشاملة على يد نظام صدام حسين الدكتاتوري، إلى الحد الذي صرحت: هذا ما نريده لكردستان، وما تريدونه في القسم العربي من العراق فهو أمر لا يخصنا.

ويتطرق الفقيد الدكتور رحيم عجينة في مذكراته (الاختيار المتجدد ص 460 وما يتبعها)، إلى ندوة الحوار للمعارضة العراقية التي عقدت في صلاح الدين ـ شقلاوة في 23ـ 27 أيلول 1992 والتي حضرها عجينة ممثلًاً للحزب الشيوعي العراقي. يشير عجينة إلى مداخلته في الندوة المذكورة التي جاء فيها: "... وأرجو أن لا نصل إلى وضع نسمع فيه من الفصائل الكردية أن ما يعنيهم هو فيدرالية قومية للمنطقة الكردية الواحدة وإذا أرادت فصائل المعارضة العراقية الأخرى نظاماً فيدرالياً أو نظام ولايات في الوسط والجنوب فهذا أمر لا يخص الفصائل الكردية". وكان آخر المتحدثين في هذه الندوة السيد مسعود البارزاني. وقد ورد في حديثه ما يخيب رجاء عجينة، عندما قال ما يلي:

" ... ونحن نطالب بفيدرالية للكيان الكردستاني كله ... أما إذا أردتم فيدراليات للمحافظات العربية فهذا أمر يخصكم".
إذا تحدثنا عن شعار الحركة القومية الكردية " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"، والذي تطوّر إلى الفيدرالية لكردستان، فإن ذلك يتناقض مع "فهذا الأمر يخصكم". فهذا المفهوم ينطوي على منطلق قومي ضيق. فما دام الأكراد شركاء في هذا الوطن ولم يختاروا الانفصال، فإن مصير وطبيعة النظام في القسم العربي يجب أن تخصهم. لقد جاء هذا التصريح، في ظل النظام الدكتاتوري الذي أرتكب جريمة الأنفال واستخدم الأسلحة الكيمياوية مستهدفاً الإبادة الشاملة للشعب الكردي، كرد فعل غاضب على ما يعانيه الشعب الكردي من قهر، قل نظيره. ولكن هذا المفهوم لا يصلح كمنطلق سواء لمعالجة شؤون العراق أو لمعالجة شؤون إقليم كردستان، خاصة بعد سقوط النظام الديكتاتوري وتحوّل القيادة القومية الكردية إلى طرف يلعب دوراً حاسماً في الحكم وفي بناء النظام الجديد.

لقد لعبت الجبهة الكردستانية منذ الإطاحة بالاستبداد في التاسع من نيسان عام 2003، دوراً فاعلا ومؤثراً في كل الإنجازات التي تحققت منذ اليوم الأول لانطلاق العملية السياسية، والتي تستهدف إقامة نظام ديمقراطي فيدرالي في العراق، وتحقيق السيادة التامة. وكانت الجبهة ولا تزال ركن أساسي في هذه العملية. وفي نفس الوقت تتحمل الجبهة الكردستانية مسؤولية نواقص كثيرة حصلت ولا تزال قائمة. وأهم هذه النواقص، هي النواقص التي وردت في الدستور وكانت سبباً في بعض الأزمات التي مرت والتي ستمر بها البلاد. فالفيدرالية التي نص عليها الدستور قد تم تجاوزها لتقترب من الكونفيدرالية. ففي الفيدراليات لا يوجد رئيس ولا يؤخذ بقانون الإقليم الفيدرالي إذا ما تعارض مع قانون الاتحاد، ولا يوجد ممثلين له في السفارات، ولا يحق له تشكيلات مسلحة على غرار ما يوجد في الدولة المركزية.

من حق الأكراد أن يطالبوا بالكونفيدرالية، بل ومن حقهم المطالبة بالانفصال. ولكن ما داموا قد ارتضوا بالفيدرالية، فعليهم التمسك بالمفهوم الصحيح للفيدرالية. لقد تحققت للشعب الكردي مكاسب مهمة على طريق تطبيق الفيدرالية. إلاّ أن الفيدرالية الكردستانية لم تكتمل حدودها بسبب وجود المناطق المتنازع عليها، إضافة إلى مخلفات سياسة التعريب التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ انقلاب شباط الفاشي في عام 1963 وحتى سقوط النظام الدكتاتوري في 9 نيسان 2003. إن الطريق الوحيد لتحقيق ما بقي من الحقوق القومية للشعب الكردي، هو الكفاح من أجل تنمية وترسيخ الديمقراطية في العراق.

وتصب في هذا الهدف المرونة والحكمة التي أبداها التحالف الكردستاني في إقرار قانون انتخاب مجالس المحافظات أخيراً. ومما يؤكد ذلك ما جاء في تصريح ناطق باسم رئاسة إقليم كردستان العراق في 26 أيلول 2008 في بيان تسلمت نسخة منه "نيوزماتيك". فقد عبر الناطق عن"ترحيب رئاسة إقليم كردستان بقانون انتخابات مجالس المحافظات العراقية"، الذي وصفته بأنه "خطوة لتعميق العملية الديمقراطية في العراق الجديد". إن تمسك رئاسة إقليم كردستان وقيادة التحالف الكردستاني بهذه البوصلة، "تعميق العملية الديمقراطية في العراق الجديد"، في العملية السياسية الجارية في البلاد من شأنها تحقيق مطامح الشعب الكردي القومية، مما يتطلب إجراء مراجعة شاملة لتجربة السنوات الماضية التي أعقبت سقوط النظام الدكتاتوري، لاستخلاص الدروس والعبر الغزيرة منها، وتشذيبها من الأخطاء وفي الوقت ذاته تطوير نهج قيادة التحالف الكردستاني وعلى جميع الأصعدة في إقليم كردستان العراق وعلاقته بالمركز بما يرسخ الديمقراطية في العراق. ففي ذلك ضمانة أكيدة لتحقيق طموحات الشعب الكردي القومية.
29 أيلول 2008




43

أنا والأستاذ موسى فرج والسيد كاظم الحائري
جاسم الحلوائي
باغتني الأستاذ موسى فرج صباح اليوم بتعقيب على مقالي الموسوم "فيدرالية العراق في الميزان" في موقع الحوار المتمدن مع حلول اختفاء المقال من صفحة الموقع. ونظراً لأهمية التعقيب ولإشارته إلى تصريح السيد كاظم الحائري وتعميماً للفائدة، اخترت نشره مع تعليقي بشكل مستقل.
أنا أختلف معكم .. ولكن ودياً...
2012 / 6 / 4 - 01:48
التحكم: الحوار المتمدن  موسى فرج 
تحياتي وتقديري للأستاذ العزيز جاسم الحلوائي واحترامي لأصدقائي المتداخلين ..انا اختلف معكم في هذا ..بيها مجال ..؟ اذا بيها مجال فأبين الآتي :
1 . مشكلة الاقاليم لا سببها الغفله ولا سببها العجاله .. وانما هم يريدون هذا وانا شخصيا سمعته من قادتهم بعد انتفاضة اذار وتم التبشير به والترويج له على نطاق واسع وانتم جميعا تتذكرون ذلك وهو العراق الشيعي، وكان الطموح ان تتعمق منطقة حظر الطيران لتتحول الى الحال الذي هو عليه في كردستان. والدافع هو جزء مضمون خير من كل غير مضمون، لأن الطائفة السياسية لا يستقيم لها المر[الأمر.ج] على كل العراق فاما التخلي عن ايدلوجية الطائفة السياسية لصالح العراق وفي هذه الحالة تشترط التخلي عن الطائفية لصالح المواطنة أو التمسك بالطائفية السياسية وفي هذه الحالة حصر الطموح بالاقليم الشيعي
2 .في ضوءه كانت الصفقة على اساس كونفيدراليه للكورد مقابل الإقاليم وصولا للإقليم الشيعي وكل واحد يشوف دربه، عاجلا وليس آجلا ..وبايدن آخذها من افواههم ..
3 .مادة الاقاليم لن تدخل في التعديلات لأنها مطلوب منها البقاء ...
4. المالكي امتدت به طموحاته لكل العراق لكن عليه ان يبدل هوية حزب الدعوة من الشيعية الى العراقية (بس مو مال علاوي )وفي هذه الحالة يكون مثل الكردي البعثي ايام زمان وعليه ان يدخل كل الاحزاب والملل والنحل الشيعية، التي يتضاعف عديدها على مدار الساعه، في بوتقة الحزب الجديد لتكون واحدا .. يقبلون ؟؟ وعليه أن يعد برقية تهنئه الى مسعود برزاني بمناسبة تقرير المصير وبخلافه فان اولادنا بانتظارهم حداد خانه .. يتمنون معها وكتنا.. وتصير الدوله الشيعيه ويضم دستورها حق اقامة الاقاليم ويبدأ العد العكسي لتقرير المصير وهذا ينطبق على الاقليم السني أيضا .. ماهو السبب ؟ لأن الديمقراطيين العراقيين يبحثون عن مشترك ومازالوا حتى باغتهم السيد كاظم الحائري .. كل التحايا لكم ...
الجواب
الأستاذ العزيز موسى فرج. شكراً جزيلاً على مداخلتك الشيقة والشفافة ككل كتاباتك التي أنا من المدمنين على متابعتها،بدون مجاملة. والمداخلة ودية حقاً.
ما طرحته في مقالي هو مصير العراق وشعبه أولاً وقبل كل شيء، لأن تجزئة العراق، أو محاولة تجزئته، أقول محاولة لأني أستبعد إمكانية تجزئته، ستكون كارثة بالنسبة للجميع ولا ينجو منها حتى إقليم كردستان، فقوة إقليم كردستان من قوة العراق ومن يظن خلاف ذلك فهو واهم. وستنفجر حرب طائفية لا تبقي ولا تذر. فالنخيب وحدها التي هي موضع خلاف بين محافظتي كربلاء والأنبار، قد تسبب، وهي منطقة صحراوية، تلك الحرب إن لم تسببه مناطق أو أمور أهم بكثير منها. ومثل هذه الحرب ليست من مصلحة أحد. وإن القوى الأساسية في العملية السياسية، انطلاقاً من مصلحتها وليس تعففاً، حريصة على تجنبها، خاصة وأنها ذاقت مرارتها واحترقت أصابعها بها، على محدوديتها، قبل بضع سنوات. وأكثر من هذا ستكون هناك حروب في داخل المجزأ ذاته من نفس المذهب الواحد بهدف السيطرة على هذا الجزء أو ذاك. فالمصلحة في عدم التجزئة هو قاسم مشترك بين الغالبية العظمى من قوى العملية السياسية بمن فيهم الديمقراطيون بصرف النظر عن الدوافع. فالمشترك واقع موضوعي بحث عنه الديمقراطيون أم لم يبحثوا.
إن الواقع سيفرض تعديل مادة الأقاليم التي تجزأ العراق لأن التجزئة تتعارض مع مصالح كل طبقات الشعب العراقي بما في ذلك مصالح الطبقة البرجوازية العراقية الحاكمة ذاتها . هذه البرجوازية التي تطورت في السنين الأخيرة أفقياً وعمودياً وستواصل تطورها بسرعة مع زيادة واردات العراق النفطية وستنجر الفئة الطفيلية من هذه الطبقة أو أجزاء منها إلى الفروع الاقتصادية المنتجة. وهذه الطبقة يهمها سوق موّحدة وكبيرة.  و"عندما تتعارض المصالح الطبقية مع البديهيات الهندسية فستعدل الأخيرة"! فما بالك بمادة في قانون وضعي. لذلك اسمح لي أن أختلف معك في قولك: " مادة الاقاليم لن تدخل في التعديلات لأنها مطلوب منها البقاء ..." 
أما تصريحات السيد كاظم الحائري فهي لم تباغتني ولم أأبه بها فمرجعية العراقيين، وهذا ما يلح عليه كل المسؤولين والقادة السياسيين جهاراً، ليلاً ونهاراً، هو الدستور العراقي،  رغم كل علاته، والذي صوّت عليه الشعب العراقي وباركته أعلى المرجعيات الدينية المقيمة في العراق. وقد نص في مادته الرابعة عشر على ما يلي: " العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الاصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي". هذه هي مرجعية العراقيين، وقد أقسم جميع المسؤولين الكبار وجميع مندوبي الشعب في مجلس النواب بالالتزام به، وليست مرجعيتهم رجل دين مقيم في مدينة قم الايرانية. وإن كان للحائري نفوذ معين في العراق فسيتقلص وقد يزول كلما ارتكب مثل هذه الأخطاء من خلال تدخله، المرفوض، بشؤون العراق والعراقيين. وقد جاءت ردود الفعل على الفتوى لتؤكد ذلك، فهي  تتراوح بين سلبية ورافضة ومستهجنة من قوى سياسية مختلف، بما في ذلك من أوساط الصدريين وهم المعنيون بها بالأساس.
مع خالص مودتي وتقديري واحترامي
4 حزيران 2012



44
الفيدرالية العراقية في الميزان

جاسم الحلوائي

ولد الدستور العراقي مشوهاً  ومليئاً بالنواقص حال ولادته، لذلك جاء في المادة 142 منه ما يلي: " ـ يشكّل مجلس النواب في بداية عمله لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكونات الرئيسية في المجتمع العراقي مهمتها تقديم تقرير إلى مجلس النواب، خلال مدة لا تتجاوز أربعة اشهر يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراؤها على الدستور".
ولكن لم تُجر التعديلات المنشودة حتى يومنا هذا!
إنني لست هنا بصدد التوقف عند تشوهات ونواقص الدستور وكيف استغلت من القوى المتنفذة ومدى مصداقية ادعاءاتها بالالتزام بالدستور، فقد قيل وكتب الكثير عن ذلك. ولكنني بصدد التوقف عند النص الدستوري المتعلق بالفيدرالية،وتحديداً النص الذي يبيح تحول كل محافظة من محافظات العراق أو عدد منها إلى اقليم. إن هذا النص غير السليم قد اصطدم بالواقع وسبّب مشاكل بدأت وسوف لن تنتهي إن لم يعالج هذا الأمر جذرياً. فقد راحت بعض المحافظات وبدوافع مختلفة تنحو لتطبيق النص الدستوري غير آبهة بالتبعات السلبية على وحدة العراق، وراحت محافظات أخرى تهدد به كلما تصاعدت الخلافات مع المركز وأخيراً، وليس آخراً شاهدنا تهديد بعض رؤساء وأعضاء مجالس محافظات الوسط والجنوب، الذين اجتمعوا في البصرة يوم الخميس 31 أيار 2012، بهذا النص كرد فعل على القوى السياسية التي تنوي سحب الثقة من رئيس الوزراء دستورياً. ومع ذلك لم تعترف القوى السياسية بعدم تزكية الواقع لصحة هذا النص لكي تضع الأمر في نصابه الصحيح وتطلب ترحيله إلى ملف التعديلات الدستورية. ولم تقر بهذا الخطأ لحد يومنا هذا حتى القوى الديمقراطية التي نصت وثائقها سابقاً على مفهوم سليم للفدرالية ينسجم مع ظروف العراق. فعلى سبيل المثال، جاء في برنامج الحزب الشيوعي العراقي الذي اقره المؤتمر الوطني السابع للحزب المنعقد في 2001، وهو آخر مؤتمر قبل إقرار الدستور، ما يلي: "وإقرار صيغة الفيدرالية لإقليم كردستان دستورياً". ولا توجد أية إشارة، لا من بعيد ولا من قريب، إلى إمكانية تكوين إقاليم في المحافظات سواءً في الوثيقة المذكورة أو في أية وثيقة حزبية أخرى قبل إقرار الدستور.  وكان منطلق الحزب هو أن الفيدرالية تصلح كحل للمسألة القومية الكردية في الظروف الملموسة.
وبدلاً من أن تعترف القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية وخاصة المتنفذة، وبالأخص حزب الدعوة الذي يقود الحكومة عملياً، بالخطأ وتحويل الأمر، مثل أمور كثيرة أخرى، إلى التعديلات الدستورية، فإنها تحاول وضع شروط أو التشبث بحجج سياسية وغير دستورية لرفض تحول المحافظات إلى أقاليم. فقد اتهم رئيس الوزراء السيد نوري المالكي مطالبة مجلس محافظة صلاح الدين بالطائفية و...الخ في حين لم يتهم مطالبة بعض رؤساء وأعضاء مجالس محافظات الوسط والجنوب بذلك لأن من حرّك هذه المطالبة هم من حزب الدعوة. وعزا في بيانه الصادر يوم 2 حزيران عدم تطبيق الفيدرالية لأن تطبيقها يحتاج إلى الى ”ظروف مؤاتية مستقرة وطبيعية”. هذا في الوقت الذي لم يرد في الدستور أية شروط، ولم يربط الدستور إقامة الأقاليم بأية ظروف أو دوافع، فكل ما جاء فيه هو مجرد إجراءات إدارية.  فقد نصت المادة 119 من الدستور ما يلي:
"يحق لكل محافظةٍ او أكثر تكوين اقليمٍ بناءاً على طلبٍ بالاستفتاء عليه، يقدم بأحدى طريقتين:
اولاً :ـ طلبٍ من ثلث الاعضاء في كل مجلسٍ من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الاقليم.
ثانياً :ـ طلبٍ من عُشر الناخبين في كل محافظةٍ من المحافظات التي تروم تكوين الاقليم".
 وما جاء في قانون كيفية تشكيل الأقاليم لا يتعدى الإجراءات  الإدارية ومنها هو أن "يكون الاستفتاء ناجحاً اذا حصل على أغلبية المصوتين من الناخبين".
ولو افترضنا حسن النية وراء الدوافع المعلنة للقوى السياسية التي كانت متحمسة للنص في الدستور على الأقاليم في المحافظات العربية فهي: "ضمانة لعدم عودة الدكتاتورية" و "إنها نظام ديمقراطي متطور". وهذا صحيح من الناحية النظرية ولكنه غير صحيح من الناحية العملية.
فباعتقادي أن العمل على إقامة اقليم غير اقليم كردستان في العراق وبأية شروط كانت هو خطأ فاحش سيؤدي إلى تجزئة العراق، ولا يستبعد أن يؤدي ذلك إلى حروب دامية. إن جيوسياسية العراق لا تسمح بإقامة ذلك. فالعراق محاط بتركيا وإيران وبأطماعهما التوسعية، وسوريا وأطماعها القومية غير المشروعة وبالسعودية ونزعاتها الوهابية، وقطر وطموحاتها في قيادة العالم العربي. إن عراق اليوم يعاني بمستويات مختلفة من التدخل الفظ لجميع هذه الدول في شؤونه الداخلية، فكيف بالأمر عندما تكون هناك فدراليات يبيح لها الدستور التماثل مع اقليم كردستان، بما يتمتع به من استقلالية؟! ومن المعروف أن جيوسياسية البلد لا تتبدل بسهولة وقد لا تتبدل لعشرات وعشرات السنين.
ويضاف إلى ذلك هو إن المجتمع العراقي يحتاج إلى فترة غير قصيرة ليتجاوز جملة من المعوقات الجدية ليطبق الديمقراطية الفتية قبل أن ينتقل إلى ديمقراطية متطورة.
باعتقادي أنه من الواجب على القوى السياسية التي وافقت على تضمين الدستور إقامة أقاليم في القسم العربي من العراق، وخاصة حزب الدعوة الذي يقود الحكومة، يجب أن تراجع موقفها وتعترف بخطئها (والاعتراف بالخطأ، كما هو معروف، فضيلة)، وتحيل النص الدستوري الخاطئ إلى ملف التعديلات الدستورية. وبذلك تضع حداً لموقفها المتسم باللف والدوران وتضع حداً للتهديدات والابتزاز الذي تمارسه بعض مجالس المحافظات بين آونة وأخرى. ووضع نهاية لعملية المضاربات والمزايدات السياسية، وما ينجم عنها من ردود أفعال كمظاهرات البصرة ضد الفيدرالية، التي تمارسها هذه القوى بهذا النص الدستوري غير السليم .
2حزيران 2012

   


45
مَن الذي يجب أن يدفع تعويضات خسائر الحرب العراقية ـ الإيرانية؟
جاسم الحلوائي
نقلت وكالة مهر الإيرانية مؤخراً تصريحاً لعضو لجنة السياسة الخارجية بمجلس الشورى الإسلامي الإيراني عوض حيدر بور، دعا فيها وزارة خارجية بلاده بمتابعة الحصول على تعويضات جراء حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، التي قال أنها تبلغ ألف مليار دولار. كما طالب هذا المسؤول الإيراني تفعيل هذا الملف مع الأمم المتحدة باعتباره حقاً مشروعا للشعب الإيراني. وتتزامن هذه المطالبة مع قيام الحرس الثوري الإيراني بأسر ضابط عراقي في الشريط الحدودي في منطقة دربندي خان، وبطلعات جوية على منطقة لولان في إقليم كردستان. إن التحرك الإيراني ينطوي على رسالة واضحة وهي: إذا لم تجر أمور تشكيل الحكومة بما ينسجم مع رغبتنا، فلدينا أوراق كثيرة يمكن أن نلعبها.
لم يصدر أي رد فعل من الحكومة العراقية على تصريحات عوض حيدر بور الخطيرة ، في حين تصدى لها بعض السياسيين بتصريحات أما مقتضبة أو غير دقيقة. وكان تصريح الخبير القانوني طارق حرب في 13 أيار 2010  خطيراً جداً، ففي الوقت الذي ينفي حق إيران بالتعويضات من الناحية القانونية، فإنه لا ينفي حق إيران الواقعي بها، فهو يقول:"حتى الآن لم يصدر قرار من مجلس الأمن بتحديد مقدار التعويضات التي على العراق دفعها إلى إيران أو حتى آلية استقطاع هذه التعويضات، لأن قرار المجلس رقم (589) الذي انهي الحرب العراقية الإيرانية قد اعترف ببدء العراق بالحرب لكنه لم يحدد آية تعويضات على العراق دفعها. قد يكون هناك أساس واقعي للتعويضات، ولكن من الناحية القانونية لا يمكن تطبيق ذلك إلا بقرار من مجلس الأمن". ويضيف حرب دون إدراك مدى مسؤولية وخطورة ما يقوله " إن المبلغ المطلوب من الجانب الإيراني قد يكون محلا للنقصان أو أن يكون اقرب إلى الواقع". (نص تصريحات السيد طارق حرب مرفق بالمقال).
أعتقد أن المسؤولين الإيرانيين لم يتوقعوا  أفضل من هذا التصريح من خبير قانوني عراقي بارز يدافع، شاء أم أبى، عن "حقوق"هم. فهم يعرفون بأنهم يجب أن يذهبوا إلى مجلس الأمن ولا يحتاجون إلى من يدلهم على ذلك. وقد صرحوا بأنهم لم يذهبوا حرصاً على عدم الدخول في خصومة مع العراق، لذلك فهم يقبلون بمنحهم عدداً من آبار النفط!.
لا شك بأن نظام صدام حسين الدكتاتوري يتحمل مسؤولية شن الحرب على الجارة إيران، ولكنه لا يتحمل مسؤولية استمرارها ثماني سنوات. لقد مرت الحرب بمرحلتين رئيسيتين مختلفتين جوهريا، ومسؤوليات النظامين العراقي والإيراني  تختلفان تبعاً لكل مرحلةً.
بعد هزيمة الجيش العراقي في خرمشهر (المحمرة) في حزيران 1982، سحب صدام حسين آخر جندي عراقي من الأراضي الإيرانية، وطلب إيقاف القتال وإجراء مفاوضات لعقد صلح بين الطرفين المتحاربين. ثم لجأ النظام العراقي إلى مجلس الأمن مطالباً بإيقاف القتال. وصدر قرار من المجلس في تموز 1982 يقضي بذلك. إلا أن إيران رفضته وطلبت، ضمن ما طالبت به، إدانة النظام العراقي ومحاكمته لعدوانه على إيران. وكان هذا طلباً تعجيزياً وستاراً تخفي وراءه إيران أهدافها التوسعية و حلمها في إقامة نظام إسلامي في العراق تابع لإيران، تحت شعار "الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء"، وهو شعار مشابه من حيث ديماغوغيته لشعار الدكتاتور صدام "الطريق إلى فلسطين يمر عبر عبادان". رفضت إيران قرار مجلس الأمن وواصلت الحرب وقامت بتعرض عسكري خطير استهدف اقتطاع البصرة.
لم يهدف شعار "الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء" وغيرها من الشعارات المشابهة التي نادت بها الحكومة الإيرانية إلى رفع المعنويات. ولم يكن هدف تعرضات القوات المسلحة الإيرانية، التي بلغت أكثر من 25 تعرضا كبيرا، تعزيز المواقع الحدودية كما كانت تتظاهر به الحكومة الإيرانية وبعد تحرير الأرض الإيرانية. فهذه التعرضات استهدفت بغالبيتها احتلال البصرة من اجل إقامة حكومة إسلامية عراقية. إن مذكرات رفسنجاني شاهد على ذلك، حيث يذكر بأن بعض المتسرعين طالب بإقامة مثل هذه الحكومة في محافظة ميسان عند احتلال جزر مجنون وذلك في تشرين الثاني عام  1982. (هاشمي رفسنجاني. مذّكرات وخواطر، كتاب "بعد الأزمة"، ص 302، 2001). ومن اللافت للنظر هنا اعتراض رفسنجاني على الزمان والمكان فقط، وهو الذي كان آنذاك بمثابة القائد العام للقوات المسلحة.
لقد رفضت إيران إيقاف الحرب في بادئ الأمر، إلا أنها عادت وأذعنت للقرار بعد توالي انتصارات الجيش العراقي في شبه جزيرة الفاو والمعارك التالية لتحرير الأراضي المحيطة بميناء البصرة وحقل مجنون في الأهواز شرقي القرنة، والمناطق الواقعة شرقي علي الغربي وشيخ سعد، ومن ثم التقدم من جديد داخل الأراضي الإيرانية، وضرب إيران بصواريخ سكود. وكان رد العراق على الهجمات الإيرانية في الجبهة بصواريخ أرض ـ أرض مؤثرا جداً. فقد تعرضت الكثير من المدن الإيرانية القريبة من الحدود إلى قصف صاروخي مستمر كمسجد سليمان و بهبهان و دزفول و مهران و انديمشك و خرم آباد و باختران وايلام. وكانت خسائر الإيرانيين جسيمة بالأرواح والممتلكات. وأحرجت الحكومة نداءات السكان المطالبة بالحماية من الصواريخ السلطات الإيرانية. وضاعفت هجرة سكان تلك المدن إلى أماكن أخرى من مشاكل البلاد. كل هذه العوامل أرغمت الخميني على إصدار الآمر بوقف إطلاق النار و "تجرع السم" على حد قوله بعد ستة أعوام من قرار مجلس الأمن في تموز عام 1982  وبعد عام من صدور قرار مجلس الأمن رقم (589).
وفي النهاية لم تؤد طموحات حكام إيران التوسعية سوى إلى أن يتراجع الخميني عن عناده. ولم تحصل إيران في عام 1988 على أكثر مما كانت ستحصل عليه في عام 1982. إن إيران تتحمل المسؤولية في استمرار الحرب طيلة السنوات الست الأخيرة منها. فإذا كان صدام مسؤولا عن إشعال فتيل الحرب وإلحاق الخسائر بإيران خلال السنتين الأوليين من الحرب، فإن النظام الإيراني هو الآخر مسؤول عن الخسائر التي لحقت بالعراق خلال السنوات الست الأخيرة منها، عندما رفض خلالها حكام إيران قرار مجلس الأمن في تموز 1982، ورفضوا أيضاً جميع الوساطات والمقترحات لإيقاف الحرب.
لقد سقط النظام الدكتاتوري المسؤول عن شن الحرب. وليس من العدل والإنصاف تحميل الشعب العراقي وزر جرائم النظام المقبور. ولقد ذهب الخميني بعناده الذي لم ينفع معه غير السم، على حد تعبيره، ولم يتحمل الشعب الإيراني وزر عناده. ومن مصلحة الشعبين العراقي والإيراني عدم إثارة موضوع خسائر الحرب. أما إذا ما أثار حكام إيران الموضوع بشكل رسمي فليس من حق أي مسؤول عراقي التنازل عن خسائر العراق خلال السنوات الست الأخيرة من الحرب. وإذا كانت خسائر إيران خلال سنتين من الحرب 250 مليار دولار، فإن خسائر العراق خلال ست سنوات لا تقل عن 750 مليار دولار، يتحمل مسؤوليتها النظام الإيراني.
18  أيار 2010
http://www.sotaliraq.com/iraq-news.php?id=548

 



46

حدث هذا قبل أكثر من نصف قرن

جاسم الحلوائي
الكلمة التي ألقيت نيابة عني في الحفل الذي أقيم تكريماً للدكتور كاظم حبيب، بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لميلاده، في برلين يوم 17 نيسان 2010.
الحضور الكريم!
أحييكم بحرارة وأحيي صديقي ورفيقي العزيز الدكتور كاظم حبيب، الكاتب والمفكر التنويري اللامع، بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لميلاده.
إن صداقتنا تمتد لأكثر من نصف قرن وتغطي تحديداً خمسة وخمسون عاماً تخللتها الكثير من اللقاءات والنشاطات الحزبية والسياسية والعائلية المشتركة، كما تخللتها فترات غير قليلة من الفراق ولسنوات عديدة بحكم اختلاف المهام.
وعلى الرغم من أننا كنا على اتفاق فكري وسياسي في أغلب الأحيان إلا أننا كنا ولا زلنا نختلف في هذه القضية أو تلك. ولكن مع ذلك ومع المحاولات المقصودة أو غير المقصودة للإيقاع بيننا، إلا أن صداقتنا بقيت راسخة. إنني سأتوقف عند ذكرى حادث عشناه سوية في مقتبل شبابنا وبداية صداقتنا لألقي الضوء على سبب مهم لرسوخ هذه الصداقة والعبرة التي تنطوي عليها.
***
في سياق حملة نوري السعيد المعادية للقوى الوطنية بُلغنا، في بداية 1955، الرفيق كاظم حبيب وأنا، وكان كاظم آنذاك في السنة النهائية من الإعدادية، من قبل محكمة جزاء كربلاء بموعد محاكمتنا بتهمة التشرد!!. أقنعت مسؤولي الحزبي الرفيق حزام عيّال بأن نهتف في المحكمة احتجاجا على محاكمتنا، لاسيما وأن المحاكمة تجري بتهمة مضحكة وبدون سند قانوني. وبعد مناقشة المقترح اتفقنا أن نحتج في حالة صدور حكم علينا من ستة أشهر فما فوق، وفي حالة حضور ما لا يقل عن أربعين شخصا في جلسة المحاكمةً. وقد طلب مني حزام عيّال أن أبلغ كاظم بذلك، إذ ليس لديه موعد معه قبل المحاكمة لكي يبلغه بنفسه.
في يوم المحاكمة حضر حوالي 40 شخصاً، فاتفقنا، كاظم وأنا، بان أحد الشروط بات متحققا. حكمت علينا المحكمة بالسجن لمدة ستة أشهر مع وقف التنفيذ، على أن يطلق سراحنا بكفالة شخصية قدرها 100 دينار. وبسبب ثقل سمعي، ولرغبتي في تحدي طغيان الحكومة وتعسفها، لم يصل إلى سمعي سوى "ستة أشهر سجن" فهتفت: "تسقط المحاكم الصّوريةً، يسقط الحلف التركي ـ الباكستاني". فالتفت كاظم نحوي مندهشا، مدركاً الالتباس الذي حصل، حاسماً موقفه بالتضامن معي رافعاً صوته هو الآخر بالهتاف. أحاطنا رجال الأمن وأغلقوا فمي وأخذوا يضربونني في بطني وخاصرتي بطريقة لا يرصدها الحاضرون. قادونا إلى غرفة التحقيقات وانهالوا عليًّ ضرباً وركلاً وشتماً. وكان كاظم واقفاً محمّر الوجه ينظر إليهم بغضب.
أخذونا إلى الموقف في غرفة لوحدنا. وقد انتاب كاظم الحزن لأنهم ضربوني ولم يضربوه! فما كان مني إلا أن أواسيه بالقول: "لا تبتئس سيأتي يومك". وصدَق قولي فقد تعرض كاظم، لاحقاً، لأكثر من مرة لتعذيب قاس في حياته. تعرض كاظم، وهو في التوقيف إلى ضغوط كبيرة كي يتخلى عن الطريق الذي اختاره بإعطائه (البراءة). ووعدته عائلته بإرساله إلى أمريكا ليلتحق بأخيه الأكبر، الذي كان يدرس هناك، ولكنه رفض ذلك بشكل حاسم.
في التوقيف استغنيت، بطلب من كاظم، عن الأكل الذي كان يُرسل من بيتنا، لأن ما كان يرسل له يكفينا ويزيد. وما كان يرسل لي كان بسيطاً. ولأول مرة، كنت أتناول طعاماً بتلك الجودة واللًذة. كنت أكل وأهجو البرجوازية، لأغيظ كاظم، متمازحاً.

قرروا تنفيذ الحكم (ستة أشهر) بحقنا. وتقرر تسفيرنا إلى سجن الحلة باعتباره سجناً لمنطقة الفرات الأوسط. عند تسفيرنا إلى سجن الحلة، خرج جمع من الطلبة مع بعض الأهالي ليلقوا علينا نظرة وداع في محطة القطار، وكانت جدتي معهم تقّوي معنوياتي وقد عبرت عن ذلك بقولها وعلى رؤوس الأشهاد (بالعربان ولا بالتربان) غبطني كاظم على ذلك، لعدم وجود من يتعاطف مع اتجاهه السياسي في عائلته.
 في سجن الحلة أدخلونا المحجر. وكانت هناك مجموعة من  السجناء الشباب من النجف. قضينا شهراً وبضعة أيام، ورُحلنا عائدين إلى كربلاء. عند وصولنا علمنا بأنهم ينوون إرسالنا إلى معسكر الشعيبة، وقد فتح هذا المعسكر لحجز الطلبة السياسيين المفصولين، تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وبناء على هذه المعلومة، أرسلت رسالة إلى والدي بان يجلب لي دفتر الخدمة العسكرية وينتظرني في باب مديرية التجنيد صباح اليوم التالي. وهكذا أخذت الدفتر عند دخولي المديرية.
ألقى علينا أحد الضباط محاضرة، وأنهاها بأن خيّرنا، بين إعطاء (البراءة) ومن ثم يمكننا العودة إلى المدرسة، أو إلحاقنا بالجيش لأداء الخدمة العسكرية. وقد فوجئ عندما عرف بأنني لست طالباً وبأنني مسّرح من الجيش لانهائي الخدمة العسكرية. أخذ الضابط دفتري وأخبرني بأني سأستلمه من الشرطة. بعد عودتنا إلى مركز الشرطة، بُلًغ كاظم بأنه سيسفر إلى الشعيبة، وبُلغت أنا بتدبير كفيل لإطلاق سراحي بكفالة. وفي الحال تكفلني والدي وأطلق سراحي، بعد أن أعادوا لي دفتر الخدمة. ودّعت كاظم وكان فرحاً لإطلاق سراحي وكانت معنوياته عالية.علق الحاج حبيب (والد كاظم) على إطلاق سراحي بالقول: "آني أصرف فلوس والنتيجة يطلع ابن الحلوائي وابني يبقى بالسجن". لقد عرفنا بعدئذٍ بان والد كاظم قد أعطى رشاوى لإنقاذ ابنه ولكن الطبيعة القانونية للدعوة (مشتركة) استدعت شمولي بالنتائج الإيجابية. علما بان والد كاظم كان غنياً فهو مالك لمصانع ثلج ومطاحن.
بعد بضعة أسابيع قُدمنا إلى المحكمة بتهمتين هما الإخلال بالأمن العام وإهانة المحكمة. فحكمت بموجب الأولى ثلاثة أشهر والثانية شهراً واحداً على أن تنفذ بالتعاقب، وحكم على كاظم لمدة شهر واحد على القضية الثانية فقط. وبما أنه سبق وأن قضى أكثر من شهر في السجن فقد أعيد إلى الشعيبة، وهكذا لم تذهب فلوس الحاج حبيب هباءً. أما أنا فقد تم تسفيري إلى سجن الحلة.
هذا الحدث وما ينطوي عليه من تداعيات تذكرنا بالثقة والإخلاص والتسامح المتبادل، وتؤكد على العلاقة الرفاقية التي لا تشوبها أية شائبة، والتي ظلت جذوراً حية تغذي شجرة صداقتنا. التي امتدت أكثر من نصف قرن، وإنني على ثقة بأنها سوف تستمر لتمسك كلانا بالقيم النبيلة لتلك الجذور.
العمر المديد لأبي سامر ومزيداً من العطاء لخدمة شعبنا ووطننا الحبيب. مع أجمل الأمنيات لأم سامر وسامر وياسمين.








47
الإرهابيون يحاولون خلط الأوراق ومصادرة انتصار الشعب
جاسم الحلوائي
لا توجد انتخابات بدون نواقص وأخطاء وتزوير خاصة في البلدان الحديثة العهد بهذه الممارسة. ويزداد الطين بلّه عندما تجري الانتخابات في ظل غياب إحصاء سكاني وبلا قانون أحزاب وفي ظروف أمنية غير مستقرة، إضافة إلى كونها تجري وفق قانون انتخابات فيه الكثير من الثغرات. لقد شاب الانتخابات البرلمانية العراقية في 7 آذار 2010  نواقص وأخطاء وخروقات ومحاولات تزوير، والأخيرة كانت محدودة وتحت السيطرة، ولم تكن مبرمجة على نطاق واسع، حيث عولجت من قبل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي ألغت العديد من صناديق الاقتراع، بعد التأكد من عدم سلامتها. إن قانون الانتخابات بحد ذاته يحوي الكثير من الثغرات التي تؤثر سلباً على انسيابية الانتخابات، على سبيل المثال لا الحصر، تصويت المقيمين في الخارج لمحافظاتهم، عدم وجود ضوابط تحد من ظاهرة وجود آلاف المرشحين الذين لم يحصلوا إلا على أصوات قليلة وذلك بفرض غرامات مالية كبيرة على من لم يحصل على عدد محدد من الأصوات.
لابد للمرء أن يأخذ كل ذلك بنظر الاعتبار عند تقييم الانتخابات ودور المفوضية  العليا المستقلة للانتخابات فيها. لقد اتسمت الانتخابات بالشفافية والمصداقية وبالمعايير الدولية، ضمن الظروف الملموسة التي جرت فيها، حسب شهادات جميع مراقبي الهيئات والمحافل الدولية والإقليمية والمحلية. وسلّمت بالنتائج ثلاث قوائم من القوائم الكبيرة الأربع الفائزة وطعنت فيها قائمة ائتلاف دولة القانون وطالبت بإعادة الفرز والعد يدوياً.
ولقد أثبتت المفوضية بأنها شفافة ونزيهة ومستقلة، بشهادة المراقبين الدوليين والجامعة العربية ومنظمات المجتمع المدني العراقية، ولم تخضع للابتزاز والتهديد بما في ذلك تهديدات رئيس الوزراء المبطنة باستخدام القوة عندما ذكّر بأنه القائد العام للقوات المسلحة وإن الوضع قد ينزلق إلى العنف. ولم تستجب المفوضية لا لطلبه ولا لطلب رئيس الجمهورية بإعادة العد والفرز يدويا، لعدم قانونيته. وإذا كان هذا الموقف الشجاع والمشرف دليل بارز على استقلالية المفوضية، فان تسليم المفوضية أقراص مدمجة للكيانات السياسية تحوي صور بيانات محطات العد والفرز اليدوي، التي جرت بحضور ممثلي الكيانات ومختلف المراقبين، لمقارنتها مع النتائج النهائية، لهو دليل أكيد على شفافية المفوضية. وقد صرح السيد بيان جبر القيادي في قائمة الائتلاف الوطني العراقي على شاشة العراقية بأنهم وجدوا تطابقاً في مقارنتهم البيانات مع النتائج النهائية. وعندما قيل له"يقال بأن الأقراص لم تفتح" أجاب "لقد فتحت عندنا"؟!
ومع كل هذا وذاك فلا يعني هذا عدم وجود نواقص وأخطاء في عمل المفوضية ولكن هذا شيء واتهامها بأنها غير مستقلة أو الطعن بشفافيتها ومصداقيتها شيء آخر. ومن الملاحظات الفنية التي قرأتها لمختص، لا يحضرني اسمه الآن،  وتستحق التأمل هي: كان بإمكان المفوضية أن تقسم إعلان النتائج إلى مرحلتين الأولى يمكن إعلانها بعد  24 ساعة من إغلاق صناديق الاقتراع، تعلن فيها عدد الأصوات التي حصلت عليها كل قائمة في العراق فقط ، وبذلك تطمئن نفوس المتنافسين والناخبين. وتعلن في المرحلة الثانية أسماء الفائزين وعدد المقاعد، وهي التي تحتاج إلى وقت طويل نسبياً.
لقد وجدت القوائم الخاسرة، أو التي لم ترق لها النتائج لعدم تطابقها مع تمنياتها وحساباتها غير الدقيقة، في المفوضية المستقلة للانتخابات (حايط نصيص) لتوّجه لها مختلف الاتهامات والطعون، لمداراة خسارتها وخيبة أمل ناخبيها، ولتطالبها بتأجيل الإعلان عن النتائج قبل تحقيق مطلبها في إعادة العد والفرز يدوياً. ومثل هذا الطلب وبدون أدلة دامغة تثبت وجود تزوير مبرمج على نطاق واسع، لا يجمعه جامع مع الحرص على مصلحة العملية السياسية والمصلحة الوطنية العليا التي تتطلب الإسراع في انجاز العملية الانتخابية والإسراع في تشكيل الحكومة لاسيما وأننا نعيش استقراراً أمنياً هشاً والبلد يمر في حالة فراغ دستوري.
وخسرت بعض القوائم لعدم عدالة قانون الانتخابات الذي منح المقاعد التعويضية، بعد أن قلصها، للكيانات الفائزة الكبيرة بدلاً من توزيعها على الكيانات التي حازت القاسم الانتخابي الوطني ولم تفز في المحافظات، وهي أكثر من كيان سياسي غير طائفي وغير قومي أو مناطقي وعشائري من بينها قائمة اتحاد الشعب. إن هذه الكيانات هي نموذج للأحزاب السياسية المطلوبة لعراق متحضر مدني وعصري والمستقبل لهذه الكيانات مع انحسار النزعات الطائفية وضيق الأفق القومي وفي ظل قانون ديمقراطي وعصري للأحزاب.
وفي كل الأحوال، فقد كانت الانتخابات نصراً للشعب العراقي الذي خرج بكثافة ليمارس حقه رغم تهديدات الإرهابيين وتفجيراتهم وقصفهم في يوم الانتخابات، ليؤكد خياره في التداول السلمي للسلطة وليضع لبنة أخرى في صرح البناء الديمقراطي في العراق. وإذا ما صرفنا النظر عن خسارة بعض القوائم غير الكبيرة والعابرة للطوائف والإثنيات، وهي خسارة مهمة، رغم أنها مؤقتة،  فإن نتائج الانتخابات ستكون في صالح تطوير العملية السياسية لتقدم القائمة العراقية على القوائم الأخرى، بما في ذلك قائمة الحكومة، وهي قائمة عابرة للطوائف والاثنيات، نسبياً وبالمقارنة مع القوائم الكبيرة الأخرى، ويدعو زعيمها إلى فصل الدين عن الدولة. ولا يقلل من أهمية ذلك الدعم الكثيف من مكون معين للقائمة، آخذين بنظر الاعتبار حصول القائمة على 12 مقعداً في المحافظات الجنوبية ونصف المقاعد في كركوك، في حين لم تخرج القوائم الكبيرة الأخرى عن نطاق مكوناتها الطائفية والإثنية.
لقد أسفرت نتيجة الانتخابات البرلمانية الأولية، كما هو معروف، عن فوز أربع قوائم كبيرة وهي: العراقية 91 مقعداً وائتلاف دولة الفانون 89 مقعداً والائتلاف الوطني العراقي 70 مقعداً والتحالف الكردستاني 57 مقعداً وهناك 18 مقعدا موزعة على التوافق ووحدة العراق 6 و4 مقاعد على التوالي و 8 مقاعد للأقليات خمسة منها للمسيحيين.
وكانت النتيجة صدمة قوية لقائمة ائتلاف دولة القانون، أفقدتها صوابها لأن حساب البيدر جاء بعيداً جداً عن حساب الحقل. فالقائمة كانت تدعو لحكومة أغلبية سياسية، أكثر من نصف مقاعد مجلس النواب، تتصور بأنها مضمونة لقائمتها، وإذا بها تتأخر عن أشد منافسيها. ولأنها لم تستوعب الواقع الجديد وتأخذ المبادرة السياسية بيدها بانفتاحها على القائمة الأولى، العراقية، تبارك لها الفوز وتطلب تعاونها كي لا ترتهن للقائمتين الثالثة والرابعة، فإنها واصلت خطأها. فبعد فشل تهديد رئيس قائمتها للمفوضية، كما مر بنا، ظلت قيادة القائمة تترنح جراء الصدمة وسعت لعزل القائمة العراقية من منطلق رغبوي وإرادوي وبعيد جداً عن القراءة الموضوعية للخارطة السياسية الجديدة ومتطلبات تطوير العملية السياسية. وقد فشلت قائمة دولة القانون في ذلك، فوقعت رهينة ليس بيد القائمة الثالثة فحسب ، بل في يد أحد مكوناتها وهو التيار الصدري. وكان لزيارة السيد نوري المالكي لمقر التيار في يوم 6 نيسان ولأول مرة مغزاها الواضح في هذا السياق.
إن جميع القوائم الفائزة، بما في ذلك دولة القانون، تدعو في الوقت الحاضر إلى حكومة تشمل جميع القوائم الفائزة، وفي ذلك عين الحكمة، إن كانت الدعوة جدية وليس من باب المناورات السياسية. فالعراق لا يحتمل الآن معارضة قوية، حيث لم يكتمل بعد بناء الدولة وتعوزه العديد من المؤسسات والتشريعات الأساسية،  فضلا عن وجود خلافات حول أسس النظام في الدستور، فمن الممكن أن تتحول المعارضة القوية إلى قوة معطلة لعملية سياسية لم تكتمل بعدُ. وقبل هذا وذاك، إن الوضع الأمني هش للغاية كما تؤكد ذلك الأحداث الإجرامية الدامية التي وقعت في الأيام الأخيرة والتي تستهدف خلط الأوراق ومصادرة انتصار الشعب بمعاقبته لممارسته  الانتخابات رغم تهديدات الإرهابيين. إن كل ذلك يتطلب تضافر جهود كل القوى التي تنشد الأمن والاستقرار والحريصة على إقامة نظام ديمقراطي تعددي اتحادي، بما في ذلك جهود القوى السياسية غير الفائزة بمقاعد في الانتخابات.
7 نيسان 2010
 


48
تذكّر 363 فالأمر لا يحتمل النسيان!
جاسم الحلوائي
إذا كنت تروم تغييراً جدياً نحو الأفضل وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فانتخب قائمة "اتحاد الشعب 363". أجل فهذا الخيار لا يحتمل التأجيل ولا النسيان ولا الإهمال ولا التردد ولا التساؤلات المتشككة أو غير المجدية.
لقد قبل الشيوعيون وحلفاؤهم من الديمقراطيين التحدي بعد أن حشرهم قانون الانتخابات في زاوية ضيقة لعدم عدالته. فقبلوا التحدي وهم أهل له معتمدين على برنامج وطني ديمقراطي حافل بمطالب جميع فئات الشعب وفي المقدمة منهم شغيلة اليد والفكر، برنامج يعوّل على وعي الشعب وعقله، يخاطبهما ويتحاور معهما ولا يعوّل على نزعات عاطفية غير سليمة كالطائفية والقومية الضيقة والعشائرية المتخلفة، أو الدعوات التي تحرّض على الثأر والانتقام وتدغدغ مشاعر البسطاء من العراقيين. فالشعارات التي تظلل المواطن العراقي  وتبعده عن تلمس مواقع الخطأ والصواب في الواقع المعاش، بعيدة كل البعد عن برنامج  "اتحاد الشعب 363".
إن برنامج "اتحاد الشعب 363" هو برنامج علمي وواقعي وجدي، لا يكيل الوعود جزافاً. فمن السهل، على صعيد القول، أن تعد بقطعة أرض أو مسكن وراتب لكل عائلة عراقية، أو تقطع وعداً بالقضاء المبرم على البطالة وما سواها من وعود عريضة. ولكن على صعيد التطبيق فمن غير الممكن تحقيقها في الأفق المنظور لعدم واقعيتها وتوفر عناصرها المادية. فمن يطلق الوعود جزافاً لا يهمه طوباوية وعوده، بل يهمه كسب الأصوات بأي طريقة كانت وبأي ثمن كان، بما في ذلك الرشوة والكذب والتضليل واستغلال المقدسات الدينية ودغدغة المشاعر الساذجة باستغلال جهل وبساطة شريحة من الناس.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، تطرح قائمة "اتحاد الشعب 363"، بدلاً عن مسكن أو قطعة أرض لكل عائلة عراقية ، أهدافاً ملموسة وقابلة للتحقيق في الوقت الحاضر وفي السنوات القليلة القادمة، لمعالجة أزمة السكن المستفحلة، وعل النحو التالي: "تفعيل وتطوير البرامج الحكومية لدعم مشاريع الإسكان، مع التركيز على الإسكان الشعبي وتخصيص الموارد اللازمة لذلك  وتشجيع إقامة جمعيات تعاونية في هذا القطاع، وتدعيم دور المصرف العقاري وتحفيزه على تقديم قروضا ميّسرة للمواطنين وخصوصا الفئات ذات الدخول الضعيفة، وبما يعالج أزمة السكن التي ترهق كاهلهم".
وبدلا عن الوعد بالقضاء المبرم على البطالة، تطرح قائمة "اتحاد الشعب 363" الحلول الملموسة وفقاً للإمكانيات المتاحة لمعالجة هذه الظاهرة السلبية بالشكل التالي: " وضع برامج ملموسة لمكافحة البطالة، وخصوصا في أوساط الشباب، وجعلها احد الأهداف الرئيسية للسياسة الاقتصادية، وان تحتل مهمة توفير فرص عمل جديدة، مكانة خاصة في المرحلة القادمة، بسبب البطالة الواسعة وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمع".
وبدلاً عن الوعد الهلامي براتب لكل عائلة عراقية تطرح قائمة "اتحاد الشعب 363"  برنامجاً متكاملاً  لمكافحة التفاوت والتهميش الاجتماعي، وتدعو إلى اعتماد إستراتيجية لمكافحة الفقر وجعلها إحدى مكونات الإستراتيجية الاقتصادية العامة للدولة وهدفاً للسياسات المالية والنقدية. ولا يُغني أي اختصار لهذا البرنامج عن الاطلاع على تفاصيله. ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض مفرداته فيما يلي: " بناء شبكة الضمان الاجتماعي وتطويرها، وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية. ودعم البطاقة التموينية وتحسين نوعية مكوناتها. و تحديد حد أدنى للأجور يؤمن عيشا كريما، ومراجعته دوريا في ضوء معدلات النمو والتضخم. و إعادة النظر برواتب ومخصصات ذوي الدرجات الخاصة من كبار موظفي الدولة وتقليص الفجوة بين رواتب الدرجات العليا والدرجات الدنيا" و...الخ
لا ريب بأن العديد من شعارات وأهداف برنامج "اتحاد الشعب 363" يمكن أن نعثر عليها في برامج بعض القوائم الأخرى، ولكن من الصعب أن تجد، في ظروف تفشي الفساد المالي والإداري، مَن شهد له القاصي والداني بنظافة اليد والإخلاص والوطنية والنزاهة خلال كل تاريخهم، كما شُهد للشيوعيين وحلفائهم في قائمة "اتحاد الشعب 363"، وكان آخرها شهادة الأستاذ موسى فرج رئيس مفوضية النزاهة السابق. فعندما سأله الأستاذ فيصل الياسري، في لقاء معه على فضائية الديار، عن سبب ترشيحه ضمن قائمة "اتحاد الشعب" أجاب قائلاً: "عندما كنت رئيسا لمفوضية النزاهة في العراق لم تسجل على أعضاء ومناصري وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي منذ عام 2003 إلى غاية تاريخ تركي للعمل أية قضية فساد في حين أن الكثيرين منهم أصبحوا موظفين كبار في الدولة وأعضاء في مجلس النواب ووكلاء وزارات ووزراء، وكذلك لم تسجل أية قضية إرهاب على الحزب الشيوعي العراقي، ولم يستلم أيّ منهم مالاً سياسياً أو يبرر الاعتداء على حدود الوطن، وان عقولهم بعيدة عن الطائفية والعرقية والفساد".
إذن من يطمح إلى المساهمة في تغيير الوضع الراهن إلى الأفضل، ومن أجل أن يستعيد وطننا الغالي عافيته باستعادة سيادته الكاملة وبناء الدولة على أسس ديمقراطية اتحادية وعصرية، فما عليه إلاّ أن يتذكر جيداً الرقم 363 في يوم 7 آذار القادم وهو يوم انتخابات مجلس النواب الجديد. فقائمة اتحاد الشعب 363 هي رائدة التغيير الحقيقي وتعبر عن ضمير شعبنا الحي. انتخبها واجعلها إحدى مفاجآت انتخابات 2010.
22 شباط 2010






49
انقلاب  8  شباط المشؤوم عام 1963
ومشروع قانون مؤسسة السجناء السياسيين

جاسم الحلوائي
 jasemalhalwai@hotmail.com
بعد أيام ستحل الذكرى السابعة والأربعون لانقلاب 8 شباط الفاشي. وفي بدايات الشهر الجاري أقدمت لجنة مختصة  في مجلس النواب على تغيير النص الأصلي لمشروع قانون مؤسسة السجناء السياسيين المرسل من جانب مجلس الوزراء،  والمتضمن شمول السجناء السياسيين لعام 1963 وما يليه بالتمتع بالحقوق أسوة بالسجناء السياسيين لعام 1968 وخلال فترة النظام البعثي المقبور. وكان من الطبيعي أن يعترض على هذا التغيير الرفيق حميد مجيد موسى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في مداخلته يوم السادس من كانون الثاني الحالي في المجلس، معرباً عن استغرابه من تغيير النص المرسل من جانب مجلس الوزراء، والذي حظي بموافقة  مجلس شورى الدولة ويتضمن الضحايا الذين تضرروا من الأنظمة السابقة ومنذ عام 1963 وهو أعدل وأشمل وينصف شريحة واسعة.
وهناك مذكرة موجهة للرئاسات العراقية الثلاث يجري التوقيع عليها (موجودة في موقع الحوار المتمدن) يتصدرها مطلبان وهما: "من أجل مضامين عادلة لقانون مؤسسة السجناء السياسيين" و"من أجل منع التغييرات المجحفة وكشف من يقف وراء ذلك في البرلمان". وقد كتب العديد من الكتاب منددين بالعقلية التي تقف وراء هذا التغيير الذي لا يستند إلى أي أساس قانوني وحقوقي أو إلى الحد الأدنى من العدالة والإنصاف، بل وينطوي على تزكية للأعمال الوحشية والبربرية التي قام بها الانقلابيون. ولكي نثبت ما نقوله سنلقي الضوء على طبيعة هذا الانقلاب وكيف جرى تنفيذه ومن كان ورائه، والمقاومة البطولية التي جوبه بها. كما سنشير إلى ضحايا 8 شباط وأساليب الانقلابيين البربرية في التعذيب وقصة "قطار الموت".
حزب ديدنه التآمر والانقلابات
ما أن تعافى حزب البعث من الضربة التي وجهت له على أثر محاولته الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم في أواخر عام 1959، حتى توّجه للتآمر من أجل الإطاحة بالحكم والسيطرة على السلطة بانقلاب عسكري، بالاعتماد على مناصريه وبالتحالف مع قوى أخرى، قومية و محافظة ومن فلول العهد السابق وغيرها. والتقت مساعيه هذه بما كانت تدبّره الدوائر الأمريكية والغربية وعملاؤها في العراق والبلدان المجاورة له، كما تطابقت هذه المساعي مع ما كانت تسعى إليه قيادة الجمهورية العربية المتحدة، وتوافقت مع الجهود الحثيثة لشركات النفط العاملة في العراق للتخلص من حكم قاسم، ولاسيما بعد إصدار القانون رقم 80 الذي انتزع منها كل الأراضي التي لم تستثمرها حتى ذلك الحين، والتي تؤلف (5 ,99%) من مجموع مساحة البلاد التي كانت تدخل ضمن امتيازها.
وقبل أن ينتهي عام 1961، كانت القيادة القطرية لحزب البعث في العراق قد قررت رسمياً العمل على إسقاط حكم قاسم. وفي أواخر أيار 1962 دعت القيادة القومية للحزب المذكور في اجتماع عقدته في حمص، القيادة القطرية لحزب البعث المنتخبة حديثاً في العراق، إلى الإعداد لانقلاب في العراق للإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم. فتألف لهذا الغرض مجلس عسكري لوضع خطة العمل والسعي لتنفيذها في اللحظة المناسبة [1].
ووّفر حكم قاسم العسكري الفردي، بسياسته المنافية لحقوق الشعب الديمقراطية وانعزاله عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الحريصة على الاستقلال الوطني والنهج الديمقراطي، الأجواء الملائمة للنشاط التآمري والرجعي. فتزايدت صلافة القوى الرجعية وتجاوزاتها على حقوق الجماهير التي حُرمت من وسائلها لتنظيم نفسها للدفاع عن حقوقها، وبالتالي الدفاع عن الحكم. وجاءت الحرب التي شنتها الحكومة ضد الشعب الكردي، لتُضعف كثيراً من قدراتها العسكرية، وتُزيد من أعبائها المالية، في وقت كان الحكم يُعاني من ضغط شركات النفط وسياساتها في خفض الإنتاج، مُستهدفة من ذلك إشغال الحكم عما كان يُدبّر له. وزادت مشكلة الكويت ومُطالبة عبد الكريم قاسم بها، من التعقيدات السياسية التي كان يواجهها، وأعطت الدوائر البريطانية ذريعة لاستقدام قواتها  وتحشيدها قريباً من الحدود العراقية.
وكان كبار العسكريين المحافظين، على اختلاف ولاءاتهم، والإقطاعيون والأغوات والرجعيون وعملاء الاستعمار،يتهيأون إلى ضم قواهم إلى كل من يُقدم على عمل مضاد للحكم. وحين انحصر الفعل على البعث والقوميين العرب، استعدوا للسير وراء أي منهما. ومع أن هذين التنظيمين، كانا قد اتفقا، في بادئ الأمر، على العمل سوية، ودخلا في ما عرف ﺑ"الجبهة القومية" إلا أن القوميين العرب خرجوا عن الجبهة المذكورة بسبب الخلاف ما بين البعثيين والناصريين في سوريا، وبات كل من التنظيمين يعمل بمفرده، ويسابق الآخر لتنفيذ خطته [2].
حينما أعلن علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية في العراق بعد انهيار حكم البعث، قائلا: "إننا جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي"، استنكر التصريح بعض قادة البعث. ويورد الكاتب سباهي العديد من الشهادات والمصادر التي تؤكد ما ذهب إليه السعدي، بما في ذلك شهادات قادة بعثيين وردت في مذكراتهم، مثل مذكرات طالب شبيب ومذكرات هاني الفكيكي. كما يورد سباهي كذلك تصريح الملك حسين في مقابلة صحفية أجراها معه محمد حسنين هيكل في 27 أيلول 1963، يقول فيها: "لقد عُقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعُقد أهمها في الكويت. أتعلم أن محطة إذاعة سرية تبث إلى العراق كانت تزود يوم 8 شباط رجال الانقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك لتتمكن من اعتقالهم وإعدامهم؟" [3].
منذ صيف 1962، بدأت منظمات الحزب الشيوعي العراقي تتلقى من مركز الحزب توجيهات تدعو إلى اليقظة واتخاذ أقصى درجات الحذر لمواجهة ما تدبّره الأحزاب القومية من عمليات انقلابية، ووضع خطة الطوارئ موضع التطبيق في حالة وقوع أي انقلاب عسكري. وكانت تلك الأحزاب تعيد وتكرر إنذاراتها إلى أعضائها ومؤيديها، وتحدد مواعيد جديدة لحركتها. مقابل هذا كان الحزب الشيوعي يُكرر تبليغاته وتوجيهاته الداعية إلى اليقظة والحذر. كما كان الحزب يُسّرب معلوماته إلى قاسم. ويطرح سباهي هنا سؤالاً مهما ويُعّقب عليه، وهو: "هل كانت هذه الحالة قد حدثت مصادفة، وعادت بالنفع على الانقلابيين، أم أن جهات ذات تجربة ودراية بسايكولوجية الجماهير في حالة كهذه قد أوحت للانقلابيين بهذه الممارسة؟ مهما كان الأمر، فإن تكرار الإنذارات والتوجيهات المضادة قد أوجدت حالة من فتور الهمة والخدر في اللحظة المناسبة" [4] .
في حوالي منتصف كانون الأول 1962 وضعت، كما يشير بطاطو، خطة العمل، وحددت ساعة الصفر في الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 18 كانون الثاني 1963. وبدأ تنفيذ الخطة فعلا في 24 كانون الأول 1962 بإعلان إضراب للطلاب القوميين في مدرسة الشرقية الثانوية في بغداد بمبادرة من حزب البعث. وامتد الإضراب في اليوم التالي ليشمل كل المدارس الثانوية، ثم يشمل كليات الجامعة في التاسع والعشرين من الشهر نفسه وساهم طلبة الحزب الديمقراطي الكردستاني في الإضراب. وكانت حجة الإضراب هي ضرب الشرطة العسكرية للطلاب الذين أثاروا شجاراً مع ابن فاضل المهداوي، رئيس "محكمة الشعب". أما النية الحقيقية فكانت تحويل انتباه قاسم عن الجيش والتستر على الانقلاب المقبل [5].
وفي تلك الفترة، تلقى الحزب الشيوعي معلومات تشير إلى أن حزب البعث أعد خطة لانقلاب عسكري ينطلق تنفيذها من كتيبة الدبابات التابعة للفرقة الرابعة المدرعة في (أبو غريب). وكان يقود هذه الكتيبة يومئذ العقيد خالد الهاشمي، عضو المكتب العسكري لحزب البعث. وقد سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان في 3 كانون الثاني 1963 يُحذر قاسم من الانقلاب، ومن تحول الكتيبة المذكورة إلى وكر للمتآمرين. وكان لدى قاسم المعلومات ذاتها. ولدى مقابلة الهاشمي لعبد الكريم قاسم، ارتعب الهاشمي وأفضى بما عنده، وقدم لقاسم كشفاً بأسماء ضباط الكتيبة واتجاهاتهم السياسية. واعترف بوجود 3000 قطعة سلاح في الكتيبة لا يعرف عنها شيء. حينئذ أمر قاسم بإعادة الأسلحة إلى مخازن وزارة الدفاع، والالتزام بإفراغ الدبابات بعد كل عملية تدريب من ماء التبريد ومن عتادها الحي. وعمد إلى إحالة 80 ضابطاً على التقاعد بمن فيهم المقدم جابر حسن حداد والمقدم صبري خلف، من سلاح المدرعات. وتأجل موعد الانقلاب إلى 25 شباط. ولكن قاسم ضرب ثانية في 3 و4 شباط محيلا إلى التقاعد مزيداً من الضباط، وقبض على المقدم صالح مهدي عماش أحد أركان الانقلاب المنتظر وعلي صالح السعدي الأمين القطري لحزب البعث، وكريم شنتاف عضو المكتب السياسي في 4 و5 منه. وخوفاً من مزيد من الاعتقالات، قرر القادة الذين ما زالوا طلقاء تنفيذ ضربتهم يوم 8 شباط [6].
تنفيذ الانقلاب
بدأ تنفيذ الانقلاب في الساعة الثامنة من صباح 8 شباط 1963. وكانت المهمة الأولى أمام الانقلابيين هي شل سلاح الطيران في معسكر الرشيد الذي كان يضم عدداً كبيراً من ضباط الطيران الشيوعيين بقيادة قائد القوة الجوية اللواء الركن الطيار الشيوعي جلال الأوقاتي. وكانت نقطة الانطلاق في الانقلاب اغتياله. فداهموه قرب بيته الذي كان تحت مراقبة البعثيين خلال اليومين الأخيرين، وقتلوه في الساعة الثامنة والنصف. وقصف معسكر الرشيد وتم تحطيم الطائرات التي كانت جاثمة فيه في الساعة التاسعة، وقتل الضباط الشيوعيون وأعتقل جميع الضباط غير البعثيين. وبعد دقائق شنت الطائرات هجوماً على وزارة الدفاع. كما اتجهت بعض الدبابات من (أبوغريب) نحو مرسلات الإذاعة، وأذاع الانقلابيون بيانهم من هناك. كما اتجهت دبابات أخرى نحو دار الإذاعة في الصالحية، بينما اتجهت أربع دبابات إلى وزارة الدفاع. وقد نسى الانقلابيون محطة التلفزيون التي أظهرت قاسم يتحرك على شاشتها في شارع الرشيد ومن ثم في وزارة الدفاع، التي وصلها في الساعة العاشرة والنصف، مكذبة بذلك نبأ مقتله.
واستخدم الانقلابيون الخداع والكذب والتزييف منذ بيانهم الأول. وكان قادة الدبابات التي هاجمت وزارة الدفاع يرددون مع الجماهير الغاضبة "ماكو زعيم إلا كريم"، ويرفعون صور قاسم لكي تتمكن الدبابات من شق طريقها وسط الجموع الغاضبة. وراح الانقلابيون  يذيعون برقيات مزورة لتأييد حركتهم من آمري الوحدات العسكرية في مختلف المواقع، كما يذكر هاني الفكيكي في "أوكار الهزيمة" ص240.
اقترح الزعيم الركن طه الشيخ أحمد ذو الميول الشيوعية، ومدير التخطيط العسكري، كما يشير بطاطو، تحريك القوات جيدة التجهيز التي هي بإمرتهم، وأن يجربوا الانقضاض المباشر على مواقع المتآمرين وقياداتهم، وبذلك يحركون الجنود والضباط المترددين في معظم الوحدات العسكرية، بدلا من أن يقبعوا في وزارة الدفاع وينتظروا مصيرهم، فوزارة الدفاع هي الشرك الذي سيقعون فيه. وألح على توزيع الأسلحة الخفيفة والذخائر على الجماهير المحتشدة خارج وزارة الدفاع والتي تطالب بالسلاح. ولكن مقترحات الشيخ أحمد لم تجد لها صدى عند قاسم، الذي فضّل نصيحة أخرى، هي خطاً دفاعياً في الأساس [7].
الحزب الشيوعي يقف ببطولة
ضد الانقلاب الفاشي

سارع سلام عادل إلى جمع من أمكن الاتصال بهم من أعضاء اللجنة المركزية في بغداد، ومن قادة منظمة العاصمة لتحديد الموقف من الانقلاب. وقد توصّل المجتمعون إلى أن الانقلاب لا يستهدف عبد الكريم قاسم وأركان حكومته وحدهم، وإنما يستهدف كذلك ضرب الحزب الشيوعي والقضاء عليه. اتصل سلام عادل بالجادرجي ومحمد حديد اللذين أخبراه، كل على حدة، بأنهما ضد الانقلاب ولكن ليس لديهما إمكانية للمقاومة. وفي الحال سارع سلام عادل إلى تحرير بيان طلب أن يوّزع بأكبر قدر ممكن، وأن يُتلى على جموع الناس حيث تحتشد، وأن يُلصق في المحلات العامة. وانطلق الجميع لاستنفار منظماتهم والجماهير المحيطة بها. ويقول البيان الذي ذيّل باسم الحزب الشيوعي العراقي ووزع في الساعة العاشرة من صباح 8 شباط ما يلي:
 " إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية!
أيها المواطنون! يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم! أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية الديمقراطية!
قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة بائسة للسيطرة على الحكم تمهيداً لإرجاع بلادنا إلى قبضة الاستعمار والرجعية، فسيطرت على مرسلات الإذاعة في أبي غريب، وهي تحاول أن تثير مذبحة بين جيشنا الباسل لتنفيذ غرضها ... للسيطرة على الحكم". ثم يدعو البيان الجماهير قائلاً: "إلى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني، وعن مكاسب شعبنا! إلى تشكيل لجان الدفاع عن الاستقلال الوطني في كل معسكر، وفي كل محلة ومؤسسة وفي كل قرية!
إلى الأمام، إلى تطهير الجيوب الرجعية، وسحق أية محاولة استعمارية في أية ثكنة وفي أية بقعة من بقاع البلاد".
وينتهي البيان بالآتي: "إننا نطالب الحكومة بالسلاح!
فإلى الأمام إلى الشوارع! إلى سحق المؤامرة والمتآمرين".
إثر ذلك، اندفعت الجماهير بأعداد هائلة إلى الشوارع، من كل مكان، وخاصة من المناطق الكادحة، وقد أشعل حماستها بيان الحزب الذي وزع في الشوارع والأماكن الشعبية، وتوّلى بعضهم قراءته على الجماهير. وتوجهت جموع غفيرة صوب وزارة الدفاع لدعم القوات العسكرية ولتحصل على السلاح. ولكن قاسم رفض تزويد الجماهير بالسلاح. فأصدر الحزب الشيوعي البيان الثاني في الساعة الحادية عشر، وقد جاء فيه:" ... إننا ندعو الجماهير لمهاجمة الجيوب الرجعية وسحقها دون رحمة وعدم الانتظار. إن استقلالنا الوطني أمام خطر مؤكد... إن مكتسبات الثورة أمام خطر مؤكد... استولوا على السلاح من مراكز الشرطة ومن أي مكان يوجد فيه ... إلى السلاح! إلى الهجوم من كل أنحاء بغداد والعراق لسحق جيوب عملاء الاستعمار" [8].
وعلى النقيض من اندفاع الجماهير الكادحة بقيادة الحزب الشيوعي بكوادره وأعضائه مدنيين وعسكريين (خارج الجيش)، كان أعضاء الحزب وأصدقاؤه وأنصار قاسم في الجيش مترددين. ولم تتحرك سوى بعض الفصائل في معسكرات الرشيد والوشاش وسعد، وبشكل محدود أيضاً. وجرى في معسكر سعد اعتقال بعض المتآمرين وتوزيع السلاح على الجنود. وفي معسكر الوشاش اقتحم ضابط شيوعي مخزن السلاح ووزع السلاح والعتاد على عدد من الجنود. ولم تطبق خطة الطوارئ التي وضعها الحزب الشيوعي لمقاومة أي تآمر في المعسكرات الأخرى.
ولم تستطع دبابات المتآمرين اختراق شارع الرشيد بسهولة. فقد تصّدت لها الجماهير وعلى رأسها الشيوعيون. وصعد على الدبابات بعض أبناء الشعب وهم عُزل إلا من السكاكين والخناجر، وفتحوا أغطية دبابتين وأخرجوا من فيها من الضباط الانقلابيين وفتكوا بهم. فلجأت الدبابات الأخرى إلى الخُدعة، فراح الضباط المتآمرون يشاركون الجماهير هتافهم: "ماكو زعيم إلا كريم"، كما مر بنا. فانطلت الحيلة على الجماهير واستطاعت الدبابات النفاذ إلى داخل الوزارة.  ودارت معركة حامية الوطيس في وزارة الدفاع ابتدأت من الساعة  الثالثة بعد الظهر من يوم ثمانية شباط واستمرت حتى ظهر التاسع منه.  وقد أبدى العميد عبد الكريم جدة وقواته من الانضباط العسكري، والعقيد وصفي طاهر، بسالة كبيرة في التصدي لهجوم المتآمرين، حتى استشهادهما. وكذلك لعب الرئيس الأول الشيوعي سعيد مطر دوراً بطولياً في المعركة. وحين انتهت المقاومة استطاع أن يفلت وينضم إلى القوى الجماهيرية التي كانت تقاتل في حي الأكراد. ولم يبق من المقاتلين الذين كان يربو عددهم على 1500 مقاتل في وزارة الدفاع إلا بضعة أنفار. فاعتقل الانقلابيون عبد الكريم قاسم والمهداوي وطه الشيخ أحمد وتم إعدامهم  خلال ساعة واحدة [9].
وفي الساعة الثامنة والدقيقة العشرين مساء 8 شباط أذيع البيان رقم 13 الذي أباح قتل الشيوعيين "أينما وجدوا". وعلى الرغم من ذلك خاضت الجماهير في محلات عديدة من بغداد معارك مشهودة قادها الشيوعيون. ففي الكاظمية، خاضت الجماهير معركة باسلة كان يقودها هادي هاشم، عضو سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والمقدم المتقاعد خزعل السعدي، وعضو لجنة منطقة بغداد للحزب حمدي أيوب العاني وانضم إليهم الشاعر المعروف مظفر النواب ومحمد الوردي. وقد استطاعت الجماهير في المدينة أن تخوض معركة استمرت أربع ساعات مع شرطة النجدة، وأن تستولي على مشاجب السلاح في المركز المذكور، وتتسلح بها للسيطرة على مراكز الشرطة الأخرى، وتستولي على مشاجب السلاح فيها.  وقد سيطرت الجماهير على المدينة برمتها حتى جسر الصرافية من جهة الكرخ. واشتدت المعارك في مناطق عمال النسيج في البحية وإخوتهم في القطانة وأم النومي، وفي مدينة الكادحين (الشعلة). وساهمت النسوة لاسيما الشيوعيات في المقاومة ببسالة واستشهد العديد منهن في ساحة المعركة، ومنهن الرفيقة مريم رؤوف الكاظمي. واستمر القتال حتى اليوم الثالث. وبعد أن اتضح عزلة المقاومة وعدم توقع أي إسناد عسكري أو مدني من مناطق أخرى، قررت قيادتها الشيوعية تنظيم الانسحاب وتوّلى المقاوم الشعبي سابقاً الشهيد سعيد متروك تغطية عملية الانسحاب لوحده، حيث قاوم لعدة ساعات شاغلاً قوات العدو، حتى تم الانسحاب التام وأطلق آخر طلقة لديه. ولم يصدق المتآمرون أن شخصاً واحداً كان يدير تلك المقاومة، فانتقموا من بسالته بقتله بمنتهى الوحشية . واستشهد في معارك الكاظمية العديد من أبنائها بينهم شيوعيون معروفون مثل محمد الوردي وعلي عبد الله وناظم جودي [10].
وفي (ﻋﮝد الأكراد)، في باب الشيخ، قاومت الجماهير من الأكراد الفيليين الذين يزدحمون في المنطقة وكادحي باب الشيخ والتحقت بهم الجماهير القادمة من مدينة الثورة. وقد قدر عدد المقاومين منهم بأربعة آلاف في اليوم الأول. وقاد المعركة ببسالة واقتدار  محمد صالح العبلي، عضو المكتب السياسي ، ويعاونه عدد من كوادر الحزب وقادة منظمة بغداد، من بينهم لطيف الحاج وباسم مشتاق وكامل كرم وكريم الحكيم والدكتور حسين الوردي وصباح أحمد. وكانت الجماهير تتسلح ببعض البنادق والمسدسات والقنابل اليدوية التي كانت مخزونة وفق خطة الطوارئ للحزب الشيوعي، إضافة إلى ما يملكه أبناء الشعب، وبالعصي والفؤوس والأسلحة البيضاء. وقد حاول المقاومون اقتحام مركز باب الشيخ والاستيلاء على أسلحته، ولكنهم لم يفلحوا. وقد امتازت المقاومة هنا بحسن التنظيم، واستطاعت أن تصمد وتقاوم لثلاثة أيام بالرغم من وحشية القوات الانقلابية. وكان سكان المحلات الشعبية المحيطة بحي الأكراد تتعاطف مع المقاومين، وتمدهم بالغذاء والعتاد والأدوية، وترعى جرحاهم. ولما اتضح للقيادة في اليوم الثالث أنه من المتعذر مواصلة القتال، وأنه لم يعد هناك من داع لاستمراره بعد أن استتب الأمر للانقلابيين، أمرت قيادة المقاومة المقاومين بالانسحاب بانتظام، والاحتفاظ بأسلحتهم.
كما زحف سكان العديد من المناطق الكادحة في الكرخ نحو الإذاعة في الصالحية في محاولة جريئة للاستيلاء عليها  وطرد الانقلابيين منها. وكان يقودهم شيوعيون معروفون وهم: ليلى الرومي وبلال علي ومتي هندي هندو ، ولكن المحاولة جوبهت بمقاومة ضارية من قبل القوة العسكرية التي تحتل الإذاعة، ولحقت بالمقاومين خسارة فادحة.
وتحركت الجماهير في بعض المدن الأخرى. ففي الكوت تظاهرت جماهير المدينة وتوجهت إلى السجن مطالبة بتحرير السجناء السياسيين، وجلهم من الشيوعيين، الذين كانت تتعالى هتافاتهم مطالبة بإفساح المجال لهم بمشاركة الشعب في مقاومة الانقلاب، وهم يحاولون كسر أبواب السجن. وتحت ضغط الجماهير من خارج السجن والسجناء من داخله، أذعن الحراس للضغط، وسارعوا إلى فتح أبواب السجن. فانضم السجناء السياسيين إلى الشعب الساخط يتقدمهم الكادر الشيوعي الباسل محمد الخضري. وفي البصرة، قامت مظاهرات متفرقة، لاسيما في حي الجمهورية،وتحّشد بضع مئات من الجماهير أمام مقر متصرفية اللواء في (العشار). وتفرقت بعد أن أطلق الرصاص صوبها [11].
 لقد تجاوز الحكام الجدد كل الحدود في تعاملهم البربري مع المناطق التي وقفت ضدهم. يقول الباحث حنا بطاطو ما يلي: "وعوملت المناطق التي وقفت في وجههم كأنها بلد عدو. وانتشرت قوات الحرس القومي ووحدات من القوات المسلحة تمشط البيوت وأكواخ الطين في هذه المناطق. وجرى إعدام كل شيوعي ـ حقيقي أو مفترض ـ لإبدائه أقل مقاومة أو لمجرد الاشتباه بنيته في المقاومة. وملأ عدد الذين اعتقلوا بهذه الطريقة السجون الموجودة، فتم تحويل النوادي الرياضية ودور السينما والمساكن الخاصة وقصر النهاية، وحتى جزء من شارع الكفاح في الأيام الأولى، إلى معسكرات اعتقال". أما عن القتلى فيقول بطاطو ما يلي: " في تقديرات الشيوعيين أن لا أقل من 5000 (مواطن) قتلوا في القتال الذي جرى من 8 إلى 10 شباط. وقدّر مراقب دبلوماسي أجنبي حسن الإطلاع ولا يرغب في ذكر اسمه أن مجموع عدد القتلى بحوالي 1500، ويتضمن هذا الرقم ما يزيد على مئة جندي سقطوا داخل وزارة الدفاع و(شيوعيين كثيرين)" [12].
ومنذ اليوم الأول للانقلاب واستناداً إلى البيان رقم 13 شنّ الحرس القومي حملة اعتقالات واسعة في جميع أنحاء العراق طالت عشرات الألوف من الناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولاسيما في المدارس والمعامل والجيش. إلا أن الجهاز القيادي الأساسي للحزب الشيوعي وما يرتبط به من شبكة كوادر ظل سليماً، بوجه عام. كما سلمت مطابع الحزب ومحطاته الأساسية. ولم تؤد القوائم التي كانت تذيعها المحطة السرية الأجنبية، الغرض الذي توّخاه منظموها، إي اعتقال قادة الحزب وشبكة الكادر الحزبي الذي يرتبط بها. وكانت قيادة الحزب قد عمدت، بعد فشل المقاومة مباشرة، إلى مطالبة جميع القادة والكادر الحزبي بتبديل بيوت سكناهم وأماكن التقاءاتهم. وعمدت إلى تغيير طرائق ورموز الاتصالات ومواعيدها...الخ، وبفعل التعذيب الوحشي انهار البعض وأدى ذلك إلى اعتقال سلام عادل في يوم 19 شباط 1963 والعديد من قادة الحزب، ولم ينج من الاعتقال في بغداد سوى جمال الحيدري والعبلي وعزيز الشيخ.
شكل الانقلابيون في بغداد مكتب تحقيق خاص للتحقيق مع المتهمين بالشيوعية، بإشراف محسن الشيخ راضي عضو القيادة القطرية لحزب البعث. وقد اتخذ هذا المكتب من بناية "محكمة الشعب" مقراً له. وجمعوا فيه عناصر عارية عن المؤهلات القانونية أو المهنية، وكل ما كانوا يتمتعون به من مؤهلات هو استعدادهم للقتل والتعذيب فقط. وقد وصفهم طالب شبيب في مذكراته ﺑ "الرجال المعوجين". وعلى غرار هذا المكتب شكلت مكاتب من الحرس القومي في كل محافظات العراق، منحت "سلطات مطلقة في اعتقال وتعذيب من تشاء من أفراد الشعب". وكما يروي طالب شبيب:" كان هَم الحزب الأول هو تأمين السلطة، والقضاء على أية مقاومة مسلحة بكل الوسائل الممكنة [شكلت المكاتب بعد انتهاء المقاومة ونجاح الانقلاب. جاسم]. لذلك كانت أجهزة التحقيق مجازة في أعمالها من أجل تحقيق ما أردنا الوصول اليه، وهو: النتائج السريعة، وقد حصلنا عليها فعلاً". وكان معنى هذا: إطلاق يد هذه الأجهزة في التصرف بفرائسها من المعتقلين بأية صورة كانت، طالما تحصل على المعلومات بسرعة! وقد استخدمت أبشع وسائل التعذيب الوحشي. وفضلا عن إشراف محسن الشيخ راضي على التعذيب، كان يحضرها أحياناً حازم جواد وطالب شبيب والقادة الآخرين من مدنيين وعسكريين [13]. 
الصمود البطولي   
بيد أن البعثيين لم ينقلوا لنا في مذكراتهم ، كما يشير سباهي، "صور الصمود البطولي، الذي قابل به قادة الحزب الشيوعي ما صُب عليهم من ألوان التعذيب وأفانينه إلا النادر منها. إلا أن ما نقل عن هؤلاء القادة عن طريق من نجا من المعتقلين من الموت بصورة من الصور، يكفي للتعريف بالشجاعة الهائلة التي واجه بها سلام عادل الجلادين وهم يجربون معه كل ما أتقنوه من فنون التعذيب. فهل يتجرأ ممن بقي من سلطة الانقلاب، على الحديث عن هذا الإنسان الكبير وما جرى له من تعذيب يفوق قدرة البشر دون أن يتفوه بشيء؟ وأية كلمة يمكن أن تقال وهم يتلذذون بقطع أوصاله، أو ضغط عينيه، حتى تسيلا دماً وتفقدا ماء البصر.أو كيف قطعوا أعصابه بالكلابين أو كيف واصلوا ضربه على الرأس حتى لفظ أنفاسه؟ والصمود الأسطوري ذاته يتكرر مع عبد الرحيم شريف، ومع محمد حسين أبو العيس وهو يكابد العذاب أمام زوجته الشابة والأديبة الموهوبة سافرة جميل حافظ التي كانت تعّذب أمامه هي الأخرى حتى لفظ أنفاسه أمامها".
ويواصل سباهي "... والثبات الذي لا يعرف الحد للدكتور محمد الجلبي، وهو يتجرع الموت قطرة فقطرة..والحديث يطول عن صلابة نافع يونس أو حمزة السلمان أو حسن عوينة أو صاحب الميرزا أو صبيح سباهي أو طالب عبد الجبار أو الياس حنا كوهاري (أبو طلعت) أو هشام إسماعيل صفوت أو إبراهيم الحكاك أو الصغيرين الأخوين فاضل الصفار (16سنة) ونظمي الصفار (14 سنة) اللذين عُذبا  أمام أمهما التي كانت "تتسلى" عنهما بالضرب الذي تتلقاه وهي حامل، وفضّل فاضل الموت على أن يدل الجلادين على الدار التي يسكنها زوج أمه جمال الحيدري. لم يكن بوسع أي كاتب، مهما أوتي من براعة التصوير، أن يعرض القصة الكاملة لما جرى في (قصر النهاية) و(ملعب الإدارة المحلية) و(النادي الأولمبي) وبناية (محكمة الشعب) وغيرها من الأماكن التي جرى تحويلها إلى مقرات للتحقيق والتعذيب"[14].
حاول الانقلابيون أن يدخلوا في روع الناس بأن هستيريتهم في  تصفية الشيوعيين والقوى الديمقراطية الأخرى كانت بسبب المقاومة المسلحة في بداية الانقلاب. بيد أن الانقلابيين أنفسهم قد فندوا، في أكثر من وثيقة وتصريح رسمي، ادعاءاتهم بأنفسهم، إذ كانوا يؤكدون عزمهم المسبق على تصفية الحزب الشيوعي والحركة الديمقراطية بصرف النظر عن الموقف الذي تتخذه من انقلابهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تصريح ميشيل عفلق إلى جريدة " ليموند" الفرنسية الذي نشر في جريدة "الأخبار" العراقية في 24 آذار 1963، وقد جاء فيه ما يلي: "إن الأحزاب الشيوعية ستمنع وتقمع بأقصى ما يكون من الشدة في كل بلد يصل فيه حزب البعث إلى الحكم"[15] . ويقول هاني الفكيكي "إن أوامر قد صدرت إلى فرق خاصة للحرس القومي لاغتيال عدد من العسكريين وقائمة بسبعين اسماً لشيوعيين بارزين" [16] . ومن المعروف أن إشارة البدء بالانقلاب كانت، كما هو المتفق، اغتيال قائد القوة الجوية الشيوعي، الزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي.
لذلك فلم يكن أمام الحزب الشيوعي العراقي من خيار، لحظة وقوع الانقلاب ، سوى المقاومة، ليس دفاعاً عن النفس فحسب، بل ووفاء لالتزاماته أمام الشعب العراقي بالوقوف بوجه المؤامرات الاستعمارية والرجعية، دفاعاً عن الاستقلال الوطني وراية 14 تموز. فبرهن الشيوعيون كعهدهم دائما أنهم لا يتركون ساحة الكفاح ولا يتخلون عن الشعب حين تهب أعاصير الإرهاب. وقد ساهمت تضحياتهم ونضالاتهم إسهاماً فعالاً في تعرية الحكم الفاشي وعزله داخليا وعربيا وعالمياً والتعجيل بسقوطه. لقد كانت المقاومة ضرورية ومأثرة تاريخية على الرغم من فشلها.
لا نعرف هل أن اللجنة المختصة التي أجرت التغيير سيئ الصيت على المشروع سمعت بقطار الموت وما عاناه السجناء السياسيين الذين صادرت حقوقهم؟ فإذا لم تسمع فلتقرأ وتتأمل بدقة في هذه التراجيديا.
قطار الموت
ذَعر حكام الانقلاب كثيراً وأقلقهم بوجه خاص وجود مئات من الضباط الشيوعيين والقاسميين في سجن رقم (1) في معسكر الرشيد قريباً من أي ثائر آخر يمكن أن يحررهم، كما أراد حسن سريع ورفاقه. تداول الحكام في أمر قتلهم، ولكنهم خافوا عاقبة الأمر. فاختاروا طريقة تسّبب موتهم، ويمكن تلفيق أي عذر لذلك بما فيه الإهمال أو التقصير من موظف ما. فحشروهم في صيف تموز القائظ في قطار لنقل البضائع، في عربات مطلية بالقير ومحكمة الإغلاق، وهم في حالة يرثى لها من الجوع والعطش والقلق ومكبّلون بالسلاسل ومربوطون إلى بعضهم، بقصد إرسالهم إلى سجن (نقرة السلمان) سيء الصيت. وبسبب الحرارة الشديدة ونقص الأوكسجين وفقدان السوائل، أخذ السجناء يفقدون قدرتهم على تحمل الحرارة. فأوصاهم الجراح العسكري العميد رافد أديب بابان، الذي كان من ضمن الموقوفين، أن يشربوا العرق الذي تنضحه أجسادهم باستخلاصه من ملابسهم الداخلية. ومن حسن الصدف أن يعرف سائق القطار الشهم عبد عباس المفرجي، بهوية ركابه في محطة الهاشمية في محافظة الحلة من أحد الأشخاص، فانطلق بالقطار بأقصى سرعته مخالفاً الأوامر والتعليمات، رغم احتجاج وصراخ الحرس القومي والجنود الذين يحرسون القطار. فوصل القطار إلى السماوة قبل موعده بحوالي الساعتين، وكان الموقوفون في الرمق الأخير ومغمى على الكثيرين منهم. وفي محطة السماوة استقبلت الجماهير القطار وهي تحمل صفائح الماء البارد واللبن والرقي (البطيخ الأحمر) ، متحدّية بذلك الحكام الفاشست. فبادر الدكتور العميد رافد أديب بابان إلى تحذير الأهالي من الاقتراب من الموقوفين وسقيهم الماء، وطلب ملحاً فاستجاب المواطنون لطلبه، وجلبوا كميات من الملح. وتوّلى الأطباء العسكريون السجناء إسعاف رفاقهم، وقد استشهد ثلاثة منهم في القطار واستشهد الرابع وهو الرئيس الأول يحيى نادر في المستشفى. وصارت تعرف هذه الحادثة  ﺒ"قطار الموت" [17]. وورد ذكر هذا القطار في قصيدة الشاعر الكبير سعدي يوسف "إعلان سياحي لحاج عمران" أديس أبابا 19 آب 1983.       
يا بلاداً بين نهرين
بلاداً بين سيفين
بلاداً كلما استنفرت الأسلاف، دقت طبلة الأجلاف..
قوميون لم يستنطقوا التاريخ إلا في قطار الموت.

 
22 كانون الثاني 2010   
 
[1] ـ راجع عزيز سباهي، "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، الجزء الثاني، ص517 و520 وما يليها. راجع أيضا حنا بطاطو، العراق ـ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الجزء الثالث ص282.
[2] ـ راجع سباهي، مصدر سابق، ص 517، 521.
[3] ـ  راجع سباهي، مصدر سابق، ص521. و519، الهامش رقم 2. وكذلك ص 566. راجع كذلك زكي خيري وسعاد خيري، "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" المجلد الأول ، الطبعة الأولى ص376.
[4] ـ سباهي، مصدر سابق، ص528 وما يليها.
[5] ـ راجع بطاطو، مصدر سابق، ص285 ـ 287.
[6] ـ راجع سباهي، مصدر سابق، ص529 وما يليها. راجع بطاطو، مصدر سابق،ص287.
[7] ـ حول صباح يوم الانقلاب، راجع بطاطو، مصدر سابق، ص 291. وراجع سباهي، مصدر سابق، ص534.
[8] ـ راجع سباهي، مصدر سابق، ص537 وما يليها..
[9] ـ راجع زكي وسعاد خيري، مصدر سابق، ص380. راجع كذلك سباهي، مصدر سابق، ص537.
[10] ـ  راجع سباهي، مصدر سابق، ص541. راجع كذلك زكي وسعاد خيري، مصدر سابق، ص380 وما يليها.
[11] -  حول المقاومة في ﻋﮝد الأكراد والصالحية في بغداد والمقاومة في المدن الأخرى،  راجع سباهي، مصدر سابق، ص541 ـ 543. راجع كذلك زكي وسعاد خيري، مصدر سابق، ص380 ـ 383.
[12] ـ بطاطو، مصدر سابق، ص298 و300. الخطوط غير موجودة في الأصل.
[13] ـ راجع سباهي، مصدر سابق، ص552 والهامش رقم 45، وص555.
[14] ـ سباهي، مصدر سابق، ص556 وما يليها. راجع زكي وسعاد خيري، مصدر سابق، ص284 ـ 296.
[15] ـ راجع زكي وسعاد خيري، مصدر سابق، ص383 وما يليها.
[16] ـ هاني الفكيكي، "أوكار الهزيمة"  ص224. راجع سباهي، مصدر سابق، ص548.
[17] ـ راجع سباهي، مصدر سابق، ص574. راجع حديث الشاهد الملازم مهدي مطلك، الذي حاوره توفيق التميمي، المنشور في "القاسم المشترك" وفى Google في 9 شباط 2004. راجع كذلك مقال محمد علي البياتي "في الذكرى الثالثة والعشرين لاستشهاد الدكتور أبو ظفر" موقع "الناس" في 27 أيلول 2007.


50
أحداث كركوك في تموز 1959
 
جاسم الحلوائي

نشر د. سيّار الجميل بتاريخ 5 كانون الثاني 2010 في موقع "الناس" وربما في مواقع أخرى، دعوة تحت عنوان "مشروع ذاكرة تاريخية عراقية.. القسمان -1- و-2-". و كان القسم الأول بعنوان " نصف قرن على مأساة الموصل 8 آذار / مارس 1959" وبدأه بعنوان فرعي "دعوة للجميع". وسبق أن ناقشنا أحداث الموصل قي آذار عام 1959 كرد على الجميل في مقال تحت عنوان "لم نصمت"، ونشر على العديد من المواقع الاليكترونية في 10 كانون الثاني 2010.

لقد ذكر الكاتب د. سيًار الجميل في القسم الثاني من مقاله ما يلي: "إن أحداث الموصل عام 1959 ، قادت أيضا إلى أحداث كركوك المأساوية ، فهي وليدة ما كان يجري وقت ذاك من انفصامات قومية يشهدها العراق لأول مرة منذ تأسيسه بين العرب والكرد والتركمان..الخ".

ولم يتطرق الكاتب إلى أحداث كركوك، إلاّ أن بعض القراء طالبوني بالكتابة عن أحداثها كي لا نتهم مرة أخرى بالصمت، بالرغم من كل ما كتبه الشيوعيون حول هذا الموضوع، وذلك بهدف إزالة الانطباعات السيئة التي علقت بأذهان الناس، جراء افتراءات وتشويهات خصوم الحزب الشيوعي العراقي والتي لم تتوقف حتى يومنا هذا.. ومما نهدف إليه في هذا الجهد هو أن يصوّت الناخب العراقي للشيوعيين وحلفائهم في الانتخابات التشريعية القادمة في 7 آذار 2010 بعد أن يزال ما علق في أذهان البعض منهم من تشويهات. وستجري الإشارة إلى بعض كتابات الشيوعيين في سياق هذا المقال. وبما أن الحزب هو المتهم في هذه القضية، فمن المفيد الاستشهاد، قدر الإمكان، بمؤرخين وكتاب محايدين. وتكتسب الشهادة مصداقية أكبر عندما تأتي من مؤرخين مشهود لهم بمهنيتهم العالية.
 
أحداث كركوك في تموز 1959
يقول الباحث حنا بطاطو: " لا شيء آذى الشيوعيين بقدر ما فعلت أحداث كركوك الدموية في 14 ـ 16 تموز (يوليو). ومع ذلك، فقد أصبح مؤكداً الآن أن هذه الأحداث لم تكن مدّبرة من قبل زعمائهم، ولا هم سمحوا بها. ويمكن أن تعزى هذه الأحداث جزئياً إلى طبيعة تلك الأزمنة، من أفعال القسوة القصوى التي كانت شائعة في لحظات عدم الاستقرار الاجتماعي والغليان غير الطبيعي" [1].
 
أما الكاتب جرجيس فتح الله، فيكرر ما قاله بطاطو ولكن بصيغة أخرى فيبدأ مقالته عن الموضوع بالقول:" لم يلحق الحزب الشيوعي العراقي والشيوعيين العراقيين من أذى ...  قدر ما ألحقتهما بهم وقائع الرابع عشر والخامس عشر من شهر تموز 1959. ولم يفعل شيئاً كثيراً في تخفيف الشعور العام ضدهم، انكشاف حقائق كثيرة كانت محض خيال ابتدعه أعداؤهم للنيل منهم، وبعد أن عُريت أعمال النهب والقتل عما ألبستها أجهزة الإعلام الخارجية من مبالغات وتهويل. وما أحدثته هجوم الصحف المحلية المعارضة لحكم (قاسم) المعادية للشيوعيين من آثار عميقة في النفوس". ويضيف فتح الله قائلاً: " على أن ما بات في حكم المؤكد الآن وبالشكل الذي لا يقبل الجدل أن تلك الأحداث الأليمة لم تكن مدبرة، وإنما هي بنت ساعتها. إن قادة الحزب الشيوعي في العاصمة لم يكونوا وراءها ولم يأمروا بها ولم يوطئوا لها عن قصد وإنما فوجئوا بها مثل غيرهم" [2].
 
 ويقول المؤرخ ألن دان: "وليس ثمّ دليل قانوني يثبت صدور أمر من مركز ح. ش. ع. (الحزب الشيوعي العراقي) في بغداد لتنفيذ مخطط مذبحة. ولكن يمكن التأكيد وبصورة معقولة إن أمراً كهذا لم يصدر قط"[3].
 
هذه ثلاث شهادات محايدة تبرئ ساحة الحزب من تدبير مجزرة كركوك. وسنرى أن كل الوقائع والأدلة تقف إلى جانب هذه الشهادات.
 
كركوك
تقع كركوك على بعد 280 كيلومترا إلى الشمال من بغداد. وطبقاً لإحصاء السكان في عام 1957 كان يسكن المدينة 120402 نسمة، يؤلف التركمان منهم قرابة 52%  وثلث سكانها من الأكراد الذين صاروا يتكاثرون فيها بعد اكتشاف النفط في المنطقة، والشروع باستثماره. وإلى جانب هؤلاء يقطن العرب المدينة أيضاً. وكان ما يزيد عن 12600 نسمة من سكانها من المسيحيين. وإلى جانب هؤلاء كان يسكنها بضع مئات من الصابئة والأيزيديون والطوائف الأخرى. ولا يوجد ما يقطع في أصل وجود التركمان في كركوك، إذ أن هناك تفاوت كبير في تاريخ وجودهم يتراوح بين نهاية القرن العاشر والقرن الثامن عشر! [4]. وقد جاء في قاموس الأعلام، "الذي يعد موسوعة تاريخية وجغرافية عثمانية مهمة، نشر في استانبول سنة 1896: تقع كركوك ضمن ولاية الموصل التابعة لكردستان، وهي مركز ايالة سنجاق شارزور ولها من النفوس (30.000) ألف نسمة ثلاثة أرباعها من الكرد والبقية من الترك والعرب". [5]
 
ثورة 14 تموز
كان التركمان أيام الحكم العثماني يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع، فهم من نفس المجموعة الإثنية الحاكمة. ومع مرور الأيام نشأ بين التركمان تمايز طبقي، إذ ظهرت عوائل أرستقراطية ثريِّة صارت تهيمن على اقتصاديات المدينة. وحظيت المدينة، بعد اكتشاف النفط، بأهمية خاصة، وازداد نشاطها الاقتصادي، وتحسنت أحوالها. وصارت المدينة مركزاً لجلب الأيدي العاملة، لاسيما من الأكراد والعشائر العربية المحيطة بها. ومع أن كثير من الأتراك كان يعاني الفقر، إلا أن نفوذ القلة الميسورة، والوجاهة التي ظلت تتمتع بها في العهود السابقة، استمر قائماً بين الجماعات التركمانية، بحكم كونهم يؤلفون أقلية قومية يقوم بينها ولاء خاص، يغذيه، إلى جانب تميزها الاقتصادي في ميادين التجارة والصناعة، وحظوتها لدى الدولة، الولاء لتركيا- للوطن الأم، التي ظلت تركيا تشجعه طوال العهود بألوان مختلفة. وهكذا فقد كان للبرجوازية التركمانية، والرجعية منها بشكل خاص، نفوذها الكبير بين أوساط الجماهير التركمانية. وكان معظم نشاط الحزب الشيوعي يجري بين الأكراد والعرب والأقليات القومية والدينية في الأساس، ولم تتغير الحال كثيراً حين انتصرت ثورة 14 تموز1958 [6].
 
تحولت كركوك بعد الثورة إلى مركز لنشاط دعائي مكثف. وكانت الشائعات التي تثير الكراهية ما بين الجماعات القومية نشطة بشكل ملفت للنظر. وقد أكد هذا الأمر قائد الفرقة العسكرية الثانية، ناظم الطبقجلي، في إفادته أمام المحكمة العسكرية الخاصة، إذ يقول: "حين تسلمت قيادة الفرقة الثانية، قام ممثلو الهيئات القنصلية بفعاليات حيث خشيت ضررها على المصلحة العامة، وإشاعة الفرقة وحرب الأعصاب. وكانت أعمال هذه الهيئات يشوبها كثير من الشك والريبة، فحددت إقامتهم في المدن، وسعيت لغلقها [القنصليات]، وخاصة بعد الاشتباك الأول الذي حصل في كركوك في أواخر الشهر العاشر سنة 1958، أي بعد حادث المظاهرات، حيث شوهد معاون القنصل الأمريكي عن بعد، عدا خروج بعض ممثلي القنصليات الأجنبية عن العرف الدبلوماسي وانحرافهم عن واجباتهم" [7]   
 
حين انتصرت ثورة 14 تموز لم تندفع الأسر التركمانية الثريِّة لتأييدها في بادئ الأمر. واتخذ التركمان، بشكل عام، موقفا انعزالياً منها. وحين تأسست المنظمات الديمقراطية، ترددوا في الانضمام إليها بأعداد كبيرة. لهذا كان أغلب الذين انتموا إلى تلك المنظمات من الأكراد والعرب والأقليات القومية، وصارت تميل للمشاعر الكردية. وقد بُذلت مساع جدية للتقريب بين أهالي كركوك على اختلاف قومياتهم. وتألفت لهذا الغرض بدفع من آمر الفرقة العسكرية، لجنة خاصة، دعيت لجنة الدفاع الوطني لمنطقة كركوك، ضمت ممثلي الجماعات المختلفة بمن فيهم ممثلين عن التركمان وكان أحدهم الرئيس الأول المتقاعد عطا خير الله. وعلى إثر صدام وقع في أواخر تشرين الثاني 1958، أصدرت اللجنة المذكورة بياناً، نبهّت فيه إلى المساعي التي يحيكها المستعمرون وعملاؤهم لبث سموم التفرقة والعداء بين القوميات ودعا إلى وحدة وتآخي ويقظة الجميع من أجل صيانة الجمهورية ومحاربة الإشاعات التي يروّجها عملاء الاستعمار[8].
 
وفي 25 آذار 1959 أصدرت اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في كركوك بياناً تحت عنوان: "عاشت الأخوة بين العرب والأكراد والتركمان والآثوريين"، نبهّت فيه إلى ضرورة محاربة الميول الانعزالية بين القوميين، والمخربين الذين يثيرون العنعنات والنعرات العنصرية، والمخاوف بين جماعة ضد جماعة أخرى، والافتراء عليهم. ودعا إلى الوحدة ...الخ. وقبيل الأحداث بأيام، أصدرت جبهة الاتحاد الوطني في المدينة، وتضم الحزبين الشيوعي، والديمقراطي الكردي (البارتي)، والمنظمات الديمقراطية، بياناً أكدت فيه، على غرار ما ذهبت إليه اللجنة المحلية للحزب الشيوعي، في بيانها الذي أشرنا إليه، على الضرورة الملحة لوحدة الشعب بقومياته المختلفة [9].
 
ورغم المحاولات التي بذلت لتنظيم مسيرة شعبية واحدة في يوم الاحتفالات بالذكرى الأولى لثورة 14 تموز، إلا أن التركمان أصروا على أن ينظموا مسيرة خاصة بهم إلى جانب المسيرة التي كانت المنظمات الديمقراطية قد هيأتها، فنشأت بذلك إمكانية جدية للاحتكاك. واستنادا إلى عدد من الشهادات والتقارير الرسمية، يشير سباهي إلى أن المسيرة الشعبية التي قدرت بعشرة آلاف متظاهر، قد انطلقت، كما كان مقرراً، من ساحة المدرسة الثانوية. وكان الأطفال، الذين يحملون الزهور، يتقدمون المسيرة. وسار أمام الجميع مدير شرطة اللواء (المحافظة) وعدد من كبار ضباط الفرقة العسكرية. وتوافدت المواكب وفق الترتيب المرسوم لها. والتحق بالمسيرة جنود كثيرون. وقد شاركت فيها جماهير من مختلف القوميات. وحين وصلت الجسر القديم، واجهت تظاهرة تركمانية تركب سيارات الجيش، فتدخل مدير الشرطة، وحول التظاهرة التركمانية إلى طريق فرعي. وحين اقتربت المسيرة من شارع "الاستقلال"، اقتربت منها، في الجهة المعاكسة، مجموعة من الجنود يقارب عددهم الستين جندياً، فحولتهم الشرطة التي تحرس المسيرة إلى طريق فرعي أيضاً. 
 
ولما اقتربت المسيرة الجماهيرية من مقهى 14 تموز، وهو من المقاهي التي يرتادها التركمان، انهالت عليها الحجارة من السطوح. ودوت بعدها إطلاقات نارية لا يعرف مصدرها، فساد الهرج والمرج، وتدافع الناس إلى الطرق الجانبية، وارتبك النظام، وما عاد من الممكن ضبط الجماهير. وانطلق الجنود وجماعات من الجماهير نحو بعض المحلات والدور، ونهبوا بعضها، وسقط عدد من القتلى والجرحى وكانت غالبيتهم الساحقة من التركمان. استغل مفوض شرطة مفصول، يدعى نوري ولي، كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي، اضطراب الوضع، فذهب هو وجماعة من أقاربه إلى مركز شرطة (إمام قاسم)، واستولى على بعض أسلحة المركز ووزعها على أصحابه، واتجه لتصفية بعض الحسابات الشخصية في هذا الوضع المضطرب، وراح هو وجماعته يطلقون النار في الهواء لإثارة الفزع.   
ومع أن الحال قد هدأت بعدئذ، إلا أن عدد من الجنود الأكراد خرجوا من ثكناتهم في اليوم التالي، وقصفوا بمدافع الهاون دارين للسينما عائدتين إلى التركمان وبعض دور التركمان في محلة القلعة، بدعوى أنها كانت مصدراً للنار. فأرسلت قوات عسكرية إلى القلعة لحفظ الأمن فيها، إلا أن هذه القوات ذاتها شاركت في الضرب. واستمر تبادل النيران حتى اليوم الثالث، ولم تهدأ الحال في المدينة إلا بعد وصول نجدات عسكرية في 17 تموز من خارج اللواء. وخلال الأسبوعين التاليين، عاشت المدينة في حالة من الرعب الحقيقي، لاسيما في المحلات التركمانية. وقد بلغ مجموع القتلى 31 قتيلاً، من بينهم 28 من التركمان، أحدهم الرئيس المتقاعد عطا خير الله (عضو لجنة الدفاع الوطني التي مر ذكرها)، وكان عدد الجرحى 130، بينهم ستة أكراد. وأصابت الأضرار 70 دكاناً ومقهى وكازينو ودارين للسينما [10].
 
راحت الأطراف المختلفة تكيل التهم بعضها لبعض، وباتت الإشاعات والمبالغات التي تتحدث عن مظلومية التركمان، الذين ظلموا فعلا، تنتشر وتصدق بسرعة. ووجدت أجهزة الدعاية في الجمهورية العربية المتحدة فرصة سانحة لتشدد من هجومها على توجه الجمهورية الديمقراطي ونشطت، بوحه خاص، لإذكاء نار العداء للشيوعية. وظلت الدوائر المعادية للشيوعية تذكر بها، كلما وجدت في الأمر مصلحة. حتى أن أحد الكتاب الغربيين (فرنييه) ذكر في كتابه أن أهل كركوك الشيوعيين نصحوا قبل 14 تموز بإخلاء النساء والأطفال في المدينة. ولكن كاتباً غربياً آخر (اوريل دان) رد عليه بأن هذه الحكاية، بقدر ما استطاع أن يتتبعها، هي مصرية المصدر، مما يجعلها عرضة للشك. وحتى ولو كانت الرواية حقيقية، فإنها تنطلق من حكم مسبق، وليس على سبق تصميم [11]. وهناك ما يكذب رواية (فرنييه)  من الأساس، وهو وجود موكب الأطفال في مقدمة المسيرة وموكباً خاصاً بأعضاء رابطة المرأة العراقية ضمن مواكبها.   
 
قاسم يستغل الحادث ضد الحزب الشيوعي
وجاءت هذه الأحداث في فترة كان عبد الكريم قاسم قد شرع بتوجيه نيرانه على الحزب الشيوعي، فاستغلها ليوجه اتهاماته ضد الحزب، بصورة غير مباشرة أولاً، ثم جعلها أوضح فأوضح من بعد، حتى قبل أن يتلقى تقرير الهيئة التحقيقية الرسمية، التي ألفها بنفسه. ففي الحفل الذي أقيم بمناسبة افتتاح كنيسة مار يوسف في 19 تموز قال: "إن ما حدث أخيرا في كركوك إنني أشجبه شجباً تاما، وباستطاعتنا، أيها الإخوان، أن نسحق كل من يتصدى لشعبنا بأعمال فوضوية نتيجة للحزازات والأحقاد والتعصب الأعمى". لكنه ذهب إلى أبعد من التلميح حين أوعز إلى الهيئة التحقيقة التي أرسلها إلى كركوك باعتقال قادة المنظمات الديمقراطية في المدينة. ويؤكد هذه الحقيقة جرجيس فتح الله ويضيف بأن خطاب قاسم في كنيسة مار يوسف كان "بمثابة أمر للمسؤولين في كركوك بل وللجنة التحقيقية لتصوير الأحداث وترتيبها بالشكل الذي يتفق مع الخطبة" [12].    

وفي المقابلة التي أجراها عبد الكريم قاسم مع الصحفيين الذين استدعاهم بعد أيام، راح يكيل التهم إلى القوى الديمقراطية بالتحديد، قائلاً: " أولئك الذين يدّعون بالحرية والديمقراطية لا يعتدون اعتداء وحشياً". وقد وُضع، كما يشير جرجيس فتح الله، أمام الصحفيين في المؤتمر مئات الصور، ولم يكن بالإمكان مطلقاً تشخيص وجه قتيل واحد فيها. وقد تمكن بعضهم أن يعثر على أصول لعدد كبير من الصور في ما نشرته جبهة التحرير الجزائرية كجرائم ارتكبها الجنود الفرنسيون أثناء حرب التحرير. ويضيف نفس المصدر، بأنه في الثاني من شهر آب 1959 ذكر قاسم أن عدد الضحايا 79، لكنه عاد في الثاني من شهر كانون الثاني للعام نفسه مؤكداً أن عدد القتلى لم يتجاوز اﻟ 31 قتيلاً. وأضاف قاسم إن مصدر الالتباس كان، أن كل جثة من الجثث صورت عدة مرات من جهات مختلفة [13].
 
شهادة مهمة
وهذه شهادة مهمة ومسؤولة، وهي شهادة الرفيق عزيز محمد السكرتير السابق للجنة المركزية. وكان في حينها عضو المكتب السياسي للحزب ومسؤولاً عن لجنة إقليم كردستان. التي تتخذ من كركوك بالذات مقراً لها، وكان قد شاهد بعينه ما جرى، وأفاد بالتالي:
 
"كانت علاقتنا بعبد الكريم قاسم جيدة طوال السنة الأولى من عمر الثورة، غير أنها بدأت تنتكس بعد ذلك بسبب خوفه من تنامي نفوذ حزبنا وتأثيره في مجرى السياسة العراقية، ربما خلافاً لما يريده هو من الانفراد بالقرارات المهمة، ولكبح التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي كنا ندعو اليها، وهي، بطبيعة الحال، أكثر مما كان هو مستعداً لقبولها".
 
"واستُغلت أحداث كركوك أبشع استغلال لتعكير العلاقة بيننا وبين عبد الكريم قاسم. كنت مسؤولاً عن منظمة حزبنا في كردستان، ولهذا أستطيع أن أعطي شهادة دقيقة عما حصل. كان الجو في كركوك عشية الذكرى الأولى للثورة متوتراً. وتقرر إقامة موكب موحد للاحتفال بالذكرى. الأخوة التركمان أرادوا موكباً مستقلاً. وهو من حقهم، غير أنه في الأجواء المتوترة تلك بدا غير مقبول لأطراف أخرى لسنا من بينها".
 
"تعرض الموكب لإطلاق رصاص، ولم تعرف الجهة التي أطلقت منها وسببت الفوضى، بل الهستيريا، حتى الآن. فقدت السيطرة على الوضع. وحدثت انتهاكات، وأعمال تصفية ضد التركمان، ولم يكن لنا فيها، كمنظمة، أي دور. بالعكس بذلنا أقصى ما نستطيع من جهود لحقن الدماء ولم نوفق".
 
"ومع ذلك وجه الاتهام إلى حزبنا وكانت هناك أوساط مستعدة لتقبل هذا الاتهام، إن لم تكن مستعدة لتلفيقه والنفخ فيه. ولفقت فعلاً صور عن فظاعات، وأرسلت إلى الزعيم امرأة على مستوى عال من البراعة في التمثيل. وزعمت أنها عُذبت، وشرعت بالتعري أمامه لتريه آثار التعذيب المزعومة. فأستثير الزعيم أيما استثارة ومنعها من ذلك. ولابد أنه صدّق ما زعمته. وألقى بعدها خطاباً في كنيسة مار يوسف استخدم فيه نعوتاً قاسية ضدنا. وبعد هذا الوقت الطويل الذي مر على الأحداث أستطيع أن أؤكد أن منظمة حزبنا لم تكن لها يد في ما حدث، ولا أستطيع أن أنفي ممارسات قد يكون أعضاء أو مناصرون لنا قد ارتكبوها بخلاف موقفنا" [14].    

إن الشهادات المحايدة التي صدرت تؤكد ما ذهب إليه الرفيق عزيز محمد "بأن منظمة حزبنا لم تكن لها يد في ما حدث"، هذا فضلا عن أن قادة الحزب قد "فوجئوا بها مثل غيرهم"، كما مر بنا، على لسان جرجيس فتح الله. ومع الإقرار بدور دسائس الدوائر الاستعمارية وشركة النفط في أحداث كركوك، فللأحداث أسبابها الذاتية في المجتمع الكركوكلي"وعلى العموم، وبشكل عام، كما يقول بطاطو، عن حق، كانت جذور الضراوة الوحشية التي أمسكت بتلابيب المدينة تعود إلى العداوة المتأصلة بين الأكراد والتركمان" [15].  إن معالجة هذا الجذر وما نشأ عنه يتحمل مسؤوليته قادة الأكراد والتركمان في المدينة. وكان للشيوعيين دورٌ في الأحداث "لا كشيوعيين بل كأكراد" على حد تعبير بطاطو، عندما تصرفوا "خلافاً لموقف المنظمة". وهنا بالذات تكمن مسؤولية المنظمة. فقد كانت منظمة كركوك بالذات تحتاج إلى جهود مضاعفة، أكثر بعشرات المرات من أية منظمة أخرى من منظمات الحزب في العراق، في التثقيف بالثقافة الأممية. وتحتاج إلى اليقظة والحذر تجاه العناصر المندسة أو المتعصبة إزاء التركمان أكثر من أي منظمة أخرى. فهل قامت قيادة المنظمة بهذه المهمة وعلى الوجه المطلوب؟ إن تصرف بعض أعضاء المنظمة وأنصارها خلافاً لموقفها، دليل بيّن على تقصير قيادة المنظمة والإقليم، وهذا ما لم يشر إليه الرفيق عزيز محمد في مقاله. أما مسؤولية التصرفات الخاطئة للجماهير، وحتى الوحشية أحياناً، فهي ليست مسؤولية محلية فحسب، بل وتتحمل مسؤوليتها الحكومة والأحزاب الوطنية كافة ويتحمل حزبنا قسطه منها، باعتباره حزباً جماهيرياً كبيراً، وهذا ما عالجه تقرير الاجتماع الكامل للجنة المركزية في تموز والذي نشر بشكله الكامل في 28 آب 1959.
 
في الأجواء التي أحاطت بأحداث كركوك، انعقد الاجتماع الكامل للجنة المركزية. وكرّس حيزاً واسعاً في التقرير الصادر عنه لمعالجة الحركة الجماهيرية بعد ثورة 14 تموز تحت عنوان " الاندفاعات الخاطئة في الحركة الجماهيرية، أسبابها وعلاجها". يلاحظ التقرير أن الجماهير اندفعت في بعض الحالات للدفاع عن نفسها، يحّفزها في ذلك، الحرص الشديد على مكتسباتها، وعلى الجمهورية. إلاّ أن الجماهير الغاضبة كانت تذهب أحيانا، إلى حد التجاوز والتنكيل المفرط، وهو أمر لا يمكن الإقرار به. ويؤكد التقرير أن من الضروري دراسة أسباب هذه الاندفاعات دراسة جديّة، بغية تحديد آثارها لبذل جهد تثقيفي مثابر لتوجيه ثورية الجماهير الوجهة الصحيحة، وإلا، فإن التدابير العقابية وأساليب الزجر، لا يمكن أن تعالج هذه الظاهرة معالجة صحيحة. وأن معالجة مشكلة التطرف تقتضي جهداً تثقيفياً مستمراً. تساهم فيه كل القوى الوطنية.
 
ثم يشير التقرير إلى أن الحزب الشيوعي العراقي قد بذل جهداً خاصاً في هذا الشأن، إلا أن هذا الجهد لم يكن حازماً، ومن المحتمل أن تكون العناصر المندسة بين الجماهير قد استثمرت بعض هذه الاندفاعات، وساقتها في اتجاهات تدميرية أحياناً. إن " لجوء بعض الجماهير المتأخرة سياسياً إلى أساليب (السحل)، وتعذيب الموقوفين، ونهب الممتلكات، والتجاوزات على حقوق وحريات بعض المواطنين الأبرياء، هو أسلوب لا يجمعه جامع مع الكفاح الثوري الموجه ضد أعداء الجمهورية. وهو على النقيض تماماً من الأهداف النبيلة لحركتنا الوطنية، والسجايا الثورية الأصيلة لشعبنا وحزبنا"، "إن حزبنا ــ وهو يعمل في سبيل سعادة الشعب وطمأنينته وسلامته، ويتطلع إلى سعادة إنسانية شاملة ــ يشجب بحزم كل مظهر من مظاهر الانتهاك لإنسانية المواطن وحقوق الأفراد... ويؤكد على ضرورة احترام قوانين الجمهورية" [16].
 
18 كانون الثاني 2010

[1] ـ راجع حنا بطاطو، العراق ـ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الجزء الثالث، ص223.
[2] ـ جرجيس فتح الله المحامي، "العراق في عهد قاسم"، الجزء الثاني، دار نبز للطباعة والنشر السويد ـ 1989، ص733. خط التشديد ليس في الأصل.
[3] ـ اوريل دان، "العراق في عهد قاسم" الجزء الأول، ترجمة جرجيس فتح الله، دار نبز للطباعة والنشر 1989، ص282. خط التشديد ليس في الأصل.
[4] ـ راجع جرجيس فتح الله، مصدر سابق، ص739، هامش رقم4.
[5] ـ د. عبد الفتاح علي بوتاني " من كان وراء حوادث الموصل وكركوك الدامية 8 آذار 14 تموز 1959؟" ص80. اقتبسه الكاتب إبراهيم الحريري في مقال مكرس لقراءة الكتاب المذكور، والمقال موجود على مستخدم google.
[6] ـ راجع عزيز سباهي، "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، الجزء الثاني، ص435. راجع كذلك جرجيس فتح الله، مصدر سابق، ص734.
[7] ـ محاكمات المحكمة العسكرية العليا الخاصة ج18 ص265. راجع سباهي، مصدر سابق، ص435 والهامش رقم 6.
[8] ـ الحسني، تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري، ج3 ص22. راجع سباهي، مصدر سابق، ص436، هامش رقم 7.
[9] ـ الحسني، مصدر سابق، 25. سباهي، مصدر سابق، ص436.
[10] ـ راجع سباهي، مصدر سابق، ص439 و443 وما يليها. تستند رواية سباهي للحادث على تقرير يعقوب مصري شاهد عيان وجرجيس فتح الله والتقارير الرسمية، بما فيها تقرير مدير الشرطة الذي ساهم في المسيرة، وقد شذبت منه بعض التفاصيل غير المهمة، وزودتها ببعض المعلومات من كتاب بطاطو. راجع بطاطو، مصدر سابق، ص227. (جاسم)
[11] ـ اوريل دان، مصدر سابق، ص 282، هامش رقم 1. راجع أيضا سباهي، مصدر سابق، ص 445.
[12] ـ جرجيس فتح الله. مصدر سابق، ص756. راجع كذلك سباهي، مصدر سابق، ص444 وما يليها.
[13] ـ راجع جرجيس فتح الله، مصدر سابق، ص758
[14] ـ مقابلة مع عزيز محمد أجرتها مجلة "الوسط" الصادرة في لندن العدد 288 التاريخ 4 آب 1997. عزيز سباهي، مصدر سابق، ص446 وما يليها. والهامش رقم 21.
[15] ـ بطاطو، مصدر سابق، ص224.
[16] ـ راجع سباهي، مصدر سابق، ص450 ـ 452. راجع كذلك ثمينة ونزار، مصدر سابق، نص التقرير، الملحق الأخير في الكتاب.


51
المنبر الحر / نحن لم نصمت
« في: 16:49 14/01/2010  »
نحن لم نصمت
جاسم الحلوائي
jasemalhalwai@hotmail.com
نشر د. سيّار الجميل بتاريخ 5 كانون الثاني 2010 في موقع "الناس" وربما في مواقع أخرى، دعوة تحت عنوان "مشروع ذاكرة تاريخية عراقية.. القسمان -1- و-2-" و كان القسم الأول بعنوان " نصف قرن على مأساة الموصل 8 آذار / مارس 1959" وبدأه بعنوان فرعي " دعوة للجميع" وقد استهله بما يلي:
" نظرا لما يسود من صمت وخفايا حتى يومنا هذا على ما حلّ بالموصل من انقسامات ومآس وكوارث وصراعات منذ بدء الحكم الجمهوري في العراق في 14 تموز / يوليو 1958 حتى يومنا هذا ، فقد وجدنا من الضرورة البدء بهذا "المشروع"، ودعوة كل من يمتلك أية معلومات أو أوراق أو صور وشواهد عن أحداث الموصل المأساوية عام 1959 وما سبقها وما تلاها .. يمكنه أن يشارك بها ضمن هذا " المشروع : المفتوح لذاكرة تاريخية عراقية . لقد اخترنا أن يكون هذا " الموضوع " عن مأساة الموصل ، بداية أولى بعد مرور نصف قرن على الأحداث المريرة التي عاشتها .. ". (رابط قسمي الموضوع مرفق بهذه المقالة).وجاء في هذا القسم أيضاً ما يلي:
" صحيح أن هناك من كتب بعض ذكرياته عن الأحداث التي شهدها أو ساهم في صنعها ، ولكن لم أجد أي اهتمام يذكر بكل ما حدث من قبل الشيوعيين مثلا مقارنة بما سجله البعض من القوميين ، ومنهم الأساتذة المؤلفين...الخ. ويقول أيضا: " كلنا يدرك لماذا الصمت ؟ ولماذا يلزم المرء نفسه بالصمت ؟ وتلك من أقسى حالات القسر السايكلوجي .. بحيث يصمت المرء مخافة لما قد يحسب عليه سياسيا واجتماعيا ! ومخافة تبدل الأوضاع ! ومخافة سطوة المجتمع وقسوته قبل السلطة وتبدلاتها وما عانى منها الناس !"
إن معلومات الدكتور سيّار الجميل غير صحيحة بقدر ما يتعلق الأمر بالشيوعيين. فإذا ما تصفحنا وثائق الحزب الشيوعي العراقي وأدبياته، وخاصة مجلة الثقافة الجديدة، لعثرنا على عدد من الدراسات الجادة للشيوعيين، إضافة إلى ما ورد في كتب ألفها شيوعيون عراقيون ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ مذكرات الفقيد زكي خيري "صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم"، حيث تناول الموضوع بشكل مرّكز في الصفحة 204 وما يليها وينتقد أخطاء الحزب ويخلص إلى القول "وهكذا تحمّل الحزب جريرة بضعة أعضاء من أعضائه كانوا ملكيين أكثر من الملك تجاه المتمردين. وقد تحرج موقف الحزب الشيوعي".
2 ـ الكتاب المعنون "سلام عادل، سيرة مناضل"، تأليف ثمينة ناجي يوسف (زوجة الشهيد سلام عادل) ونزار خالد اللذان كرسا الفصل الثالث والثلاثون لأحداث الموصل وهو الفصل الأخير من الكتاب الأول، الطبعة الأولى، الصادر من دار المدى للنشر والثقافة في بغداد عام 2001. والفصل يشمل 27 صفحة من القطع الكبير وهو تحت عنوان "مؤامرة عبد الوهاب الشواف 8 آذار/مارس 1959.
3 ـ كتاب المؤلف عزيز سباهي في ثلاثة أجزاء " عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" منشورات الثقافة الجديدة ـ بغداد 2003. وقد كرس المؤلف الفصل السابع عشر للموضوع وشمل 44 صفحة من القطع الكبير وتحت عنوان "من الصراع السياسي إلى التآمر والتمرد العسكري ـ مؤامرة الشواف
4 ـ المؤلف الأستاذ حامد الحمداني وهو شاهد عيان وشيوعي سابق كتب 12 صفحة تحت عنوان " انقلاب العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في الموصل" في الفصل الثالث من كتابه "صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني"، وأكمل الموضوع بتدوين عواقب الانقلاب في الفصل الخامس. والكتاب إصدار دار النشر ميشون ميديا ـ السويد، الطبعة الأولى 2005 والكتاب موجود في موقعه الشخصي. ونشر الموضوع حديثًاً وهو موجود في العديد من المواقع الالكترونية تحت عنوان " شهادة للتاريخ ـ حقيقة أحداث الموصل قبل وبعد انقلاب العقيد الشواف" 
5 ـ كتاب "محطات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" من تأليف كاتب هذه السطور، وهو بمثابة قراءة نقدية لكتاب " عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" المذكور في رقم 3، إصدار دار الرواد المزدهرة للثقافة والنشرـ بغداد 2009. الكتاب موجود في مكتبة التمدن وكذلك في مكتبتي موقع الناس وموقع ينابيع العراق الالكترونيتين. وقد كُرس الفصل السابع للموضوع تحت عنوان "مؤامرة الشواف في الموصل"  وهو ملحق بهذا المقال.
فهل بعد كل هذه يمكن الإيحاء بأن الشيوعيين لائذون بالصمت ومن ثم تفسير ذلك بتفسيرات أقل ما يقال عنها أنها غير مبررة ومضرة، كالقول: "... بحيث يصمت المرء مخافة لما قد يحسب عليه سياسيا واجتماعيا ! ومخافة تبدل الأوضاع ! ومخافة سطوة المجتمع وقسوته قبل السلطة وتبدلاتها وما عانى منها الناس !".
يشير د. سيّار الجميل في دعوته إلى أنه " ينبغي القول إن قراءتنا لما سجله المؤرخ حنا بطاطو في كتابه المعروف عن الطبقات الاجتماعية في العراق من معلومات حول أحداث الموصل عام 1959 ، تنبؤنا عن جملة أخطاء كبيرة وانتهاكات خطيرة ارتكبها حنا بطاطو ، وينبغي على المؤرخين والباحثين العراقيين الانتباه لها .. كما أن انحيازا واضحا يعلنه بطاطو لطرف على حساب أطراف أخرى!".
أعتقد أن توجيه الاتهام لمؤرخ بارتكاب أخطاء كبيرة وانتهاكات خطيرة لا يمكن أن يتم بدون ذكر أدلة ملموسة. ولا أظن بان الدكتور نفسه أو أي مؤرخ آخر يقبل أن يقال عنه ذلك بدون أدلة. وأين أعلن بطاطو انحيازاً واضحاً؟ أن المنطق يشير إلى صعوبة إعلان مؤرخ انحيازه لطرف على حساب أطراف أخرى في صراع اجتماعي وسياسي مهم وخطير. لقد قرأت مجدداً الفصل الذي كتبه بطاطو عن أحداث الموصل ، ولم أجد فيه إعلاناً واضحاً عن تحيز ما. أرجو أن يدلنا الدكتور على ذلك الإعلان الواضح، في أية صفحة وماذا قال نصاً.
لقد كرس الباحث والمؤرخ حنا بطاطو مؤلف كتاب "العراق ـ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية" (لم أعرف لماذا لم يذكر الكاتب سيُار الجميل أسم الكتاب كاملاً، حسب الأصول، فلأسماء الكتب مدلولاتها، وحذف منه "والحركات الثورية") فصلا كاملاً للموضوع في الجزء الثالث من كتابه تحت عنوان "الموصل آذار/مارس 1959". هناك بعض الأخطاء المعلوماتية في كتاب بطاطو، وقد أشرت إلى بعضها والتي تتعلق بأسماء الشيوعيين وبمراكزهم الحزبية في مقدمة كتابي الذي مر ذكره، ولكنني أكدت إلى أن تلك الأخطاء لا يمكن أن تؤثر كثيرا على الأحكام والاستنتاجات السياسية والفكرية للمؤلف. وباعتقادي أن تلك الأخطاء غير مقصودة.  ومن الصعوبة بمكان التشكيك بحيادية ونزاهة ومهنية بطاطو، ولا يمكن اتهام الفقيد  بطاطو بالانحياز لجهة على حساب جهات أخري، فليس هناك من مسوغ أو باعث لمثل هذا التحيز. وكتاب الفقيد حنا بطاطو هو أحسن وأشمل ما كتب عن العراق المعاصر لحد الآن، ليس في نظري فقط، بل من وجهة  نظر الكثيرين. وهو منجم معلومات على حد تعبير المؤلف جرجيس فتح الله.
يشير الكاتب د. سيّار الجميل إلى "إن تاريخ تلك الأحداث لم يسجل كما حدث في بضعة أيام ، عندما تبخرت السلطة فجأة ، واختفي الأمن الرسمي وتشرذم الجيش وسيطرة مليشيات المقاومة الشعبية على الشوارع ومراكز الشرطة فتعرضت البلدة إلى الاستباحة التي دامت أياما"
توحي هذه الصيغة وكأن المقاومة الشعبية استباحت المدينة ولكن  الأمر سيتضح بغير ذلك من خلال ما ورد في القسم الثاني من الموضوع، عندما يذكر الكاتب " ثمة أحداث مأساوية حدثت على هامش الأحداث الكبرى ، وخصوصا بعد انفلات الأمور عندما غدت المدينة بأيدي عصابات ودخلاء وأجراء .. وجرت تصفية حسابات اجتماعية وعبّر البعض عن أحقاده وثاراته قتلا وتدميرا .. نهبا وتشنيعا ..". فالاستباحة حصلت على هامش تلك الأحداث ولم يكن للشيوعيين أو المقاومة الشعبية دخل فيها، وأكد لي ذلك، وأنا أكتب هذا المقال، الكاتب حامد الحمداني وهو شاهد عيان. ولنا عودة لدور المقاومة في الموصل بعد قليل.
وهل من الصحيح تسمية المقاومة الشعبية بالمليشيات وهي التي تشكلت بقانون من الحكومة في  الأول من آب 1958 ودعت الحكومة الشباب إلى التطوع فيها وكان الإقبال عليها كبيراً. (راجع تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري، السيد عبد الرزاق الحسني، ص 151). وبذلك فهي جزء من القوات المسلحة العراقية، وكان كل ضباط المقاومة الشعبية من الجيش العراقي كما كان سلاحها في مراكز الشرطة.
وقد وجه الحزب الشيوعي العراقي في 6 آب 1958 نداء إلى الشعب دعاه فيه إلى الانخراط في جيش المقاومة الشعبية وأعلن فيه عن تأييد الحزب القاطع لخطوة الحكومة في تشكيلها، وأنه يضع كل قواه تحت تصرف الجمهورية. وعندما حُلت المقاومة الشعبية بقرار حكومي لم يبق لها أي أثر. لقد كانت المقاومة الشعبية جيش شعبي رسمي، مؤسسة حكومية. مع ذلك لا يمكن نكران أن المقاومة الشعبية قد تحولت إلى أداة استخدمت في حل الخلافات السياسية ومن هنا الموقف المتباين منها. لقد قيل الكثير عنها ودس عليها خصومها أحيانا وبولغ في أخطائها. إلا أن المرء لا يمكن أن يعفيها من كثير من التجاوزات التي أقدمت عليها، وبعضها بتشجيع من قيادة السلطة ذاتها أو بعلمها على الأقل. (راجع كتاب عزيز سباهي المذكور أعلاه، الكتاب الثاني: ص293).
***
في القسم الثاني من الموضوع، وهو بعنوان "ذكريات تاريخية صامتة ومؤلمة" وهي مؤلمة حقاً ولكنها ليست صامتة كما رأينا، يذكر د. الجميل ما يلي: " وعلينا ، منذ البداية أن نكون منصفين وحياديين وموضوعيين .. ومتجردين من أية عواطف سياسية ، أو أية علاقات أيديولوجية في تقييم ليس هذه الأحداث فحسب ، بل في كتابة كل التاريخ ، وخصوصا تاريخنا العراقي الذي يلازمه الانقسام دوما ..”
هذا ما نتمناه، ولو أن الإنصاف والحياد والموضعية المطلقة غير ممكنة في كتابة التاريخ مادام الإنسان يكتبه. فكاتب التاريخ يضفي، شاء أم أبى، وإلى هذا الحد أو ذاك، شيئا من ذاته على ما يكتب. مع ذلك من الممكن كتابة التاريخ بقدر كبير من الإنصاف والحيادية والموضوعية، خاصة عندما يستند الكاتب إلى وثائق يركن إليها.
بإمكاني أن أزعم بأن الكاتب الفاضل لم يكن منصفا وحيادياً وموضوعياً منذ البداية عندما اتهم الشيوعيين بالصمت، وفي هذا تجاوز غير مقبول على الواقع والحقيقة، وقد أساء إليهم بادعاء صمتهم كما مر بنا. كما لم يكن دقيقاً في تسميته المقاومة الشعبية وهي مؤسسة رسمية، بالمليشيات، ولم يعرض دورها الإيجابي والسلبي بوضوح وإنصاف.
ويكمل الدكتور الجميل الفقرة التي ناقشناها للتو بالآتي: "إن جناية الصراع السياسي الذي ولد في العراق المعاصر قبل خمسين سنة ، إنما يتمثّل بالانقسام الاجتماعي الذي أنتجه ، وكان واحدا من أهم تداعياته التي يتجاهلها الجميع !". أعتقد أن لا غرابة في تجاهل الجميع لهذا الرأي، لأن الجميع يعرفون بأن الانقسام الاجتماعي هو الذي يولد الصراع السياسي وليس العكس وكان هذا الانقسام موجوداً قبل ثورة 14 تموز وهو الذي ولد العديد من الصراعات السياسية مثل وثبة كانون في عام 1948 وانتفاضة تشرين في عام 1952 وانتفاضة تشرين الثاني في عام 1956 لنصرة الشعب المصري. هذا وغيرها من الأحداث المحلية، على سبيل المثال لا الحصر، إضراب الموصل في أيلول 1956 وانتفاضة مدينة الحي من نفس العام وانتفاضة فلاحي الفرات الأوسط في ربيع 1958.
لا ينكر بأن هناك علاقة تأثير متبادل بين الصراع السياسي والانقسام الاجتماعي ويمكن للأول أن يعمق الثاني ولكن لا يولده. وهكذا كان الأمر في تاريخ المجتمعات البشرية منذ زمن سحيق وإلى يومنا هذا.
ويكرر د. الجميل، مع الأسف الشديد، كل ما قاله خصوم الشيوعيين عنهم في هذه الأحداث بصيغ مختلفة في المقال، ولم يذكر سوى النزر القليل عن المتآمرين الذين لولا تآمرهم والتدخل الإقليمي والخارجي لما حصل كل ما حصل. ولا يعني أن كل ما حصل لقمع المؤامرة والمتآمرين كان صحيحا وسنتناول ذلك بعد قليل. ولكن قبل ذلك أتساءل كيف يمكن أن يثق المعنيون بالمساهمة بالمشروع، بعد كل هذا الانحياز وتلك الإدانات؟ وكيف يمكن أن يثقوا بشروط الكاتب عندما يقول: "علينا أن لا ندين طرفا من دون معرفة ما قام به الطرف الآخر"، أو "اننا نقول بأن ما جرى في الموصل قبل خمسين سنة بالضبط ، إنما هو قصة دراماتيكية معقدة جدا ، ومتشابكة أيضاً، وهي بحاجة إلى رؤية خاصة بعيدة النظر ، وان تكون الكتابة عنها محايدة ، وبلا أية انحيازات ، وبروح علمية جريئة ومجردة وصبورة ..". هل تحلى د. سيّار الجميل بهذه الوجهة والروحية في مقاله؟ ربما من الأفضل للقارئ تأجيل الحكم إلى ما بعد قراءة رأينا بالحدث و ما يتعلق به.
مؤامرة الشواف في الموصل آذار 1959
ضوء على التركيبة الاقتصادية الاجتماعية للموصل
من أجل الإحاطة بمؤامرة الشواف، من المفيد إلقاء بعض الضوء على التركيبة الاقتصادية والاجتماعية لمدينة الموصل وضواحيها، والتي كانت آنذاك تشمل أيضا جل محافظة دهوك الراهنة. تعد الموصل إحدى المدن الكبيرة في العراق، وتقع على ضفاف نهر دجلة. ويشكل الكرد معظم سكان القسم الشرقي من المحافظة، وتتوزع في هذا الجزء أيضاً قصبات وقرى أغلب سكانها من المسيحيين الكلدان والآشوريين ومن الكرد الايزيديين. أما في القسم الغربي من المحافظة، فيتألف السكان من قبائل عربية وتركمانية وكردية. ويتمركز الايزيديون في منطقة سنجار. وكان للمدينة، منذ القدم وضع خاص، بصفتها المركز التجاري الأساسي في شمال العراق، الذي يربط البلاد بكل من سوريا والأناضول. وكانت المدينة منذ القدم شديدة الارتباط بالريف الذي يحيط بها. وقد وضعت العوائل المتنفذة في المدينة يدها على الأراضي الزراعية بوسائل مختلفة، واحتفظت بنفوذها هذا في العهد الملكي  .


ويلقي الباحث بطاطو أيضاً ضوءاً على تلك الوسائل التي استخدمتها العوائل المتنفذة في وضع يدها على الأراضي الزراعية فيذكر ما يلي: "ويسمع الإنسان قصصاً عن فلاح عرض عليه 25% من قيمة أرضه الحقيقية، وإذا ما رفض البيع سيق إلى السجن بتهمة قتل ملفقة في جريمة لم تحصل أبداً وبقي هناك لسنوات، إلا إذا غيّر رأيه وباع. ويبدو أن إدخال نظام "الطابو" منح أقطاب المدينة فرصاً لسلب الفلاحين مساحات واسعة من الأرض بواسطة وثائق بيع مزورة...الخ. وشكلت الرهون سلاحاً آخر من الأسلحة المفضلة. ومهما كانت الأساليب، فإن الأرض انتقلت بكاملها تقريباً إلى أيدي أصحاب الطابو، الذين كثيرا ما يكونون أسياد أرض غائبين، حتى أنهم لم يروا الأرض التي يملكونها"  .

وبمرور الزمن، نشأت علاقات خاصة بين أثرياء الموصل وشيوخ شمر ورؤساء القبائل الكردية من الزيباريين والهركيين والريكانيين وغيرهم، ومع رؤساء الطائفة الايزيدية في سنجار. وكانت هذه العلاقات تنعكس سلباً على أوضاع الفلاحين كلما ازدادت وثوقاً بين أثرياء الموصل ورؤساء قبائلهم. ولهذا كان الفلاحون يضمرون الحقد لأثرياء الموصل. وفي هذا كان يتماثل موقف الفلاحين على اختلاف أديانهم وانتمائهم القومي. ومقابل هذا الاصطفاف الطبقي، برز توزع مماثل في محلات سكنة المدينة بين أثريائها وفقرائها، وبين الأخيرين نسبة غير قليلة من الفلاحين النازحين من الريف، أكثرهم أكراد، هروباً من ظلم الإقطاعيين  .

 ولم يكن الفلاح في ربيع 1959 هو نفسه فلاح العهد الملكي، المهزوم والجاهل ومطأطئ الرأس، بل غيّرت ثورة 14 تموز وقانون الإصلاح الزراعي مزاجه ووعيه السياسي. وشاهد الفلاح بأم عينه واقتنع بأن سطوة الإقطاعيين والأثرياء التي ورثها أباً عن جد لم تكن قدراً من الله، ينبغي الاستسلام له. فغدا مرفوع الرأس وأخذ يميّز بين أعدائه وأصدقائه. ومن هنا وجدت الأفكار الشيوعية طريقها وانتشارها في أوساطهم في العديد من المناطق. وجاءت الإصلاحات والأجواء الديمقراطية التي حملتها الثورة لتنعش الآمال لدى الأقليات الدينية والقومية في المدينة وفيما حواليها في نيل مكانة اجتماعية محترمة، بعد أن كانت تعامل معاملة جافية من جانب أثرياء الموصل  .

الاستعدادات للمؤامرة

بعد الثورة ببضعة أشهر، راح الخطباء في مساجد مدينة الموصل يهاجمون الشيوعيين في خطبهم أيام الجمع. وسارع تنظيم حزب البعث في المدينة إلى تجميع كل القوى المحافظة في ما دعي ﺑ ( التجمع القومي ـ الديني) الذي ضم ممثلين عن حزب البعث، وحركة القوميين العرب وجماعة الأخوان المسلمين، وعدد من المستقلين للعمل ضد الشيوعيين في المدينة. والى جانب هؤلاء نشط المحامي سامي باش عالم العمري لتكوين تكتل رجعي معادي للحكم. وكون أحمد عجيل الياور، شيخ شمر، جماعة خاصة به من الإقطاعيين. وبدفع من عبد الحميد السراج وجمال عبد الناصر، التقى دهام الهادي، رئيس عشائر شمر في سوريا، برؤساء عشائر شمر في العراق، وأفهمهم بتعليمات السراج، وطلب منهم أن يوّحدوا كلمتهم. ومقابل هذا سيعفى كل من يؤيد التحرك من شمول أراضيه بقانون الإصلاح الزراعي! وكانت القوة المحركة الفعلية للتمرد جماعة من ضباط الجيش يقودهم محمود عزيز آمر اللواء الخامس في الموصل، والمقدم عزيز أحمد شهاب معاون آمر الفرقة الثانية في كركوك، والعقيد رفعت الحاج سري رئيس الاستخبارات العسكرية. .

بدأت كل هذه القوى المختلفة تتقارب فيما بينها في بدايات عام 1959. ولكن الاستعدادات العملية للتمرد لم تبدأ إلا بعد استقالة الوزراء القوميين في 7 شباط من نفس العام. وقد استقرت الخطة، بعد أخذ ورد، على أن يقوم المتمردون في حامية الموصل، أي في اللواء الخامس والذي هو بقيادة الشواف (* )، بإذاعة بيان، بعد السيطرة على المدينة، معطين بذلك إشارة لشركائهم في بغداد لكي  يحتلوا، بقيادة العقيد رفعت الحاج سري، وزارة الدفاع ويعتقلوا عبد الكريم قاسم، وينفوه أو يقضوا عليه، ويستلموا السلطة. في الوقت نفسه، كان على ضباط آخرين ، بمن فيهم الزعيم الطبقجلي آمر الفرقة في كركوك، أن يعلنوا دعمهم للحركة. وعرض كبار الملاكين كل ما تحتاجه العملية من مال. وألقيت على كاهل الأحزاب، البعث خصوصاً، مهمة تحريك الشارع. وأخذ شيخ شمر الأكبر على عاتقه نقل أسلحة ومحطة إذاعة من حدود الإقليم السوري في الجمهورية العربية المتحدة، الذي وعد أيضاً بإسناد الحركة بكتيبة من المغاوير وسرب من طائرات "الميگ" إن لزم الأمر  .

وجرى اختيار الموصل كمنطلق للمؤامرة، لكون أغلب الضباط في حاميتها من القوميين، ولقربها من سوريا من جهة، وبعدها عن العاصمة بغداد من الجهة الأخرى، إضافة إلى وجود قوة رجعية، ذات وزن، معادية للثورة عداءاً جذريا، لأن الأخيرة ضربت مصالحها في الصميم وزعزعت مواقعها الاجتماعية.

وتمتاز مدينة الموصل بطغيان مشاعر قومية عربية متميزة. ولكن المتآمرين بالغوا بها وبقواهم بشكل عام، عندما كانوا يصفون الموصل بالمدينة المقفلة، واستهانوا بقوى الخصوم. فقد كانت هناك قوى لا يستهان بها تعارض المتمردين. فهناك منظمة الحزب الشيوعي والمنظمات الديمقراطية والمقاومة الشعبية وقوامها سبعة آلاف مقاوم. كما كانت هناك قوى الحزبين الوطني الديمقراطي والديمقراطي الكردي (البارت). ونتيجة لطريقة التفكير السطحية للمتآمرين، فإنهم لم يأخذوا بنظر الاعتبار ما ستفرزه التمايزات الطبقية العميقة من نتائج في معركة مصيرية كهذه، هذا فضلا عن التمايزات الإثنية والدينية. واستهان المتآمرون بتعلق المراتب والجنود بعبد الكريم قاسم، وتعلق الفلاحين به أيضاً كتعبير عن تمسكهم بقانون الإصلاح الزراعي. ولم يكن جميع الضباط في اللواء الخامس من المتآمرين. فباستثناء 18 ضابطاً، بينهم عقيدان ومقدم، فهناك عدد كبير من ضباط الصف في الصنوف الفنية من أعضاء الحزب الشيوعي. وكان هناك العديد من الضباط من مؤيدي عبد الكريم قاسم كالمقدم عبد الله الشاوي، آمر كتيبة الهندسة وغيره  .

مؤامرة مكشوفه

كانت مؤامرة الشواف مكشوفه، ولم تتمتع بعناصر هامة جدا في الانقلابات العسكرية، وهي المباغتة والسرية والتنسيق المحكم والمركزية الشديدة. فقد تحدثت عنها جريدة التايمس اللندنية في عددها 8 شباط 1958 مشيرة إلى أن أنباء تتردد حول " انقلاب تنظمه بعض العناصر [الناصرية] في الجيش العراقي في الربيع" (ربما كانت الجريدة متعمدة في كشف ذلك، فلم تكن بريطانيا تؤيد انقلاباً ناصرياً في العراق وهي التي خرجت مثخنة بالجراح من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، خلافاً لأمريكا التي كانت تدعم ذلك). وأحيط قاسم علماً بالمؤامرة، في يوم 23 شباط، من قبل الحزب الشيوعي العراقي، وقد كشف الحزب عن ذلك في مقال افتتاحي في جريدته "اتحاد الشعب" بعد قمع  المؤامرة، وتحديداً يوم 11 آذار 1959. ووصلت إلى قاسم معلومات مماثلة من الحزب الوطني الديمقراطي ومن العقيد طه الشيخ أحمد مدير الاستخبارات العسكرية. ولم يكن التنسيق بين قادة الانقلاب بالمستوى المطلوب. فقد أسرعت الموصل في التنفيذ ولم تصغ إلى نصائح رفعت الحاج سري الذي كان  يطالب بالتأني لعدم استكمال الاستعدادات في بغداد.

لقد عزمت الأحزاب والقوى الديمقراطية وأنصار السلام على عقد مهرجان لأنصار السلام في مدينة الحلة، إلا أن عبد الكريم قاسم أراده في الموصل. فجرت الموافقة على ذلك، وحدد له موعد 6 آذار 1959. وقررت القوى الديمقراطية القيام بأوسع تحشيد جماهيري، وذلك لتحذير القوى المتآمرة وتنبيهها إلى خطر ما تنوي الإقدام عليه. وبطلب من قاسم، قامت مديرية السكك الحديدية وأجهزة الأمن بتقديم كل التسهيلات الضرورية لعقد المؤتمر في موعده المقرر  .

لقد ظل الحزب الشيوعي يتابع التحرك بانتباه. ففي 27 شباط 1959  نشرت جريدة "اتحاد الشعب" مقالا افتتاحياً، حذرت فيه المتآمرين في الموصل، وأشارت إلى الاجتماعات التي عقدت بين رئيس المباحث العامة عبد اللطيف ورئيس المكتب الثاني حكمت الميني من العربية المتحدة، والضابط العراقي محمود حيدران في ناحية تل كوجك.

منذ الخامس من آذار، راحت الجماهير تتدفق إلى مدينة الموصل من المدن والقرى المحيطة بها، ومن المدن الأخرى في البلاد لتشارك في مهرجان أنصار السلام. وقد استخدمت كل وسائل النقل لهذا الغرض. وجاء كثير من سكان القرى سيراُ على الأقدام. وقد ساهم في المهرجان الذي عقد في موعده المحدد حوالي ربع مليون شخص. وكان المشاركون يرددون في شوارع الموصل شعار "زعيمنا الأوحد عبد الكريم قاسم" و"ماكو زعيم إلا كريم". وسار كل شيء بسلام. وبقيت القوى المؤيدة للتمرد في بيوتها. واتخذ المهرجان قرارات تؤكد على دعم مسيرة الجمهورية العراقية على طريق الديمقراطية والسلام...الخ  .

الشروع بالمؤامرة


يقول بطاطو "وفي منتصف صباح اليوم التالي، 7 آذار، غادر أنصار السلام الموصل. وكانت بقية اليوم السابع مليئة بالمظاهرات والمظاهرات المضادة، التي تزايد التوتر فيما بينهما تدريجياً، وفي حوالي الساعة الثانية من بعد الظهر، تدفق البعثيون ومؤيدوهم من النبي شيت، بقيادة فاضل الشكرة، عبر شارع فاروق وهاجموا عدداً من المكتبات اليسارية ومقهى علي الحجُّو، مكان لقاء الشيوعيين وأحرقوها كلياً. وفي وقت لاحق، حوالي الساعة الرابعة، وبالقرب من مكتب البريد، اصطدم البعثيون ـ الذين عُززوا الآن بأتباع عائلة كشمولة الذين كان كثيرون منهم مسلحين ـ بالشيوعيين الذين خرجوا من حي المكاوي وعلى رأسهم عباس هبالة. وصحب العراك إطلاق نار ووقوع إصابات"  .

في إثر الاصطدام تفرقت مظاهرة القوى القومية، وتعززت المظاهرة الديمقراطية بأعداد غفيرة من الناس المسلحين بالقضبان الحديدية والعصي. وكانت الحماسة قد بلغت بالجماهير إلى الحد الذي راحت تستهين بكل شيء. ولم تتردد عن فعل ما سبقها إليه القوميون. إذ أحرقت مكتبة فاضل الشكرة، ومكتبة آل كشمولة، ومحل محسن العاني وقتلت أخاه. وعندها عمد الشواف إلى تطبيق ما دعاه بالخطة الأمنية المعدّة مع المتآمرين. فأنزل الشواف الجيش إلى المدينة، خلافاً لأوامر رئيس أركان الجيش التي تقضي بعدم إنزال الجيش إلى شوارع الموصل، وأعلن الأحكام العرفية. وتم استدعاء العناصر القومية وجماعات من عشيرة شمر إلى معسكر الغزلاني وزودت بالسلاح، وكُلفت جماعات مسلحة منهم بإلقاء القبض على كوادر الحزب الشيوعي والعناصر الديمقراطية البارزة. وألقيَ القبض على عدد من الضباط وضباط الصف الشيوعيين والمؤيدين لعبد الكريم قاسم. ثم شرع بتجريد كتيبة الهندسة والوحدات العسكرية الأخرى المشكوك بولائها للشواف. وأرسل المعتقلون جميعا وعددهم حوالي 60 شيوعيا ومؤيدا لهم إلى الثكنة الحجرية. ولم يسلم من أعضاء اللجنة المحلية سوى عمر محمد الياس وفخري بطرس. وسلم من الاعتقال كذلك المحامي حمزة السلمان المكلف من قيادة الحزب بمهمة الإشراف على المنظمة ومهدي حميد قائد المقاومة الشعبية  .

في مساء 7 آذار، وبعد أن تمت السيطرة على المدينة،  قرر الشواف والضباط القوميون تنفيذ المؤامرة دون انتظار موافقة شركائهم الآخرين في بغداد وكركوك وغيرهما. فأمر الشواف بإرسال قافلة عسكرية لجلب الأسلحة والإذاعة من تل كوجك طبقاً للاتفاق مع مخابرات الجمهورية العربية المتحدة. وفي تل كوجك كان الشيخ أحمد عجيل الياور بانتظارهم. وسلمهم العقيد برهان أدهم، من المخابرات السورية الأسلحة والإذاعة، ومعه مهندس من إذاعة دمشق يدعى يوسف أبو شاهين. وقد وصلت القافلة في الساعة الثانية من صباح 8 آذار. وبوشر بنصب الإذاعة في معسكر الغزلاني. وتولت عشائر شمر نقل الأسلحة. وتدفق بضعة مئات من أفراد شمر نحو المدينة، وجرى توزيع الأسلحة على العناصر القومية والموالين لها. ولتعذر سماع صوت الإذاعة خارج الموصل، حتى بعد الاستعانة بمهندس من شركة نفط الموصل، رتب عبد الحميد السراج أمر إذاعة بيانات التمرد وتعليقاته من إذاعتي دمشق وحلب باسم "إذاعة الموصل". وكان الضابط المتقاعد محمد الدرة، وهو من حزب الاستقلال، قد أعد بيان التمرد. وذيّل البيان بعبارة "قائد الثورة"، وعندما قدمه إلى الشواف، كتب الشواف اسمه فوق العبارة المذكورة، العقيد الركن عبد الوهاب الشواف، في حين كان شركاؤه يتوقعون بأن يكون البيان بتوقيع، آمر الشواف العسكري المباشر، الطبقجلي  .   

لم يؤيد التمرد، خارج الموصل سوى حاميتي عقرة والعمادية، وعدد من ضباطهما. وخرجت مظاهرة في بغداد بلا قيمة حقيقية (حسب تعبير بطاطو) نظمها البعثيون في الكرخ. سارعت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات حازمة وسريعة ضد التمرد. إذ أحيل الشواف على التقاعد فوراً، وأعلن عن تخصيص مكافأة بعشرة آلاف دينار لمن يسلمه إلى الحكومة حياً أو ميتاً. وأصدرت الحكومة بياناً يدعو عشائر الموصل والمخافر قطع الطريق على المتمردين الهاربين إلى الحدود السورية. وتوالت برقيات قادة الفرق والوحدات العسكرية في كل أنحاء البلاد التي تستنكر التمرد. ووجّه قادة المنظمات الديمقراطية النداءات التي تدعو الجماهير إلى العمل على سحق المؤامرة والمتآمرين الخونة. وأخذت وسائل الإعلام، بما فيها الحكومية، على عاتقها نشر هذه النداءات على أوسع نطاق، وكانت الإذاعة تكرر بثّها. وقد هب قرابة خمسة آلاف مسلحاً كردياً وعسكروا على تل نينوى، قرب الموصل. ووضعوا أنفسهم تحت تصرف السلطات الحكومية لقمع التمرد، ودخل ما يقرب ألف مسلح منهم شوارع الموصل، واشتبكوا مع القائمين بالتمرد. وفي صباح اليوم التالي، 9 آذار، أرسل المتمردون طائرتين هاجمتا مرسلات الإذاعة في أبوغريب وقصفتها. إلا أن القصف الحق بها أضرارا طفيفة، ولم ينقطع البث الإذاعي. ولكن القصف تسبب في قتل بعض المواطنين. وقد سارع جنود الطيران لتعطيل المطار في الموصل  .

قمع التمرد

في ذات الوقت، طارت أربع طائرات نفاثة من معسكر الرشيد وحلقت في سماء الموصل وألقت المناشير عليها، وهي تدعو جماهير المدينة إلى مقاومة التمرد. ثم قصفت ثكنات الجيش، وضربت بالصواريخ مقر الشواف، وجرحته هو شخصياً، فهرع إلى مستشفى القوة الجوية للمعالجة، إلا أن الجنود الذين كانوا يهتفون بموته قضوا عليه، كما تقول بعض المصادر. إلا أن الطبيب الذي عالجه قال في شهادته أمام محكمة أمن الدولة في كركوك عام 1964، إن الشواف بعد أن حوصر في المستشفى أقدم على الانتحار. ومع ذلك حكمت هذه المحكمة على عدد من الجنود بتهمة قتل الشواف.

ولكن حين تبين نهاية التمرد الفاشل، تقرر، كما يؤكد اوريل دان،"القضاء على المحتجزين اليساريين البارزين، وقد اضطلع محمود عزيز بمهمة التنفيذ. فكان كامل القزانجي أول من ناداه من غرفة الاحتجاز الجماعية... و[هو] نصير بارز للسلم وشخصية وطنية معروفة. [ ما يذكره اوريل دان هو الصحيح، فلم يكن كامل القزانجي عضواً في الحزب الشيوعي العراقي، دع عنك قيادياً فيه، كما يذكر الكاتب د. سيّار الجميل في مقاله، ولكنه كان مقرب جداً للحزب. جاسم] أطلق محمود عزيز النار عليه فور خروجه وأرداه قتيلاً.  بعد هذا رفض رفاقه الخروج عند مناداتهم بالأسماء. واشتد الاضطراب وتعاظم إلى الحد الذي أرتؤي فيه إرجاء عملية القتل إلى صباح اليوم التالي"  . وبعد قصف مقر الشواف، هرع جنود وضباط صف كتيبة الهندسة، وهم مسلحون بالعصي وقضبان الحديد، تساندهم جماهير من المدينة، نحو السجن العسكري في الثكنة الحجرية لإطلاق سراح المعتقلين. وبعد معركة مع حرس السجن تم تحرير السجناء. ولكن بعد أن قتل خير الله عسكر المقدم عبد الله الشاوي الذي طلب من محمود عزيز الاستسلام، وقـُتل العريف حرز كذلك. فسارع محمود عزيز إلى الفرار. واستجابة لنداءات عبد الكريم قاسم، تدفقت حشود من البارزانيين والأيزيديين إلى الموصل للمساهمة في قمع التمرد. وسارع الجنود من الكتيبة الثالثة، بقيادة ضابطين شيوعيين إلى الاستيلاء على ترسانة السلاح في الكتيبة المذكورة، ووزعوها على أبناء الشعب  . 

وخلال ثلاثة أيام بعد قمع التمرد، عمت المدينة فوضى شاملة، واضطرب الأمن تماما. إذ تدفقت أعداد كبيرة من العشائر الكردية والعربية إلى داخل المدينة. وتحولت الاصطدامات بين الطرفين إلى أعمال انتقام وثأر وتصفية الحسابات الشخصية المتبادلة. ولعبت النعرات الطبقية والقومية والدينية دورها في عمليات القتل والانتقام. ويقول بطاطو في هذا الصدد: "وكانت عمليات الانتقام العاجلة التي لجأ اليها الجنود والجموع المسلحة في لحظات غضبهم الوحشي ـ في جزء كبير منها ـ سداداً لحساب النزيف الرهيب الذي عانوا طويلاً منه. لقد تعرضوا مرات عديدة لإطلاق النار من البيوت التي تحصّن فيها القوميون وملاك الأراضي. ونصبت الرشاشات في قصر شيخ شمر ولم يتمكن أحد من إسكاتها حتى أحضر الجنود الشيوعيون الدبابات وأطلقوا بضع قذائف على القصر"   

ويشير سباهي إلى أن أجهزة الدعاية المعادية نفخت كثيراً في الأحداث، وبالغت في ذكر الخسائر والضحايا، وشوِّهت صورة الأحداث، وجرى تزييف الوقائع، ونسب إلى الشيوعيين الكثير مما لم يرتكبوه، أو ارتكبه غيرهم. ولكن طبقاً لإحصائية قدمتها لجنة شكلت من الطرفين، وكان في عدادها فخري بطرس، أن عدد القتلى من جميع الجماعات بلغ 125 قتيلاً و335 جريحاً. أما بطاطو فيذكر بأن عدد القتلى 200 حسب محمد حديد .

من المسؤول؟

يطرح سباهي التساؤل التالي: "ترى، كيف يمكن توزيع المسؤوليات عما حل بالمدينة من مذابح ومآسي". فيشير عن حق، إلى أن المسؤولية الأولى بالطبع، تقع، على العناصر التي أسهمت بالتآمر وتلك التي حركتها ووفرت لها المستلزمات المادية والمعنوية لكي تقدم على ما أقدمت عليه، ويندرج في إطار هذه العناصر القوى القومية العربية المتعصبة، التي اندفعت إلى التآمر دون أن تحسب للمصلحة العامة أي حساب، والقوى الرجعية من عملاء الاستعمار ورجالات الإقطاع، ومن ورائهم الدوائر الاستعمارية وقيادة الجمهورية العربية المتحدة التي ذهبت إلى أبعد الحدود في دعمها للتآمر. وقد كشف عبد اللطيف البغدادي نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة في مذكراته عن دور عبد الناصر الشخصي، وكيف ساهم في حملة التهويل والمبالغة والأكاذيب أثناء المحاولة الانقلابية وبعدها. ومما ذكره البغدادي واقتبسه الباحث جرجيس فتح الله ما يلي:

"وقام جمال[عبد الناصر] في ليلة 12 آذار باتخاذ العدة لإعداد ما يلزم من الدعاية لتغطية ذلك الفشل الذي حدث في الموصل وكتب عدة أخبار لتنشر في الصحف وكانت كلها تهدف إلى إثارة الشعب العراقي ضد [قاسم] وذلك عن طريق تجسيم الخسائر ومحاولة إثارة العطف أيضا على الثوار بالتنديد بالإجراءات التي اتخذها (قاسم) هناك فادعى أنه قام بإعدام 60 ضابطاً، كما أعدم أيضاً كل شخص مدني شك في أنه تعاون مع الثوار. وأن ذلك تم بدون محاكمة... كانت هذه الأخبار المفتعلة التي يكتبها [عبد الناصر] تذاع من محطة إرسال سرية لتذيع باسم ثوار الموصل وضعت في منطقة الغوطة القريبة من دمشق وقامت بإذاعة بيان الشواف... وتعليقات أخرى ضد (قاسم) (ص82 و89 طبعة القاهرة)

و يدين الباحث فتح الله هذا السلوك السياسي وأضراره إدانة صارمة تغني المرء عن أي تعليق بقوله: "ولا يلوح في كل ما ورد ذكره هنا أي بصيص من شعاع لتلك السجايا العربية الأصيلة التي تغنى بها الشعراء ولا للمبادئ الخلقية العامة التي تعارف عليها البشر لا من أولئك الذين ثاروا باسم العروبة ومن أجل الوحدة العربية، ولا من أولاء الذين نقلوا أقوالهم وكتبوا في مدحهم وتأبينهم والثناء على أعمالهم. ويقيناً أنهم الحقوا بالعروبة والوحدة العربية ــ كفكرة قومية سامية وهدف رفيع ــ ضرراً أكبر بكثير من ذلك الذي ألحقه بها أعداؤها ومخالفوها"  . ً
 
ويحمّل سباهي، وهو على حق، عبد الكريم قاسم المسؤولية بالدرجة الثانية، عندما يشير إلى أن هذا لا يعفي بالطبع مسؤولية الجانب المقابل لدفع الأمور إلى حد الانفجار والتصادم. لقد كان كلا الطرفين يسعى إلى تأجيج الأمور وتفجيرها كما تنفجر (الدّملة) كما عبر عبد الكريم قاسم عن مخططه إلى وفد القوى الديمقراطية في المدينة الذي زاره قبل الأحداث" .

ويتحمّل قاسم مسؤولية عدم اتخاذ إجراءات وقائية، تجّنب البلاد تلك المأساة. فقد زوّده الحزب الشيوعي، وجهات أخرى أيضا، بمعلومات حول تحرك المتآمرين، كما مر بنا، حتى أن طريق الشعب نشرت أسماء وتحركات بعض المتآمرين. كان بإمكان قاسم أن يجهض المؤامرة قبل وقوعها، مثلما أجهض أربع مؤامرات قبلها. ولكن قاسم كان، كما يبدو، يروم قمع المتآمرين بشدة وهم متلبسون بالجرم المشهود في هذه المرة، غير آبه بالنتائج المأساوية التي ستصيب أبناء الشعب وتداعيات ذلك. ويتحمّل قاسم قسطاً كبيراً من مسؤولية القسوة المبالغ فيها في قمع المتمردين بنداءات ودعوات وسائل إعلامه بسحق المتمردين الخونة، وكان بإمكانه أن يصدر نداءاً يدعو فيه القوى السياسية والجماهير الشعبية إلى "عدم أخذ القانون بيدها" والى تسليم المتآمرين للسلطات.

يقول الفقيد زكي خيري "ودعا قاسم الجماهير لمطاردة فلول الفتنة وأباح دماءهم لمدة ثلاثة أيام. وكان ما كان. ولكن بعد بضعة أيام ألقت المقاومة الشعبية القبض على نفر من المشاركين في الفتنة وهم من رجعيي الموصل وبعد محاكمتهم في محكمة شعبية أخذتهم إلى دملماجة بالقرب من الموصل وأعدمتهم! واستغل قاسم الفرصة لينزل ضربة معادلة لحلفائه لاسترضاء أعدائه وليوّجه هؤلاء ضد الشيوعيين. 

ويستشهد بطاطو بأقوال الشهيد مهدي حميد (  *) قائد المقاومة الشعبية في الموصل، لإلقاء الضوء على هذه النقطة، فيذكر في الصفحة 199 من كتابه الثالث ما يلي: " وفي وقت لاحق، في العام 1963، ادّعى مهدي حميد أن قاسم أصدر يومها أوامره ﺑ"إبادة كل من أظهر مقاومة أو حمل السلاح ضد الحكومة" وأن هذا شجّع "الأعمال المتهورة" و"الأفعال الانتقامية"، وادّعى كذلك أن قاسم أشار في لحظة معينة، وعبر قائد الحامية، إلى أنه "لا حاجة إلى إرسال مثل هذا العدد الكبير من المعتقلين إلى بغداد، فماذا سنفعل بهم هنا؟ تخلصوا منهم هناك في الموصل". وادّعى مهدي حميد كذلك أن "سلطة الاعتقال والتحقيق عهدت الينا [آي إلى المقاومة الشعبية] رسمياً وبرسالة رسمية ومن القائد الذي لم يُستدع، عموماً، كشاهد في محاكمتنا [عام 1960]، مع إننا طلبنا تقديمه للدليل... في الواقع، لقد ألقي كل اللوم علينا ... لكن المسؤولية الأولى تقع على قاسم...وقائد الموصل... وإلا، لماذا لم يوقفونا... وهو ما كان بإمكانهم أن يفعلوه... خصوصاً بعد وصول اللواء الأول".  (الفراغات موجودة في النص. جاسم) ويذكر بطاطو كذلك في نفس هذه الصفحة وما يليها ما يلي:

"ومهما كان الأمر، فإن العراقيين ما زالوا يذكرون كيف أنه، عند نقطة معينة من محاكمة مهدي حميد ورفاقه أمام المحكمة العسكرية الأولى في عام 1960، أوقفت الجلسات العلنية للمحكمة بطريقة مفاجئة ولسبب غير معلوم. وساد يومها انطباع عام بأن المحاكمة كانت تقدم دليلاً يوّرط  قاسم نفسه".

وبصرف النظر عن كل شيء، فلم يكن هناك طريق سوى العنف لقمع التمرد المسلح، بعد أن وقع. وبسبب من انخراط قوى مدنية واسعة، متنوعة ومتخاصمة في الاصطدامات، فكان من الطبيعي أن ترتكب خلالها، وخاصة في اصطدامات عنيفة كهذه،انتهاكات من قبل جميع الأطراف، بمن فيها الحزب الشيوعي العراقي ومنظمته في الموصل. "إن جذور الكثير من العدوانية التي شاهدتها أيام آذار (مارس) كانت تعود إلى الخوف المشترك الذي يبدو أنه سيطر على كل أطراف النزاع: الخوف من أن الفشل في تلك اللحظة التاريخية الحرجة قد يجر وراءه الدمار على أيدي الخصوم"، كما يشير بطاطو في الصفحة 200 من كتابه الثالث.  إن ما يقوله بطاطو، يفسر لنا تلك القسوة، المبررة وغير المبررة لقمع التآمر.


وعند الإشارة إلى مسؤولية الشيوعيين في الانتهاكات التي حدثت خلال قمع مؤامرة الشواف في الموصل، ينبغي أن لا ننسى، كما يشير سباهي، إلى ما بذله الشيوعيون لتدارك ما يمكن تداركه لإنقاذ العديد ممن أوقعهم حظهم العاثر في أيدي الجماعات الغاضبة. وقد بذل الشيوعيون كذلك جهوداً كبيرة لتوفير الشاحنات ولعودة المسلحين الذين قدموا إلى الموصل إلى مدنهم وقراهم بعد أن انتهى التمرد. وقد استمرت هذه العملية أربعة أيام. كما نظم الشيوعيون عملية حصاد المحاصيل لآلاف الدونمات من أراضي الجزيرة الشاسعة، والتي هجرها أصحابها وفروا إلى الجمهورية العربية المتحدة، وسلموا المحاصيل  إلى الدولة. وقد أثارت العملية إعجاب المعنيين والخبراء في الزراعة"  . 

لقد ساهم الشيوعيون في قمع مؤامرة الشواف، وظل عبد الكريم قاسم يشيد بالدور الذي لعبوه في قمع التمرد. و" أن قاسماً دعا، بعد فترة قصيرة من أحداث الموصل، مهدي حميد وقادة شيوعيي الموصل إلى بغداد، وأطرى إخلاصهم، وقدم لهم مسدسات هدية، وقدم منحة للحزب الشيوعي قيمتها 1500 دينار. وإلى هذا، قُبل مهدي حميد مجدداً في الجيش وقدمه إلى رتبة رئيس وأسند إليه قيادة قوات المقاومة الشعبية في كل الجزء الشمالي من البلاد"  . وعند استقبال عبد الكريم قاسم لأبناء الموصل رحب بهم وقال: "أنا واحد منكم. الشعب الموصلي قد قضى على المتآمرين بسرعة هائلة، ونحمد الله على مجيئكم إلى هنا . الكل يعلم أننا غير سفاكين، بل السفاكون هم الذين سفكوا دماء الأبرياء نتيجة الغدر والخيانة ولطخوا أيديهم بدم المؤامرة. أرجو أن يكثر الله من أمثالكم المخلصين"  . ولكن ما أن بدأت العلاقات تسوء ما بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي، حتى راح يستخدم محاكمات قادة الشيوعيين في الموصل، ورقة يشهرها بوجه الحزب، حتى حكمت عليهم محاكمه العسكرية بالإعدام، وقام انقلابيو شباط بتنفيذ هذه الأحكام.

وعاد عبد الكريم قاسم وصرح أمام الوفد الرياضي اللبناني، الذي زاره في مستشفى السلام بعد محاولة اغتياله في شارع الرشيد: "إن المسؤولين عن مذابح الموصل، هم الذين تآمروا علينا. نحن لم نتآمر. والمسؤول عن مجزرة الموصل هم أولئك. كان السلاح بيد الجيش، وبيد بعض القادة الذين خانوا البلد وكان الأهلون عزل من السلاح. فنادينا الأهليين وقلنا لهم الجمهورية في خطر، وأنتم ملزمون بالدفاع عن كيانها الذي تفانينا من أجله في الثورة"  .

الاغتيالات في الموصل

بعد قمع مؤامرة الشواف، حصل في البلد مد ثوري عظيم تحققت خلاله إنجازات وطنية. ولكن قبل الانتقال إلى تناول هذا الموضوع، نشير إلى التداعيات السلبية التي حصلت في الموصل بعد بضعة أشهر من قمع مؤامرة الشواف. لقد أدركت القوى التي وقفت إلى جانب التمرد، أن سياسة عبد الكريم قاسم قد اتجهت، منذ منتصف عام 1959، نحو التضييق على الشيوعيين واليسار عامة، والتي انعكست في الموصل بإجراء تنقلات واسعة في أوساط المسؤولين والموظفين المحليين شملت المتصرف ومدير الشرطة والضباط وحتى ضباط الصف في وحدات الجيش. وكانت التنقلات ترمي إلى إضعاف مواقع الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية الأخرى، وتعزيز مواقع خصومهم. وأرسلت هيئة تحقيق خاصة للتحقيق فيما دُعي بالأعمال التي ارتكبها "الفوضويون" وهي مزودة بأسماء الشيوعيين الذين يراد اعتقالهم ومحاكمتهم.

لذلك سارعت القوى المعادية للشيوعية بتدبير الاغتيالات. وتألفت لهذا الغرض لجان سرية خاصة تتولى تعيين من يراد اغتياله ومن يقوم بذلك، وجمعت الأموال لهذا الغرض. وسرعان ما اتسعت دائرة الاغتيالات لتشمل أناساً على الشبهات. ولم تعد حملة الاغتيالات تستهدف الشيوعيين أو مؤيديهم أو أقاربهم فقط، وإنما امتدت إلى عناصر من الحزب الوطني الديمقراطي والديمقراطي الكردستاني، وإلى أناس لا علاقة لهم بالسياسة أساساً. وارتفعت معدلات القتل إلى مستويات مخيفة حتى بلغت، في بعض الأوقات ما بين 8 و12 حادثة اغتيال في اليوم الواحد ولمدة أسبوعين متتالين. وقد قدر عدد القتلى ما بين 300 و600 قتيلاً. واضطر كثير من العوائل إلى الهجرة عن المدينة. وقدّر عدد العوائل المهاجرة ما بين خمسة آلاف و عشرة آلاف عائلة. وكان نصيب المسيحيين من التهجير هو الأعلى. ويورد الكاتب سباهي أكثر من عشرة أسماء من القتلة الذين اشتهروا آنذاك. وقد انتمى العديد منهم إلى الحرس القومي بعد انقلاب شباط الفاشي عام 1963  .
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/SAlJamil/5musil.htm






52
ملاحظات على مشروع النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

بحكم طبيعة المهام التي أنيطت بي عندما كنت عضوا في اللجنة المركزية، كانت لدي مساهمة وتماس مباشرين في جميع التعديلات الأساسية التي جرت على الأنظمة الداخلية للحزب، وكان آخرها ما جرى في المؤتمر الخامس والذي عقد في عام 1993، والذي كان بمثابة تجديد للنظام الداخلي وكنت مع الفقيد أبو زكي (حميد بخش) والرفيق أبو داود (حميد مجيد موسى) بمثابة اللجنة التحضيرية التي وضعت مسودة النظام الجديد. ولم يجر أي تعديل هام على النظام المذكور في المؤتمرين السادس والسابع وما جرى هو مجرد تحسينات أما لغوية أو بسيطة.

مشروع النظام الداخلي الذي بين أيدينا هو ثاني تجديد هام يجريه الحزب على النظام الداخلي بإتجاه تخليصه والحزب من الجمود العقائدي وجعله ملائما للعصرالذي نعيشه بمعطياته الثرة من جهة، وجعله ملائما لحزب علني يهمه جدا أصوات الناخبين ويفترض أن يجاز وفقا لقانون يستند على النصوص الدستورية ذات العلاقة .

إن المشروع يعكس قدرة الحزب على تطوير نفسه مستندا على تجاربه وظروفه وإطلاعه على التطورات والمعارف الفكرية المعاصرة. و طبيعي لا يمنع هذا التقويم من تقديم الملاحظات والمقترحات لتطوير المشروع وتحسينه.

وقبل الشروع في إبداء الملاحظات والمقترحات على المشروع أود الإشارة الى أهم التغيرات التي جرت على النظام الداخلي ، لأني لاحظت عدم الإلتفات اليها ، بل ربما لاحظ البعض بأن هناك تراجعا عن التجديد. ويبدو لي بأن الرأي الأخير مجرد إنطباع خاطيء وليس رأيا مدروسا.

التغييرات الهامة التي جرت هي :

** التخلص من صياغات المبالغة الطبقية والعقائديه غير الصحيحة أو غير الدقيقة علميا وسأذكر تعديلين على سبيل المثال لا الحصر:

1 ـ جاء في بداية النظام الداخلي المعمول به ما يلي :

ـ إن تطور نضال الطبقة العاملة والشعب العراقي وحركته الوطنية والديمقراطية استلزم قيام الحزب الشيوعي العراقي وحركتة فالحزب الشيوعي قد نشأ استجابة لهذه الضرورة و...الخ

في حين جاء في مقدمة المشروع ما يلي :

ـ تأسس الحزب الشيوعي العراقي في 31 آذار 1934، تعبيرا عن تطور نضال الشعب العراقي والطبقة العاملة وحركته الوطنية والديمقراطية.

وهذه الصيغة هي الأدق. ومن المعروف إن إسم الحزب عند تأسيسه كان "لجنة مكافحة الإستعمار والإستثمار" وهو يعبر، الى حد بعيد، عن طبيعة المهام النضالية التي كانت تواجه الحزب وكذلك عن الظروف التاريخية التي تأسس فيها، وذلك منسجم مع فقرة المشروع.

2 ـ جاء في المادة الأولى من النظام الداخلي المعمول به ..

ـ إن الحزب الشيوعي العراقي اتحاد طوعي لمناضلين تجمعهم الماركسية ويكرسون طاقاتهم لقضية الطبقة العاملة وسائر فئات الشعب و...الخ

في حين جاء في المشروع ما يلي :

الحزب الشيوعي العراقي اتحاد طوعي لمواطنات ومواطنين يجمعهم الدفاع عن مصالح الجماهيرالكادحة وسائر فئات الشعب و... الخ

أعتقد بأن صيغة المشروع تعبر عن واقع الحزب، فما يجمع مناضليه هو المهام النضالية التي تواجه الحزب، أولا وقبل كل شيء، وليس الآيديولوجيا

** المرجعية الفكرية

جاء في النظام الداخلي المعمول به مايلي :

ـ يسترشد الحزب الشيوعي العراقي في سياسته وتنظيمه ونشاطه بالماركسية ... الخ.

في حين جاء في المشروع ما يلي :

ـ يسترشد الحزب الشيوعي العراقي في سياسته وتنظيمه ونشاطه بالفكر الماركسي وسائر التراث الاشتراكي ...الخ

هذه الصيغة من شأنها تحرير فكر الحزب من الجمود والنصية، فليس كل ما جاء بالماركسية صحيحا أو بقي محافظا على صوابه، وليس كل ما قاله الإشتراكيون غير الماركسيين أو "المرتدين" كان خاطئاً.

** دمقرطة الحزب وحياته الداخلية

هناك منحى عام في المشروع نحو تعزيز الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية، وفي هذا السياق لم يرد ذكر مصطلح "المركزية الديمقراطية". لقد سمح هذا المصطلح في تشديد المركزية وإنحسار الديمقراطية في الأحزاب الشيوعية قبل عملية التجديد الذي مارستها منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي. وقد تضمن المشروع المستلزمات العملية الضرورية من المصطلح المذكور بشقيه.

وفي منحى تعزيز الديمقراطية في الحياة الداخلية حذفت من مقدمة المادة الأولى عبارة " ان وحدة ديمقراطية تقوم على هذه الاسس تتنافى مع النشاطات الانقسامية ومع التكتلات" وبذلك تزال الحساسيات تجاه حرية المناقشة داخل الحزب.

*****
أما ملاحظاتي ومقترحاتي فهي حسب تسلسل المادة ما يلي :

1ـ ورد في نهاية الفقرة الأولى من المقدمة ما يلي :

ـ ... وتحقيق التقدم الاجتماعي وبناء الاشتراكية في العراق.

لا أرى من الصواب طرح بناء الأشتراكية كأفق منظور في العراق لأن ذلك يخلق أوهاماً يتبعها خيبة أمل لدى أعضاء الحزب ومؤيديه هذا من جانب، ومن الجانب الآخر إن من شأن هذا الطرح إضعاف مصداقية الحزب، إن لم يكن فقدانها، في أعين الأوساط الواعية التي تؤمن بالخيار الأشتراكي ولكن لم يعد لديها شك، بعد إنهيار التجربة الأشتراكية السابقة، بأن بناء الإشتراكية غير ممكن إلا في بلد رأسمالي متطور ومتحضر، فأين يقف العراق من ذلك؟

هذا لايعني عدم الإشارة الى هذا الهدف البعيد ولا مرة واحدة في نظام الحزب الداخلي ، ولكن أقترح ذكره مرة واحدة وإستخدام عبارة "وصولا الى الإشتراكية" بدلا من "بناء الإشتراكية"

2 ـ ورد في الفقرة الرابعة من المقدمة مايلي :

ـ ... ويقيم الروابط الكفاحية والتضامنية مع الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والعمالية، ومع الاحزاب والمنظمات والحركات التحررية والديمقراطية والاشتراكية – الديمقراطية واليسارية في العالم، من اجل تقارب الشعوب وتآخيها، ومن اجل تطوير الحضارة البشرية، وتثبيت وحماية القيم الانسانية، وانتصار قضية الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، ومن أجل إقامة نظام عادل للعلاقات الاقتصادية الدولية، ومن أجل حماية البيئة وتحقيق نظام للامن الدولي الشامل، يضمن تصفية الاسلحة النووية والكيمياوية والجرثومية، ونزع السلاح، وتثبيت سلم وطيد في العالم.

أقترح إضافة ومكافحة الإرهاب وإحترام حقوق الإنسان الى المهام المذكورة في النص ، وذلك إنسجاما مع برنامج الحزب الوطني، و من شان ذلك المساعدة على بلورة حركة أممية " ديمقراطية النهج والأطر والأساليب" كما أشار الى ذلك مشروع برنامج الحزب في حقل (العلاقات على الصعيد الدولي)

3 ـ ورد مايلي في الفقرة الثانية من المادة الأولى "وحدة الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية، المبنية على الأسس الديمقراطية..." الوحدة الفكرية مفهوم وهمي من بقايا الستالينية وهي لا يمكن أن تتوفر ليس في الحزب فحسب، وإنما حتى بين إنسانين مفكرين، إن الوحدة الفكرية ممكن أن تتحقق بين البشر في مكان واحد هو القبر! أقترح إعادة صياغة الموضوع بالشكل التالي: "وحدة الحزب التنظيمية ووحدة موقفه السياسي..."

4 ـ أقترح الغاء عبارة "بالإتفاق العام" الواردة في الفقرة الثالثة من المادة الأولى، لأن لامعنى ولا ضرورة لها.،وقد جاءت على الشكل التالي "اتخاذ القرارات الحزبية على مختلف المستويات يتم بالاتفاق العام او بالاغلبية المطلقة ..."

5 ـ أقترح حذف كلمة " ويسترشد" من الفقرة الأولى من المادة الثانية (شروط العضوية) ونصها "يقبل ويسترشد ببرنامج الحزب ونظامه الداخلي". لأن الإسترشاد واجب من واجبات العضو الحزبي وفي حالة إخلاله به يعرض نفسه الى المحاسبة ويتحمل تبعات ذلك بما يتناسب مع درجة الإخلال. وقد جاء في الفقرة ألأولى من المادة الرابعة (واجبات عضو الحزب) مايلي: "ينفذ سياسة الحزب وقراراته ويلتزم ببرنامجه ونظامه الداخلي." وعندما يقبل طالب العضوية بالنظام الداخلي كأحد شروط العضوية فهو يقبل بالنص المذكور، ويصبح، بالتالي، كلمة"الإسترشاد" في شروط العضوية زائدة وغير مبررة.

6 ـ ورد في الفقرةالرابعة من المادة الثالثة (حقوق عضو الحزب) "ويمارس النقد الذاتي" ولأن ممارسة النقد الذاتي أقرب الى الواجب منها الى الحق، لذلك أقترح نقلها الى المادة الرابعة (واجبات عضو الحزب). قد يكون مكانها الملائم في منتصف الفقرة الخامسة من المادة.

7 ـ أقترح تبديل كلمة الماركسية بالإشتراكية العلمية وذلك في الفقرة الثانية من المادة الرابعة (واجبات عضو الحزب) وإضافة (في نفس الفقرة) تاريخ العراق والمنطقة الى المعارف الأخرى التي ينبغي على العضو الحزبي كسبها لتصبح الفقرة على الشكل التالي :
ـ يسعى إلى تطوير مداركه بالمعارف الإشتراكية العلمية ويحرص على الارتقاء بثقافته العامة، واغناء معرفته بتاريخ العراق والمنطقة وبتاريخ الحزب والطبقة العاملة والحركات الوطنية والديمقراطية في العراق والعالم .

8 ـ أقترح إضافة عبارة "أوتعديلهما" الى نهاية (أ) من الفقرة الرابعة ( تتلخص مهام المؤتمر الوطني) من المادة 15 (المؤتمر الوطني للحزب) لكي تصبح :
ـ اقرار برنامج الحزب ونظامه الداخلي أوتعديلهما.
لكي لا يفهم من الفقرة ،بدون الإضافة، بأن من مهام كل مؤتمر وضع برنامج ونظام داخلي جديدين.

9 ـ ملاحظتي المرقمة 2 تنطبق على الفقرة الثالثة من المادة 17 (اللجنة المركزية – مهماتها وصلاحياتها) والتي تبدأ بما يلي: " تسهر على تعزيز الوحدة الفكرية والسياسية والتنظيمية للحزب..."

10 ـ ملاحظات أخرى :
أ ـ أرى إضافة كلمة الحزب بعد الكلمة الأولى من الفقرة الرابعة من المقدمة، لكي تصبح " يربى الحزب اعضاءه وجماهير الشعب بروح الاممية والتضامن بين الشعوب و...الخ. لأن الفقرة التي قبلها إنتهت بنقطة.
بـ ـ أقترح تقديم كلمة مواطنة على مواطن في المادة الثانية (شروط العضوية)، لتصبح " كل مواطنة و مواطن بلغت/ بلغ..."
جـ ـ وردت عبارة " وعلى وفق المنطلقات "في الفقرتين الثالثة والرابعة من المادة 13 (الحزب الشيوعي الكردستاني – العراق) أقترح تغييرها الى "وفقاً للمنطلقات"

مع تقديري للجهود المبذولة في إعداد الوثيقة[/b][/size][/font]

53
المنبر الحر / رسائل عزيزة
« في: 01:49 23/07/2006  »
رسائل عزيزة
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

تبادلت مع القراء الأعزاء العديد من الرسائل عند كتابة ذكرياتي وجميعها عزيزة على قلبي، بعضها بيني وبين عدد من ذوي الشهداء، آثرت نشرها. وستجد هذه الرسائل مكانها الملائم في الكتاب (تحت الطبع) الذى سيحوي ذكرياتي تحت عنوان "الحقيقة كما عشتها"

الرسائل المتبادلة مع فلاح حسن عوينة

سيدي الفاضل
 تحية طيبة وبعد

 قرأت الحلقتين اللتين نشرتهما حول ذكرياتك مع منظمة راية الشغيلة، وأحيي فيك الرغبة في تدوين ما يستحضرك من تلك الأحداث. وأشكرك شكراً جزيلاً على موضوع محدد استوجبني فيه الشكر، ولربما ستستغرب هذا الموضوع أو لربما تجده عادياً، وذلك يعود لك، وما يهمني هو أني أكتب لك محبة.
 أنا أعرفك بالاسم، نعم فقط بالإسم ولا أذكر أني التقيت بك، أو ربما هذا قد حدث وأنا طفل صغير، ولكني أذكر أني سمعت اسمك مراراً وتكراراً من خالتي (علوية مليحة الحكيم) ومن جدتي لأمي (علوية زكية الحكيم)، وربما أكون سمعته من آخرين من العائلة، ولكن لا تختزن ذاكرتي في أي من التفاصيل قد ورد اسمكم الكريم.
وعلى أية حال أجدني معذوراً في ذلك فأنا من عمر أبنائك، أو لنقل انت من عمر والدي! وأنت ممن يعرفونه بالتأكيد فقد أشرت إلى اسمه في الحلقة الثانية وهو "حسن عوينة". أشعر بالارتياح لأنها المرة الأولى التي يأتي أحد على ذكر اسمه أو موقف من مواقفه في المقالات التي تنشر على مواقع الانترنيت في هذا الزمن الذي صار الناس يستذكرون فيه من فقدوا في رحلة الكفاح المضنية. وإنها المرة الأولى أيضاً أن يأتي شخص على ذكر إسم خالي (السيد صاحب الحكيم) مقرنا إياه بأيام النضال المريرة منذ خمسينيات القرن الماضي (الحلقة الأولى).
أحييكم مرة ثانية وأنقل لكم ارتياحي لأن هناك من لا يزال يذكر تلك الأسماء. لا أريد الاطالة عليكم، ولكن علي أن أعبر لكم عن تشرفي بدوام المراسلة معكم مستقبلاً.
 شكراً جزيلاً وخالص تحياتي، مع المحبة
 فلاح عوينة
25 مايس 2005
 
***
كوبنهاكن ـ 2005-05- 26
عزيزي فلاح

تحياتي وحبي وتمنياتي لك بالصحة والسعادة والنجاح.
منذ ان قرأت رسالتك وصورة الوالد لم تفارقني. لقد التقينا للمرة الأولى في سجن بعقوبة عام 1955 وقد أشرت إلى ذلك في الحلقة الرابعة من القسم الأول من "حدث هذا قبل..." والتقينا مرة أخرى في عام 1957 في نفس السجن ولكن في ظروف مختلفة. كان الحزب موحداً وكان ابو فلاح ممثلنا أمام الإدارة. عندما تحررنا بعد ثورة 14 تموز 1958، أنا من السجن وهو من الإبعاد، كنا نلتقي في الاجتماعات الحزبية لمنطقة الفرات الأوسط حتى منتصف 1959. إنتقلت أنا إلى محافظة واسط (الكوت سابقاً) وإنتقل هو بعدي بفترة إلى بغداد.
في بغداد عمل شقيقي حميد في جهاز المراسلة واستخدمت عائلتي كبيت حزبي مركزي للمراسلة. وكان أبو فلاح مسؤولاً عن الجهاز المذكور. وكنت ألتقيه عندما أزور عائلتي.
إشتغل شقيقي حميد مع الوالد ثلاث سنوات متواصلة وفي عمل يومي ولديه معه ذكريات لطيفة يصعب الحصول عليها الآن، لأن حميد في بغداد، علماً بأنهما كانا، قبل ثورة 14 تموز، في بدرة مبعدين وصديقين.
لا أظنني سأضيف جديداً لمعلوماتك لو تحدثت لك عن إنطباعاتي، لأني متأكد بأنك سمعت ذلك من غيري. فإن رقة أبو فلاح وشاعريته وذكاءه المتقد وإنسجامه مع نفسه وصراحته وتواضعه الجم كان واضحاً للجميع. لقد كان حسن عوينة إنساناً رائعاً وعظيماً.
فرحنا كثيراً، أم شروق وأنا، عندما قرأنا عنوانك وعرفنا أنك أنهيت تعليمك بمستوى دكتور في فرع علمي. فلا عجب، فهذا الشبل من ذاك الأسد. ومن حق أم فلاح أن تفتخر بك.
أم شروق كانت تتردد على بيتكم في النجف عام 1964، قبل زواجي بها، وهي أخت الشهيد جواد عطية. وتتذكرك طفلاً وتعرف الوالدة والخالة والجدة. وهي تحييك وإياهم بحرارة.
نرجو تزويدنا بأخبارهم وأخبار أبو بشائر فقد عشنا سوية معه في سوريا عام 1980. أنا أتذكرمليحة وقد كانت أسم على مسمى.
مع تقديري وإعتزازي.
المخلص أبو شروق (جاسم الحلوائي)

***
أستاذنا الفاضل (أبو شروق) المحترم
تحية حارة وبعد،

إستلمت ببالغ الغبطة رسالتكم الرائعة، الموجزة والواسعة. قرأتها مرة وثانية، وأول ما قمت به هو البحث عن كل ما نشرته في موقع الحوار المتمدن وعدت لقراءة الحلقة الرابعة التي أشرت إليها، ومن ثم وجدتها فرصة جيدة لقراءة كل ما وقع تحت طائل ناظري في شاشة الحاسوب من مقالاتكم المنشورة، (وبالمناسبة فقد خطف انتباهي مقالكم حول نتائج التصويت في الانتخابات العراقية، وشعرت بالقناعة لمعظم ما تناولتوه، وربما سيكون لي عود على ذلك لمناقشة ما جاء فيه) كما كان لي الشرف برؤية صورتكم التي حتماً حفظت كل ملامحها من النظرة الأولى.
أتقدم اليكم بالشكر الجزيل للمعلومات الجميلة التي أوردتها وعن ذكرياتكم مع حسن عوينة، وفي حقيقة الأمر فإن معلوماتي (شبحية) وتفتقر إلى التفاصيل المطلوبة، وكان مصدري (شفهياً) في تلك المعلومات هو عمي (مسلم عوينة)، والكتيب المتواضع الذي صدر بتوقيع باقر إبراهيم، وكان أصلاً مقالاً منشوراً في الثقافة الجديدة في النصف الأول من السبيعينات، وللعلم فإن معظم المادة كانت معدة من قبل عمي مسلم. وكنت مؤخراً قد طلبت من عمي أن يحاول تدوين ما يعلق في ذاكرته من ذكريات تلك السنين لاسيما النتاج الشعري لحسن عوينة، وبالتأكيد فإن أكثر من يحفظه هو عمي مسلم. عندما كنت طالباً في الدراسة المتوسطة وبتشجيع من الأسرة كنت قد بدأت عملية التدوين الشعري لما كتبه الراحل، وأذكر أني جمعت بضعة عشرة قصيدة كاملة، ولكن مدوناتي تلفت مع ما أتلف من مواد مطبوعة تخص ثقافة الحزب كنا نحتفظ بها في بيتنا على سبيل التثقيف والاطلاع إبان الهجمة الشرسة في نهاية السبعينات على الحزب وأصدقائه إذ فرضت الخشية نفسها في أن تكون تلك المواد سبباً في نكبة أسرية جديدة، وعلى أية حال -على حد علمي- فإن عمي مسلم بصدد التصدي لمهمة جمع ذلك النتاج والتدوين من جديد.
تعود بي ذاكرتي إلى حدود العام 1964 وليس إلى قبل ذلك فأنا أذكر إنتقال الأسرة من النجف إلى بغداد، وسكنانا المؤقت في بيت غير مكتمل البناء في منطقة الجوادر يوم كانت آخر نقطة في بغداد، وأذكر أننا عندما كنا في ذلك السكن حدث موت عبد السلام عارف ولا زالت ترن في أذني المقولة التي رددها الناس (صعد لحم ... نزل فحم)، ولذلك أعتذر أشد الاعتذار لأني لا اتذكر السيدة أم شروق، ولكني أتشرف وفي غاية السعادة لتلقي تحياتها، وأرد عليها بالمثل.
أما أخبار العائلة فباختصار إنها لم تعد موجودة. توفيت جدتي في عام 1989، وتوفيت والدتي حسرة على فراقي في عام 1999، و لحقت بها خالتي حسرة ويأساً في عام 2000. أما خالي صاحب فقد عاش في سورية طيلة تلك السنوات ولحد الآن، ولكن صحته ليست جيدة، وكان يفكر في العودة لقضاء ما تبقى من العمر مع الأسرة التي بقيت مشتتة طوال أكثر من 20 عاما، غير أن الوضع القائم وحاله الصحية ربما أبطأتا تنفيذ هذه الرغبة بعض الشيء.
كنت قد غادرت العراق موفداً من وزارة النفط حيث كنت أعمل وذلك في عام 1998، إذ لم أعد إلى العراق مع الفريق الموفد وغادرت الأردن هرباً إلى ليبيا حيث اعمل وأقيم لغاية الآن. وتركت بقايا الأسرة المحطمة لتواجه الواقع المأساوي في بغداد وما كان باليد من حيلة. باشرت بالعمل في جامعة الفاتح- قسم الجيوفيزياء في عام 1998 واستقلت من العمل لديهم في عام 2000 لأعمل مع الشركات النفطية، والدوافع كثيرة إنما يأتي في مقدمتها المورد المادي الجيد الذي تمنحه الشركات النفطية مقارنة بمرتب الجامعة المتواضع، وحالة التحدي الدائم في التعامل مع المجهول تحت سطح الأرض واكتشاف مكامن نفطية جديدة، والخبرة التي تتراكم بالعمل الميداني مع شركات ذات خبرات متعددة. عملت في البدء مع شركة إسبانية، ثم انتقلت إلى شركة بريطانية، ثم إلى إيطالية منذ عام 2002 ولحد الآن، ويلوح في الأفق إمكانية استقدامي للعمل في مكاتب الشركة الرئيسة في مدينة ميلان في ايطاليا، ولو تحققت ستكون نقلة نوعية في مسيرتي المهنية.
أما على الصعيد العائلي، فقد تزوجت متأخراً عام 2001 من فتاة عراقية (بغدادية من الكاظمية)، وهي مبرمجة حاسوب وكانت زميلة عمل في وزارة النفط، وعندما خطبتها لم أكن على علم بتفاصيل عائلتها وبالصدفة إكتشف عمي مسلم ميولهم اليسارية عندما زارهم خاطباً ابنتهم لي في عام 2000، إذ لم أكن موجوداً هناك، ومن ثم ظهر بأنهم يعرفون حسن عوينة لأنهم يسكنون في الشارع ذاته الذي كان يسكنه المرحوم ابراهيم الحكاك، فكانت بداية موفقة لإنشاء اسرة جديدة. لأننا أنا وزوجتي لسنا في مقتبل العمر فقد سارعنا إلى إنجاب الاولاد ولنا الآن ثلاثة، الكبرى (زهراء) على اسم والدتي (زهوري) عمرها سنتان وعشرة أشهر وهي نسخة مصغرة من مجموع ما يوجد في صلابة وصلف آل عوينة وآل الحكيم معا، أما الأوسط فهو (أحمد) وأسميته على أسم أعز أصدقائي الذي فارق الحياة في عام 1997 وعمره الآن سنة وسبعة أشهر وهو هاديء الطباع ويذكرني كثيراً بخالي صاحب، وأخيرا جاءت (فرح) وأسميناها تيمناً بالفرح المؤمل في حياة العراقيين وعمرها الآن شهران، وهي نسخة من أختها الكبرى.
أجدني مكرهاً على ختم رسالتي رغم أني أود الاستزادة في الحديث اليكم، على أن رغبتي في الاستزادة من القراءة لكم أكبر وأكبر بكثير، وأملي أن لا يكون ذلك ببعيد.
تحياتي وتحيات زوجتي وتمنياتنا لكم بالصحة الدائمة والموفقية.


الرسائل المتبادلة مع شه مال عادل سليم


إلى الاستاذ العزيز جاسم الحلوائي المحترم
تحية طيبة ...
أما بعد:
سلامي وتحياتي إليك وأتمنى أن تكون بصحة ممتازة وأرجو لك الموفقية والسعادة والصحة الدائمة ..
أستاذي العزيز...أعجبتني كثيراً كتاباتك القيمة عن منظمة راية الشغيلة ..  وعن مواضيع متنوعة اخرى .. ذكريات جميلة ونادرة وعزيزة على قلوبنا جميعاً... ونحن نستذكر أحبائنا ممن فقدناهم قبل الاوان… نعم أولئك الأبطال الذين دفعوا دمائهم الطاهرة ثمن مبادئهم السامية في سبيل الحرية والعدالة الإجتماعية...
لقد كتب عن راية الشغيلة كثيراً وجمعت معلومات جميلة ومنصفة عنها من الرفاق الاعزاء أبو فاروق ود كاظم حبيب والمرحوم أبو جبار وبهاء الدين نوري والمرحوم صالح الحيدري وآخرين...
 كل ما تكتبه مفيد وجميل جداً ونابع من صلب الحدث وموضوعي ورائع فعلاً... نحن بحاجة إلى معرفة  هذه المعلومات والأحداث التاريخية  والتجارب الغنية.. يا أستاذي العزيز أرجو منك المواصلة  ننتظر منك الكثير... الكثير ثم الكثير…
رفيقي العزيز وأنا أقرأ المقالة عن منظمة راية الشغيلة رأيت إسم والدي العزيز الشهيد (عادل سليم) بين اسماء الرفاق...
فعلاً كانت صدفة جميلة... جميلة جداً جداً... حيث ألتقي مع الوالد مرة أخرى... 
أستاذ جاسم الحلوائي المحترم .. أنا اسمي شه مال أحد ابناء الشهيد عادل سليم... مقيم حالياً في الدانمارك.
ومنذ فترة وأنا أجمع ذكريات عن الوالد لغرض تدوينها طبعاً بمساعدة الرفاق والاصدقاء..  أمثال الاعزاء د. كاظم حبيب وأبو فاروق والشاعر أحمد دلزار والفقيد أبو جبار وأبو سرباز وقادر رشيد وآخرين... 
وحسب ما فهمت من تجربتك مع راية الشغيلة أنك تعرف الوالد... لذلك أطلب منك أن تشارك في الكتاب ﺒ (خاطرة أو ذكريات أو مواقف أو أي شيء... طبعاً إذا كانت لديك رغبة!
أرجو أن تستحلب الذاكرة وتعتصرها لأولئك الذين وهبوا أنفسهم للدفاع عن شعبهم وعن قضيتهم العادلة!
ختاما  أنتم... نعم أنتم... يا رفيقي... دافعتم بكل إباء وحماس عن قضيتكم العادلة وأدركتم بفطنتكم ومعرفتكم المعنى الحقيقي للحياة وبذلك إكتسبتم القناعة الكافية لأن تقولوا كلمتكم في كل ما رأيتم و عايشتم... في احلك الظروف لتحقيق الأمل العظيم، أمل الكادحين الحالمين بالعدالة الاجتماعية وإلغاء كل أنواع الإضطهاد والتمييز الطبقي والقومي والديني والمذهبي... أتمنى لكم كل النجاح والموفقية والصحة الدائمة...
ولكم أحر التحايا الرفاقية... والمواصلة.

المخلص لكم دوماً.
شه مال عادل سليم                 
2 حزيران 2005
كوبنهاكن.

عزيزي شه مال
تحيات حارة وتمنياتي لك بالصحة والنجاح.
أشكرك على رسالتك الكريمة وثنائك الجميل. منذ أن قرأت رسالتك البارحة وأنا أعصر دماغي علني أتذكر لقاءً أوحديثاً مباشراً مع الوالد العزيز، ولكن دون جدوى. لقد بقيت معرفتنا الواحد لللآخر، من بعيد لبعيد. ولكن بحكم طبيعة مهمتي في سكرتارية اللجنة المركزية، فقد كانت تتجمع وتمر علينا معلومات عن الكادر الحزبي. وما تختزنه ذاكرتي عنه سأقوله لك، وبلا مجاملة.
كان عادل سليم صادقاً وجريئاً وباسلاً ونزيهاً ويتمتع بمستوى فكري وسياسي وأيضاً ثقافي جيد.
بإمكانك أن تفخر به فقد كان رجلاً حقيقياً خسره الحزب الشيوعي العراقي والشعب العراقي وهو في عز عطائه ونضوجه. عزاؤنا جميعاً أنه رحل عنا وهو مرفوع الرأس ومنسجم مع نفسه.
مع تقديري وإعتزازي
المخلص جاسم الحلوائي
3 حزيران 2005

***

اهداء إلى الرفيق العزبز جاسم الحلوائي المحترم

إلى الرفيق العزيز جاسم الحلوائي المحترم .....
تحية رفاقية حارة ....
اقدم لكم باقة من النرجس الجبلي وبالتحديد من أعالي قمة جبل الجودي الذي استوت عليه سفينة نوح ومنه إستعاد الانسان جذوة الحياة بعد الخراب و الطوفان.. أرجو لكم دوام الصحة والسعادة وأتمنى لكم ولعملك المثمر القيم كل النجاح...
تسلمت رسالتكم الرقيقة والقيمة وأشكر شعوركم الرفاقي نحوي، أملي أن أكون محط ثقتكم دوماً...
نعم يا رفيقي فانا أستغل وقتي إستغلالاً جيداً و مفيداً... أتعلم ثم أتعلم وأتعلم أيضاً،لأنه كما يقول المثل: لا حد للامل ولا نهاية للعمل...
أنا فخور بكتاباتكم القيمة وأتشوق للاطلاع على كتابكم الثمين... أتابع مقالاتك وأستفيد منها جداً... أرسل لك الرسالة مرة أخرى صححت بعض الاخطاء الناتجة عن التسرع عسى أن تكون مفيدة... بصراحة فكرة جيدة وجديدة أن تنشر الرسائل في كتاب ذكرياتك... وصلتني رسالتك الجوابية وسوف أنشرها في كتابي مع رسائل اخرى.
أكرر ما قاله أوسكار روميرو مطران السلفادور:
ـ  نحن الذين لنا صوت فلنمثل به من ليس له صوت.
ختاماً أتمنى لك العمر المديد والصحة والسعادة والمواصلة .. نفتخر ونتباهى بكم وبكتاباتكم الثمينة...
تفضلوا بقبول فائق حبي و تقديري...
المخلص لكم دوماً
شه مال عادل سليم
كوبنهاكن
2006-02-17

رسالة أم ظفر وجوابي عليها

العزيز أبو شروق
تحية طيبة، آمل أن تكونوا بصحة جيدة ومزاج رائق.
لقد قرأت جميع مقالاتك في الإنترنيت وقد أعجبني إسلوبك الخالي من الرتوش الزائدة. لفت إنتباهي تسجيل ذكرياتك عن العديد من الرفاق الذين التقيتهم في طريق النضال الطويل والشاق من أجل حرية وطننا وسعادة شعبنا. ولأنني أنوي تأليف كتاب عن الدكتور أبو ظفر، رفيقكم في النضال، فأرجو موافاتي بما لديك من ذكريات أو معلومات عنه  سواء في كردستان أو في سوريا.
تمنياتي الصادقة لأم شروق وشروق وسفانه وصفاء.
أم ظفر
20 حزيران 2005
***
كوبنهاكن ـ  2005-06-21
العزيزة أم ظفر
تحيات حارة وتمنياتنا لك بالصحة والموفقية.

شكراً على رسالتك الكريمة وعلى إهتمامك بما أكتب.
لقد إلتقيت بالدكتور (أبو ظفر) مرتين، المرة الأولى في كردستان، والثانية في سوريا عندما كنت برفقته مع أطفالكم وكانت ام شروق معي، وكان اللقاء عابراً. وظل عالقاً بذاكرتنا، أنا وأم شروق، رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على ذلك اللقاء، مبلغ السعادة التي كانت تغمركما، سعادة عاشقين، وليس زوجين، إلتقيا بعد فراق. كان كل شيء يشع بهجة فيك، عيونك، وجهك، ِشعرك، كلامك، وحركاتك، أما هو، كعادة الرجال في كل زمان ومكان، حاول ولكن دون جدوى، إخفاء ذلك.
 اللقاء الأول كان، هو الآخرعابراً، على سفح جبل كردستاني، بعد معركة (بشت آشان) بأيام. كان الرفيق أبو ظفر مع مجموعة صغيرة من الأنصار يهم بمغادرة الموقع، بعد أن أنجز مهمة طبية، عندما إستوقفه الشهيد البطل نزار ناجي يوسف (أبو ليلى) ليعرفنى به. توقف بضعة دقائق وغادرنا. أول ما جلب إنتباهي فيه طوله وقيافته الجميلة ووسامته. وخلفت تلك الدقائق القليلة إنطباعاً ظل عالقا في الذاكرة، رغم مرور هذه الفترة الطويلة. إنه عفوي،لا يتكلف في تصرفه، ذكي وسريع البديهة، وخفيف الظل. عندما غادرنا، تحدث لي أبو ليلى عن جرأته وإقدامه وثقافته ومثابرته وجديته وطموحه، وحبه لزوجته وأطفاله. وكلما سمعت أو قرأت عنه لاحقاً كان يعزز إنطباعي وما سمعته من الشهيد أبو ليلى عنه. بإمكانك يا أم ظفر أن تفتخري وأن يفتخر أبناؤه بالدكتور (أبو ظفر) فقد كان رجلاً حقيقياً خسره الحزب الشيوعي العراقي والشعب العراقي وهو في مقتبل عطائه ونضوجه. عزاؤنا جميعاً إنه رحل عنّا وهو مرفوع الرأس ومنسجماً مع نفسه. فألف ألف تحية لروحه الزكية.
أم شروق وشروق وسفانه وصفاء يحيونك بحرارة. قبلاتي وقبلات أم شروق للأولاد. مع تقديرنا وإعتزازنا بك.
أبو شروق

الرسائل المتبادلة بيني وبين الدكتور رعد طاهر

الأستاذ الأكرم جاسم الحلوائي
تحية طيبة

تصفحت موقعكم الجميل وقرأت مجموعة من مقالاتكم الشيقة، وكان بينها حديثكم عن مطاردة رجال الامن لكم في مدينة الكوت. وكان بين المنقذين في تلك اللحظة خالتي منيرة شقيقة الشهيد عبد النبي مجيد عباس وأخت الشهيد عبد الأمير رشاد والأستاذ عبد الرزاق رشاد، هذا فضلاً عن ابنة خالي نورية جوزي ولأنني كنت وقتذاك صغيراً، لذا وددت أن تطلعني على تفاصيل وذكريات أخرى عن فترة إختفائك في الكوت لأنني أجمع مثل هذه المعلومات وأختزنها للتاريخ.
علما بأني عاتب عليكم لأنكم لم تحركوا ساكناً حينما راجعتكم في بغداد عام 1974، إبان الحكم على خالي الشهيد عبد النبي بالاعدام، والذي تم تنفيذه ورحل إلى جوار ربه. لكن الغصة ما زالت بحلقنا ولا نطلب سوى معرفة الحقائق إن وجدت فللشهداء حق علينا وعليكم.. ومعذرة إن كنت قد أثرت موضوعا مضى عليه أكثر من ربع قرن.
تقبل محبتي واعتزازي وأتمنى أن أحظى برسالة منك.. ودمتم.
د. رعد طاهر كوران – الكوت
2 آذار 2006

***
كوبنهاكن ـ 2 آذار 2006
عزيزي الدكتور رعد
تحية طيبة

شكراً جزيلاً على رسالتك اللطيفة وعلى قراءتك لما أكتب من ذكريات.
في الحقيقة لا أعرف ماهية التفاصيل التي تحتاجها. لقد كتبت كلما هو جدير بالمعرفة وتذكرته أثناء إختفائي في الكوت، مع ذلك، إذا كانت لديك أسئلة محددة يمكنك توجيهها لي فسأجيب عليها بكل رحابة صدر، إن أسعفتني الذاكرة. ولا أظن باننا نعرف أكثر مما تعرفه فيما يتعلق الأمر بالشهيد عبد النبي فزياراتكم له في السجن كانت منتظمة، كما عرفت ذلك من خالتك منيرة.
عتابك أفهمه بخصوص الشهيد عبد النبي، ولكن السؤال هو هل فعلاً كان بمقدور الحزب أن يحرك ساكنا ولم يفعل؟ أقولها للتاريخ، بأني أشك في ذلك. وإليك هذا المثل لكي أضعك في أجواء تلك الفترة.
في الوقت الذي ألقي القبض فيه على الشهيد عبد النبي عام 1971 ألقي القبض على الشهيد جواد عطية نسيبي (شقيق زوجتي) وكان جواد أيضاً مع القيادة المركزية، شأنه شأن الشهيد عبد النبي، ولكنه تركهم منذ عام 1979. وبعد مطالبة الحزب وإلحاحه لمعرفة مصير رفاقه المعتقلين، بعد إقامة الجبهة مع البعث، سلم الأخير قائمة للحزب عام 1973 تحوي أسماء مجموعة من الرفاق الذين إستشهدوا تحت التعذيب في عهد المجرم ناظم كزار (كنت خارج العراق آنذاك) وأبلغ الحزب زوجتي أم شروق بإستشهاد أخيها، وقبره غير معروف لحد الآن.
عزاؤنا هو أن شهداءنا غادرونا دون أن يطأطئوا رؤوسهم لأعتى نظام دكتاتوري عرفه وطننا في تاريخه الحديث. وفي نفس الوقت، أن نشاهد الدكتاتور صدام حسين المجرم في قفص الإتهام ذليلاً لتقتص منه العدالة، بعد أن أصبح مصيره ومصير نظامه في مزبلة التاريخ.
مع تقديري وإعتزازي.
المخلص جاسم الحلوائي (أبو شروق).

***
الأستاذ الأكرم جاسم الحلوائي
محبتي وتقديري

أشكرك جداً على إجابتك الرقيقة الواضحة. لم أكن أبتغي إثارة ما مضى أو تقليب المواجع، فالأمر ليس سوى حالة استذكار مررت بها وأنا أقرأ ذكرياتك عن الكوت.
في عام 1974 زرت الشهيد عبد النبي في سجن أبي غريب ـ الأحكام الثقيلة الانفرادي- وكان معه من جملة المحكومين بالاعدام ألشهيد ظافر النهر وآخر من قياديي الحزب الديمقراطي الكوردستاني كان مرافقاً للملا مصطفى البارزاني يكنى بأبي خالد، رحمهم الله جميعاً، فضلاً عن عبد العزيز العقيلي وآخرين.. وقد تحدثت معهم طوال فترة الزيارة، وأخبرت خالي الشهيد بأن زوجته وابن أخيه رهن الاعتقال في سجن الفضيلية.
وقبل المغادرة كتب الشهيد عبد النبي رسالة صغيرة موجهة إلى جنابكم الكريم يطلب فيها التدخل وإثارة الضجة كي يؤجل تنفيذ حكم الاعدام، ودسها في  حذائي حذراً من ازلام النظام في السجن. وطلب من الشهيد (أبو خالد) ضمي إلى اسرته عند الخروج، لأن رجال الأمن طلبوا مني مراجعة الاستعلامات قبل المغادرة، إلا أن الشهيد طلب مني عدم مراجعة الإستعلامات، والخروج مع أسرة الشهيد أبي خالد. وفعلاً تمكنت من الخروج ومعي الرسالة وأوصلتها إلى جنابكم الكريم في المقر في بغداد ثم عدت إلى الكوت.
وكان رحمه الله  قد أوصاني بالاهتمام بأسرتي ودراستي وعدم الإنجراف خلف العواطف وقال بالحرف الواحد:
ـ لقد سرنا بطريق نعرف سلفاً أن نهايته قد تكون الموت على يد الجلادين. ونحن بأنتظار تنفيذ الحكم الذي سنرفع به رؤوسكم عالياً لأننا لم  نطأطئ رؤسنا للجلادين.. إلى أن كانت الزيارة القادمة إلى سجن أبي غريب يوم تنفيذ حكم الإعدام بالشهيد. وإلى رسالة قادمة أتمنى لك كل خير وموفقية.
أخوكم
الدكتور رعد طاهر كوران.
الكوت 3 آذار 2006

رسالتي وجواب بسعاد محمد حسن عيدان

العزيزة بسعاد
تحية طيبة وتمنيات بالصحة والسعادة والنجاح.

إنني أحد رفاق والدك الرفيق الشجاع محمد حسن عيدان. لقد ورد إسمه في أحدى حلقات المسلسلات التي نشرتها على المواقع الألكترونية والتي تحوي ذكرياتي، وتحديدا في الحلقة الرابعة من مسلسل القمع الوحشي.
يوم امس حصلت على صوررة للوالد ومقال عنه للرفيق عادل حبه، ولاحظت أن هناك بعض الإختلاف في روايتي ورواية عادل، وخاصة في كيفية إعتقال الوالد ومصيره. أرسل لك الروايتين وأرجو منك أن تكتبي لي ما سمعت منه مباشرة، عن متى  وكيف جرى إعتقاله ومن كان معه، و أساليب التعذيب التي تعرض لها. وما هي المعلومات التي كان جلاوزة الأمن يطلبونها منه والرفاق الذين إلتقاهم خلال الأعتقال، وكيفية إطلاق سراحه ومتى، وتاريخ وفاته وكيف؟... وأين؟... وأية معلومة أخرى ترغبين بإطلاعي عليها. علما بأني بصدد نشر ذكرياتي في كتاب وستجد صورة الوالد موقعها الملائم فيه.
وبمناسبة عيد نوروز أهنئك وأهنئ جميع اخواتك واخيك وأهديكم باقة ورد.
أرجو تزويدي برقم تلفونك وهذا رقم تلفوني ...
مع إعتزازي
المخلص جاسم الحلوائي
2006-03-22

***
العم العزيز ابا شروق المحترم

سررت جدا، انا وعائلتي، بمكالمتك التلفونيه، ومن بعد برسالتك. انني اتوجه بالشكر لك ولكل الرفاق الذين يكرسون الكثير من الوقت والجهد لتوثيق المسيره النضاليه للحزب من خلال رفاق ابطال وهبوا حياتهم من اجل الحزب والوطن. لقد كان المرحوم والدي واحد من هؤلاء الجنود المجهولين الذين كان هاجسهم اليومي وغذائهم الروحى مثل الحزب واهدافه النبيله في سبيل السمو بمقام الانسان بصفته اغلى واثمن راسمال، هذه المثل التي وهب  والدي حياته من اجلها.
انني بقدر ما ينتابني الحزن والاسى على فقدان هذا الرفيق المناضل والاب الحنون، الا انني في نفس الوقت  فخورة جدا به وبمسيرته النضاليه وبشجاعته و رباطة جأشه.
وأما بخصوص كيفيه أعتقاله والسبب الحقيقي لوفاته، ففي الحقيقه أنني قد تركت العراق في منتصف السبعينات في بعثه دراسيه الى الاتحاد السوفييتي. وبعد بدء الهجمه البعثيه الشرسه على الحزب ورفاقه في عام ،1977 انقطعت عنى اخبار الاهل. حتى عام 1979 حيث فوجئت من خلال قرائتى لاحد اعداد جريده طريق الشعب بأنه قد تم القاء القبض على الوالد ومعه محمد كريم فتح الله وسلام الناصري. وبعد ذلك لم اسمع اي  شيئ عن مصيره حتى منتصف الثمانينات، حيث كنا أنا وعائلتى في الجزائر عندما اخبرت بنبأ وفاته.
ولكن وبعد سقوط الصنم، وعند زيارتى الاولى للعراق بعد حوالى   30 عام من الغربه عرفت من اخي ثائر ومن اخواتي بأن الوالد رحمه الله، بعد اعتقاله عام 1979 وبعد تعرضه لتعذيب وحشى دام اكثر من خمسين يوم، تم نقله الى احدى المستشفيات وهو في حالة يرثى لها بسبب تعرضه الى اقسى انواع التعذيب البعثى الفاشي. وبعد فتره من مكوثه فى المستشفى، عجز الطب والاطباء عن علاجه وايقاف التدهور المستمر في وضعه الصحى. وهكذا كفت السلطات الفاشيه عن التعذيب بعد ان يأست من ان تنال من صموده البطولى، وبعد ان تلقى جرعة من مادة الثاليوم كإنعكاس  لحقدهم الدفين ضده.
وكما يتذكر اخي واخواتي فقد اصبح أبو ثائر، ذلك الجبل الشامخ، جسداً  هائماً وهزيلاً في ايامه وشهوره  الاخيره بحيث لم يعد بمستطاعه الخروج من باب المنزل. وهكذا وفي منتصف الثمانينيات ذبلت الهامه الشامخه وفي عمر لم يتجاوز الستين. كانت كل ايامه ولياليه اسطوره من العطاء ونكران الذات من اجل الحزب ورسالته فى سبيل بناء عراق حر ديمقراطى سعيد.
ايها العزيز ابا شروق هي ذي بعض المعلومات البسيطه التي استطيع ان اضعها بين يديك لكى تكمل بها صفحات مؤلفك الذي يتطرق الى شذرات من حياة الجنود المجهولين الذين واجهوا الموت واقدامهم مغروسه فى تربه العراق الطاهره ورؤسهم تشق عباب السماء كبرياءً وفخرا بمثلهم وقيمهم النبيله.

مع تحياتى لك وللعائله الكريمه
وتمنياتى بوافر الصحه والسعاده
وتقبلوا  تحيات عائلتى الصغيره هنا في السويد
وكذلك اخي واخواتى فى العراق
بسعاد محمد حسن عيدان[/b][/size][/font]

54
نبذة مختصرة عن مدينة كربلاء




جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

لامني بعض الأصدقاء على ماكتبته ونشرته في ذكرياتي عندما تطرقت الى مدينة كربلاء لإيجازه الشديد، في حين إن المدينة مسقط رأسي ومحيط نشأتي وتفتح فكري والساحة الأولى لكفاحي الوطني والديمقراطي. وتلافيا لذلك النقص كتبت هذا النص إعترافا مني بصواب نقدهم وعرفاناً مني لمدينة أحببتها وتعلمت منها وفيها الكثير. وسيكون هذا النص بديلا عن ذلك الإيجاز في الكتاب الذي سيحوي ذكرياتي. وآثرت نشره الآن لإستلامي قريبا رسالة تتضمن عتابا من أصدقائي في مدينة كربلاء بالذات حول الموضوع، وأرجو ان يعتبر أصدقائي في كربلاء نشرالنص بمثابة هدية وتحية لهم.   

تقع مدينة كربلاء على بعد 105 كم إلى الجنوب الغربي من العاصمة بغداد، على حافة الصحراء في غرب الفرات وعلى الجهة اليسرى لجدول الحسينية.  وتحدها من الشمال محافظة الانبار ومن الجنوب محافظة النجف ومن الشرق محافظة بابل وقسم من محافظة بغداد. يعود تاريخ المدينة إلى العهد البابلي، وكانت هذه المنطقة مقبرة للمسيحيين قبل الفتح الإسلامي. ويرى بعض الباحثين إن كلمة كربلاء تعني (قرب الإله)، وهي كلمة أصلها من اللغة البابلية القديمة. ويرى البعض الآخر إن لفظ كربلاء مركب من الكلمتين الآشوريتين (كرب) أي حرم، و(أيل) أي الله، ومعناهما (حرم الله). وهناك تفسيرات أخرى لكلمة كربلاء جاءت بعد ظهور الإسلام وتوحي الى واقعة الطف وهي لا أساس لها من الصحة، لأن الموقع وإسمه موجودان قبل ذلك. ومن هذه التفسيرات الرأي القائل بأن كلمة كربلاء فارسية المصدر مركبة من كلمتين هما (كار) أي عمل و(بالا) أي العالي، فيكون معناهما (العمل العالي). او إن الكلمة تركيب للكلمتين العربيتين (كرب) و(بلاء).

يعود تاريخ إعادة  بناء المدينة في العهد الإسلامي الى اليوم الثاني من واقعة الطف أي  في 12 محرم عام 61 هـ  10 تشرين الأول 680 م، حيث دفن بنو أسد رفات الإمام الحسين  وصحبه (ع). وتعرضت المدينة ومراقد الأئمة فيها الى الإهمال والدمار والنكبات وإعيد إعمارها مرارا عبر التاريخ.  وفي أوائل القرن التاسع زار احد ملوك الهند كربلاء وبنى فيها أسواقا جميلة وبيوتا، اسكنها بعض من نكبوا، وبنى سورا منيعا للبلدة. وبعد الحرب العالمية الأولى أنشئت المباني العصرية والشوارع العريضة وجففت أراضيها وذلك بإنشاء مبزل لسحب المياه المحيطة بها، وتواصل عمرانها لاحقاً. وتحيط بمدينة كربلاء المقدسة عدد من الأماكن الأثرية الشهيرة مثل: حصن الاخيضر، قلعة الهندي، خان العطيشي.

تبلغ مساحة المدينة حوالي 53000 كم مربعا وأرضها رخوة نقية (منقاة من الحصى والدغل) تحيط بها البساتين الكثيفة ويسقيها ماء الفرات.ومن أشهر محلات المدينة القديمة هي: باب السلالمة، باب الطاق، باب بغداد، باب الخان،  المخيم، باب النجف، باب طويريج، العباسية الشرقية والغربية. ومن أشهر شوارعها، شارع الإمام علي وشارع العباس وشارع علي الأكبر ... ومن أشهر أسواقها، سوق العجم ، وتقع في هذا السوق أهم محلات الصاغة والأقمشة الجيدة وكان يقع فيه محل أحسن خياط رجالي ـ نسائي إسمه حميد الخياط. وسوق العرب، حيث توجد فيه الأقمشة والخياطون من الدرجة الثانية وزبائنه عادة فلاحين وبدو رحل، والأخيرين يشترون إضافة الى قماش الخام، معاطف الفرو المصنوعة من جلود الأغنام. وسوق باب القبلة الذي يزخر بمختلف أنواع الهدايا. وعند زيارتي لكربلاء في نهاية عام 2003 لم أتبين ملامح الشوارع والأسواق المذكورة جراء التوسع الذي جرى عليها.

إن بساتين كربلاء عامرة بالنخيل والأشجار المثمرة التي تنتج مختلف أنواع الفواكه والتمور والخضرالتي تسد الحاجة المحلية ويزيد منها للتصدير طازجا الى البصرة والنجف أو تصنع وتصدرالى بغداد من معمل تعليب كربلاء(250 عامل) أو المعامل الصغيرة التي تنتج الدبس والراشي والحلوى والخل وماء الورد وماء الرمان وسواها. وفي المدينة معمل نسيج(100 عامل) وبجوارها عدد من معامل الطابوق يعمل فيها حوالي 500 عامل . وهناك عدد من ورش السباكة في خان أبو الدهن ، حيث يقع محلنا، تصنع أشياء متنوعة وتصدرها الى بغداد مثل قبضات الأبواب ورؤوس الطباخات والهاونات والأنابيب.  والغالبية الساحقة من سكان المدينة يمارسون الحرف اليدوية أو يعملون في دكاكين أو ورش صغيرة للحدادة والسمكرة والنسيج والدباغة والأحذية وعدة الحمير(جلال المطي)  وهناك محلات تعتمد على العمل المنزلي لصنع مختلف الهدايا البسيطة كالترب والمسابح والطاقيات و بعض الملابس وصور الأئمة و...الخ. وهناك فئة تقدم الخدمات للزوار وتحصل على النذور والهدايا المختلفة فضلا عن أجور الإقامة وهم السادة المنحدرين من السلالة العلوية.

وهناك بعض البيوتات من الملاكين الكبار مثل آل كمونة و الدده والتي كان أقطابها، عبد الحسين كمونة والسيد علي الدده، يتناوبان على كرسي النيابة في المجالس النيابية المزيفة في العهد الملكي المباد. كانت نسبة الايرانيين المقيمين في المدينة لمجموع السكان كبيرة جدا في بداية القرن العشرين، إلا أنها تقلصت بعد الإحتلال البريطاني للعراق وبعد إقامة الحكم الأهلي فيه حتى وصلت الى 12%. في عام 1957. أما نسبة ذوي الأصول الفارسية من سكان المدينة، فهي  تفوق النسبة المذكورة، في تقديري الخاص.

كربلاء هي إحدى المدن المقدسة، لاسيما لدى أتباع المذهب الشيعي في الدين الأسلامي. ويؤم المدينة الكثيرمن الزوّار من مختلف محافظات العراق، وكذلك من بلدان شتى مثل البحرين، الكويت، المملكة العربية السعودية، لبنان، إيران الهند، باكستان، تركيا، افغانستان و...الخ. كانت المدينة قبل نصف قرن متوسطة الحجم ويقطنها حوالي 80 ألف نسمة (572 الف في عام 2003).. إن المدينة قديمة وكئيبة ( وجدتها أقل كآبة في زيارتي لها بعد سقوط النظام الدكتاتوري، بسبب التوسع الذي حدث بالقرب من الحرمين الشريفين ومحيطهما المباشر) ، حيث لا يوجد فيها سينما ويمنع الإستماع إلى الموسيقى والغناء في محيط صحني الحسين والعباس (ع) على الدوام. في حين تمنع الموسيقى والغناء في كافة أنحاء المدينة خلال شهري محرم وصفر، وكان ذلك مصدر إستياء الشباب. وكانت كثرة الطقوس الدينية ولا معقولية بعضها كالتطبير والتسويط بالسلاسل و...الخ تستفزعقول بعض الشباب وتدفعهم للتفكير حتى بالمسلّمات، وكنت واحدا منهم. وقد تناولت، بالإرتباط مع ذكرياتي المنشورة، مساهمة جماهير كربلاء في إنتفاضتي 1952 و1956 ووضع الحركة الوطنية والديمقراطية فيها في العهد الملكي والسنة الأولى من ثورة تموز في سياق عدد من المواضيع وخاصة  في موضوع "الإصطدام".

 
مشهد من مدينة كربلاء، بعد تحديثها، يحوي مرقدي الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام

 
نهر الحسينية في كربلاء[/b]

55
ذكريات

سنوات بين دمشق وطهران
( 6 )
[/size]


جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
في عام 1985 علمنا أن السلطات الايرانية تروم إستبدال الكارت الأخضر (هوية العراقيين المهجرين) بآخر، بعد التحقيق الدقيق معهم. وقد حصلنا على نموذج للإستمارتين اللتين يجب ملأهما. لاحظنا ان من الصعوبة بمكان إدراج أية معلومات غير صحيحة فيهما. فالمعلومة غير الدقيقة في إحداهن تكشفها الأخرى. وإضافة الى ذلك سيجري تحقيق على انفراد مع كل فرد من العائلة لإكتشاف الكذب. وكان كارتنا الأخضر المزور وسيلتنا الوحيدة، ام شروق وأنا، للإقامة في إيران، كما أشرت الى ذلك سابقا. وعند التداول في الأمر مع الرفيق فلاح توصلنا الى  خطورة إمتثالى وأم شروق أمام تحقيق منفرد عن كيفية تسفيرنا تفصيلا. فقد كان من الضروري أن نتجنب مثل هذا التحقيق. وبعد جهد جهيد تمكنت من الحصول على وثيقة ايرانية مزورة تؤهلني للإقامة في إيران، وابطلوا إسمي على الكارت الأخضر، فتحررت من متطلبات التبديل، وبقي إسم أم شروق على الكارت. وقد علمنا إنه من الممكن أن تحصل أم شروق بسهولة على كارت أخضر جديد مستقل بالإستناد الى القديم الذي يحمل اسمها فقط ، على أن تقدم طلبا بذلك لدائرة النفوس وأن أرافقها مع وثيقتي الجديدة. وبهذه الطريقة نتخلص من الوثيقة القديمة التي تحمل إسمي. كنا نخطط لذهاب أم شروق لوحدها للتحقيق لإستبدال هويتها الخضراء لصعوبة تدبير هوية ايرانية مزورة لها.
كانت أم شروق تروم الذهاب الى السوق لشراء بعض الهدايا لأبنائنا فقد كانت تنوي السفر الى دمشق بعد ثلاثة أيام. عندما رجوتها مرافقتي لإنجاز معاملة الهوية أولا والذهاب الى السوق لاحقاً، وذلك في يوم 24. آب 1985. توجهنا الى دائرة النفوس وقدمنا الطلب، فتعرضنا الى تحقيق دقيق وإتسمت إجاباتنا بالارتجالية . فعندما سؤلنا عن أسباب طلب هوية جديدة في الوقت الذي تتمكن  أم شروق إستخدام القديمة. أجبت بأن هناك مشاكل بيننا ونفكر بالطلاق. وعند الإستفسار من أم شروق أين تقيم، أجابت بأنها تقيم لدى معارف عراقيين وإسم رب العائلة محمد جاسم!  وأعطت عنوانا وهميا. وكنت مترجما لها خلال وجودنا في هذه الدائرة. دارت المعاملة من الطابق الأرضي الى الطابق الثالث دورة مكوكية ، وأنا أصعد وأنزل الدرجات بسرعة واداري قلقي. وأخيرا إستقرت المعاملة لدى المدير في الطابق الثالث. تصفح المدير المعاملة وأعاد ذلك أكثرمن مرة، ونحن نشاهده من خلال باب مكتبه المفتوح، فهمست بإذن أم شروق:
ـ يبدو بأنه لم يصدق إدعاءاتنا، ومن الضروري أن نظهر أمامه كزوجين على وشك الطلاق.
واخيرا طلبنا المدير الذي أعاد التحقيق معنا وأعطينا نفس الأجوبة السابقة. وقع المعاملة وحولها الى الطابق الأرضي، فتنفسنا الصعداء. صرفوا، في الطابق الأرضي، هوية جديدة لأم شروق وحولت المعاملة للمدير في الطابق الثالث لكي يوقعها. شعرت ببعض الألم في صدري وضيق في تنفسي. أخبرت أم شروق بأنني تعبان ولم أتمكن من أن أتسلق السلالم حتى الطابق الثالث مرة أخرى، وطلبت منها الذهاب وحدها خاصة وإن الأمر لايحتاج الى كلام، وإنه مجرد توقيع. أنجزت المعاملة وحصلت أم شروق على الهوية. وعندما أصبحنا في الشارع العام قالت لي أم شروق:
ـ واخيرا صارت عندي هوية.
ـ أخشى أن يكون ثمنها غاليا. قلت ذلك من شدة الألم الذي كنت أعانيه في صدري، ليس إلا.
أخذ الألم يشتد في صدري، وصرت أنحني ونحن نسير نحو الشارع العام لإستئجار تكسي  يوصلنا الى البيت. عند وصولنا الشارع العام لم أتمكن من الوقوف فطلبت الإستراحة قليلا وجلست على الرصيف. أخذ الألم يزداد وأصبح ساحقا في عظم القص. لم نحصل على تكسي. إقترحت على أم شروق الذهاب الى بيت قريب إلينا يعود لصديق عراقي  للإستراحة أولا، ومن ثم الذهاب الى البيت. وافقت أم شروق على مضض بدافع تجنيب الآخرين المضايقة. عندما وصلت بيت الصديق، إستقبلتنا زوجته الفاضلة أم وصال. تناولت قرص اسبرين وإضطجعت على فراش مفروش على الأرض. أم وصال لديها هواية متابعة الشؤون الطبية والأمراض في المجلات والصحف، ويبدو بأنها كانت قلقة، لذلك عادت الي بعد فترة وجيزة وإستفسرت عن حالتي فأخبرتها بأن الألم أخذ ينتشر في كتفي وعضدي الأيسر أيضا. فإقترحت علينا الذهاب الى المستشفى فلم نؤيد ذلك. تجاهلت أم وصال تحفظنا وطلبت تكسي بالتلفون. نوينا أن نذهب بالتكسي الى البيت بدلا من المستشفى لجهلنا وعدم معرفتنا بمخاطر ما أعاني منه. عندما حاولت أن أنهض وأتوجه الى التكسي تعذر علي ذلك بدون مساعدة أم شروق وأم وصال. عند ذاك فقط  إقتنعنا بالذهاب الى المستشفى . وما أن فحصوني في المستشى ( تهران كلينك) حتى شخصوا السبب وهو القلب. بعد فترة وجيزة جاء من يبشرني بوجود سرير لي في العناية الفائقة. [1]  وكان سريرا مؤقتا، لحين إخلاء سرير بعد فترة وجيزة، وضعوه في الصالة الصغيرة أمام الباب وأتاح ذلك الوضع إمكانية مشاهدتي من وراء الباب، وكانت أم شروق هناك.
كنت فاقدأ لوعيي تقريبا. شعرت بأن حياتي قد إنتهت بدون أدنى ريب. وما أن خطرت هذه الفكرة ببالي حتى مرت في ذاكرتي سنوات حياتي كشريط سريع ومتسلسل . وعندما إنتهى الشريط كنت متراضيا مع روحي ومت!! كم من الوقت إستغرق سيرالشريط ، هذا ما يصعب علي تحديده ولكن شعرت بأن الأمر لم يكن يعدو أكثر من لحظات أوربما ثواني وليس أكثر من ذلك. ولم أشاهد أي نور في نهاية نفق في اللحظات الأخيرة من حياتي ولم التق بوالدي أو باي من أقربائي الموتى أو بعزرائيل أو الأولياء الصالحين كما يروي البعض ممن مر بنفس الحالة. 
ويبدو بان هناك نوع من التناقض بين عدم التأسف لمفارقة الحياة وبين حب الإنسان لها من خلال عنايته الكبيرة بصحته وتجنبه المخاطر غير المبررة التي تحيق به ... ولكن يبدو أن هذا التناقض ظاهري، فالذي يعتقد بأن الإنسان، كأي ظاهرة بيولوجية أخرى، هو الآخر يولد وينمو ويموت، سوف لن يأسف في اللحظات الأخيرة على مفارقته الحياة، عندما يصبح الموت أمرا واقعا. فلا غرو أن نجد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، الذي عرف من أطبائه موعد وفاته تحديدا، يقطف الزهور التي تزين نعشه عشية وفاته من حديقة قصر الإليزية الغنية بأجود أنواع الزهور.
ولا أجدني بحاجة لسرد كل ما ورد في الشريط الذي ذكرته فقد سجلت جُل ذلك في ذكرياتي التي نشرتها. كان الشريط يسير بوتيرة واحدة وعندما وصل في لحظاته الأخيرة، توقف هنيهة عند العائلة الصغيرة المتكونة من خمسة أشخاص. فكرت بمصير أبنائي  الثلاثة وشعرت بالإطمئنان عليهم، فهم يدرسون وبإمكانهم أن يكملوا مشوارهم. وفكرت بمصير أم شروق وشعرت ببعض القلق لأني لم أوفر لها شخصيا ما يضمن مستقبلها. وسرعان ما طمأنت نفسي بمساعدة الحزب لها، وثقتي بها بأنها ستتجاوز الصعاب التي ستواجهها بصبرها وحسن تدبيرها وخصالها الحميدة الأخرى. وتوقفت عند نفسي فوجدتها راضية، فانا أموت في مكان جئت اليه بقرار من الحزب الذي يجسد أمانيي الوطنية والإنسانية، فمت قرير العين بهدوء غير نادم على أي شيء وغير آسف على مفارقتي الحياة والى الأبد!!
سأعطي الكلام لأم شروق لتروي ما شاهدته.
" كنا عدداً من النساء نقف خلف الباب وننظر من خلال زجاج غرفة العناية الفائقة وكنا نشاهدك ونشاهد تخطيط قلبك على الشاشة، فجأة نفخت نفخة قوية ورميت يديك الى الوراء وأخذ تخطيط القلب يرتجف وتحول الى ما يشبه الخط المستقيم. في هذه اللحظة صاحت إحدى النسوة في  داخل الصالة (مرد)؛ أي مات، فجلست على الأرض وضربت الأرض ولطمت وجهي وقلت:
ـ ماذا سأقول لأبنائه الثلاثة؟
وإذا بإحداهن تقول لي: 
ـ إنهضي قلبه يعمل.
وعندما نهضت شاهدت رئيسة الممرضات في القسم تضغط على صدرك، ثم عاد تخطيط القلب، بعد قليل، الى الأرتجاف والسير بإستقامة تقريبا. فجلست ولم أقم هذه المرة، عندما نبهوني بأن القلب أخذ يعمل. شعرت بدخول عدد من الأشخاص الى غرفة الأنعاش. بعد حوالي عشرة دقائق خرج أحد الأطباء فسألته عن حالتك فقال:
ـ (برﮔشت) رجع.
وبعد حوالي الساعة سمحوا لي بالدخول عليك. فأزاحوا  شيئا يشبه الغليون من فمك. تكلمت معي ولكن بصعوبة وإستفسرت مني عما جرى لك، فهونت عليك الأمر...  فقلت لي:
ـ كنت أشعر وكأنما أغمى علي."
فحصني في صباح اليوم التالي أحد الأطباء وإستفسرت منه عما أصابني فأجاب:
ـ سكتة قلبية.
بعد ذهاب الطبيب، وكنت غافيا عندما أحسست بأن أحد ما يمسد بيده على ذراعي، وحين فتحت عيني وجدت فتاتين جميلتين على رأسي وإبتسامة حلوة على شفاههن، وإبتعدتاعني بسرعة ما أن نظرت اليهن بعد ان سمعتهن تقولان:
ـ الله يحبك.
ظهر إن الفتاتين كن ممن شاهد السكتة القلبية التي تعرضت لها، ولديهن مريضة في نفس الصالة. وعرفت لاحقا بإن الايرانيين يتبركون بالأشخاص الذين ينجون من السكتة القلبية، ويعتبرون الناجي موضع رعاية الهية خاصة. وصادفت الفتاتين بعد ذلك مرتين على الأقل تنظران من بعيد الى الغرفة التي كنت أقيم فيها، بعد خروجي من غرفة الإنعاش، وتبتعدان حالما تشاهداني. وفي اطار مباركة الايرانيين هناك حادث طريف يستحق أن نستبق به الأحداث قليلا.
أرسلني طبيبي الى التخطيط في أول وآخر مراجعة لي بعد خروجي من المستشفى ببضعة أسابيع. وكان يرافقني الرفيق أبو فاطمة. عند دخولنا غرفة تخطيط القلب إستقبلتنا ممرضة شابة، رشيقة، متوسطة الجمال. وما أن إستلمت رسالة الإحالة ، حتى إستفسرت من أبي فاطمة:
ـ  وانت ماذا  تريد؟
ـ أنا مترجم.
ـ تفضل أخرج من الغرفة فإنه لا يحتاج مترجم.
ـ أنا صديقه ومرافقه أيضا.
ـ تخطيط القلب لا يحتاج الى مرافق. تفضل إنتظره في الخارج.
إ ستغربنا أشد الإستغراب من طلبها. رجوت أبا فاطمة أن ينتظرني خارج الصالة. لم يخطر ببالي في حينها سوى إنها تريد أن تتبرك بي بطريقة ما.
توجهت هي الى إحدى زوايا الصالة لتكتب إسمي  في السجل وتوجهت أنا الى مصطبة التخطيط، وكلي شوق لمعرفة ما تبغيه. بعد برهة وقفت أمامي وقالت:
ـ أنا واحدة من الذين كانوأ في صالة الإنعاش:
ـ يعني إنك واحدة من الذين أنقذوا حياتي، اليس كذلك؟
لا... لا... هذا كثير.. أنا واحدة من اللواتي ساهمن. كنا أربعة نمسك بك وأنت تنتفض وترمينا أربعتنا بعيدا عنك. لقد أعطوك ثلاث صدمات كهربائية. لم يكن الجهاز عندنا وجلبوه من صالة إنعاش أخرى في الطابق... كان يكفي أن يتوقف المصعد لبضعة دقائق حتى ينتهي كل شيء. إنك محظوظ جدا لإحضار الجهاز في الوقت المناسب, شكرتها وتمنيت لها أجمل الأمنيات.
قلت لأبي فاطمة بعد خروجي من غرفة التخطيط:
ـ يظهر ليس كل الايرانيين يتبركون بالناجي من السكتة القلبية، إنها تثق بجهاز الصدمة الكهربائية أكثر من أي شيء آخر.     
(تهران كلينك) واحدة من أحسن المستشفيات الخاصة في ايران وفيها جميع الإختصاصات وأطباؤها من خريجي البلدان الغربية. ورغم مرور أكثر من ست سنوات على قيام الجمهورية الإسلامية فإن التطرف الإسلامي المعادي لحقوق الإنسان لم يمسها كثيرا. فالأطباء وجميع الموظفين يشدون الأربطة. وغالبيةالمضمدات يرتدين الحجاب بطريقة يضفي جمالا على جمالهن وينسجم مع مكياجهن. النظافة والدقة والنظام تذكرك بمستشفيات البلدان المتحضرة. ولم تكن المستشفى مكلفة بالنسية لنا فالدفع بالعملة المحلية. وكنا نعالج فيها الأنصار في الحالات التي تتطلب ذلك.
لم أوافق على مقترح أم شروق القاضي بتأجيل سفرتها الى الشام لصعوبة التأجيل ولعدم وجود حاجة ماسة لوجودها وانا راقد في المستشفى ، فسافرت بعد ثلاثة أيام من إصابتي. طال رقادي في المستشفى حوالي الاسبوعين. كنت في فترة النقاهة عندما بلغت بإنتقالي من طهران الى الشام. باشرت بمعاملة الجواز. كان سفرنا خارج ايران يتطلب معاملة على جوازنا الصادر من أحد البلدان العربية لبقائنا في ايران مدة  أطول مما هو مسموح به وهي شهر واحد. وهذه المعاملة تمر بدائرة الأجانب (بيكاناكان)، الوثيقة الإرتباط بالمخابرات، للتأكد من حامل الجواز أمنياً. ويتم ذلك بتزكية خطية من أحد الأحزاب الكردية التي تدعي بأن الموما اليه من أنصارها أو كان ضيفا عندها. وعادة ما يرافق ممثل عن تلك الأحزاب صاحب المعاملة، الذي يمثل أمام أحد المسؤولين، ويكون مترجما أيضا. وكانت مثل هذه المعاملات تنجز بسهولة أكثر الأحيان. وتتعرقل أحيانا. وكنت اقلق في كل مرة أضطر فيها للمرور بهذه الدائرة، بعد أن كشف حزب البعث عن وجودي في طهران، وكان الوضع يتطلب التظاهر بعدم المامي باللغة الفارسية. في هذه المرة، وجه المسؤول الايراني فجأة سؤالا مباشراً الي بدلآ من توجيهه الى المرافق المترجم، فلم أجبه وبالتالي لم أقع في الفخ. وأخيرا إنتهت المعاملة، وسلمنا الجواز للرفيق سيد هاشم لكي يؤمن تذكرة سفر الى دمشق.
جاء نسيبي عبد الله، شقيق أم شروق، بإجازة من موقع إعلامنا الأنصاري في كردستان،لمرافقتي والإعتناء بي .وكنا نقيم  في بيت الرفيق أبا فاطمة، عندما زارني الرفيق فلاح ليخبرني، بأن جوازي قد ضاع، ولايعرف سيد هاشم كيف حصل ذلك، فقد كان معه عند مجيئه للبيت ولم يجده صباح اليوم التالي وقد فتشوا غرفته جيدا ولم يجدوه.أزعجني الخبر وكان من الممكن أن تكون وطأته أثقل  لو لا  تمهيدات الرفيق فلاح وتهيئته لي قبل إخباري.
ساعدنا حزب كردي حليف على تدبير جواز مرور (ليسه باس)، وزرت مرة أخرى دائرة الإقامة والسفر وتمت الأمور بدون عراقيل، ووصلت مطار دمشق في أواخر تشرين الثاني عام 1985. لم تسمح لي سلطات المطار بالخروج . ولم تجد محاولات وجهود رفاقنا لحل المشكلة ، بل ولم تجد برقية وزارة الداخلية التي جلبها موظف منها الى المطار. بعد إنقضاء بضعة ساعات على بقائي في المطار جاءني أحد العناصر وأخرجني من كمرك المطار ومن هناك الى قبوه ، حيث كان  اثنان آخران ينتظران. فعصبوا عيني وأصعدوني الى سيارة جيب عسكرية. وعندما إستفسرت عن السبب أجابوني بخشونة:
ـ بعدين تعرف!
أزالوا العصابة عن عيني عندما وصلنا مركزا ، جميع الموظفين فيه يرتدون الملابس المدنية، عرفت لاحقا بأنه أمن المطار. أجرى معي أحد المحققين تحقيقا عن أسباب إستخدامي جواز مرور وكيف ضاع جواز سفري. أجبت على الأسئلة بعد أن أخبرته بأني عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. كان المحقق روتينيا ومؤدبا. أدخلت التوقيف. كان هناك حوالي خمسة أشخاص معي في الغرفة. بعد فترة فتح أحد العناصر الباب ، وسرعان ما قام الآخرون وإستداروا نحو الحائط، بقيت جالسا في مكاني، وتهيئت لخوض معركة معينة، وإذا بعنصر الأمن يتجاهل عدم وقوفي كالآخرين، ويبادر بالقول:
ـ لا لا ... لا ضرورة لقيامك، أنت مريض.
ثم نادى بإسم أحد الموقوفين وقاده الى خارج الغرفة. ولم يستدر الآخرون إلا بعد أن سمعوا صفقة الباب.
بعد يومين جرى معي تحقيق ثانٍ ، وكان واضحا بأن المحقق من جهاز آخر،لأنه أجاب على إستغرابي من تكرار نفس الأسئلة في التحقيق الأول:
ـ هذا التحقيق لا علاقة له بالتحقيق الأول.
كنت مطمئناً بأن الرفاق سيتابعون قضيتي وسيطلق سراحي. في اليوم الرابع من توقيفي نقلوني الى مكان آخر وزجوا بي في موقف، لم أر شبيها له في حياتي. غرفة 3× 7 أو 8 أمتار وليس أكبر من ذلك أبدا، فيها حوالي ستين موقوفاً. يضطجع قسم منهم على الأرض وتتداخل أرجلهم مع الذين يضطجعون في الجهة المقابلة لهم، وقسم يقف بالدور، شققت طريقي بالكاد وجلست في نهاية الغرفة شبه المظلمة. القمل يدبي في كل مكان وتراه على أرجل الموقوفين أو على الأرض والبطانيات، وجو الغرفة خانق جدا. إستفسرت من المحيطين بي عن أسباب إعتقالهم وإعتقال الآخرين، فإتضح لي بأن غالبيتهم موقوفون بسبب عبور الحدود من لبنان أو الأردن الى سوريا أو بالعكس، بشكل غير شرعي. وقضى الكثير منهم شهورا عديدة في الموقف. كنت أفكر بقيمة الإنسان في عالمنا العربي وفي أنظمة تزعق ليلا  ونهارا بالحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان و... وفكرت في  نفسي وكيف سأعيش في هذه الغرفة ... وإذا بالحرس ينادي علي. عندما خرجت من الغرفة وجدت نفس أمام ضابط شرطة كبير بملابسه الرسمية. قدم نفسه ومد يده وصافحني وإعتذر للمضايقة التي تعرضت لها. واليوم فقط عرفوا أين أنا؟ وسيطلق سراحي. ثم قادني الى مكتبه، وجلس في كرسيه وراء المكتب. تحدثنا عن الوضع في ايران. ثم أبدى الإستعداد لمساعدتي ومعالجة  أي شيء أو شخص يزعجني أو يضايقني، والباب مفتوح لي في أي وقت أشاء.  شكرته وتجاهلت تلميحاته ومغرياته... وقلت له:
ـ عندنا ممثل يتصل بكم وعن طريقه سأقدم طلباتي، إن وجدت.
بعد فترة وصلت سيارة من مكتبنا في دمشق وغادرت بواسطتها دائرة المخابرات السورية.
ـ بعد أن حصلت على جواز جديد ، أخبرنا الرفاق في طهران بأنهم وجدوا جوازي الضائع. وتبين إن الرفيق سيد هاشم كان متعباً جدا ودائخ عندما أخفى الجواز في مكان غير إعتيادي حرصا منه عليه. لذلك لم يتذكّر المكان في حينه. وعثر عليه، صدفة، بعد فوات الأوان.
***
لم أتمكن من حضور المؤتمر الوطني الرابع للحزب الذي إنعقد في تشرين الثاني 1985، فقد كنت في دور النقاهة الذي يتطلب ، حسب توصيات الطبيب، أن لا أمشي بدون مرافق ،ويجب أن أرتاح إذا مشيت كيلو متر واحداً، في حين كان الوصول الى مكان المؤتمر في كردستان يتطلب بضع ساعات مشيا على الأقدام في طريق جبلي.
كان إسمي في قائمة المرشحين للجنة المركزية "أبوسمير". ولم يعرفني بهذا الإسم، الذي إستخدمته في ايران فقط، سوى عدد محدود من المؤتمرين ولم أنتخب للجنة المركزية. لاأشك بان ترشيحي بهذا الإسم كان له دور سلبي في عدم إنتخابي ، واليكم دليلي؛ في صيف العام الماضي (2005) جرى حوار بيني وبين الرفيقين داود أمين (ابو نهران) والرفيق عبد المطلب البلجاني (أبو قصي) وكان الإثنان  مندوبين في المؤتمر الرابع، وبحضور الرفيق يونس بولص متي ( أبوسيفان)، واليكم نص الحوار:
ـ أبو نهران: أبو شروق كتاباتك تعكس حيوية وذاكرة جيدة .. لماذا لم ترشح لعضوية اللجنة المركزية في المؤتمر الرابع؟
ـ أبو قصي: صحيح والله، أنا الآخر عندي نفس السؤال؟
ـ أبو شروق: كنت مرشحا وأنتم لم تنتخبوني!
نفى أبو نهران وأبو قصي علمهما بالترشيح وتساءلا:  كيف ومتى حصل ذلك؟
ـ أبوشروق: كنت مرشحا بإسم أبو سمير.
ـ  أبو نهران وأبو قصي: ولماذا أبوسمير، ومن يعرف أبوسمير؟
ـ أبو شروق: علمت بأن الرفيق عزيز محمد قام في المؤتمر وأوضح من هو أبو سمير.
ـ أبونهران: أنا لم أسمع ذلك.
ـ أبو قصي: أنا كنت مرهقا في العمل اليومي ، ولم أكن في القاعة دائما وربما كنت خارجها، عند توضيحات الرفيق عزيز محمد.
ـ أبو شروق لا قيمة كبيرة لمثل هذه التوضيحات في لحظة الإنتخابات. ويضيف "مازحاً" فالدعاية الإنتخابية تكون قد إنتهت.
على أي حال، لقد باتت مثل هذه الأساليب المنافية للديمقراطية، وإفرازاتها غير السليمة في حياة الحزب الداخلية، في طي الماضي بعد المؤتمر الخامس، مؤتمر الديمقراطية والتجديد.
إنتهت
________________________________________
[1] ـ المستشفيات الخاصة في ايران لا تدخل مريضا الى المستشفى مهما كانت حالته خطرة إذا لم يكن لديها سريرا له  في العناية الفائقة. ولا تتحمل مسؤولية تصرف كهذا لو مات المريض على عتبة باب المستشفى. ولكنها تتحمل مسؤولية، إذا أدخلت مريضا الى المستشفى يتطلب وضعه سريرا في العناية الفائقة ولم توفره له. وهذا هو سبب البشارة التي إستغربتها في حينه.        [/b]

56
ذكريات


سنوات بين دمشق وطهران
( 4 )
[/size][/color]
 

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com


هذه الحثالات وكأنها قد احرزت النصر في ساحة الوغى. أن بعض الفتيات يتركن بضعة خصلات أو مقدمة شعرهن مكشوفا ، لإعتقادهن بأن وجوههن تبدو كوجه البومة بدون ذلك، وهذا ما يعرضهن للملاحقة. لقد إستمرت هذه الحملات لسنوات عديدة دون جدوى. فنزوع ألإنسان نحوالجمال من الغرائز الطبيعية. ولذلك نشاهد فشل النظام الجمهوري الإسلامي في القضاء على هذه الظاهرة، بل وأكثر من ذلك فقد توسع تأنق الفتيات ليشمل تحوير الزي الإسلامي ليبدو اليق بالمرأة. وأكبر دليل على فشل النظام هواحياء تلك الحملات المخزية، والمنافية لأبسط حقوق الإنسان، في عهد الرئيس المتعصب والرجعي أحمدي نجاد.
السلطات الايرانية تتربص بنا
مع تطور حركة الأنصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي في بداية ثمانينات القرن الماضي، أصبحت منظمتنا في إيران تكتسب أهمية أكبر وتحولت الى قاعدة خلفية حيوية للحركة، وحلقة وصل هامة بين الداخل والخارج. وكان تحركنا في ايران سريا مغطى بأوراق من الأحزاب الكردية بقدر ما يتعلق الأمر بحركة رفاقنا الأنصار، من قواعدهم وانتقالهم الى طهران وارومية وبالعكس، ولمراجعة دوائر الإقامة والسفر وسواها. وفي لقاءات نادرة جمعت ممثلي قيادة حزبنا، الرفيق يوسف حنا في بداية الثمانينات، ولاحقا هو والفقيد الدكتور رحيم عجينة ، مع قادة الحرس الثوري (الباسدار) بحضور ممثلي أحزاب كردية على الحدود بين كردستان العراق وإيران، اخبر رفاقنا الجانب الإيراني بأننا لا نطلب اية مساعدة منهم أكثر من السماح لنا بمعالجة مرضانا وجرحانا في المستشفيات الإيرانية وغض النظر عن مرور منتسبينا عبر ايران الى كردستا ن العراق. وكان موقفهم دائما هو الوعد بدراسة الطلب ، والذي بقي مجرد وعدا، ورفض الطلب الثاني بذريعة أن لدينا سوريا التي تسمح لنا بالعبور.
كنا حذرين في تحركنا وفي سلوكنا السياسي. لم ندع حصول أي نوع من التشابك التنظيمي أو السياسي مع حزب توده ايران، مكتفين بالعلا قة الرسمية معهم. وعندما تعرضوا للضربة الواسعة التي أشرت اليها قدمنا لهم المساعدة الممكنة دون أن نقوم بدورهم النضالي. فقد إحتضن الحزب العشرات منهم، وكذلك من منظمة فدائيي خلق ـ الأكثرية، كضيوف في قواعد أنصارنا في كردستان العراق لحمايتهم وتقاسم لقمة العيش معهم. كان الرفاق في منظمة طهران، وهم بضع عشرات من المهجرين العراقيين وغالبيتهم من الأكراد الفيلية، يقرأون المطبوعات السرية لحزب توده وسواها من المنظمات المحظورة، ولكن من غير المسموح لهم إيصالها للإيرانيين وفقا لقرار منظمتنا. وعندما كلفنا من قبل قاطع السليمانية بإيصال مطبوع ورسالة مرسلة من التودويين الى عنوان في طهران، ــ كانت قيادة القاطع المذكور تتصل بنا مباشرة لتمشية الأمور الروتينية، لسهولة صلتهم بنا ــ إعتذرنا عن القيام بذلك. وأكدنا لقيادة الحزب على إستعدادنا لتقديم أية مساعدة ممكنة للتودويين على أن لانأخذ دورهم النضالي وأن لايحصل تشابك مع قاعدتهم، ودعمت قيادة الحزب موقفنا هذا. وفعلا، كنا نوصل، عبر قيادة حزبنا، جريدة "مردم"، التي تصلنا الى طهران مطبوعة في الخارج، بكميات محترمة الى قيادة منظمتهم في قواعد الأنصار.
والى جانب الحذر السياسي، كنا حذرين أمنيا، فالنظام الإسلامي أعاد مسؤولين كبار من جهازالأمن السابق ( السافاك) للجهاز الجديد. لم يكن لدينا تلفونات ولا سيارات خاصة، وكان بالإمكان أن يكون لدينا ذلك فطبيعة عملنا تتطلبه، وربما كانت تفيدنا بعض الشيء. ولم يكن لدى قيادة الحزب تحفظ على حيازتنا لها، خاصة بعد أن سمعت من ممثل أحد الأحزاب الحليفة لنا عن حاجتنا للسيارة. مع ذلك لم تغرنا مميزات السيارة والتلفونات وفضلنا الصيانة عليها. لقد تعمدت ذكر هذه التفاصيل لأن البعض يتصور بأن عدم توجيه ضربة لتصفية وجودنا في طهران يعود الى غض نظر ايراني عنا، ومن شأن هذا التصور أن يضيع دروس التجربة. ففي حقيقة الأمر إن الأجهزة الأمنية الإيرانية لم تغض النظر عن أي شيء يمكن أن يوصلها الى المنظمة وأسرارها . فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أعتقلت مراسلنا الرئيسي مع قيادة الحزب الرفيق رحيم الشيخ علي (حيدر فيلي) ، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكردستاني ووزير الأتصالات في حكومة كردستان العراق في الوقت الحاضر، وتعرض لتعذيب بشع وبقي معتقلا أكثر من خمس سنوات، ولولا صموده البطولي لتعرضت المنظمة الى كارثة. واعتقل مراسل آخر وهو الرفيق أبو زكي الذي تعوق عقليا جراء ما تعرض له من تعذيب في المعتقل. وإعتقل مراسل ثالث بين الرضائية والقاعدة. والقي القبض على الفقيد رحيم عجينة وتعرض الى معاملة منافية لأبسط الحقوق التى تنص عليها القوانين الدولية، وبقي سبعة شهور في المعتقل ، قضى 185 يوما منها في زنزانة إنفرادية. وأعتقل كذلك الفقيد أسعد خضر(أبو نجاح) وزوجته أم نجاح في مطار طهران وأحتجزوا شهورا عديدة وعوملوا معاملة لاإنسانية. وأعتقل كذلك الفقيد أنور طه ( ابو عادل ) وهرّبه الرفاق من المعسكر ومن ثم سُفر خارج ايران. وطورد الفقيد عامر عبد الله في طهران من قبل سلطات الأمن، وساعدته ظروف معينة للتخلص منهم. وعندما علمت بأن الباسدار إستفسروا عني في الفندق الذي كنت أقيم فيه في الرضائية، غادرت المدينة فورا ولم أعد أتوقف في المدينة المذكورة في سفراتي من طهران الى قاعدتنا في كردستان.
وكان حزب البعث، بأسلوبه الخاص، يحرض علينا. فقد وزع منشورا يحمل توقيع الحزب الشيوعي العراقي، يحتج فيه على الإضطهاد الذي يعانيه الشيوعيون في ايران ويستنكر إعتقال الرفيق عادل حبه ومطاردة الرفاق جاسم الحلوائي وآخرين في كرج. يوجد في كرج مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكنت مع آخرين نتردد عليه ولم نطارد في يوم ما هناك إطلاقاً. وكانت معلوماتنا تشير بأن هناك قوى إسلامية عراقية متشددة هي الأخرى تحرض علينا، واستفحلت هذه الظاهرة الأخيرة في النصف الثاني من عقد الثمانينات، ولم أكن موجودا في ايران.
في شتاء عام 1982 حاولت السلطات الأمنية إلقاء القبض على الرفيق عزيز محمد الأمين العام للجنة المركزية لحزبنا. كان خالو حاجي ممثل الحزب الإشتراكي الكردستاني (حسك) يتابع معاملة جوازالرفيق عزيز في دائرة السفر والإقامة عندما تعرفت المخابرات على صورة الرفيق عزيز وطلبوا من خالو حاجي، الذي أنكرمعرفته بمكانه، إحضاره فورا تحت تهديد ووعيد شديدين . كان الرفيق عزيز يقيم في شقتنا في طهران عندما زارنا الرفيق فلاح، وهو الرفيق الوحيد الذي يعرف بيتي من بين رفاق منظمة طهران، وأخبرنا بالموضوع وأضاف بأن خالو حاجي خائفا جداً وينتظر رأينا. إتفقنا أن نأخذ منه الجواز ونعفيه من المهمة. في عصر نفس ذلك اليوم وكنا نتجول، الرفيق عزيز وأم شروق وأنا، في شوارع هادئة قريبة لبيتنا، إتصلت بخالو حاجي من تلفون عمومي وبعد التحيات ناولت سماعة التلفون للرفيق عزيز الذي شكره ورفع معنوياته وطمأنه وقال له:
ـ لقد أديت مهمتك ولست مسؤولا عن عدم إنجازها و أرجو أن تعود الى عائلتك، وذلك ردا على أسف خالوحاجي لعدم إنجازه المهمة.
خالو حاجي
خالو حاجي شخصية فريدة من نوعها. كان مسؤولا عن جهاز مخابرات الحزب الديمقراطي الكردستاني (باراستن) في السليمانية في سبعينيات القرن الماضي قبل أن يصبح عضوا في اللجنة المركزية ﻟ (حسك) وممثلهم لدى السلطات الايرانية وبعض أطراف القوى السياسية العراقية. كان يهتم بكسب ثقة الباسدار للإستفادة من ذلك في تمشية مختلف الأمور لحزبهم وحلفائهم في ايران. خالو حاجي رجل متوسط القامة في الإربعينيات من عمره، لديه لحية كثة سوداء، بشوش الوجه وذو طبع مرح. ولم تكن لحيته وحدها دليل على "إسلاميته" أمام الباسدار وإنما لزواجه بإمراتين ، والأمر الأخير كان يشهره دائما أمام الباسدار بمجرد التشكيك بإسلاميته بإعتباره إشتراكيا. كان كريما معنا و بيته في أرومية محطة لنا، وفي نفس الوقت لم تكن قيادة حزبنا تبخل عليه وعلى حزبه بأي مساعدة ممكنة. خالو يكيل المديح والثناء لنا ويميزنا عن الآخرين ويبدي الإستعداد لمساعدتنا بأقصى ما يتمكن عليه. ولا اعرف إن كان مصدر ذلك خبرته أم بتأثير زوجته الثانية المنحازة فكريا وسياسيا لحزبنا، أو لربما الى العاملين معا. انه لا يعرف شئء إسمه مشكلة، فهو "حلال المشاكل". وعندما تواجهه مشكلة أمنية يستلهم خبرة عمله السابقة بالباراستن ويقوم، حسب تصريحه لنا، بالتفكيرفي ما يدور في خلد الخصم لمعرفة خططه، لكي يضع الخطة الملائمة. عندما فاتحته بنيتنا إيصال إذاعة من طهران الى رفاقنا في كردستان، لم يتردد في الموافقة على مساعدتنا بشرط إستلامها خارج المكان الموجودة فيه. اخبرته بأنه سيستلمها من الرفيق فلاح. وبالفعل فقد وصلت الإذاعة سالمة الى الرفاق في كردستان، بعد بضعة أسابيع من أحداث بشت آشان التي تكبدنا فيها خسائر جسيمة بالأرواح والممتلكات، ومن بين تلك الخسائر الإذاعة. وكانت الجديدة أفضل من القديمة. وعندما كنت أقول لخالو حاجي من الضروري التحوط والإنتباه في تعامله مع الباسدار، كان يجيب:
ـ لا تخاف أنا مشتغل بالباراستن.
ولكن خوفي كان في محله. فقد أخبر الباسدار، بعد إعتقال حيدر فيلي، عندما سألوه بهذه الصيغة الخدًاعة:
ـ إن مهمة حيدر فيلي مراسل في الحزب، أليس كذلك؟
ـ نعم. أجابهم خالو حاجي، ظنا منه بان حيدر قد إعترف بذلك.
ـ ولم يتمكن خالو حاجي الإستمرار بذلك الوضع، ففي ليلة ظلماء هاجر هو وعائلته الى لندن في اوائل التسعينات.
أغتيل خالو حاجي في عام 1996 في السليمانية، أثناء الإقتتال بين الأخوة، وإتهم الحزبان الديمقرطي الكردستاني والإتحاد الوطني، أحدهما الآخر، ببيانات عامة بالحادث. وإذا صح إدعاء الطرفان، فإن ذلك يعني بأن خالو حاجي ربما لم يخطأ في قراءة عقلية الحزبين، بل أخطأ في قراءة عقلية ثالثة أو تجاهلها غفلة، وهي، ربما، الباسدار. تحية لروحه وعزاؤنا لعائلته.
نعود الى الرفيق عزيز الذي تعرقل سفره وفقا للخطة المرسومة، وبقي في طهران حوالي الشهرين . وعندما زار وفد من جمهورية اليمن الديمقراطية برئاسة عبد القادر باجمال وزير الصناعة آنذاك ورئيس الوزراء الحالي للجمهورية اليمنية، طهران في أواخر شهر كانون الثاني عام 1983، طلب من علي خامنئي رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية آنذاك بإصطحاب عزيز محمد معه عند مغادرة طهران. ولم يعترض خامنئي على ذلك. وفي ليلة السفر سلمت الرفيق عزيز الى القنصل اليمني والذي كانت تربطني به علاقة منتظمة. وتنفسنا الصعداء عندما علمنا، في اليوم التالي، بأن السفر قد تم بسلام.
طبيعة مهامنا في إيران
كانت هناك في طهران هيئة حزبية يقودها الرفيق فلاح وفي عضويتها الرفاق سيد هاشم وأبو فاطمة وحيدر فيلي، و ثلاثتهم متفرغون ويرتبط بهم عدد صغير من الرفاق المتفرغين ايضاً. وكان هناك مراسلين بيننا وبين الشام لاعلاقة لهم بالهيئة المذكورة. كانت إحدى المهام البارزة التي تقوم بها المنظمة تقديم المساعدة الى الرفاق الذين يصلون من كردستان للعلاج في طهران وذلك بمرافقتهم ومساعدتهم في الترجمة و بتدبير إقامتهم في الفنادق. واستفاد الرفاق من فندق بعينه حيث تمكنوا من بناء علاقات جيدة مع صاحبه. اما بالنسبة للكوادر الحزبية، فقد كانوا يقيمون في بيوت الرفاق أو في غرفة مؤجرة لهذا الغرض. كان الباسدار يتحرى الفنادق أحيانا ويكتفي بالتأكد من حيازة الشخص على ورقة السماح الصادرة من الأحزاب الكردية ومن عدم نفاذها. وفي وقت من الأوقات كانت لدينا أوراق مختومة وموقعة سلفا، نملأها ونستخدمها عند الضرورة. ويتحرى الباسدار أحيانا الحوائج. وعثروا في احدى المرات على صورة كارل ماركس لدى أحد الرفاق، وإكتفوا بتمزيق الصورة والتهجم على الرفيق. وفي أحد الأيام بلغ عدد الرفاق الذين يقيمون بشكل مؤقت في طهران لأسباب مختلفة حوالي خمسين رفيقاً وغالبيتهم للعلاج.
يمكن أن يستشف المرء من حادث تمزيق صورة ماركس بأن الايرانيين كانوا يعرفون بأن هناك شيوعيون يأتون الى طهران للعلاج و لكن كانوايغضون النظر عن ذلك. أما الأمور الأخرى فلم يكن يعرفون بها، فهي بطبيعتها خطيرة وغير قانونية وكنا مضطرين للقيام بها. كانت تحول مبالغ من الخارج الى كردستان وعلينا إيصالها سرا بعشرات الرحلات الخطرة سنويا. وكانت هناك آلية للتعامل مع هذا الموضوع لاتدع مجالا لأي تلاعب. ففي أول زيارة قمت بها الى قيادة الحزب في كردستان، وكنا، للتو، قد أتممنا صفقة. إستفسر مني أحد رفاق اللجنة المركزية عن جانب منها فأجبته... وإذا بالرفيق يشكك بقضية معينة. لقد كان ذلك بمثابة صدمة لي، انا أقول له بأن هذا هو أحسن سعر موجود في السوق لهذه البضاعة، وهو يذكر لي سعراً آخراً. فكرت مليا في الأمر ووجدت من الضروري إتخاذ تدابير من شأنها أن تقيني من أي شك. أخبرت الرفيق عمر علي الشيخ (أبو فاروق) عضو المكتب السياسي، وكان مرجعي الحزبي، بما سمعته وأضفت:
ـ إن أي صفقة لاتتم الآ بقرارنتخذه سوية الرفيق فلاح وأنا، وإن أي تلاعب يتطلب تواطؤاً مع التاجر ومع الرفيق سيد هاشم الذي يعمل معنا ويساعدنا في هذه الأمور. فهل يعقل أن يحصل ذلك؟
ـ لا. أجاب عمر وأضاف: لا تهتم لكلام الرفيق فهو قد يمزح معك.
ـ أنا لايعجبي هذا المزاح وأقترح ما يلي:
ـ مادامت هناك ثقة بالآلية التي إتفقنا عليها، فإني أرى أن لاتجيب على أي إستفسار يتعلق بهذا الموضوع. إلا للجهة الحزبية المسؤولة. ومن جانبنا سوف لا نسمح بتدخل أحد في هذا الموضوع.
وفعلا لم يتدخل أحد في هذا الموضوع إطلاقا، ما عدا الرفيق عزيز محمد عندما كان مقيما في طهران واراد الإحاطة ببعض المعلومات في هذا المجال، وحصل على ذلك من الرفيق فلاح. ونحن من جانبنا كنا ملتزمين بشكل صارم بالآلية. وكان الرفيق فلاح ينظم تقريرا شهريا بالحسابات المالية، أطلع عليه وأرسله الى أبي فاروق. ولم يقع أي خطأ أو صدفة سيئة في هذا المجال طيلة سنوات عملنا في هذا الميدان. وقد توثقت الآلية المذكورة بعد تعرف العديد من الرفاق القياديين على الجهات التي نتعامل معها.
علاقات عامة
كان لدينا عدد من العلاقات العامة في طهران. صلتنا بحزب توده كانت بالمناضل المعروف الشاعر والكاتب حسن قزلجي عضو اللجنة المركزية الذي استشهد في المعتقل في الضربة الأخيرة لحزب توده عن عمر يناهز الثمانين عاما. كان قزلجي يتكلم العربية بلكنة كردية فقد عاش في العراق حوالي عشرين عاما هارباً من نظام الشاه. وإشتغل عاملا زراعيا في الريف وعامل بناء في المدن بما في ذلك بغداد. و إستقبلني في أول لقاء المناضل المعروف رضا شلتوكي عضو المكتب السياسي وهومن ضباط حزب توده والذي قضى 25 عاما في سجون الشاه ووجدته رفيقا متواضعا. وقد مات هذا المناضل أيضا في المعتقل في الضربة الأخيرة لحزب توده. وكانت علا قتنا بفدائيي خلق ـ الأكثرية أيضا منتظمة وكانت أغلب اللقاءات تجري في شوارع طهران مع أحد كوادرهم الشابة، وإستقبلني في أول لقاء المسؤول الأول في المنظمة فَرخ نكهدار، وهو شاب غاية في التواضع والهدوء، وكنت أسائل نفسي وهو جالس أمامي أليس هدؤه ظاهريا؟ فالأسلوب الأساسي لكفاح منظمتهم في زمن الشاه هو الإغتيالات، وهي أول منظمة دعت الجماهير الى الهجوم على الثكنات والإستيلاء على الأسلحه. وعند لقائي كانوا قد إستكملوا تحويل منظمتهم من منظمة "مسلحة" الى منظمة سياسية جماهيرية. وأخبرونا في اللقاء بإنهم يقرون جميع بيانات الأحزاب الشيوعية الصادرة من مؤتمراتها العالمية. وكانت لدي علاقة منتظمة ووطيدة مع قنصل جمهورية اليمن الديمقراطية، وهذه القناة كانت حيوية بالنسبة لنا، فعن طريقها كنا نستلم الكتب والمطبوعات والبريد الحزبي أحيانا. اما العلاقة بحدك فكانت تتم مع عثمان قاضي وشوكت عقراوي في كرج. وقد التقيت مرة واحدة بالسيد مسعود البارزاني. ولهذا اللقاء دواعي تستحق التوضيح.
وصل الى طهران من كردستان الرفيق باقر إبراهيم وكان يحملان رسالة من المكتب السياسي تشير الى إن مجيئهم الى طهران للعلاج ولتسفيرهم الى سوريا إذا ما توفرت إمكانية ذلك. كانت إمكانية تسفيرهم معدومة تقريبا. الطيران الايراني كان متوقفا بين طهران ودمشق تماما، وكان الحصول على تذكرة لرحلة قريبة على الطائرة السورية غير ممكن إلا عن طريق السفارة السورية التي لا علاقة لنا بها، هذا فضلا عن عدم حيازتهم على جوازات سفر. وصل طهران في حينه خمسة رفاق من سوريا وغادرونا الى كردستان. طرحت فكرة الإستفادة من جوازاتهم والتي تحمل تأشيرة لمدة شهر لتسفير بعض الرفاق الذين ينتظرون في طهران، إذا ما أفلحنا في تزويرها. هناك إذا بصيص أمل في تسفير باقر وزوجنه. تحركت شخصيا لتحري الإمكانيات. كان هناك رفيقا موجوداً في طهران لديه المام بتزوير الوثائق فإتصلت به وابدى إستعداده لتدبير الأمر. أرسلنا مراسلا جلب لنا جوازات الرفاق الذين غادرونا وزورناها. كانت هناك فرصة واحدة للسفر في مدة التأشيرة وهي على الرحلة القادمة على الطائرة السورية. فكرنا بتوسيط الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، لتأمين تذكرتين من السفارة السورية. سافرت الى كرج والتقيت بالسيد عثمان قاضي الذي أخبرني بان هذا الأمر ليس من صلاحياته وربما يتمكن (أبو مسرور) مسعود البارزاني من مساعدتنا، وهو ليس في المقر الآن وذهب الى البيت. طلبت منه أن يخبر السيد مسعود بطلبي اللقاء به. وقد لبى الطلب مشكوراً. عرضت الموضوع على السيد مسعود وأخبرته بان عدم طيرانهم على الرحلة القادمة يعني فشل المشروع.
طرح البارزاني علي سؤالا واحد وهو:
ـ هل بإمكاني معرفة إسم الرفيق المسافر؟
زودته بالإسم. وكلف هو بدوره السيدين عثمان قاضي وشوكت عقراوي بتدبير الأمر. وعندما ودعت البرزاني قال لي:
ـ بلغ تحياتي لأبي سعود ( عزيز محمد) وقل له نحن على العهد باقون.
كبر الرجل في عيني، فتذّكر العهود والوفاء بها هي من أهم خصال الزعماء الحقيقيين والناس المحترمين.
عند عودتي ذهبت الى شارع سلسبيل، وهو شارع جميل يقع غير بعيد عن بيتنا، كنا نتمشى فيه عصر كل يوم. وكنت أتوقع أن أجد أبو خولة وأم خولة، اللذان كانا يتابعان جهودنا خطوة فخطوة، برفقة أم شروق. وعثرت عليهم وفعلأ. كان أبو خولة يائساً من الحصول على مساعدة (حدك) لذلك فقد تفاجأ بموقفه الإيجابي.
سافر باقر إبراهيم وزوجته وكنا قلقين عليهم بعض الشيء لأن إسم زوجته في الجواز كان إسما مذكرأ. ولم يجر تغييره لأنه لم يكن من الأسماء الذكورية الشائعة.
يتبع[/b]

57
ذكريات

سنوات بين دمشق وطهران
( 3 )
[/size][/color]



جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
إذا كان رجال الدين المتنفذون في الدولة والحياة السياسية في إيران لم يتحملوا الإسلاميين الليبراليين ، خلافا لدعوات الخميني، الذي كان يدعوهم الى التعاون معهم ومع رئيس الجمهورية بني صدرحتى ربيع عام 1981، فإنهم مع الخميني لم يتمكنوا أن يتحملوا معارضة سلمية وشرعية حقيقية، ولذا إستخدموا جميع الوسائل لعزلها وتهميشها وتصفيتها لأنهم ضد التعددية وضد التداول السلمي الحقيقي للسطة. لقد منع الخميني مسعود رجوي من الترشح لإنتخابات رئاسة الجمهورية في كانون الثاني 1980 عندما أصدر رسالته الإستبدادية والمنافية للقانون والقاضية بإلغاء ترشيح مَن لم يكن قد صوت بنعم في الإستفتاء على الدستور. كما منع الخميني رجوي من الدخول الى مجلس الشورى الاسلامي (البرلمان) بعد فوزه في الإنتخابات البرلمانية والتي حصل فيها على 550 ألف صوت،  في ربيع نفس العام. وكانت إجتماعات مجاهدي خلق الجماهيرية المجازة وسواهم تفرق بهراوات حزب الله. ولم يقتصر هذا الأمر على المعارضة بل شمل جميع القوى السياسية بما في ذلك المساندة لنهج الإمام. وقد شاهدت ذلك بأم عيني عند حضوري وأم شروق إجتماعا جماهيريا نظمته منظمة فدائيي خلق ـ الأكثرية في ساحة الحرية في الأول من أيار عام 1981 والذي حضره حوالي 200 الف شخص، غالبيتهم من الشبيبة، بملابسهم النظيفة والزاهية ووجوههم الجميلة يستمعون الى الخطب وينشدون الأناشيد الوطنية والتضامنية. وأثناء إستمتاعنا بهذا الجو البهيج والحماسي سمعنا صيحات تردد "الله اكبر.. خميني رهبر". وأخذت الحجارة تتساقط على المجتمعين من قبل مجاميع تهرول بجانب الإجتماع، وتدل أشكالهم وملابسهم ولحاهم القذرة الى إنهم من حثالة المجتمع. وسرعان ما شاهدنا دماء البعض ممن هم قريبون علينا تسيل على وجوههم وملابسهم. وإنتهى الإجتماع والوجوه واجمة وحزينة، بعد أن كانت الإبتسامة تزين شفاه الجميع.
وعندما توصد أبواب البرلمان، المكان الصحيح الوحيد لتنظيم الصراعات السياسية والإجتماعية سلميا، أمام المعارضة الحقيقية لأي نظام، تفتح أبواب السجون ويمارس التعذيب الوحشي مع المعتقلين وتصادر حرية الراي. وعندما يكون النظام دينيا مستبداً، كما هو حال نظام ولاية الفقيه، فعندئذ تداس حقوق الإنسان وحقوق القوميات بأبشع الصور، يدخل المجتمع في دورة عنف لانهاية لها. وهذا ما حصل في ايران. فقد دفع النظام مجاهدي خلق والقوى السياسية التي تمثل القوميات غير الفارسية والأقليات الدينية والمذهبية وسواها من قوى المعارضة قسراً الى إستخدام العنف المقابل والذي لم يتوقف حتى اليوم. ويتحمل النظام المسؤولية الأولى عن ذلك. ولا يغير من طبيعة الحكم الايراني شيئا عند إدانتنا لأساليب مجاهدي خلق الإرهابية وسياساتها الخاطئة و مصيرها المؤسف فهي ايضاً تتحمل المسؤولية في هذه المآل.
بعد أن نجح قادة نظام ولاية الفقيه بتهميش المعارضة توجهوا نحو الأحزاب والقوى السياسية السائرة على نهج الإمام السياسي ولكن غير المتطابقة معه، مثل حزب توده ومنظمة فدائي خلق ـ الأكثرية، اللذان طالبا بإيقاف الحرب بعد خروج القوات العراقية من الأراضي الإيرانية. فوجه النظام ضربة واسعة وعميقة لحزب توده في بداية شباط 1983 بهدف إزاحته من الساحة السياسية بذريعة وجود " نية " لدى الحزب للقيام بإنقلاب عسكري ولتجسسه لصالح الإتحاد السوفييتي. وتعرض قادة الحزب والمئات من أعضائه الى أبشع أنواع التعذيب و إستشهد 11 منهم تحت التعذيب أو نتيجة له ولسوء الظروف السجنية. في حين تعرض عدد كبير منهم للإبادة الجماعية. واجبر العديد من قادة الحزب وأعضائه على توقيع إعترافات كاذبة وعرضها على التلفاز لتضليل الرأي العام. إن إنتزاع الإعترافات الكاذبة هو اسلوب قديم قدم الإستبداد على وجه الأرض ومرافق للأنظمة الإستبدادية والدكتاتورية والفاشية.
لقد فضحت بعض الصحف الإصلاحية، في عهد خاتمي تلك الممارسات المأساوية البشعة حيث نشرت صحيفة  "همشهري" الشهرية في طهران مقالة مثيرة تحت عنوان " عقدان من الإعترافات التلفزيونية " ألقت الجريدة فيها الضوء على مهزلة الإعترافات الملفقة ضد حزب توده وضد مختلف التيارات السياسية بحيث شملت بعض كبار رجال الدين في إيران مثل آية الله العظمى  شريعت مداري والذي تعتبرمنزلته الفقهيه أقدم وأرفع من الخميني . ونشرت المجلة مذكرة نوري الدين كيانوري الأمين العام الأسبق للجنة المركزية لحزب توده والموجهة الى المرشد الأعلى علي خامنئي والمؤرخة في شباط عام 1989 ، وقد سلم كيانوري نسخة منها الى لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة عند زيارتها لسجن أيفين، ومما جاء فيها: [1]
ـ ليس لدي علم دقيق بعدد أولئك الذين أعدموا بالرصاص ( صيف عام 1988) إلى جانب 11 شخصاَ قيل أنهم فقدوا ولكنهم فارقوا الحياة في السجن. ولكن لدي أسماء 50 من الذين تم إعدامهم. وبدون أدنى شك فإن من تم إعدامهم يفوق هذا العدد بكثير (يذكر في مكان آخر من المذكرة بأنهم بالمئات). من المثير أنه في هذا القتل الجماعي لم يتم إعدام العدد المعدود ممن كان محكوماَ بالإعدام فقط،  بل طال الإعدام حتى أولئك المحكومين بالسجن المؤبد أو لمدة عشرين سنة أو 15 سنة أو 5-6 سنوات بدون وجود مستجدات تبرر إعدامهم".
ولدى كاتب هذه السطور مايشير بأن التعذيب كان يجري بتوجيه من هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى الاسلامي آنذاك. فقد إلتقى الأخير، حسب مذكراته، خلال فترة التحقيق مع المحققين المسؤولين مباشرة عنه ثماني مرات، خلال شهرين من 3 آذار الى 3 أيار، حيث بثت الإعترافات المفبركة على التلفاز (كما أراد الخميني في اليوم الأول من أيار!). وبحث رفسنجاني مع المحققين منذ اللقاء الأول "كيفية التعامل مع قادة حزب توده المعتقلين والذين يرفضون الأعتراف وإن إثنين منهم قد إنتحرا". [2]  كان لقاء رفسنجاني الأول مع المحققين بعد 24 يوما من بدء الإعتقالات والتعذيب. وفي ثاني لقاء تحديداً بدأت الإعترافات الملفقة. فما هي الطرق والأساليب التي أمر بها رفسنجاني الجلادين، في لقائه الأول، بحيث أدت الى اعتراف المعتقلين بجرائم لم يرتكبوها؟ وهل يشّرف رئيس السلطة التشريعية ورجل دين ان يشرف ويوجه تعذيب الخصوم السياسيين حتى الموت أو الى الحد الذي يفضل فيه المعتقل الإنتحار؟ أجاب على هذا السؤال الطهرانيون، الذين يسمون رفسنجاني بالثعلب، عندما لم ينتخبوه  كنائب عنهم في الإنتخبات البرلمانية بعد الدورة التي كان يترأس فيها مجلس الشورى الاسلامي. ويشير الخبراء في الشأن الإيراني بأن الايرانيين لم يفضلوا أحمدي نجاد، في إنتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة، على رفسنجاني حبا بالأول وإنما كرها بالثاني.
لم يكتف قادة الجمهورية الإسلامية بمحاولة تدمير وإقصاء المعارضين أومن يعترض على هذا الجانب أوذاك من سياستهم عن طريق تصفية الآلاف والإحتفاظ بالآلاف في السجون وتشريد مئات الآلاف من بنات وأبناء الشعب الإيراني وبينهم الكثير من الكوادر العلمية والأدبية في شتى بقاع الأرض، وإنما عملوا على اقصاء  اولئك الإسلاميون الذين أخذوا يتخلون اويشككون بمبدأ ولاية الفقيه وحرمانهم من المشاركة في الانتخابات على مختلف المستويات. ومنعت الغالبية من هؤلاء من الترشح لإنتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة بقرار من مجلس حراسة الدستور "شوراي نكهبان" وعددهم 997 مواطنا إيرانيا. ولذا أدرجت إيران في صدر قائمة الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان، والتي تدنى إحترامها لتلك الحقوق في عام 2005 حسب تقارير المنظمات الدولية [3] . وفي هذا الصدد فإن آية الله منتظري، الذي كان وريثاً للخميني وجرى ابعاده لاحقاً ووضع تحت الاقامة الجبرية لإعتراضه على السياسة الإستبدادية لقادة الدولة، هذه السياسة التى أعلن عن ندمه على المساهمة في وضع أسسها في الدستور، يقول:
ـ تصيبني صدمة عندما يقول الساد ة (قادة النظام) بأن حقوق الإنسان محترمة بالكامل في هذا البلد. [4]
ومن العواقب الوخيمة لسيطرة رجال الدين في إيران على السلطة هي سياستهم الفاشلة في الحرب مع العرااق والتي كبدت الشعبين الإيراني والعراقي مئات الآلاف من أبنائهما بين قتيل ومعوق وأسير. كما الحقت بالبلدين خسائر مادية تقدر بمئات المليارات من الدولارات نتيجة لاصرارهم على استمرار الحرب بدون مبررات مشروعة. فبعد هزيمة الجيش العراقي في معارك خرمشهر (المحمرة) ومن ثم خروج الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية في صيف عام 1982، لجأ النظام العراقي الى مجلس الأمن مطالبا بإيقاف القتال. وصدر قرار من المجلس في تموز يقضي بذلك. الا ان ايران رفضته، مطالبة بإدانة النظام العراقي ومحاكمته لعدوانه على إيران، اضافة الى مطالبتها بتعويضات عن خسائرها في الحرب. وكانت هذه المطالب التعجيزية ستار تخفي ورائه ايران أهدافها التوسعية و حلمها في إقامة نظام إسلامي في العراق تابع لإيران تحت شعار "الطريق الى القدس يمر عبر كربلاء"، وهو شعار مشابه من حيث ديماغوغيته لشعار الدكتاتور صدام "الطريق الى فلسطين يمر عبر عبادان"، ورداً عليه. وكان هناك شعارا مكتوباً على جدار بالقرب من بيتا وهو "الى الأمام بإتجاه كربلاء"، ولم أكن اتمكن من تجنب النظر اليه لكبره، في حين كان مزاجي يتعكر كلما القيت عليه نظرة حين خروجي من المنزل في طهران. لم تكن هذه الشعارات تهدف الى رفع المعنويات. ولم تكن تعرضات الجيش الايراني تستهدف تعزيز المواقع الحدودية، كما كانوا يتظاهرون بذلك، بل إن هناك اكثر من 25 تعرضا كبيرا، بعد تحرير الأرض الإيرانية، استهدفت أكثرها إحتلال البصرة من اجل إقامة حكومة إسلامية عراقية.إن مذكرات رفسنجاني شاهد على ذلك، حيث طالب بعض المتسرعين بإقامة مثل هذه الحكومة في محافظة ميسان عند إحتلال جزر مجنون وذلك في تشرين الثاني عام 1982.[5] وفي النهاية لم تؤدي طموحاتهم التوسعية سوى الى أن يجرع الخميني السم ليبتلع عناده، ولم تحصل إيران في عام 1988 أكثر مما كانت تحصل عليه في عام 1982. إن ايران تتحمل مسؤولية إستمرار الحرب طيلة السنوات الست الأخيرة من الحرب. فإذا كان صدام مسؤولا عن خسائر إيران خلال السنتين الأوليتين من الحرب، فإن النظام الأيراني هو الآخر مسؤول عن الخسائر التي لحقت بالعراق خلال السنوات الست الأخيرة منها، التي رفض خلالها حكام ايران قرار مجلس الأمن وجميع الوساطات والمقترحات لإيقاف الحرب.
إن العواقب الإقتصادية والإجتماعية والأخلاقية لسيطرة رجال الدين على السلطة في ايران كثيرة، وسأشير الى بعض المعطيات ذات الدلالة الهامة وهي مستقاة من دراسة للدكتور أمان الله قرابي، الخبير الإجتماعي والأستاذ الجامعي، تتناول معالجة ظاهرة البغاء التي تشمل 300 الف من بنات الشوارع في طهران وحدها، وتتراوح أعمارهن بين 11 الى 18 عاماً. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الباحث بأن الظاهرة تشير الى ضعف القيم الدينية في المجتمع ( في استطلاع اجرته الصحف الرسمية الايرانية تبين ان 85% ممن ولدوا بعد الثورة لا يمارسون الشعائر الدينية [6] )، إلا أنه يؤكد بأن أسباب الظاهرة إقتصادية بالأساس. فهناك أربعة ملايين عاطل عن العمل. والبلد بحاجة الى مليون فرصة عمل جديدة سنويا، في حين إن ما يتحقق هو من 400 الى 500 الف فرصة. وتبلغ البطالة من 20 % الى 27% في أوساط الخريجين. وهناك تسعة ملايين عازب وعازبة، بينهم 5،5 ملايين من العازبات. ويوجد خمسة ملايين مدمن على المخدرات، ويعيش مليونان من سكان طهران في ضواحيها حياة بائسة.[7] والعدالة التي ينادي بها رجال الدين ليلأ ونهارا كانت نتيجتها، وهم في قيادة السلطة لأكثر من ربع قرن، زيادة الأغنياء غناّ وزيادة الفقراء فقراّ في ايران، حيث "يعيش أكثر من نصف الشعب الإيراني تحت خط الفقر العربي - الإسلامي، وتفتك البطالة بأكثر من عشرين بالمائة من الشعب الإيراني، ويتعاطى ثمانين بالمائة من الشعب الإيراني المخدرات، حسب آخر تقرير دولي نشر." [8]
هذه بعض العواقب السلبية لسيطرة رجال الدين على الدولة. إن نظام ولاية الفقيه يعيش أزمة إقتصادية وسياسية وإجتماعية وأخلاقية عميقة منذ سيطرة رجال الدين على السلطة، وإن الطبقة العاملة وبقية الكادحين متذمرون من الأوضاع المعيشية. وتتوق الشبيبة (يتخرج 100 الف شابة وشاب سنويا من الجامعات لايجد معظمهم  فرصة عمل أمامهم) الى تجديد حياتها وتطويرالنظام القائم ليواكب إيقاع القرن الواحد والعشرين في تطوره العلمي والتكنولوجي والسياسي. وتشعر هذه الفئة وجميع الفئات الواعية في المجتمع بانها ليست أقل جدارة من شبيبة تعيش في دول جارة لها حيث تتمتع بالديمقراطية وبحرية الفكر والتعددية والتداول السلمي الحقيقي للسلطة. ولكن النظام الشمولي ، نظام ولاية الفقيه يقف عائقا أمام كل هذه الطموحات، ويحاول تصريف الأزمة من خلال فتحه معركة مع المجتمع الدولي حول الطاقة النووية وذلك باللعب على مشاعر الإعتزاز الوطني والقومي للايرانيين.
ذكرت سابقا أن السلطة كانت منقسمة بين نفوذ  الليبراليين من جهة  ونفوذ رجال الدين المتشددين ورجعيتهم من الجهة الأخرى. وكان الصراع محتدماً بينهما عندما وصلنا إيران في ربيع عام 1981. كانت  طهران هي الاخرى  منقسمة الى قسمين من حيث درجة تمتعها بالحرية،اي  شمالها وجنوبها. كان شارعا الحرية  والثورة ، يقسمان طهران الى قسمين، وهما الحد الفاصل بين شمال طهران وجنوبها. في الشمال كنا نسمع مختلف الأغاني والموسيقى في الشارع العام ونرى السافرات ونشهد المناقشات الحرة، في حين لا يوجد اي أثر لكل ذلك في الجنوب. كانت أم شروق تحمل في حقيبتها اليدوية شالا تغطي به رأسها عندما نجتاز شارع الحرية متجهين نحو  الجنوب وتخلعه في شمال المدينة. ولم يدم هذا الأمرطويلا ، فما أن إنتهى "زواج المتعة" بين الليبراليين ورجال الدين المتشددين حتى تساوى الشمال مع الجنوب في نهاية العام المذكور. فلم تعد هناك في الشمال موسيقى ولا سافرات ولا وسائل لهو بريئة ولا سينمات، بعد إحراق بعضها، ولا مناقشات حرة.
إن المناقشة الحرة (بحث آزادى) هي أول ظاهرة غريبة علينا وجلبت إنتباهنا في الشارع عند وصولنا طهران. فقد كنا نرى مجموعة  من الناس متجمهرة حول بائع ــ  وعلى الأغلب بائعة شابة ــ  صحف منظمة سياسية معينة أو حامل لمنشورها وتجري مناقشات سياسية حول شتى الأمور وبحرية تامة. وكثيرا ما يدير النقاش البائع، ولكن ليس بالضرورة، اذ كان من الممكن أن يتولى ذلك مرافق له أو أي أحد من المساهمين العاديين.  وبالرغم من عدم إستيعابنا لكل مايقال لمحدودية المامنا باللغة الفارسية، إلا أننا كنا نقف ونصغي ونستمتع مبهورين بذلك، نحن المحرومين من أي مناقشة سياسية حرة، فما بالك بمناقشة في الشارع العام وفي الهواء الطلق. ولم تحدث أمامنا مشاجرة بالرغم من حدة المناقشات وتقاطعها.
ولما قضي على السفور نهائيا وتحجبت جميع النساء، بدأت حملات الميلشيات المرتبطة بأعلى هرم السلطة تطارد النساء في شوارع طهران وخاصة الشمالية.  كان منظراً يثير السخط والإستنكار ، شباب من حثالة المجتمع ملتحين ووسخين يتراكضون وراء الفتيات والنساء، بحجة الحجاب السيئ (بد حجاب). كانت هذه الحثالات تدفع النساء وتتهجم عليهن بألفاظ نابية وتحشرهن في سيارة، وتنسحب هذه الحثالات وكأنها قد احرزت النصر في ساحة الوغى. أن بعض الفتيات يتركن بضعة خصلات أو مقدمة شعرهن مكشوفا ، لإعتقادهن بأن وجوههن تبدو كوجه البومة بدون ذلك، وهذا ما يعرضهن للملاحقة. لقد إستمرت هذه الحملات لسنوات عديدة دون جدوى. فنزوع ألإنسان نحوالجمال من الغرائز الطبيعية. ولذلك نشاهد فشل النظام الجمهوري الإسلامي في القضاء على هذه الظاهرة، بل وأكثر من ذلك فقد توسع تأنق الفتيات ليشمل تحوير الزي الإسلامي ليبدو اليق بالمرأة. وأكبر دليل على فشل النظام هواحياء تلك الحملات المخزية، والمنافية لأبسط حقوق الإنسان، في عهد الرئيس المتعصب والرجعي أحمدي نجاد.
يتبع
________________________________________
[1] ـ  ترجم المذكرة وعلق عليها الكاتب السياسي والخبير بالشؤون الإيرانية الأستاذ عادل حبة ونشرت في جريدة الزمان. ونطرا لأهمية المذكرة فقد أعيد نشرها  في الصحف الأليكترونية وموجودة الآن على "موقع الناس" وغيرها من المواقع.
[2] ـ هاشمي رفسنجاني، مذكرات وخواطر، الكتاب المعنون "بعد الأزمة"، ص 419 و424. والكتاب المعنون "الإستقرار والجدال"، ص 16 و37 و42 و56 و60 و52. دار النشر للمعارف الثورية، ربيع 2001 و شتاء 2002، على التوالي. باللغة الفارسية
[3] ـ صحيفة "ميهن" الأليكترونية الإيرانية العدد 94 كانون الثاني 2006
[4] ـ المصدر السابق العدد 95. نفس التاريخ. ‎‏‎‏‎‏‎ 
[5] ـ هاشمي رفسنجاني. مذكرات وخواطر، كتاب "بعد الأزمة"، ص 302، باللغة الفارسية.
[6] ـ عادل حبه. مقاال بعنوان "هل هو تمهيد لفرض ولاية الفقيه على العراقيين؟ نشر في 30 ايار 2005 في الصحف الأكترونية، وهو موجود في "موقع الناس" والمواقع الأخرى.
[7] ـ "ميهن" صحيفة الكترونية ايرانية العدد 96 آذار 2006.
[8] ـ د. شاكر النابلسي. صحيفة إيلاف الأليكترونية،  العدد  1842 الأربعاء 7 يونيو 2006.
 [/b]

58
ذكريات
سنوات بين دمشق وطهران
( 2 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
العاصمة طهران مدينة كبيرة جداً. إنها مدينة عملاقة بحجمها وعمرانها وكثافة سكانها (حوالي 14 مليون نسمة الآن) وجميلة بشوارعها العريضة والمشجرة وبساحاتها ومتنزهاتها الواسعة. تقع المدينة في شمال إيران على السفح الجنوبي لجبال البرز، وعلى إرتفاع 1200 متر فوق سطح البحر، وفي شمال السهل المركزي لإيران. و مما يزيد طهران جمالا هو وجودها بمحاذاة جبل دماوند المغطى بالثلوج طوال أشهر السنة والذي يمكن مشاهدته من جميع أنحاء طهران، وهو جبل مخروطي الشكل وبركان خامد منذ ملايين السنين. ويتمتع أهالي طهران بالتزحلق عليه خاصة في فترات الشتاء.
كانت طهران عبارة عن قرية ملحقة بالعاصمة التقليدية السابقة مدينة رَي، التي دمرها المغول في عام 1220، وتحولت إلى عاصمة في نهاية القرن الثامن عشر. وبنيت بشكل حديث في عهد رضا خان مؤسس الدولة البهلوية في الربع الأول من القرن العشرين. ومن أعالي جبل البرز تنحدر الشوارع وعلى جانبيها قنوات مياه الأمطار ومياه الثلوج المذابة حتى جنوب المدينة . وأجمل وأطول وأشهر شارع فيها هو شارع مصدّق[1] (خيابان مصدّق) والذى تحول لاحقا الى شارع ولي العصر ( خيابان ولي عصر) وهو يخترق المدينة من أقصى شمالها الى أقصى جنوبها وطوله اكثر من 10 كم. وهو شارع مشجّر بكثافة وعامر بالمحلات التجارية والفنادق والمطاعم والكثير من العمارات الشاهقة وتقع فيه العديد من دور السينما.   
يتقاطع شارع ولي عصر وكذلك الشوارع الأخرى المنحدرة من الشمال بشوارع عمودية تمتد من الشرق إلى الغرب بحيث يتحول الكثير من أحيائها السكنية إلى مربعات هندسية . ومن أهم هذه الشوارع هو الشارع الذي يمتد من ساحة الإمام  الحسين  (ميدان إمام حسين) شرقا حتى ساحة الحرية  (ميدان آزادي) غربا، مرورا بساحة فردوسي ( ميدان فردوسي) وساحة الثورة (ميدان إنقلاب) ويحمل الشارع إسمين الأول: شارع الثورة (خيابان إنقلاب) وهوالذي يقع شرق الساحة والثاني: شارع الحرية (خيبان آزادي) وهو الذي يقع غربها.  وتعد ساحة الحرية أكبر ساحة في طهران ويتوسطها معلم بارز وهو نصب الجندي المجهول الذي يشاهد على شاشة التلفاز برفقة أخبار ايران. وتتسع الساحة لمليوني إنسان. وهناك ساحات واسعة ومهمة تجاريا ولكن لا يعتبر أي منها مركزا( سنتر) للمدينة ومن الساحات الكبيرة جدا والهامة  هي ساحة الثورة (ميدان انقلاب) وتقع غرب تقاطع شارع مصدق وغير بعيدا عنه. وساحة خراسان (ميدان خراسان) والتي تقع في جنوب طهران وساحة خميني(طوب خانة سابقاً) والتي تقع فيها بناية التلفونات المركزية، و على مسافة غير بعيدة من الساحة يمتد بازار طهران الشهير وهو أكبر سوق تجاري في أيران وكان له دور ووزن كبير في السياسة قبل سيطرة رجال الدين على السلطة وبعده.  أما جامعة طهران، والتي تقام فيها صلاة الجمعة، فتقع في شارع الثورة بالقرب من ساحة الثورة. وتوجد أكبر وأشهرمحلات بيع الكتب في الجهة المقابلة للجامعة.
وهناك العديد من المتنزهات الجميلة المنتشرة في المدينة ومن اكبرها وأوسعها متنزه الأمة ( بارك ملت) ويقع في شمال المدينة. وعلى أعالي سفح جبل البرز تقع مصائف طهران سربند ودربند في شمرانات والتي يلجأ إليها الطهرانيون لتفادي حر الصيف الجاف. وكنا نصطحب الرفاق المتوجهين الى كردستان الى مشاهدة هذه المصايف التي شوه روحها النظام الجمهوري الإسلامي بتحريمه الموسيقى والغناء والسفور وتنوع المشروبات ووسائل اللهو البريئة، بما في ذلك الشطرنج.
إيران واسعة جدا مساحتها حوالي 1,6 مليون كيلو متر مربع. والفرق بين درجة الحرارة بين محافظة أذربايجان الغربية في غرب إيران ومحافظة بلوجستان في شرقها تصل احيانا الى 35  درجة وأكثر! فلا غرو أن يجد المرء بعض أنواع الخضر والفواكه الطازجة، في غير موسمها، في أسواق طهران. فالبطيخ الأحمر (رقي) على سبيل المثال لا الحصر، موجود على مدار السنة في أسواق العاصمة.
هواء طهران شديد التلوث جراء كثافة وسائط النقل في المدينة ولإستخدام النفط في الصناعة والتدفئة. ولم يتمكن النظام من معالجة هذه المشكلة البيئية التي ورثها من نظام الشاه بل فاقمها.
إن الإنقسام الطبقي الحاد بارز للعيان لمن يزور شمال طهران وجنوبها. وكانت مهمتي تتطلب زيارة أحد التجار  في شمال المدينة ومن ثم زيارة الرفيق فلاح مباشرة في جنوب المدينة فكنت الاحظ التناقض والاختلاف في كل شيء. فهناك الغنى والرفاهية في شمال المدينة من جهة، والفقر والبؤس في جنوب المدينة من جهة أخرى. ويلاحظ هناك إختلاف كبير حتى في العادات والتقاليد. كان ذلك يذكرني دائما بكلمة واحدة قالها فردريك انجلز عندما تجول بعربة لمشاهدة الأحياء الفقيرة في لندن نهاية القرن التاسع عشر وهي: "أمتان"( مثنى أمة ) . لقد إستمر هذا الإنقسام الطبقي بل وتعمق أكثر في ظل سلطة رجال الدين.   
تطلب الامر بعد حصولنا على الهوية، العثور على مسكن لنا في طهران. وقد عثرنا على شقة صغيرة في الطابق الثالث في بيت من ثلاثة طوابق يقع بالقرب من ساحة الثورة. صاحب البيت وعائلته كانت تقيم في الطابق الأول، وفي الطابق الثاني كان يقيم إبن صاحب البيت وزوجته. لم نكن نحتاج الى الكثير من الأثاث، اذ ان معظم الإيرانيين يجلسون ويأكلون ويستقبلون ضيوفهم على الأرض. تبرع لنا أحد التجار من أصدقائنا بتلفزيون صغير، أسود وأبيض، وثلاجة صغيرة. وإكتفينا بشراء الفراش ودولاب ملابس وأدواة مطبخ. وحصلت على البطاقة التموينية من الجامع. وأراد المسؤول أن يمارس دوره في "النهي عن المنكر" فنبهني الى خاتم الزواج الذهبي في إصبعي ولم أفوتها له لمقتي الأشخاص الذين يتدخلون في خصوصيات الآخرين، وقلت له:
ـ أنا إبن كربلاء وأعرف ما هو الحلال وما هوالحرام. فصمت وهز رأسه معبرا عن عدم قناعته.                                                       
عندما وصلنا الى طهران عاصمة ايران في ربيع عام1981 لم يكن رجال الدين المتشددون والمتهالكون على السلطة والجاه قد أحكموا سيطرتهم على الوضع، رغم مرور سنتين على إندلاع الثورة. كان الوضع السياسي متأزما بسبب إحتدام الصراع بين الليبراليين من جهة ورجال الدين المتشددين من جهة أخرى. كان تاريخ إيران يكتب بسرعة فائقة في تلك الأيام، فلم ينته صيف ذلك العام إلا وقد أحكم رجال الدين، الموالين لولاية الفقيه قبضتهم على السلطة بإنقلاب "شرعي".
كان الليبراليون ممثلين بالسيد أبو الحسن بني صدر بوصفه رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة وحليفه المهندس مهدي بزركان زعيم حركة الحرية (نهضت آزادي) وفريقه في مجلس الشورى الإسلامي ( البرلمان) المتحالف مع نواب الجبهة القومية (جبهه ملى) . وكان الليبراليون مدعومين، عملياً، من أكبر قوة سياسية جماهيرية منظمة ومعارضة للنظام في الشارع، ألا وهي منظمة مجاهدي الشعب الايراني ( مجاهدى خلق ايران) بزعامة مسعود رجوي. ومدعومين أيضا من الحزب الديمقراطي الكردستاني الأيراني ومنطمة فدائيي الشعب الايراني ـ الأقلية (فدئى خلق ايران ـ أقليت) ومنظمات يسارية اخرى مثل الكفاح والكادحين وكوملة و...الخ
لقد ساهمت جميع تلك القوى السياسية وسواها في الثورة الإيرانية. إن أول خلاف هام شق صفوفها هوالموقف من طبيعة النظام كونه الجمهورية الإسلامية (جمهورى إسلامى) في مسودة الدستور. وعارضت هذه الصيغه جميع الأحزاب والقوي السياسية الليبرالية وحلفائها، وكذلك حزب توده (الحزب الشيوعي الايراني) وفدائيي الشعب الايراني ـ الأكثرية (فدائى خلق إيران ـ أكثريت) ، وطرحت هذه القوى بدلا عنها جمهورية ديمقراطية إسلامية. وخلال المناقشة صرح الخميني تصريحه الإستبدادي المعروف:
ـ جمهورية إسلامية بدون حرف زيادة أونقصان.
اما التعارض الثاني فكان حول تكريس موضوعة "ولاية الفقيه" في مسودة الدستور، خلال مناقشتها في البرلمان، وقد عارضته نفس القوى التي عارضت صيغة هوية النظام.
لقد إكتفى الليبراليون وحزب توده بتحفظاتهم التي أبدوها في المجلس التأسيسي وصوتوا بنعم في الإستفتاء على مسودة الدستور. وصوت بلا  كل من مجاهدي الشعب والحزب الديمقراطي الكرستاني ومنظمة فدائيي الشعب ـ الأقلية  ومنظمات يسارية اخرى مثل الكفاح والكادحين و...الخ وكذلك منظمة جماهيرية كبيرة وهي منظمة فدائيي الشعب ـ الأكثرية. ولكن المنظمة الأخيرة أخذت تقترب سياسيا وآيديولوجيا من حزب توده. ولم تعد معارضة للنظام في ربيع عام 1981.
وهناك حدثين سياسيين هامين صدّعا العلاقة بين الليبرلين ورجال الدين المتشددين، الأول هو إستيلاء الطلبة المؤيدين لنهج الخميني على السفارة الإمريكية وحجز جميع العاملين فيها كرهائن وذلك في 4  تشرين الثاني 1979 . والثاني هو الحرب العراقية ـ  الايرانية التي إندلعت في 22 ايلول 1980، ووجه التصدع هنا ليس في الموقف من الغزو الأجنبي على بلادهم، فقد كانوا موحدين على ضرورة الحاق الهزيمة بالمعتدي، وإنما مَن الذي يقود الإنتصار،الجيش مدعوما من الليبراليين أم الحرس الثوري المدعوم من رجال الدين المتشددين؟ على هذا الأمر جرى صراع مرير سنتلمس عواقبه في سياق الموضوع.
الطرف الثاني في الصراع مثله هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان وآية الله بهشتي رئيس مجلس القضاء الأعلى والأمين العام للحزب الجمهوري الإسلامي ومحمد علي رجائي رئيس الوزراء وعلي خامنئي ممثل الإمام في مجلس الدفاع الأعلى وخطيب صلاة الجمعة في طهران، وتدعمهم غالبية برلمانية اضافة الى الحزب الجمهوري الإسلامي والحرس الثوري (الباسدار) وحزب الله ومنظمة التعبئة (البسيج) المسلحة وسواها من المنظمات التي كانت تحت سيطرة رجال الدين. ويتلقى هذا التيار الدعم من غالبية رجال الدين وليس جميعهم. فقد نأى غالبية آيات الله العظمى بأنفسهم عن السلطة ونهج الخميني وخاصة شريعتمداري الاكثر نفوذاً في آذربايجان والذي أتهم بمساهمته في مؤامرة لقلب نظام الحكم وشاهدته على شاشة التلفاز يدلي بإعترافاته. وفي الوقت الذي كان فيه نفوذ الليبراليين أقوي بين قادة الجيش، فإن الحرس الثوري كان تحت سيطرة رجال الدين بالمطلق. وقد لعب الصراع بين الحرس والجيش دورا مضرا وخطيرا في الحرب لصالح إستمرار إحتلال صدام لأراضي خمس محافظات أيرانية وإفشال الكثير من الخطط العسكرية بسبب التجاذب بين الحرس والجيش. فقد كان رجال الدين و قادة الحرس الثوري يضغطون لتنفيذ خطط عسكرية لم تنضج مستلزماتها معتبرين نداء الله أكبر أثناء الهجوم بديلا أكثر فعالية من تلك المستلزمات، ومستجيبين لضغط جماهير الباسدار المتلهفين لملاقاة حور العين. وعندما آلت الأمورالى رجال الدين، خاضوا العديد من المعارك العسكرية الفاشلة وقدموا تضحيات بشرية جسيمة غير مبررة، معزّين أنفسهم وذوي الضحايا بالجنّة.   
وكان موقف الخميني في البدء محايدا بين اللبراليين وبين رجال الدين المتهالكين على السلطة التنفيذية وفي مقدمتهم هاشمي رفسنجاني وبهشتي وخامنئي. وكان الخميني لم يزل مصراً على فتواه بعدم تبوء رجال الدين مسؤوليات في السلطة التنفيذية. ولكن لم يرق لهؤلاء موقف الخميني المحايد وكتبوا رسالة للخميني في بداية عام 1980 موقعة من قبل بهشتي وأردبيلي وخامنئي وباهنر ورفسنجاني يطالبون فيها بدعمهم في الصراع الدائر بين الجبهتين، ولكنهم ترددوا في تقديمهأ الى الخميني وقدمت بعد مرور سنة كاملة مرفقة برسالة من رفسنجاني مؤرخة في 24 كانون الثاني 1981. [2]  لم يطع الموقعون وأنصارهم فتوى إمامهم لعدم قناعة غالبيتهم بها. فقامو بالإلتفاف عليها بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من خلال تشريعات البرلمان أوالضغط على الخميني للقيام بذلك مباشرة أومن خلال العمل كمستشارين في الوزارات. وتابعوا زحفهم وفرضوه كأمر واقع. فبعد إزاحة بني صدر من منصب القائد العام للقوات المسلحة بأمر من الخميني في 11 حزيران 1981 وأغلاق صحف المعارضة الليبرالية، خرجت مظاهرات في طهران وفي أنحاء أخرى من إيران مع أو ضد بني صدر وكان حرس البرلمان يستقبلون النواب الليبراليين عند دخولهم مبنى البرلمان بشعارات معادية. وفي تلك الأيام حصل إنفجار كبير في ساحة قصر بني صدر ولم يسفر عن خسائر بشرية. وجاء  البيان الأول لإنقلاب رجال الدين، على شكل قانون أقره مجلس النواب، من فقرة واحدة وهي:
ـ  لمجلس الشورى الإسلامي الحق في إعطاء رأيه بعدم الكفاءة السياسية لرئيس الجمهورية، ويصدر المرشد بمقتضى ذلك أمرا إستنادا للمادة 110 من الدستور.
وقد صدر القانون بالتشاور المسبق مع الخميني. وصادق مجلس الشورى الاسلامي بالأغلبية الساحقة على عدم الكفاءة السياسية لرئيس جمهورية وهو المنتخب مباشرة من الشعب وفقا للدستور!  وصادق مجلس الخبراء فورا على رأي البرلمان واصدر الخميني أمراً بعزله، وبلغ بني صدر به في 17 حزيران 1981. وعلى أثر ذلك شُكل مجلس رئاسة مؤقت من رؤساء السلطات الثلاث طبقا للدستور يضم كل  من رفسنجاني وأردبيلي ورجائي.
إختفى بني صدر، أعتقلت زوجته ومن ثم وضعت تحت الرقابة في منزلها. كان الخميني ضد السماح لبني صدر بالهروب الى خارج إيران، وأرسل له خبرا يطمئنه فيه على حياته بعد أن طرق سمعه بأنه يخاف من الإعدام،إلا أن الخبر لم يصله، فقد ضا ع أثره على متابعيه، حيث تكفلت بحمايته  منظمة مجاهدي خلق، ذات الخبرة الواسعة في العمل السري. و وصل بني صدر باريس برفقة مسعود رجوي في 29 تموز 1981.   
أعلنت منظمة مجاهدي خلق، و معها عدد من المنظمات الصغيرة نسبيا وهي الكفاح والكادحين وفدائيي خلق إيران ـ الأقلية و...الخ، الكفاح المسلح ونزلوا الى الشوارع في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 20 حزيران ليفجروا الثورة المسلحة! وهاجموا بعض المراكز الحكومية في طهران ومدن أخرى. وقد تصدى لهم الحرس الثوري وحزب الله واللجان الثورية (الكميتة) وتغلبوا عليهم وفرقوهم في طهران والمدن الأخرى قبل حلول المساء. وكانت النتيجة في طهران 16 قتيلاً و154 جريحاً وإحراق وتخريب بعض السيارات.أما في كردستان إيران التي كان الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني مسيطرا على مناطق واسعة فيها ومشتبكا  بالسلاح مع السلطات، فقد وقف مع بنى صدر وأخذ يوسع من دائرة نفوذه.
وفي اواخر شهر حزيران تعرض علي خامنئي الى محاولة إغتيال كادت تودي بحياته بإنفجار قنبلة موقوتة كانت موضوعة على منضدة الخطابة في مسجد أبا ذر. وقد رقد في المستشفى مدة طويلة وخرج من المحاولة ويده اليمنى مشلولة تماما. وفي اليوم التالي لمحاولة إغتيال خامنئي؛ أي في 28 حزيران، إنفجر مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في الصالة التى كان بهشتي يحاضر فيها بحضورمجموعة من أعضاء الحزب في مجلس النواب وفي الجهاز القضائي والحزبي. و كان عدد ضحاي الإنفجار "72" شخصا بينهم بهشتي و27 نائبا وأربعة وزراء وعدد من وكلائهم وعشرين جريحا. وحصل الحادث جراء إنفجار قنبلة موقوتة كانت موضوعة في سلة مهملات داخل القاعة وقد وضعها عضو منظمة مجاهدي خلق المدعو محمد رضا كلاهى المندس في الحزب الجمهوري الإسلامي. كان كلاهي طالب في المرحلة الأولى من كلية العلوم والصناعة، وغادر البناية قبيل الإنفجار بعشر دقائق بحجة شراء آيس كريم!! وقد إنتشرت في حينها شائعة تفيد بأن الضحايا أكثر من العدد المعلن، وإن الرقم 72 والذي هو مجرد تشبيه لشهداء واقعة الطف في كربلاء التي إستشهد فيها الإمام الحسين (ع) وصحبه. وماهذا التشبيه إلا كذبة الغرض منها إعطاء قيمة دينية  للضحايا والحدث وذلك من شأنه أن يخفف من شماتة الأعداء وملامة الأصدقاء لقادة إيران الجدد على إهمالهم لتدابير الصيانة لإيمانهم الساذج بالقضاء والقدر. وبعد حوالي عشرين سنة يظهر رفسناجي ليؤكد في مذكراته بأن العدد كان أكثر من 72 وقد سمع ذلك في اليوم الثاني للحدث أثناء حضوره الفاتحة ويعترف بأنه "...تقرر عدم تغيير الرقم نظرأ لقيمة الرقم 72 ومغزاه ومكانته لتشابهه مع عدد شهداء كربلاء"!![3]
لم يتوقف مسلسل التفجيرات وإغتيال المسؤولين الكبار وتفجير الباصات بعد إقصاء بني صدر في حزيران عام 1981، ولست بصدد التوقف عندها فقد كانت يومية تقريبا. ولم يكن قد مر على إنتخاب محمد علي رجائي رئيساً للجمهورية وتشكيل الوزارة برئاسة باهنرسوى 37 يوما حتى إنفجر مقر رئاسة الوزراء وقتل الإثنان وجرح معهم مجموعة من قادة الشرطة والجيش، توفى بعضهم لاحقا. إقتصر تشكيل مجلس الرئاسة هذه المرة على رئاسة السلطة التشريعية والقضائية؛ اي رفسنجاني وارديبلي، وقد أفتى مجلس الخبراء بجواز ذلك بإعتبارهم أكثرية. وقد كلف آية الله مهدوي كني برئاسة الوزارة بديلأ عن باهنر.
وفي خلال البحث عن مرشح جديد لرئاسة الجمهورية، بعد إزاحة بنى صدر، إقترح رفسنجاني إسم السيد علي خامنئي، ولكن الخميني رفض ذلك ولم يجد من الصلاح أن يتبوء هذا المنصب رجل دين. وكان الخميني آنذاك، اثر إنفجار مقر الحزب الجمهوري الإسلامي، قد تراجع كثيرا عن فتواه القاضية بعدم زج رجال الدين في السلطة التنفيذية. فقد أصبح باهنر رئيسا للوزراء وبعده مهدوي كني والإثنان من رجال دين. وفي هذه المرة وعندما طرح إسم خامنئي كمرشح لرئاسة الجمهورية، بعد مقتل رجائي في الإنفجار، وبضغط شديد من رجال الدين، الذين ذاقوا حلاوة السلطة ولم يعد هناك من هو قادر على كبح جماحهم لإلتهام البقية الباقية منها، تراجع الخميني عن فتواه فوافق على ترشيح رجل معوق وعليل لأكبرمنصب في دولة كبيرة مثل إيران تعج بالكفاءات والمواهب. وتنفس رفسنجاني الصعداء فلم يعد هناك عائق أمامه كي يتبوأ أعلى منصب في الدولة وتحقق له ذلك فعلا، فقد أعقب خامنئي مباشرة في رئاسة الجمهورية .
وهنا لا بد من التوقف عند موقف الخميني من فتاويه . فمن المعروف عدم جواز إلغاء الفتوى أو التراجع عنها بعد صدورها، وفقا للفقه الإسلامي، حسب معلوماتي. فالفتوى تبقى سارية المفعول أو تضمحل بإضمحلال أسبابها الموجبة. ولكن الخميني تراجع تدريجيا عن أهم وأخطر فتاويه. وهذا الخرق الذي من شانه التقليل من قيمة رجال الدين والدين نفسه، هو الذي يدفع رجال الدين الحريصين على الدين فعلا  أن يدعوا الى  فصل الدين عن السياسة، فالشؤون السياسية اليومية لا تقبل فتاوي دينية أو عدم تراجع عن أي موقف عند الضرورة.  فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تراجع الخميني عن فتواه بعدم زج رجال الدين في السلطة التنفيذية، كما لاحظنا ذلك تواً. كما تراجع عن فتواه بعدم  دخول الجيش الإيراني للأراضي العراقية أومهاجمة مدن العراق. وبالنظر لكثرة تراجعه عن فتاويه راح معارضوه يتندرون عليه بالقول بأن الخميني يفتي صباحأ ويتراجع مساءً . وعند قراءتي لمذكرات رفسنجاني لاحظت حصول ذلك فعلاً. ففي صباح يوم 14 أيار 1982 إتصل أحمد الخميني برفسنجاني و أخبره بصدور فتوى من الإمام الخميني يمنع فيها إذاعة أي شكل من أشكال الموسيقى حتى تلك التي تصاحب الأناشيد ( ولم يكن قد بقي منها آنذاك سوى الشكل الأخير)  وستذاع الفتوى في نشرة أخبار الظهيرة، طالبا منه  مراجعة الإمام برفقة بهشتي لتدارك الأمر و إيقاف تلك الفتوى. لم يذهب رفسنجاني وأحد أسباب ذلك هو الإشكال الشرعي في الأمر حيث يقول: "إذا هي فتوى فيجب إطاعتها". ذهب بهشتي وحمل الأمام على التراجع عن فتواه. [4]
فما هي عواقب سيطرة رجال الدين على السلطة وتطبيق ولاية الفقيه على إيران والإيرانيين ؟ سأشير الى بعض أهم جوانب ذلك في الحلقة القادمة.
يتبع
________________________________________
[1] ـ  مصدّق رئيس وزراء أيران الأسبق والذي أممت حكومته شركة النفط البريطانية  وذلك في عام 1951 والغي قرار التأميم بعد إسقاط حكومته في عام 1952 بإنقلاب الجنرال زاهدي وهو الإنقلاب الذي خططت له وأشرفت على تنفيذه وكالة المخابرات المركزية الإمريكية.
[2] ـ هاشمي رفسنجاني، مذكرات وخواطر، كتاب بعنوان "تجاوز الأزمة". إصدارمكتب نشر المعارف الثورية ـ طهران شتاء عام 1998، باللغة الفارسية. نص الرسالتين في مقدمة الكتاب.   
[3] ـ المصدر السابق، ص 186.
[4] ـ المصدر السابق، ص 107 و108[/b][/size][/font]

59
ذكريات
سنوات بين دمشق وطهران
( 1 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

ذكرت في مسلسل القمع الوحشي بأني غادرت العراق في نهاية 1979. سافرت بجواز سفرأردني مزوًر الى الكويت برفقة عائلة كريمة ومن ثم الى موسكو عبر براغ. لم تطل فترة بقائي في موسكو. التقيت بالرفيقين عزيز محمد وباقر إبراهيم وقدمت لهما تقريرا شفهيا عن الوضع في الداخل وعن الإجراءات التي إتخذتها قبل مغادرتي. وإلتقيت لأول مرة، بعد إفتراقنا في بغداد، بأم شروق التي كانت قد باشرت الدراسة في معهد العلوم الإجتماعية في موسكو. ومن ثم التقينا بأبنائنا في المدرسة الأممية الداخلية ستاسوﭭﺎ في مدينة إﭭﺍنوﭭﺎ الواقعة على بعد 300 كم في الشمال الشرقي من موسكو. غادرت موسكو متوجها الى دمشق، بجواز سفر يمني صادر من السفارة اليمنية في موسكو، في اليوم الثاني من كانون الثاني 1980 تنفيذا لقرار حزبي بلغت به من قبل الرفيق عزيز محمد. وإلتحقت بي ام شروق بعد شهر واحد.

أقمنا في دمشق في شقة كبيرة نسبيا، منحها الحزب الشيوعي السوري لحزبنا لمدة سنة واحدة، وإلتحق للإقامة فيها معنا الرفيق باقر إبراهيم وزوجته. وأقام فيها بشكل مؤقت العديد من الرفاق على سبيل المثال: عبد الرزاق الصافي وعامر عبد الله وماجد عبد الرضا وثابت حبيب العاني وزكي خيري وسواهم. وكانت الشقة بمثابة مقر لعمل قيادة الحزب، ففيها تعقد إجتماعات أعضاء اللجنة المركزية المتواجدين في سوريا ولبنان، وفي هذه الشقة نوقش وأقر بيان اللجنة المركزية الذي أدان عدوان الحكومة العراقية على إيران في 22 إيلول 1980. كما كانت تعقد في الشقة أحيانا إجتماعات المكتب السياسي.

شكلت في دمشق هيئة حزبية صغيرة سميت (ناظم) من الرفيق باقر إبراهيم سكرتيرا وعضوية الفقيد مهدي عبد الكريم وانا. كانت (ناظم) بمثابة لجنة تنظيم مركزي ترتبط بها جميع المنظمات خارج الوطن والعقد التنظيمية في الداخل بإستثناء كردستان، التي كانت تحت إشراف المكتب السياسي ضمن الإستعداد للتهيئة للكفاح المسلح. وقد قررت اللجنة المركزية حل لجنة (ناظم) في إجتماعها المنعقد في موسكو في حزيران عام 1980. كانت هناك لجنة لتنظم الرفاق الموجودين في سورية وتنسق مع منظمة  لبنان في بعض الشؤون اليومية و تتكون من الرفاق صاحب الحكيم وجميل الياس ومحمد النهر وكنت سكرتيرها. وكانت ترتبط بي بعض العقد التنظيمية في داخل الوطن.

قضينا أم شروق وأناأكثر من عام واحدً في الشام زارنا فيها أخي حميد، ما أن إستلم مني خبرا وعنواناً للصلة بي في دمشق. ومن ثم زارنا أخي خليل وعائلته وحميد وعائلته أثناء وجود أبنائنا. ولم تكن تدابير الصيانة تسمح بإستضافتهم في شقتنا فأقاموا في فندق. وكانت أحوال أخوتي المالية جيدة فقضينا أوقاتاً ممتعة. وقد جاء خليل بسيارته الخاصة  فتجولنا بها لمشاهدة الكثير من المناطق الأثرية والسياحة من بينها تدمر ومعلولة وبلودان وعين خضرة وعين فيجة وسواها. وقضينا بضعة أيام في اللاذقية على ساحل البحر. وزوداني الأخوين ببعض النقود لمواجهة متطلبات أبنائنا ولتغطية تكاليف سفراتنا. وزارتنا كذلك أخت أم شروق  وأقامت في الشقة معنا. وقمت مع العائلة بسفرة الى لبنان لمدة إسبوع  قضيناها قي المدرسة الحزبية، الواقعة في جبل لبنان الرائع، والتايعة للجبهة الديمقراطية  لتحرير فلسطين والتي كان يديرها ويدرس فيها رفاقنا. كانت إقامتنا في دمشق بمثابة سفرة سياحية. لم نشعر في سوريا بالغربة لوجود العديد من عوائل رفاقنا وأصدقائنا وتماثل البيئة ومشاعر السوريين الطيبة تجاه العراقيين. في نهاية عام 1980، وعندما كان الرفيق عزيز محمد يهم بالخروج من باب شقتنا سلمني رسالة وقال لي:

ـ الرسالة من المكتب السياسي وهي لك.

قال ذلك وغادر بسرعة قاطعا علي الطريق  بأي سؤال. كانت الرسالة تتضمن قرارا  يقضي بإنتقالي الى إيران لإستلام مسؤولية المنظمة وتمثيل الحزب أمام الجهات السياسية التى لنا علاقة بها. لم أجد تفسيرا لعدم التشاور معي قبل إتخاذ القرار، خاصة وإن إثنين من أعضاء المكتب السياسي كانا يقيمان معي في نفس الشقة آنذاك وهما الرفيقان زكي خيري وثابت حبيب العاني. خمنت بأن تسليمي الرسالة، بالطريقة التي مر ذكرها، لم تكن سوى محاولة لتجنب مناقشتي. وقد وافقت مباشرة على تنفيذ القرار لا لتجنب الدخول في إيراد ومصرف، كما يقول المثل العراقي، مع المكتب السياسي، وإنما لقناعتي بأن الموقع هو المكان الملائم بالنسبة لي في ذلك الوقت. فقد كانت وجهة الحزب هي العودة من الخارج الى كردستان العراق لخوض الكفاح المسلح ضد النظام الدكتاتوري، والإنطلاق من هناك لإيجاد تنظيمات في المنطقة العربية من العراق. وكانت طبيعة إمكانياتي ككادر ميداني تنسجم مع وجودي في وسط هذه المعمعة. ولكن إستخدامي لسماعة الإذن كانت تحول دون تحقيق ذلك، فبطاريات السماعة يجب شحنها وهذا يتطلب توفر الكهرباء، والسماعة بحاجة الى صيانة وتصليحات وكل ذلك غير متوفر في جبال كردستان بالطبع، وتتوفر في المدن الكبيرة فقط. والى جانب ذلك فإن موقعنا في إيران أخذ يتحول الى القواعد الخلفية الأكثر أهمية لقواعد الأنصار. وايران لاتعتبر موقعا حزبيا آمنا فمنظمتنا تعمل بشكل سري، خاصة بعد أن القي القبض على الرفيق عادل حبه عضو اللجنة المركزية مسؤول المنظمة في طهران في ربيع عام 1980. ولم يكن من تقاليدنا الحزبية التهرب من المسؤوليات التي تحيط بها المخاطر. كل هذه العوامل دفعتني الى الموافقة على قرار المكتب السياسي حتى دون الإستفسار عن حيثياته ولا عن أسباب الطريقة غير العادية لإبلاغي  به.

إستقبلت أم شروق خبر موقعنا الجديد بترحاب وشجعتني عليه. كان تحفظي الوحيد والذي بحت به لأم شروق، هو إن موقعي الجديد سيبعدني عن مركز ثقل نشاط الحزب لأن موقع قيادة الحزب سيكون في كردستان، وهذا ما لا أرغب به. وبقي أمل الإلتحاق بكردستان متوقفا على إجراء عملية جراحية ثالثة للإذن، وهذه المرة ليس في موسكو وإنما لدى أشهر طبيب جراح في المانيا. وأجرى لي الطبيب المشهور العملية في بداية عام 1982 في برلين الشرقية. وفشلت العملية الجراحية فشلا ذريعا وفقدت السمع نهائيا في أذني اليسرى حيث أتلف الجراح عصبها السمعي خلال العملية. وكانت الطبيبة التي تقرر إجراء العملية قد نصحتني بعدم إجرائها وسألتني:

ـ لماذا تريد إجراء عملية لأذنك وأنت تسمع جيدا بواسطة السماعة؟

ـ أريد أن أتحرر من السماعة فهي تعيق حركتي وتلزمني بالإقامة في أماكن محددة.

ـ ولكن العملية فيها مجازفة فقد تفقد سمعك.

ـ ولكن نجاحها له أهمية فائقة بالنسبة لي.

ـ  أنا أنصحك بعدم المجازفة والأمر متروك لك.     

ـ مادام الأمر متروك لي، فأنا قررت إجرائها.

عند خروجي من المستشفى وتوديع الطبيبة إستفسرت منها مازحا :

ـ ألا تعطيني موعدا لإجراء عملية لأذني اليمنى؟

ـ لايوجد طبيب يجري عملية جراحية لإذن لمن فقد السمع بأحد أذنيه.

أجابت بهذه الجدية والحسم الألمانيين ولكن بلهجة ودية حيث كانت تعرف بأني أمزح معها وأروم تأكيد عدم مسؤوليتها عن فشل العملية.

لنعد الى قرار الحزب، فبعد حديثي مع أم شروق وفي نفس ذلك اليوم الذي إستلمت فيه الرسالة، وقبل عودة الرفيقين زكي خيري والعاني الى الشقة، ذهبت الى مكتبات دمشق وإشتريت كتابين لتعلم اللغة الفارسية، وعند عودتهما وجداني منكبا على دراسة اللغة الفارسية! درست اللغة بجدية تامة. كنت أعرف بعض الأوليات التي تعلمتها وانا في مسقط رأسي كربلاء. كنت أفهم الحديث اليومي باللغة الفارسية وأتمكن من الاجابة بإختصار. فقد كان بيتنا الذي نشأت فيه يقع في محلة العباسية الشرقية (المكلع) التي نادرا ما تسكنها أو تزورها عوائل إيرانية ولا يُسمع فيها اللغة الفارسية، ولكن في خان أبو الدهن ، حيث يقع محل عملنا، يتفاهم أكثر من خمسين عامل وحرفي باللغتين العربية والفارسية.

وأتذكر بأن الرفيق عبد الرزاق الصافي فاجأني خلال وجودنا في صوفياعندما أخبرني بأن علي أن أقوم بالترجمة في اللقاء المقررعقده بين وفدنا ووفد حزب توده ايران ، على هامش مؤتمر الحزب الشيوعي البلغاري الذي إنعقد عام 1976، فقد إعتذر البلغار عن توفير مترجم وكان من المتعذر تأجيل اللقاء. فإعتذرت لعدم إحاطتي اللغة السياسية والأدبية الفارسية، فطلب الصافي مني أن أجرب وإذا تعذر التفاهم فسنتحول الى اللغة الروسية. وكان وفدنا برئاسة الرفيق عزيز محمد وعضوية الرفاق الصافي وآرا خاجدور وأنا، أما الوفد الإيراني فقد كان برئاسة الرفيق أيرج إسكندري سكرتير اللجنة المركزية ولكن نورالدين كيانوري عضو الوفد هو الذي تحدث في اللقاء! وفعلا لم أتمكن من أداء مهمة الترجمة وتحولنا الى اللغة الروسية، وكنا أربعتنا ضعيفين بها.

تأخر سفرنا الى طهران لبضعة أشهر لأسباب فنية تتعلق بتوفير جوازات السفر الملائمة لي ولأم شروق. وخلال هذه الفترة تعلمت القراءة باللغة الفارسية وواصلت تعلمها ذاتيا في ايران وأخذت اترجم المواد السياسية التي تنشر في الصحف وإدبيات المعارضة التي نقدر بأن من المفيد إطلاع قيادة الحزب وجهاز إعلامنا عليها. وترجمت كراسا مهما لقائد منظمة فدائيي خلق ـ الأكثرية، طبعه الحزب في كراس ونشر في مجلة النهج. كنت أتفاهم باللغة الفارسية بدون أي مشكلة وأفهم أي حديث سياسي أو أدبي ولكن لم أتحدث بطلاقة في هذا المجال، ولم أتعلم الكتابة لعدم حاجتي لها ضمن مهمتي المكلف بها. إن تعلم اللغة ساعدني على متابعة الوضع السياسي بشكل جيد فكتبت بضع مقالات نشرت في الثقافة الجديدة تعالج بعض جوانب الوضع السياسي، وهي الآن غير موجودة في متناول اليد. أتذكر عنوان أحدى المقالات وكان "الى أين تسير الثورة الآيرانية ؟" وكتبته بعد الضربة التي وجهت الى حزب توده ايران . وكنت أنشر، خلال وجودي في ايران، بإسم مستعار وهو محمد أمين.

في آذار عام 1981 سافرنا أم شروق وأنا ومعنا الفقيد مهدي عبد الكريم وصديقنا  العزيز كاظم الصايغ الى طهران. ورافقنا الأخير لمساعدتي بالتعرف على بعض التجار من العراقيين المهجرين في بداية السبعينيات الذين سأحتاجهم في إنجاز بعض المهام. في مطار طهران كان التفتيش دقيقا وصادروا راديو الفقيد مهدي عبد الكريم لأنه يحوي موجة ! F M           

إستقر بنا المقام، أم شروق وأنا، في بيت الرفيق فلاح، مسؤول المنظمة الذي كان يقيم مع عائلته المهجرة في جنوب طهران. والعائلة من معارفنا في بغداد. ومعرفتي وصداقتي الشخصية مع فلاح تعود الى عام 1964 حيث باشرنا بإعادة بناء منظمة بغداد وكان عضوا في مكتب لجنة المنطقة وكنت سكرتيرها. ومن ثم إلتقينا في المنطقة الجنوبية وكان أيضا في مكتب لجنة المنطقة وسكرتيرا للجنة محلية البصرة وكنت سكرتيرأ للجنة المنطقة. كنا منسجمين ومتفاهمين وكانت علاقتنا ودية، لذلك فقد فرحنا للقائنا مرة أخرى. وتوقعنا نتائج مثمرة ونجاحا في مهمتنا. 

التأشيرة في جوازاتنا تسمح لنا بالبقاء لمدة شهرواحد قابلة للتمديد لفترة قصيرة. ومن المتعذر الحصول على إقامة بالإعتماد على جوازاتنا، فكانت المهمة الملحة أمامنا هي إيجاد وثائق شخصية تسمح لنا بالإقامة في ايران بشكل شرعي، وقد تم إنجازها بيسر. كنت أحمل هوية المهجرين العراقيين الخضراء الأصولية والصادرة من دائرة رسمية بإسمي الصريح، بدون لقب. كانت أوليات المعاملة نصف ورقة مكتوب عليها بضعة كلمات فقط وهي:

ـ الى من يهمه الأمر... حامل الورقة كان لاجئا في معسكرنا. مع ختم وتوقيع وتاريخ وإسم معسكر من المعسكرات الملغية. بدلنا الأسم فقط .
 
رافقني الى الدائرة رفيق طيب وبسيط كمترجم. إستفسر مني المسؤول في الدائرة:

ـ هل أنت عراقي؟

ـ باله، اجبته  بالفارسية ، نعم.

ـ ماهي مهنتك؟

ـ تاجر

فجأة قاطعنا مرافقي وإنبرى قائلا:

ـ أستاذ لا يغرّك منظره (الفقير) فهو ليس كذلك ، فلديه حقيبة دبلوماسية ولم يجلبها خوفا من سرقتها من راكبي الدراجات النارية!

لم يطرح المسؤول أي سؤال إضافي علي بعد سماع ما قاله مرافقي. فمنحني الهوية دون إطالة. وكان من حقي تسجيل أسماء أفراد عائلتي في الهوية فسجلت إسم أم شروق الصريح. وظلت "الحقيبة الدبلوماسية" موضع تندرنا لفترة من الوقت بيني وبين الرفيق فلاح.

يتبع[/b][/size][/font]



60
الديمقراطية في الحزب الشيوعي العراقي
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

هذا سؤال آخر من أسئلة السيد يوهان فرانزين وجوابي عليه، أنشره تحت العنوان المذكور. وسبق أن نشرت أجوبتي على عدد من أسئلته. 
السؤال: هل تعتقد الآن بأن الديمقراطية الحزبية كانت مفعّلة؟ هل كان لديك دور واضح في اتخاذ القرارات المهمة، كعضو قيادي، هل هناك قرارات اتخذت من وراء ظهرك في المكتب السياسي؟
الجواب: لم تكن الديمقراطية مفعّلة، ولكنها لم تكن معدومة داخل الحزب الشيوعي العراقي. وسأتناول الموضوع من خلال ثلاث آليات وهي الإنتخابات والمناقشات ونظام إدارة الجلسات .
1. الإنتخابات: لم تجر إنتخابات للجنة المركزية كهيئة، بعد إعدام الرفيق يوسف سلمان يوسف (فهد) ورفيقيه زكي بسيم (حازم) وحسين الشبيبي ( صارم)  عام 1949، وإعتقال أعضاء اللجنة المركزية و سحق منظمات الحزب في الحملة البوليسية في تلك الفترة، إلا في عام 1956، وذلك في الكونفرنس الحزبي الثاني، ومن ثم في الكونفرنس الحزبي الثالث عام 1967. وبعد ذلك في المؤتمر الوطني الثالث. ليتواصل إنتخابها في المؤتمرات اللاحقة. واللجنة المركزية هي التي تنتخب  المكتب السياسي والسكرتير. وكان مندوبوا المؤتمرات يُنتخبون في كونفرنسات محلية.
في أواسط السبعينيات، وعندما كان الحزب علني، كانت الخلايا تنتخب سكرتاريها تطبيقا لمادة في النظام الداخلي موروثة من أول نظام داخلي للحزب. وإشترك جميع أعضاء الحزب، بشكل مباشر أوغير مباشر [1]  ، في إنتخاب مندوبي المؤتمر الوطني الثالث، والذي عقد في مقر الحزب المركزي العلني في بغداد عام 1976.
جميع الإنتخابات في الحزب حتي المؤتمرالرابع الذي عقد في عام 1985، كانت غير فعالة، لإجرائها بدون منافسة، تماما كما كانت تجري في الأحزاب الشيوعية الأخرى، لأن آلية الترشيح كانت مركزية. وقائمة المرشحين تساوي، على الأغلب، العدد المطلوب إنتخابهم. وإن وجد هامش للمنافسة فهو محدود جداً. فمثلا، كانت القائمة في الكونفرنس الثالث تضم 16 رفيقا، 13 منهم يُنتخبون كاعضاء والثلاثة الباقين يكونون أعضاء مرشحين وهم الذين يحصلون على أدنى الأصوات.
والترشيح من خارج القائمة كان نادرا. وقد حصل "إختراقان" في إنتخابات اللجنة المركزية أحدهما في الكونفرنس الثالث، حيث رُشح أحد الرفاق من قبل المندوبين وفاز بصفة عضو. وهو كاتب هذه السطور. والثاني في المؤتمرالثالث حيث فاز الفقيد عمر الياس بصفة عضو مرشح للجنة المركزية من خارج القائمة.
2. المناقشات: لقد أعيد بناء الحزب الشيوعي العراقي في إربعينيات القرن الماضي، في عِز الستالينية، وكانت مفاهيم كالضبط الحديدي و مفهوم الوحدة الفكرية المنافي للديمقراطية، الذي كان ينص عليه النظام الداخلي للحزب، يضيّق على المناقشات.
وإذا ما فرضت الظروف، على الحزب مناقشات سياسية و فكرية حادة، فلم يكن يتحمله الإطار المذكور، فتنشأ أرضية صالحة للإنشقاقات، كما حصل ذلك في عام 1953، وأقصد إنشقاق منظمة راية الشغيلة. أو في عام 1967، إنشقاق القيادة المركزية، وقد كانا إنشقاقين خطيرين في الحزب، الحقا أضراراً فادحة به.  وقد حصل كل منهما بعد أربع سنوات من إنتكاستي 1949 و1963 على التوالي!
بالإرتباط مع الشروع بعقد كونفرنسات ومؤتمرات الحزب إبتداءا من النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وما تطلبه ذلك من مناقشة لمسودات الوثائق، تنامت حرية المناقشة في الحزب. و مما ساعد على ذلك هو إرتفاع المستوى الثقافي العام في البلاد والوعي داخل الحزب وعودة مجموعة كوادر درست في الخارج في المدارس الحزبية ومجاميع أخرى أنهت دراستها الأكاديمية في مختلف الدول الأوربية.
وكان للرفيق عزيز محمد الذي أنتخب سكرتيرا للجنة المركزية، في تلك الفترة دورا في ذلك، فهو بطبيعته ليس بيروقراطيا، ويميل للقيادة الجماعية، وينأى بنفسه عن الخلافات الفكرية والسياسية الحادة في اللجنة المركزية، ويحاول إيجاد الصيغ التوفيقية.
3. نظام إدارة الجلسات: كانت جلسات المؤتمرات والكونفرنسات المحلية على مختلف المستويات تدار سابقا من قبل قيادة الحزب أو المنظمة المعنية بالكونفرنس، بما في ذلك إجراء الإنتخابات. ومنذ نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، باشرت بعض منظمات الخارج الأخذ ببعض المبادئ الديمقراطية في إدارة الجلسات.
وقد تبلورت أخيرا في نظام متكامل ومكتوب بأدق التفاصيل في " مؤتمر الديمقبراطية والتجديد " وتحول الآن الى جزء من تقاليد العمل . وقواعد هذا النظام، هي نفس القواعد المعمول بها في المنظمات والأحزاب الديمقراطية في العالم. ومن  فقراته ما يلي:
ـ إنتخاب هيئة رئاسة للمؤتمر أو الكونفرنس المحلي، وإنتهاء مهمة الهيئة المنتخبة سابقا.
ـ إنتخاب لجنة إعتماد، والتي من ضمن مهامها إجراء الإنتخابات للهيئات القيادية الجديدة من البداية وحتى النهاية وبدون تدخل أحد في شؤونها ،على ان لا يكون احدا من اعضائها مرشحا لتلك الهيئات . وتجري الإنتخابات بشكل سري .
هذا فضلا عن قواعد التصويت على المقترحات ومشاريع القرارات و...الخ
***
وفيما يتعلق الأمر بدوري في إتخاذ القرارات المهمة، فأعتقد بأن دور أي عضو في اللجنة المركزية كان مهما، فقرارات اللجنة المركزية لم تتخذ دائما بالإجماع وعندذاك يصبح كل صوت مهما، على سبيل المثال لا الحصر:
** في إجتماع اللجنة المركزية الطارئ المنعقد في تموز عام 1973، وكان مكرسا لمناقشة عقد التحالف مع حزب البعث. ( لم أحضره لوجود ي خارج العراق في معهد العلوم الإجتماعية في موسكو) جرت مناقشة حادة في اللجنة المركزية التي إنقسمت على أثرها الى قسمين، وصوت لصالح عقد الجبهة سبعة رفاق وعارضها ثمانية رفاق. أعيد النقاش ثانية في اللجنة، وعند التصويت تحول الرفيق أحمد بانيخيلاني من معارض الى مؤيد. وبعد هذا الإجتماع أعلنت الجبهة.[2]
** في إجتماع اللجنة المركزية المنعقد في نيسان عام 1965، لم يكن شعار إسقاط السلطة واردا لا في مسودة البيان الذي طرح للمناقشة من قبل رفاق المكتب السياسي، ولا بعد تعديله على ضوء المناقشات التي جرت في المنظمات. وإنما طرح للمناقشة في الإجتماع من قبل أعضاء اللجنة المركزية.
وكان ما ورد في مطالعتي في الإجتماع، بأن الرأي العام في منظمة بغداد ( أكبر وأهم منظمات الحزب، وكنت سكرتير لجنتها ) يطالب برفع الشعار المذكور، قد لعب دوره في إستمالة أعضاء اللجنة المترددين لتبني الشعار.
وطبيعة مهمتي في اللجنة المركزية في الفترة العلنية في سبعينيات القرن الماضي كانت تتيح لي أن العب دورا لايستهان به.
فقد كنت سكرتيرا للجنة التنظيم المركزي وعضو سكرتارية اللجنة المركزية، والأخيرة هيئة صغيرة من خمسة رفاق، منتخبة من اللجنة المركزية يرأسها سكرتير اللجنة المركزية الرفيق عزيز محمد وهي مسؤولة عن إدارة شؤون العمل اليومي للحزب، ولديها صلاحيات مهمة. وكنت عضوا في لجنة العمل الآيديولوجي وكان سكرتيرها زكي خيري، ومشرفا على لجنة التوجيه الفلاحي ومشرفا كذلك على المدرسة الحزبية المركزية!؟
***
أما بخصوص سؤالك: هل هناك قرارات اتخذت من وراء ظهري في المكتب السياسي؟
كانت تتخذ الكثير من القرارات الهامة في المكتب السياسي من وراء ظهري وظهر اللجنة المركزية،  ولكنها كانت ضمن صلاحيات المكتب السياسي الواسعة والمنصوص عليها في النظام الداخلي. فالمكتب السياسي حسب النظام الداخلي القديم كان يقوم مقام اللجنة المركزية بين إجتماعاتها. وكان النص كما يلي:
ـ المكتب السياسي ـ هو مكتب اللجنة المركزية وينوب عنها بين الإجتماعات ومسؤول عن نشاطه تجاهها وينفذ جميع مهامها وله صلاحياتها. ( خطوط التشديد مني. ج)
وقد غير"مؤتمر الديمقراطية والتجديد" المنعقد في عام 1993، مهام المكتب السياسي جذريا، فقد جاء في النظام الداخلي الذي أقره مايلي:
ـ المادة 17 المكتب السياسي للجنة المركزي للحزب
1ـ  المكتب السياسي هو مكتب اللجنة المركزية، يسهر على تنفيذ قراراتها، وهو مسؤول أمامها.
2ـ على المكتب السياسي تقديم تقارير منتظمة الى إجتماعات اللجنة المركزية، تتناول تطبيق الخط السياسي العام للحزب، وقضايا الحزب الداخلية وماليته.
وتكرر هذا النص في الطبعات الجديدة للنظام الداخلي في المؤتمرات اللاحقة.   
أما فيما يخصني شخصيا، على سبيل المثال ، فقد نسبت للعمل كسكرتير لأكثر من لجنة محافظة ولجميع اللجان المنطقية في العراق والعاصمة بغداد ثلاث مرات ومنظمة خارج الوطن، ولم يجر التشاور معي قبل إتخاذ القرار، ولا مرة واحدة، وكان ذلك جزء من تقاليد العمل الحزبي آنئذ.
والمرة اليتيمة التي جرى فيها التشاور معي كانت في عام 1985، حيث عرض عليّ المكتب السياسي ثلاث مهام لإختيار واحدة منها، وعندما عرفت بأن الحاجة ماسة لكي أكون ممثلا للحزب في بلغاريا ولقيادة المنظمة هناك، لم أتردد في الموافقة، وكانت إحدى المهام الأخرى مسؤولية قيادة منظمات الخارج والتي كان مقرها في براغ . أما الثالثة فكانت مسؤولية قيادة منظمة موسكو.
 ***
منذ عام 1990، وقبل ذلك بقليل، شرعت المنظمات بمناقشات واسعة تستهدف دَمقرطة وتجديد آيديولوجيا الحزب وذلك من خلال مناقشة وثيقة مركزية. وأصبح طرح وثائق الحزب الأساسية للمناقشة على قاعدة الحزب وجمهرة أصدقائه والقوى والأحزاب الوطنية وعموم أبناء الشعب، قبل إقرارها في مؤتمرات الحزب، نهجا ثابتاً منذ ذلك الحين. أما قبل ذلك فكان إعتماد هذه الآلية وسعة إستخدامها خاضعة للظروف السياسية.
وأخذت المنظمات خارج الوطن، وحيثما لايوجد عائق أمني، تنتخب هيئاتها القيادية بطريقة ديمقراطية عن طريق الترشيح الفردي. وفي المؤتمر الوطني الخامس ( مؤتمر الديمقراطية والتجديد)، الذي مر ذكره والذي حضرته، كما ذكرت ذلك سابقا، جرت الإنتخابات بطريقة ديمقراطية لاتشوبها أية شائبة. وإستمر الحال، ولا يزال على نفس المنوال.
ولا غرو في ذلك فقد تحول الحزب الشيوعي الى حزب ديمقراطي، فقد جاء في مقدمة النظام الداخلي الراهن، وهي نفس المقدمة التي أقرًت في "مؤتمر الديمقراطية والتجديد" مايلي:
ـ والحزب الشيوعي العراقي حزب ديمقراطي، من حيث جوهره واهدافه وبنيته وتنظيمه ونشاطه، ومن حيث علاقاته بالقوى الإجتماعية والسياسية الأخرى. وهو إذ يرفض كل شكل من أشكال الحكم الإستبدادي والتسلط السياسي ومصادرة حقوق الإنسان، يناضل من أجل إقامة نظام سياسي ديمقراطي، وتأمين العدالة الإجتماعية.
________________________________________
[1] ـ لم يشترك أعضاء الخلايا في  إنتخاب مندوبي المؤتمر مباشرة بل ساهموا في ذلك من خلال سكرتاري الخلايا المنتخبين.
[2] ـ للمزيد أنظر بهاء الدين نوري. مذكرات، ص 424. يحتمل أن يكون هناك إلتباسا في عدد الحضور، فمعلوماتي تفيد بأن عددهم كان 13 رفيقا.[/b][/size][/font]

61
الآيديولوجيا والبراغماتية في سياسات الحزب الشيوعي العراقي السابقة
( 2 – 2 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

جاء الموقف الإيجابي للجنة المركزية تجاه البعث بعد إنقلاب 17ـ 30 تموز بناء على الوجه الجديد الذي جاء به حزب البعث، الذي وعد الشعب، في بيانه الأول:
ـ السير على سياسة مكافحة الإستعمار والتمسك بالتضامن العربي. وإن حكمه جاء ردا على نكسة الخامس من حزيران 1967. وإنه عازم على حل القضية الكوردية سلميا والإستجابة لمطالب الأكراد القومية. وبشر بسياسة الإنفتاح على القوى الوطنية والتقدمية وطي صفحات الماضي السلبية. وأكد ذلك مرة أخرى في بيان رئيس الجمهورية في 30 تموز 1968، بعد نجاح الإنقلاب التكميلي والذي دعا فيه القوى الوطنية للمشاركة في مسؤولية الحكم.
وللموقف خلفيات جديرة بالذكر وهي:
اولا:على أثر هزيمة 18 تشرين الثاني 1963، التي مني بها حزب البعث، سلطة وتنظيما، بهزيمة كبيرة وتشتت شمله، ساد في الحزب شعور بالإثم أدى الى أن ينتقد نفسه في مؤتمره القومي السادس على تواطئه مع الإمبريالية وإيغاله بمعاداة الشيوعية وبتفريطه بالتضامن العربي وتبنى شعار الجبهة الوطنية بديلا عن الحزب القائد.     
ثانيا: قبل الإنقلاب بأكثر من شهر جرى لقاء بين الكادر المتقدم في الحزب الشيوعي العراقي والشخصية المعروفة المحامي مكرم الطالباني ( اصبح وزيرا للري، كأحد ممثلي الحزب الشيوعي في حكومة البعث) وأحمد حسن البكر، بناء على طلب البعث. [1] وتحدث البكر عن ضرورة طي الصفحات الحزينة في ماضي الحزبين. وذكر بأن أخذ السلطة الآن في متناول حزب البعث، ولكنه لا يريد تكرار الماضي والصراع بين القوى الوطنية وينشد التعاون والمشاركة. لقد ناقشه مكرم ولم يعطه موقفا محددا. وقد إطلعت شبكة من الكادر على مضمون اللقاء ودارت مناقشات حوله. وكان الرأي السائد هو رفض التعاون.
قبل إجتماع اللجنة المركزية إلتقى مكرم ثانية بالبكر وهذه المرة في القصر الجمهوري. ومما قاله البكر:
ـ كان يرغب أن يدخل القصر وحزب البعث على يمينه والحزب الشيوعي على يساره. وأكد على ضرورة التعاون...
وهكذا إتخذت اللجنة المركزية موقفا إيجابيا، براغماتيا،  من الحكومة عن طريق طرح المطاليب المهمة والملتهبة ليمتحن مدى صدق وعودها وشعاراتها التي أطلقتها أمام الشعب وفي مقدمة تلك المطاليب مايلي:
حل مشكلة الديمقراطية والنظام الديمقراطي وإزالة آثار الإرهاب عن الجماهير والأحزاب الوطنية ومصادرة الحريات، وإنهاء الفترة الإستثنائية ونقل البلاد الى الحياة الدستورية الديمقراطية، وإيداع السلطة الى برلمان منتخب من الشعب. وحل المسألة الكوردية حلا ديمقراطيا وإقرارحق الشعب الكوردي في الحكم الذاتي ... وقد كنت على وفاق مع الحزب في موقفه هذا.
جدير بالملاحظة، إنه لم يكن مع سكرتير اللجنة المركزية عزيز محمد سوى عضو واحد من أعضاء المكتب السياسي في بغداد وقتذاك وهو الرفيق باقر إبراهيم، والإثنان كانت تغلب عليهما السمة البراغماتية، وقد توصلا الى التريث في إتخاذ موقف، ومراقبة تطورات الوضع، وإيد موقفهما الفقيد مهدي عبد الكريم المنسب للمكتب السياسي و قد مهّد هذا الموقف الى موقف اللجنة المركزية الإيجابي.
كان هذ الموقف البراغماتي صحيحا. وعندما جرى تقويم سياسة الحزب، لاحقا، الذي أقر من قبل المؤتمر الرابع عام 1985، بعد أن نوقش داخليا وأقر في إجتماع اللجنة المركزية، لم يكن هناك أي إعتراض على الموقف المذكور. ولكن التقويم خطأ مواقف لاحقة للجنة المركزية إتصفت بالتطرف في النهج البراغماتي الحقت، بهذا القدر أوذاك، ضررا بالحزب  والحركة. ولكن كما ذكرت في أحد المسلسلات  بأني على قناعة تامة ، بأن أصوب سياسة للحزب لم يكن بمقدورها التأثير على مجرى تطور الوضع السياسي في العراق بإتجاه منع أوعرقلة تركز وتمركزالدكتاتورية الصدامية ، ولكن كان يمكن أن يكون الحزب في وضع أفضل نسبيا لمقاومة النظام، وهذا بحد ذاته أمر لايستهان به مأخوذا بعواقبه المستقبلية. وإذا أردتم المزيد عن هذه الفترة ودوري فيها فأحيلكم الى مسلسل " الدراسة الحزبية في الخارج "       
***
وللحزب مواقف عديدة، يغلب على طابعها، في نظري، البراغماتية في تاريخه، كانت صحيحة وسأشير اليها بإختصار، على سبيل المثال لا الحصر:
** الشعار السياسي الرئيسي الذي طرحه باني الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف ( فهد) في الميثاق الوطني الذي أقره الكونفرنس الأول عام 1944 وهوبرنامج الحد الأدنى:
ـ نناضل لإيجاد حكومة تعمل لمصلحة الشعب وجهاز حكومي ديمقراطي صحيح في نظام حكومتنا.
كان شعارا ملائما، واقعيا وعمليا،  يعبر عن الحاجات الملحة التي تواجه البلد وممكن التحقيق، ومقبول لدى الأحزاب الوطنية، وحتى إنه دستوري. ولاحظنا كيف تعرض هذا الشعار للإنتقاد من قبل الرفيق زكي خيري من منطلق آيديولوجي دوكماتي.
** دخوله الجبهة الوطنية في ايار 1954، لإنتخاب يرلمان جديد وقد وقع ميثاقها حزبي الوطني الديمقراطي والاستقلال، واستعيض عن توقيع الحزب الشيوعي العراقي بتواقيع ممثلي العمال والفلاحين والمحامين والطلاب والأطباء والشباب.  وقد فازت الجبهة بأحد عشر مقعداً في المجلس النيابي رغم التزوير الواسع، واعتبرذلك إنجازا للحركة الوطنية. ولم يتحمل النظام الملكي البائد هذه المعارضة فحل المجلس بمرسوم ملكي بعد إنعقاد جلسته الأولى. وكان على رأس الحزب آنئذ الرفيقان كريم أحمد وحسين الرضي ( سلام عادل)، وكان الأخير مسؤولا عن  لجنة العلاقات الوطنية في الحزب .
وتعتبرهذه الممارسة خاطئة بعرف الجمود العقائدي لأنه يجب أن يكون الدور القيادي في أي جبهة للحزب الشيوعي، [2] في حين كانت القيادة مشتركة مع الأطراف الأخرى. ولم يوقع الحزب بإسمه على ميثاق الجبهة، وكانت حصة الأسد من مرشحي الجبهة للأحزاب البرجوازية.
**  جبهة الإتحاد الوطني التي أقيمت في آذار 1957 وتنسيق الحزب مع منظمة الضباط الأحرار الذين كانوا بصدد القيام بإنقلاب عسكري. وكان سلام عادل على رأس الحزب. والخط السياسي الذي أدي الى قيام الجبهة كان قد أقر في الكونفرنس الثاني للحزب عام 1956، وقد تعرض هذا الخط الذي كان في صلب إنتصار ثورة 14 تموز، الى إنتقاد شديد من منطلقات آيديولوجية جامدة على يد الفقيد زكي خيري والرفيقة سعاد خيري فكتبا مايلي:
ـ وجاء في التقرير الذي أقره الكونفرنس الثاني والذي نشر في كراس بعنوان " خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي في تحديد المهمة الرئيسية للمرحلة"، " إن ما يواجه بلادنا الآن وقبل كل شيء ضرورة تحويل السياسة القائمة من سياسة التعاون مع الإستعمار وتوافق مع الصهيونية وإنعزال عن حركة التحرر العربي الى سياسة وطنية عربية مستقلة. ولذلك فإن مهمة الإنتقال الى الإشتراكية وتحويل السلطة السياسية الى أيدي العمال والفلاحين وحلفائهم ليست هي المهمة التي تواجهها حركتنا في الظرف الراهن.
ويعلق الكاتبان على هذه الفقرة بالقول:
ـ هنا عودة ثانية الى الوراء بالنسب للشعار الستراتيجي وخلط واضح بين حكومة العمال وفقراء الفلاحين، التي تعني دكتاتورية البروليتاريا الإشتراكية، وبين حكومة العمال والفلاحين جميعا بما فيهم الأغنياء والبرجوازية الوسطية والصغيرة، والتي هي دكتاتورية الشعب الديمقراطية الثورية التي تعني إنتصار الثورة الوطنية الديمقراطية الكامل،الذي لم تحققه ثورة 14 تموز جراء إحتكار البرجوازية الوطنية للسلطة وعدم تمكن البروليتارية من قيادة السلطة.[3]
ومع إن الكاتبان يؤيدان إنعطاف الحزب جديا نحو الجيش، الا إن ذلك لم يسلم من تحفظات من منطلقات آيديولوجية جامدة أيضا فكتبا ما يلي:
ـ بيد إن التركيز على سلك الضباط بدل الجنود ينطوي على خطر إعطاء القيادة لهم وهم على العموم من مختلف فصائل البرجوازية اي تسليم قيادة التنظيم العسكري للقيادة البرجوازية كما جرى فعلا وفي الواقع الملموس يؤدي الى ضياع التنظيم. [4]
** عندما رفض قاسم إجازة حزبنا في 1960، بعد أن أجاز بدلا منه حزبا وهميا بنفس الإسم، بحجة " قانونية " وهي عدم جواز إجازة حزبين بنفس الإسم. فقدم الحزب طلبا ثانيا ووضع إسم جريدة الحزب " إتحاد الشعب" بين هلالين بعد إسم الحزب الشيوعي العراقي. وكان الرفيق زكي خيري على رأس الحزب في الوطن والرفيق حسين الرضي (سلام عادل) في موسكو. وقد إستاء الأخير لهذا التغيير من منطلقات آيديولوجية جامدة. ويشيرالرفيق زكي خيري الى موقف الرضي فيقول:
ـ إستاء الرضي أشد الإستياء من هذا التدبير التساومي. ولدى محاسبة المعارضة في ايلول 1962، اعتبر ذلك دليلا على إنتهازيتنا (هكذا ورد) وإدخالها النفوذ البرجوازي الى الحزب. [5]
وهكذا رغم المناقشات الآيديولوجية الواسعة في اللجنة المركزية، فمن الصعوبة الحكم أيهما، الآيديولوجيا أم البراغماتية ، كانت الأكثر إعتماداً عند إتخاذ القرارات المهمة في اللجنة المركزية. فهي حسب كل قضية وظروفها. ففي ذروة مناقشاتنا الآيديولوجية وقع إنقلاب 17 ـ 30 تموز 1968 وأخذنا نتعامل معه براغماتياً. ولابد من الإشارة بأن دور الأشخاص وطبيعتهم الغالبة، في هذه الفترة أو تلك، براغماتية أم ايديولوجية، ومدى تاثيرهم في القرار، كانت تلعب دورا هاما في طبيعة القرار.
وإن إسترشاد الحزب بأيدولوجيته لم تمنعه من إتخاذ مواقف وتكتيكات براغماتية كانت في أساس نجاحاته. فنجاح ثورة 14 تموز، والتي كان للحزب دورا فعالا فيها، يعود الى غلبة الطابع البراغماتي في سياسته ونشاطه، قبل وبعد الثورة مباشرة, ولكن الإنحراف عن ايديولوجيته ( خط آب)  أثارت علامة إستفهام على ضرورة وجوده، فلم يتشفع له آنذاك سوى العودة الى آيديولوجيته. وكذا الحال بالنسبة للأخطاء التي أرتكبت خلال التحالف مع البعث، فقد كانت ذات طابع براغماتي خاطئ. 
وإن الجمع الصحيح بين البراغماتية والايديولوجيا في نشاط الحزب كان يحقق مكاسب وإنجازات له وللشغيلة وللوطن ويكسب التضامن لنضاله، ويساهم في التضامن مع نضال الشعوب العربية وشعوب العالم من أجل الحرية والديمقراطية والسلام العالمي. وكانت الإخفاقات والإنتكاسات (غير تلك التي يتحمل مسؤوليتها القمع السلطوي) ترافق عادة أما جموده آيدبولوجيا أو إنحرافه عنها.
 هذا الإستنتاج يغطي مراحل مختلفة من تاريخ الحزب والتي تنتهي بإنتهاء الثمانينات. أما بعد ذالك فهو ، بإعتقادي، لم يعد يحافظ على كامل صوابه، بعد إنهيار النظام الإشتراكي الشمولي، وإنتهاء الحرب الباردة ونشوء القطب الواحد، وثورة التكنولوجيا والمعلوماتية وتأثيرات العولمة الموضوعية وغير الموضوعية، إلا إذا أخذنا بنظر الإعتبار التجديدات التي جرت ولا تزال على آيديولوجيا الحزب. فمنذ بداية التسعينيات جرت مناقشات واسعة داخل الحزب، تناولت الكثير من المسلّمات وتُوّجت النتيجة في وثائق المؤتمر الوطني الخامس للحزب المنعقد في تشرين الأول 1993، والمسمى " مؤتمر الديمقراطية والتجديد"،  وقد حضرته.
وكان لي دورا مشرفا في المساهمة في التجديد. فقد شكلت هيئة، خلال التهيئة للمؤتمر، لوضع مسوّدة النظام الداخلي الجديد من الرفاق حميد مجيد موسى، الذي أنتخب سكرتيرا للجنة المركزية، لأول مرّة، على أثر المؤتمر المذكور، والفقيد حمبد يخش ( أبو زكي) وأنا. ومن خلال مقدمة النظام الداخلي يمكنكم الإطلاع على التغييرات التي حصلت على آيديولوجيا الحزب. وقد تكررت المقدمة ذاتها في الطبعات الجديدة للنظام الداخلي في مؤتمري الحزب السادس والسابع المنعقدين في عامي 1997 و2001، على التوالي وقد شاخت بعض أجزاء تلك المقدمة، في نظري، الآن.
وقد واصل الحزب تجديد آيديولوجيته لاحقا وتبنى التعددية والتداولية. وإنخرط في العملية السياسية الجارية في البلد والتي تستهدف تحقيق شعار الحزب الستراتيجي الذي تبناه منذ المؤتمرالوطني الخامس، وهو إقامة نظام ديمقراطي فيدرالي موحد. كل ذلك التجديد ساعد ويساعد الحزب على مواجهة ظروف فريدة من نوعها وغاية في الصعوبة والتعقيد، وعليه أن يسجل، رغم عنها ورغم التحديات الكبيرة، حضورا واضحا ومؤثرا ومتناميا.
________________________________________
[1] ـ ملاحظة : قبل أن يحصل اللقاء المذكور أعلاه، وفي لقاء بيني وبين الرفيق عزيز محمد في بيت الكادر المتقدم الرفيق كامل كرم في بغداد، اخبرني عزيز محمد بطلب حزب البعث اللقاء بحزبنا. وقد أيدت إجراء اللقاء للتعرف على ما يدور حولنا. وعندما طلب مني أن أذهب أنا الى اللقاء ،أجبته  بأني لست الشخص المناسب لمثل هذا اللقاء ويفضل أن يكون ممثلنا شخصية إجتماعية معروفة لأن هذه الأوساط تعير أهمية لذلك ، هذا فضلا عن إني أعاني من ثقل في سمعي. وقد تفهم الرفيق عزيز موقفي. وقد كنت مقيما آنئذ في مدينة النجف حيث كنت سكرتيرا للجنة منطقة الفرات الأوسط.
[2] ـ في مناقشتهما لتقرير الكونفرننس الثاني للحزب يشير الرفيقان زكي خيري وسعاد خيري في كتابهما، " تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" ص 229، الى المفهوم الجامد لمبادئ الجبهة على الوجه التالي:
ـ  ولم يشر( التقرير)الى المبادئ الأساسية لتكوين الجبهة الوطنية كما ثبتتها تجارب الحركة الشيوعية العالمية ولخصها الرفيق فهد ( أين؟ ) أي إنه لم يشر الى القاعدة الأساسية للجبهة وهم العمال والفلاحون ولم يشر الى دور الحزب الشيوعي القيادي فيها وهذ الخطأ منبثق من الخطأ الاستراتيجي الأساسي في مسألة السلطة.
[3]ـ المصدر السابق، ص 225
[4] ـ المصدر السابق، ص 229 
[5] ـ  زكي خيري. صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم، ص 232. المقصود بالمعارضة في المقتبس هي معارضة داخل قيادة الحزب وكانت تتكون من أربعة رفاق وهم كل من الرفاق زكي خيري ومحمد حسين أبو العيس وعامر عبد الله وبهاء الدين نوري . وقد أتهموا بالتكتل و...الخ وجردوا من مراكزهم الحزبية في عام 1962. وقد أعيد النظر في القرار وأعيد الأعتبار اليهم في إجتماع آب 1964.[/b][/size][/font]

62
الآيديولوجيا والبراغماتية في سياسات الحزب الشيوعي العراقي السابقة
(1 ـ 2 )

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
 
 وجه لي السيد يوهان فرانزين الطالب في كلية الدراسات الشرقية في لندن، بعد أن وافقت أن أكون أحد مصادر بحثه، عددأ  من الأسئلة تتعلق بتاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، مستهدفا منها معرفة مواقفي وتجربتي الشخصية.  وستكون أسئلته وأجوبتي عليها جزءا من كتاب سيحوي ذكرياتي . وقد نشرت أحد أسئلته وجوابي عليه، وإرتأيت نشر ثلاثة اسئلة آخرى من أسئلته وجوابي عليهم أيضا، تحت العنوان المذكور في أعلاه.
 السؤال: هل كانت المسائل المختلفة تناقش، عادة، بصيغ مبدأية ( على أساس أيديولوجي) أم بصيغ براغماتية (على ضوء ما يفرضه الواقع)؟ أيهما كان الأكثر إعتماداً عند إتخاذ القرارات المهمة في اللجنة المركزية؟
 الجواب: كان الحزب الشيوعي العراقي يسترشد بالآيديولوجية الماركسية اللينينية في إتخاذ قراراته الهامة. ولأن هذه الآيديولوجية ليست وصفة جاهزة ، وإنما مرشد للعمل، كما يؤكد على ذلك مؤسسوها، وينبغي تطبيقها بإبداع على الظروف الملموسة، فلم تكن تلك الآيديولوجية تحرّم، عمليا، اللجوء الى البراكماتية [1] ، بل تحبذها مسترشدة بمقولات مشهورة باتت من صلب الماركسية، وعلى سبيل المثال:
ـ النظرية ليست عقيدة جامدة بل مرشد للعمل
ـ إن دفع الحركة خطوة الى الأمام خير من دزينة برامج.
ـ الممارسة معيار الحقيقة.
ـ النظرية رمادية اللون ولكن شجرة الحياة خضراء.
 تكافح الماركسية ضد الجمود العقائدي، وتحبذ أقصى المرونة  في التكتيك مادامت لاتتعارض مع الستراتيج. وكانت تميّز بشكل صارم بين برنامج الحد الأدنى والذي يغلب عليه الطابع البركماتي وبرنامج الحد الأقصى الذي يغلب عليه الطابع الآيديولوجي . [2] وسأستعرض محطات هامة عايشتها ومناقشات جديّة خضتها عسى أن توصلنا الى جواب على سؤالكم.
 ** كان أول إجتماع أحضره للجنة المركزية  في نيسان 1965، وكانت مهمته تصحيح خط آب، الذي كان خطاَ سياسيا حرّف الحزب عن ايديولوجيته. وقبل الدخول في تصحيح الخط ، سأجيب على سؤالك الأول والمتعلق به :
 ـ  أي موقف إتخذته من خط أب؟ هل تعتقد بأنه كان من الصواب أن يتخذ هكذا قرار مهم من قبل أعضاء اللجنة المركزية الذين كانوا يعيشون خارج العراق في حينها؟ أي بديل أو بدائل كان يمكن أن تتبع حسب رأيكم؟
 إجتماع اللجنة المركزبة في آب والذي عقد في براغ لم يقتصر على الرفاق الذين كانوا في الخارج بل ساهم فيه رفاق من الداخل أيضا وهم كل من الرفاق عزيز محمد وباقر إبراهيم أعضاء المكتب السياسي . وصالح دكلة عضو اللجنة المركزية الذي كان قد هرب للتو من السجن في بغداد. وشارك في الإجتماع أيضا بصفة مراقب الكادر الحزبي الذي بقي في بغداد بعد إعدام قيادة جمال الحيدري وهو كاظم الصفار. وجميع هؤلاء سافروا بطرق ووسائل غير شرعية. وكان من الممكن عقد الإجتماع في الداخل ولكن كان ذلك يتطلب وقتا طويلا لعدم قطع شوط مناسب في إعادة بناء الحزب يسمح بعودة كل قيادة الحزب الى الداخل. في حين لم يكن إجتماع اللجنة المركزية يقبل التأجيل، فاللجنة المركزية بدون سكرتير، وهناك حاجة لمكتب سياسي جديد ولتقديم رفاق جدد الى اللجنة المركزية، هذا فضلا عن ضرورة وجود خط سياسي جديد مقر من قبلها.
 وكان بين رفاق الداخل من هو متحمس للخط المذكور ليس بأقل من المتحمسين في الخارج مثل الرفيق باقر إبراهيم. وكان بين رفاق الخارج من هو معارض للخط السياسي والفكري المذكور مثل عزيز الحاج، و كان آرا خاجدور متذبذبا بين مؤيد ومعارض. [3]
 لقد كنت من مؤيدي خط آب 1964 الخاطيء ، ولم أكن في حينها عضوا في اللجنة المركزية ، فقد ترشحت لعضويتها في الإجتماع الذي أقر الخط السياسي المذكور. وطبيعي لم يعفني ذلك من المسؤولية بوصفي كادرا حزبيا متقدما آنئذ .
 فخط آب لم يقرره رفاق اللجنة المركزية الذين كانوا في الخارج فقط و"فرضوه" على الداخل كما يستشف ذلك من سؤالك. ولكن ينبغي عدم غض النظر عن الدور الكبير الذي لعبه الرفاق في الخارج في التمهيد سياسيا ونظريا للخط المذكور. فإذاعة "صوت الشعب العراقي" والتي كانت تبث برامجها من صوفيا وتعمل تحت إشراف قيادة الحزب في الخارج، كانت تبشر بالخط المذكور، و تسمع في كل العراق بوضوح. وكنا في الداخل ننشرما يذاع منها بإنتظام  واوتوماتيكيا، أي دون الرجوع للمركز الحزبي، بإعتبارها توجيهات من الهيئات الأعلى. وكنت مشرفا على جهاز الإنصات والتكثير في حينه. علما بأن المركز الحزبي في الداخل ذاته كان متعاطفا مع ما يذاع. إن لم يكن قد دخل في منافسة معه.
 ووجهة الإذاعة وقيادة الخارج لم تكن عفوية. ففي حزيران 1964، عقد إجتماع في موسكو ضمّ، إضافة الى أعضاء اللجنة المركزية، عدد من الكوادر الحزبية المتقدمة مثل: نوري عبد الرزاق وماجد عبدالرضا ومهدي الحافظ وهؤلاء من الشخصيات القيادية في المنظمات الديمقراطية العالمية. وثمينة ناجي يوسف وعامر عبد الله وبهاء الدين نوري، والإثنان الأخيران كانا أعضاء في المكتب السياسي ومعاقبين بتجريدهما من أي مركز حزبي . قاد الإجتماع الرفيق سلام الناصري العضو المرشح للجنة المركزية، وكان الناصري متحمسا للنهج السياسي الجديد متجاوبا في ذلك مع توجه السوفيت في هذا المجال. وجرت مناقشة حيوية في الإجتماع ، ولاقى الإتجاه السياسي الجديد معارضة جدية، وكان جميع الرفاق القياديين في المنظمات الديمقراطية من المعارضين، ولكن جرى إقراره بالأغلبية في آخر المطاف. وكان عامر عبد الله وبهاء الدين نوري من المؤيدين للخط الجديد ، وقد إنتخبا للمكتب السياسي في إ جتماع آب ، بعد أن أعيد الإعتبارلعضويتهما في اللجنة المركزية.
 اما البديل لسياسة آب، فكان يمكن طرح النظام الديمقراطي كبديل للنظام الدكتاتوري العسكري. ولإقامة مثل هذا النظام كان من الممكن الدعوة الى حكومة ائتلاف وطني ديمقراطي مؤقتة لفترة إنتقالية ( يتفق على مدتها مع الآخرين على أن لاتزيد عن السنتين) مهمتها إجراء إنتخاب لمجلس تأسيسي يضع مسودة دستور دائم للبلاد يستفتى الشعب عليه، وتجري إنتخابات عامة لإنتخاب برلمان دائم ومن ثم حكومة دستورية دائمة. وهذا البديل طرح في السياسة البديلة من حيث الجوهر ، لا من حيث الصياغة والتفاصيل المتأثرة بوعينا الحالي.
 وخلاصة خط آب هو، إن أنظمة تقودها القوى الديمقراطية الثورية ( البرجوازية الصغيرة ) يمكن أن تتحول الى أنظمة إشتراكية تحت تأثير النظام الإشتراكي العالمي ، مستندة في ذلك على اشارة ماركس الى امكانية انتقال المشاعة الروسية الى الاشتراكية دون المرور بالمرحلة الرأسمالية بمساعدة مركزا متطورا!!  وأعتبر أن نظام عبد السلام عارف يمكن أن يتماثل مع تلك الأنظمة. إن فرضية إمكانية بناء الإشتراكية من قبل البرجوازية الصغيرة، أثارت علامة إستفهام خطيرة على مستقبل الحزب وقلقا على وجوده. ولم تكن صدفة أن ثبتنا في البيان الصادر عن الإجتماع المذكورجملة لم أنس نصها حتى الآن وهي:
ـ إن الحزب الشيوعي العراقي وُجد ليبقى.
وتضربُ هذه الجملة جذورها عميقا في الآيديولوجيا ...  في رسالة الطبقة العاملة والحتمية التاريخية.... وقد وردت هذه الفكرة التي تبناها الإجتماع  في فقرة إقترحها الفقيد عامر عبد الله، والذي يشار له بالبنان بإعتباره أحد أبرز قادة الحزب الشيوعي العراقي براكماتية إن لم يكن أبرزهم!!
 كانت المناقشات في هذا الإجتماع ، الذي دام أربعة أيام ، سياسية وايديولوجية. وصرف الكثير من الوقت على صياغة البيان، فقد أرتؤي المصادقة على البيان الصادر عن الإجتماع بصيغته النهائية، وعدم ترك هذه المهمة للمكتب السياسي كما كان الأمر سابقا . وإحتدم النقاش الايديولوجي حول، مَن يبني الإشتراكية؟ وتوتر الجو بين الرفيقين آرا خاجدور وحسين سلطان اللذين كانا قد وصلا للتو من براغ. فكان الأول يؤكد بأن ذلك يتطلب قيادة الطبقة العاملة للسلطة، في حين يرد عليه حسين سلطان، بان ذلك ليس شرطا ومن الممكن أن تضطلع بهذا الدور، في الظروف الدولية المعاصرة، فئات اخرى. وتحول التوتر بين الرفيقين الى مناوشات كلامية.
 كان الرفيقان متقابلين في جلوسهما على منضدة عريضة نسبيا  ونهض الإثنان من فرط غضبهما من مقعديهما ملوحين بالأيدي وهما يتبادلان " شتائما  ايديولوجية " !؟ على وزن .. الجذور الفكرية اليمينية... والتصفوية ... دكتاتورية البروليتارية ... أو اليسارية... والجمود العقائدي ... وذلك بصوت عال أمام دهشة الجميع ، وخاصة دهشتنا نحن الجدد الذين نحضر لأول مرة إجتماعا للجنة المركزية. وكل ذلك جرى  في بيت سري يضم كل قيادة الحزب في الداخل؟! اُوقف الإجتماع وعاد ليواصل عمله بعد فترة قصيرة، وبعد أن تصالح المتشاجران. وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي أشاهد فيها مشاجرة في إجتماع حزبي طيلة حياتي الحزبية التي تجاوزت النصف قرن!
** في هذه الفترة إنفجر الوضع الفكري داخل الحزب وجرت نقاشات آيديولوجية واسعة "حُسمت" بعضها في الكونفرنس الثالث للحزب عام 1967، و"حُسمت" البقية في المؤتمر الثاني للحزب عام 1970. وفي هذه الفترة بالذات واجه الحزب إنقلاب 17ـ 30 تموز 1978. وإتخذ موقفا براكماتيا تجاهه. وسأحاول إعطاء فكرة مركزة عن كل ذلك.
المحاور الأيديولوجية  الأساسية التي دار حولها النقاش كانت ثلاثة وهي:
أولا: تقييم سياسة الحزب في عهد عيد الكريم قاسم.
 جرت مناقشات واسعة داخل الحزب، على مستوى الكوادر الوسطية، لسياسة الحزب في عهد عبد الكريم قاسم، إستنادا على وثيقة من اللجنة المركزية. وقد أقرت الوثيقة، بعد إعادة صياغتها على ضوء المناقشات، في الكونفرنس الحزبي الثالث المنعقد في كانون الأول 1967، مبدأيا. على أن تبقى وثيقة داخلية لحين إقرارها في المؤتمر الثاني للحزب. وقد أقرت الوثيقة في المؤتمر الثاني المنعقد في ايلول 1970، و نشر ملخصها في مقدمة البرنامج الذي أقره المؤتمر تحت عنوان "الدروس المستخلصة":
 ـ لقد كان على حزبنا في الوضع الثوري الذي بدأ في 14 تموز 1958، أن يواصل النضال على رأس الجماهير الثورية لتغيير الحكومة وإقامة حكومة ديمقراطية ثورية تمثل الأحزاب والقوى الوطنية التي يعنيها إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية دون اي تساهل في تحقيق هذا الشعار المركزي.[4] وكان الفقيد زكي خيري، الذي ساهم مساهمة أساسية في الدراسة، متحمسا لهذه الموضوعة فأوضح، مستندا على الوثيقة التي أقرها المؤتمر، كيفية تحقيق ذلك على الوجه التالي:
 ـ والسبيل الثوري الوحيد الذي كان على الحزب الشيوعي إنتهاجه هو أن يطرح برنامجا ثوريا لإزاحة قاسم وإقامة الحكومة الديمقراطية الثورية التي تحقق الأصلاح الزراعي الجذري وتلبي مطلب الحكم الذاتي للشعب الكردي وتسحق القوى الرجعية وتضمن المصالح المشروعة للجماهير. ورغم تعذر قيام الجبهة مع الأحزاب البرجوازية فمن شأن هذا البرنامج أن يعبأ القوى الجماهيرية الأساسية المدنية والعسكرية على أساس الحلف المتين بين العمال والفلاحين وبالتعاون الوثيق مع الثورة الكردية من أجل الإستيلاء على السلطة السياسية وقيادة الثورة الديمقراطية حتي نهايتها.[5]
 وكان منطلق الدراسة أيديولوجي ونصي يستند بالأساس على كتاب لينين " خطتا الأشتراكية الديمقراطية في الثورة الروسية" وعلى شعار الثورة الروسية في مرحلتها الديمقراطية وهو" دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية الثورية ". وعلى النظرية الماركسية ـ اللينينية حول الثورة المستمرة. وكل ذلك يضرب جذوره عميقا في الجمود العقائدي فقد تجاهلت الدراسة إختلاف الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية بين روسيا بعد الثورة الديمقراطية في شباط 1917، في ظل حكومة كيرنسكي، والعراق في عهد قائد ثورة 14 تموز عبد الكريم قاسم.
 وبعيدا عن الجمود العقائدي والنصّية  وبعد إنهيارالإتحاد السوفيتي كتب الرفيق زكي خيري ذاته ما يفيد بأن الطريق كان مسدودا أمام الإطاحة بقاسم :
 ـ وفي كل معسكر من معسكرات الجيش كان ضباط من مختلف الميول والإتجاهات يسهرون الليالي يترصد بعضهم بعضا. كما كان السنتو يترصدنا. والأهم من كل ذلك إن الجماهير لم تكن مستعدة لإسناد أي محاولة للإطاحة بقاسم مباشرة وحتى التنظيم الشيوعي في الجيش لم يكن مضمونا تحركه ضد قاسم دون ان يلمس إسنادا جماهيريأ واسعا مباشرا مستعدا لدعمه.[6]  وقد تلمس الفقيد زكي خيري،  ملامح الموقف الصحيح الذي كان يجب إتباعه في عهد قاسم والذي ينطوي على عبرة تاريخية هامة لحاضرنا ومستقبلنا، فكتب ايضا ما يلي:
 ـ ... كان الأحرى بنا أن نطالب بإنهاء الفترة الإنتقالية وإجراء إنتخابات عامة حرة تتنافس فيها الأحزاب لإنتخاب مجلس وطني تأسيسي يتمتع بالسيادة التامة ، اما محاولة القيام بإنقلاب عسكري فلم تكن تؤدي في تلك الظروف في ظل نسبة القوى القائمة آنذاك سوى الى تأليب جميع القوى ضدنا.[7]
 إن أهمية هذا التقديرات الجديدة تتأتى من كون الفقيد زكي كان أحد أكثر المتحمسين للتقويمات الجامدة ايديولوجيًا, ولأنه كان نائبا لسكرتير اللجنة المركزية وسكرتيرها الفعلي عند بقاء سلام عادل في موسكو حوالي عشرة أشهر، من نهاية آب 1961 حتى اواسط حزيران 1962. وهي تفند الإدعاءات الإعتباطية القائلة بأن الحزب الشيوعي العراقي ضيع فرصة للسيطرة على السلطة، أو إن السوفيت منعوه من القيام بذلك، في محاولة زائفة لإظهار الشيوعيين العراقيين وكأنهم كانوا بيادق شطرنج بيد السوفيت وهذا ما فندته في جوابي على سؤال سابق.
ثانيا: وضع برنامج جديد للحزب 
كانت المنطلقات الأيديولوجية الجامدة، التي عولجت بها مسألة تقويم سياسة الحزب في عهد قاسم، في أساس مسودة البرنامج التي نوقشت في الكونفرنسات المحلية تحضيرا للمؤتمرالثاني للحزب والتي حددت الشعار الستراتيجي للحزب بإقامة سلطة ديمقراطية ثورية بقيادة الطبقة العاملة. وكان الفقيد زكي خيري يعتبر هذا الشعار قانونأ أو بديهية من البديهيات التي يجب أن تتبناه جميع الأحزاب الشيوعية التي تناضل ضمن المرحلة الوطنية الديمقراطية كما جاء في مقدمة كتابه مع الرفيقة سعاد خيري والمعنون " تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" . ويلفت هذا الكتاب إنتباه القارئ الى إغفال ذلك من قبل الرفيق فهد فيقول :
 ـ لم يدع فهد صراحة الى إسقاط النظام القائم وإقامة السلطة الديمقراطية الثورية بقيادة الطبقة العاملة، وإنما قال في المادة الثانية من"ميثاقنا الوطني": نناضل لإيجاد حكومة تعمل لمصلحة الشعب وجهاز حكومي ديمقراطي صحيح في نظام حكومتنا". [8]
لم اؤيد صيغة الشعار الستراتيجي وإعتبرته يعادل دكتاتورية البروليتاريا من حيث الجوهر، والتي هي ضرورية لمرحلة الثورة الإشتراكية حسب التعاليم الماركسيةـ اللينينية، في حين إننا نناضل في المرحلة الديمقراطية وإن مستوى  تطور البلد السياسي والإقتصادي والإجتماعي لايستلزم طرح قيادة الطبقة العاملة وحدها للسلطة.  وإقترحت بدلا عن ذلك أن تلعب الطبقة العاملة دورا قياديا فعالا في الثورة والسلطة، لأن هناك طبقات وفئات إجتماعية لديها مصلحة في نجاح الثورة الوطنية الديمقراطية.
 نوقشت مسودة البرنامج مرتين في اللجنة المركزية في عامي 1967 و1968، وصوتُ ضد هذه الصيغة وحدي. كان هناك عدد من الرفاق متحفظين ولكن كانوا يتجنبون التصويت العلني، ربما لتجنب المواجهة مع أكثرية ساحقة!  أو لحسابات أخرى لا أعرف كنهها. وصوتُ ضدها في المؤتمر الثاني أيضا، لأن التعديلات التي جرت عليهأ لم ترضني ولم ترض عددأ آخرأ ( أقلية) في المؤتمر صوت قسم منهم  ضدها. اتذكر منهم الرفاق باقر إبراهيم وعدنان عباس وجليل حسون، ولم يصوت قسم آخر.  وقد أقر بالصيغة التالية في برنامج الحزب : " جمهورية ديمقراطية ثورية تمثل إرادة الشعب وتلعب في سلطتها الطبقة العاملة وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي الدور الطليعي والقيادي" وكان يغلب على تلك المناقشات الطابع الايديولوجي الدوكماتي. وقد وضع الشعار بعد إقراره في الإرشيف، وليس في التطبيق، لبعده الشديد عن الواقع. ولكن أعطى ذريعة إضافية لتشديد حملة ناظم كزار الأرهابية. وإذا أردت المزيد عن هذه الفترة، فأحيلك الى مسلسل " الإفلات من قبضة المجرم ناظم كزار"  وتجده في مخطوطة كتابي المرفق.
ثالثا: أساليب الكفاح
جرت مناقشات داخلية واسعة في نهاية 1966، حول أساليب الكفاح، إشترك فيها حوالي 150 كادرا، إستنادا على وثيقتين، واحدة تدعو الى  ما يسمى بالعمل الحاسم (إنقلاب عسكري) حررها الفقيد عامر عبد الله والثانية  تدعو الى إنتفاضة شعبية مسلحة، وكنت طرفا في الأخيرة مع رفيقين آخرين في اللجنة المركزية وهما كاظم الصفار وباقر إبراهيم . ( كان الأخير خارج المكتب السياسي آنئذ) وكانت الوثيفة الأولى براكماتية شكلا وغير واقعية مضموناً. أما الثانية فكانت أيديولوجية تستند على التعاليم الماركسيةـ اللينينية، ولكن هي الأخرى لم تكن قد نضجت ظروفها. وميزتها إنها كانت تتطلب العمل النشيط بين الجماهير لتعبئتها وتدعو الى السعي الحثيث لتشكيل جبهة من القوى التي يهمها التغيير، دون إهمال دور القوات المسلحة. وأقرت اللجنة المركزية وثيقة وسطية. وصوت أربعة رفاق ضد عبارة الأنقلاب العسكري في الوثيقة، وهما عزيز محمد وسلام الناصري وبهاء الدين نوري وأنا. وصوتُ وحدي ضد الوثيقة كاملة لطابعها الإنعزالي فقد اعتبرت الوثيقة الجماهير الشعبية قوة إحتياطية للثورة، وبالرغم من إلغاء هذه العبارة من الوثيقة، بعد إنتقادي لها، ألا إن هذه الفكرة بقيت تربط السطر الأول بالأخير من الوثيقة، كما صرحت بذلك في الإجتماع . وكان الصفارمعتقلا عند عقد الإجتماع، أما باقر إبراهيم فقد كان مستثنى من الإجتماع، كتدبر صياني.
رابعا: موقف براكماتي
 وهذا الموقف يوضحه جوابي على سؤالكم الثاني والذي هو:
 لماذا إتخذت اللجنة المركزية موقفاً إيجابياً تجاه البعث بعد إنقلاب 17 ـ 30 تموز، أي بعد خمسة أعوام من مجازر شباط 1963؟ هل كنتم على وفاق مع الحزب في هذه المسألة؟
يتبع
________________________________________
[1] ـ  ملاحظة: يبدو لي بأن هناك سوء فهم حصل ويحصل لدينا في مفهوم البراكماتية. فقد كنا نعتبرها  ضربا من ضروب الإنتهازية في حين إنها حاجة ماسة لأي حزب سياسي ، فهي إسلوب تفكير/ أوالتعامل مع  المشاكل بإسلوب / عملي  يحقق الفائدة، مفضلة ذلك على إستخدام النظرية أو المبادئ المجردة.
[2] ـ  راجع وثائق المؤتمر الثاني للحزب.
[3] ـ  للمزيد أنظر بهاء الدين نوري. مذكرات، ص 314.
[4] ـ وثائق المؤتمر الوطني الثاني للحزب الشيوعي العراقي. ايلول 1970، ص 81
[5] ـ زكي خيري وسعاد خيري. تاريخ الحزب الشيوعي العراق، ص 354.
[6] ـ زكي خيري ، صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم. ص 230 .
[7] ـ زكي خيري. المصدر السابق، ص 230.
[8]  ـ زكي خيري وسعاد خيري. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ص 118[/b][/size][/font]

63
حقيقة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في عقودها الأخيرة

 جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

وجه لي السيد يوهان فرانزين الطالب في كلية الدراسات الشرقية في لندن، بعد أن وافقت أن أكون أحد مصادر بحثه، عددأ  من الأسئلة تتعلق بتاريخ الحزب الشيوعي العراقي، مستهدفا منها معرفة مواقفي وتجربتي الشخصية.  وستكون أسئلته وأجوبتي عليها جزءا من كتاب سيحوي ذكرياتي . وقد إرتأيت نشر أحد أسئلته وجوابي عليه، نصا، تحت العنوان المذكور في أعلاه.
السؤال:   حول الضغوط  السوفييتة: هل كان مهماً إعتماد رأي السوفيت حين تتم مناقشة المسائل المختلفة في اللجنة المركزية؟
الجواب: بإعتقادي إن طبيعة العلاقة بين الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي العراقي يكتنفها الكثير من التعقيد، ولا يجوز تبسيطها بالإجابة على السؤال: هل كان مهما أم غير مهما رأي السوفيت حين تتم مناقشة المسائل المختلفة في اللجنة المركزية ؟ 
وباديء ذي بدء، أود الإشارة الى إنه لم يطرح يوما ما رأي السوفيت بشكل رسمي للمناقشة، ولكن الرأي كان حاضرا في أذهان أعضاء اللجنة المركزية من خلال السياسة المعلنة في وسائل الإعلام ومن قراءاتهم الشخصية ومن محاضر اللقاءات الرسمية بين ممثلي الحزبين ومن النصائح المباشرة وغير المباشرة. والأخيرة كانت كثيرا ما تحصر في المكتب السياسي، حرصا على عدم ثلم إستقلالية القرار.
سأذكر العديد من الأمثلة المتناقضة التي عايشتها، بأمل الخروج بإستنتاجات موضوعية .
* لعب رأي السوفيت دورا هاما في تبني الحزب الشيوعي العراقي لخط آب  الخاطيء. كان رأي السوفيت، بإختصار شديد، هو إن أنظمة مثل أنظمة عبد الناصر في مصر أو بن بلا في الجزائر ومايشابههما يمكن أن تتحول، تحت تأثير النظام الإشتراكي، الى أنظمة إشتراكية. وأعتبر نطام عبد السلام عارف أحد تلك الأنظمة.
* بعد ثمانية أشهر من إقرار خط آب اي في نيسان 1965، إجتمعت اللجنة المركزية ( الأعضاء المتواجدون في داخل الوطن ، وكانت لديهم صلاحية ممارسة مهام اللجنة المركزية ) ورفعت شعار إسقاط سلطة عبد السلام عارف وذلك خلافا لسياسة السوفيت. وقد تحفظ على القرار رفيق واحد والذي كان المسؤول الأول، مؤقتا، في الداخل، نظرا لوجود سكرتير الحزب خارج الوطن، وهو بهاء الدين نوري. ولم يكن خلافه حول طبيعة السلطة بإعتبارها دكتاتورية عسكرية ومن الضروري فضح جرائمها وتبديلها، بل كان يروم الأكتفاء بطرح البديل المطلوب وهو شعار حكومة الإئتلاف الوطني الديمقراطي. وهناك دلالة في طبيعة الحضور، فقد حضر الإجتماع المذكورالرفاق بهاء الدين نوري وسلام الناصري وعامر عبد الله وحسين سلطان وناصر عبود  وآرا خاجدور وصالح الرازقي وحميد الدجيلي وتوفيق أحمد وأنا. جدير بالملاحظة إن الستة الأوائل سبق وأن حضروا إجتماع براغ وأقروا ( كان السادس مترددا) خط آب. والثلاثة الأخيرين جدد يحضرون لأول مرة إجتماعا للجنة المركزية. وهكذا فقد تبدل الموقف من السلطة 180 درجة دون تغير السلطة أو طبيعتها، وقد حمل عدم إستجابة السلطة، بأي قدر كان، للخط السياسي الجديد علامات فشل الخط في التطبيق العملي ، وقد لعب هذا العامل  فضلا عن إعتراض القاعدة الحزبية القوي على خط آب الدور الأكبر في تغيير الموقف.
* تبنى السوفيت موضوعة التطور اللارأسمالي والذي سمي ايضا التوجه الاشتراكي، وشاع إستخدام الموضوعة في الحركة الشيوعية العالمية وذلك منذ ستينيات القرن الماضي . وقد تجاهل الحزب الشيوعي العراقي الموضوعة، منذ نيسان 1965، ولم يفتح نقاشا حولها، مع إنه عقد كونفرنسه الثالث عام 1967، ومؤتمره الثاني الذي أقر برنامجا جديدا عام 1970. ودخل الحزب في تحالف مع حزب البعث عام 1973 وتحول الحزب الى العمل العلني مع إعلام علني ولم يتبن المصطلح المذكورأو يناقشه على أي صعيد. وفقط عند الإعداد لوضع مسودة برنامج الحزب الجديد لطرحه على المؤتمر الثالث عام 1976، فُتح النقاش في اللجنة التحضيرية وكان سكرتيرها الرفيق زكي خيري نائب السكرتير الأول للجنة المركزية ومعه عضوان من المكتب السياسي وهما عبد الرزاق الصافي رئيس تحرير الصحيفة اليومية للحزب "طريق الشعب" والمهندس عمر علي الشيخ سكرتير لجنة إقليم كردستان، وثلاث رفاق من اللجنة المركزية وهم الدكتور كاظم حبيب الخبير الإقتصادي وعضو المجلس الزراعي الأعلى في العراق والدكتور رحيم عجينة عضو لجنة العلاقات الوطنية وعضو سكرتارية الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، وأنا عضو سكرتارية اللجنة المركزية وسكرتير لجنة التنظيم المركزي.
لقد عملت اللجنة لشهور عديدة وقرأت ودرست مصادر كثيرة ووثائق مختلفة وناقشت طويلا ، وأخذت موضوعة التطو اللارأسمالي حيزا هاما من وقتها دون التوصل الى نتيجة محددة. وهذه اللجنة نفسها سافرت الى موسكو ( بإستثناء كاظم حبيب لإلتزاماته الوظيفية ) وإستمعت الى رأي وفد من الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي، برئاسة الدكتور بلياييف والرفيقين ريزينكوف و نيجكن، بالمشروع وناقشتهم طيلة أربعة أيام، وطرحت عليهم أسئلة كثيرة حول التطور اللارأسمالي، خاصة من الفقيد رحيم عجينة وقد علق عليها الدكتور بلياييف بالقول:
ــ إن من يتمكن الإجابة على كل هذه الأسئلة يُمنح  شهاد أكاديمية العلوم السوفيتية، وهي أعلى شهادة علمية في البلد!
سُجلت باللقاء مع العلماء السوفيت محاضر جلسات مفصلة إطلع عليها جميع أعضاء اللجنة المركزية . وكان النقاش ديمقراطيا وشفافا. وجرى التأكيد بإستمرار من قبل الرفاق السوفيت بأننا غيرمجبرين على تبني أي رأي غير مقتنعين به، وإننا مسؤولون عن سياستنا أولا وأخيرا. ولكن لا أعتقد بأنهم كانوا غافلين عن مدى الضغط المعنوي الذي تشكله آراؤهم على الوفد وعلى اللجنة المركزية.
بعد عودة الوفد تبنى الحزب موضوعة طريق التطور اللارأسمالي أوالتوجه الإشتراكي.
وكان هناك إتجاهان بين أنصار طريق التطور اللارأسمالي أو التوجه الإشتراكي في الحركة الشيوعية العالمية، الأول: يرى إشتراك الشيوعيين في قيادته شرط لنجاحه ( وكنت مع هذا الإتجاه ). والثاني: يرى بأن دور الشيوعيين ممكن أن يقتصر على دعم وتأييد قيادة "الديمقراطيين الثوريين". وكان الإتجاهان المذكوران موجودين في الحزب الشيوعي العراقي أيضا. ولم تزك الحياة كلا الإتجاهين!
* يعد مجيء حزب البعث للسلطة عام 1968، وإتخاذه جملة من الإجراءات التقدمية على جميع الأصعدة وفي مختلف المجالات، بما في ذلك تطوير علاقاته بالدول الإشتركية والإتحاد السوفيتي، ولكن دون التخلي عن سياسة حبس الحريات الديمقراطية وقمع المخالفين له، رغب السوفيت  بتعاون الحزب الشيوعي مع حزب البعث.
في ربيع 1971، وكان الحزب يتعرض الى حملة إراهابية واسعة شملت إعتقال وتعذيب آلاف الشيوعيين تعذيبا وحشيا وإستشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب، أوالإغتيال، في هذا الوقت بالذات إستفسر السوفيت من القائم بأعمال السكرتير الأول للجنة المركزية الرفيق زكي خيري عن شروط الحزب للتحالف مع حزب البعث، فأجابه زكي خيري:
ــ إن شرطنا هو أن يدلنا حزب البعث على قبور شهدائنا!
وواضح من الجواب رفض التحدث بالموضوع ، إن لم يكن إحتجاجا على الوساطة.
* لم يكن موقف الحزب المعادي لسلطة البعث، بعد حملة القمع الوحشي التى تعرض لها، وقراره بخوض الكفاح المسلح لإسقاطه ، محل قناعة السوفيت. علما بأن شعار إسقاط السلطة تقرر في إجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في موسكو عام 1980. وقرار خوض الكفاح المسلح هو الآخر تقرر في إجتماع اللجنة المركزية في موسكو عام 1981، في البيت الصيفي ليوسف ستالين!
* في صيف عام 1982، وعلى أثر إنسحاب الجيش العراقي من الأراضي  الايرانية التي كان قد إحتلها في يداية الحرب العدوانية على الجارة ايران، وصل الحزب عرض من صدام حسين عبر الرفاق السوفيت وقد سلموه للرفيق زكي خيري في دمشق والذي أرسله بدوره الى قيادة الحزب التى كانت قد تجمعت في كوردستان. وكان العرض يتضمن نقدا ذاتيا لأخطائه في السنوات الأخيرة تجاهنا، ويدرك صعوبة إستعادة الثقة بين الطرفين، وإنه يعفو عفوا عاما، ويدعو للعودة الى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية والعودة للدفاع عن الوطن، وهو في كل ذلك لاينطلق من موقف الضعف.
كنت في دمشق ومتوجها الى كوردستان فحملني زكي خيري رسالة إضافية تفيد بأن السوفيت متجاوبون مع العرض. ودارت مناقشة بين رفاق اللجنة المركزية إنتهت بإرسال جواب قاطع برفض التفاوض أو الحوار. [1]  ولم يحصل بعد ذلك شيء ذو بال،  في مضمار سؤالك، حتى إنهيار الإتحاد السوفيتي.
من جملة الأمثلة أعلاه يجد المرء نفسه أمام ظاهرة تنطوي على علاقات معقدة لايجوز تبسيطها، كما أسلفت، بالإجابة، كان مهما أم غير مهما رأي السوفيت حين تتم مناقشة المسائل المختلفة في اللجنة المركزية؟
بإعتقادي لم يُعتمد رأي السوفيت في مناقشات المسائل المختلفة بدون قناعة اللجنة المركزية، وليس نادرا أن لاتتم مثل هذه القناعة ويكون موقف اللجنة المركزية مغايرا لرأي السوفيت. وكانت الحالة الفكرية والسايكولوجية في الحزب واللجنة المركزية ومستوى وعيها في هذه المرحلة أوتلك هي المقررة في التحليل الأخير. ولكن هذه الحالة ذاتها لم تكن، في ظروف معينة، بمعزل عن التاثير المعنوي الكبير لرأي السوفيت بإعتباره رأي طليعة الحركة الشيوعية العالمية ولا بمعزل عن منطلقات التضامن الأممي البروليتاري الأيدولوجية ، وإنعدام هذا التأثير في ظروف أخرى رغم كل الإعتبارات!!!
و يغطي مضمون هذا الإستنتاج، في نظري، الفترة التي إمتدت من عام 1954، إذ أعيدت علاقات الحزب بالحركة الشيوعية العالمية مجددا في مؤتمر الكومونولث المنعقد في لندن وحضره الرفيق حسين أحمد الرضي ( سلام عادل) ممثلا عن الحزب، حتى إنهيار الإتحاد السوفستي. وهذه بعض الأمثلة للتدليل على ذلك.
في ايلول 1956، عقد الكونفرنس الحزبي الثاني . وشخص في الوثيقة الصادرة منه والموسومة " خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي" طبيعة المعركة مع نظام نوري السعيد" بإعتبارها معر كة ذات طابع سلمي غالب".  وقد جاء هذا التشخيص غير الصحيح متأثراً بما توصل اليه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي بخصوص إمكانية الإنتقال السلمي للإشتراكية. وقد صححت اللجنة المركزية هذا الخطأ على أثر إنتفاضة تشرين الثاني 1956 التي جوبهت بالرصاص من قبل السلطات، وذلك في بيانها الصادرفي 11 كانون الأول 1956؛ لتقرر بأن الإسلوب العنفي هو الإسلوب الغالب.
بعد ثورة 14 تموز كان المكتب السياسي يطلب رأي القيادة السوفيتية في بعض الأمور، ولا يلتزم إلا بما يقتنع به. ولي في هذا الخصوص مثالين:
الأول: إختلف اعضاء المكتب السياسي فيما بينهم حول حل تنظيمات الحزب في الجيش. فريق يريد حلها حرصا على علاقة حسنة مع الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة والجمهورية، والفريق الثاني يرى إبقائها حرصا على مستقبل الثورة، فعبد الكريم قاسم إنسان معرض للموت أو الإغتيال. وبإقتراح من عضو المكتب السياسي جورج تلو عرض الموضوع على القيادة السوفيتية، وحمل عامر عبد الله، الذي كان في موسكو، جوابا تحريريا بخط سوسلوف عضو المكتب السياسي ومسؤول لجنة العمل الأيديولوجي في اللجنة المركزية جاء فيه :
ــ إن إحتفاظكم بتنظيمكم الحزبي في الجيش يدل على جديتكم وحرصكم على ضمان إنتصار ثورة الشعب. [2]  وأخذ المكتب بالجواب.
الثاني : " في بداية 1960، قام قاسم بإجازة جميع الأحزاب التي طلبت الإجازة بإستثناء حزبنا، إذ أجاز بدلا منه حزبا وهميا بنفس الإسم لداود الصايغ الذي كان من زمن مضى عضوا في اللجنة المركزية لحزبنا وتواطأ مع قاسم لترويض حزبنا عن طريق هذه المناورة الخسيسة ... وجاءتنا فتوى من سوسلوف بأن نقتدي بمثل البلاشفة الذين وافقوا على الوحدة مع المنشفيك في المؤتمر الرابع للحزب في استكهولم ( مؤتمر الوحدة). فرفضنا هذه الفتوى. وشتان بين المنشفيك الذين كانوا آنذاك الأكثرية في الحزب الروسي وبين داود الصايغ الفرد الصنيعة! الذي لم يستطع حتى جمع الحد الأدنى من المؤسسين( 60) توقيعا. فأوعزنا لبعض رفاقنا غير المعروفين آنذاك بالتوقيع معه ... " [3] 
فمن غير الصحيح تعليق أخطاء الحزب الشيوعي العراقي على شماعة السوفيت فالحزب و خاصة قيادته هي المسؤولة الأولى عن إنجازات الحزب وإخفقاته، وهذا لايبرأ ساحة السوفيت من أي نصيحة أومواقف أو إتجاهات خاطئة ترتب عليها أي إخفاق.
أما الخطا الأعظم وأقصد الطبيعة غير الديمقراطية للأحزاب الشيوعية السابقة فتتحمل جميع الأحزاب مسؤوليته وفي طليعتها الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي.
وجدير بالإشارة إن الإختلافات في المواقف لم تؤثر على المساعدات التي كان يقدمها السوفيت للحزب، الزمالات الدراسية والحزبية ومقاعد المعالجة والراحة والإستجمام وغيرها من المساعدات المادية المباشرة وغير المباشرة. وسأكتفي هنا بمثل واحد على المساعدة غير المباشرة.
في حملة القمع الوحشي عام 1978، إستوعبت جمهورية اليمن الديمقراطية أعداد كبيرة من الشيوعيين الذين فلتوا من الحملة للعمل هناك. فعاقب صدام حسين اليمن على موقفها التضامني مع الشيوعيين العراقيين بأن الغى إتفاقا بين اليمن والعراق كانت تحصل اليمن بموجبه نفطا بأسعار مخفضة، وعندما سُئل الرئيس السابق علي ناصر محمد عن مبلغ خسارتهم جراء قرار صدام أجاب علي ناصر:
ـ عوضنا السوفيت ضعف خسارتنا لموقفنا المشرف من الشيوعيين العراقيين في محنتهم.
هل حصل يوما ما ضغطا من السوفبت لتبني رأيا محددأ ؟ أجل حصل ذلك مرة واحدة ويتيمه، على حد علمي . ولم يكن ذلك إتجاها بأي حال من الأحوال. ففي المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي الذي عقد في شباط 1959، طلب الرفاق السوفيت من الرفيق حسين أحمد الرضي( سلام عادل) إضافة عبارة " إبن الشعب البار" الى القاب عبد الكريم قاسم في كلمته التي كان يريد القاءها أمام المؤتمر بإسم الحزب الشيوعي العراقي، ولم يكن لديهم إعتراض آخر على نصها، فرفض سلام عادل ذلك وجادل السوفيت طويلا بحضور الرفيق خالد بكداش الذي تدخل في النقاش وخاطب الرضي:
ـ لماذا هذا الإصرارمنك على الإمتناع ؟ لعل الرفاق السوفيت يعرفون عن قاسم ما لاتعرفون!
وفي آخر المطاف تجاوب الرضي وأضاف العبارة. [4]
وأحسن خاتمة أراها لهذا السؤال هي شهادة الفقيد زكي خيري ، لأنها صادرة من ثاني ( الأول الرفيق عزيز محمد) أكثر قادة الحزب معرفة بطبيعة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في عقودها الأخيرة أولا،  ولأنها صادرة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي لذلك فهي منزهة من المجاملة ثانيا، وهذا نصها: 
ـ كان الرفاق السوفيت يردون على كل إستفسار نوجهه إليهم في المنعطفات السياسية الحادة ويقدمون لنا النصح الخالص. ولم يكن رد الفعل من جانبنا إيجابيا دائما. ولم يقاطعوننا بسبب توترنا بل يواصلون الحوار بروح رفاقية ونفس طويل. وكنا نحن الذين نعرض عليهم خلافاتنا وعلى إشقائنا الشيوعيين الأجانب لنتسلح بفتاويهم في جدالنا مع بعضنا.  [5]
________________________________________
[1]ـ   للمزيد أنظر باقر إبراهيم، مذكرات. ص 208
[2] ـ  زكي خيري ، صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم. ص 228.
 [3]ـ  المصدر السابق. 231
[4] ـ  المصدر السابق. ص 200.
[5] ـ  المصدر السابق. ص  228[/b][/size][/font]

64

ذكريات
القمع الوحشي
 ( 6 )


جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
كنا في هذا البيت ، كما هو الحال في بيت الناصريين، نقضي سهرات سمر لطيفة، وهنا كنا نحاول أيضا تسلية الصغار، خاصة وإنهم ممنوعون من الخروج حتى الى حديقة البيت. ولكن يبقى القلق يشوب حالة الإختفاء مهما حاول المرء نسيانه أوتجاهله.  وقد حصلت لدي، بوجود عائلتي معي، نوبة من نوبات الذبحة الصدرية التي كنت أبدو فيها وكأنني على وشك الموت.  فظلت هذه الصورة عالقة في ذاكرة أم شروق تؤرقها خلال فراقنا، فوق قلقها علي من الإعتقال. لم تبق العائلة معي سوى ثلاثة أسابيع، بعد التأكد عن طريق إمكانياتنا الخاصة، من عدم وجود منع سفر عليها، سافرت الى براغ بسلام .

إشتدت الحملة قساوة بعد أن يئست السلطة من ترويض الحزب سياسيا. فوجهت ضربات جديدة الى بقايا العقد التنظيمية في بغداد والبصرة. ووصلت الى بيتنا الحزبي. ففي 30 تموز كان الرفيق أبو كريم ينوي السفر الى الشطرة للقاء عائلته بطريقة سرية. وكان قد إشترى بعض الهدايا البسيطة لأطفاله وزوجته، ووضّب حقيبته الصغيرة قبل أن يخرج من البيت، لينفذ موعدا، قبل سفره، مع رفيق  مسؤول عن الصلة بإحدى العقد في البصرة إسمه جاسم الجميلي. تأخر الرفيق أبو كريم، وكان التأخر حتى لمدة ساعة مقبولا بسبب الإزدحام في المرور. ولكن أبو كريم تأخر كثيرا. وفقا لقواعد العمل السري كان يجب علينا الخروج من البيت. ولكن لم يكن لدي بيت إحتياط  جاهز أدق بابه دون سابق إنذار وفي وقت متأخر من الليل. مع ذلك عندما هممت بالخروج طلبت ربة البيت مني أن أصطحبهم معي! ومع أنَّ الرفيق عبد الزهرة لازم (أبو ظافر) قام بإقناع زوجته بالعدول عن رأيها، ولكن موقف الزوجة سبب لي إحراجا وتماهلت في الخروج. ولكن أكثر ما أخَّرني عن الخروج من البيت ، هو ثقتي بأبي كريم ، لو لم أثق به ثقة عالية جدا لخرجت فورا، حتى لو أدى بي الحال للمبيت في ركن حديقة عامة. أتلفنا ما لدينا من مستمسكات. لا اعرف إن كنت نمت ساعة أوساعتين، مليئة بكوابيس التعذيب. خرجت من البيت قبل بزوغ الشمس، وخرجت العائلة في نفس اليوم.  لقد أُستشهد البطل أبو كريم . قتله الوحوش ، جلاوزة نظام القمع الوحشي ، نظام حزب البعث الساقط .  ألف تحية إجلال وإكرام للشهيد مزهرهول الراشد.
بعد بضعة أيام كُبس البيت من قبل الأمن بإعتراف من جاسم الجميلي الذي عن  طريقه كنا قد عرفنا بان البيت معروض للإيجار. وقد عرفنا لاحقا بأن المراسل مع البصرة هو الذي إعترف على جاسم وإن صاحب العنوان في البصرة هو الذي إعترف على المراسل...وهكذا فإن ضربة معينة وقعت  في  مدينة البصرة أدت الى الوصول الى بيت مركزي جراء التعذيب الوحشي . ولولا إستشهاد الرفيق أبي كريم لكانت الخسارة أفدح .

لفت إنتباهي موقف الرفيق أبي ظافر في تلك الليلة. فقد كان يتصرف برباطة جأش عالية ولا يظهر عليه أي خوف. وكان يشجع خروجي منفردا من البيت خلافا لزوجته التي كانت تروم أن أصطحب العائلة معي كما أسلفت . الرفيق عبد الزهرة من مواليد العمارة قصير القامة مربوع، وجهه مدور، وشاربه اسود وكث، راسه كبير وأصلع قليلا. مدرس لغة إنكليزية .كان حارسا قوميا في عام 1963، ليس عن قناعة وإنما إنجرافا مؤقتا مع التيار. بعد سقوط البعث عام 1964، اخذ عبد الزهرة يبتعد عن الفكر القومي ويتوجه تدريجيا نحو الفكر الماركسي من خلال مطالعاته الواسعة فقد كان مثقفا. وأصبح شيوعيا في بداية السبعينيات. وكان آنذاك قد إنتقل الى البصرة. كان الرفيق متواضعا ومنسجما مع نفسه، فقد كانت لديه ملاحظات إنتقادية على سياسة الحزب حول القضية الفلسطينية، من منطلق قومي، وبصرف النظر عن مدى صواب ملاحظاته، فقد أعجبني تصريحه بذلك ، دون خوف من إتهامه أو تذكيره بجذره القومي، مما يشيرالى ثقته العالية بنفسه أيضا. كان وديعا وصادقا، كسب ثقتي بسرعة عجيبة. فبعد فترة قصيرة عرفت بأنه كان حارسا قوميا ، ولم يثر ذلك شكي رغم ظرفنا البالغ الصعوبة من الناحية الأمنية. كانت زوجته منهارة معنويا. وعند لقائي الوحيد به بعد خروجنا من البيت، أخبرني بأن زوجته مصرة على تسليم نفسها لإعطاء التعهد والعودة لوظيفتها. اخبرته أنه ما دامت مُصرِّة على ذلك، رتب معها إفادتها وبشكل لا يلحق الضرر بأحد . إستشهد الرفيق عبد الزهرة لازم تحت التعذيب في بداية الثمانينيات. فإنضم الى قافلة الشهداء الخالدين، فمجدا له.

في منتصف آب 1979، أخبرني الرفيق باقر إبراهيم عن عزمه على السفر، على أن ألتحق به بعد إتمام مستلزمات سفري . فوجئت بالأمر لأنني لم أكن أتصور ذلك، حيث إن صحتي كانت تتدهور وحاجتي الى العلاج فى الخارج، لتعذر العلاج في الداخل لأسباب أمنية، كانت معروفة لديه ولدى قيادة الحزب . ولم أكن محسوبا على قيادة الظل. اضف الى ذلك أنني لم أكن مقتنعا بخلو بغداد حتى من عضو لجنة مركزية واحد، ولم أكن أعرف حتى تلك اللحظة بوجود الشهيدة عايدة ياسين ( ام علي )، المرشحة لعضوية اللجنة المركزية، في بغداد. وكان رد فعلي قويا ومعبرا عن مشاعري وعن رأيي في الموقف من مصلحة الحزب فقلت للرفيق أبي خولة نصا:

ـ أرجو أن تخبر قيادة الحزب بأني غير مستعد لمغادرة العراق إذا لم يحل محلي عضو في اللجنة المركزية.

حاول الرفيق أبو خولة أن يخفي دهشته من موقفي، ولم يعلق لحراجة موقفه. بعد ذلك عرفت بوجود أم علي في بغداد، ونظمت لي علاقة بها. وسلمني أبو خولة الشهيد هيثم االصكرالذي كانت لديه إمكانيات كنت بأمس الحاجة اليها. وعرفني بالجهة المسؤولة عن تسفيري وطريقة ذلك. وسافر في 19 آب 1979.

ولكن لم يسبقني الرفيق أبوخولة بالسفر الى الخارج ببضعة أسابيع كما جاء ذلك في مذكراته، فعائلته بالذات سافرت بعد حوالي شهرين من سفره وأثناء وجودي ، كما سيأتي بيان ذلك. ولم تكن عدم الدقة هذه، فيما يتعلق الأمر بشخصي، هي التي أزعجتني في مذكراته، بل"نسيانه" إسمي في مواقع هامة تشرف المناضل الشيوعي وأي مناضل قارع الدكتاتورية والأنظمة الرجعية، وهي  جزء هام من تاريخي السياسي الذي أعتز به، وأجد من واجبي الأشارة اليها، على سبيل المثال لا الحصر . وأستميح القاريء عذرا للتوقف، مضطرا، عند أمور شخصية، والخروج عن السياق قليلا، فالشيء بالشيء يذكر.

فقد جاء في الصفحة 171، من مذكرات باقر إبراهيم مايلي:

" وكنت قد خططت لأكون آخر أعضاء القيادة الذين يسافرون بعد أن أحكم طوق الملاحقات حولنا. ولكن تأخر وصول وثائق سفر أحد أعضاء اللجنة المركزية العاملين معي في بغداد، إضطرني لإستباقه ببضعة أسابيع ."

المقصود بأحد أعضاء اللجنة المركزية، هو كاتب هذه السطور . أما لماذا لم يذكر كاتب المذكرات إسمه ؟ يبدو إنها محاولة لتغييب دوره المشرف ..


وفي الصفحة 155 ما يلي:

" ظل أحد أعضاء سكرتارية اللجنة المركزية ( سلم ) في المقر العام ويرتبط ببعض التنظيمات الحزبية السرية."

جدير بالملاحظة أن سكرتارية اللجنة المركزية تتكون من خمسة رفاق فقط يرأسها الرفيق عزيز محمد ويساعده الرفيق باقر إبراهيم والباقون ثلاثة رفاق فقط، هم كل من الدكتورة نزيهة الدليمي وماجد عبد الرضا وأنا، مع ذلك "نسى" باقرإبراهيم من منهم بقي في المقر!؟ .

وفي الصفحة 71 مايلي:

"حضر الكونفرنس نحو عشرين من كوادر الحزب في المنطقة. وكان بينهم كاتب هذه السطور وحسين سلطان وفرحان طعمة وصالح رازقي وكاظم الجاسم وستار معروف و ... الخ ". المقصود الكونفرنس الحزبي الذي إنعقد في الكوفة لمنظمات الفرات الأوسط عام 1956، وبإشراف سكرتير اللجنة المركزية حسين أحمد الرضي (سلام عادل). وقد " نسى" باقر إبراهيم بأنه جاء الى مدينة كربلاء خصيصا لإصطحابي الى الكونفرنس المذكور، قاطعا أكثر من 200 كيلو متراً بسيارات الأجرة العمومية ذهابا وإيابا.

وبديهي، إن الأحداث التاريخية  ليست ملكا شخصيا لأحد لكي يتصرف بها كما يحلو له، بل هي ملك للناس، ومودعة كأمانة ليس في ذاكرة الكاتب حسبُ، وإنما في وجدانه ايضا.
×  ×  ×
كانت إقامتي الجديدة في بيت جمال الحجاج ( أبو سعدون ) مع زوجته أخت الشهيد أسعد لعييبي وأخيه مهدي لعيبي، في منطقة شعبية خاضعة بإستمرار للجرد فكانت حركتي محدودة. وقد حُلت هذه المشكلة بإستلامي الشهيد هيثم الصكر. لم يكن بيت هيثم يصلح للإقامة الدائمة ولكنه كان يصلح لإدارة أشغالي فهيثم لديه سيارة وهناك تلفون في البيت والحركة من والى البيت طبيعية. فكنت أقيم يوما أو يومين عند هيثم أنجز أعمالي التي تتطلب الحركة وأعود الى قاعدتي، في بيت أبي سعدون، سالما.

حاولت الإستفادة من العفو العام الذي صدر في آب، فوسعت دائرة حركتي، ووجدت طريقا لإيصال رسالة الي العضو المرشح للجنة المركزية سكرتير منطقة الفرات الأوسط الفقيد محمد حسن مبارك ( ابو هشام )، الذي ضاعت علينا أخباره وأثره لأكثر من عام، أخبرته فيها بأننا نحاول الإستفادة من الظرف، للتحرك بحذر نحو بعض العقد المهمة والمفيدة ... إستلمت منه جوابا يفيد بأنه مقطوع تماما ولا توجد لديه أية صلة بأحد وإنه سيتحرك لإيجاد بعض الصلات ... هذه كانت آخر صلة للرفيق المذكور بالحزب. وباءت كل محاولاتنا لإيجاد أثر له بعد تلك المحاولة  بالفشل.

بعد سقوط النظام الدكتاتورى، وبعد حوالي ربع قرن من إنقطاع أخبار الرفيق أبي هشام عنا، التقت عائلته بالرفيق سامي عبد الرزاق وذلك في آب 2003، وعلم منها بأن الرفيق أصيب بفايروس الكبد القاتل، فحفر قبرا له في بيته لكي يدفن فيه بعد موته !! ولكن إبنه لم يدفنه في البيت، بل دفنه سرا بمساعدة صديق له في وادي السلام، وذلك عام 2001. ولم يكن الفقيد يخرج من البيت وكان شغله الشاغل هو سماع الراديو. ومشكلة العائلة الان هي أن جميع وثائق العائلة ليست بأسمائهم الحقيقية. وقد تخرج إبنه هشام بإسم آخر من الجامعة! وإنهم بصدد تغيير وثائقهم. وبصرف النظر عن مدى صواب تصرف الرفيق أبي هشام في الإختفاء بالطريقة المذكورة، فإن تصرفه دليل على حرصه على كرامته وشرفه السياسي، لقد كان الفقيد متنوع الإمكانيات وطاقة لا تنضب وقارئا جيدا، فتحية إجلال وإكرام له والعزاء والسلوان لعائلته.

في نهاية ايلول ، وعندما كنت مع الرفيق هيثم في سيارته متجها الى موعد حزبي في أحد البيوت، لاحظ هيثم سيارة مدنية تتابعنا، فإلتفت وإذا بسيارة أحد معارفنا ومسؤول تسفيرنا ( ع ). طلبت من هيثم ان ينصرف بسرعة حال نزولي من السيارة. ترجلت وتوجهت الى سيارة ( ع ) متصورا بأن هناك خطرا على مكان موعدي. وإذا به يطلب مني بطريقة جافة أن أخذ عائلة أبي خولة، المقيمة في بيت أقربائه في إنتظار التسفير، أن أخذهم حالا، وبدون توضيح الأسباب. فوجئت بالأمر فلم أكن أعرف شيئا عن الموضوع. فالإتفاق كان بينه وبين أبي خولة، وبمعزل عني. طلبت منه مهلة يوم واحد لتهيئة مكان لهم، رغم صعوبة ذلك، الا إنه رفض طلبي بإصرار، كان متوترا ويرفض المناقشة. وقد وعد بإستلام العائلة بعد إسبوع واحد لتسفيرها. كنت محرجا الى درجة كبيرة جدا، فالعائلة كبيرة ( خمسة أشخاص) وعائلة عضو مكتب سياسي يخشاها الناس والوقت ليلا. خطر في بالي بيت حسن خزعل نايف ( أبو عبير) شقيق أبي فكرت الذي زرته مرة واحدة، وهو لا حزبي ولكنه إنسان شهم أخذت العائلة ورجوته أن يبقيها عنده لمدة إسبوع. وأصبح الإسبوع أكثر من أربعة أسابيع!  كنت محرجا لإستغلالي، مرغما، طيبة إنسان. على أي حال، ألف تحية وشكر لأبي عبير ولزوجته الجزائرية الفاضلة أم عبير على صبرهما علينا ومساعدتهما لنا. وقد علمت بعدئذ من أم خولة بأن سبب عدم تمكنهم من البقاء في البيت السابق، هو إنهم كانوا مقيمين بصفة ضيوف وأصبح وجودهم ملفتا للإنتباه مع إنتهاء العطلة الصيفية وبدء السنة الدراسية الجديدة.

لقد سافرت عائلة ابي خولة في منتصف تشرين الأول أي بعد حوالي الشهرين تقريبا من سفره. وقد ودعتها في بيت العزيزين أم هديل وأبي هديل. وبهذه المناسبة بودي أن أحيي بحرارة هاتين الشخصيتين الرائعتين وأقدم لهما جزيل الشكر والعرفان على ما قدموه لنا من حماية ومأوى في أخطر الظروف .

في تلك الفترة أطلق سراح الرفيق سليمان يوسف بوكا ( أبو عامل) وكانت المعلومات التي لدينا عنه تشير الى صلابة موقفه في الأمن. وجدت الرفيقة أم علي طريقا للإتصال به. تداولت مع الرفيقة أم علي في وضعه  وإتفقنا على أن نقترح عليه السفر الى الخارج. آخذين بنظر الإعتبار حاجته الى فحوصات طبية للتأكد من عدم إعطائه موادَ قاتلة ببطء، وقد أشيع إستخدامها من قبل سلطة البعث ضد خصومها. ولأن الأصول تقتضي إطلاع المكتب السياسي، والذي هو في الخارج آنئذ، مباشرة على موقفه في الأمن. كتبت رسالة بمقترح السفر الى الرفيق أبي عامل، فطلب اللقاء بكاتب الرسالة. رتبت الرفيقة أم علي موعدا ومكانا  للقاء، وإلتقينا به سوية. فوجئت بهيئة الرفيق أبي عامل، لقد كان شبحا، عرفت بأن وزنه نقص عشرين أو ثلاثين ( لا أتذكرأي الرقمين ) كيلو غراما. تحدث الرفيق بالتفصيل عن سير التحقيق معه. سألته سؤالا واحدا لم يجبني عليه، كان بمثابة صدمة للرفيقة أم علي ، فتولت هي الإجابة بالنفي مرتبكة ومستغربة السؤال. وكان موقفها دليلا على قلة خبرتها، ولا يقلل ذلك أبدا من بسالة الرفيقة وإخلاصها غير المحدود للحزب وقضيته.

أبدى الرفيق أبو عامل إستعدادا جديا للبقاء في الداخل وأن يدبر أمر إختفائه بنفسه، وإن لديه وسائل طباعة جاهزة للإستخدام، ولا غرابة في  وجود مثل هذه الإمكانيات لدى أبي عامل، فإنه أحد أعضاء قيادة الظل التي سبقت الإشارة اليها . اكدت رأيي بضرورة سفره، وقد وافق على ذلك على مضض. وعند إستفساره عن مصير عائلته إقترحت عليه خروجهم جميعا. ولا بد من الإنتهاء من "قصة" الرفيق أبي عامل، ولو أَّن ذلك يؤدي بنا الى الإبتعاد عن صلب الموضوع قليلا.

عند خروج الرفيق أبي عامل ووصوله بيروت صدرت " طريق الشعب " وعلى صدرها هذا المانشيت "بطل من هذا الحزب" إمتدحت فيه بطولة الرفيق، الذي لم يكن راضيا عن نشر ذلك، كما أخبرني. كان الرفيق أبو عامل قد صوّت ضد التوقيع على ميثاق الجبهة بالصيغة التي أقرت بها. ومع إنه تراجع كأغلبية المعارضين عند إقرار وثائق أساسية في مؤتمر الحزب الثالث كبرنامج الحزب ونظامه الداخلي، ألا إنه بقي متحفظا على هذا الجانب أو ذاك من سياسة الحزب. وهكذا صعد ولمع نجم الرفيق ابي عامل عشية الإجتماع الكامل للجنة المركزية الذي عقد في موسكو في نهاية 1981. ولأن الأجواء كانت مشحونة ضد قيادة الحزب لمسؤوليتها عن الأخطاء التي ارتكبت في الفترة الماضية، ولأن الإجتماع يعيد إنتخاب المكتب السياسي، فإن القيادة لم تتصرف تصرفا صحيحا، فلم تجرؤ على التوقف بشكل جدي على ما وقعه الرفيق كشرط لإطلاق سراحه، وحسم الموضوع، بل تغاضت عن ذلك. وقد أنتخب الإجتماع نفس أعضاء المكتب السياسي السابقين بإستثناء الرفيق ثابت حبيب العاني ( أبو حسان ) الذي حل محله الرفيق أبو عامل عضوا في المكتب السياسي الجديد.

 في الإجتماع الكامل للجنة المركزية في عام 1984، في كوردستان، وهو أيضا إجتماع إنتخابي. كانت هناك نقطة في جدول عمل الإجتماع، الذي يعده المكتب السياسي عادة، وهي موقف أبي عامل في التحقيق! عند تناول النقطة المذكورة، أفاد الرفيق أبو عامل في الإجتماع المذكور بما فحواه:
 
ـ  لقد تحدثت عن موقفي  للرفيق عزيز محمد ولرفاق آخرين في المكتب السياسين بعد إطلاق سراحي، ولم أسمع أية ملاحظة أو سؤال من أحد. الرفيق الوحيد الذي سألني هو الرفيق أبو شروق وذلك في بغداد. وبإمكانه أن يخبركم بالسؤال إياه.

وقد أفدت بما فحواه:

ـ أخبرني الرفيق أبو عامل بأنهم عرضوا عليه أكثر من صيغة تعهد ورفض التوقيع عليها. وكانت تعرض عليه مع  خيارين، اما التوقيع وإطلاق سراحه وأما الإعدام. وكان آخرها صيغة مادة قانونية تفيد بأن الذي يقوم بنشاط سياسي ( غير بعثي ) داخل القوات المسلحة يحكم بالإعدام. وتعهد الرفيق أبو عامل بإطلاعه على ذلك، لأنه لم يجد ضيرا من التوقيع على هذا التعهد من وجهة نظر قانونية ( كان الرفيق أبو عامل ضابطا قانونيا في الجيش العراقي ) وسؤالي كان: ألا يعني ذلك تعهدا سياسيا؟ ولم يجب الرفيق على سؤالي. بل أجابت الرفيقة أم علي كما أسلفت. وقد أخبرت الرفيقين عمر علي الشيخ وباقر إبراهيم بسؤالي في حينه، وموقف أبو عامل منه.

وأضفت في إجتماع اللجنة المركزية المذكور، بأن الرفيق أبا عامل كان على إستعداد جدي للبقاء والعمل في تلك الظروف العصيبة.

بعد حديثي أُسدل الستار على الموضوع. فقد أخذت اللجنة المركزية علما به. ولم يُرشح الرفيق أبو عامل للمكتب السياسي.
 
في احد الايام نظمت لي الرفيقة أم علي موعدا مع الرفيقة بثينة شريف، وهي واحدة من قادة الحركة النسوية في العراق. وقد التقينا بها. وأبدت تحفظا على طلبنا منها السفرَ الى خارج العراق. وإسترجعت الذكريات المرة لتغربها بعد إنقلاب شباط الأسود 1963. وأخيرا، قبلت بالسفر على مضض. لم يكن البيت يصلح لمثل هذه اللقاءات لكثرة عدد الذين تواجدوا فيه، ولمعرفتهم المسبقة بأن مسؤولا حزبيا سيحضر اللقاء. رجوتُ الرفيقة أم علي أن تتجنب وتجنبني مثل هذه الأماكن، وقد تفهمت ملاحظتي، ووعدتني أن تأخذ ذلك بنظر الإعتبار.

الرفيق هيثم صكر لم يكن يعرفني، فعندما طلبت منه يوما أن يجلب بطاريات وشاحنة لسماعتي واعطيته مواصفات ذلك. وجد في الأمر تعقيدا. وتسهيلا للأمر طلب مني أن أصطحبه الى محل في الكرادة الشرقية، وفي وقت الدوام حيث لا يوجد إزدحام، وأن أختار ما أشاء فيه. لقد تمنعت، فلم أكن أرغب في الخروج من البيت الى السوق لأسباب شخصية بحتة. إن مجرد معرفة هيأتى الجديدة من المعارف، إن لم تكن مبررة، فهي غير صحيحة. ولكني شعرت بأن الرفيق هيثم إعتبر تمنعي مبالغة في الحذر إن لم يكن خوفا، حيث تعهد بتحمل مسؤولية أي نتيجة سلبية. ولم أكن أتحمل مثل هذا الإنطباع السيء عني ليس لأسباب شخصية فحسب، وإنما للحفاظ على  علاقات سليمة بين المسؤول ورفاقه والتي لايمكن أن تكون كذلك ولدى الآخرين إنطباع بأن مسؤولهم غير جريء، لذلك وافقت على مقترحه، وخرجنا من البيت سوية.

لم يكن هناك إزدحام في الشارع أما المحل فلم يكن فيه ولا زبون واحد، وما أن دخلناه حتى قال لي الرفيق هيثم: " شوف ولا نفر، ما كتلك ". إبتعتُ ما أحتاجه وهممنا بالخروج. وما أن وضعنا خطوتين بإتجاه باب المحل بهدف الخروج للشارع حتى دخل المحل صديقي الرفيق علي النور. لم يصدق علي عينيه، بادىء ذي بدء، فخلع نظاراته ليمسحها وقبل أن يعيدها كنا قد إقتربنا جدا فعرفني حتى  بدون نظارات، ففتح ذراعيه وصاح جا .. وأغلق فمه ولم يكمل إسمي، وكنا قد تعودنا ،أنا والشهيد علي النور، على أن ينادي أحدنا ألآخر بإسمه الأول، كما كان الحال في شبابنا. إبتعد عني الرفيق هيثم ليغيب وجهه. عاد علي يتكلم بصوت عالٍ فقال :

ــ  والله آني كلت هسه إنت هنا ( يقصد في العراق)

ــ علي نصي صوتك أحنا بمحل عام ...  ليش باقي لي هسه، مو كتلك سافر؟

ــ ها إتخاف علي أنهار بالتعذيب؟ ... آني مدبر حالي هسه.
 
ــ مو هذا قصدي ...  أصلا حرامات توكع بيد هذوله المجرمين الكلاب. تره هالمرة مو مثل ذيج المرة، وإفترقنا.

في الحملة الإرهابية في زمن ناظم كزار، خدع الرفيق علي النور البعث وتظاهر بأنه قد ترك العمل السياسي عبر مساومة معينة، وبعلم قيادة المنظمة المسبق. يبدو إنه أراد تطبيق تلك التجربة الناجحة على ظرف مختلف. وقد زرنا، ام شروق وأنا،  زوجة الشهيد علي الفاضلة وأبنائه في خراسان عام 1984، وكانت بمعنويات عالية.  وقد خصص لها صديقنا المشترك العزيز كاظم الصايغ مرتبا شهريا كمساعدة. ولم تكن هي أصلا في ضائقة مالية فقد كانت تعمل كمعلمة. وقد عادت للعراق بعد سقوط النظام وإسترجعت بيتها وعادت الى وظيفتها. شوهد الرفيق علي آخر مرة في 31 آب 1980، في معتقل كربلاء الإنفرادي بلحية طويلة جدا وقد صُفي أخيرا لأن هامش مناوراته مع العدو قد تقلص ووصل الى الخطوط الحُمر التي لم يكن مستعدا لتجاوزها. فتحية إجلال وإكرام للشهيد علي النور، ولعائلته المحبة والتقدير.

أعود للرفيق هيثم فقد التقيته بعد خروجي من المحل فقلت له:

ــ ها ... هاي التريدها ؟ قلت له ذلك لأنه كشف غير مبرر، في عرف العمل السري، فوجودي في العراق وهيأتي الجديدة المتخفي بها، يجب الحرص على إبقائهما محصورين في أضيق نطاق.   

ــ توقعت هذا السؤال ومحضّر لك الجواب ، هاي أول مرة وآخر مرة تطلع للسوق ... التوبة!

عرفت لاحقا بأن الرفيق علي النور جلب إحدى الرفيقات من كربلاء الى باب محل أشقائي في الكاظمية طالبا منهم إيصالها لي، لحراجة وضع الرفيقة الأمني. وكان يؤكد لهم وجودي أمام نفيهم لذلك. ولم يستلموها.

ــ اصبت في إحدى الليالي في بيت الرفيق هيثم بذبحة صدرية،  أخبرني بأن العائلة قلقة وإن أخته ( ربة البيت) تستفسر الى من يتوجهون لو وافاني الأجل، فهم لايعرفون أي عنوان أو طريق يوصل لأهلي . فوجئت بالطلب ولم يخطر ببالي أن اموت بهذه الطريقة في الإربعينيات من عمري. أعطيتهم الحق في قلقهم وطلبهم، و لكن لم أتخذ أي إجراء، ومن ثم نسيت الأمر.

وصلتني رسالة وكانت بخط الفقيد ثابت حبيب العاني ( أبو حسان ) تطلب مني السفر للخارج وقد غادرت العراق في العشرة الأخيرة من تشرين الثاني 1979. اي بعد ثلاثة أشهر من سفر الرفيق باقر إبراهيم. وقد سلمت كل ما لدي من إمكانيات بما فيها المالية والرفيق هيثم صكر بإمكانياته المتنوعة للرفيقة عائدة ياسين .

لقد تعرض عشرات الألوف من الشيوعيات و الشيوعيين واصدقائهم للإعتقال والتعذيب، في حملة القمع الوحشية الأخيرة والتي إستمرت حتى سقوط سلطة البعث. وإستشهد فيها المئات والمئات من خيرة كوادرالحزب وأعضائه، من بينهم الدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح الدرة، وكذلك الكثير من نشطائه في حركة الأنصار. ولم يقتصر القمع الوحشي على الشيوعيين وأصدقائهم فحسب، بل شمل ذلك جميع القوى الديمقراطية، بما في ذلك الأحزاب الكوردية، والقومية المعتدلة وحزب الدعوة وغيرها من القوى والشخصيات المعارضة للنظام. وإستمر القمع حتى سقوط النظام الدكتاتوري محملا بأوزار المقابر الجماعية وحملات الأنفال سيئة الصيت وإستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة وغيرها. ومخلفا وراءه مئات الألوف من المعوقين والأرامل والأيتام، جراء حروبه العبثية. هذا إضافة الى الجهل والفقر والفساد الإداري، والولاء الطائفي بديلا عن الولاء للوطن. وثقافة العنف والإجرام والسلوك الوحشي لأيتامه الذين تحالفوا مع قوى الإرهاب العالمي، أيتام ونسل نظام طالبان المقبور، للقيام بالقتل الجماعي لأبناء  الشعب العراقي بمن في ذلك النساء والأطفال والشيوخ الأبرياء، وتدمير البنية التحتية للبلد، بحجة مقاومة المحتل، مستهدفة في حقيقة الأمر العملية السياسية التي قضت على سلطتهم ومصالحهم غير المشروعة والى الأبد.

ومن تحت هذه الأنقاض وما خلفته عواقب الحرب التدميرية من خراب في مؤسسات الدولة، تنهض روح العراق المتمثلة بكل القوى الديمقراطية المكافحة والتواقة لإقامة نظام ديمقراطي إتحادي، يحقق طموح الشعب الكردي في تقرير مصيره، ومجتمع مدني ودولة قانون وفصل السلطات وفصل الدين عن الدولة. وضمان حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات. وضمان حقوق مختلف القوميات كالتركمان والكلدان والآشوريين والأقليات الدينية. وبذلك يتخلص الشعب العراقي ليس من تكرار القمع الوحشي حسب، بل ومن كل أشكال العنف السياسي والطائفي.
 
إنتهى[/b]

65
ذكريات
القمع الوحشي
 ( 5 )



جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

كان البريد المرسل من الصافي يمر عبري الى الرفيق باقر إبراهيم، فأستبقي الأخبار العامة لتنظيم نشرة أخبار داخلية، ولأعلق على ما يتطلب التعليق ، ومن ثم أرسله للرفيق باقر إبراهيم. وبعد حوالي إسبوعين من إختفائي، اي في النصف الثاني من شهر آذار 1979، أطلعت على رسالة للصافي يقترح فيها سفره والرفيق مكرم الطالباني للخارج لإيصال جواب البعث لقيادة الحزب. فإقترحت بدلا من الصافي ماجد عبد الرضا، على أن لا يعود الأخير لأنه  قد تحول الى عبء على الحزب جراء موقفه الضعيف في الأمن العام. وهكذا كان، فقد سافر ماجد ولم يعد. وهذه لقمة أخرى ساهمت في إخراجها من فم البعث، ولكن، مع الأسف، الى حين!

وموقف ماجد جدير بالتوضيح. لقد باشرنا القيام بحملة عالمية بعد إعتقاله في المطار، من قبل جلاوزة الأمن، عندما كان يهم بمغادرة العراق في أواسط كانون الأول 1978، تحت شعار "أنقذوا حياة ماجد عبد الرضا"، وإذا بي أراه صباح أحد الأيام في مكتبه في المقر العام للحزب، بعد أربعة أيام من إعتقاله، يوظب الملفات كعادته، وكأن شيئا لم يكن. لقد أندهشت، إنه يحاول أن يبدو إعتياديا، ولكنه يتحاشى النظر في عيني، في حين كان ذلك ما يهمني بالضبط ، فوراء الأكمة ما ورائها، وإلا فكيف يطلق سراحه؟! عرفت منه بأنهم حجزوا على جواز سفره ولم يطلبوا منه معلومات وإنما ناقشوه وعرضوا عليه منصب وزاري ، وكان يرى دراسة المقترح بجدية!؟ إستغربت مقترحه وأشعرته بذلك صراحة بقولي له "بكل عقلك تحجي". ما أن بدأت الحملة العالمية بالمطالبة بإطلاق سراحه حتى أعتقل ثانية وفي هذه المرة أدخل المجرمون، بأساليبهم الوحشية، الرعب في قلب الرجل. ومن تلك الأساليب، وضعه في غرفة مظلمة وإسماعه أنين وصياح أشخاص يتعرضون للتعذيب. وما شابه ذلك من أساليب التعذيب النفسي.

طلبوا من ماجد إيقاف الحملة العالمية ضد الحكومة لكي يطلق سراحه، ولم يكتفوا بوعوده لهم ، إنما طلبوا منه كتابة مقال في " طريق الشعب " بإسمه الصريح. كانوا يستهدفون الطعن بمصداقية حملة الحزب ضد القمع الوحشي. كان رأيي هو أن نعمل على إيقاف الحملة لإنقاذ حياته أولا، ويمكن بعدها نشر المقال. ولاحظت تفهما من ماجد والصافي لرأيي. فوجئت في اليوم التالي بمقال على صفحات حريدة "طريق الشعب" بتوقيع ماجد عبد الرضا وبتاريخ يوحي بأنه غير معتقل!! كنت قد إطلعت للتو على المقال عندما وصل الصافي الى المقر. برر تمرير المقال، بإعتباره رئيس تحرير الصحيفة، بإلحاح من ماجد. إنتقدت الصافي بقوة (وربما بعصبية بسبب ميانتي معه) على رضوخه لإلحاح ماجد. عرفت من الصافي بأنه لم يكن راضيا على وضع تاريخ للمقال، غير إن ماجد إستغل كونه خفر في ذلك اليوم ووضع التاريخ!

نشأت لماجد علاقة بالأمن بسبب جواز سفره المحجوز لديهم . أكثر من تلفون وأكثر من لقاء حول الموضوع. لم يختلف ماجد معي بأن في الأمر إبتزازا. إقترحت عليه السفر الى كوردستان وتدبير أمر سفره من هناك الى خارج الوطن، ولكنه رفض. إستغربت موقفه أشد الإستغراب عندما رفض إعطائي صورة له لكي أنظم له هوية مزورة قد يحتاجها إذا ما إضطر للإختفاء. ولم يكتف بالرفض، إنما حذرني من تدبير ذلك لأي أحد بإعتبار أن ذلك عملا خطيرًا !! في حين لبى الآخرون طلبي بسرعة مثل سلام الناصري والصافي ومحمد كريم فتح الله. وهكذا فإن إخراج ماجد الى خارج العراق كان ضروريا.

في الإجتماع الكامل للجنة المركزية في موسكو صيف 1980، حوسب ماجد وعوقب بتخفيضه من عضو لجنة مركزية الى عضو مرشح على موقفه غيرالصحيح في الأمن، ومن نشر المقال. وطرحت موقف الصافي الخاطىء على الإجتماع وإقترحت توجيه عقوبة التوبيخ له، ألا إن الإجتماع إكتفى بالنقد الذاتي الذي قدمه الصافي.

في 5 نيسان 1979، وجهت السلطة إنذاراً للجريدة مدته شهر. وقبل إنتهاء المدة طلب الصافي مكانا للإقامة. جاء جواب الرفيق باقر إبراهيم، بأن نخبر الصافي بعدم وجود إمكانية لدينا وليتدبر أمر إختفائه بنفسه. إعترضت على ذلك، ورأيت من غير الصحيح عدم مساعدة الصافي، وهو عضو في المكتب السياسي، حتى إذا تطلب الأمر إقامته معنا. فكان جواب أبو خولة، هو أن أقوم أنا بذلك إن رغبت.  وفعلا إستلمت الصافي مساء أحد الأيام من الرفيق ناصرالسعودي، وإختفى معي في نفس البيت.

كان الرفيق ناصر جاسم السعودي ( أبو نشوان )  يساعدنا بإستصدار جوازات سفر إعتيادية مستندة على وثائق مزورة، بالتعاون مع أبو فكرت. وقد تمكن الحزب من إخراج عدد كبير من الرفاق عن هذا الطريق. ومن الطرائف التي نقلها لنا أبو فكرت ( محسن خزعل ) في هذا المجال، هي إن ضابط الجوازات قال لناصر في إحدى المرات:   

ـ هذا الإسم عليه منع!

ـ مامعقولة، رجاء إتأكد زين .
أجابه ناصر الذي كان مع أبو فكرت يختارون الأسماء بشكل عشوائي ويهتمون بالموصفات أكثر.

ـ يكلي إتأكد مو هاي القائمة كدامي.

ـ بس آني متأكد هذا مو الإسم المقصود!! قال ناصر ذلك وطلب السماح له بمساعدة الضابط للتثبت من ذلك. وقد أثبت ناصرللضابط من خلال السجل بأنه ليس الأسم المقصود!. وحصل على الجواز.

أصبحت الدائرة التي تعرف مايقوم به ناصر واسعة . ولإبعاده عن الخطر تقرر إنهاء مهمته وتسفيره للخارج. وإتفقنا معه على إن جواز الصافي سيكون الأخير. وقد سارت الأمور وفق الخطة المقررة وسافر الصافي بمعية الرفيق ناصر بالقطار. وإستلمنا برقية بخروجهم من الحدود العراقية  بسلام، عبر أم نشوان.

كانت المراسلة بيني وبين الرفيق أبو خولة تجري بواسطة الرفيق أبو كريم من جانبي و خضير عباس السماوي ( ابو سهيل ) من جانب أبو خولة في شوارع بغداد. في بداية مايس لم يحضر أبو سهيل للموعد. تبين انه قد اعتقل. بعد فترة قصيرة أطلق سراحه! وعلمت بأنه أعطى تعهداً ولم يلحق ضررا بأحد، على حد تعبيره أمام إحدى العوائل التي كنت أتردد عليها أحيانا. إلتقيت بأبو سهيل وإطلعت منه على أجواء الأمن وخلاصة ذلك:

ـ في الدقيقة الأولى لدخول المناضل دائرة الأمن يطلبون منه موعده ومسؤوله، إذا ماطل أو لم يستجب، تحيطه مجموعة من الجلاوزة، لايتركونه إلا أن يعترف أو يوقع وهو ينازع بين الحياة والموت. وإن الأمن متحامل الى أقصى الحدود عليك وعلى أبي خولة ويهددون ويعدون بأنهم سيقطعونكم إربا إربا، عندما تقعون بأيديهم! وإني أنصحكم بأن تسافروا بأسرع وقت الى الخارج.

ـ وكيف أطلق سراحك دون الإعتراف على موعد أو مسؤول؟

ـ لقد خدعتهم وأنقذت نفسي بإعطائي تعهد دون أن أؤذي أحدا!.

وبعد لقائي بأم شروق، التي قطعت أي إتصال بها منذ إختفائي، أخبرتني بإنه جرى تحري دارنا في بداية مايس ( نفس تاريخ إلقاء القبض على الرفيق أبو سهيل) وإن ضابط الأمن قال: " بأن هناك إعتراف على جاسم "، جوابا على إستفسارها عن أسباب التحري. كنت مسؤول أبو سهيل، قبل إختفاء الرفيق أبوخولة. وكنا نلتقي في بيتنا. وعند إعتقاله كان متأكدا من إنني لا أقيم في البيت. وكانت لدى أبو سهيل صلات حساسة أخرى، غير صلته بأبي كريم، من بينها علاقته بالرفيق محمد جاسم اللبان عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي حاليا، وكان الأخير حلقة وصل بالسفارة السوفيتية. لقد أعتبر موقف أبو سهيل ضعيفا عند دراسته من قبل الجهات الحزبية المسؤولة في الخارج ، كما علمت.

× × ×

في الأيام الأولى لإختفائي طرحت فكرة تأسيس بيت حزبي جديد على الرفيق أبو كريم، الذي تحمس لها. وقد تمكنا من تأسيس بيت في العامرية تقيم فيه عائلة الشهيد عبد الزهرة لازم . وكنت قد إنتقلت للإقامة فيه منذ نهاية شهرايار .
× × ×

كنت قد إتفقت مع أم شروق على موعد لقاء في بيت احد الأصدقاء  لكي تختفي العائلة تمهيدا لسفرها خارج البلاد، على أن تترك البيت بما فيه وأن تضيع نفسها والأطفال قبل المجيء الى الموعد. ولم تقصّر أم شروق، فقد قامت مع أبنائنا بجولة زارت فيها اختها في الصويرة واخذت من هناك جوازات السفر التي كانت مخبأة عند صديقة لأختها. ومن ثم زارت كربلاء وبقيت في النجف يومين عند أقربائها. . واخيرا عادت الى بغداد والى مكان اللقاء.

كان قد مر على إفتراقي عن العائلة حوالي ثلاثة أشهر. وخلال هذه الفترة جرى تغيرعلى هيأتي، فشاربي طال كثيرا وشعري بات مصبوغا باللون الأسود، ولم يتعرف علي إبني صفاء في باديء الأمر. كان اللقاء حارا ومشوبا بالدهشة والقلق. كان الوقت في عز ظهيرة صيفية في الإسبوع الأول من حزيران . لم أتأخر كثيرا في بيت الصديق، أخذت العائلة بتكسي الى بيت الناصريين. إستقبلتنا أنسام  بوجه شاحب، وقبل أن أفتح فمي لأسألها ما الخبر، اخبرتني بأن أبو فكرت  لم يعد البارحة مساء، وإن أبو كريم أخذ الوثائق الموجودة في البيت وقال: "بأنه ذاهب الى أبو شروق". طلبت منها أن تترك البيت فورا. أما نحن فقد تركنا البيت وسط ذهول أطفالنا الذين لم يفهموا من الأمر شيئا، إلا بعد شرحه لهم. لم يكن لدي سوى البيت الجديد فإستقرت العائلة فيه. وإنتقل أبو كريم أيضا ليقيم معنا.

لم يعترف أبو فكرت على البيت ولم يلحق أي ضرر بما يعرفه من أسرار. وقد أطلق سراحه. وكتب رسالة ذكر فيها ما جرى له بالتفصيل، وقرع نفسه لأنه خذلنا لعدم تمكنه من الصمود والإمتناع عن إعطائه تعهد. ولثقتي بصدقيته حاولت الإلتقاء به ولكنه رفض ذلك بإصرار. ورفض كذلك لقاء الرفيق أبو كريم  كان يصعب عليه أن يلتقينا ولديه موقف ضعف . فقد نشأت بيننا فضلا عن العلاقات الرفاقية علاقات صداقة. كان أبو فكرت عاشقا حقيقيا وكانت حبيبته في الناصرية، وقد تزوجها. وكان لديه كاسيت للمطرب جبار ﻋﮕار وهو يغني ويعزف على الربابة. وما دام أبو فكرت في البيت، كان علينا أن نسمع المطرب المذكور ويسمعه معنا سابع جار! قلت لأبو فكرت ذات يوم:

ـ أبو فكرت، أستاهد ( أعتقد ) اكو غيرجبار ﻋﮕار مغنين، شتكول نسمع غيره ، دورات. مثل عبد الوهاب ، فريد الأطرش، أم كلثوم؟

ـ إي صحيح اكو، بس مو مثل هذا، هذا يفتت الصخر!

وهذه " الأستاهد" مستعارة من نكتة بدوية. يقال إن بدويا وزوجته كانا في السنين الأولى من زواجهما، فكانت البدوية تتكحل يوميا وتقول لزوجها:

ـ إبن عمي، هالليلة يمعة( جمعة)! فيجيبها البدوي:

ـ على بركة الله!
 وهكذا إستمر الحال حتى تعب صاحبنا البدوي، فجاءته زوجته مساء أحد الأيام كالعادة مكحلة وقالت له:

ـ إبن عمي هالليلة يمعة!

ـ بت عمي، أستاهد بين الجمعتين سبيت ( سبت )، ما تكليلي وين صار؟! أجابها البدوي. متسائلاً.

يتبع[/b]

66


ذكريات
القمع الوحشي
( 4 )


جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

 في مقر الجريدة، وفي نفس تلك الفترة القصيرة، قابلت عددا من الرفاق الذين أطلق سراحهم بالعفو العام. أحدهم الرفيق هندال جادر حاجم ، الحمال والكادر الحزبي ( عضو عمالية البصرة) والنقابي المشهور، الذي تظاهر عمال المسفن في البصرة عام 1959، مطالبين بإطلاق سراحه بالإهزوجة المشهورة (حي ميت ، هندال إنريده) وقد أطلق سراحه بعد ساعتين من إعتقاله. وصمد في التعذيب الذي تعرض له على أثر إنفلاب شباط الأسود عام 1963. وهو الذي كسر شوكة الجلاد عبود الكرخي مدير أمن البصرة عام 1967، وخرج من التوقيف بعد أكثر من شهرمن التعذيب، دون أن يعطي براءة. ( وقد كنت آنئذ سكرتيرا للجنة المنطقة الجنوبية ومقيما في البصرة ). كان هندال مثالا للمناضل الصلب. وقد شاهدت بأم عيني آثار التعذيب الوحشي على جسده الطاهر عند مقابلتي له في الجريدة. لقد إستشهد هندال تحت التعذيب في بداية الثمانينات عن عمر يناهز السبعين عاما. وقد إطلعت على وثيقة   المصادقة على تنفيذ حكم إعدامه موقعة من قبل المخلوع صدام حسين ومؤرخة في 8 ايلول 1983، ضمن عشرين كادرا حزبيأ جميعهم من البصرة. بينهم العضو المرشح للجنة المركزية الرفيق محمد جواد طعمة (ابو زيتون) والرفيقة فريال أحمد حسن الأسدي وزوجها محمد قريشي وهاشم حاتم عبد الله. لقد كانوا أبطالا حقيقيين في مقاومتهم أعتى دكتاتورية على الأرض. ولابد أن يأتي ذلك اليوم الذي سيشيد فيه أبناء البصرة التقدميون نصبا تذكاريا لهؤلاء الأبطال الخالدين في مدينتهم، طال أمد ذلك أم قصر.

لقد زارنا في الجريدة أيضا الرفيق هاشم حاتم، عضو عمالية البصرة ومدرس الفلسفة في المدرسة الحزبية في المحافظة، وبمعيته الرفيق وليم الخياط عضوعمالية البصرة ايضا. كنت قد تعرفت على الرفيق هاشم في المدرسة الحزبية في موسكو. لقد غادرت موسكو بعد وصوله ببضعة أشهر، وكان يدرس في فريق آخر. ومع ذلك، فقد سنحت لي الفرصة للتحدث معه بحكم إقامته سوية مع صديقي الفقيد أنور طه. كان هاشم آنئذ لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، متوسط القامة ، اسمر ووسيم. شعره بني وسرح وطويل، عيونه واسعة وجميلة. ذكي ورزين، ومثقف. خريج ثانوية التجارة موظف حكومي صغير. ترك وظيفته لدى إلتحاقه بالدراسة في موسكو. كنت أتوسم فيه سمات قيادية واضحة وتوقعت له مستقبلا واعدا. وقد التقيته ثانية في البصرة في أحد إشرافاتي على المنطقة الجنوبية بعد لقائي به في موسكو بأربع سنوات .

جلسنا هاشم ووليم وأنا في غرفة صغيرة وشبه مهجورة ومنزوية في الجريدة. جلس الإثنان متقابلان وانا بينهما على شكل مثلث. كان هاشم جالسا منحني الرأس واضعا كفيه في حضنه يعصرهما ويعصر جسمه بساعديه. رفع رأسه ونظر الى وليم وعاد كالسابق دون أن ينظر الي. رفع رأسه ثانية، دون أن يفتح عينيه تماما، وقال ما فحواه:

ــ رفيق أبو شروق، مع الأسف الشديد لم أتمكن أن أقف الموقف المرجو مني . لقد إنتزع الوحوش مني تعهدا بعدم معاودة أي نشاط شيوعي، ولكنهم لم يتمكنوا أن ينتزعوا ضميري الشيوعي، وسأبقى أحيا وأعمل وأموت بما يمليه علي هذا الضمير من التزامات تجاه حرية وطني وسعادة شعبي ، وفي الحيز و الشكل الذي ترتأونه.

كان الرفيق وليم ، وهو خياط ، يعمل في مدينة البصرة لم أتعرف عليه سابقا، يثني على كلام هاشم، مستثمرا التوقفات والفرص التي كان يمنحها هاشم له ليعبر عن مكنونات نفسه. عندما أنهي هاشم الكلام فتح عينيه على سعتهما ، لأول مرة، ونظر مباشرة في عيني نظرة متسائلة : هل تصدقني؟ وقبل أن اقولها بلساني إختطف من عيني:

ـ أصدقك!

فإغرورقت عيون هاشم بالدموع، ومن خلال دموعي ، أنا، لاحظت وليم يكفكف، هو الآخر، دموعه!!

رأيت إن كليشة "أحنا نعتبركم على ملاكنا " ليست على قدر المقام فقلت لهما:

ـ نحن نعتبركما جزءا لايتجزأ منا وبإمكانكما التصرف على هذا الأساس، ولكن بحذر شديد.. إن هذه التعهدات التي تنتزعها سلطة البعث الغاشمة منافية ليس لشرعة حقوق الإنسان، التى تحمل توقيع العراق، فحسب، وإنما منافية لنصوص الدستور المؤقت أيضا. والأفضل إعطاء إنطباع عام بأنكما تركتما العمل. ومن الضروري تجنب الإتصال بالمنظمة، لأن هناك إختراقا أمنيا قد حصل فيها، ونحن بصدد معالجة ذلك.

ارادا إعادة المبلغ المودع لديهما لأحوال الطوارىء وقدره 200 دينار لدى كل واحد منهما. رفضت إستعادته . وأخبرتهما بأنهما يتمكنان من التصرف به بإعتباره ملكهما عسى أن يساعدهما على العودة للحياة الطبيعية والعمل. عرفت لاحقا بإستشهاد الأثنين ببطولة وقد ورد إسم هاشم في الوثيقة التى ورد ذكرها في أعلاه.
×  ×  ×

مساء 11 آذار 1979، كان لدي موعد مع سائق الجريدة الرفيق محمد حسن عيدان، كان يوصلني الى شارع عام، كشارع الجمهورية مثلا وينصرف. وكنت أستأجر تكسي بعد التأكد من إنني غير متابع وأذهب الى منطقة لقاءاتي السرية، ولا أذهب الى البيت المحدد إلا بعد التأكد من سلامة الوضع. عصر اليوم المذكور، عادت شروق من المدرسة وأخبرتنا بأن هناك عناصر أمن يقفون مقابل بيتنا. خرجت أم شروق لتستطلع الوضع متحججة بإلقاء القمامة في الحاوية، وتأكدت من الأمر. قررت الإختفاء نهائيا لأن التوليف بين العلنية والإختفاء لايتحمل إطلاقا أن أكون تحت مراقبة دائمية و مباشرة.

عند مجيء السائق خرجت مع العائلة وتوجهنا الي ساحة النهضة في باديء الأمر لإستجلاء الوضع، لاحطنا دراجتين ناريتين تتابعاننا. طلبت من الرفيق محمد حسن التوجه الى مطبعة الجريدة. واصلت الدراجتان متابعتهما عن قرب وسط دهشة الأطفال وصياحهم لرؤية مثل هذا المشهد في الواقع أيضا، وليس في الأفلام فقط.  بعد تأكد المتابعين بأننا متوجهون للمطبعة، التي تقع بالقرب من مديرية الأمن العامة، توقفا عن المتابعة. ترجلت في باب المطبعة ورجوت من الرفيق محمد حسن إيصال العائلة للبيت.

التقيت في المطبعة بالرفيق الصافي و أخبرته بقراري، وإتفقنا على ترتيبات جديدة لإدامة الصلة بين الجريدة والتنظيم السري. قررت الخروج من المطبعة بأسرع وقت. تعهد الرفيق محمد حسن عيدان بإخراجي منها وإيصالي بسلام حيثما أشاء. إستخدم الرفيق محمد سيارة جيب وساقها وأنا بمعيته في طريق، خلف المطبعة ،غير سالك ، مليء بالحفر والحجارة وكان يسوق دون إشعال أضوية السيارة ، لا الخلفية ولا الأمامية! وظل على هذه الحالة حتى وصل الى شارع رئيسي. ثم تجولنا في شوارع بغداد حتى تأكدنا بأننا غير متابعين. ترجلت في شارع الجمهورية وأخذت تكسى وذهبت لموعدي السري. لقد اعتقل الرفيق محمد حسن عيدان وتعرض لتعذيب بشع من قبل جلاوزة الأمن لعدم تصديقه بأنه أوصلني الى شارع الجمهورية. كانوا يريدون منه مكانا محدداً، فإضطر الى الإدعاء بإنه أوصلني الى مدينة الحلة. وفي مدينة الحلة دلهم على مكان بالقرب من احد البيوت الذي ظهر بأنه بيت أحد البعثيين الموثوق بهم ، فتعرض محمد حسن لتعذيب أبشع. وقد أطلق سراحه في العفو العام الذي صدر في صيف 1979، وكان في وضع صحي سيء وقد توفى بعد فترة وجيزة. الف تحية إجلال وإكرام له.

من تجربة إختفائي السابقة حيث لاحظت أزمة الإقامة، قررت أخذ تدبير أمر إقامتي على عاتقي. وانا في الجريدة تعرفت على بعض الإمكانيات، وقد إستقر بي المقام، عندما إختفيت، في بيت حزبي في البياع يقيم فيه كل من الشهيد مزهرهول الراشد ( أبو كريم ) و الشهيدة موناليزا أمين منشد (أنسام) وأختها الصغيرة كوثر والرفيق محسن خزعل نايف ( ابو فكرت). كنا نسمي البيت دائرة السفر، فمن هذا البيت تم التخطيط وتوفير مستلزمات تسفير عشرات، إن لم يكن مئات، الكوادر بمختلف الطرق غير الشرعية للخارج، وأنقذوا من الوقوع بيد العدو. وفي هذا البيت كنا نصدرنشرة اخبارتساعدني الرفيقة أنسام في تحريرها وتكثيرها.

الرفيق أبوكريم فلاح من قضاء الشطرة التابع لمحافظة الناصرية. كان عمره حوالي الاربعين عاما، متزوج ولديه خمسة أبناء. متوسط القامة، أسمر اللون. سكرتير محلية الناصرية وعضو مرشح للمنطقة الجنوبية. كان والده شيوعيا وكان أبو كريم يقرأ أدبيات الحزب ونشراته في خلية والده منذ صغر سنه. خلال حملة القمع الوحشي وهجرة الكثير من شيوعيي الناصرية الى بغداد،  ساهم أبو كريم مساهمة فعالة في جمعهم  وتنظيمهم وتسفير الكثيرين منهم خارج الوطن. كان أبو كريم مخلصا ومقداما وموضع ثقة رفاقه، ولديه قدر كبير من ملكة الفراسة، وإستقلالية التفكير. وكان يهتم بتطوير معارفه.

الرفيقة أنسام معلمة ، عضو محلية الناصرية عمرها 28 عاما. سعة وجمال عيونها تجلب إنتباه المرء، ما أن يقع نظره عليها، وجهها مشرق ويزيده إشراقا إبتسامتها الودودة. إنها ذكية، مثقفة، الكتاب أنيسها، متواضعة. تعاني من تشوه ولادي في عمودها الفقري . ولكن ذلك لم يسبب لها عقدة أو يؤتر على توازن شخصيتها.

جميع المقيمين في البيت من الناصرية.  وفي هذا البيت شعرت بان الشيوعيين الناصريين لديهم مشاعر حب خاصة تجاه الحزب الشيوعي العراقي. فلأن الرفيق فهد من الناصرية ولأن اول خلية شيوعية ولدت في الناصرية، فإن الناصريين يشعرون بأنهم أم الحزب الشيوعي العراقي وأبوه. وعندما واجهت أنسام برأيي هذا ، متصورا بأنها ستنفي ذلك، وإذا بها تؤكده. قلت لها:
 
ـ ولكن ذلك يحملكم مسؤولية إضافية!

ـ ونحن جديرون بها!

قالت ذلك وصدربريق خاطف من عينيها يتحدى الموت ويشعرك بمصداقية التحدي.

ـ والنِعم.

قالها الرفيق أبوكريم الذي كان يتابع حديثنا موجها نظرة ثاقبة نحوي ... لم تزوغ إلا بعد أن قلت: 
 
وثلث تنعام!

 وإستشهد الإثنان وهما يقاومان نظام البعث الدكتاتوري. الرفيق أبو كريم تحت التعذيب،  وموناليزا في حركة الأنصار في ايلول 1986. الف تحية إجلال وإكبار لهما فهما من الخالدين.

أنسام من عائلة شيوعية مناضلة التزمت طريق الكفاح من أجل حرية  العراق وسعادة شعبه وقدمت في سبيل ذلك تضحيات غالية، لاسيما في مقارعتها التي لاتلين لدكتاتورية صدام ونظام قمعه الوحشي. وقدمت تضحيات جسيمة في هذا الطريق. فتعرض جميع أفراد العائلة للتشريد. وبالإضافة الى إستشهاد أنسام فقد أعدم المجرمون شقيقتها الرفيقة سحرأمين وهي في التاسعة عشرة من عمرها و صُرع زوجها الرفيق صباح طارش امام عينيها وهو يقاوم وحوش البعث بشجاعة نادرة. ولم تكن أنسام وحدها من العائلة نصيرة في كردستان، بل كان معها أشقاؤها :الشاعر والصحفي المعروف داود أمين ( أبو نهران )، وسمير وزوجته، وأمير. وسار في طريقهم بقية أشقائهم  وهم كل من: إنتصار وكوثر وجمال. وكانت أمهم خير معين لهم وقد عانت الكثير من التشرد والحرمان من أجل أن يبقى أبناؤها مرفوعي الرأس والهامة فالف تحية لهذه الأم ولعائلتها ونتمنى لها الصحة والعمر المديد.

وقائمة الشهداء في مقاومة الأرهاب الوحشي الصدامي في الناصرية تضم إضافة الى الذين مر ذكرهم العشرات من الكوادر. بينهم عدد كبير من الرفيقات وعلى سبيل المثال لا الحصر: الرفيقة نجية الركابي وزوجها فيصل ماضي وهدية الركابي وزوجها حسن مرجان والطيار لطيف مطشر وعبد العال موسى الشرباجي وإبنه مناضل والرفيقة زهرة ذياب و الرفيقة حرية افعيل. تحية اجلال وإكبار والمجد والخلود للشهداء الأبرار.
يتبع


67
ذكريات
 
القمع الوحشي
( 3 )


جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

كنت أتصور بأن الذين إختفوا قبلي قد أسسوا بيوتا حزبية، وسأجد مكانا جاهزا لي ما أن أختفي. فقد كانت مبالغ محترمة تحت تصرفهم، وهناك عوائل كثيرة يعتمد عليها وفي متناول اليد مهاجرة من المحافظات الجنوبية الى بغداد. لكني فوجئت بأن تصوراتي لم تكن في محلها، فمرجعي الحزبي الرفيق باقر إبراهيم لم يكن لديه مكان ثابت فهو يتنقل بين بضعة بيوت عادية ويعتقد أن لاجدوى من تأسيس بيوت حزبية. وربما كان يعتبر بأن ذلك من مهام قيادة الظل التي عُزلنا ، هو وأنا ، عنها. واخبرني بأنهما، هو وخضير عباس، سيغادران العراق وسأكون معهما. في اليوم التالي كتبت رسالة لأم شروق أخبرها بالأمر. وقبل إرسال الرسالة صدر عفو عام عن المعتقلين فتوقفت الحملة الإرهابية وتأجلت السفرة الى أجل غير مسمى . وتقرر أن أزاوج بين الإختفاء والعلن فكنت أداوم في الجريدة لبضعة أيام في الإسبوع وأختفي بضعة أيام أخرى!؟

في هذه الفترة، أي في شباط 1979، وبعد خراب البصرة، فوتح الحزب بإعادة التحالف. كانت الخطوة مناورة بعثية تستهدف الحط من سمعة الحزب السياسية وتحويله الى حزب كارتوني أو حزب ضئيل الحجم والقوة والنفوذ . لذلك فإن الأعتقاد بإمكانية إعادة التحالف كان يعني القبول بالمصير المذكور. أما فكرة الإستفادة من عرض البعث لتخفيف الضغط علينا فقد رفضت بإعتبارها غطاء لتمريرسياسة إعادة التحالف . وإذا لم تكن كذلك وكانت مجرد مناورة فإن عمرها قصير، والرابح فيها، في المحصلة النهائية، السلطة البعثية، لإنعدام توازن القوى. كان رأيي هو أن نشترط ، أولا وقبل كل شيء، إلغاء التعهدات التي أجبر المواطنون على التوقيع عليها والغاء المادة 200 التى بموجبها سيعدمون، اذا ما عاودوا نشاطهم السياسي السابق. كان يُنظر الى هذا الشرط بإعتباره شرطا تعجيزيا، وكنت أعرف ذلك، ولكنه كان أيضا منطقيا، وإلا فكيف نعمل مع شخص مهدد بالإعدام؟! ويبدو لي بأن المتتبعين لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي لا يعرفون الكثير عما جرى في التاريخ المذكور، لذلك سأتوقف عنده.

في شباط المذكور ارسل صدام حسين بطلب الرفيق مكرم الطالباني العضو المرشح للجنة المركزية وأهم ما قاله له :

ـ ناقشنا في القيادة عودة التحالف مع الحزب الشيوعي وإن الرفاق في القيادة يعتقدون بعدم إمكانية تحقيق ذلك، وقد إختلفت معهم لأني أعتقد خلاف ذلك ... وطلب صدام عرض الموضوع على قيادة الحزب التي كانت في غالبيتها في الخارج

وعده مكرم بعرض الموضوع على قيادة الحزب. عقد إجتماعان للرفاق المركزيين في الداخل حضرهما كل من مكرم الطالباني وسلام الناصري وماجد عبد الرضا وعبد الرزاق الصافي وباقر إبراهيم وكان الأخير هو المسؤول الأول في الداخل، وأستثنيت لأسباب الصيانة !؟ ولأن مركز ثقل القيادة كان في الخارج، فقد تقرر إرسال عبد الرزاق الصافي الى الخارج لعرض الطلب على قيادة الحزب. وقد عاد الصافي بمذكرة تتضمن شروطا، كانت من وجهة نظر حزب البعث تعجيزية . فقد أجابوا تحريريا في آذار ما فحواه:

ـ إنكم تشترطون شروطا تعرفون حق المعرفة عدم إمكانية تحقيقها.

كنت آنئذ أداوم في مقر الجريدة وقد ناقشت الرفيق مكرم الذي كان متجاوبا مع عرض البعث ولاحظت بأن الرفيق لا يعرف أو لا يريد أن يعرف ما حل حقيقة بالحزب وخاصة منظمات الحزب التي تعرضت للتحطيم في طول البلاد وعرضها . و قد برر تجاوبه بوعود وأقوال صدام ليس إلا. ولكن شعرت بأنه لم يكن يرى بديلا مجديا آخرا آنئذ.

كنت أزاوج في تلك الفترة بين العمل في الخفاء والعلن , كانت فترة صعبة جدا بالنسبة لي شخصيا. فالقسم العلني هو مؤسسة إعلامية تعمل تحت بصر وسمع حزب البعث وجهاز أمنه، والقسم الآخر هو المركز القيادي الوحيد الباقي في الداخل . كنت حريصا جدا على أن لا أكون سببا في حصول كارثة. كنت أناور وأعاني كثيرا لكي أطمئن بأني غير متابع لكي أختفي . وفي هذه الفترة بالذات أصبت بداء الذبحة الصدرية، وكانت تلك مقدمة للجلطة القلبية التي أصبت بها وأنا في إيران بعد سبع سنوات.

رغم المدة القصيرة التي قضيتها في الجريدة، فهي لاتتجاوز الشهر، فقد علقت بذاكرتى بعض اللقطات وهي:

× ام سليم، ربة بيت، زوجة الرفيق كريم أحمد الداود عضو المكتب السياسي عمرها حوالي الخمسين عاما، متوسطة القامة، متينة البنية، بيضاء اللون. ما أن تبدأ بالكلام حتى يحمر وجهها. لديها خمسة أبناء ، بنتان وثلاثة أولاد، ثاني أولادها بوتان الذي إنتقل من المقر الى الجريدة معي . كما مر ذكره آنفا . ام سليم كانت الشخص الوحيد الذي يزورنا في المقر العام، عندما كنا " محاصرين " فيه لتطمئن على بوتان. وقد جلبت لنا في إحدى المرات ( دولمة ). طلبت منها عدم المجيء الى المقر حرصا على سلامتها وقد رفضت طلبي بحسم، تراجعت أمام رفضها، ولم أكن أتراجع أمام غيرها فتلك كانت مسؤوليتي وقراري . ولكن وجدت أن ليس من حقي منعها فهي أم.
جاءتني أم سليم ذات يوم الى الجريدة . جلست أمامي . كانت متوترة ومحمّرة الوجه سألتني بعصبية وبنبرة وكأن لديها دين بذمتي:

ـ إنت ليش متنطيني شغل ؟ آني شنو هيج كاعدة بالبيت كلشي ما أسوي؟

ـ أم سليم، شنو الشغلة اللي تكدرين إتسويها؟

ـ آني كلشي أكدر أسوي، آني ما أخاف، و بتوتر أعلى وبعصبية أشد. إنطيني رفاق وآني أوصلهم الى كوردستان .

أم سليم لم تعد تطيق توديع إبنها بوتان عند خروجه من البيت صباحا وبقاءها في البيت غير متأكدة من عودته. إنها تريد القيام بعمل ما يخدم قضية إبنها ولا يقل خطورة على حياتها من الخطورة التي يمكن أن تتعرض له حياته. تصورت وهي تتكلم، بأن هناك أم ترى إبنها محاطا بالنار فلا طاقة لها لمشاهدة المنظر بدون تقديم يد المساعدة، وحتى إذا تطلب منها ذلك أن تقتحم النار بنفسها.

ــ زين... كلش زين أم سليم، بس نحتاجج أخبرج .

صورة أم سليم وكلامها، بمصداقيتهما وعنفوانها ظلا عالقين في ذاكرتي كإحدى تجليات عاطفة الأمومة المقدسة.

لم أكن أشك بإمكانية ام سليم على إيصال رفاق الى كوردستان فهي لديها علاقات جيدة بالأحزاب الكوردية. ويمكن أن تستفيد من ذلك . وقد فاتحت ثلاثة رفاق، ثلاثتهم رفضوا السفر الى كوردستان مبدئيا، وقبل أن يعرفوا أية تفاصيل . وهم كل من سلام الناصري ومحمد كريم فتح الله وماجد عبد الرضا.

× ذات يوم وجدت أبو حمدان في مكاتب صحيفة " طريق الشعب " فوجئت بوجوده وإستفسرت منه:

ـ ها أبو حمدان شتسوي هنا؟

ـ أدقق بعض الأوراق.

ـ مو كتلك لا تتصل بأحد؟

ـ مو أبو مخلص كلفني!

ـ ارجوك هسه تطلع، وارجوك متقبل أي تكليف بالمستقبل من أي أحد . آني راح اوضح الموضوع للرفيق أبو مخلص.

ـ كيفك رفيق! قال ذلك وخرج.

عرفت من أبو مخلص بأنه فهم من حديثي له حول لقائي بأبي حمدان ( الذي ذكرته في الحلقة السابقة ) بأني أريد إخباره بأن الرجل مزكى، فإستند على ذلك لتكليفه بمهمة تقع ضمن إختصاصاته، في أجواء العفو العام.

× في مقر الجريدة بالتأكيد، ولكن قبل أم بعد العفو العام، هذا ما لا أتذكره، لاحظت أحد الرفاق من كوادر الحزب يروي لعدد من الرفاق المسؤولين في أحد مكاتب الجريدة حكاية والآخرون يصغون له بأهتمام. شاهدت ذلك وأنا مارا من امام باب المكتب المذكور، فسلمت عليهم. وكان المفترض في هذه الحالة أن يدعوني الراوي للجلوس لسماع الحكاية ، الا إن شيئا من هذا القبيل لم يحصل. فتوجست خيفة . عندما خرج الرفاق عرفت بأن الكادر المذكور كان قد أستدعي للأمن العام. ولأن من واجبي أن اعرف مواقف الرفاق، دخلت على الرفيق وقلت له: ( فداك من راعك) . فروى لي قصة إستدعائه من قبل الجلادين في الأمن ... وكيف إنه قال لهم:

ـ آني رجل علم وهاي ركبتي مثل الشعرة كدامكم إذا جنت أكذب عليكم . فحنى كتفه ومد عنقه الى الأمام ممثلا الحركة التي قام بها في الأمن.

وإنهم طلبوا منه أن يكتب لهم بحوثا في مجال إختصاصه يحتاجونها . فوقع لهم تعهدا بذلك . بعد أن أنهى كلامه قلت له:

ـ رفيقي العزيز أبو ... كيف تبيح لنفسك وأنت رجل علم ورفيق متقدم في الحزب الشيوعي العراقي ولديك تجربة كبيرة في المعتقلات والسجون أن تتحدث بهذا الأسلوب أمام الجلادين؟ لماذا تحني رقبتك أمامهم ؟ من الذي قال لك بأننا يجب أن نقول الصدق أمام هؤلاء؟ وكيف توقع تعهدا للأمن بمساعدتهم حتى ولو كان ذلك في إختصاصك؟

ـ ولكن ألم يلق الرفيق د. كاظم حبيب محاضرات في الأمن في ميدان إختصاصه؟

ـ صحيح، لقد جرى ذلك، ولكن بموافقة المكتب السياسي ، وفي ظروف أخرى غير الظروف االحالية، التي حطموا لنا فيها جميع تنظيمات الحزب. وتعهدك سيكون الخطوة الأولى ، ولن يتركوك وفي آخر المطاف سيطلبون منك تنفيذ كل ما يرغبون.

ـ وما العمل؟

ـ تكدر تسافر للخارج؟

ـ لو أريد أسافر باجر أكدر أسافر .. عندي قريب بالكويت أكدر أكلفه يسوي لي دعوة .. وفورا راح يسويها.

ـ سافر بأسرع وقت. والأفضل تسافر وعائلتك وياك حتى لتتعرض للمضايقات من بعدك.

كان الرفيق حريصا أن لا ينزلق المنزلق الذي حذرته منه، فضحى بالكثير من الإمتيازات وسافر هو وعائلته وإبتعد عن العسف. كان لقمة أخرى دسمة يخطط الجلادون لإبتلاعها وساهمت بإحباط مخططهم.


يتبع


68
ذكريات
القمع الوحشي
 ( 2 )
جاسم الحلوائي   
jasem8@maktoob.com

ربطت بي بضعة خطوط تنظيمية وبعض الكوادر شبه المكشوفة عزلت من تنظيمات بغداد كنت أتابعها خارج المقر. وإرتبط بي محسن عليوي ( أبو عليوي) عضو لجنة المنطقة الوسطى وكانت ترتبط  به جمهرة من الكوادر والرفاق من البصرة والناصرية وديالى . وإرتبط بي كذلك الرفيق إدريس عبد الله ، العضو المرشح للجنة المنطقة الجنوبية ، وكان معه جمهرة من الكوادر والأعضاء وكان الجميع يدبرون أمر سكناهم بأنفسهم.

كانت عناوين الخارج محصورة عندي عندما كنا في المقر العام وكنت أزود المهاجرين برسالة لتلك العناوين ومن خلال ذلك تعرفت على إمكانية تهريب بعض المناضلين الي الكويت . وكنت أستخدمه للضرورات.

في تشرين الثاني 1978 ، أي في ذروة الحملة الوحشية  كان لدى الرفيق مهدي الحافظ  موعدا مع نعيم حداد. التقيته، قادما من اللقاء، في حديقة المقر. وقد أخبرني بأنه كان بصدد تقديم مناشدة لقيادة البعث لإيقاف الحملة ، الا إن نعيم أخبره أن لا فائدة من ذلك فكل شيء منتهي ومقرر . أي لا تراجع عن تصفية الحزب. منذ ذلك التاريخ إستحكمت هذه الحقيقة في تصرفاتي . فكنت مع خروج من يريد السفر خارج البلاد أو من هو غير ملائم لسبب من الأسباب للعمل السري ، ومع بقاء الرفاق المتحمسين للبقاء والملائمين للعمل السري بهدف تأسيس منظمات وبيوت سرية . وكانت هناك شكوى من الهجرة الجماعية ومحاولة إيقافها أو الحد منها ولكن دون جدوى ، لعدم توفر ما يسند تلك المحاولات. ولم يكن هناك خلاف على إخراج أكبر عدد من الصحفيين والأدباء والفنانين والكوادر العلمية، خاصة وإنهم لا يحتاجون الى مساعدة في سفرهم ، وبإمكان العديد منهم تدبير أموره المعاشية في الخارج.

في تلك الفترة الزمنية نهاية 1978، كانت إحدى الخطوط التى تتصل بي يقودها الرفيق الدكتور أبو نوال خبير بيئي وموظف في الدولة ومعه مجموعة بينهم كوادر علمية وفنانين على إتصال فردي معه . عرفت إن  بإمكانه السفر موفدا بمهمة خارج البلاد . طلبت منه أن يسافر ولا يعود إن أمكنه ذلك ، سألني:

ـ وجماعتي إشلون، بيمن يرتبطون ؟

ـ إتركهم وأطلب منهم ما يتصلون بأحد . إندهش الرفيق من كلامي وإستفسر:

ـ زين وإذا تأخرت شنو مصيرهم؟

ـ شوف رفيق أبو نوال إذا توقفت الحملة ترجع وتتصل بيهم ، وإذا ما توقفت لابد وانهم سيتعرضون للإعتقال. فالأفضل أن نجنبهم هذا المصير، وبإمكانهم أن يتابعوا بهذا الشكل أو ذاك أخبار الحزب. وإذا أعيد بناء التنظيمات فسيجدون طريقهم اليها. لم يقتنع الرفيق تماما ولكنه نفذ التوجيه. التقيته بعد حوالي تسع سنوات في صوفيا، أخبرني بأنه على صلة بجماعته ويتراسل معهم. وثمن عاليا الإجراء الذي إتفقنا عليه والذي كان خرقا لتقاليد العمل الحزبى في كل الظروف والأحوال، الا في تلك  الظروف الشاذة بالذات! وقد سلمهم في بداية التسعينيات الى قيادة الحزب..
 
في تلك الفنرة أعتقل المحامي حسيب الساقي (أبو حمدان)، الذي كان يتابع الأمورالتي تتطلب مراجعة الدوائر الرسمية والسفارات ...  وأجبره المجرمون على إعطاء تعهد. ذات ليلة ، كنت جالسا مع عائلتي، كالعادة، في صالون البيت، سمعت نقرات خفيفة على زجاج النافذة ، فإستدرت ، وإذا بي أشاهد الرفيق أبو حمدان. إستقبلته ﺒ (فداك من راعك ) وإختليت به في غرفة الضيوف. إعتذرالرفيق لعدم تحمله التعذيب وأكد بأن التعذيب لا يمكن أن يغير أفكاره ومعتقداته الفلسفية والسياسية ، وكانت عيون الرجل مغرورقة بالدموع . كان أبو حمدان متوسط القامة ضئيل الحجم ، عمره يناهز الخمسين عاما. كان ينجز أعماله المتنوعة بدقة وهدوء وبدون أي تبجح . دمث الأخلاق ، نزيه ، الجميع يحترمونه . تأثرت بموقفه . كان بودي أن أقول له إننا لا زلنا نعتبرك عضوا في الحزب ولكن لم يكن من الصحيح قول ذلك ، لأننا كنا نعتبر من يعطي تعهدا مستقيلا من الحزب . فقلت له: " أبو حمدان نحن نعتبرك على ملاكنا ، وبأمكانك أن تتصرف من هذا المنطلق ، ولكن بشكل ملائم وبدون أن تعرض نفسك الى أية مضايقة . وأرجو أن لاتتصل بأحد . وشاع تطبيق عبارة "نعتبرك على ملاكنا" آنئذ على الحالات المماثلة.

سبق وأن جاءنا الفقيد معن جواد ، عضو منطقة الفرات الأوسط  وممثلنا في لجنة الجبهة في محافظة بابل، الى المقر العام ، وأخبرني بأن مدير الأمن في المحافظة والذي هو في نفس الوقت ممثل البعث في لجنة الجبهة ، طلب منه التعاون معهم ، كمندس في حزبنا (خط مايل)، وفي هذه الحالة سيحافظ على وضعه الوظيفي ولا يمسه أحد بسوء، أو أن يوقع التعهد سيء الصيت . لقد طلبنا منه ترك المحافظة والإختفاء في بغداد . عاد في كانون الثاني 1979، ليخبرني بأنه القي القبض عليه ، فعصبوا عينيه ووضعوه في شِوال (كونية) وأخذوه الى مكان يجهله. وعندما أزالو العصابة من على عينيه وجد نفسه وجها لوجه أمام "زميله" عضو لجنة الجبهة مدير أمن محافظة بابل نفسه . فوضع الأخير الخيار السابق أمامه وطلب منه الإختيار فورا وسوف لن يعطيه فرصة أخرى للهرب . فطلب الرفيق معن منه مهلة لثلاثة أيام للتفكير بالأمر، ومنح ذلك بشرط أن لايخرج من البيت. ويكون بيته في المحاويل تحت المراقبة . فإستغفلهم وتسلل من البيت في جنح الظلام وجاء وعرض الأمر علي . فسالته:

ـ هل أنت مستعد للسفر غدا؟ إندهش وأجاب:

ـ طبعا ...  طبعا .

ـ السفرة بيه مشي هوايه ، بيك حيل؟

ـ ولا يهمك شكد ماجان بس أخلص من هالورطة.

اخبرته بأن السفرة الي الكويت و لدينا هناك محطة تساعده للإنتقال الى بلد آخر.  ولا يمكن أن يحمل معه أكثر من كيس نايلون لقليل من الملابس الداخلية و...الخ

ألحقته بوجبة كانت مهيأة للسفر. وقد وصل معن سالما الى الكويت ومنها الى لبنان. لم أعرف بأن عملي ذاك كان بمثابة ضربة موجعة للبعث ، لإخراجي لقمة دسمة من فمهم كانوا بصدد بلعها . حسب تصوراتهم الشريرة ، إلا بعد أن إطلعت في الشام عام 1980 على كتيب صادر من أجهزة البعث الأمنية يشير الى تهريبي معن جواد ، ويتهجم علي تهجما عنيفا ويلفق تهما دنيئة ضدي لاتليق إلا بكاتب الكتاب وحزبه ، حزب البعث الساقط . وعندما لاحظ الرفيق باقر إبراهيم إنزعاجي الشديد من ذلك ، لفت إنتباهي الى إن الهدف من كتابة مثل هذه التلفيقات هو تحديدا لإضعاف معنويات المناضلين، ولم يفتني ذلك ،  ولكني تأثرت مؤقتا، لأنني أعرف، كأي مناضل واعي ، بأنهم يستهدفون إضعاف معنوياتي بتلك التهم الدنيئة ، لذلك دست عليها بحذائي وواصلت المسير بمعنويات أعلى. 

عندما بقيت وحدي ، كرفيق مركزي في المقر  بقي الرفيق أبو زكي  معي وكانت إحدى المهمات الملقاة على عاتقنا هي إخراج بقايا إرشيف الحزب من المقر وإرساله الى خارج البلد . وقد تمكن أبو زكي إنجاز هذه المهمة بنجاح رغم الظروف الصعبة التي كانت تحيط  بالمقر . كان عليه أن يخرج المواد من المقر الخاضع للرقابة ويسلمها الى موظف يعمل في السفارة البلغارية . وبعد أن أنهى مهمته توادعنا وسافر ليلتحق بعائلته ويواصل دراسته . لقد كان أبو زكي باسلا كما هي عادته وخاصة في المحن والظروف الصعبة.

فى بداية شباط  كنت خارجا من المقر متجها الى البيت بسيارة المقر ، وكان يسوقها الرفيق عقيل الذي لاحظ سيارة أمن تتابعنا . طلبت منه مراوغتها والتخلص من متابعتها، قبل إيصالي الى البيت، و ضيعناها فعلا . ولكن بعد أن ترجلت وإنطلق عقيل وسار مسافة لابأس بها تمكنت سيارة الأمن من العثور عليه ، وضاعت علينا أخباره وأخبار سيارة المقر أيضا! على أثر هذا الحادث قررت الإقامة في المقر لبضعة أيام لإنجاز بعض الأعمال قبل نقل مكان عملي الى مقر صحيفة "طريق الشعب" أبقيت في المقر الرفيق أبوسمرة (إستشهد في كردستان) ومعه رفيق آخر. وطلبت من الرفيق بوتان كريم أحمد ( إستشهد في كردستان أيضا ) للإنتقال معي الى مقر الجريدة.

أبواب المقر في أيامه الأخيرة كانت مغلقة ، وكان الرفيق الوحيد الذي يخرج لشراء بعض الحاجيات هو أبو سمرة الذي أبدى إستعداده للبقاء كآخر رفيق في المقر ، وكان له ذلك . كان محبوبا من قبل الجميع  ينجز مهامه بهدوء . لقد كان أبو سمرة رفيقا باسلا بكل معنى الكلمة . بقي على إتصال بي في الجريدة لبضعة أيام لحين إستلام السلطات الأسلحة النارية الخفيفة المعارة لنا لحراسة المقر، وبحضور الرفيق عبد الرزاق الصافي . وأغلق أبو سمرة المقر وسافر مع رفيق له الى كردستان.

بوتان كريم أحمد إلتحق للعمل في المقر في الظروف الصعبة . وبالإرتباط مع خطة سحب العاملين المجربين في جهاز المقر للطباعة الى الإختفاء ، تعلم بوتان الضرب على آلة الطابعة وكذلك إستخدام الرونيو وبسرعة. وصمم على البقاء معنا الى آخر أيام المقر . ولم يكتف بذلك ، بل وأبدى إستعداده للإنتقال معي الى الجريدة لمساعدتي في أمور الطباعة ، وكان له ذلك . كان بوتان شجاعا ، و جديا ، يعمل بدون كلل وبلا ضجيج ، ودقيق في عمله. وقد بقي معي في الجريدة الى أن أوعزت له بالسفر الى كردستان.
 
لم ينقطع الرفيق الصافي عن المقر فقد كان يزورنا بوتيرة متقاربة . وذات يوم في بداية شباط خرجت معه الى مقر الجريدة وبعد الدوام أوصلتني سيارة الجريدة للبيت.

بعد خروجي من المقر أصبح دوامي في الجريدة . كنت مرجعا للشؤون التنظيمية وعضوا في هيئة تحرير الجريدة أساهم في مناقشة المقالات السياسية الهامة وأطلع على المقالات الإفتتاحية ، وقد شاركت الصافي مكتبه.

كانت لدي توصية حزبية منذ ان كنت في المقر بأن أختفي ، مجرد شعوري بخطورة مباشرة . وذات يوم ذهبنا ، ماجد عبد الرضا والصافي وأنا ، لحضور تعزية . بعد خروجنا تابعتنا سيارة أمن حتى وصولي الى البيت . في اليوم التالي قرأت في نشرة محدودة التوزيع ( توزع على الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة) خبرا يفيد بأن جاسم الحلوائي نشر مقالا في جريدة "الإتحاد" الإسرائيلية حول المسألة الزراعية والحركة الفلاحية . وحقيقة الأمر ، هو إن مجلة الحركة الشيوعية العالمية " قضايا السلم والإشتراكية" قد نشرت لي المقال المذكور ونشرته جريدة " الإتحاد " لسان حال الحزب الشيوعي الإسرائيلي ، دون الإشارة الى المصدر!! إعتبرت نشرالخبر إنذارا فقررت الإختفاء ، تحوطا.

يتبع[/b][/size][/font]

69
ذكريات
الدراسة الحزبية في الخارج
(4ــ 5)
جاسم الحلوائي                                     
jasem8@maktoob.com

لم يتأخر الأستاذ. وقد جلس متضائلا أمام الصف وإعترف بأنه إرتكب بحقنا أخطاء كبيرة  وخاصة تجاه أبو شروق  ( كان الأساتذة الذين يتكلمون اللغة العربية وكذلك المترجمون ينادونني بكنيتي) وأضاف:

ـ إن أبا شروق أحسن مني في كل شيء ما عدا إنني أعرف الأقتصاد السياسي أحسن منه.

وإعتذر وطلب الصفح عنه متعهدا بعدم تكرار مثل هذه الأخطاء. عندما كان يشيد بي خطر ببالي بإن الأستاذ لا بد أنه قد سمع بالمثل القائل" شيّم المعيدي وأخذ عباته" عندما أنهى كلامه توجه نظره وكذلك أنظار جميع الرفاق في الصف نحوي. فقلت: 

ـ يسرنا إنك أدركت أخطاءك وسنرى الأمور في التطبيق العملي.

إندهش الرفاق في الصف لموقفي لأنهم توقعوا أن أصفح عنه. وشرحت لهم دوافعي وهي أولا: ليبق رهين تعهداته وذلك أكبر ضمان لمواصلته معنا بدون مشاكل، فهو أستاذ إقتصاد سياسي جيد.  وثانيا: لكي لايعتبرنا "معدان". أما ذيول القضية ، فقد أنهى الأستاذ معنا البرنامج بدون مشكلة ، واتسمت علاقته معنا بالإحترام المتبادل.
أما مترجم صفنا فلم يغفر لي تجاوزه عند الذهاب الى المدير وظلت علاقتنا باردة. كان هناك أيضاً أستاذ أخر للإقتصاد السياسي إسمه ببوف وهو صديق العراقيين، لأنه درّس بعض قادة حزبنا، لكنه قاطعني ولم يكن يسلم علي. وعندما إنتهت الدراسة . وكنت على وشك العودة ، أمسك ببوف بمعصمي وسحبني الى إحدى زوايا مقهى المعهد وقال لي:

ـ هل تعرف لماذا قاطعتك؟

ـ أجل بسبب الإستاذ دانتسوف؟

ـ صحيح، إنه تلميذي وأنا علمته الحزم وقد تأسفت لأنك إعترضت على ذلك.

ـ أنا لم أعترض على حزمه، وهذا الجانب يعجبني فيه ، ولكن إعتراضي على شيء آخر. وشرحت له تصرفات دانتسوف الخاطئة.

ـ  هذه أول مرة أسمع الامر هكذا !.

ـ طبعا ، لأنك سمعت دانتسوف ولم تسمعني . ( ثم أضفت )، إنت عالم وخبرتك غير قليلة في الحياة، ألم يكن الأجدر بك أن لاتكتفي بسماع طرف واحد وتصدر حكمك وتتخذ موقفا خاطئا مني وتقاطعني أكثر من سنة؟

خجل وقال لي:

ـ صحيح صحيح، الحق معك.

إفترقنا بشكل عادي، دون رغبة في الإطالة من قبل الطرفين.

ومن ذيول القضية ! في بدء السنة الدراسية الثانية إستفسر مني جيرنيكوف عن رأيي في الأستاذ دانتسوف فأجبته، وكنت قادرا على التفاهم باللغة الروسية آنئذ، بأنه جيد. فإستفسر مني ، هل من الممكن أن تُسمع رأيك هذا للمدير؟ فأجبته لم يحن وقت ذلك بعدُ!

يلتقي المدير عادة بكل صف عند إنتهاء مهمته ويسمع رأي الدارسين وملاحظاتهم. وعند إجتماع المدير بنا مدحت الأستاذ دانتسوف وأكدت بأنه إستفاد من التجربة ولم يكرر خطأه. علمت من الشهيدة عايدة ياسين إن المدير خرج من غرفته بعد لقائنا ليفتش عن الأستاذ دانتسوف، وعندما إلتقاه هنأه على التقييم الإيجابي الذي سمعه بإسم صفنا. وكنا قد سمعنا في حينه بأن الأستاذ كان مرشحا لمنصب معين وقد توقف ذلك جراء شكوانا منه. وقد إلتقى بي الأستاذ وشكرني على تقييمنا الإيجابي له.
وعند زيارة الأستاذ لبغداد بعد حوالي خمس سنوات لإلقاء محاضرة في إحدى المؤسسات الرسمية. رُتبت له دعوة عشاء مصغرة في بيت سهيلة البراك حضرها الرفيق عزيز محمد وحضرتها بناء على رغبة الأستاذ دانتسوف نفسه. وقضى جلّ الأمسية في التحدث معي وقد كان ذلك مؤشرا على تجاوزه لما حصل بيننا، وقد سرني ذلك.

وبمناسبة لقاءات المدير بالفرق الدراسية عند إنتهاء الدراسة، هناك نكتة شائعة في المدرسة يقولها فريق ما على فريق آخر لا يعجبه. يروى إن فريق X أخبر المدير بأنهم فهموا وإستوعبوا بشكل جيد مواد البرامج الأساسية الأربعة ما عدا بضع نقاط وهي: في الفلسفة لم يستوعبوا المفهوم المادي للتاريخ. وفي الإقتصاد السياسي لم يفهموا قانون فائض القيمة.
وفي تاريخ الحركة العمالية لم يفهموا رسالة الطبقة العاملة. اما في تاريخ الحزب الشيوعي فلم يفهموا علامات الوضع الثوري اللينينية. وأكد الفريق على إستيعابهم للماركسية ـ اللينينية بإستثناء النقاط الأربعة. فأجابهم المدير بأنهم لم يفهموا الماركسية ـ  اللينينية، ماداموا لم يفهموا المواضيع الأربعة التي سموها نقاطا.

في ربيع 1973 عقد الكونفرنس التقليدي السنوي في المعهد. وكان على كل فريق وطني المساهمة فيه بإختيار موضوع من قائمة عناوين طويلة لمداخلة لا تتجاوز15 دقيقة بضمنها الترجمة الفورية. كلفنا أكثر من رفيق ولكن الجميع إعتذروا وإعتبروا هذه المهمة، مهمتي بلا نقاش، لكوني عضوا في اللجنة المركزية. لم أكن أرغب بذلك لأني كنت مرهقا فبالإضافة الى الدراسة ومسؤولية المنظمة في المعهد كنت أشرف على لجنة الإتحاد السوفيتي ( الهيئة المسؤولة عن تنظيم الطلبة).
وكانت اللجنة تعاني من مشاكل صعبة وخاصة الخلاف بين سكرتير اللجنة الرفيق خليل الجزائري آنئذ وأبرز عضو فيها الرفيق عبد الأمير الموسوي. بحيث إقترحت في أحد إجتماعات اللجنة معاقبة الإثنين معا بسبب المشاكل التي يسببونها للمنظمة، ولكن اللجنة تفاجأت بالمقترح ، فالعادة أما التحيز الى هذا الجانب او ذاك وأما التوفيق بين الطرفين ولم ترتق اللجنة في نظري الى مستوى معالجة المشكلة وتغاضت عن المقترح. بالإضافة الى ذلك كنت على علاقة بمسؤول فريقنا في مدرسة الشبيبة.

نعود الى الكونفرنس. قرأت الدراسات والمواد المطروحة للمناقشة وكان من بينها دراسة بعنوان" آفاق رحبة للجبهات الوطنية في المشرق العربي" بقلم اوليانوفسكي. يتحدت الكاتب في إحدي فقراتها عن إمكانية إندماج الأحزاب الشيوعية بالأحزاب الديمقراطية الثورية ، كأفق منظور في البلدان التي تتعاون فيها هذه الأحزاب والمقصود العراق وسوريا . لقد إستفزتني الموضوعة وكتبت مداخلة تحت عنوان " تقوية وتعزيزالأحزاب الشيوعية في حركة التحرر الوطني واجب أممي.
" أشرت في المداخلة الى وجود نزعة في الحركة الشيوعية العالمية لاتري ضرورة لوجود أحزاب شيوعية قوية ومستقلة في البلدان النامية. وإن هذه النزعة تعول على الأحزاب الديمقراطية الثورية ( البرجوازية الصغيرة ) في إنجاز المهام الوطنية الديمقراطية والتحول الى الإشتراكية وإن الحديث عن إمكانية إندماج الأحزاب الشيوعية بالأحزاب الحاكمة هو بمثابة تصفية للأحزاب غير الحاكمة.
وإستشهدت بفقرة ضافية من دراسة اوليانوفسكي ، دون ذكر إسمه إنما قلت: "أحد الكتاب". ودعمت وجهة نظري بأقوال لينين حول ضرورة أن ينظم العمال أنفسهم في  بلدان حركة التحررالوطنية، مهما قل عددها في تنظيم سياسي مستقل. وإنتقدت جريدة البرافدا على نشرها خبرأ عندما حل الحزب الشيوعي المصري لنفسه وكذلك الحزب الرديف ( حدتو)    ، وإعتبرت ذلك دليلا على وجود تلك النزعة.
 
كنت أعرف بأن المداخلة سيكون لها وقع الحجر في بركة ماء راكدة. ولكن من أول لقاء مع الأستاذة سوخانوفا التي كانت تشرف على مداخلتي . أدركت إن الأمر أكبر مما تصورته. كانت الأستاذة تدرسنا تاريخ الحركة العمالية. وهي لاتعرف اللغة العربية وقد جاءتنا مؤقتا، اعجبنا أسلوبها فتمسكنا بها وإستجابت الإدارة لرغبتنا. كانت سوخانوفا شقراء، طويلة ورشيقة عمرها حوالي خمسة وخمسين عاما، وقورة جدا وذكية متمكنة من اللغة الأنكليزية.
اتذكر أعطتنا مرة صفحتين فقط من البيان الشيوعي وطلبت منا أن نجد العبارة الأكثر جوهرية فيها، فلم نفلح!؟ وظهر إن العبارة تتعلق برسالة الطبقة العاملة، وفحواها، إن الطبقة العاملة عندما تحررنفسها تحرر بقية الطبقات معها أي الفلاحين وسائر الكادحين، من الإستغلال. في حين ذهب تفكيرنا الى عبارة فحواها،عندما تتحول الطبقة العاملة من العمل بذاتها الى العمل لذاتها". أي التحول من النضال المطلبي الى النضال السياسي.

نعود الى الأستاذة، فقد عرفت منها بأنها تخلت عن عدد من المداخلات كان ينبغي أن تشرف عليها لكي تتفرغ لموضوعي. كنا ندقق كلمة بعد كلمة وجملة بعد جملة  ونحن نقارن الترجمة الروسية بمساعدة المترجم ولكثرة توترها ترددت في لحظة معينة فأخبرتها، إذا كانت المداخلة مضرة  أو تسبب مشكلة للحزب الشقيق فإني مستعد لسحبها، وكنت أثق بنزاهتها ومصداقيتها، فقالت لي : "لا، المشكلة ليست هنا إنما في مكان آخر ستعرفه لاحقا" !؟
 
واجهتني مشكلة ضيق الوقت المخصص لوقت المداخلة فتبين إذا وافق المستمعون على المواصلة فسأمنح خمس دقائق إضافية. كان العراقيون يشكلون ربع القاعة تقريبا فإتفقنا على الموضوع . وفعلا ، عندما أوقفت ولم أكن قد أكملت المداخلة ، طلبت أخذ رأي الجمهور، فوافق الجمهور! فأكملت قراءة المداخلة. وجاء سؤال عراقي مبيت لأكمل ما أنوي توضيحه. والغريب في الأمر إننا كنا نتفق على مثل هذا التحايل( إستغلال الثغرات في التعليمات ) دون ان يخطر ببال أحد منا، ولو للحظة ، مدى لا أخلاقيتها!؟

يتبع
[/b][/size][/font]


70
ذكريات
الدراسة الحزبية في الخارج
(3ــ 5)
جاسم الحلوائي                                     
jasem8@maktoob.com

في اليوم التالي لوصولي أرسل جيرنيكوف مدير معهد العلوم الإجتماعية ( معهد لينين) في طلبي وكان اللقاء دافئا جدا. طلب مني الإسراع بوصول فريقنا لأنهم بصدد تحديد موعد حفل الإفتتاح الرسمي قريبا. اخبرته بأن حوالي 45 رفيقا ينتظرون في دمشق لعدم وجود أماكن شاغرة على متن الطائرات القادمة الى موسكو، ورجوت مساعدته، فوعدني خيرا. وبالفعل بعد بضعة أيام وصل الجميع الى موسكو!

كان جيرنيكوف  شخصية قوية ومحترمة من الجميع ومتنفذة بحكم علاقته المباشرة بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي وتحديدا بالعضو المرشح للمكتب السياسي بنماريوف مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية. كان قد تجاوز الستين من عمره, شعره رمادي اللون، وجهه أحمر ومدور الشكل وبشوش، ويبدو ضخما نسبيا، كان يحترم حزبنا كثيرا لكفاحيته العالية وتضحياته الجسيمة. وقد حضر في إحدى مناسبات عيد ميلاد حزبنا رغم إنه كان نادر الحضور لمثل هذه الحفلات، رفع نخبا ... مضاعفا عمر الحزب  أمام ممثلي أكثر من إربعين حزبا شيوعيا، نافيا أن يكون كلامه مجاملة، وفسر قوله بان تجربة الحزب الشيوعي العراقي غنية , وتساوي ضعف عمره. كان يعقد لنا، نحن ممثلي الفرق في المعهد، إجتماعات دورية. لم يكن يتساهل في خرق المواعيد إطلاقا، وكان يعتبر من يتأخر عن موعد ما، بأنه لايحترم نفسه لأنه لايحترم الآخرين، فإحترام الآخرين ووقتهم هو إحترام للنفس ايضا. نقلت هذه المقولة لقيادة منظمتنا الطلابية في موسكو، وكنت مشرفا عليها،  إذ كانت تعتبرالتأخر نصف ساعة عن موعد ما أمرا طبيعيا في موسكو لتباعد المسافات ويسمون ذلك " هاي مواعيد موسكو".عالجت قيادة المنظمة هذه الظاهرة السلبية في نشرة داخلية ووضعت مقولة المديرعنوانا لها!

يعتبر معهد العلوم الإجتماعية إمتداد لجامعة كادحي الشرق التي درس فيها الرفيق فهد وقادة آخرون من حيث محتواه وأهدافه. وهو مخصص لتسليح كوادر الأحزاب الشيوعية بالنظرية الماركسية ـ اللينينية. ويفترض بالدارس فيه أن يكون قد أكمل الإعدادية. ومن حق قيادات الأحزاب عدم الإلتزام بالشرط  المذكور إذا ما قدرت بأن الرفيق آهل للدراسة. كان الفريق الذي أقوده يضم رفاقأ ذوي مستوى تعليم متفاوت جدا، فبينهم من أكمل أو لم يكمل السادس الإبتدائي، وبينهم خريجو الجامعة. وبنفس هذا التركيب كانت فرقنا دوما منذ 1964. وكان المعهد يمنح دبلوماً بعد التخرج لمن يشاء من خريجي الدورة الطويلة الأمد. وقد إستلمت في حينه دبلومات الرفاق وأطلعتهم عليها ومن ثم أتلفتها، لأنها من الممكن أن تتحول الى دليل جرمي ضدهم في بلدنا.!!

كان معدل الدارسين في المعهد حوالي 300 دارساً من 40 بلدا أو اكثر، وكانت غالبيتهم من البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهناك مجاميع أوروبية من البرتغال وأسبانيا واليونان وفنلندا، وأفراد من دول أخرى، في حين لم يكن هناك أحد من البلدان الرأسماليةالأكثر تطورا مثل: أمريكا وفرنسا وبريطانيا والمانيا الغربية وايطاليا!؟ كان جو المعهد أمميا وحميميا. وهناك حرية معينة في المناقشات داخل الصفوف. وليس هناك أي مظهر من مظاهر الثكنة العسكرية التي أشرت اليها في مدرسة صوفيا. ففي موسكو ليس هناك رقابة على التحضير الشخصي أو المبيت  خارج المعهد. ولكن أصطحاب أحد الى المعهد ممنوع , ودخول قادة الأحزاب يتم يعد موافقة إدارة المعهد مسبقا. وهذا مفهوم، فكثير من كوادر الأحزاب الشيوعية في المعهد تعمل تحت الأرض. ولكن هناك صرامة في تطبيق النظام، فمثلا لايسمح للدارس الدخول الى الصف لو وصل متأخرا، أي بعد المباشرة بالدراسة، وكان عليه أن يستحصل موافقة رئيس قسم التعليم لكي يدخل. وبإعتقادي أنه لولا تلك الصرامة , , لخربت عادات عالمنا الثالث المتخلفة , أسس الدراسة في المعهد.!!

كان في المعهد مطعم كبير , والأكل فيه ممتاز ومتنوع ورخيص. وكان راتب الدارس يغطي جميع مصروفاته ويزيد. كان القسم الداخلي مريحاً وهو مجاور للمعهد . هناك قاعة كبيرة تتسع لجميع الدارسين والعاملين في المعهد , وهي مجهزة تقنيا للترجمة المباشرة بعدد من اللغات. تعرض في القاعة الأفلام وتقام فيها الحفلات العامة. وتلقى فيها صباح كل يوم اثنين محاضرة من قبل أحد قادة الأحزاب الشيوعية أو دراسات جديدة ذات علاقة بإهتمامات المعهد تلقيها شخصيات  سياسية وعلمية من خارج المعهد.

تبدأ الدراسة في الصف بقراءة نشرة أخبار عالمية, ويخصص بعض الأساتذة وقتا محددا للتعليق عليها . وتكون لكل صف أو صفين متشابهين ,علاقة بمنظمة حزبية في أحد المصانع للتزود بالمعارف التطبيقية. كما يحضرالمستمعون بعض الاجتماعات الحزبية أو الإنتاجية . وتنظم سفرة للمعهد الى لينينكراد , وتتوج الدراسة بعد الإمتحانات برحلة لإحدى الجمهوريات السوفيتية. كما كان هناك استوديو للبث المباشرخلال فرصة الظهيرة وأتذكر بأني ألقيت من خلاله كلمة بمناسبة العيد التاسع والثلاثين لميلاد حزبنا.

كان فريقنا يتكون من 50 رفيقة و رفيقاً وشكلت للفريق هيئة قيادية كان في قوامها الرفاق عائدة ياسين وقادر رشيد وملا علي... وتوزع فريقنا على أربعة صفوف. كان معي في الصف أحد عشر رفيقا ومن بينهم الرفيقتين عائدة ياسين ولينا ( إسم مدرسي ) وهما الفتاتان الوحيدتان في الفريق العراقي كله ، ولأول مرة بعد إستئناف الإرسال الى المعهد في النصف الثاني من عام 1964. وسامي عبد الرزاق وآخرون أتذكرأسماءهم المدرسية وهم: سردار وسمير وصادق وعادل ورافد ومحجوب ومجيد ونبيل. كنا ندرس أربع ساعات قبل الغداء أحدى مواد البرنامج الذي مر ذكره آنفا. وبعد الغداء مباشرة، اي في وقت القيلولة، لدينا ساعتان للغة الروسية. وفي بعض الأيام هناك ساعتان اضافيتان ، وعادة ماتكون محاضرة عن حركات التحرر الوطني. كان معظمنا يغفو مرارا في هاتين الساعتين. وفي المساء كنا ننجز تمارين اللغة و نحضر لليوم التالي. كان الإسلوب المتبع في دراسة العديد من المواد هو الأسلوب النشط ، أي إن الدارسين هم الذين يحاضرون والمحاضر يكمل أو يصحح. كانت مارينا، الشابة الجميلة ، المتمكنة من اللغة العربية ، أستاذتنا في الفلسفة ومتخصصة بتاريخ الفلسفة ، وتحضّر أطروحة في هذا الميدان. وقد درستنا سنة كاملة تاريخ الفلسفة وبالإسلوب الكلاسيكي ، وبدون ملازم أو مصادر. وأكثر من مرة طالبنا بالإكتفاء بذلك والتحول الى المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، فكان جواب الأستاذة وكذلك المشرفين هو، تذكيرنا بمقولة إنجلس " إن دراسة تاريخ الفلسفة ينمي لدى المرء ملكة التأمل الفلسفي." وكان بعض الرفاق يعلقون على ذلك بالإشارة الى رفيق أسمر وسيم شعره مجعد ، بالقول بأنه الوحيد الذي إكتسب ملكة التأمل الفلسفي!! لأن الأستاذة مارينا كانت تمدحه على إستيعابه الجيد أمام المشرف، في حين كان الآخرون يعتقدون بان للمدح دوافع أخرى!!

كان أستاذنا في الإقتصاد السياسي دانتسوف شاب في الخامسة والثلاثين متوسط القامة قصير الشعر وجهه مثلث وصارم , وهناك إنتفاخ مبكر تحت جفنيه ويمشي منحنيا قليلا بحقيبته اليدوية. كان متمكنا من اللغة العربية ويعرف الإنكليزية، ومتفتحا فكريا. ومنه سمعت لأول مرة " إننا لم نر الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها الرأسمالية في تجديد نفسها ذاتيا " كان مثل هذا الكلام في بداية السبعينيات كلاما مثيرا، لأن الوثائق الرسمية للحركة الشيوعية كانت تتحدث عن الأزمة المستعصية وغير القابلة للحل التي يعاني منها النظام الرأسمالي العالمي! 

كان دانتسوف  يبالغ في حزمه الى حد التجاوز، فكان يؤنب المقصر تأنيبا لاذعا، وكنا نتحمل ذلك. وفي أحد الأيام اخطأ أحد الرفاق  في الإجابة على سؤال فمسك دانتسوف الرفيق من ظهره وظل يدفع به من بداية الصف الى نهايته حيث يجلس الرفيق. إستغربنا تصرفه وتمنينا أن لايتكرر.

كان وضعي كمسؤول فريق يتطلب أن أكون قدوة للآخرين في الدراسة، وهي مهمتنا الأساسية من وجودنا خارج الوطن. ولم أكن أقصر في ذلك. وفي أحد الأيام لم أتمكن أن أحضر جيدا للإقتصاد السياسي ، لسبب طاريء وخارج عن إرادتي . فجلست مبكرا وتمكنت أن أقرأ ثلاثة أسئلة من أربعة. سألني دانتسوف السؤال الرابع أجبته بناء على معلوماتي القديمة ولم يكن الجواب كاملا ، وإنطوى على خطأ ما ، فصحح الخطأ. بعد فترة أخذ يتحدث عن القيمة الإستعمالية للسلعة ، فقد كنا في بدايةالمنهج الدراسي، فقال: "هذا الكرسي الذي بيدي مثلا ، فيه قيم إستعمالية كثيرة . فإني أتمكن أن أجلس عليه، وأتمكن أن استخدمه كحطب للمدفأة، ومن ثم رفع الكرسي الى الأعلى وقال" اتمكن أن أهوى به على راس واحد لا يعرف إقتصاد سياسي" كان واضحا بأنه يقصدني أيضا.

قررت أن اتحرك لوضع حد لهذا الوضع الشاذ،  فإتصلت بالأستاذة الأقدم، مسؤولة صفنا اوليانوفا الحائزة على مدالية لينين. عندما عرفت بالوضع طلبت مني أن أخذ ساشا رئيس قسم المترجمين( وليس مترجمنا لأنه صديق دانتسوف) وأشتكي عليه عند جيرفينكوف، مساعد المدير لشؤون التعليم ومرجعي الإداري. وأشارت لي بأن دانتسوف مغرور, وذلك برفع أنفها بسبابتها الى الأعلى . لم أجد ساشا، وبالتالي لم أتمكن القيام بأي عمل في ذلك اليوم.

كان الرفيق عزيز محمد يرقد في المستشفى. إتصلت به تلفونيا وأخبرته بتفاصيل سلوك الأستاذ، وأخبرته بان مترجم صفنا صديقه. وجيرفينكوف صديقه أيضا. فطلب مني الرفيق عزيز أن أذهب الى مدير المدرسة وأشتكي عليه. لم أخذ مترجم صفنا آرتينوف، وأخذت المترجمة تمارا ( صديقة العراقيين) والتقيت بمرجعي جيرفينكوف، طلبت منه مواجهة مع المدير. عندما عرف السبب ألح علي أن أتحدث معه في الموضوع فرفضت. فما كان منه الا الإستجابة لطلبي . في طريقنا الى المدير قالت لي تمارا " زين سويت ما إتكلمت وياه لأن دانتسوف وجيرفينكوف... فد لباس".

قيمت إيجابا مستوى دانتسوف وطريقة تدريسه النشطة، في لقائي مع المدير، وإنتقدت أسلوب تعامله معنا وقلت له، فحوى ما أوصاني به الرفيق عزيز محمد.

ـ إنه يتعامل معنا وكأننا تلاميذ مدرسة في حين إننا كوادرحزبية وضعنا دمنا في راحة أيدينا ونناضل من أجل حرية وطننا وشعبنا ولرفع راية الشيوعية في بلدنا. وعرضت علي المدير تفاصيل تصرف الأستاذ وأضفت:

نحن موجودون في هذا المعهد للتعلم، ولوكنا نعرف ماندرسه  لما أتينا الى هنا، فلماذا يتعامل معنا بهذه الطريقة. كانت المترجمة تمارا تترجم بحماس أما جيرنيكوف فقد شحب وجهه. قال لي المدير ووجهه محمرا: 

ـ إسمع سامر ( إسمي في المعهد) إعطني مهلة شهر واحد إذا ما عجبك الأستاذ تعال الى هنا وإخبرني وسوف لن يبقى في المعهد!!

كنت أتوقع موقفا متعاطفا من المدير معنا، ولكن لم أتوقع أن يصبح مصير الأستاذ في المعهد متعلق بقرار منا. تمارا ركزت نظرها علي تريد رصد رد فعلي، ولم تتمكن أن تكتم الفرحة في عيونها. إهتز كياني فرحا لشعوري بإزالة ما لحقني ورفاقي من حيف. وقد حاولت أن أكتم ذلك بكل ما أوتيت من قوة لكي لا ابدو شامتا ولكي لا أجرح مشاعر جيرفينكوف، صديق دانتسوف، لأنني كنت معجبا به وبتعاونه وكانت علاقتنا دافئة. شكرت المدير على موقفه وودعته.

ذهبت الى الصف واخبرت الأستاذ بأن تأخري جري بمعرفة الرفيق جيرفينكوف. بعد فترة وجيزة جاء رسول على دانتسوف وسلمه رسالة فغادر دانتسوف الصف. أخبرت الصف بنتائج لقائي مع المدير وقد إندهشوا
للنتائج. وكنا ننتظر عودة الأستاذ بتلهف.
يتبع[/b][/size][/font]

71
ذكريات
الدراسة الحزبية في الخارج
(1ــ 5)
جاسم الحلوائي                                     
jasem8@maktoob.com
الإهتمام برفع مستوى الوعي السياسي والثقافي نهج بارز وثابت في نشاط الأحزاب الشيوعية والعمالية، كما هو الحال بالنسبة لجميع القوى التقدمية في العالم. وقد إقترن ذلك، في الدول الإشتراكية المبكرة ـ الشمولية، وإنطلاقا من مبدأ المساواة، بإزالة الأمية ونشر التعليم على مختلف المستويات وإعتباره إلزاميا للسنوات التسع الأولى منذ منتصف القرن الماضي . وهذا الإهتمام ظاهرة إيجابية بصرف النظر عما إعتراها من تحكم أيديولوجي وجمود عقائدي. وبإعتقادي أن ذلك المستوى من الوعي والثقافة لعب دورا هاما ، الى جانب عوامل هامة أخرى، في تحول أكثرية الأنظمة الشمولية الى أنظمة ديمقراطية بطريقة سلمية. وحيثما أستخدم العنف فقد كان ذلك محدودا. وإهتمام الحزب الشيوعي العراقي بارز في هذا الميدان. وقد وضعت تقاليد ذلك قيادة الرفيق فهد التي حولت السجن الى مدرسة للتثقيف. ورافق العملية ولازمها لاحقا ، حتى بداية التسعينات من القرن الماضي ، النواقص ذاتها التي شابتها في الحركة الشيوعية العالمية.

وتكتسب قضية رفع الوعي ونشرالثقافة العلميين في الوقت الحاضر أهمية إستثنائية وخطيرة لتتحول الى قضية وطنية ينبغي التصدي لها  من قبل جميع القوى الديمقراطية والتقدمية ، لأن قوى الإسلام السياسي، المهيمنة على الساحة السياسية ، تستهدف تجهيل الشعب ونشرالخرافات والخزعبلات وإستغلال مقدسات الناس البسطاء أبشع إستغلال بدفعها الى ممارسات متطرفة ، ففي ذلك مصدر حياة تلك القوى وديمومتها. فلا غرو أن لا نجد  كلمة تثقيف في مسودة الدستور التي كتبوها ، فهم يجدون في رفع الوعي والتثقيف عدوهم اللدود. ولكنهم يسبحون ضد التيار وضد قوانين الحياة. فالناس تبقى تحب الحياة وتحب أن تعيشها بأمان ورفاه وسعادة ، مهما دجّل الدجّالون ، الذين سينعزلون ، لا محال ، مع تطور الحياة الإقتصادية والإجتماعية ورفع الوعي ونشر الثقافة العلمية والإنسانية. 

في حياة الحزب اسلوبان للتثقيف أحدهما ذاتي والآخر جماعي . الذاتي هو قراءة الكتب ذاتيا ، تبادلها بين أفراد الخلية واصدقائها، وذكر ما أنجز في التقارير الشهرية التي يقدمها الرفيق  أو الخلية والهيئات الحزبية الأخرى. وإنشاء مكتبات صغيرة لدى وحدات تنظيمية معينة. وإتبعت بعض المنظمات المستقرة إسلوبا أرقى،  في هذا المجال ، وهوأن يقوم أحد أعضاء الهيئة دوريا بتقديم خلاصة للكتاب الذي قرأه مع إستفساراته أو آرائه وتناقش من قبل الهيئة. وكانت تنظم قائمة مركزية بالكتب التي ينبغي الإختيار منها للتثقيف.

أما التثقيف الجماعي ، فأشكاله متنوعة جدا، وحدها الأدنى هو تخصيص وقت محدد من إجتماع الخلية أو اللجنة للتثقيف ، أو تخصيص بعض إجتماعات الهيئات لهذا الغرض. تشكيل حلقات من هيئات مختلفة لمادة محددة. دورات تخصصية ، الدورا ت الصحفية مثلا. دورات التثقيف الطويلة الأمد في المحافظات وأعلى أشكال التثقيف الجماعي هو المدرسة الحزبية التي يتفرغ فيها الطالب لهذه المهمة على مدى أشهر معينة، ويكون لديها قسم داخلي. وكان للحزب مثل هذه المدرسة ثلاث مرات في تاريخه الأولى: في كردستان ـ  درﮔلة في الأعوام 1971 ـ 1973، وقد تطرقت لذلك في المسلسل المعنون " الإفلات من قبضة ناظم كزار". الثانية: أيضا في كردستان ـ  بشت آشان  مماثلة للأولى دامت حوالي عام وذلك من ربيع 1982 حتى ربيع 1983 تقريبا. وكان مديرها [ لفترة معينة]  د. كاظم حبيب. والثالثة في  بغداد  طوال النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.

الدراسة في المدرسة الحزبية في بغداد كانت منتظمة ، ومختلطة بطبيعة الحال، وكانت دوراتها تضم بإستمرار طلبة عرب من دول الخليج ومن الجنسين ، بما في ذلك من العربية السعودية،( ودورات التثقيف في البصرة ضمت ايضا خليجيين). وبالإضافة الى الكلاسيك الماركسي كانت تلقى في المدرسة محاضرات متنوعة في مختلف الميادين من قبل كوادر الحزب أو الرفاق المتخصصين. وأذكر أني القيت فيها محاضرة حول الحركة الفلاحية والمسألة الزراعية. تولى إدارة المدرسة في البدء الرفيق أحمد كريم ( نوري)  ومن ثم الرفيق خضير عباس السماوي. وكان المحاضرون فيها د.سعاد خيري ود. نمير العاني والرفيق بهاء الدين نوري  و الشهيد علي الحاج حسن والرفيق أحمد حبيب.
 
قبل ثورة 14 تموز لم يدرس في الخارج دراسة حزبية أو دراسة الماركسيةـ اللينينية  سوى الرفيق فهد. خلال الثورة كان الشهيد محمد صالح العبلي  يدرس في موسكو. وبعد الثورة بسنة واحدة وحتى إنهيارالإشتراكية المبكرة ـ الشمولية درس، في تقديري، أكثر من الفي كادر حزبي من كوادر الحزب الشيوعي العراقي . في هذه المدارس. وهي بالأساس مدرستين الأولى في موسكو ـ  معهد العلوم الإجتماعية، معهد لينين. والثانية في صوفيا ـ  المدرسة الحزبية العليا.  وقد درس البعض في الجمهوريات السوفيتية أو دول أخرى كالمانيا الشرقية ورومانيا وجيكوسلوفاكيا.
 كانت الدراسة في كلتا المدرستين ( موسكو وصوفيا ) في البدء ثلاث سنوات. سنة واحدة للغة وسنتان للمنهاج ، الذي كان عبارة عن: الإقتصاد السياسي والفلسفة المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية وتاريخ الحركة العمالية وتاريخ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي. ويضاف لها في صوفيا تاريخ الحزب الشيوعي البلغاري. بعد توفر المترجمين وكذلك أساتذة يجيدون اللغة العربية، الغيت سنة اللغة في موسكو وباتت  تدرس كمادة ثانوية وبساعات محددة. وأستحدثت دورة لمدة سنة واحدة تدرس نفس المنهاج بشكل مكثف. وساعات قليلة جدا للغة الروسية. وبدون البحث (حوالي عشرين صفحة) الذي يتفرغ لها الدارسون في الأشهر الستة الأخيرة في الدورة الطويلة. وقد أضيف الى المنهج الدراسي في موسكو مادة جديدة، شيقة ومفيدة ، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وهي علم النفس الإجتماعي. وكانت هناك دورات طوعية مختلفة قصيرة الأمد مثل الصحافة والتصوير و،،، الخ وقد دخلت الدورتين المذكورتين عند دراستي في موسكو.

درست في الخارج مرتين، في المرة الأولى في صوفيا ولم أكملها، والثانية في موسكو أكملتها تقريبا ؟! وسفرتي الأولى للدراسة، وهي الأولى في حياتي خارج الوطن، كانت دراماتيكية لذلك بقيت عالقة في ذاكرتي.

في نهاية  1962، بلغت بقرار سفري للدراسة في الخارج لمدة ثلاث سنوات في بلغاريا. لقد فوجئت بالقرار لأني لم أكن قد سمعت بالدراسة الحزبية في الخارج أصلا. كنت محكوما غيابيا لمدة ثلاث سنوات. و حصلت على جواز سفربمساعدة أحد المحامين وكان بمعيتي الرفيق اكرم حسين دفعنا للمحامي مبلغ 30 دينارا بعد إجراء تغيير في لقبي في الوثيقة الوحيدة التي كانت مطلوبة وهي دفتر الخدمة العسكرية. كان هذا المحامي يستحصل توقيع نائب مدير التحقيقات الجنائية على القوائم بمبلغ مقطوع عن كل جواز!

منحت مبلغا من المال من قبل الحزب لشراء بعض الملابس ولتغطية أجور سفري الى صوفيا عبر بيروت. فقد كان السفر من العراق الى البلدان الإشتركية بدون وثائق تبرر القصد من السفر أمرا متعذرا، وكانت الدراسة الحزبية سرية للغاية.  زودني مسؤولي الحزبي الرفيق باقر إبراهيم، والذي لم يكن قد سافر الى خارج العراق ولا مرة واحدة بعدُ، برسالة وقال لي:

ـ هذه الرسالة امانة الحزب عندك، إتضمها أوما تطلعها إلا من توصل صوفيا وتسلمها للرفاق البلغار.

عمل لي أخي حميد حفلة توديع متواضعة عشية السفر ورافقني في اليوم التالي الى المطار، لأطير، لأول مرة في حياتي بالطائرة ، الى بيروت. إندهشت لجمال بيروت ، وإستغربت الإنحناءات في شوارعها قبل أن استوعب ما تضفيه تلك الإنحناءات من جمال على بنية المدينة.

في مكتب الطيران في بيروت طلب مني الموظف فيزا، لم أسمع بهذه الكلمة من قبل، وعندما عرفت بأنها تأشيرة سماح ينبغي الحصول عليها من سفارة الدولة المقصودة، لدخول حاملها الى البلد؛ اخبرته لاتوجد عندي مشكلة في دخول البلد ، لدي أخ يدرس هناك ووعدني بأنه سيتدبر الأمر عند وصولي مطار صوفيا. حصلت على تذكرة سفر جراء إلحاحي ، على أول طاْئرة، وشكك الموظف بالسماح لي بالخروج من المطار، ووعدني بإستعادة التذكرة بدون خصم في حالة عدم سفري.

وفعلا، لم يسمحوا لي في مطار بيروت بالطيران. ولعدم وجود سفارة  بلغارية في لبنان إقترح مكتب الطيران إرسال جوازي الى دمشق للحصول على فيزا بعد الحصول على  حجز لمدة ثلاثة أيام في فندق بلكان ـ خمس نجوم في صوفيا! تريثت في الأمر وذهبت الى مكتب صحيفة " النداء " لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني. أرشدوني في المكتب الى الملحقية التجارية البلغارية في بيروت. إلتقيت بالملحق التجاري البلغاري وكشفت له هويتي ومهمتي في بلغاريا و أخبرته بأني إحمل رسالة الى حزبهم من قيادة حزبنا وبإمكانه الإطلاع عليها، ومددت يدي الى جيبي لأخرجها فرفض الإطلاع عليها رفضا قاطعا. وأرشدني الى نفس مكتب الطيران ، الذي تعاملت معه، لمساعدتي !

أخبرني مكتب الطيران بأن إرسال الجواز الى دمشق لإنجاز المعاملة يستغرق ثلاثة أيام وهناك طائرة بعد يومين من عودة الجواز واخذ مني مبلغا محترما لإنجاز المعاملة. رصيدي من النقود لم يعد يكفيني إلا لثمن التذكرة، بعت بعض ملابسي الجديدة ، بعد أن قلبتها مرارا بين يدي ، فقد كنت أحلم بالوصول الى بلغاريا لأرتديها. بعت بنطرون سرج وبلوز وشال وإنتقلت الى أرخص فندق في مركز المدينة . وأخذت أستغني عن وجبة العشاء!
هطلت أمطار غزيرة منذ أن وصل جوازي الى دمشق ، وكنا في نهاية كانون الأول ، فإنقطع الطريق بين دمشق وبيروت ، ولم يعد الجواز إلا بعد خمسة أيام ، أي بعد مغادرة الطائرة التي حجزت عليها! حمّلت مكتب السفريات مسؤولية تأخري. أخبرتهم بأن ثمن التذكرة قد تآكل. كان موظف المكتب طيبا ويرغب بمساعدتي. إقترح علي السفر بعد بضعة أيام  من بيروت الى إسطنبول بالطائرة ومنها، بعد ثلاثة أيام ، الى صوفيا بالباخرة بسعر ملائم جدا، وافقت على الفور. بعت القفازات الجلدية و ثاني بنطرون جديد، وأشتريت بعض الليرات التركية ، وسافرت الى إسطنبول. عند وصولي الى إسطنبول لم أجد حقيبتي مع حقائب المسافرين. بعد التحري ظهر بأنها ذهبت الى القدس! وأخبروني بأنها ستعاد الى إسطنبول وأستلمها بعد يومين ولم أستلمها الا قبل ساعتين من موعد توجهي للميناء!
 تحركت الباخرة في الموعد المحدد. بين خليط  من الأجناس على متن الباخرة كان هناك مجموعة من الطلبة العراقيين العائدين الى موسكو عبر فارنا، بعد قضاء العطلة الشتوية في العراق. تعرفت على احدهم وكان شيوعيا وأبدى إستعداده لمساعدتي بالترجمة عند وصولنا. كنت العب الشطرنج مع رجل يوغسلافي عندما أصبت بدوار البحر. أعطوني حبة تناولتها ونمت، ولم أفق إلا بعد وصولنا ميناء فارنا.
قدمت جوازي لضباط الجوازات، وكانوا مجموعة جالسين على شكل نصف دائرة في قاعة على ظهر الباخرة، وقدمت لهم رسالة قيادة الحزب الموجهة الى حزبهم. وشرحت لهم عبر المترجم العراقي بإختصار، أسباب وصولي الى الميناء وليس الي المطار. كنت أظن بأنهم ما أن يقراوا رسالة قيادة الحزب سينجلي لهم الوضع ويرحبون بي، وإذا بي أجدهم في حيرة من أمرهم يقلبون الجواز والرسالة في أيديهم. إستفسرت عن أسباب حيرتهم  ، أليس كل شيء واضح في الرسالة ؟ أجابوا مستفسرين: أية رسالة؟ أشرت الى الرسالة التى سلمني إياها مسؤولي وقال لي:
ـ هذه أمانة الحزب ما إتسلمها إلا للرفاق البلغار من توصل.
نظر الضباط  جميعهم دفعة واحدة الي عندما قال لي كبيرهم: " هذه فيزا وليست رسالة... فيزا منفصلة " !؟ لم تعد قدماي تحملني وجدت كرسيا فارغا وجلست عليه ورميت رأسي بين كفي وتساءلت مع نفسي أحقا كان من الممكن تجاوز كل هذه المتاعب لو كان قد قيل لي:
ـ هذه فيزا بلغارية إخفيها في بغداد وإبرزها في مطار بيروت. ؟!
 بعد فترة ليست بالقصيرة أخبروني بأن صوفيا أعلمتهم بأن هناك شخص بنفس الإسم كان يجب أن يصل قبل حوالي عشرين يوما الى مطار صوفيا وليس الى ميناء فارنا. وتركوني على ظهر الباخرة. قال لي المترجم:
ـ لا تستبعد بإن البلغار قد يشكون في أمرك. قد يذهب تفكيرهم الى أن  إحدى مخابرات دولة عدوة قد إختطفتك وإستبدلتك بآخر وأنت الشبيه المدرب...!
ــ معقولة؟!
ــ ليش ما معقولة... ماسامع بالستار الحديدي
ـ طيب، إذا إنطلت مثل هذه الحيلة عليهم فكيف تنطلي على الرفاق العراقيين، فبإمكان البلغار التأكد من ذلك بسهولة عن طريقهم.
ــ طبعا طبعا...
يتبع[/b][/size][/font]

72
ذكريات 
الإفلات من قبضة المجرم ناظم كزار
( 2ــ 2 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
وبالرغم من عدم توقف الإرهاب ، وصعوبات ظروف العمل السري القاسية التي كان يعمل فيها الحزب، فقد عقد مؤتمره الثاني في إيلول 1970، في سفح جبل كاروخ في منطقة بالك في كردستان العراق * . وكان مجرد عقده تحديا كبيرا للسلطة وإنجازا كبيرا للحزب. أما وجهته السياسية والفكرية، وعلى الصعيدين التكتيكي والستراتيجي ، فلم ترق للحزب الحاكم ، فقد رأى فيهما تحديا خطيرا على وجوده ومستقبله!؟. وقد إنعكس ذلك في حملة إرهابية شرسة إستهدفت تحطيم منظمات الحزب. وقد بدأت بمنظمات الحزب في الجنوب في الربع الأخيرمن عام 1970، وإستمرت حتى صيف السنة التالية، وشملت معظم منظمات الحزب.
وقد كتبت صحيفة " طريق الشعب" في عددها الصادر في شباط 1971 ما يلي: " لقد إختار حزب البعث عمليا نهج الإرهاب الذي سلكه عام 1963 مع تعديلات شكلية في الوتائر والأساليب. فلقد أعيد بقصد مفهوم، فتح " قصر النهاية " الرهيب ليبقى رمز العلاقة بين الحكم والمعارضة الوطنية ، كما إستمر التمسك بذات الأساليب المنكورة في إعتقال المواطنين وتعذيبهم وقتلهم وتشويههم سياسيا أو إغتيالهم."

بالإرتباط مع إنتهاء الهدنة مع حزب البعث و بوادر الحملة الإرهابية ضد الحزب، قررت تغيير محل إقامتي وذلك للتخلص من حالة الإسترخاء إستعدادا لما هو آت . فقد كان بيتي في منطقة بغداد الجديدة معروفا لعدد غير قليل من الرفاق والأقرباء؛ فإنتقلت الى مدينة الحرية ، ولم يعد يعرف بيتي سوى شخص واحد وهو توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية ، مساعدي في قيادة منظمة بغداد التي كنت مسؤولها آنئذ.

مدينة الحرية قريبة الى مدينة الكاظمية وتابعة لها إداريا ، وهي مبنية على شكل بلوكات مربعة تتخللها شوارع ضيقة جدا ، أشبه ما تكون بأزقة ، سكنتها كادحون . في بداية آذار 1971، ترجلت ، عصرا، من سيارة الفورد المتجهة الى الكاظمية والتي تسع (14) راكبا ، في الشارع العام الذي يؤدي الى مدخل مدينة الحرية. كان هناك شخص يقف بجانب محل البقالية الذي يقع في بداية الشارع ، نظر الي تلك النظرة التي لا يخطئها المناضل ، نظرة حيوان مفترس وجد فريسته . كان شابا أسمرا ، متين البنية ، يلبس بدلة زيتوني وربطة عنق

لكي أحسم الشك باليقين ، كان لا بد من مناورة . لم أدخل في المنعطف الأقرب الى بيتنا بل المنعطف الأبعد ، عند دخولي إياه شاهدت الشخص يتبعني ، فأسرعت الخطى لأنعطف في اول شارع يوازي الشارع الذي إنطلقنا منه ، وهو بمثابة عودة الى الوراء ، والسير فيه الى آخره يعني دوران غير مبرر، فإذا واصل الشخص السير ، فلم يعد هناك شك بأنني متابع . وفعلا ، فقد واصل الشخص سيره ورائي؟

حللت الوضع . كان واضحا بأن واجبه هو معرفة البيت الذي أقصده ، أما لمراقبته ، أو لإخبار مرجعه لإلقاء القبض علي ، وربما ، على آخرين غيري في البيت وإحتمال الحصول على مستمسكات . مالعمل وانا لا ابعد أكثر من 150 مترا عن بيتي؟!
إستبعدت فكرة خروجي من المنطقة والإفلات من المأزق تحت بصر متابعي. فقد رجحت إحتمال إعتقالي ، إن حاولت ذلك ، بالإرتباط مع الحملة الإرهابية التي حاولت وصفها في أعلاه، ولأن متابعي لم يكن حذرا في متابعته ، وتصرفه يشير وكأن لسان حاله يقول " والله ما تفلت من إيدي" أو هكذا أنا أحسست بالوضع ، وكان إحساسي صادقا ، كما سنرى!

ولكي لايشك بأني عدلت عن الذهاب الى البيت ، فقد كنت مضطرا للعودة أدراجي ، مما يضعني معه وجها لوجه . عندما صرنا وجها لوجه شاهدت مسدسه في حزامه تحت سترته المفتوحة الأزرار . عندما شاهدني دخل الشارع الجانبي الذي بيننا ، والذي يجب أن أدخله إن كنت لا أريد الخروج من المنطقة. دخلت الشارع إياه لأشاهده متواريا في ركن زقاق على اليمين ، وخطف رأسه بسرعة الى الخلف ما أن شاهدني .
وكان يروم الإطمئنان على سيري في الطريق " الصحيح " لكي يتبعني مرة أخرى. وكان هناك شارع على اليسار يقع قبل ذلك الزقاق ببضعة أمتار والدخول فيه وإجتياز حوالي 100 ـ 150 مترا يوفرإمكانبة الإنعطاف الى اليمين أو الى اليسار، وهذه فرصة حقيقية للإفلات. إنها مجازفة قد تعرض حياتي للخطر، لأن من يتابعني مسلح. ولكن هل أتمكن من أن أسلم على حياتي لو وقعت بيد الجزار ناظم كزار؟ لذلك قررت خوض المجازفة بصرف النظر عن النتيجة.

عند وصولي الى الشارع الذي يقع على اليسار وجدته ، ولحسن الحظ ، خاليا من المارة. ركضت فيه بأقصى سرعة ، ولم أشاهد أحدا خلفي عندما إنعطفت منه. أخذت أتنقل من بلوك الى آخر مبتعداعن نقطة الإنطلاق، أمشي سريعا عند وجود مارة وأركض عند عدم وجودهم . بعد أن تأكدت بأني غير متابع إنعطفت نحو الشارع الرئيسي .
لم يطل الإنتظار بي طويلا ، كان لبضعة دقائق، ولكني شعرت وكأنه دهر. حصلت على تكسي أخذني الى الميدان ومن هناك تكسي ثان الى شارع الرشيد ومنه الى بعض الإزقة زيادة في الحيطة . بعد التأكد تماما من أني غير متابع ذهبت الى بيت اخي جليل في كمب سارة ، وكان قد إستأجره حديثا . أخبرته بما حصل وطلبت منه ، بعد أن زودته بالعنوان ، أن يخبر زوجتي أم شروق بالأمر لكي تأخذ حذرها ، فقد تخضع المنطقة الى رقابة مشددة.

كانت أم شروق مضطرة للخروج من البيت لشراء الخبز بعد أن لاحظت تأخري ، فحملت أصغر أطفالنا الثلاثة ـ صفاء ، تاركة شروق وسفانة وحدهن في البيت ، ولم تكن شروق قد تجاوزت السادسة من عمرها. عندما عادت أم شروق وجدت أخي جليل غارقا في الضحك ، فإندهشت لضحكه لأن وجوده بعد تأخري لا ينبىء بخير . وظهر إن شروق سألت عمها عندما فتحت له الباب (ها عمو شجابك ؟). مستغربة مجيئه وهو الذي لايعرف البيت . أما جليل فقد أخذ من الحادث ، على مايبدو ، حجة للضحك ليوحي بأنه لا يحمل أخبارا غير سارة . وقد اخذ جليل العائلة معه الى بيته.

في اليوم التالي ذهبت الى بيت مرجعي الحزبي باقر إبراهيم الذي إندهش وإهتم بالأمر، لأنها كانت المحاولة الأولى لإلقاء القبض على عضو لجنة مركزية . وطلب مني الإبكار بالسفر الى كردستان حيث كان من المقرر عقد إجتماع للجنة المركزية هناك . على أن يتولى توفيق أحمد مسؤولية منظمة بغداد مؤقتا. وفعلا فقد رتبت الأمور وسافرت ، دون إبطاء ، الى كردستان.

في إجتماع اللجنة المركزية والذي إنعقد في منطقة بالك ـ اربيل ، وبالإرتباط مع تناول الحملة الإرهابية، تقرر، كتدبير صياني ، إبقاء كل من كريم أحمد الداود وبهاء الدين نوري وأنا في كردستان ، في الأراضي المحررة ، غير الخاضعة لسيطرة السلطة . وإلتحق بنا لاحقا الفقيد مهدي عبد الكريم والشهيد شاكر محمود. وقد أقمنا في قرية برسرين الواقعة على سفح جبل هندرين ، حيث كانت لدينا قاعدة عسكرية صغيرة يقودها الرفيق ملازم خضر ( نعمان التميمي).
وقد أنيطت بي المسؤولية الحزبية لتنظيم الرفاق الذين لجأوا الى كردستان من المنطقة العربية ، ولم يتجاوز عددهم الخمسين رفيقا وجلهم من الكوادر الوسطية . وقد وزعوا على عدد من مقراتنا المنتشرة في سفوح الجبال المحيطة بنا وهي: زيوة وميرجان وحافيز. وكان مسؤولوها على التوالي طه العلكاوي (أبو ناصر) وأنور طه ( أبو عادل ) وحميد بخش ( أبو زكي )، وعند سفر الأخير حل محله محسن عليوي ( أبو عليوي)

بعد بضعة أسابيع من وجودي في كردستان اقامت قيادة الأنصار بالتعاون مع التنظيم المحلي لحزينا مهرجانا بمناسبة عيد نوروز حضره عدة الوف من النساء والرجال مع أطفالهم بملابسهم القومية الزاهية إفترشوا المروج في ذلك الجو الربيعي الأخاذ وأكلوا مالذ لهم وطاب وتبادلوا ذلك مع جيرانهم. ولم تتوقف الدبكات والموسيقى الشعبية طوال الوقت ، وكانت الدبكات مشتركة ( نساء ورجال ). وقد تأثرت بهذا المهرجان وإزداد إعجابي وثقتي بالشعب الكوردي لحبه العميق للحياة.

بعد شهر من وجودي في كردستان وصلت عائلتي للإقامة معي . لم تكن هناك غرفة للإقامة فيها ، سوى حجرة كانت فيما مضى زريبة حيوانات!. وكانت الحجرة مظلمة ، عند الدخول اليها في النهار، تنعدم فيها الرؤية لفترة معينة تتناسب عكسيا مع مدى سطوع الضوء في الخارج . بعد حوالي ثلاثة أشهر إنتقلنا الى غرفة عادية ولكنها صغيرة جدا ( 3 × 3 ). وكنا نستخدمها كغرفة إستقبال وطعام ومنام وللاطفال ، حمام.

تواصلت الحملة الإرهابية ووصلت الى كردستان ، حيث إختطف في كركوك الرفيق علي حسين البرزنجي عضو اللجنة المركزية و 40 رفيقا ومطبعة الحزب ونقلوا الى قصر النهاية . وخلال الحملة إستولت السلطة على جميع أجهزة الطباعة المركزية واعتقلت ثابت حبيب العاني العضو المرشح للمكتب السياسي . وإعتقل كذلك عامل النفط توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية الذي لم يستطع الصمود أمام التعذيب فأسقط سياسيا. وحطمت منظمة العاصمة تحطيما تاما .
لقد أعتقل وعذب، في هذه الحملة الإرهابية وحدها ، التي بدأت في ربيع 1970 وتوقفت في خريف 1971، آلاف الشيوعيين تعذيبا وحشيا وإستشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب، أوالإغتيال ، من بينهم : محمد الخضري وعلي البرزنجي وماجد العبايجي وشاكر مطرود وحسين نادر وأحمد رجب وعبد الله صالح ومحمد حسين الدجيلي وعبد الأمير رشاد وجواد عطية والأخيرنسيبي ( شقيق زوجتي ). وقبل هذه الحملة جرى إغتيال الشهيد ستار خضير عضو اللجنة المركزية ، وإستشهد تحت التعذيب الكادر العمالي عبد الأمير سعيد .
ولم يكن نهج الحزب السياسي المعتمد سوى المعارضة غير المطلقة وبالوسائل السلمية ، والتى كانت مقتصرة على مطبوعات الحزب السرية وصلاته المباشرة ! وقد أدينت الحملة الأرهابية بشدة من قبل قوى اليسار العالمي ، فحفلت الصحف الشيوعية في البلدان الرأسمالية، وخاصة " المورننك ستار" و" اللومانيتيه " و" اونيتا " بالمقالات الإحتجاجية ، هذا فضلا عن صحف البلدان الإشتراكية . ولم تتمكن السلطة من تبرير حملتها الإرهابية أمام الرأي العام الداخلي والخارجي .

كان اللاجئون الى كردستان من المنطقة العربية قسمين، الأول: رفاق مرسلون من قبل الحزب للصيانة، والثاني: معتقلون واطلق سراحهم لتأييدهم الإعترافات أولإعترافهم جزئيا ، ويخشون إعتقالهم ثانية. وكان من واجبي التحقيق مع القسم الثاني لمعرفة حقيقة وضعهم قبل تنسيبهم الى إحدى القواعد ولتجنب الإندساس . كان تعاون اللاجئين مع الأنصار في قواعدهم جيدا جدأ وكانوا يؤدون واجباتهم في الحراسات والخفارات دون كلل ، ونشأت بعض الصداقات بين الأنصار واللاجئين ظلت خالدة.

ولعب اللاجئون دورا أساسيا في بناء المدرسة الحزبية في دركلة في صيف 1971. ورغم بساطة المدرسة ومستلزماتها ، فقد خرّجت عدة دورات كانت تضم كوادر وسطية من جميع محافظات العراق ومن جميع الفئات الإجتماعية ومن مختلف القوميات ، وكان يحاضر فيها الى جانب بعض الكوادر الحزبية ، مثل ماجد عبد الرضا ويوسف حنا وعمر الياس واحمد دلزار، أساتذة محترفون مثل د. كاظم حبيب و د. نمير العاني و د. عزيز وطبان. وكان مديرها يوسف حنا . وكانت الدراسة فيها ، منتظمة طوال أيام الإسبوع ، عدا يوم الجمعة ، وجدية ، تتوج بإمتحانات شفهية وتحريرية . وآخر دورة تخرجت من المدرسة كانت في آب 1973، وكانت الأكبر ، إذ كان عددها 75 رفيقا.

كنت أحقق مع الرفاق ونحن نتمشى في الهواء الطلق على سفح الجبل . وأحد هؤلاء الذين حققت معهم ، كان سعيد إبراهيم رشيد الكادر العمالي والعضو المرشح للجنة منطقة بغداد ونسيب الرفيق عزيزمحمد ( شقيق زوجته). كنا قد إنتهينا من صلب الموضوع عندما جلسنا في غرفتنا لنشرب شايا . ظل سعيد يتحدث عن لقطات على هامش الموضوع ، ولم يكن هناك بد من أن تسمع أم شروق الحديث لصغر الغرفة . وكانت هناك لقطة لم أنسها ولكن أم شروق ذكرتني ، بدقة متناهية ، بتفاصيلها. قال لي سعيد:

ـ لقد أطلعني ناظم كزارعلى صورتك وسألني هل تعرفه ؟ فنفيت معرفتي بصاحبها ، فقال لي:

ـ شلون متعرفه؟ هذا مسؤول بغداد ، ومن ثم التفت الى الجلاوزة الواقفين غير بعيد عنه وقال لهم ، وهو يريهم الصورة:

ـ (ماكلتلكم جيبوه الهذا) أجابه أحدهم:

ـ ( سيدي والله تابعناه وفلت من عدنا).
ما هي الإستنتاجات التي يمكن إستخلاصها من تجاربي الثلاث و التجارب الأخرى الناجحة في الهروب من قبضة العدو؟ بإعتقادي، هي: 1ـ دراسة الموقف في اللحظة الحرجة برأس بارد. 2ـ السرعة في إتخاذ القرارالملائم. 3ـ تنفيذ القرار بدون تردد ، هذا فضلا عن التخطيط والتنفيذ الجيدين عندما يتعلق الأمر بالهروب من معتقل، والبقية على حسن الصدف !!
________________________________________
* إنتخب المؤتمر الثاني لجنة مركزية. ولقد أشار المؤرخ حنا بطاطو بشكل خاطىء الى قوامها في مؤلفه "العراق ـ الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار"، الكتاب الثالث، الجدول رقم 23 ـ 5، ص 421. فقد ذكر أسماء ستة رفاق لم يكونوا في قوامها وهم كل من:
 1ـ عبد الأمير عباس 2ـ جواد كاظم ( الصحيح كاظم جواد ) 3ـ نوري عبد الرزاق 4ـ صفاء الحافظ 5ـ محمد كريم فتح الله 6 ـ مكرم الطالباني. في حين لم يذكر أسماء ثمانية رفاق كانوا في قوامها وهم كل من: 1ـ شاكر محمود 2ـ توفيق أحمد 3ـ سليمان يوسف بوكا 4 ـ عدنان عباس 5ـ علي حسين البرزنجي 6 ـ عبد الوهاب طاهر 7ـ سليم إسماعيل 8 ـ جاسم الحلوائي.
وقد إرتكب بطاطو خطأ مشابها في الجدول المرقم 21ـ 1، ص، 354، والمعنون " أعضاء اللجان المركزية للحزب الشيوعي من آب (أغسطس) 1964 وحتى أيلول (سبتمبر) 1967 " فقد ذكر عشرة أسماء لم يكونوا يوما ما في قوام اللجنة المركزية خلال الفترة المذكورة، وهم كل من:
 1ـ عبد الأمير عباس 2ـ حسين جواد الكمر 3ـ جاسم محمد الحلاوي ( لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي في هذه الفترة!) 4 ـ بيتر يوسف 5ـ خضير سلمان 6 ـ سليم إسماعيل 7ـ سليم الميرزا 8ـ زكية خليفة 9ـ عبد الرزاق الصافي 10ـ عدنان عباس.
في حين لم يذكر ستة أسماء كانوا في فوامها، وهم كل من 1ـ ستار خضير 2ـ حميد الدجيلي 3ـ نزيهة الدليمي 4ـ حسين سلطان 5ـ عزيز شريف 6 ـ جاسم الحلوائي. وبناء على ذلك فإن الجدول، المرقم 21 ـ 1 والمعنون " إجمالي المعلومات الحياتية المتعلقة باللجان المركزية للحزب الشيوعي العراقي من تشرين الأول ( اكنوبر) 1965 الى أيلول (سبتمبر)1967، غير دقيق.
جدير بالملاحظة، إن كتاب سمير عبد الكريم " أضواء على الحركة الشيوعية في العراق" الجزء الرابع والذي يتناول الفترة إياها، والمكرس للدعاية ضد الحزب الشيوعي، يذكر الأسماء بشكل صحيح، بما في ذلك الأسماء الحزبية !، ولا غرو في ذلك، فوراء صدور هذا الكتاب تقف أجهزة البعث الأمنية.[/b][/size][/font]

73
ذكريات
الإفلات من قبضة المجرم ناظم كزار!؟
( 1ــ 2 )

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
ناظم كزار جلاد بعثي معروف، وهو مسؤول شخصيا عن قتل وتعذيب عشرات  الألوف من بنات وأبناء الشعب العراقي، غالبيتهم من الشيوعيين وأنصارهم. لم أقابله يوما، وإنما مررت بمديريته دون أن يمسني بسوء، إذ كان مرغما على إطلاق  سراحي لأسباب سياسية. وعندما توفرت الفرصة له ليلقي القبض علي، فلت من قبضته.

في ايلول 1969، سافرت الى موسكو لإجراء عملية جراحية لأذني إقترحها علي أكثر من طبيب اخصائي عراقي. لم أتمكن من إجراء العملية في العراق لأنها تتطلب رقودي في المستشفى، في حين كنت مختفيا آنئذ. كنت سكرتيرا لمنطقة الفرات الأوسط ومقيما في مدينة الحلة. وقد سافرت بشكل غير شرعي الى القامشلي، عبر الموصل والمثلث العراقي ـ التركي ـ السوري وصولا الى دمشق، فموسكو. وخلال هذه السفرة إستخدمت أغلب وسائط النقل المعروفة ـ المشي، الحيوان، التراكتور، سيارة جيب، الباص، وأخيرا الطائرة.

بعد إجراء العملية الجراحية، شبه الفاشلة، منعت من السفر بالطائرة لمدة ستة أشهر. فكان لابد من العودة بالقطار. لكن قسم العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي إعترض على سفري، عبر ممثلهم الرفيق نيجكن. فالسفر بالقطار يستلزم المرور بعدد من البلدان ــ رومانيا وبلغاريا وتركيا، وهذا غير ممكن بجوازي المزّور.
وإ قترح علي الحصول على جواز سفر من السفارة العراقية. ولم يكن المقترح بمعزل عن رغبة موسكو في تنمية العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث. لم يخطر المقترح ببالي ولم أستسغه في باديء الأمر، ولكن الموقف الإيجابي لقيادة منظمتنا في موسكو منه، والتأكيد على إن حقي مضمون في عدم الإجابة على أي سؤال لا أرغب الإجابة عليه في السفارة العراقية، شجعني على الموافقة. رافقتني الى السفارة الرفيقة أم إيمان ( ثمينة ناجي يوسف، زوجة الشهيد سلام عادل) كشاهد على عراقيتي، وهو إجراء روتيني . وتمت المعاملة بالسفارة بشكل روتيني ومنحت جواز مرور صالح لسفرة واحدة. فرجعت من موسكو الى حلب بالقطار.

في دمشق التقيت بالرفيق عزيز محمد وذلك في تشرين الثاني 1969. لقد حاولت إقناعه بعودتي الى العراق بشكل شرعي، لإعتقادي بأن السلطة لم تكن في وارد إلقاء القبض على إعضاء اللجنة المركزية آنئذ، فقد أعتقل بهاء الدين نوري، عضو اللجنة المركزية، صدفة، في تلك الفترة بالذات، واطلق سراحه، بعد أن أعادوا له أوراقه ومسدسه وإعتذروا منه. وافق الرفيق عزيز بعد أن أكدت له بأني أتحمل شخصيا مسؤولية هذا القرار. وكنت شديد الرغبة في التخلص من وعثاء السفر في الطريق غير الشرعي، يحفزني في ذلك حيازتي على جواز أصولي.

سافرت عن طريق الرطبة.اوقفتني شرطة الحدود لوجود أمر بإلقاء القبض علي عام 1963! ضمن قائمة تضم أسماء الكثيرين، ظل منهم في ذاكرتي الشهيدين جمال الحيدري وعبد الجبار وهبي؟! أخبرتهم بان عفوا قد صدر عني وعن مجموعة من قيادة الحزب نهاية عام 1968، وإن القائمة، التي يتحدثون عنها، قديمة، وبإمكانهم الإتصال ببغداد والتأكد من ذلك.
لم يعيروا إهتماما لكلامي وحجزوني، وعلى الأرجح بعد إتصالهم ببغداد!. بعد قضاء ليلة واحدة في موقف الرطبة رحلت الى مركز شرطة الرمادي. ومن هناك أرسلت برقية الى نوري عبد الرزاق، وكان أحد شخصيات حزبنا العلنية، أخبرته فيها بنبأ إعتقالي. بعد ليلتين في الرمادي سفرت الى مديرية أمن بغداد. زج بي في موقف يضم حوالي 30 معتقلا. نادوني مساءً وقادوني في دروب شبه مظلمة، تثير بعض الفزع، سيما وأنا لا أعرف الى أين يقودونني، ولكنني أعرف بأن مديرالدائرة هو المجرم ناظم كزار.
وأخيرا أدخلوني غرفة صغيرة اخذوا لي طبع أصابع وكذلك ما يسمى بصحيفة أعمال ( وهي إستمارة تتضمن معلومات عادية عن الشخص) ومن ثم أعادوني الى الموقف.، وإستنتجت،مماجرى، بأن الأمر ليس خطيرا. في اليوم التالي نودي علي وأدخلوني على محمد صالح، وهو نفس مدير الشعبة الذي اشرف على تعذيبي عام 1965. إستقبلني بترحاب وقال:
 
ـ بس شفت إسمك عرفتك، ماكو شي، هسه تطلع. وقعت أوراقك ورسلته للمدير العام ناظم كزار... إي..إي.. ناظم كزار... صايرلي مدير عام، شايف هيج دنيا . بشرفك تقبل سياسي مثل عبد الرحمن البزاز يخلو يمشي مثل الجلب، ويكنس الموقف؟

أدهشني كلا مه وحيرني مقصده، لذلك تجنبت االإجابة بالكلام وعبرت بحركة إستغراب من شفتي جوابا على سؤاله. رفع من على مكتبه نسخة من صحيفة "طريق الشعب" ووجهها الي وقال:

ــ هاي آخر عدد.
ــ قاريها.
ــ وين قاريها؟
ــ بموسكو
ــ بموسكو.. شوصلها؟ (كان إستغرابه في محله، فبعد خروجي من الموقف عرفت إن ما قرأته كان العدد ما قبل الأخير).
ــ ما أعرف!
ــ شنو رايك بيها؟
ــ آني شنو رأيي، يو إنت شنو رأيك؟
ــ آني أكول لا شيش اولا كباب.
ــ شتريدها إنت، شيش يو كباب؟
ــ يو شيش يو كباب. ( أما إنحراف الحزب الى اليسار أو الى اليمين، هذا ما كانت تطمح اليه الأجهزة الأمنية آنئذ، لتكون على بينة من أمرها ولتنفيذ خططها في إضعاف الحزب بسهولة.
ــ ليش سافرت بدون جواز اصولي، لو مراجعنا جان منحناك جواز سفر.
ـ إذا ما عدكم مانع من سفري، ارفعوا المنع عني، حتى مديرية السفر والجنسية تمنحني جواز.

عادت الأوراق من ناظم كزار تحمل موافقته على إطلاق سراحي. خرجت من مكتب محمد صالح وهو ينادي :
ـ راجعنا إذا تريد تسافر
ـ أراجع مديرية السفر.

خرجت من مديرية الأمن، بعد أن إستلمت حقيبتي وذهبت الى بيت أحد أخوتي، قبل سفري الى مدينة الحلة للإلتقاء بعائلتي.

بعد عودتي من السفرأنيطت بي مسؤولية منظمة بغداد، وذلك في بداية 1970. وكان مكتب بغداد يتكون من الشهيد محمد الخضري والفقيد ماجد عبد الرضا وأنا. وفي نهاية السنة، إشتدت الحملة الإرهابية ضد الحزب وتدهورت العلاقة مع حزب البعث، والتي كانت هشة بالأساس، الى حد القطيعة.

لم تتوقف حملات الإرهاب البعثية يوما واحدا ضد الحزب الشيوعي، كانت تشتد وتضعف بالإرتباط مع أي نجاح يحققه الحزب في تعزيز وتوسيع نفوذه. فقد إشتد الإرهاب بعد أيام من إتفاق الحزب الديمقراطي الكردستاني والحكومة على بيان 11 آذار 1970، الذي يقر بالحكم الذاتي للشعب الكردي، لأن الجماهير الشعبية إعتبرت ذلك إنتصارا للحركة الكوردية و الحزب الديمقراطي الكوردستاني ولسياسة الحزب الشيوعي العراقي وكفاحه من أجل تحقيق أماني الشعب الكردي. وقد عبرت الجماهير الشعبية عن ذلك في مظاهراتها العفوية في مساء 11 آذار. في حين لم يتمكن حزب البعث من تجيير الإنتصار لحسابه. لأن الرأي العام الداخلي والخارجي كان يعرف إن ما تحقق ليس من صلب سياسته. وهكذا سنرى كيف إشتدت الحملة الإرهابية ضد الحزب بعد الإتفاقية المذكورة.

يوم 20 آذار إختطف، في وضح النهار، جهاز الأمن الذي يديره ناظم كزارـ صدام، الكادر الحزبي المتقدم الشهيد محمد الخضري وهو في طريقه الى كازينو صدر القناة ببغداد لحضور حفل، أقيم من قبل مجلس السلم والتضامن، بمناسبة صدور بيان 11 آذار. وقد عثر عليه، في اليوم التالي، مقتولا، في سيارته المتروكة في طريق بغداد ـ  بلد، و قد إخترقت جسمه 18 رصاصة وعلى جسده آثار التعذيب.

في 21 آذار،عيد نوروز، تجمع الشيوعيون وأنصارهم في الميدان في قلب بغداد للمشاركة بمسيرة دعما لبيان 11  آذار . وقد تصدر المسيرة مجموعة من قادة الحزب المعروفين، فما كان من أزلام النظام إلا أن عزلوا القيادة وفرقوا التجمع بالهراوات!!.

في 10 تموز طرحت صحيفة "الثورة" شروط  حزب البعث للجبهة؛ وسمتها "طريق الشعب" في عددها الصادر في الأول من آب " شروط البعث التعجيزية للجبهة " وقد فندَت تلك الشروط بعد أن ناقشتها. وإستخلصت ما يلي: " إننا لانتجنى على الحقيقة والواقع إذا قلنا إن الشروط التي يطرحها البعث كأساس لإقامة الجبهة لايمكن أن تحظى بتأييد الحزب او منظمة وطنية في العراق بما فيها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتحالف مع البعث على أساس إتفاقية 11 آذار 1970 ويطمح الى جعل هذا التحالف ( قاعدة رئيسية للجبهة ) ويتطلع الى توسيعها وتعميقها كي تضم جميع الأحزاب والهيئات الوطنية في العراق" وإختتم الحزب مناقشته بالمطالبة بإلغاء تلك الشروط.


في آب أعتقل الكادر الفلاحي المعروف كاظم الجاسم، عضو لجنة منطقة الفرات  الأوسط. واعتقل الكادر الحزبي المحترف عزيز حميد، خريج معهد كارل ماركس للإقتصاد في بلغاريا. وكان هناك قلق جدي على حياتهما فقد كانا بيد الجلادين ناظم كزار ـ صدام التكريتي.

يتبع
[/b][/size][/font]

74
ذكريات
الإصطدام ؟!
(2 ــ 3)
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

التوترات وحدة الصراعات في مدينة كربلاء كان لها إنعكاساتها السلبية على علاقات المنظمة بالجماهير، فلم تكن تلك العلاقة في نمو مضطرد كما هو الحال بالنسبة للمنظمات الأخرى. فجاء مهرجان أنصار السلام في بداية 1959، عونا لنا، وغير أجواء المدينة لصالحنا. ففي يوم واحد تقاطرت الوفود من كل حدب وصوب على المدينة، ولاسيما من بغداد. تجمعت الوفود في الساحة الواقعة أمام ثانوية البنين، صدح صوت محمد الطيار عريف الحفل مفتتحا المهرجان الخطابي وتوالت  الكلمات ، كلمة حركة أنصار السلام في كربلاء وكلمة النقابات العمالية و...ألخ وكانت الكلمة الأبرزوالأطول هي لعزيز شريف سكرتير حركة أنصار السلام في العراق..

ما أثار دهشة الكربلائيين هو وفود الشبيبة الديمقراطية البغدادية التي تركت حافلات نقلها خارج المدينة  وقطعت الطريق مشيا على الأقدام، ذهابا وإيابا ،من بداية المدينة، باب العلوة ( باب بغداد ) حتى نهاية المدينة، مدرسة الثانوية ، مرورا بشارع علي الأكبر فشارع العباس. وكانت الوفود مشتركة والفتيات سافرات، و الجميع ينشدون ويغنون للتضامن والسعادة  والحياة والفرح ... وربطات عنقهم الحمراء تتراقص في الهواء. سكان البنايات في الشبابيك والبالكونات، المارة في الشوارع، وقفوا في البدء مندهشين ، فقد تعودوا سماع اللطم والبكاء والحزن والشكوى والتظلم والنحيب، ورؤية العباءات السود تلتحف النور والجمال والحياة. وتحولت الدهشة الى إبتسامات وتلويح بالأيدي تعبيرا عن التضامن ولسان حالهم يقول إننا أيضا مثلكم نحب الفرح والحياة والجمال، ولكن تجار الحزن والقبح والموت والجهل والخرافات، على كساد تجارتهم خائفون.

كانت اللجنة التحضيرية لإتحاد الطلبة في ثانوية البنات تحت نفوذ الحركيين والوطني الديمقرطي، وترأس لجنتها التحضيرية الآنسة فاكهة النصراوي. مع أزدياد نفوذ الشيوعيين في الثانوية المذكورة إزدادت المطالبة بتغيير اللجنة التحضيرية. وتحت الضغط المتواصل من قبل الطالبات الشيوعيات وأنصارهن إستجابت سكرتارية الإتحاد العام لطلبة العراق لإجراء إنتخابات في الثانوية المذكورة، وقد جرت الإنتخابات وفازت الشيوعيات وأنصارهن ولم يكن لديهن شخصية حزبية في الصفين الرابع والخامس ( كانت الثانوية خمس سنوات فقط)، فترأست الفرع نوال الصافي وكانت في الصف الثالث.

كانت قيادة اللجنتين التحضيريتين لفرعي نقابة عمال البناء وعمال المخابز بيد الحزب الوطني الديمقراطي، وقد رموا كل ثقلهم وراءهما. وفي الوقت نفسه كرس العمال الشيوعيون وأنصارهم كل جهودهم لإنتزاع القيادة منهم ، وتم لهم ذلك من خلال الإنتخابات وترأس نقابة البناءالكادر النقابي كامل ضاري والذي أصبح رئيسا لإتحاد نقابات العمال في كربلاء.

الوطني الديمقراطي هاله أن تسير الجماهير وراء الشيوعيين وقد عبر عن ذلك أحد أبرز مسؤوليهم السيد يحيي نصر الله بالقول: " آني متعجب على هالناس اللي تركض وره هذوله الحفاي الحلوائي وكرماشة وعايفه سادة الولاية وأشرافها." وﻠ "تصحيح" هذا الخطأ لدى الناس ، إصطفت قيادة الوطني الديمقراطي بكل وجوهها المعروفة، وبشكل مفاجىء أمام إحدى مسيراتنا في بداية عام 1959. لقد أغاظ تصرفهم هذا رفاقنا فوجدوا حلا وهو عند وصول المظاهرة مفترق طرق يتركون القيادة ( الوطني الديمقراطي) تدخل في الطريق الإعتيادي ويغيرون إتجاه المظاهرة ويدخلون طريقا آخر. لقد وافقت على المقترح، بدون حماس. وهكذا كان، فقد دخلت مجموعة الوطني الديمقراطي في الشارع ليجدو انفسهم قيادة بلا قاعدة!

كانت القوى الرجعية، بما فيها القوى الأسلامية المتشددة والمتعصبة، تحاول إستغلال المنافسة بين الحزبين الوطني الديمقراطي والشيوعي لدفعهم الى الإصطدام، نكاية بالشيوعيين أو بالطرفين معا، وكانت تستغل مشاعر الإحباط وخيبات الأمل التي يعاني منها  الديمقراطيون بسبب ضعف تأييد الجماهير لهم. وكم من مرة مزقت لافتاتنا أو مرغت بالوحل ورميت على قارعة الطريق بالقرب من منطقة نفوذ الديمقراطيين، ونفوا قيامهم بذلك. وفي أحد الأيام كنا نسير، عبد الرزاق الصافي وأنا، في شارع العباس، عندما جلب لنا رفاقنا لافتة منتزعة من مكانها، بالقرب من منطقة نفوذ الوطني الديمقراطي، وملوثة بالوحل. وكالعادة، تجاوزنا الإساءة.
 
في هذه الفترة أخذت تخرج مظاهرة، مساء كل يوم، من منطقة نفوذنا الرئيسية وهي محلة العباسية الشرقية. عدد المشتركين فيها يتراوح بين 50 ـ 70. جمهورها صبيان لايتعدى عمر أكبرهم أربعة عشرعاما . يذهبون الى مناطق نفوذ الوطني الديمقراطي وحزب البعث وهي متجاورة في محلة باب العلوة (باب بغداد). ويهتفون هتافات معادية لحزب البعث ومزعجة للوطني الديمقراطي. لم نعط إهتماما للمظاهرة، بادىء ذي بدء، بإعتبار إن ذلك لعب أطفال. ولكن بعد أن سمعنا بأنهم يرجمون بالحجارة مكتب المحامي جواد أبو الحب، أحد أبرز وأقدم البعثيين في المدينة، و أنزلوا لوحة الدكتور هادي الطويل من قادة الوطني الديمقراطي من على عيادته، وحوادث اخرى مشابهة، تصدينا لهم لنفرقهم، ولكن لم يستجيبوا. في حين لم تعد القوى الأخرى تصدق عفوية تلك المظاهرة. في أحد الأيام أخبرنا ممثلنا محسن النقيب بأن المتصرف أصدر بيانا يندد بالمظاهرات ومن يقف وراءها ويطلب توقفها وإلا فسيستخدم القوة لتفريقها. ولأن البيان قد يسيء إلينا بإشارته الى "من يقف ورائها" ولأن المتظاهرين من المتعاطفين معنا، إقترحنا على المتصرف عدم توزيع البيان ومنحنا فرصة 24 ساعة لإيقاف التظاهر، وإذا لم نفلح، فبإمكانه أن يوزعه. فوافق المتصرف على المقترح.

وضعنا خطة، وهي أن يتوزع الرفاق في شوارع محلة العباسية الشرقية إبتداء من غروب الشمس وكلما رأوا صبيين أو أكثريفرقونهم بعد أن يشرحوا لهم ما يمكن أن يلحقه عملهم من أضرار على الوضع العام في المدينة. و نجحت الخطة بفضل الجهود التي بذلها الرفاق في المحلة المذكورة. وتوقفت المظاهرات، ولم يوزع البيان. وعلمنا لاحقا بأن بعض نسخ البيان قد وزعت على كبار المسؤولين في المدينة. لقد كبرت المنظمة بعين المتصرف الى درجة كبيرة جدا. ولم ينس مساعدتنا له في حل هذه المشكلة إطلاقا. وكان يعتبرنا الجهة الوحيدة المتنفذة جماهيريا في المدينة ويصرح بذلك عند الضرورة في أي مكان وبدون حرج.

بتشجيع من عراك الزكم وفرع الحزب الوطني الديمقراطي في مدينة كربلاء إنشق عنا عضو حزبنا وأحد قادة فرع الإتحاد العام للجمعيات الفلاحية في كربلاء الذي كان تحت قيادتنا. وفوجئنا في أحد الأيام به وهو يقود مجموعة من الفلاحين متوجها نحو المتصرفية بهدف الحصول على سماح من المتصرف بتأسيس فرع آخر للإتحاد موازي للفرع القائم. اخبرنا المتصرف بأن ذلك مخالف لقانون الإتحاد العام للجمعيات الفلاحية المجاز من السلطات والذي يحصر منح إجازات الجمعيات الفلاحية وإتحاداتها المحلية بالإتحاد العام للجمعيات الفلاحية. وبناء على ذلك رفض المتصرف طلبه.
 
كان الجو متوترا بين الشيوعيين والديمقراطيين عندما أراد السيد فرحات عباس رئيس جبهة التحرير الوطني الجزائرية زيارة كربلاء في آذار 1959. علمنا بأن الديمقراطيين يتهيأون لإستقباله. كانت مكتبة الوطني الديمقراطي تقع في مدخل المدينة بالنسبة للقادمين من بغداد. قررنا إستقبال فرحات عباس من خارج المدينة. نظمنا مسيرة كان سيرها الحتمي يمر من أمام مكتبة الوطني الديمقراطي . قبل وصولنا المكتبة وصلني خبر بأن هناك تجمع حولها يضم بعض الشقاوات مثل رضا حسنابة وحسين عجمي... تشاورت مع الرفاق القريبين علي من قيادة المنظمة وقررنا تجنب المرور أمام المكتبة لأن أبسط إستفزاز من أي طرف كان يؤدي الى الإصطدام  وسنظهر كمعتدين بصرف النظر عمن هو الباديء بالإستفزاز، فنحن القادمون اليهم وهم الواقفون عند مكتبتهم. قررنا إدخال المظاهرة في شارع فرعي ضيق. لقد عانينا الأمرين لحرف إتجاه المظاهرة، لإزدياد حماس الجماهير مع إقترابها من المكتبة لرغبتها في تحدي الآخرين. وأخيرا نجحنا في تحقيق ذلك. وقد إعتبر بعض الرفاق تصرفنا ذاك جبنا!

عند وصول موكب فرحات عباس وأستقباله قبل مدخل المدينة. توجه موكبه لزيارة الروضتين الشريفتين بدءا بالروضة الحسينية على أن يحل ضيفا عند المتصرف بعد إنتهاء زيارته من الروضة العباسية . ذهبت مع عدد من الوجوه الإجتماعية الى بيت المتصرف. بعد فترة لمح لي المتصرف بأن هناك بعض المشاكل في صحن العباس. وصلت بسرعة الى المكان. كانت هناك جلبة في غرفة الكليدار( مديرالروضة )الغرفة تقع حوالي متر أعلى من سطح الأرض وشبابيكها الكبيرة المفتوحة تشرف على الصحن. دخلتها فوجدت عددا من قادة الديمقراطيين بينهم يحيى نصر الله ومجموعة من أنصارهم، بينهم بعض من صدامييهم أحدهم إبن عمي رزاق، وهناك منافسة على الميكرفون بين أنصارنا وأنصارهم كل منهم يريد الهتاف بشعاراته. وغالبية المتجمعين أمام الغرفة وعددهم لايتجاوز الإربعين شخصا معظمهم ديمقراطيين ويرددون شعار " عاش الديمقراطي عبد الكريم قاسم " ويرد عليهم أنصارنا " زعيمنا الأوحد عبد الكريم قاسم " و " ماكو زعيم، إلا كريم ". ولم يكن صوت أنصارنا يسمع، لإختلال في توازن القوى لصالح الديمقراطيين، لأن مظاهرتنا كانت في صحن الحسين (ع). أرسلنا رسالة الى مظاهرتنا للإسراع بالمجيء الى موقع " المعركة ". عند وصول مظاهرتنا، إنقلب توازن القوى وبات بالكاد يسمع صوت الديمقراطيين.

كنت في غرفة الكليدارعندما شاهدت بأم عيني خروج مجامبع من الكشوانية ( المكان الذي يخلع فيه الناس أحذيتهم قبل دخولهم الى أروقة الضريح) وبيدهم عصي إنهالوا بها على المتظاهرين من الخلف وكان أحدهم  يهدد الجماهيربقامته ( سلاح أبيض أقصر من السيف وأعرض منه ومستقيم). تراجعت الجماهير الى الخلف ملتفتة الى الوراء. في تلك اللحظة لفت إحدى الفتيات عباءتها على يدها وهاجمت حامل القامة وإنتزعتها منه، فإنفجرت الجماهير حماسا ورغبة في رد الصاع صاعين. وهجمت، وهي غير مسلحة، على المعتدين هجوما صاعقا. وسمعت من يدعو الجماهير الى التوجه الى مكتبة الوطني الديمقراطي لتحطيمها.

 كنت أقول ليحيى نصر الله بأنكم ستتحملون عواقب إعتدائكم عندما سمعت صوت إبن عمي رزاق، من خلفي، يقول: " لا أسمح لأحد بأن يمس جاسم " إلتفت وجدته شاهرا سلاحه الأبيض ويحميني بجسمه الَضخم. عرفت لاحقا بأن أحد أنصار الديمقراطيين هوى بالقامة على رأسي وإن رزاق مسك يده. وفي هذه النقطة الحرجة تغير موقفه وتحول الى حمايتي. وفي الواقع ، لقد إستغربت وجود رزاق معهم لأن عهدي به متعاطف معنا ، قلبيا. وكان وجوده معهم لمرافقة صديق له بينهم. جلب إنتباهي كثرة الأسلحة البيضاء فقد كان معظم الموجودين في الغرفة مسلحين.

يتبع
[/b][/size][/font]

75
ذكريات
الإصطدام ؟!
(1 ــ 3)
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

في آذار 1959 حصل إصطدام مؤسف بين فرع الحزب الوطني الديمقراطي ومنظمة الحزب الشيوعي في مدينة كربلاء. جرح على أثره إثنان كانت جروحهم بليغة، أدخلا المستشفى للعلاج. وتحطمت مكتبة الحزب الوطني الديمقراطي، وأعتقل حوالي 35  من قادة وأنصار الحزب المذكور. . وكادت حياتي أن تتعرض للخطر ، لولا حسن الصدف.  لقد كنت شاهد عيان على هذا الحدث وعلى غيره من الأحداث، ذات الصلة التي حصلت في السنة الأولى من ثورة 14 تموز، ومساهم فيها بهذا القدر أوذاك.

تأسس فرع الحزب الوطني الديمقراطي في كربلاء مع بدايات تأسيس الحزب الأم عام 1946. وأبرز قادة الفرع هم: يحيى نصر الله وجواد شروفي وصالح نصر الله، والتحق بهم الدكتور هادي الطويل بعد ثورة 14 تموز، وكان الأخير مسؤول الفرع الرسمي عند حصول الإصطدام.

كانت علاقة الديمقرطيين ( الوطنيين الديمقراطيين) والشيوعيين في المدينة جيدة وترقى الى التعاون السياسي في الأجواء التي تتسم بشيء من الليبرالية، على سبيل المثال، التوقيع المشترك على المذكرات المطلبية والسياسية التي  كانت تنشر في الصحف . وعندما أعلنت الأحكام العرفية، على أثر وثبة كانون الثاني 1948، ساق جهاز أمن كربلاء 17 شخصية من الوطني الديمقراطي والشيوعيين الى المحكمة العسكرية في الديوانية  بتهمة ملفقة، لم تتمكن المحكمة إدانتهم عليها، وكان من بينهم يحيي نصر الله أبرز وجه من وجوه الوطني الديمقراطي وعبد الرزاق الصافي أبرز وجه شيوعي في مدينة كربلاء.  وباتت العلاقة أوثق بعد إقامة جبهة الإتحاد الوطني في عام 1957 . ولم تكن هناك منافسة ملحوظة بين الطرفين حتى ثورة 14 تموز المجيدة.

الشيوعيون كانوا موجودين عندما تأسس فرع الوطني الديمقراطي، ولم تخل المدينة منهم يوما. وقي ثورة 14 تموز كانت هناك خلية، عناصرها أقل من عدد أصابع اليد الواحدة في المدينة وأخرى بنفس العدد في الريف، يقودها الشهيد علي النور. وقد أنيطت بي مسؤولية المنظمة عندما أطلق سراحي من السجن، بعد شهر من ثورة 14 تموز، وأبلغني بذلك الشهيد حسن عوينة في أول يوم من وصولي الى كربلاء.

منذ وصولي للمدينة والتجوال في شوارعها والإلتقاء بالناس، لاحظت بان هناك جمهرة واسعة من الشباب من مختلف الفئات الإجتماعية. متحمسة للتنظيم والنشاط الجماهيري المنظم ، ألا إنها لاتعرف السبيل الى ذلك، فهي تدور حول نفسها وحول "مكتبة الشعب"، التي  تأسست بعد الثورة لتبيع الصحف والكتب الماركسية واليسارية. و كانت تلك الجمهرة تقوم بنشاطات عفوية وردود فعل آنية. فعلى سبيل المثال، أقيم إحتفال في اليوم الثاني لوصولي الى المدينة في نادي الطلبة، إحتفاء بالشاعر المعروف محمد صالح بحر العلوم. وعندما جاء دور الآنسة صبيحة الخطيب لتلقي كلمة ترحيبية بإسم نساء المدينة، خلعت عباءتها والقت كلمتها سافرة. وإستغل تصرفها، وهو الأول من نوعه في تاريخ المدينة من قبل القوى الرجعية فوقعت المذكرات ونظمت الوفود وقابلت المتصرف ومدير المعارف مطالبة بفصلها، من وظيفتها، وكانت مدرسة. وتحرك المثقفون بالمقابل يدافعون عنها بوفود ومذكرات معاكسة، ويشكلون الوفود لمقابلة الآنسة صبيحة لرفع معنوياتها. كل ذلك والمنظمة لادور لها فيما يجري. إستفسرت من علي النور:

ــ لماذا لم ترشحوا بعض الشباب المتحمس لعضوية الحزب وتنظموهم في خلايا؟

ــ لايوجد لدينا نظام داخلي، في حين إن أحد شروط العضوية هو إقرار المنتسب الجديد للنظام الداخلي وبرنامج الحزب. فبالنسبة للبرنامج لاتوجد مشكلة كبيرة، فبيانات الحزب تعوض نسبيا عن ذلك والجميع مطلع عليها. أما بالنسبة للنظام الداخلي فهنا ك مشكلة، فإننا موعودون من قبل الحزب، منذ الأيام الأولى للثورة، بتزويدنا ولو بنسخة واحدة ولكن...

 ــ طيب، و ما العمل؟ إن المهمة الملحة التي تواجهنا هي إيجاد منظمة حزبية قوية وكبيرة لكي نتمكن من قيادة وتوجيه الجماهبر، وهناك إقبال وحماس كبيرين للإنتساب للحزب.

وهكذا فإن شروعنا في بناء منظمة قوية وكبيرة كان متوقفا على إيجاد نسخة واحدة من النظام الداخلي. تذكرت وجود نص للنظام الداخلي في الموسوعة، التي أصدرتها دائرة التحقيقات الجنائية بعد الضربة التي وجهت للحزب عام 1948، كانت موجودة  في المكتبة.. وعثرنا عليها فعلا. كان التقليد المتبع عند ترشيح عناصر جديدة للحزب، هو تثقيفهم بالمواد الخمسة الأولى من النظام الداخلي في إجتماع خليوي، نظرا لأهمية هذه المواد، فهي تتحدث عن طبيعة الحزب وأسس بنائه وطبيعة أهدافه القريبة والبعيدة ونظريته ومصادرها وطبيعة فلسفته. وتتحدث كذلك عن حقوق وواجبات العضو الحزبي. وقد إستنسخنا المواد الخمس، أو بالأحرى إستنسختها العناصر المنوي ترشيحها. ولم يمر وقت طويل حتى أصبح لدينا تنظيمات خاصة للعمال والطلاب والمثقفين.., وكانت هناك لجنة لقيادة المنظمات في المدينة والريف متكونة من علي النور وإبراهيم كرماشة ومدرس جاءنا مرحلا من بغداد إسمه الحزبي حكيم، ولا أتذكر إسمه الحقيقي وسيد هادي ( أبو كفاح ) وأنا سكرتيرها.

وبمساعدة جدية من مراكز المنظمات المهنية تأسست فروع للمنظمات المهنية  والديمقراطية الجماهيرية مثل: إتحاد الطلبة العام ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة والشبيبة الديمقراطية وحركة أنصار السلام ونقابات العمال ونقابة المعلمين... وقد ساهمت المنظمة الحزبية ومعها جميع المنظمات الديمقراطية والمهنية بمختلف الفعاليات والنشاطات دعما للنظام الجمهوري الفتي وإجراءاته التقدمية المختلفة من خلال تنظيم المسيرات وتوقيع المذكرات و...الخ

إضافة الى الشيوعيين والوطنيين الديمقراطيين، كان هناك البعثيون والحركيون (حركة القوميين العرب) على الساحة السياسية في مدينة كربلاء بعد ثورة 14 تموز. وقد إنعزل الطرفان الأخيران جراء مساهمة أحزابهما في المؤآمرات على النظام.

كانت القوى الرجعية والمعادية لثورة 14 تموز، وخاصة الملاكين الذين شملهم الإصلاح الزراعي وحوشيتهم والمشايخ المستفيدين منهم، تطمح الى تحويل مدينة كربلاء الى مركز معارضة للنظام الجمهوري الفتي، وكانت ترى فيه  أنسب المدن المقدسة لذلك، مستخدمين بعض رجال الدين لهذا الغرض، ومستغلين نزعتهم ضد الإصلاح الزراعي وضد مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات. وقد إستخدموا وسائل عديدة لتحقيق هدفهم، ولكنهم فشلوا بفضل يقظة القوى المؤيدة للعهد الجديد. ومن أهم الفعاليات التي قاموا بها خلال السنة الأولى من الثورة هي:

1ـ بناء على توجيه حزبي، سافر وفد كبير جدا منا الى بغداد لتهنئة الملا مصطفى البرزاني بسلامة عودته الى الوطن؛ وكان معظم رفاق المنظمة وكل قيادتها ضمن الوفد. عند عودتنا شهدنا شوارع المدينة مملوءة بلافتات كبيرة تحمل شعارات معادية، ضمنا أو صراحة، للشيوعية والقوى التقدمية، والمغلفة بعبارات دينية ومنها شعار " الشيوعية كفر وإلحاد" ! وإندهشنا للأمر، وأخذ يسائل بعضنا البعض الآخر( شصاير؟... صاير إنقلاب؟!) تدارسنا الموضوع ورأينا، بأن سكوتنا سيكون البداية لزحف الرجعية، فقررنا إنزال جميع الشعارات، ونفذ ذلك بسرعة وبدون عوائق.

في اليوم التالي أغلق سدنة الروضة العباسية أبواب صحن العباس(ع) أمام الزائرين إحتجاجا على إنزال لافتة كانت مرفوعة على أكبر وأبرز أبوابه، وهو الباب المواجه لشارع العباس، ولم يكن الشعار معاديا لأحد، وكان مجرد ترحيب بالزائرين. وإدعى سدنة الروضة بان اللافتة مرفوعة منذ بضعة أيام ولا علاقة لها بالشعارات الأخرى. سويت المسألة بعد أن قام الرفيقان، اللذان أنزلا الشعار وهما الشهيد الطبيب كاظم الرماحي ( قتله البعثيون في عيادته عام 1991 لمعالجته جرحى الإنتفاضة) والفقيد مهدي الصافي، بالإعتذار لهم.

2ـ أحيانا، يقيم السيد محسن الحكيم لبعض الوقت في كربلاء ، وعندما كان يأتي للصلاة في إحدى الروضتين ماشيا. كان يتجمع حوله عدد لايزيد عن الخمسين شخصا، بينهم عدد من الشقاوات أحدهم إسمه حسين عجمي، يهتفون " الله أكبر والموت للشيوعية ". وبعد بضعة أيام  تغير الهتاف الى " الله أكبر والعزة للإسلام ". وقيل في حينه إن متصرف كربلاء أرسل للسيد الحكيم من يخبره بأن الشعار الأول قد يسبب فتنة بالمدينة ورجا منه أن يطلب من مرافقيه الكف عن ذلك . وقد نجحنا في حينه بإصدار بيان سياسي مشترك، وقعه الى جانبنا الوطني الديمقراطي والبعث، يدعم الثورة ويدعو الى وحدة الصف ونبذ الفرقة ويدين الرجعية و...الخ. وقد " ماطل " الحزبان كثيرا في التوقيع عليه، ولم يوقعاه إلا بعد مغادرة السيد الحكيم للمدينة.
 
3ـ  في عيد المولد النبوي وصلنا خبر يفيد بأن تحشدا رجعيا كبيرا سيحصل في كربلاء تحضره شخصيات وقوى إسلامية متشددة من جميع الطوائف، وبعد الإنتهاء من الإجتماع سيتوجه حشد  منهم الى مكتبتنا لتحطيمها. عند إستلامي الخبر كان هناك إجتماع للجنة منطقة الفرات الأوسط ، وكنت عضوا فيها. تناول الإجتماع الموضوع وقرر: تحشيد كل قوى منظمة كربلاء في المدينة والريف للدفاع عن المكتبة، التي كانت بمثابة مقر للمنظمة، ومعلما شيوعيا في المدينة. 

عصر ذلك اليوم تقاطرت الوفود الإسلامية المتشددة من المدن القريبة لكربلاء ،لاسيما بغداد. ونصبت مكبرات الصوت في الشوارع والأماكن العامة لتنقل الحفل حيا الى أوسع نطاق. لم يكن من الممكن إخفاء تحشدنا، فقد إمتلأت الأزقة المجاورة للمكتبة بالعمال والفلاحين وهم مسلحون بمختلف الأسلحة، غير النارية، ( توثية، جراز، مكوار، قامة، جنتيانة، خنجر، سكينة، بوكس حديد و...الخ). وكانت الأسلحة مخفيّة، وإخفاؤها كان إسهل على الفلاحين الملتحفين بعباءاتهم.

مع غروب ذلك اليوم وقفت سيارة متصرف (محافظ) كربلاء، عبود الشوك، وكان يحترم آراءنا ويقدر مطاليبنا، وربما ، أصبح، لاحقا، متعاطفا معنا، أمام المكتبة وناداني وإستفسر مني:

ـ ها...هاي شنو هالتجمع؟ (كنت متوترا وأردت أن أشعره بخطورة الوضع وبجدية موقفنا، فقلت له )
ـ هذا مشق
ـ شنو يعني مشق؟ ( أجابه مرافقه: إستعراض المتطبرين عشية التطبير)
ـ ليش شكو شصاير؟
ـ سمعنا يريدون يكسرون المكتبة واحنا مستعدين إندافع عنها.
ـ فرقهم...فرقهم رجاء. محد يعتدي على المكتبة... فرقهم!
ـ مانكدر نتفرق قبل إنتهاء الحفل.

غادرنا بعد أن طمأننا على عدم تعرض أحد للمكتبة، وطمأناه على المحافظة على النظام والهدوء إذا لم يتعرض لنا أحد، أما إذا إعتدى أحد علينا فسنعطيه درسا لن ينساه طوال عمره! توجه المتصرف الى الحفل، ويبدوأنه حذر المعنيين من مغبة الإعتداء علينا. وفعلا لم يحصل ما يعكر الأجواء، وتحاشا الخطباء كلمات التحريض والإستعداء الواضحة وليس المبطنة. وتفرقنا، بعد أن تأكدنا من إنتهاء كل شيء، وبمعنويات عالية، لنجاح خطتنا في إحباط محاولة الإعتداء علينا.
يتبع
[/b][/size][/font]

76
ذكريات
سنتان مختفيا في الكوت!
( 4 ــ 4 )
[/b]
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

بعد إنتقال عائلتي من كربلاء الى بغداد ـ الكاظمية، في بداية عام 1961، وكان يتولى مسؤوليتها أخي حميد، لتكون بيتا مركزيا ﻟ (لتم)، كنت اسافر الى بغداد بمعدل مرة واحدة في الشهر، لأقضي يومين في بغداد مع العائلة وأصدقائي وأحضر مسرحية أو فلما، وكنت التقي الشهيد حسن عوينة عادة ، عضو (لتم) والمسؤول المباشرلأخي حميد، أوسكرتير (لتم) أحيانا. وقبل إنتقال العائلة كنت أيضا أسافر الى بغداد بنفس الوتيرة واقيم عند أخي قاسم، وهو موظف في بغداد.

في أحدى سفراتي في  صيف 1961، بُلغت بموعد مع الرفيق عمرعلي الشيخ ( أبو فاروق )، عضو اللجنة المركزية آنئذ. أخبرني عمر، في لقائي معه، بأن لقائه بعضو المحلية أبونجاح ( أسعد خضر)، الذي إنتقل حديثا الى الكوت كموظف في البنك، لم يتحقق. ويريد موعدا جديدا. ويريد أيضا رفيقا جيدا، كتوما وضبطه الحزبي عاليا، ويتمكن أن يدير نشاطه دون توجيه يومي، وذلك للعمل مع تنظيمات الجنود في الثكنة التي تأسست في الكوت. اخبرته بأني لم ألتق أبو نجاح بعدُ، ولكن صلتنا به وثيقة، والرفيق، بالموصفات المذكورة، متوفر. وعندما لاحظت عليه الحيرة في تحديد موعد لقاء مع أبي نجاح، إقترحت عليه أن يأتي معي للكوت لينجز لقائه مع أبي نجاح و يلتقي بالرفيق الذي سينسب للعمل مع الجنود. عندما لاحظت عليه التردد من الناحية الأمنية، تعهدت له شخصيا  ( ضاربا الكف اليمنى على الجهة اليسرى من صدري ) بسلامة السفرة وجدواها. أخبرني بأنه لايظن بأن ( الربع )ويقصد قيادة الحزب أومرجعه الحزبي في القيادة، يوافق على سفره لأسباب أمنية، وفي حالة الموافقة فسيأتي في اليوم التالي في الموعد الذي إتفقنا عليه،تحوطا، لهذا الإحتمال.

جاء عمر علي الشيخ للموعد وسافرنا الي مدينة الكوت، من كراج يقع في شارع الكفاح. عند وصولنا المدينة، أجلست عمرا في مقهى منزوي، وقريب لمجال تحركي، وذهبت لأخبر رضا القصاب ان يرتب موعدا سريعا مع اسعد خضر، وغادرته واعدا إياه بالعودة بحدود ساعة واحدة. أخذت عمر وذهبنا الى بيت المعلم الشهيد صبيح الناشيء( وهو الأخ الأكبر لنعيم الناشيء الذي ورد إسمه في مسلسل "الهروب من معتقل خلف السدة" ) وإستلمه عمر لينيط به تنظيم الجنود. عدنا الى نفس المقهى وجلس عمر ينتظر عودتي حاملا له موعدا مع أسعد. لم يكن رضا القصاب قد عاد. عدت الى المقهى فوجدت عمر يمشي مع شخص ضئيل الحجم، مشية عادية، فتصورت الشخص بأنه أسعد، وقد التقى به عمر صدفة. تعقبتهم مناديا بصوت خافت نسبيا " أبو فاروق " فذهب ندائي هواء في شبك. إنعطف عمرومعه الشخص في شارع يقع فيه مركز الشرطة، لم أكن اريد أن افكر باي إحتمال مشؤوم، فناديته بصوت عال أبو " فاروق" فأشر عمر بأصابعه من وراء ظهره، أن أبتعد.

لماذا أبتعد؟ هل إنه معتقل؟ لماذا لم يحاول الهرب؟ لماذا لايستعين بي على تحقيق ذلك؟ لم اكن أريد أن أهضم إعتقال عمر، وبقيت معلقا ببصيص أمل. عدت أراقب المقهى من بعيد علّه يرجع! وكنت واقفا في زاوية شارع مقابل المقهى أفكر بصيغة خبر إعتقال عمر التي سأكتبها الى قيادة الحزب ويعصرني الألم والأسف الشديد، عندما وقف أمامي شخص ذكرني في الحال بالشخص الذي كان يسير مع عمر وسألني:
ـ اخي منين انت؟
ـ من بغداد، ليش تسأل؟
ـ شتسوي هنا؟
ـ عندي صديق مسجون هنا أريد أزوره، ليش تسأل؟
ـ راويني هويتك؟
ـ ماشايل هوية.
ـ إمشي ويايّ لمركز الشرطة.
ـ شتحصل لو وديتني لمركز الشرطة ( هاي 3 دنانير، هاي كلما عندي، أنطيك إياها اوعوفني )!
ـ جيبها.

 ما أن مددت يدي في جيبي حتى وضع يده اليسرى في حزامي ومسك ذراعي اليسرى بيده اليمنى، وصاح بصوت عال: إمشي ... إمشي وياي للمركز.

لم أتذكر بأني  بادرت يوما ما في حياتى بإستخدام يدي للإعتداء على أحد. وفي طفولتي وصباي لم إستخدمها يوما، إلا للدفاع عن النفس أو لردع إخوتي الأصغر مني عن سلوك خاطيء؛ وكثيرا ما كان لمضايقتهم أو لتجاوزهم على أحد. لم يخطر كل ذلك على بالى عندما صرت أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فأما الذهاب مع عنصر الأمن وتحمل تبعات ماينجم عن ذلك من إعتقال وإعتداءات، وأما إستخدام العنف في محاولة للهرب. وفي حالة النجاح لم أوفر على نفسي الإعتقال فحسب، وإنما أقلل خسارة الحزب في ذلك اليوم المشؤوم. وفي حالة فشل محاولة الهرب، فالنتيجة هي نفسها، والفرق كمي، الإعتقال وبعض الزيادة في الضرب. لذلك شعرت بملأ جوارحي إن عدم اللجوء للخيار الثاني هو الجبن بعينه، وهذا مالم أكن أرتضيه لنفسي في أي يوم من حياتي.

الشارع فارغ ضياؤه خافت عنصر الأمن ضئيل الحجم ولا يبدو مسلحا. ضممت اصابع يدي اليمنى بقوة  إندمج فيها قهر ذلك اليوم وأنواع أخرى من القهر سببها إنتكاسة ثورة 14 تموز وعواقب تلك الإنتكاسة، لتصبح يدي قوة لاتقهر. توجهت يدي على شكل لكمة، بغتة، في وجه عنصر الأمن فوقع ممتدا أمامي على الأرض. بعد أن مزق ردن قميصي اليسرى. مددت يدي تحت قميصي، موحيا له بأني أحمل سلاح ناري، وقلت له: " والله أقتلك لو تحركت؟! " وقبل أن أكمل جملتي ركضت بسرعة فائقة، تعقبني عنصر الأمن. في أول منعطف كانت هناك مقهى تمتد مصطباتها الملأى بالرواد على الرصيف. ناديت قبل وصولي اليه ( أكمشوه) إمسكوه، لكي أذهلهم واحيرهم بأمري لحظة مروري بهم. بعد ندائي مباشرة سمعت نداء عنصر الأمن ورائي (أكمشوه حرامي)! وإذا بجمع كبير من رواد المقهى يركض ورائي. من حسن الحظ، كنت قد غيرت خطتي قبل لحظات من وصولي الى المقهى؛ فبعد ان ركضت 100 متر شعرت بالتعب لكوني مدخنا؛ فغيرت خطتي التي كانت تستهدف بيت صديق للحزب ، وإخترت، مضطرا، بيت شيوعيين معروفين ولكنه أقرب، ولولا تغير الخطة لكان رواد المقهى قد أمسكو بي وكل ظنهم بأني حرامي. لأن الخطة الأولى كانت تتطلب مني الركض بإستقامة بعد إجتياز المقهى لمسافة طويلة نسبيا، ولم أكن بقادرعلى قطعها بسرعة.

عندما ركلت باب البيت، لم يكن رواد المقهى يبعدون أكثر من 100 متر عني. ولحسن الحظ، مرة أخرى! إنفتحت الباب حالا ودخلت راكضا، لأجد شابتين، تعرفانني، جالستين وحدهن في البيت، منيرة مجيد عباس وقريبتها (ن). قلت لهن ( الشرطة وراي سدوا الباب) هرعت الفتاتان نحو الباب، أما أنا فقد تسلقت السلم لأتحول الى البيت المجاور.

البيت الذي إقتحمته وبيتين مجاورين له، لايوجد بينهما سُترة السطح ( تيغة) يقيم فيها أكراد فيليون، جميعهم محسوبين على ملاك الحزب ومنظماته الديمقراطية. وفي أحد الأيام حضرت إجتماعا للجنة تابعة للجنة مدينة الكوت في البيت الذي دخلته. بعد مرور فترة معينة على الإجتماع، علمنا بأن الشرطة تريد أن تتحرى البيت. عبرونا الى البيت المجاور وعدنا الى مكاننا بعد التحري، حيث لم تجد الشرطة شيئا. صاحب البيت عبد الرزاق رشاد، أخ منيرة غير الشقيق، طلب منا التريث في الخروج من البيت، لحين عودة الجيران ، الذين خرجوا من بيوتهم إثر حادث التحري، الى بيوتهم ثانية. فعلقت قائلا " مع الأسف طلبت من منيرة ان تتلف الأوراق، وإلا لكنا قد تمكنا من إكمال الإجتماع !  فإنبرت منيرة قائلة " ماتلفتها هاي هي موجودة " !! وناولتنا الأوراق. أما نحن فقد إختلفنا في تقييم تصرف منيرة، ففريق منا إعتبره  مبادرة ، في حين إعتبره فريق آخر خرقا ﻟ ( الدسبلين)! وسرعان ما نسينا الأمر، عندما شرعنا بمواصلة الإجتماع، لأن النقاش لم يكن، بالأصل، جديا، وربما كان لتسريب التوتر الذي أصابنا بسبب التحري.

البيت المجاور الذي تحولت اليه كان خاليا من السكان ويلفه ظلام دامس. دخلت في أول حجرة صادفتها وإذا بصحون واكواب تتكسر تحت قدمي. بعد برهة أخذت أتبين الأشياء التي حولي فعرفت إني في المطبخ. جاءت (ن) لتخبرني بأنهن منعن دخول أحد للبيت بدون مختار. واخذن يصيحن ويولولن ليجمعن الجيران وأكثرهم من المتعاطفين معنا. وقد سمعت لاحقا بأن الشرطة وضعت الحراب في صدورهن، ولكن ذلك لم يخيفهن ولم يتزحزحن من مكانهن في الباب. لقد تحيز الجيران لهن، خاصة بعد أن عرفوا انهن الوحيدات في البيت، لسفر عوائلهن الى كربلاء للزيارة، وطالبوا هم ايضا بالمختار. و توقعت (ن) إجراء تحري في البيوت الثلاثة في أية لحظة، وهنالك خطورة  في بقائي هنا. إتفقنا على ضرورة الخروج من المنطقة كلها بأسرع وقت ممكن. صعدنا للسطح. كانت أفضل إمكانية هي العبور على بيت الجيران الذي يقع خلف البيت الذي أنا فيه لكي أخرج الى الشارع الخلفى. ولكن المشكلة كانت، هي إن أهل ذلك البيت قوميون. إستطلعنا البيت عبر سُترة السطح، والبيوت هنا كلها شرقية مكشوفة ، فرأينا إمرأة جالسة وراء ماكنة خياطة في الحوش، وباب الحوش مفتوح على مصراعيه على الشارع، ومرشوش بالماء حسب العادة المتبعة في الصيف. طلبت من  (ن) أن تعبر وتقول للمرأة بأن هناك جندي هارب مطارد وقد لجأ الينا، ويريد الخروج الى الشارع عبر بيتكم... لم أكن أهتم بموافقة المرأة، إنما كان همي أن لاتصرخ، إذا ما رأتني، ظنا منها بأني حرامي. لذلك ما أن تحدثت (ن) معها، حتى خرجت الى الشارع وذهبت الى بيت صديق للحزب الذي كنت أنوي الذهاب اليه عندما شرعت بالهروب  ، وهو نادر عبد الكريم الأخ الأكبر لللفنانة المشهورة الفقيدة فخرية عبد الكريم (زينب) وأخ إبراهيم عبد الكريم عضو لجنة محلية الكوت الذي مر ذكره آنفا.

في مساء اليوم التالي رتبت أمر إنتقالي الى البيت الذي أقيم فيه. كتبت تقريرا تفصيليا للحزب حول إعتقال عمر وهروبي. بعد بضعة أيام وصلتني رسالة جوابية تستفسر عن أسباب عدم هروب عمر وهروبي وحدي، وتريد مزيدا من التفاصيل؟! إستفزني الإستفسار أيما إستفزاز، لأنه ينطو ي على شكوكية أمنية، لم أكن أتوقعها. كتبت جوابا لم ولن انسى نصه في حياتي، وهو " لاتوجد عندي ولا كلمة إضافية على التقرير الذي أرسلته لكم حول الموضوع." أصبت بخيبة أمل نوعا ما. ولكن صممت أن لايؤثر ذلك على معنوياتي. وأقنعت نفسي بأن الأمر لايعدو أكثر من سحابة صيف. وتذكرت الفلم السوفيتي الرائع " الأوراق الحمراء " الذي عرض في بغداد بعيد ثورة 14 تموز، حيث يتعرض بطل الفلم وهو شيوعي مخلص، بسبب مؤامرة بوليسية، الى شكوك القيادة به، ويوضع تحت المراقبة من قبل الحزب. وهو مطارد من البوليس ايضا، ويتغلب على هذا الوضع الصعب، وتبرأ ساحته. بفضل رباطة جأشه ومثابرته وصبره .

إنتشر خبر هروب أبو أمين، بعد أن جندل عنصر الأمن الذي أراد القاء القبض عليه، في منظمة مدينة الكوت. فارتفعت المعنويات، وعزم الشباب على القيام بالشيء ذاته الذي قام به أبو أمين، لو تعرضوا الى حالة إستدعاء أو القاء قبض!؟ وكانت الإستدعاءات والإعتقالات المؤقتة قائمة على قدم وساق، والكثير منها تنتهي بكفالة اوتوقيف لبضعة أيام. وأكثر المشمولين بها هم طلاب ومعلمون ومن غير الصحيح تشريدهم. فدرسنا الموضوع في قيادة المنظمة وتقرر: توضيح الفرق بين حالة رفيق مختفي ويتعرض لإلقاء القبض وبين آخر غير مختفي، فالأول يجب أن يحاول عدم الوقوع بيد البوليس بكل الوسائل الممكنة، أما الثاني فيجب أن يتخلص من الإعتقال بالطرق القانونية.

لم يطل بقائي في الكوت طويلا بعد محاولة إلقاء القبض علي، لصعوبة تحركي. فقررت قيادة الحزب نقلي الى بغداد وضمي الى ( لتم). ومن المعروف إن هذه الهيئة تطلع على شؤون جميع منظمات الحزب المدنية من عضوية الى كادر الى مالية و...الخ، ولا يمكن أن يكون عضوا فيها إلا من تكن الثقة به مطلقة. وفي الحقيقة كنت آنئذ قد نسيت موضوع الشكوك ، لأن التعامل معي كان طبيعيا ولم يثر أي حساسية عندي. بعد سنوات عديدة عندما تطرقنا، عمر على الشيخ وأنا، الى هذا الموضوع،  أخبرني عمر بأنه كتب، بعد إعتقاله، رسالة للحزب يشير فيها ما يعني عدم تدبيري للأمر بشكل جيد. ولم يثر أي شك أمني. وإن سبب الإعتقال هو وشاية من الجاسوس باقر جعفر وقد شاهدنا نركب متوجهين للكوت، وهكذا وصلت إخبارية للكوت.

ملاحظة أبو فاروق حول عدم تدبيري الأمر بشكل جيد، صحيحة. في الواقع بعد وقوع الحادث شعرت بخطأ إجلاس عمر في المقهى، وعدم أخذه الى بيت رضا القصاب تجنبا لكشف البيت له، إذ كان البيت مركزعمل قيادة المنظمة. إن تجنب الكشف غير المبرر، كقاعدة، في العمل السري،أمر سليم، ولكنني طبقت ذلك بجمود. فلم يكن من الصحيح أن أبخل على عضو لجنة مركزية أعرف مدى أمانته وصلابته، الإنتظارفي مقر قيادتنا، طالما البديل هومكان آخر قد يعرضه للخطر.[/size]

77
ذكريات
سنتان مختفيا في الكوت!
( 2 ــ 4 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
إحدى المشاكل المزعجة التي رافقت وجودي في الكوت، هي مشكلة إقامتي وكان حلها يتطلب عائلة ملائمة للعيش معها. ولم نفلح في ذلك، إلا لفترات معينة. فقد ساعدتنا ( لتم ) بعائلة لم تصمد اكثر من شهرين، فقد قتلها الضجر، وعادت الى قواعدها سالمة! وقد أفلحنا في إيجاد عائلة ريفية. أقمت معها أطول فترة، حوالي ثمانية أشهر. كانت عائلة محافظة جدا. لم أدخل غرفتهم سوى مرة واحدة، عندما تمرضت الأم. ولم يدخل أحد منهم غرفتي إلا عندما أكون خارج البيت. وكنت أتناول صينية الطعام من الباب. كان علي أن أقضي الوقت في الغرفة، مادمت في البيت، و كان سميري كتابي وراديو ترانزسستر صغير. وقد هان علي الأمر عندما رُحل إلينا الشهيد داخل حمود حيث شاركني غرفتي. وكنت أستعين، أحيانا، بإخوتي الصغار للإقامة معي خاصة في العطل، عندما لم اكن أقيم مع عائلة. وقد أقام معي لفترات محددة أصغر أخوتي وهم كل من جليل وخليل  وسمير.  واطول فترة قضاها معي، حوالي الشهرين، أخي جليل، وهو أكبرهم ، قبل أن يلتحق بخدمة العلم. أما سمير فكان صغيرا وأخذ يبكي من الضجر طالبا إعادته الى البيت في الكاظمية، ولبيت طلبه في أول فرصة، وبقيت مرة أخرى، وحيدا.

وخلال السنتين من وجودي في الكوت تم إستدعاء مكتب لجنتنا مرة واحدة الى بغداد للإجتماع بنا،  وكان مكونا من إبراهيم عبدالكريم وجبار عبود وأنا. وحضر الأجتماع الرفيق عزيز محمد وكان سكرتيرا للجنة التنظيم المركزي وبمعيته الشهيد صبيح سباهي وعصام القاضي. أتذكر إنهم إنتقدونا لتحشيد عدد كبيرجدا من الفلاحين في المسيرة الفلاحية التي جرت في بغداد في 30 ايلول 1960، لأن ذلك من شأنه أن يجلب إنتباه السلطات ويدفعها لإضعاف الحركة الفلاحية الموالية للحزب قي الكوت. وكانت المسيرة بمناسبة مرور عامين على صدور قانون الإصلاح الزراعي.
فقد كان فلاحي الكوت يشكلون القسم الأكبر من مسيرة إشتركت فيها جميع الألوية.  لقد إستغربنا الإنتقاد، لأن نص رسالة (لتم) الينا كانت تؤكد على ضرورة حشد أكبر عدد ممكن من الفلاحين للمسيرة. وقد أغلق الموضوع بتبادل نظرات الإستفهام بين الرفاق المشرفين. ولم أستغرب نظراتهم لأن الرسالة لم تكن بخط أحد منهم، إنما كانت بخط الشهيد ستار مهدي معروف عضو مكتب منطقة الفرات الأوسط سابقا وسكرتير لجنة التوجيه الفلاحي لاحقا.

في نهاية عام 1960 جرى نقل جميع الرفاق المعلمين الى الألوية الأخرى،  الرفيق الوحيد الذي لم يكن معلما، انتفل قبلهم لآسباب أمنية. وعلى أثر ذلك نقل الينا ككوادر محترفة الشهيدين داخل حمود ومن ثم عبد الأمير رشاد، بوصفهما أعضاء محلية. وجاءنا رضا القصاب، العضو المرشح للمحلية، منقولا من كربلاء الى الكوت، موظفأ بالكمارك. وأخيرا وصلنا الفقيد أسعد خضر، عضو المحلية، موظفا في البنك.  وقدمنا للمحلية الشهيد هلال سليمان وهو فلاح من ريف الصويرة. و عبد شكيح، معلم، مسؤول العزيزية. فتشكلت، تدريجيا، محلية جديدة.

خلال وجودي في الكوت زرت كمشرف بعض منظمات الحزب في اللواء ولأكثر من مرة واحدة ـ  الحي، الصويرة، العزيزية، والنعمانية، وقد التقيت في النعمانية، لأول مرة، بالفقيد أبو عليوي (محسن عليوي) ولم ألتقيه ثانية لإنتقاله الى يغداد. أما إشرافي على منظمة مدينة الكوت فكان متواترا.
واحد هذه الإشرافات مازال طريا في الذاكرة ــ  مع تدهور الوضع السياسي لم تعد لجنة مدينة الصويرة تعقد إجتماعاتها، وكان يقودها الرفيق أبو فهد (إسماعيل محمد مراد)، خلافا لجميع الهيئات الحزبية، لأسباب أمنية. ولم تكن قيادة المحلية مقتنعة بذلك وتعتقد بأن أعضاء اللجنة متطيرين. فطلبت وألحت على  اللجنة المذكورة إتخاذ التدابير الممكنة لعقد إجتماعاتها، ولكن دون جدوى. فتقرران أذهب مشرفا لدراسة الوضع، ومحاولة إيجاد الحلول لذلك على الأرض. 

سافرت الى الصويرة وحضرت إجتماعا للجنة عقد في بيت اخ أبو فهد مساء. بعد أن جرى الإجتماع لفترة ملائمة حوالي ساعة ونصف أو ساعتين وفي الوقت الملائم، إنتقدت اللجنة على تطيرها وكان دليلي على ذلك هو إجتماعنا والذي كان على وشك الإنتهاء، على ما يبدو بسلام. وكان أعضاء اللجنة يتبادلون النظرات، وعلى وشك المباشرة بممارسة النقد الذاتي، عندما سمعنا طرقا على الباب، وإذا برسول( على الأرجح صبية )، يخبرنا بأن الشرطة تجري تحري في بيت أبو فهد و لابد إنها قادمة الى هذا البيت. في لحظة واحدة وقبل أن البس حذائي تبخر جميع الرجال من البيت!

خرجت الى الشارع، وكان الضياء خافتا جدا، أمشي لوحدي متجها الى خارج المدينة. في أول منعطف، وأنا أفكر بعدم معقولية تركي لوحدي هائما في مدينة غريبة علي ، لاحظت من بعيد، رجلا يمشي أمامي طوله يشبه طول أحد الرفاق الذين كانوا في الإجتماع وإسمه عبد الله الفاضل، يلبس الكوفية والعقال ويلتحف بعباءته، فتعلقت بهذا الأمل.
بعد مسافة غير قصيرة لم يعد الرجل يسرع الخطى ، كلما أسرعتها، كالسابق، فلحقت به وإذا به عبد الله بعينه. مشيت بجانبه، أخبرني بأنه تعمد عدم الإتصال بي فورا زيادة في الحيطة؛ وإنه مكلف من المنظمة بحمايتي، وإننا متجهين الى يستانه التي تقع في منطقة جويميسة الشرقية، المشهورة بكثرة بساتينها، وتبعد ثلاث كيلو مترات عن المدينة. وعلمت بأن المشكلة الأمنية عندهم تكمن في ان أربعة من أعضاء اللجنة موظفين فإن لم يوجد أحد منهم في النادي خارج أوقات الدوام يعني هناك اجتماع والبيوت معروفة... ولم يتمكنوا من معالجة هذه المشكلة ! بت ليلة في البستان... وفي صباح اليوم التالي ارشدنى مضيفي الى الدرب المؤدي الى طريق الصويرة ـ  بغداد.
وهكذا عدت بعد عملية إشراف لم تحقق هدفها. ومع تدهور الوضع السياسي حلت مشكلة إجتماعات لجنة الصويرة!؟ فقد شملت رفاقنا الموظفين إجراءات النقل التعسفية! وكانت التجربة درسا لي في السعي الى عدم إستخدام أدلة غير موثقة في محاججاتي.

في ناحية العزيزية كان لدينا أقوى منظمة في قضاء الصويرة ، وكانت المنظمة تضم الى جانب العمال والكسبة والمثقفين بعض  الشخصيات والوجوه الإجتماعية امثال التاجر خلف الدّبي ( ابو صادق )، وكنت من خلاله أتصل بالمنظمة عندما أزورها. والسيد عمار ابو العيس  والمختار نافع محمود. ومنذ خريف 1960 أصبحت العزيزية مركز منظمة القضاء ومسؤولها فيصل حبيب نصر، بعد أن إنتقل منها وظيفيا مسؤولها السابق عبد شكيح. وفي ربيع 1961 حصل في العزيزية حادت فريد من نوعه في اللواء وجدير بالتسجيل.

بناء على توصية من الحزب قامت جميع المنظمات في اللواء بحملة جمع تواقيع على مذكرات تتضمن مطالب محلية بالإرتباط مع المطالب السياسية العامة. وقد نفذ هذا التوجيه من قبل منظمة العزيزية حيث تم جمع 222 توقيعا على مذكرة، معنونة الى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، تطالب بتوزيع اراضي سكنية وتخفيض سعر الوحدة الكهربائية وانشاء معمل للطابوق و....الخ، وختمت بالمطالبة بإنهاء فترة الإنتقال وإرساء الحكم على اسس ديمقراطية... وقد تبين لاحقا ان جميع المذكرات احيلت الى الوحدات الادارية المعنية، من قبل رئاسة الوزراء، للنظر في المطالب المحلية.
ولم يكن رد فعل الوحدات الادارية في الكوت على هذه الفعالية عدائيا، عدى ادارة ناحية العزيزية، حيث كان مدير ناحيتها آنئذ المدعو مهدي الحمداني، الملقب ابو بشرى، وهو صهر عبد الكريم قاسم ( زوج ابنة حامد قاسم شقيق عبد الكريم قاسم )، إستدعى كل الموقعين على المذكرة ( نساء ورجالا ) الى مركز الشرطة واعتبر العمل من تدبير الشيوعيين ويمثل تحديا لسلطته. 
وعندما وصل الامر الى هذا الحد ذهب فيصل حبيب، مسؤول المنظمة، الى مركز الناحية وابلغ مدير الناحية بانه  المسؤول عن كتابة المذكرة وجمع التواقيع عليها. وعلى إثر ذلك  تم اطلاق سراح الموقعين عدا فيصل وثلاثة اخرين هم: صالح عليوي ويحيى اسماعيل وجبار ألوس . وقد زجوا في موقف الكوت، و أطلق سراحهم بعد شهرين بناء على عفو عام عن السجناء والموقوفين السياسين اصدره عبد الكريم قاسم.

مع ممالأة عبد الكريم قاسم للقوى الرجعية، إتجهت هذه القوى مع القوى القومية المتطرفة وبالتواطؤ مع أجهزة ألأمن ودوائر البوليس الى شن حملة إغتيالات  واسعة للشيوعيين والديمقراطيين اليساريين في الموصل وكركوك والرمادي وفي بعض مناطق بغداد وكلياتها. وقد راح ضحية هذه الحملة الغادرة مئات الشهداء وأرغمت الوف العوائل على ترك بيوتها ومحلاتها بل وحتى مدنها، كالموصل مثلاً. وكانت الدعوة تتصاعد من القاعدة الحزبية تدعو الى الرد الحازم على هذه الإعتداءات، مقرونة بقناعة بأنه لو كان هناك مثل هذا الرد من البداية، لما تمادت القوى الرجعية والقومية في غيها. وكنت متعاطفا مع هذا الرأي. لم يكن الحزب ضد الدفاع عن النفس، ولكن هذا شيء وتوجيه المنظمات لتنظيم الرد شيء آخر.

في ربيع 1961 حدث إعتداء على أحد الرفاق وتهديد لآخر في مدينة الكوت. تدارسنا الأمر، وقررنا أن نثقف المنظمة بضرورة وضع حد لهذه الظاهرة قبل إستفحالها. وذلك بالرد الحازم على أي إعتداء أوتهديد. عند تثقيفي للجنة مدينة الكوت ، إستفسر مني مسؤول اللجنة الطلابية : هل يشترك هو ومساعده في اللجنة ( كان ايضا عضوا في لجنة مدينة الكوت ) في الرد. أحسست في حينها بأن جوابي على هذا السؤال سيقرر مصير الخطة. لقناعتي التامة بالرد الحازم، لم أتردد من الإجابة بنعم.
بعد بضعة أيام علمنا بأن إصطداما وقع بين الشيوعيين والقوميين في المدرسة الثانوية وإن أشرس طالب قومي نقلوه بالنقالة الى المستشفى؛ وإن الرفيقين أعضاء لجنة مدينة الكوت،اللذان مر ذكرهما، أعتقلا لمساهمتهما الفعالة في رد الإعتداء الذي وقع على أحد رفاقنا من قبل القومي المذكور. بقى الرفيقان معتقلين أكثر من سنة قبل أن يطلق سراحهما في عفو عام صدر عام 1962. ولكن الإعتداءات توقفت تماما! لأن التوجيه بالرد الحازم ظل ساري المفعول. ليس من الإنصاف مقارنة مدينة الكوت بمدينة الموصل أو كركوك . ولكن هناك وجه للمقارنة بكليات جامعة بغداد وبعض مناطقها التى تعرضت للإعتداءات.

كانت الكوت تمتاز بحركة فلاحية قوية إنبثقت على أنقاض إقطاعيات كبيرة جدا. وكانت الحركة قوية بشكل خاص في منطقة تسمى " ثلث الجزرة " وكانت بحوزة الإقطاعي مهدي بلاسم آلياسين قبل ثورة 14 تموز. وكان هذا الإقطاعي واحدا من أشرس وأقسى الإقطاعيين الكبار في العراق. كان لديه سجن خاص في إقطاعيته. ويستخدم حوشيته في" تأديب " أبناء مدينة الحي عندما تطلب الحكومة ذلك منه. كما حصل في إنتفاضة الحي عام 1956.

وبإنحياز عبد الكريم قاسم الى جانب الملاكين على حساب الفلاحين تمكن الإقطاعي الكبير مهدي بلاسم الياسين، بأساليبه الخبيثة وتواطىء السلطات معه ، من إستصدار أمر بإلقاء القبض على 400 فلاح، أكثرهم من نشطاء الحركة الفلاحية، بذريعة ديون قديمة. وعند دراسة هذا الموضوع في اللجنة المحلية، تقرر عدم الإمتثال لهذه الأوامر المجحفة، القانونية شكليا، والسياسية المفضوحة مضمونا. ولم تعلق قيادة الحزب على موقفنا المثبت في المحضر المرفوع الى ( لتم). وقد ظلت تلك الأوامر حبرا على ورق، بعد بضع ( زركات) مداهمات فاشلة للشرطة على أطراف المناطق الريفية، متجنبة التوغل في عمق المناطق " الحمراء". 

يتبع[/b][/size][/font]

78
ذكريات

الهروب من معتقل خلف السدة
(3 ــ 3 )

جاسم الحلوائي
 jasem8@maktoob.com

كان قاووشنا يضم حوالي 60 معتقلا ، غالبيتهم شيوعيين. وكان الى جانبهم مجموعة من جماعة سليم الفخري وبضعة عناصر مشكوك بوضعهم. كل ذلك تطلب منا تنفيذ الخطة بسرية تامة معتمدين على من نثق بهم. ولكي نتمكن من التحكم ببعض الأمور كان لأبد من إعادة إنتخاب اللجنة الإقتصادية، فالخطة تتطلب التعاون معها، في حين كان في اللجنة بعض العناصر التي لايمكن الركون اليها. وقد تمت هذه الخطوة بنجاح. كانت الخطة تتطلب قص أحد القضبان الحديدية في الشباك الأخير من القاووش ومن شأن ذلك توفير إمكانية لخروج جسم الإنسان من الفتحة. بعد توفير منشار لقص الحديد بواسطة أحد الحراس ، كان علينا إتخاذ التدابير ليباشر الحداد الرفيق تحسين بالعمل. قررت اللجنة الإقتصادية إجراء تنظيف عام في القاعة وإختارت عناصر مأمونة للقيام بضجيج أثناء التنظيف للتغطية على الصوت الذي يصدره المنشار عند قص القضيب الحديدي.
وقفنا عمر علي الشيخ وأنا خارج القاووش بجانب الشباك متظاهرين بالبحث في شؤون المنظمة، لكي لايتقرب احد من المعتقلين الينا وبالتالي الى الشباك، ولإعطاء إشارة الى تحسين لكي يتوقف عن العمل ، عندما يقترب الحارس الذي يمشي ، جيئة وذهابا، على سطح البناية المقابلة ويراقب ما يقع تحت نظره. عندما أنهى تحسين قص القضيب الحديدي أعاده الى محله السابق بواسطة ( قفيصين) أحدهما على اليمين والآخر على اليسار وغطاهما بليفتي حمام. كان هذا الشباك يقع في آخر القاعة قريبا من احدى زواياها التي تستخدم كحمام. وكانت رائحة الزاوية تزكم الأنوف، ولم يكن المكان المجاور لها مرغوب فيه من قبل المعتقلين، وقد احتل رفاقنا المكان تدريجيا، ضمن الخطة المقررة.
كان ضمن الخطة تحضير جسمين إصطناعيين لكي يحلا محلنا. فمن المحتمل إعادة تعداد المعتقلين، بعد خروجنا من الشباك؛ ولتجنب كشف طريقة الهروب، بإبقاء الأجسام المصطنعة لبضعة أيام. ولعدم وجود أي مكان لصنع الجسمين المصطنعين بشكل سري قي القاووش، رتبنا مسرحا لأحتفالات عيد ميلاد الحزب يوم 31 آذار مساءً. وخلف كواليس هذا المسرح  صنع عمر علي الشيخ الجسمين الإصطناعيين حيث حشى البيجامات والقمصان والجواريب بخرق وملابس رثة، وخيط بعضها بالبعض الآخر. وقد وضعت بعد خروجنا من الشباك ملفوفة بالبطانيات في مكاننا. وكانت رجلي الجسم ( البدي) واحدة على الأخرى . والرجل الفوق تتحرك من خلال خيط مربوط بها والطرف الآخر للخيط بيد الرفيق ، المجاور للجسم الإصطناعي ، يحركه إمعانا في التضليل وإبعادا للشبهات عند التعداد.
من المعروف عن عمر علي الشيخ بأنه يدقق كثيرا في الأمور الى حد المبالغة أحيانا. كنت أعطيه الحق في ذلك ، خاصة وإنه كان ضمن عمليتي الهروب الكبيرتين الفاشلتين في سجني الكوت وبعقوبة عامي 1952 و1955، على التوالي. وكنت أطرد فكرة تردده ، ما أن تخطر ببالي . وقبل الهروب بفترة ، وعندما كرر علي بأن بعض رفاق اللجنة يشككون بنجاح خطة الهروب قلت له: " كلما نقترب من موعد الهروب يزداد التردد، أخشى أن يطلبوا إلغاء العملية عشية تنفيذها. ويوم واحد قبل هروبنا طرح قضية عدم وجود هويات شخصية لدينا نحملها بعد هروبنا. قلت له:
 ـ مو تأكدنا محد يسأل عل الهويات.
ـ إذا سألوا، شراح يصير؟
ـ تصير ثورة ردة! ( قلت منفجرا وأضفت ) ناكل فد كروان ويرجعونا لمكانا. شراح يصير أزيد من هذا؟
إفترقنا متكدرين.
إختارعمر علي الشيخ أن يهرب بهيئة حمّال، وقد هيأ دشداشة مرقوعة برقعة كبيرة من الخلف وجاكيت قديم و(جراوية) وهي تماثل ما يلبسه الكوردي في رأسه. أما أنا فقد إخترت الهروب بهيئة طالب جامعي، فإستعرت بدلة جيدة مع ربطة عنق. واستعرت نظارات عربي فرحان الخميسي (أبو رغيد) الطبية.
عندما نمنا في الليل يوم 31 آذار كانت البدلة في فراشي ، وقد لبستها ولبست البيجامة عليها وأنا تحت الفراش ، في النصف الثاني من الليل ، عندما كان الجميع نياما . وفي الصباح لبست الروب على ملابسي بشكل أبدو فيه طبيعيا.

كان عمر علي الشيخ ينسق مع قيادة الحزب.  وقد رتبت الأختام بطريقة كيمياوية . فقد إستلمت ورقتين ، بعد دخول المواجهة. وكان عليّ أن أبلل باطن الرسغ وأضغط الورقة عليه قليلا لينطبع الختم على الرسغ . ويجب معرفة على أية يد يكون كل من الختمين البيضاوي والمربع ، ولاتحتمل هذه العملية أي خطأ، لأن الأمر يختلف من مواجهة الى أخرى. فشاهدت اليد اليسرى لأم شروق في المواجهة وعليه الختم المربع وذهبت الى التواليت وأنجزت المهمة بكل يسر وأتلفت الأوراق.

تم الهروب يوم المواجهة وهو اليوم الأول من نيسان 1966  وصادف هذاالتاريخ في تلك السنة عيد الأضحى؛ فحشد الحزب للمواجهة وكانت أكبر مواجهة يشهدها هذا المعتقل ، فمواجهتي وحدها تسعة أشخاص كبار وعدد من الأطفال. كان يوم المواجهة يوما ربيعيا بهيجا قالت لي أم شروق وقدر متوسط الحجم بجانبها :
ـ طبخت لك تمن باكلة مطبك عل قوزي، أدري بيك تحبها.
ـ شكرا. بس اليوم غدانا سوَ بالبيت.
وأخبرتها بأنها ستكون واختها سميرة ضمن مجموعة مختارة تتجمع حول الشباك خارج القاووش لتغطية خروجنا من الشباك.
بدلا من أن تفرح أم شروق ، فقد خافت وإمتقع وجهها. استغربت.. فقد كانت مراسلة جريئة حتى في العهد الفاشي . سألتها:
ـ شبيج ليش خفتي؟
ـ أخاف يكمشوك ويضربوك كدامي . ما أكدر أشوف هيج منظر.
طمأنتها، وسألتها إن كانت تريد إعفائها من مهمة الوقوف امام االشباك. فأجابت، بشكل حاسم، بالنفي. مع ذلك فلم تتمكن من إداء المهمة بشكل طبيعي . فقد أعطت ظهرها للشباك عند تنفيذ العملية. لكي لاتشاهد ذلك المشهد الدراماتيكي . ولم تلتفت ، إلا بعد أن سمعت صوتي وأنا خارج القاووش.
شروق كبرت وأصبح عمرها ستة أشهر وهي بحاجة الى أب يرعاها. وام شروق موعودة من قبلي أن لا أتركها وحدها، وأنا أيضا أحتاجها. والحزب وحاجته وقضيته.. وهذه المجموعة الواسعة التي تعمل من أجل نجاح الخطة ، كلها عوامل محفزة لخوض المجازفة وبدون تردد ... ولكن آه.. من تردد الآخرين!
قبل إنتهاء المواجهة بحوالي الساعة جاءني توفيق أحمد، وكان ممثلنا أمام الإدارة وله علاقة بممثل للبعث اليساري في قاووش آخر، وقال لي:
ـ يظهر إن الخطة مكشوفة . أخبرني ممثل البعث اليساري بأن أحدهم سمع مدير السجن يقول لأحد الضباط "من يطلعون جيبوهم إثنينهم يمي" ويرى رفاق اللجنة تأجيل العملية !!
ـ وما هو رأي أبو فاروق (عمر علي الشيخ) ؟
ـ ينتظر رأيك.
ـ أحنا نعرف المدير شخص جبان ، وإذا كان يعرف بالخطة ، لأعلن نفيرا عاما في الحال، ووقف أمام الشباك وبيده القضيب المكسور( فاتني أن أضيف وياخذ في هذا البوز صورة لنشرها في الصحف) ليعلن إكتشافه مؤامرة هروب، وبيده الدليل الحاسم. لا أن ينتظر الى أن يخرجا و...الخ. وما لم يات المدير للشباك فالخطة غير مكشوفة . وأرى أن تنفذ. وما سمعه البعثي ، إن صح ما سمعه ، فلا علاقة له بنا . غادرني توفيق ، وقد بدا عليه الإقتناع بتحليلي للموقف، ولم يعد ثانية.
إنتهت المواجهة بعد أن مددت ساعتين بمناسبة العيد. وخرج المواجهون من القاووش . جرى عَدْ المعتقلين وبدلا من مرة، ثلاث مرات في هذه المرة !! تحركت صوب الشباك. كل شيء حسب الخطة المرسومة . عمر واقف في حالة تأهب أقرب مني للشباك . التفت الي متسائلا بحركة بسيطة من رأسه ، هل نباشر؟ أجبته ايضا بحركة بسيطة من رأسي ، نعم . خرج عمر من الشباك وخرجت بعده. وخلال لحظات خلعت، وبمساعدة الآخرين ، البيجامة ولبست الرباط وعدلت قيافتي . أوعزت لأخي حميد بأن يخرج مع ام شروق مبكرا ليحجزا لنا تكسي .
كانت الخطة تقتضي أن أكون حليق الشارب. في المعتقل خففت الشارب تدريجيا وابقيت منه خيطا رفيعا على أن أحلقه عند خروجي من الشياك. كان جورج يعقوب مكلفا بأن يناولي ماكنة الحلاقة. انجزت المهمة بدون مرآة. وقبل أن اعيد الماكنة له ، أشر لي جورج بإصبعه الى مكان محدد على شفته. ففهمت إن هناك بقايا شعر يجب إزالته ، فحلقت المكان المطلوب ثانية ، وإذا بجورج يضرب وجهه بكفيه متأسيا لأن الجرح البسيط أصبح أعمق. إنشغلت بتجفيب الجرح، لقد أصبح ذلك همي الأول والأخير و" نسيت " موضوع الهروب ! و لحسن الحظ، فقد جف الجرح عندما باشرت المواجهة في الخروج ، فالتحقنا بها. وهكذا لم أعاني كثيرا من قلق إنتظار اللحظة الحاسمة !     
كانت مادلين يعقوب ترافقني متأبطة ذراعي اليسرى، وأحمل طفلة صديقة مادلين ، سميرة فرنسيس ، على ذراعي اليمنى . ومادلين فتاة أنيقة تصغرني ببضع سنوات، فكنا نبدو وكأننا فعلا زوجين . إجتزنا أخطر نقطة بسلام ، فما أن إجتزنا النقطة الثانية ، حتى سحبت مادلين يدها من تحت أبطي وركضت أمامي تدفع الناس بيديها تشق طريق لي، لكي اتمكن من السير بسرعة وبدون عوائق. ولم يكن يعوزها سوى النداء: إفسحوا المجال لقد نجح ... في الهروب!! مسكت يدها وأعدتها الى جانبي وذكرتها بأننا لازلنا في المعتقل. وهناك بضع نقاط  تفتيش أخرى وبعدها حوالي نصف كيلو متر لابد من قطعها مشيا. إجتزنا كل ذلك بسلام لنصل الى ساحة فيها جمهور غفير ينتظر وصول تاكسيات فارغة، ولا أثر لأم شروق وأخي حميد. تحركنا لنبتعد عن الجمهور، فصادفنا تاكسي فحجزناه فورا. وما أن تحرك التاكسي بنا حتى صادفنا أخي وأم شروق، فركبوا معنا وذهبنا مباشرة الى بيت عائلة مادلين . ومادلين هي أخت الشهيد أدمون يعقوب الكادر العمالي ، واخت المناضلات فكتوريا ( باسمة) وماريا ورينا والرفيق جورج الذي مر ذكره آنفا. لقد قدمت هذه العائلة، بمن فيهم والدتهم، خدمات جليلة للحزب وقضيته في أصعب الظروف ولسنوات طويلة ، وقدمت تضحيات جسيمة في الطريق من أجل حرية العراق وسعادة شعبه، فهي تستحق كل ثناء.
بعد إستراحة قصيرة غادرنا، انا وأم شروق واختها سميرة ، هذا البيت وتوجهنا الى بيت أخ أم شروق الشهيد جواد عطية، حيث تقيم ام شروق واختها. ترجلنا من التاكسي بمسافة ملائمة بعيدا عن البيت. لأول مرة أصبحنا، أم شروق وأنا، وحدنا مرة اخرى، بعد أن أخذت سميرة شروق وإبتعدت عنا. ذكرتها بوعدي لها بأنني سأهرب إذا ما أعتقلت . أما هي فقد كانت تمس ذراعي ، بين هنيهة وأخرى، لتتأكد من وجودي. كان جسمينا يلامس الواحد الآخر صدفة أوتعمدا، فنزداد شوقا . غمرتنى السعادة وأنا أسير بجنبها. تشاغلت عنها للحظات ونظرت الى الأفق متأملا الكون ، فشعرت بحب أعنف للحرية والحياة والحزب وأهدافه النبيلة.
الخلاصة
كان مهندس هذا الهروب الناجح وقائده الرفيق عمر علي الشيخ . ولم تبخل قيادة الحزب بأي مساعدة ممكنة.. أما مدير التنفيذ فكان توفيق أحمد ومن أبرز مساعديه الرفيق علي عرمش شوكت والشهيدعواد حريجة وكاظم معارج وحميد رشيد الأوسي ( وأمهات هؤلاء ساهمن في التجمع حول الشباك لحظة الهروب) والشهيد رافع الكبيسي والكسان البير و الحداد تحسين وغيرهم من الرفاق. وفكرة كسر قضيب الشباك والهروب مع المواجهة كانت من علي عرمش شوكت، وهي مستوحاة من محاولة مماثلة ، اجهضت قبل التنفيذ ، جرت في سجن الحلة ، وكان علي مساهما فيها ، كما يشير هو لذلك في مقال له.
والفضل في شل التردد في اللحظة الحاسمة ، وإنقاذ الخطة من الإندثار، يعود لكاتب هذه السطور. ولم يكن ذلك لأنني أكثر ذكاء أو جرأة من الذين ترددوا في اللحظة الحاسمة ، بل كنت الأكثر تحمسا للهروب .  لم ينف عمر علي الشيخ تحمسي ، ولكنه عزاه ، كمأخذ علي ، الى رغبتي الشديدة للعودة الى زوجتي . ( ولا أعرف هل هو جاد أم مازح في ذلك ؟)  . و لنفترض إنه جادا. فما الغرابة والضير في ذلك ؟ فالحب ، في نظر ماركس ، " قوة عظيمة وثورية ، يمكن أن يحطم كل القوانين والأصول الإجتماعية. " فما بالك بمعتقل ، غير حصين ، كمعتقل خلف السدة؟!. و في الواقع ، لم أعد لزوجتي حسب ، بل وعدت للحزب ايضا . فقد ساهمت، بعد بضعة أيام من هروبي ، في إجتماع كامل للجنة المركزية ، وانيطت بي مهمة سكرتيرلجنة المنطقة الجنوبية. رحلت مع عائلتي الى البصرة لنختفي فيها سنة واحدة زاخرة بالأحداث والمفارقات ، ولكن هذه قصة أخرى، ليس هذا مكانها. [/size]

79
الإرهاب ومسودة الدستور

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

من المعروف إن هناك علاقة بين الإرهاب وميادين الحياة الأخرى، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والخدمية... و لكن العلاقة الأكثر وثوقا ومباشرة هي علاقة الإرهاب بالسياسة. فمنذ أن تولى قادة الإئتلاف الطائفي مقاليد الحكم أهمل الجانب السياسي ، وإعتمد العنف للقضاء على الإرهاب، وقد فشلوا في ذلك فشلا ذريعا. فوعودهم وخططهم بالقضاء على االإرهاب قي بغداد أولا، ومن ثم التوسع الى المحافظات الأخرى، ذهبت، بعد أكثر من أربعة أشهر، أدراج الرياح، أمام هذا التصعيد، وفي بغداد بالذات، التي شهدت في الأيام الأخيرة أعمالا إرهابية كثيرة فاقت كل الفترات السابقة.
فالمفروض عزل الإرهابيين عن حاضنتهم، وإلا ما أن تختفي إمارة مثل إمارة الفلوجة ، حتى تظهر لنا إمارة تلعفر أو القائم أو سامراء. والآن حديثة التي تنعم بالكهرباء والماء على مدار الساعة! في حين تعاني بغداد شحة لامثيل لها في الماء والكهرباء ، منذ سقوط النظام الدكتاتوري ولحد الآن.

وجاءت بعض صياغات مسودة الدستور وكأنها إستفزازا متعمدا لحاضنة الإرهابيين.  فعقلية بعض قادة الإئتلاف عقلية طائفية حقودة سياسيا، وإلا بماذا يفسر المرء النص التالي في ديباجة مسودة الدستور: " عرفاناً منّا بحقِ الله علينا، وتلبيةً لنداء وطننا ومواطنينا،  واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية والوطنية واصرارِ مراجعنا العظام وزعمائنا ومصلحينا، ووسطَ مؤازرةٍ عالمية من محبينا، زحفنا لأول مرةٍ في تاريخنا لصناديق الاقتراع بالملايين، رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً في 30 كانون الثاني سنة 2005م ... "

الا يعني ذلك، ضمنأ، بأن ملايين المسلمين، الذين لم يكونوا رهائن ولم يمنعهم أحد من المشاركة في الإنتخابات، والتي لم تزحف نحو صناديق الإقتراع يعوزها العرفان بحق الله عليها ؟! هل من الدين الإسلامي أو الأخلاق الإسلامية أصدار مثل هذه الأحكام ضد ملايين المسلمين، وغير المسلمين، لأنهم لم يساهموا في الإنتخابات؟ وهل من مباديء الديمقراطية الإنتقاص من وطنية الملايين ( بل وحتى من وطنية مواطن واحد) لمجرد إنها قاطعت الإنتخابات، فما هو حكمكم  لوصوتت الملايين ضد مسودة الدستور؟  الإسلاموي  "الديمقراطي " ؟!

والأسوء من كل ذلك إنهم يرومون تثبيت مثل هذه الأحكام الإستبدادية في ديباجة دستور مكرس ﻟ " نظام جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي ". لكي تتثقف به الأجيال القادمة !؟ إن مثل هذه الأخطاء السياسية الإستفزازية تصب في مصلحة الإرهابيين لانها تعزز حاضنتهم وتوسعها.

وجاء في المادة 7   من مسودة الدستور مايلي: " يحظر كل كيان او نهج يتبنى العنصرية او الارهاب او التكفير او التطهير الطائفي او يحرض او يمهد او يمجد او يروج او يبرر له، وبخاصة حزب البعث الصدامي في العراق وتحت اي مسمى كان ، ولايجوز ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون.

هل هناك ضرورة لذكر وبخاصة حزب البعث الصدامي في نص الدستور، في الوقت الذي يضمن النص عدم قيام حزب من النوع المذكور في العراق. اليس هذا إستفزازا يصب في طاحونة الإرهابيين؟. ولكن نزعة الإنتقام وضيق الأفق وضعف الشعور بالمسؤولية أو عدم إدراكها، يعمي البصيرة !
 
وفي المادة 40 جاء مايلي: " أتباع كل دين أحرار في ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية." لماذا التأكيد على الشعائر الحسينية؟ اليست هي جزء من الشعائر الدينية؟ وبالتالي لاضرورة لذكرها لأنها تثير الحساسية لدى حاضنة الإرهابيين.

إن مثل هذه الأخطاء السياسية الإستفزازية تصب في مصلحة الإرهابيين لانها تعزز حاضنتهم وتوسعها. وبالتأكيد لا يوجد هناك ما يبرر أعمال الإرهابيين التي حصدت وتحصد عشرت الألوف من أرواح العراقيين البريئة، ودمرت البنية التحتية للبلد، إضافة الى ما كان مدمر أصلا. وحولت حياة ملايين العراقيين الى جحيم لايطاق بأعمالهم الإجرامية. ولكن العقلية التي بيدها مقاليد الحكم غير فادرة على معالجة قضية الإرهاب ولا أية قضية حيوية اخرى هامة، لأنها عقلية ملالي طائفية ! [/size]

80
حل الجمعية الوطنية أفضل من دستور رجعي
 
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

دأبت قيادات الأحزاب السياسية الشيعية والشخصيات البارزة في هذه الطائفة على تأكيدها ، قبل سقوط النظام الدكتاتوري وبعده، إنها لا تستهدف إقامة نظاما دينيا أونظاما مشابها للنظام الأيراني ـ نظام ولاية الفقيه. واكثرَ أكثرية قادتهم من إستخدام مصطلحات مثل: نظام متحضر، نظام ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ويضمن حقوق المرأة ، والشعب مصدر السلطات والمساواة بالمواطنة و...الخ والأقلية منهم أخذ يدرب نفسه على تلفظ بعض تلك المصطلحات كالديمقراطية مثلا، وبالكاد يلفظها بشكل طبيعي وسلس حتى الآن. لأنها لا تستخدم في ايران حيث أقام فيها البعض مدة طويلة وتشرب بثقافتها الدينية ـ ثقافة ولاية الفقيه المعادية للديمقراطية.
أما سلوكهم العملي، فقد طبقوا مايطبق في ايران في كل المحافظات والمناطق التي سيطروا عليها، فهذا هو نموذجهم ومثالهم وليس لديهم نموذج آخر،(كما هو الحال بالنسية للسلفيين القتلة فليس لديهم نموذج سوى نظام طالبان المقبور.)، فتدخلوا في ما يلبس الناس وما يأكلون وما يشربون وتدخلوا حتى في طريقة حلاقتهم.
وإستخدموا ولا يزالون العنف والإرهاب لإرغام المواطنة العراقية والمواطن العراقي للإمتثال لأوامرهم وتطبيقها بإسم " النهي عن المنكر" متناسين أن " لا إكراه في الدين" ضاربين عرض الحائط من يخالف سلوكهم ومذهبهم غير مراعين تقاليد وعادات المواطنين من الأديان الأخرى.
ومن هذه الزاوية من زوايا حقوق الإنسان فإن ما يجري هو أسوأ مما كان في  النظام الدكتاتوري المقبور. فلا غرو أن يترحم البعض عليه .
ويحاول القادة المذكورين إضفاء صبغة طائفية على القوات المسلحة. فقد رفعت هذه القوات  صور وشعارات طائفية في الإستعراض الذي بثته القناة العراقية في يوم 16 من الشهر الجاري ، والذي جري في مدينة النجف لدى إستلام القوات المسلحة العراقية مهام الأمن من القوة متعددة الجنسيات في المدينة المذكورة ، غير آبهين بمخاطر تفشي هذه الظاهرة الخطرة في القوات المسلحة ، إن لم يجر تداركها بسرعة .
ما يميز قيادات الأحزاب السياسية الشيعية والشخصيات البارزة في هذه الطائفة هو عدم مصداقيتهم . فهم يقولون ما لا يبطنون ولايأبهون بإنقلابهم على ما يقولون 180 درجة في أول فرصة سانحة، ويعتبرون ذلك من فنون السياسة ، مؤطريه بأيديولوجية التقية!. ولانهم لايتعاملون مع السياسة كعلم إجتماعي فإنهم يرتكبون الحماقات ويعرضون أنفسهم للسخرية أمام الشعب والعالم .
فعلى سبيل المثال: حذف عبارة (الديمقراطي الفيدرالي ) من القسم الذي أدته وزارة الجعفري أمام  الجمعية الوطنية ، وإعادة القسم بنصه الصحيح ، ثانية ، أمام كامرات التلفزة .
أو إستغلال السيد عبد العزيز الحكيم ، عندما ترأس مجلس الحكم ، غياب العديد من الديمقراطيين عن حضور إحدى جلسات المجلس ، فتصور ،  بأنه يتمكن من تمرير القانون 137 الرجعي السيء الصيت ويلغي بموجبه قانون الأحوال الشخصية الذي يحمي حقوق المراة والأبناء ويحافظ على سلامة العائلة العراقية . والذي لم تتجاسر ، منذ صدوره عام 1959 ، أية حكومة على إلغائه مهما بلغت رجعيتها .
وخاب ظن الحكيم بفضل يقظة وكفاح المنظمات النسوية الديمقراطية وبفضل السيد بريمر. فقد الغي القانون رقم 137 ولم يتشفع لمؤيدي القانون زعلهم، وخروجهم إحتجاجا من الأجتماع بعد التصويت على الغائه.
إن السلوك الشخصي لقادة الأحزاب  الشيعية وشخصياته البارزة  له دلالته فيما يتعلق بعدم تطابق أقوالهم مع أفعالهم. فالسيد إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء ، الذي فشلت حكومته فشلا ذريعا على جميع الأصعد ة ، الأمنية ( في يوم 17 آب 43 قتيل و 76 جريح!؟) والخدمية والإقتصادية والعلاقات الخارجية ، كان قد بهر ، لبعض الوقت ، بعض الناس، حديثو العهد بمثل هؤلاء القادة ، من كثرة تكرارهم المصطلحات الديمقراطية البراقة.
وإذا به يقف أمام الجمعية الوطنية بعد أن اصبح رئيسا للوزراء ليتعوذ ويبسمل ويحولق ويدعو، بفحوى كلام لا يخلو من الطائفية ، أمام الجمعية الوطنية ، ليذكرك ڊ (روزه خون) من الدرجة الثانية  في حسينية كربلائية. ويطلب السيد الجعفري من الأقليات الدينية والطائفية إحترام عادات وتقاليد الأكثرية ، متجاهلا بأن التحضر، ( وهذه الكلمة ومشتقاتها هي الأكثر إستخداما في أحاديثه التي يريد أن يظهر بها عصريا ) يتطلب هنا الأحترام المتبادل ، خاصة وهو  رئيس وزراء كل العراقيين.   
لقد فرح البعض ، ولبعض الوقت ، ممن لم يعانوا من نزعة  عنصرية وبالتالي ممن ليست لديهم حساسية من اللقب الإيراني ، بعالم الذرة الشهير حسين الشهرستاني . معللين النفس بإنه لابد وان يكون قد قرأ بجانب العلوم الطبيعية بعض ، إن لم يكن الكثير ، من الكتب السياسية والإجتماعية والإقتصادية وربما الفلسفية، وبالتالي فهو متنور. فهل هو كذلك حقا ؟ لا والف لا!؟
فقد صرح في يوم 16 من الشهر الجاري بأنهم ( الإئتلاف الوطني ) مستعدون للتوقيع على مسودة الدستور الآن . ومن المعروف إن الإئتلاف طرح صياغات جديدة ، ليصعد نقاط الخلاف ﺍﻠ 18، والتي تقلصت الى 3 فقط ، الى أكثر من ستين نقطة عشية التوقيع على المسودة . ليحولها الى مسودة رجعية أخشى ان لاتكون قابلة للإصلاح .
وهذا التحول المفاجىء في الموقف ، يذكرنا بعشية التوقيع على قانون إدارة الدولة العراقية في المرحلة الإنتقالية. فعشية التوقيع أمرت المرجعية الشيعية بعدم التوقيع. وكان ماكان من تحفظات مع التوقيع. لا أعرف تحديدا ما هو دور الشهرستاني في كل ذلك ؟ فهو المستشار السياسي للسيد السيستاني. وأظن بأن ليس هناك من هو أجدر منه  في تقديم المطالعات وإقتراح التعديلات على مسودات الدساتير، المؤقتة والدائمية للسيد السيستاني .
وأظن إن الجهة التي تقف وراء التحول الأخير في موقف الإئتلاف المعرقل للوصول الى إتفاق، هي نفس الجهة التي عرقلت التوقيع على قانون إدارة الدولة ، وإستنادا على مطالعات الشهرستاني . ومما يقوي تلك الظنون تصريح السيد الشهرستاي لإحدى الفضائيات في فترة تشكيل وزارة الجعفري بأنه سيتفرغ لكتابة دستور بلاده . أما السيد الحكيم فهو الواجهة. ولكن ييقى هناك سر أكثر مما هو سؤال ، وهو لماذا تطرح التحفظات والنقاط الجديدة عشية التوقيع؟ أعتقد لا يعرف ذلك سوى المطلعين على ميكانيزم العلاقة والعمل في المرجعية .
لندع الظنون جانبا الآن ، فقد صرح الشهرستاني بإنهم( الإئتلاف ) مستعدون للتوقيع على المسودة الآن ( والسؤال من أين له مثل هذه الصلاحية؟ فلا هو رئيس الإئتلاف ولاحتى ثاني شخصية فيه ، فذلك يعيدنا الى الظنون) وهذه المسودة عبارة عن دستور رجعي يحاول أن يسحب العراق الى الوراء مئات السنين  وذلك  بتحويل العراق الى دولة دينية ، من خلال جعل الدين المصدر الأساسي للتشريع. وسيتطلب ذلك التنكر تدريجيا لأي لائحة أو ميثاق دولى بما في ذلك لائحة حقوق الإنسان وإعادة النظر في جميع القوانين العراقية تدريجيا، وفي مقدمتها قانون الأحوال الشخصية ، وهو قانون وضع من قبل أكبر الفقهاء و بإستشارة العديد من كبار رجال الدين المتنورين من مختلف المذاهب الإسلامية الخمسة.
ولا تخالف مواده ونصوصه الدين الإسلامي بل تستند عليه ، ولكن ليس على مذهب واحد منه. إنه منجز حضاري إسلامي يفخر به العراقيون وسيدافعون عنه رجالا ونساء أمام قوى الظلام والجهل التي تريد العودة بالمرأة الى عهود العبودية . وبإسم الشريعة الإسلامية يريدون إعطاء الحق للزوج بضرب الزوجة ، وحصر شؤون الطلاق بالزوج، وإباحة الزواج بالقاصرات ، وزواج المتعة ، والسماح للرجل بالزواج بأربع نساء دون الرجوع للزوجة ، ورجم المرأة بالحجارة .
 وليكتمل التماثل مع النظام الإيراني، يطالب الإئتلاف بان لاتقتصر عضوية المحكمة الدستورية على القضاة ، بل وتضم الى جانبهم رجال دين كما هو الحال في ايران . وان " تحترم الدولة المرجعية العليا وخصوصيتها  ولاتتدخل في شؤونها". يعني وضع المرجعية فوق القانون في دولة تزعم بأنها دولة قانون!؟ إن ما يريده الإئتلاف ومَن وراءه ، ماهو إلا ولاية الفقيه الإيرانية على مقاس عراقي .
إن المرجعة الشيعية العليا لها قدسيتها لدى بسطاء الناس ، ومن غير الصحيح زجها في السياسة والاعيبها فذلك لا من مصلحتها ولا من مصلحة الشعب العراقي . وحتى لو أرادت المرجعية أن لاتتدخل في السياسة فإن قيادات الأحزاب الشيعية ستحتاجها وستلجأ اليها لتسحبها للتدخل، حتى في تفاصيل العمل السياسي ، كما هو الحال في الإنتخابات السابقة. مما يؤدي الى إرباك أوضاع البلد ، خاصة وإن المرجعية خارج نطاق المسائلة عمليا . فالدستور العراقي يجب أن ينص على عدم تدخل المرجعية في شؤون الدولة. 
ولكي يصعب تنقيح المسودة ، أو لإعطائها طابعا إسلاميا صرفا ، أدخلوا في زوايا متنها تعابير من قبيل " الدستور يصون الشعب العراقي المسلم" و" الدستور يصون الإسلام" ولم يكتفوا بمطلبهم الطائفي مكانة المرجعيات ، فأضافوا لها: "إحترام الدستور للشعائر الحسينية" ويريدون إضافة "العلي" للقسم ليصبح القسم "أقسم بالله العلي العظيم". مع ان غالبية فلاسفة الاسلام يعارضون إلحاق اية صفة بالله ، كونه هو الخالق وهو أجل من ان تلصق به صفة كالعظيم او العلي .
وعالم الذرة المشهور حسين الشهرستاني مستعد للتوقيع ألآن هو والإئتلاف معه على مسودة الدستور الرجعي هذا. فليسوا هم المعرقلين ، إنما المخالفين!؟
واحدة من أبرز سمات القادة السياسيين في إيران ، هو تعاملهم مع الجمهور كتعاملهم مع قطيع من الغنم . مستغلين بساطة وسذاجة البعض وجهل البعض الآخر. إنهم ينسجون أخبارا لا أساس لها من الصحة أو غير دقيقة ومن ثم يحللونها ويخرجون بالإستنتاجات منها وينهونها بمفاجأة لأستجداء صلوات تغطي الحديث من أوله الى آخره.
جميع خطب قادتهم أمام الجماهير بعد صلاة الجمعة على هذا المنوال ، واكثرهم حيلة في هذا الميدان الشيخ رفسنجاني وأقلهم ، والحق يقال ، السيد خامنئي . ويبدو إن قادة الأحزاب السياسية الشيعية في العراق ، على الأقل بعضهم ، ينظرون نفس النظرة للعراقيين فهم يحسبونهم قطيعا من غنم . وإلا كيف يفسر المرء تصرفهم بإلغاء عبارة (الديمقراطي الفيدرالي ) من القسم أو محاولة تمرير القانون 137 السيء الصيت.
والآن يأتي السيد الشهرستاني ليقول لنا ، بعدأن صعدوا نقاط الخلاف من ثلاث نقاط الى 66  نقطة عشية التوقيع ، بأننا مستعدون للتوقيع الآن . إن الشهرستاني ومَن وراءه ومَن يؤيده من الإئتلاف مسؤولين عن تأخير التوقيع على الدستور وإذا ما أصروا على مطاليبهم فسيتحملون مسؤولية حل الجمعية الوطنية.
كانت القوى الديمقراطية الحقيقية ، وليس أدعياء الديمقراطية الذين يريدون الآن تأسيس دولة دينية في العراق ، تطمح الى دستورعصري ، يتماشى مع متطلبات بناء عراق ديمقراطي مزدهر ينعم فيه الشعب العراقي بالحرية والأمان وبالسعادة والرفاه ، بعد أن عانى ماعاناه من النظام الدكتاتوري البغيض ،  ومايعانيه منذ سقوط النظام وحتى يومنا هذا من قتل ودمار ورعب مستديم على أيدي أيتام النظام السابق ومرتزقته وحلفائهم السلفيين أنصار نظام طالبان الساقط  .
ومع الأسف الشديد ، تتكرر بعض المشاهد الطالبانية في عراقنا الحبيب. فقد أورد موقع " الجيران" الخبر التالي في 14 من الشهر الجاري معززا بصورة من "غابة من السواد المطلق الكثيف دون وجوه اوملامح أو سمات سوى أصواتهن الهادرة تحركت في مظاهرة في البصرة اليوم الأحد  شاركت فيها عشرات النسوة من المنضويات تحت رايات  الاحزا ب الدينية في البصرة.. انطلقن وهن يطالبن بأعلى أصواتهن  بتطبيق الشريعة الإسلامية في مجال حقوق المرأة و الغاء  جميع حقوقهن التي نص عليها قانون الأحوال الشخصية الرقم 188 سنة 1959 . ويرفضن تلك الحقوق التي تطالب بها المنظمات النسوية العراقية .
" أهذا هو دور الأحزاب والمنظمات في رفع المستوى الثقافي والفكري لأنصارهم؟! حتى في ايران يستهجنون البرقع على الوجه.
أبهذا الزي يمكن أن تساهم المرأة في مختلف الأنشطة لبناء مجتمع متحضر وعصري كما يزعم بعض قادة الإئتلاف ، رياء .
 كان المؤمل أن يأتي الدستور متماشيا مع روح العصر الذي نعيشه ، عصر التطور التكنولوجي الهائل والعولمة والإستفادة من إيجابيات ذلك قي محاولة جدية للحاق بركب الدول المتحضرة والمتطورة . ولكي تواصل تلك الدول المتطورة دعمنا ماديا ومعنويا في كل المجالات وعلى جميع الأًصعدة. وأن ياتي معبرا عن طموحات القوى الحية والمتنورة في المجتمع ومعززا الثقة بالنفس متطلعا الى الأمام الى المستقبل ، ليتمكن العراق من أن يكون نموذجا في العلم والتكنلوجية وفي نظامه السياسي الديمقراطي الإتحادي.
جاءت النواقص والثغرات الرجعية  في مسودة الدستور من قوى الإسلام السياسي الطائفي الشيعي والتي تطمح الى إقامة نظام ديني شمولي ، نظام ولاية الفقيه على مقاس العراق ، مع بعض الرتوش الأكثر رجعية ، وهو نظام أسوأ من نظام الدكتاتور صدام ، من حيث الموقف من حقوق الإنسان ومساواة المرأة  بالرجل في الحقوق والواجبات ، وبالتالي لايمكن قبوله ، وإذا كان الخيار بين دستور رجعي أو حل المجلس الوطني فلا بد من إختيار ألاخير، ولنبق مؤقتا على قانون إدارة الدولة.
فالقوى الكردية تعرف حق المعرفة بأن حقوق الشعب الكردي القومية لا يمكن أن تتحقق في ظل دولة دينية ، إنما تتحقق في ظل نظام ديمقراطي ومن غير المعقول أن يلدغ المؤمن من جحر واحد مرات ومرات.
 إن  الإئتلاف ومن ورائه ( إن كان هناك من ورائه ) يراهنون على لهفة الأمريكان لإنجاز الدستور في موعده المحدد. ولكنهم يخطأون ، مرة أخرى ، إذا ما تصوروا بأن الأمريكان يقبلون بدستور يؤسس لدولة دينية. وإذا جاز للأمريكان أن يضغطوا ، فليضغطوا على الإئتلاف ، خاصة وأن ألأخير كف عن إعتبار القوى الأجنبية قوى إحتلال ،  بل ويعتبرها قوى صديقة.   
 والإئتلاف إن تراجع فلن يتراجع إلا بتهديدهم بحل المجلس الوطني ، لأنهم لايتمكنون من ضمان أغلبية في المرة القادمة ، خاصة إذا ما شكلت القوى الديمقراطية تحالفا من أقصى اليمين الى أقصي اليسار مقابل الجبهة الطائفية .[/size]

81



ذكريات ... العودة للوطن


(2 ــ 2 )

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
 

قررت مع نفسي أن أحتفل  بما يليق بتوديع براغ  والعودة للوطن بكل ما تعنيه هذه العودة من شوق للوطن وللعائلة ، التي أفارقها لأول مرة حوالي السنتين ، وقبل هذا وذاك ألإطمئنان على سلامتها وسلامة أخوتي بشكل خاص بعد أن إنقطعت أخبارهم عني منذ إنقلاب شباط الفاشي . هذا اضافة الى الشوق للإلتقاء بالرفاق والمساهمة في العمل الحزبي والسياسي  في إعادة بناء الحزب .  وحجزت في المطعم الذي أرتاده عادة ، و دفعت نصف مدخراتي من النقود .

وصلت المطعم في الوقت المحدد الساعة العاشرة من مساء يوم 31 كانون الأول ، فلم أجد أحدا. وعرفت بأن الناس سيبدأون بالمجيء بعد نصف ساعة .  عند عودتي الى المطعم ثانية لمحت بضعة أزواج كهول على بعض الموائد. جلست بعض الوقت. لم تعجبني الأجواء خاصة بعد أن جاء المشاركون في مائدتي وهم ثلاثة، رجلين وإمراة ، وجميعهم كهول!. قررت البحث عن مكان آخر أحتفل فيه حتى لو أدى ذلك الى إنفاق البقية الباقية مما أملكه من نقود . ذهبت الى صالة الشبيبة التي مر ذكرها التي تقع غرب العاصمة ، كانت الأجواء بهيجة على مايبدو من خلال التجمع الذي في الباب ، ولكن الدخول كان مقتصراً على الحاجزين مسيقا. وباءت محاولاتي للدخول الى القاعة بالفشل .

عدت أدراجي قاصدا أحد المطاعم الغالية . ففي هذا المطعم يوجد عرض جميل في الأيام العادية ولابد إنه أجمل في هذه المناسبة . هنا أيضا لم أجد مكانا بعد ان بحثت عنه سوى عند البارالذي كان هو الآخر مزدحما ولكن أجواء الصالة بهيجة ، الساعة قد تجاوزت الثانية عشر. اعلنت إستراحة وتوقف عزف  الموسيقى واحتل الناس  أماكنهم ليأكلوا ويشربوا بإستمتاع . كنت واقفاً والجوع  والعطش قد غلبني والتعب اعياني، وأنا لا أتمنى أكثر من كرسي على البار  لأجلس وأعطي ظهري للصالة ووجهي نحو  البار والبارمن الكئيبين. قررت وضع حد لهذه المهزلة ، أو بالأحرى الحماقة ، والعودة الى مكاني المحجوز والمدفوع الثمن في المطعم الأول ، ومن حسن الحظ لم يكن المكان بعيدا. 

دخلت مطعمي! لم أصدق عيني ما تشاهده من جو صاخب ومَرح وبهيج ، والأوراق الملونة واللماعة على ملابس الناس وهم في مزاج أكثر من رائق . اخذت مكاني على المائدة وجدت إستحقاقاتي من الأطباق والمشروبات أمامي . طلبت قنينة  نبيذ وشرعت أشرب وأكل والعن في سري تسرعي في إتخاذ قرار الخروج من هذا المكان وتعريض نفسي الى البهذلة . شرعت الفرقة الموسيقية بالعزف ونهض الناس للرقص وأنا مشغول بالطعام ومراقبة الأوضاع ، وإذا بسلسلة ورقية تقع علي كتفي . إلتفت ، وإذا بأربع نساء جالسات على مائدة في أحد الأركان يضحكن بخفِر نسائي جذاب ، أومأت برأسي لهن مبتسما رادا التحية بأحسن منها. وتحرش النساء بالرجال في حفل عام ليس أمر عاديا ، إلآ في حفل رأس السنة . عند عودة الناس من الرقص توقف عندي رجل أسمر اللون وسيم بلحية مدببة على الحنك ، يلبس نظارات بيضاء . تكلم معي بالإنكليزية مطعمة ببضعة كلمات عربية وجلس على الكرسي الفارغ على مائدتي . عرف نفسه بأنه تركي وخبير إقتصادي يعمل في أحد المشاريع في براغ . وأنه نصير القضية الفلسطينية ويحب العرب .  وعرفت نفسي بتاجر لبناني . واخبرته باني لآ اجيد الأنكليزية وأتكلم البلغارية والفارسية ولغتي العربية طبعا . وقد نهض من على الكرسي ما أن شاهد صاحب الكرسي مقبلا على مائدتي .

لم تكن مائدة التركي بعيدة عني ، كان بيننا حوالي أربع موائد . كان جلاسه إمرأتان لاتتجاوز أعمارهن الثلاثين . حظهن من الجمال جيد . ما أن شرع العزف الموسيقي مجددا حتى نهض التركي ومعه الفتاتين. عند مروره بمائدتي دعاني للمشاركة ، و لم أخيب ظنه . وهكذا تعرفت على تمارا وعرفت إنها سلافية( اللهجة السلافية أقرب للبلغارية من الجيكية ) وإنها مدرسة وهي في براغ ضيفة على صديقتها . إنتقلت الى مائدتهم . ولغرض تعزيز مكانتي أخذ  التركي يبالغ في إمكانياتي . ومما إدعاه هو " إني اعرف العديد من اللغات منها التركية والبلغارية والفارسية فضلا عن اللغة العربية أما الإنكليزية فاتحدث بها كالبلبل!! ". هكذا عدد اللغات التي لا تعرفها الفتاتين . تمارا تعرف الفرنسية وصديقتها الألمانية . لم تكن تمارا سطحية لكي تصدق كل ما يقوله التركي وكانت تساير الوضع تهذبا . وعرفت ذلك منها خلال الرقص . عززت تمارا عندي الإنطباع الجيد عن السلافيين فهم ، إضافة الى ما يجمعهم مع الجيك من تهذيب ، فإنهم ودودين ومتواضعين وطيبين جدا. وهكذاقضيت سهرة ممتعة في راس السنة  في براغ .

بعد بضعة أيام من رأس السنة دعيت الى لقاء توديعي حضره حسين سلطان وسلام الناصري العضو المرشح للمكتب السياسي والناطق الرسمي بإسم الحزب . علمت في اللقاء بأني أول كادر حزبي يعود الى الوطن ويعولون على وصولي في إيجاد صلة منظمة مع الداخل. وقد سلمني حسين سلطان قداحة فيها رسالة للمركز القيادي ودفتر( يبدو من مظهره عاديا) لإستخدامه في المراسلات السرية بين الداخل والخارج ، تعلمت على إستخدامه في الدورة التعليمية . وأعطاني 300 دولار( تعادل أقل من 100 دينار عراقي وقتئذ ) لشراء هدايا لعائلتي بعد وصولي الى بغداد ، وبذلك أتجنب حمل سلع جيكوسلوفاكية قد تثير الإنتباه .
يوم 9 كانون الثاني 1964 توجهنا، آرا وأنا ، الى المطار وقد أخبرني بأنهم إستفسروا من السفارة العراقية في براغ عن الفيزا وأخبرتهم السفارة بأن اللبناني لا بحتاج الى فيزا. عند وصولنا المطار كانت الطائرة قد أقلعت . لم يقرأ آرا وقت الإقلاع في التذكرة جيدا . إشتطت غيظا ، التقصير واضح عدم دقة وإهمال من آرا. وكان عزائي شعور آرا الجدي بالتقصير والندم . تأجل السفر الى اليوم التالي ، حيث جرت الأمور بشكل طبيعي في المطار . طرت الى بغداد عبر فينا ـ  عاصمة النمسا ، وكانت الطائرة قادمة من لندن . كان هندامي يناسب مهنتي كتاجر مع قبعة أنيفة في الرأس .
 
وصلت مطار بغداد صباح يوم 11 كانون الثاني باكرا. كنت مسيطرا على قلقي الداخلي وأنا أدخل المطار مع المسافرين . بعد أنجاز إجراءت المطار الروتينية ، نادوا على جميع المسافرين واحدا بعد الآخر ليستلم جوازه ويغادر المطار ، إلا أنا . إستفسرت من المسؤولين اجابوا " إنتظر " إنتظرت بعض الوقت ولكن بدون جدوى. فكرت بالتخلص من القداحة . ذهبت الى التواليت ، مسكتها في يدي لأرميها في المرحاض ، ولكن لم أفعل ذلك . أقنعت نفسي بأني متطير بعض الشيء ، وعزمت أن أعرف أسباب التأخير تحديدا، قٌبل إتخاذ اية خطوة وقائية . وفعلا عرفت بان السبب عدم وجود فيزا في جواز سفري ، فتنفست الصعداء . أخبرتهم (مستخدما بضعة كلمات باللهجة اللبنانية تعلمتها في بيروت ، عندما إضطررت للبقاء لمدة إسبوع وأنا في طريقي من بغداد الى صوفيا ، وكنت أتداولها مع الرفاق اللبنانيين في المدرسة الحزبية في صوفيا ) بأنني إستفسرت من السفارة ( لم اذكر المكان ) وأكدوا بأني تاجر ولا أحتاج الى فيزا. بعد قليل ، سمعت ضابطا يقول في التلفون " نعم إنه قادم من لندن والسفارة هناك... ". يظهر أن عدم وجود أي ختم جيكي على جواز سفري جعلهم يعتقدون بأني قادم من لندن . وأخيرا أرسلوا معي شرطي الى مديرية السفر والجنسية ليتأكدوا من أني لست ممنوعا من الدخول الى العراق ، ليمنحوني إقامة مؤقتة . أإستأجرنا تكسي وتوجهنا ، الشرطي وأنا ، الى المديرية  المذكورة .

قبل خروجي من العراق حكمت غيابيا لمدة ثلاث سنوات ، وعلي إعترافات إنقلاب 8 شباط ، فأنا مطلوب من قبل السلطات . ومن الخطورة التواجد في مثل هذه الدائرة ،  إذ بالإمكان القاء القبض علي فورا، في حال إكتشاف شخصيتي ، صدفة . لذلك قررت أن أهرب في أول فرصة وأترك حقيبتي في التكسي الذي إستبقيته لحين إنتهاء المعاملة. وقبل إستئجار التكسي ، حاولت إرشاء الشرطي ، ولكن دون جدوى، فقد كان صائما .

في دائرة الجوازات والجنسية حققوا معي تحقيقا بسيطا واخذوا يفتشون السجلات القديمة ليتأكدوا من عدم وجود منع على دخولي العراق . وفي أحد المرات سالني الموظف:

ـ من أين تعلمت اللهجة العراقية؟
ـ عندي كثرة من الأصدقاء العراقيين.

ونحن ننتقل من مكتب الى مكتب ، لاحظت مرة عدم وجود الشرطي معي . غادرت الدائرة بسرعة وصلت الشارع العام قاصدا أول شارع فرعي لكي أهرب ، وإذا بالشرطي راكضا ورائي ، فتوقفت وعدت معه مبررا عملي بالتفتيش عن تلفون لمخابرة قريبي وكيل وزير ليتدخل بالأمر . قال الشرطي: "توجد تلفونات في الدائرة." سكت عندما عرفت بأنه ليس بصدد التوقف عند الموضوع . وأخيرا وصلنا الى نائب المدير إستفسر مني، وهو يقلب الأوراق ، عن المشكلة أجبته "بأني أحتاج الى إقامة مؤقتة " إستفسر من الشرطي ( وإنت شتسوي هنا؟) وأنت ما عملك هنا؟. أجابه: " أنا مأمور معه" صرخ نائب المدير في وجه الشرطي المسكين طاردا إياه من المكتب ، مكررا عبارة الشرطي بإسلوب ساخ ر. أعطاني المعاملة ، التي أصبحت الآن ملفا كاملا ، وطلب مني تقديمها الي المدير . كانت الساعة تقترب من الثانية ظهرا والدوام على وشك الإنتهاء. وضعت الجواز في جيبي وسلمت المعاملة الى فراش المدير . إنتظرت بضعة دقائق ، لم أتحمل الإنتظار أكثر وأنا حر وجوازي في جيبي وبيني وبين الشارع العام بضع خطوات . غادرت الدائرة وأخبرت سائق التكسي بأن يتوجه الى شارع الجمهورية ، وتركت التكسي في منطقة غير مزدحمة .  وفي أول خربة صادفتها في الشارع تخلصت من القبعة وتخلصت من ربطة العنق لتستقر في جيبي .

عندما أردت تصريف 100 دولار في البنك ، بحلقت الموظفة في وجهي مستفسرة مني هل إني عراقي؟ أجبتها مستغربا سؤالها( ليش ما مبين علي؟) أجابت بفتور( لا مبين) . حال إتصالي بأول رفيق تحدثت له عما جرى لي مع موظفة البنك فقال " إنها محقة في سؤالها ، لأنه لايوجد عراقي يقوم بما قمت به " إذ يوجد في باب البنك صرافي القطاع الخاص الذين يصرفون الدولار بفارق 15% أكثر من البنك وهذا ما يعرفه كل العراقيين .

كان العنوان مصبغة ، فإتصلت به وفق الإشارة المتفق عليها . أخبرني صاحب المحل ، بأن الرفيق المسؤول عن إستلامي سيأتي غدا. وقد وفر لي منام في فندق دون إبراز هويتي الشخصية ، بشرط أن أبقى في الغرقة. في اليوم التالي إستلمني أحد الرفاق وأوصلني الى وكر حزبي ، حيث التقيت بكاظم الصفار، الذي سبق وأن تعرفت عليه في المدرسة الحزبية في بلغاريا. وقد أنهى دراسته وعاد الى الوطن قبل إنقلاب شباط . وكانت العلاقة بيننا وديًة . أول ما سألني عنه كان النقود:

ـ هل جلبت لنا فلوس ؟
ـ لا
وخاب ظنه بجوابي وقال:
ـ وضعنا المالي صعب جدا، لايوجد لدينا خبزا نأكله . أعطيته كل ما لدي من نقود وقلت له :
ـ الخبز في البيوت الحزبية أهم من الهدايا لعائلتي .

كان كاظم الصفار عضو لجنة محلية ، ولم يكن حتى عضو لجنة منطقية والتي عضويتها الممر الطبيعي للجنة المركزية. مع ذلك كان يطمح بقيادة الحزب! ويحاول تحقيق طموحه بأساليب غير شرعية . وقد إنتقدته لأنه كتب لقيادة المنظمة في إقليم كردستان ، بأن ترسل ممثلا عن المنظمة للتشاور معه ، لقد إنتقدته لأنه يجب أن يكتب لهم بان يرسلوا أحدا يتولى قيادة العمل ، فقد كان في كردستان عزيز محمد عضو المكتب السياسي وكريم أحمد وعمر علي الشيخ أعضاء اللجنة المركزية . وقد كتب لهم بالمعنى الذي أشرت اليه . عرفت لاحقا من باقر إبراهيم بأن الصفار طلب منهم إرسال رفيق للتشاور وكتبوا جوابا للصفار يسألونه " للتشاور أم لإستلام العمل القيادي؟ ". وفي التنظيم ، عرفت بأن التنظيم خيطي . وأخبرته بضرورة التحول الى التنظيم الخليوي.

 في بغداد إتصلت بقريب لي مستفسرا عن مصير عائلتي وأقربائي ، وعلمت بأن جميع أفراد عائلتي سالمين، ولكن بقي ثلاثة من أخوتي في السجن بعد أن إطلق سراح أحدهم . وقد عادت العائلة الي كربلاء وإثنين من أصغر أخوتي يعملون نهارا ويدرسون مساء . بعثت مع تحياتي وعداً للعائلة بملاقاتهم في أول فرصة ملائمة. بعد بضعة أشهر كنت أسير في زقاق في محلة (عكد النصارى) وإذا بي وجها لوجه أمام أخي قاسم ، بعد العناق الحار وتبادل الأخبار ، عرفت بأنه يقيم حيث إلتقينا . طلبت منه أن يجلب العائلة الى غرفته وفقا لموعد محدد . وفعلا التقيت بالعائلة ، وكان اللقاء حارا ، ولم يدم طويلا .  فقد غادرتهم بعد ان نفحت الصغار منهم بعض النقود .  وأتذكر كيف إن أخي سمير قد جمد من المفاجأة عندما شاهدني ، فلم يخبروه باللقاء مسبقا .

 وبعد فترة قصيرة وصل عمر علي الشيخ ومن ثم باقر إبراهيم الى بغداد . وقد إنيطت بي سكرتارية اللجنة التي كلفت بإعادة بناء تنظيمات بغداد وكانت تتكون من كامل كرم وخضر سلمان ومالك منصور ونوري جريو . وقد عمل الجميع بهمة منقطعة النظير . وقد قطعنا شوطا لا بأس به في إنجاز المهمة . بعد بضعة أشهر سحبت من بغداد وأنيطت بي مسؤولية (لتم) لجنة التنظيم المركزي مؤقتا .

كانت إذاعة " صوت الشعب العراقي" عاملا مساعدا هاما على إعادة بناء منظمات الحزب . ولم تعد كذلك عندما إتجهت للتمهيد لخط سياسي جديد تبلور لاحقا في إجتماع كامل للجنة المركزية عقد في براغ في آب 1964، واصطلح عليه (خط آب) . وكان هذا الخط يستهدف تماثل العراق مع جمهورية مصر العربية ، التي إعتبرت، من قبل الحركة الشيوعية العالمية وطليعتها الحزب الشيوعي في الأتحاد السوفيتي ، بأنها تسير في طريق التطور اللارأسمالي أو كما سمي لاحقا بالتوجه الأشتراكي . ولم يدم هذا الخط السياسي طويلا . وقد تغير جذريا تحت ضغط القاعدة الحزبية ، ولعدم إستعداد  السلطة العراقية ، وكانت برئاسة عبد السلام عارف، للتماثل مع مصر بسبب طبيعتها الرجعية ، وذلك في إجتماع للجنة المركزية عقد في نيسان عام 1965، وقد حضرت هذا الإجتماع ، الذي سأتوقف عنده لأحقا .

لقد كنت من مؤيدي خط آب 1964 الخاطيء ، ولم أكن آنئذ عضوا في اللجنة المركزية ، فقد ترشحت لعضوية اللجنة المركزية في الإجتماع المذكور، و لم أحضره . وطبيعي لم يعفني ذلك من المسؤولية بوصفي كادرا حزبيا متقدما آنئذ .   




82
ذكريات ... العودة للوطن
(1 ــ 2 )
جاسم الحلوائي 
jasem8@maktoob.com

عندما حدث إنقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، كنت في المدرسة الحزبية العليا في صوفيا عاصمة بلغاريا . وقع الخبرعلينا ، نحن الموجودين في المدرسة، وقع الصاعقة. ومن اللحظة الأولى لسماعنا الخبرأدركنا بأن هدف الإنقلاب ليس إسقاط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم حسب ، بل وتصفية الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية . ولم يطل بنا الأمر كثيرا، حتى سمعنا بإعدام الرفيق سلام عادل ورفيقيه محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة وبالتصفيات الجسدية لكوادر الحزب وأعضائه وتحطيم اغلب منظماته .

كنا نعيش وضعا نفسيا صعبا، فيما نسمع من بعيد ما حل بالوطن والحزب دون ان نتمكن من تقديم يد المساعدة . تحمسنا جميعا للعودة الى الوطن للمساهمة في إعادة بناء الحزب، وكان تحمسي للعودة كبيراً على الرغم من بداية دراستي للمنهج المقرر، بعد دراسة اللغة البلغارية. وكان معي في المدرسة كل من ناصرعبود وعبد الرزاق الصافي وحسين جواد القمر وزوجته ناهدة العبايجي وسليم المرزه وزوجته عميدة الرفيعي وحميد الدجيلي وحميد بخش وبيتر يوسف ونوزاد نوري.

 يعد بضعة أشهر من الإنقلاب أخبرني المسؤول الحزبي لفريقنا الدراسي ، ناصر عبود ، بأنني سأعود الى الوطن. لم أتمكن من حبس دموع الفرح ، وأنا أعانقه ، تعبيرا عن شكري لهذه البشرى. سافرت، بعد فترة قصيرة، الى براغ عاصمة جيكوسوفاكيا. ودخلت هناك دورة تأهيل للعودة مع رفيقين آخرين وهما خضر سلمان وعدنان، لا أذكر إسم أبيه، وكنت مسؤولهم الحزبي في البيت. كنا نقيم وندرس في فيلا تقع في منطقة ريفية جميلة قرب مدينة ملادابوليسلاف التي تبعد حوالي 70 كيلو مترا عن العاصمة براغ؛ وحوالي كيلو مترين عن الفيلا يوجد مقهى يتحول الى مرقص في نهاية الأسبوع لشبيبة المنطقة ومراهقيها. لم نكن نرتاد المقهى ،  إلا عندما يتعذر علينا النزول الى براغ. لأننا كنا ندخل المقهى نحتسي البيرة ونجلس كغرباء معزولين، لإنشغال الآخرين عنا. كنا نحب الرقص ولم تنقصنا الجرأة لطلب فتاة للرقص معها، الا إننا لم نحاول ذلك إطلاقا، لعدم توفر الأجواء الملائمة. وذلك خلافا لما عليه الحال في براغ، وخاصة في المراقص التي يرتادها اناس من جيلنا،  في عقد الثلاثين.

 كانت الدراسة مكرسة لتعليمنا فنون العمل السري. ومع إن المعلومات لم تكن تنطبق على ظروفنا من بعض النواحي ، لإستنادها  على تجارب اوربية أو مخابراتية، ولكنها لم تكن تخلو من فائدة. إنتهت الدراسة ولم نتجه الي الوطن .
كان حسين سلطان عضو اللجنة المركزية مسؤولنا الحزبي، يزورنا كل بضعة أسابيع، ينقل لنا آخر الأخبار وبعض الصحف العربية ويعدنا بقرب السفر. أخذ الملل والضجر يدب في نفوسنا. كنا ننزل الى براغ في نهاية كل أسبوع لنقضي  فيها يوما نتجول في شوارعها الجميلة وخاصة في ميدان فلاديسلاف و نجلس في  مقاهيها ومطاعمها االرائعة ونعود باكرا في اول باص الى الفيلا . كان المزعج في هذه السفرات هوإضطرارنا للإنتظار ساعة ونصف في محطة الباص، نقضي حوالي الساعة منها نرتجف من البرد، في ذلك الشتاء القارص، قبل أن يأتي الشغيل لإشعال المدفأة.

براغ مدينة جميلة ،  فألى جانب المباني التاريخية والقبب الذهبية والأزقة الضيقة، فهي مدينة أوربية حديثة تقع على ضفاف نهر فلتافا منذ أكثر من عشرة قرون. ويصل بين ضفتي النهر 14 جسرا أشهرها جسر كارل الحجري الذي يصل مركز المدينة بقلعة براغ التاريخية التي تشرف عليها من سفوح تلالها الخضراء. وتجد في براغ الكثير من المسارح و صالات العروض الموسيقية والمعارض الفنية. ومع الأسف الشديد لم أستمتع بهذه الإمكانيات الرائعة لا في ذلك الحين ولا في زياراتي اللاحقة الى براغ، إلا جزئيا. ولكن لم يفتنا زيارة الحمام التركي! وكانت هناك ثلاثة أمور  جديدة علي في هذا الحمام ، بالمقارنة مع حماماتنا، أوحتى الحمامات البلغارية.
الأول: وجوب دخول المرء للحمام عريانا ( ربي كما خلقتني ). الثاني: وجود (ساونا) في الحمام وكانت المرة الأولى التى أشاهد ذلك وأستخدمه. الثالث: وجود مقلم أضافرومنظف القدمين الذي يستلم الزبون بعد إنتهائه من الإستحمام . كنت أستغرب من كمية الزوائد التي كان يستخرجها من قدمي اﻠ "نظيفتين". وقد علمت بأن الأمر لايتعلق بقدمي، بقدر ما يتعلق بالوسائل والأساليب المستخدمة. 

الجيكوسلوفاكيون مهذبون ، ونساؤهم جميلات ويتمتعن بسيقان جميلة ، إذ نادرا ماتجد أكثر من زوج من السيقان غير الجميلة بين كل خمسة نساء ، في حين لا تجد زوج من السيقان الجميلة بين مئة إمرأة بلغارية! زميلي في االمدرسة الحزبية في بلغاريا الرفيق عبد الرزاق الصافي وجدها فرصة ليخطىء إنطباعي السيء عن سيقان البلغاريات ، عندما كنا جالسين في احد الأيام في إحدى مقاهي صوفيا ، لينبهني الى جمال سيقان النادلة التي تخدم مائدتنا.  وقد خاب ظنه عندما اجابت الفتاة على إستفسارنا ، بأنها يوغسلافية الأصل! 

كان لدينا طباخة جيكية ماهرة. سألتنا عما نشتهي من أطباق لكي تهيئها لنا. ولأننا نعرف بأن تهيئة مانشتهيه من الطبخ العراقي أمر صعب، ولرغبتنا في عدم الإثقال على مضيفينا، فقد شكرناها وتركنا هذا الأمر لها، بعد تقديم بعض المقترحات البسيطة، لتتصرف كما تشاء. في أحد الأيام أخبرني المترجم بأن الطبق الرئيسي لذلك اليوم سيكون لحم أرنب. طلبت منه أن لايخبر الآخرين، لأنني كنت أعرف بأن عدنان لايحب غير اللحوم االمألوفة في العراق. بعد أن إنتهينا من الأكل رحت أثني على جودة اللحم وإتفقنا ثلاثتنا على إنه كان لذيذا. عند ذاك أخبرتهم بأنه  لحم أرنب . فما كان من عدنان إلا وأن مسك بطنه وركض الى التواليت ليتقيء! وظل يتقيء الى أن فرغت معدته تماما ! عرفنا بعدئذ بأن لحم الأرنب موجود لدى بعض القصابين ويباع بوصفة طبية! لندرته وفائدته لبعض المرضى، لخلوه من الدهون. 

ادت الحالة النفسية السيئة التى كنا عليها، بسبب الإنتظار الطويل، الى نشوء توترات بيننا نحن الثلاث ولاسباب تافهة، الى الحد الذي كاد خضر سلمان وعدنان أن يتشاجرا بالأيدي أمام مضيفينا الجيك. ولتخفيف وطأة هذا الحدث على مضيفينا تحدثت مع معلمنا الجيكي شارحا له الظروف النفسية الصعبة التي نعيشها . فرد المعلم عليّ قائلاً: " بأن ما حدث بسيط، هناك قادة كبار أخذوا يتصرفون كالأطفال في هذا البيت بسبب الإنتظار. لأن الإنتظار أصعب شيء في حياة الإنسان في المنعطفات المصيرية والخطرة في حياته ". كان المعلم يتكلم الروسية وأنا البلغارية (اللغتان سلافيتان ). كنا نتفاهم ولكن ليس بدون مساعدة اللغة العالمية - لغة الإشارات.

 ظهر إن التريث في إرسالنا الى الوطن مصدره توقعات عن تغيرات في الوضع السياسي في العراق، لدى رفاقنا الجيك والعراقيين على حد سواء، من شانها توفير حد معين من الضمانات لسلامتنا. وفعلا حصل إنقلاب 18 تشرين الثاني 1963 الذي قاده عبد السلام عاارف، وسقطت سلطة حزب البعث تحت وطأة جرائمه ونزعة إنفراده بالسلطة ولخوائه الفكري والبرنامجي ولإستفحال التناقضات بينه وبين شركائه في السلطة ولإنقساماته الداخلية.
ولعبت دورا هاما ومشرفا في هذا المصير المشين تلك الحملة العالمية ضد الإنقلاب ولنصرة الشعب العراقي، التي ساهمت فيها الدول "الأشتراكية" وكافةالمنظمات الديمقراطية العالمية وإتحاداتها، وحركة الدفاع عن الشعب العرافي ، التي شكلت لجنتها العليا في براغ برئاسة شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري وعضوية د. فيصل السامر والفنان محمود صبري ود. نزيهة الدليمي ود. رحيم عجينة وعبد المجيد الونداوي وكمال فؤاد ونوري شاويس ومراد عزيز وغيرهم . وكان للجنة فروع في العديد من الدول . ولعبت إذاعة (صوت الشعب العراقي) دورا هاما في الحملة. وقد عرت الحملة طبيعة سلطة البعث الفاشية تعرية تامة وعزلتها عالميا .

وتوالت الأنباء عن كيفية هروب شراذم "الحرس القومي" مذعورين بشكل لايعرفون حتى كيفية التخلص من اسلحتهم وملابسهم الرسمية. وحصل إنفراج نسبي في الوضع السياسي. وأضحت عودتنا  متوقفة على توفير الأمور الفنية.

بعد بضعة أسابيع أطلعني الرفيق آرا خاجدورعلى جواز سفري المزور. الجواز كان لبنانيا، والمهنة تاجر، والعمر يقارب عمري ، اما الأسم الثلاثي، نسيت الأول والثاني، والثالث هو الحلوائي!!. نظرت  بدهشة الى آرا ومتسائلا : "لماذا هذا اللقب؟" فأنا معروف به. عرفت من آرا بان لامعرفة لرفاقنا في ذلك وإن الطرف الجيكوسلوفاكي هو الذي زور الجواز. وأصبح من المتعذر إجراء أي تغيير آخر في نفس الجواز مما  قد يؤدي الى تلفه.
أما طلب تغيير الجواز فربما قد يفسر تهربا من العودة للوطن . أخبرت آرا بأني سأسافر به مادام الأمر على هذا النحو. لم أفهم مغزى تثبيت لقبي في الجواز. هل لكي لا أنساه كما نسيت الإسم الأول والثاني؟!

تقررسفري بعد عيد رأس السنة الجديدة. ومن المعروف إن براغ  تحتفل بهذا العيد بشكل متميز ويصلها الكثير من السواح من خارج البلد وكذلك من المحافظات للإحتفال فيها بهذه المناسبة. وتتحول جميع مطاعم براغ دون إستثناء الى صالات لعروض فنية مسلية ومدهشة والى عزف موسيقي لكل أنواع الموسيقى الراقصة من التانكو الى الفالس مرورا  بالسامبا والرومبا والتويست والروك اند رول ، فينجذب جميع الرواد الى الرقص.
وكثيرا ما تطفىء الأنوار لفترات قصيرة لفسح المجال للعشاق والمحبين للتعبير عن أشواقهم وحبهم بعيدا عن الأعين المتطفلة  للآخرين. وهناك صالة كبيرة تتسع لبضعة آلاف يحتفل فيها الشباب والشابات وتقع في أطراف المدينة . لم نتفق نحن الرفاق الثلاث على طريقة الإحتفال بالعيد، فخطط كل لنفسه كيفية الاحتفال بهذه المناسية.


يتبع[/size]

83
عشية ثورة 14 تموز المجيدة
[/b]

(3ــ 5)

جاسم الحلوائي

لم يعد سجن بعقوبة ومديره علي زين العابدين في عام 1957 على رهبتهما السابقة، كما هو الحال عندما دخلت هذا السجن لأول مرة في عام 1955. فقد كُسرت شوكة المدير بفضل صمود الكثير من الشيوعيين، وخاصة مجموعة السجناء الشيوعيين القدامى الذين نقلوا من سجن ( نقرة السلمان ) الصحراوي الى سجن بعقوبة في بداية عام 1956، على أثر إضرابهم عن الطعام. ومع إني كنت واثقا من صلابة أخي حميد فقد كنت قلقا عليه لصغر سنه وقلة تجربته. وعشية سفرنا الى سجن بعقوبة، وضعت خلاصة تجربتي، عند مواجهة الجلادين، أمامه وأمام جليل أسد، ولم أعد عليهم ذلك ثانية. وفحواها، عدم إستفزاز الجلادين. الإجابة على قدر السؤال. عدم إظهار أية نقطة ضعف في السلوك والكلام. عند وصولنا سجن بعقوبة تعرضنا ( لما يصطلح عليه السجناء بالكروان) الضرب  بالهراوات والعصي من قبل السجانين مصحوبة بالشتائم والإهانات. في اليوم التالي زارنا المدير وقد تهجم علي، لأنني بدلاً من أن اترك الشيوعية بعد حبسي الأول جلبت معي أخي الصغير هذه المرّة، على حد قوله. وإنصرف بعد بعض الصفعات والشتائم. كان في غرفة الأنفرادي معنا، انا وأخي حميد، الرفيق نائب عبد الله، خياط من السليمانية والذي أصبح لاحقا عضوا في اللجنة المركزية. ورغم قصر المدة التي عشناها سوية مع نائب، فقد نشأت بيننا صداقة تؤكدها حرارة اللقاءات وحميميتها في كل مرة نلتقي فيها، مهما كانت الفترة متباعدة بين لقائين.

لم يكن أخي حميد قد بلغ سن الرشد بعدُ، وكان ضئيل الحجم نسبيا، أملط الوجه، لذلك كان يبدو صبيا أكثر منه شابا . فكان موضع إعجاب الرفاق في السجن وموضع فخري وإعتزازي. لم يتسن لنا في تلك الفترة الأختلاط بحرية بالسجناء الآخرين. فالسجناء موزعون في غرف مغلقة لاتسع الواحدة منها لأكثر من أربعة أشخاص و كنا نخرج للشمس ساعة واحدة يوميا في باحة السجن. بعد حوالي عشرة أيام زارنا مدير السجون العام في العراق، وعندما شاهد أخي حميد إستغرب وجوده في هذا السجن، ولم يعر أي إهتمام لإيضاح مدير السجن بأنه موجود مع أخيه الأكبر، وقرر نقله على الفور الى سجن الأحداث. فتوادعت معه وداعا حارا ولم نلتق، مرة أخرى، ألا بعد ثورة 14 تموز.

في تلك الفترة قسّم مدير سجن بعقوبة الجناح الخاص بالسياسيين الى ثلاثة اقسام ــ الرفاق اليهود كانوا في جناح خاص من البداية ــ   القسم الأول كان مخصصا للخطرين جدا، والثاني للخطرين، والثالث للأقل خطورة. ودرجة الخطورة هذه من تقديرات المديرالإعتباطية. وقد أفرزني مع الخطرين وكان عددنا في هذا القسم 17 سجينا. وتفتح علينا أبواب الغرف لأوقات أقل من غير الخطرين. كان عمر علي الشيخ المسؤول الحزبي عن القسم، وكلفت أنا بالشؤون الإقتصادية، التي تشمل توزيع الأكل والسكائر والشاي و...الخ وممن كانوا في هذا القسم عزيز سباهي ووجدي شوكت سري وفرج محمود ومحمد علي الشبيبي، أخ حسين الشبيبي ( صارم )، وعزيز وطبان وطالب عبد الجبار والشاعر النجفي عبد الحسين أبو شبع وغيرهم. وقد إستفدت في هذا القسم من معلومات طالب عبد الجبار لتنمية معلوماتي في الفلسفة المادية الديالكتيكية.

بعد حوالي الشهر جمعونا في قسم واحد. حيث تعرفت على الرفاق القدماء مثل هادي هاشم الأعظمي، وكان المسؤول الأول في السجن،  وزكي خيري وعزيز محمد ومهدي حميد وبهاء الدين نوري وعمر علي الشيخ أعضاء اللجنة الحزبية المسؤولة في السجن. وتعرفت كذلك على سلام الناصري ويوسف حنا ونافع يونس وعزيز الحاج وحميد بخش وعدنان البراك وجاسم حمودي وعبد الرحمن منصور وحسن عوينة وعبد اللطيف الرحبي وأكرم حسين وصاحب حمادي وآخرين. وكان أغلبية هؤلاء مثقلين بسلاسل حديدية بارجلهم. هذا بالإضافة الي تعرفي على الكثيرين من أبناء جيلي مثل الشهيد شاكر محمود وتوفيق أحمد. وعندما كنت في هذا القسم زُجّ بقياديي منظمة الفرات الأوسط معنا وكان من بينهم حسين سلطان وباقرإبراهيم وعدنان عباس وكاظم فرهود.

انتخبت عضوا في اللجنة الإقتصادية مع عدنان البراك وجاسم حمودي وكاظم فرهود وكان الأخير مسؤولها. وانيطت بي مهمة توزيع السكائر والتنباك (التتن)، وكانت هذه المهمة من أكثر المهام حساسية في السجن نظرا لعدم توفر الكمية الكافية من السكائر أحيانا. لذلك كان الآخرون يتجنبون تولي هذه المهمة. وقد قبلت بها لقناعتي بأنني الأنسب لها بحكم كوني سجين جديد وعلاقتي  بالآخرين خالية من الحساسية. كنا نوزع السكائرعلى الوجه التالي: كل مدخن يحدد عدد السكائر التي يحتاجها يوميا على أن لاتزيد عن علبة واحدة (20 سيكارة) ويستلم حصته صباح كل يوم. أما التتن فيستلم المدخن منه كيس يكفي لإسبوع ويمكن أن يحصل على كمية إضافية. المشاكل التي يواجهها المرء، هي إن بعض الرفا ق يطلبون سيكارة أو أكثر إضافي بعد نفاد حصتهم، خاصة اولئك الذين يدخنون علبة واحدة. إذا أعطيتهم يقول الآخرون عليك ،ليبرالي. ليس بالمفهوم المرغوب والمفاخر به في وسط من السياسيين والمثقفين في عراق اليوم، أنما بمعنى غير ملتزم بالقواعد. إذا لم تعطهم يقولون عليك (دوﮔﻤة) جامد. كنت أعطي سيكارة واحدة، إضافية لمن يطلب، خاصة مع دخولنا للغرف للنوم في الساعة العاشرة مساء حيث تقفل الأبواب علينا. المشكلة الأخرى، هي إن مصدرنا الاساسي للسكائر والتتن، هو المواجهة الشهرية. واذا كان الوارد لايكفي كان التنظيم يكلف هذا الرفيق أوذاك من أبناء العوائل المتمكنة لكي يرسلوا لنا بضعة كلوسات سكائر بالبريد، وعندما يتأخر وصولها كنت مضطرا لأقلل الحصة بنسبة معينة، وكان ذلك يزعج المدخنين ويحرجني. لم تكن هناك أي مشكلة مع الذين يدخنون تتن. وعددهم لم يكن يتجاوز اصابع اليد الواحدة، وكنت واحدا منهم. فمنذ أن أنيطت بي مهمة توزيع السكائر تحولت للتتن تجنبا لأي قال وقيل.

كانت الأعمال موزعة على السجناء، وأهمها غسل الملابس وخبز الصمون وتوزيع الأكل وغسل الأواني. وكان الجميع يعملون بشكل دوري.وكنت أحد المشرفين على طبخ الشوربة للفطور صباحا، التي يطبخها السجناء العاديون،  وعضوا في أحد فرق الفرن.
 
كنت مهتما بمعرفة تفاصيل تاريخ الحزب وقادته ولم يكن ذلك، إطلاقاً، عن سابق تصميم أو لأني سأحتاج ذلك، عندما سأكتب يوما ما ذكرياتي والتي لم افكر في كتابتها قبل آذار2005، بل كانت نزعة غريزية بحكم قناعتي الراسخة بإرتباطي المصيري بالحزب. و قد لقيت ضالتي بالرفاق القدامى. ولم يبخل الرفيق عزيز محمد والذي عشت معه في غرفة واحدة فترة طويلة بالإجابة على أي سؤال لديه معلومات عنه، ما عدا الحديث عن ظروف إنشقاق منظمة راية الشغيلة. فقد باءت محاولاتي لتحفيزه على الحديث عن تفاصيل  ذلك بالفشل. وكل ما سمعته منه هو: " صدّقني لم نكن نفكر يوما بالإنشقاق عن الحزب،لا أدري كيف حصل ذلك " يقولها متوترا ويُغلق الموضوع. ومرة أخرى أجابني: " جلسنا على سطح الفرن..." ولم يكمل كلامه إنما نفخ بيده وضرب الهواء بقوة ، وكأنه يصفع أحداً، ومضيفا "لعد شعبالك؟ " ويعني مالذي يخطر ببالك إذاً؟ وهذه الحركة وهذا الكلام يقبلان التأويل. وعزيز محمد يستخدم هذا الاسلوب أحيانا، عندما يريد وتتوفر إمكانية إستخدام ذلك، وعندذاك تذهب جهود المرء سدى إذا ما حاول أن يفهم ما المقصود، لذلك لم  اسأله. أما تفسيري فأرجح بإنه كان يريد أن يسخر من عملية الإنتشال (الإنشقاق) وأراد بحركته وكلامه ذاك أن يرسم صورة كاريكتيرية لها.

وأخطر إنقسام وقع في السجن( قبل إنشقاق منظمة راية الشغيلة) هو الذي حصل في ربيع 1950 في سجن نقرة السلمان الصحراوي والذي أدي الى إخراج مجموعة من الكوادرالقديمة التي زاملت الرفيق فهد في سجن الكوت على رأسهم المسؤول الأول في المنظمة سالم عبيد النعمان وعلي شكر ونافع يونس ويوسف زلخة ومحمد حسين أبو العيس وعبد الحسين خليفة وكاظم خليفة وغيرهم. لم أتمكن أن أمر مرور الكرام على حدث بمثل هذه النتائج الخطيرة وأنا أعيش وسط عشرات الشهود، ومع الأسف لم أسمع من الذين أصبحوا خارج الحزب في حينه، فلم يكن قد بقي منهم في السجن سوى نافع يونس، والذي انهى محكوميته بعيد وصولي الى السجن. وخلاصة القصة هي إن المزاج "اليساري" الذي  نشأ في أوساط الشبيبة التي تصّدت لقيادة الحزب، على أثر الضربة الموجعة التي وجهت لقيادة الحزب ومنظماته وإعدام قيادته التاريخية، قد تسرب الى السجن. وقد إستغل حميد عثمان ذلك ليقود حملة ضد قيادة المنظمة مستغلا بعض التسلكات الشخصية غير الصحيحة، ولكن غير الهامة، لتلك القيادة، ليتهمها باليمينية والبرجوازية. وبدلا من ألإكتفاء بالنقد الذاتي الذي قدمه سالم عبيد النعمان عن تصرفاته الشخصية اليومية الخاطئة، فقد نحي عن المسؤولية لتبدأ حملة تشهير ظالمة ضده وضد رفاقه أدت الي الأنقسام المذكور. ولم يبخل بهاء الدين نوري بكيل الإتهامات لهم بإعتبارهم زمرة إنتهازية وإندحارية وتيتوية  في جريدة "القاعدة" السرية في عددها الصادر في تشرين الأول 1950 . وجدير بالذكر إن محمد حسين أبو العيس أصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب ونافع يونس عضوا في اللجنة المركزية، وقد إستشهد الإثنان  تحت التعذيب في إنقلاب شباط الفاشي.أما مصائر بهاء وحميد عثمان فقد أشرت لها في الحلقة الثانية من مقالي حول "منظمة راية الشغيلة وتجربتي معها"، وهي مصائر، على أقل تقدير، غير حميدة بالنسبة للأول وغير مشرفة بالنسية للثاني.


84

حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الرابع
عشية ثورة 14 تموز المجيدة
(2 ــ 5)
[/b]



جاسم الحلوائي

عندما طلبت من جاسم الطويل أن يختفي ، لم أكن أعرف بأنه قد أعطى "براءة"، في صيف 1955 في عهد مدير شرطة كربلاء جواد أحمد ، وأخفى الأمر على الحزب . لقد إكتشفنا ذلك بعد ثورة 14 تموز. فقد أخبرنا الرفيق أحمد العلي، المستشار القانوني في  مديرية شرطة كربلاء ، بأن جاسم الطويل ورفيق آخر إسمه محمد علي حبوبة - و كان الأخير عضوا في اللجنة العمالية ، أما جاسم فكان عضو اللجنة  الحزبية التي كانت تقود منظمة مدينة كربلاء وكنت سكرتيرها -  قد أعطيا البراءة في عام 1955، وبإمكان قيادة المنظمة التأكد من ذلك . وفعلا ذهبت الى شعبة الأمن بصحبة الرفيق الحقوقي وبحضور مفوض الأمن (عبد الأمير علًو) . وقد إطلعت على السجل السري الذي يحوي صورهما وصيغة البراءة الشائعة . إستفسرنا من محمد علي حبوبة عن أسباب عدم ذكر قضية البراءة في الرسالة التي رفعها للحزب وطلب فيها إعادة إرتباطه؛  فإدعى بأنه تصور بأن ذلك لم يعد له اهمية  بعد الثورة ؟! وإستفسرنا من جاسم الطويل عن اسباب إخفاء البراءة على الحزب ، فأفاد بأنه كان يطرد من الحزب لو فعل ذلك ، في حين تمكن من مواصلة النضال  خلال أكثر من ثلاث سنوات .  ولم يجب على سؤالنا له : ماالذي كان يحصل لو إن الجميع أعطوا البراءة وواصلوا العمل في الحزب ؟ هل كانت حكومة نوري السعيد لا تبتدع وسيلة اخرى لإضعاف الحزب وشل قدراته الكفاحية ؟ قررت لجنة المدينة تنحية جاسم الطويل ومحمد علي حبوبة من مراكزهم الحزبية وإبقائهم أعضاءا في الحزب. 
 
كان مفوض الأمن (عبد الأمير علًو) يتصرف كالخادم خلال وجودي في شعبة الأمن . و لم يكن ينظر في عينيّ ، لأنه كان أحد الذين تلقيت منه الصفعات والركلات قبل الثورة . وخرجت من الدائرة رافضا عرضه بشرب الشاي . بعد ذلك أخبرني أحمد العلي ، بأن المفوض المذكور يشكو من أني لا أرد السلام عليه ، في حين كان متهما من قبل مسؤوليه بالتقصير تجاه الشيوعيين في العهد المباد ، ولهذا السبب نقل من مركز محافظة كربلاء الى خارجها .  أجبته : " لا اتمكن ان أبادله التحية" بعد ذلك فاتحني في الموضوع ، صديقي ورفيقي ومساعدي في اللجنة القيادية للمنظمة ، الشهيد علي النور ، وناقشني من وجهة نظر سياسية . فأخبرته بأني لست ضد كسب المفوض الى جانبنا ، ولكني شخصيا لا أتمكن من مجاملته . كيف يمكن أن أجامل شخصاً كان يضربني (راشديات وجلاليق) ؟ سألت علي النور، وأضفت ، انا إنسان ولديّ كرامتي . إتفقنا على غلق الموضوع . وفعلا لم يفاتحني احد به لاحقًا .

كانت بساتين كربلاء ملاذي عندما تضيّق السلطات الخناق عليّ في المدينة . كانت لدينا خلية حزبية فلاحية، أغلب أعضائها يقيمون في (الجرية) مركز ناحية الحسينية. وكنت أصلها مشيا على الأقدام خلال ساعة وخمسة عشردقيقة. وكنت أقضي النهار في بستان الشهيد عيسى وهو أحد أعضاء الخلية المذكورة ، ويقع بستانه على الشارع العام، وفي الليل ، حيث تكثر مداهمات الشرطة عادة ، كنت أبتعد عن هذه المنطقة ، التي يسهل على الشرطة الوصول اليها ، وأذهب الى مزرعة رفيق آخر إسمه هاشم المسعودي، التي تبعد عن بيت عيسى حوالي الساعة ، وتقع في منطقة وعرة ، تتجنبها الشرطة . وكنت اشعر بالأمان التام في هذه المنطقة. وفي أحد الأيام ، خلال إختفائي في هذه المنطقة ، بُعيد أنتفاضة تشرين الثاني 1956، تحركت نحو مزرعة هاشم عند غروب الشمس . وما أن ابتعدت عن بستان عيسى ببضعة كيلومترات حتى لاحظت من بعيد كلبا كبير الحجم ، يشبه الذئب ، يركض بقوة نحوي وبإستقامة عجيبة فاتحا شدقيه الى أقصى حد وبشكل يثير الرعب . المكان الذي كنت فيه ، كان أشبه بصحراء خال من أي مكان أحتمي فيه . أصبحت أمام معركة لا قبل لي فيها . كنت أحمل عصا قوية وطويلة نسبياً صممت إدخالها في فم الكلب إن هاجمني؟! عندما صرنا وجها لوجه على مبعدة حوالي 150 متراً ، دنوت من الأرض متظاهراً بأني أتناول حجرا لأضربه ، وإذا بالكلب يقف في مكانه ، في حين بقيت سائرا في طريقي لا أحيد عنه . وبعد برهة وجيزة قفل الكلب عائدا في طريقه الذي أتى منه ، وأنا بين مصدق ومكذب عيني بإنتهاء هذه المحنة ، بهذه الحيلة البسيطة والشائعة.

بعد مضي بعض الوقت وعندما أصبح الظلام دامساً ضاعت عليّ ملامح الطريق ، أخذت أشك بصواب الإتجاه الذي أنا سائر فيه ؛ فإنحرفت بإتجاه آخر ، وما أن سرت بعض الوقت حتى شككت أيضا بإتجاهي الجديد ، فتوقفت . تلفتّ الى الجهات الأربع فلم أجد أي شيء يساعدني على تحسس طريقي . لقد ضعت!. لم يكن بمقدوري السير بأي إتجاه كان ، خشية الإبتعاد عن هدفي . لم انس تلك اللحظات التي مرت علي وأنا في تلك الحالة أحدّق في الظلام تائها في جو بارد جداً وممطر. وأنا في هذه الحالة وإذا بي الاحظ وميضا عن بعد ، ومن ثم شاهدت ناراً تظهر وتختفي . قررت التوجه نحو مصدر النار غير آبه مَن هم الذين سأصادفهم ، المهم إنهم بشر. بعد فترة قصيرة إختفت النار؛ فبقيت أمشي محافظا على إتجاهي . سرت مدة معينة ، وإذا بي أسمع نباح كلاب  سرعان ما توجهت نحوي، وأحاطت بي ، كإحاطة السوار بالمعصم ، دون أن تهاجمني. فجأة سمعت صوت إمرأة تنادي(مِنهو؟) مَن القادم؟ أجبت (صِديج) صديق ؛ فنهرت الكلاب التي كفت عن النباح وإبتعدت وهي تهز ذيولها تعبيرا عن إمتثالها للأمر!. تعجبت أن أجد نفسي غير بعيد عن بيت هاشم المسعودي، ومع ذلك لم أكن أراه بسبب الظلام . رحب هاشم بي  كعادته . غذوا النار الخافتة بحطب جديد وسرعان ما شعرت بالدفء ، ورحت استمع للأخبارمن راديو يعمل على بطارية كبيرة . لم أخبرهاشم بما جرى لي وما عانيته في طريقي . لقد نوهت له بأني كدت أن أضيع طريقي بسبب الظلام . لأن الحديث عن الخوف من كلب متوجه لمهاجمتك أوالخوف وأنت ضائع في ظلام دامس في الصحراء لايشير الى شجاعة المرء ، حسب القيم السائدة في الريف ، بل وقد يعرض المتحدث بها نفسه للسخرية من الآخرين . 
 
عدت الى المدينة خلسة . وكنت قد إستلمت بريدا حزبيا يتضمن نشرة إخبارية عن إنتفاضة مدينة الحي . كنا نستنسخ النشرات الإخبارية ونوزعها . فباشرنا ، انا وأخي حميد ، بإستنساخ النشرة الجديدة ، عندما زارني، وفق موعد مسبق ، أحد الرفاق في البيت وإسمه جليل أسد ، . ولم يمرعلى وجوده عندنا اكثر من نصف ساعة ، حتى  دوهم بيتنا من قبل الشرطة وذلك في مساء 9 شباط 1957، والقي القبض علي وعلى جليل أسد وأخي حميد الذي كان عمره 16 عاما . عثروا على النشرة الإخبارية ، وأنكرنا في التحقيق عائدية النشرة ومستنسخاتها. تعرضنا للضرب والشتم ووجهت إلينا تهمة وفق المادة 98 ـ آ التي تخص الشيوعية، رغم إن النشرة ألإخبارية لم تكن لها اية علاقة بالشيوعية . بعد بضعة أسابيع سفرنا  الى مدينة الديوانية لتقديمنا الى المجلس العرفي العسكري . فقد كانت البلاد تعيش في ظل الأحكام العرفية. قدمنا الى المجلس في اليوم التالي لوصولنا بدون محامي للدفاع عنا . القى المدعي العام مطالعة مختصرة طالبا إدانتنا... باشرت بالدفاع قائلا:ً "سيدي إن هذه ألأوراق لاتعود لنا ، علما بان مضمونها ، بحدود إطلاعنا على ذلك في التحقيق ،لا علاقة له بالشيوعية . أوقفني رئيس المحكمة صارخا في وجهي" أسكت" ! وأصدر حكمه بالسجن ثلاث سنوات علي وعلى جليل أسد ،  وأحدعشر شهرا سجن وسنة مراقبة على أخي حميد . رحلنا في اليوم التالي الى سجن الحلة تمهيدا لتسفيرنا الى سجن بعقوبة .

أدخلونا الإنفرادي في سجن الحلة . نفس المكان المخصص للمحكومين بالإعدام ، والذي قضيت فيه محكوميتي في الأشهر الأولى من عام 1955، عندما كان المجرم عبد الجبار أيوب مديرا للسجن . وقد بلغونا بأننا سنسفر في اليوم التالي الى سجن بعقوبة. في المساء كنا جالسين في الغرفة  مع بضعة سجناء آخرين، وإذا بأخي قاسم ينتصب في باب الغرفة ، إندهشنا للصدفة ، تعانقنا ، أنا وأخي حميد ،  معه بحرارة ، وعرفنا منه بأن الشرطة قد القت القبض عليه لأنه محكوم غيابيا  لمدة ثلاثة أشهر ، وسيقضيها في سجن الحلة ، أي إننا سنتفارق في اليوم التالي . أقمنا "حفلة" توديع غنى فيها قاسم (أبوذية) تناسب الموقف الذي كنا فيه ــ لقاء قصير جدا سيعقبه فراق طويل. وقد إندهشت لصوته الجميل والشجي والذى لم أكن قد سمعته سابقاً. في اليوم التالي توجهنا أنا وأخي حميد وإبن دعوتنا جليل أسد الى موقف السراي ومنه الى سجن بعقوبة ، لملاقاة الجلاد علي زين العابدين.


85
حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الرابع
عشية ثورة 14 تموز المجيدة
(1 ــ 5 )[/b]

 
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
على أثر إنعقاد الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي في أيلول 1956، إنعقد في بداية تشرين الأول في الكوفة إجتماع موسع لكوادر الحزب في الفرات الأوسط. ضمّ الإجتماع أعضاء اللجان المحلية وقيادة المنطقة، وحضره الرفيق سلام عادل سكرتير اللجنة المركزية ومعه عضو اللجنة المركزية سليم الجلبي. قادني باقر إبراهيم الى مكان الإجتماع، دون أن يخبرني أي شيء عنه مسبقا. عند وصولنا كان سلام عادل قد شرع في شرح الوثيقة الصادرة عن الكونفرنس تحت عنوان " خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي". لم تكن الوثيقة مطروحه على الإجتماع لغرض مناقشتها وإغنائها، بل لغرض التثقيف بها. وقد تولى ذلك الرفيق سلام عادل. القضية التي أثارت نقاشاً في الإجتماع، هي أساليب الكفاح. فقد شخصت الوثيقة طبيعة المعركة " بإعتبارها معر كة ذات طابع سلمي غالب". ولم يقتنع العديد من المجتمعين بالتوضيحات التي قدمت للإجتماع لتبرير هذا التشخيص. وقد جاء هذا التشخيص غير الصحيح متأثراً بما توصل اليه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي بخصوص إمكانية الإنتقال السلمي للإشتراكية. وقد صححت اللجنة المركزية هذا الخطأ على أثر إنتفاضة تشرين الثاني 1956 التي جوبهت بالرصاص من قبل السلطات، وذلك في بيانها الصادرفي 11 كانون الأول 1956؛ لتقرر بأن الإسلوب العنفي هو الإسلوب الغالب.
إندلعت إنتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر، على أثر العدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين التاني 1956 . وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها،  والحزب الشيوعي العراقي منغمرا فيها من خلال المهمة العاجلة التي طرحها أمامه وأما م الحركة الوطنية والقومية، بصيغة سياسية مرنة، من شأنها أن تعزل حكومة نوري السعيد من جهة، وتعبىء جميع القوى المعادية للإستعمار ضدها من اجل إسقاطها من الجهة الأخرى. وكانت هذه الصيغة كما يلي:  " إن ما يواجه بلادنا الآن هو قبل كل شيء ضرورة تحول السياسة القائمة من سياسة تعاون مع الإستعمار وتوافق مع الصهيونية وإنعزال عن حركة التحرر الوطني، الى سياسة وطنية عربية مستقلة. "[1]  .
خرجت الجماهير الشعبية في مظاهرات إحتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة  مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد... وقد شملت المظاهرات ثلاثين مدينة من جنوب العراق الى شماله مرورا بوسطه.  وكانت واسعة جدا في النجف، وساهمت فيها مختلف الفئات الإجتماعية بمن في ذلك رجال دين بارزين. وقد دامت المظاهرات في البلاد مدة شهرين، وتوجت بإنتفاضة الحي الباسلة. جوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس وبالقمع العنيف. وسقط، الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب للفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين للسجون، وكنت أنا وإثنان من إخوتي من بينهم، وسيأتي شرح ذلك لاحقا. وكانت السلطات تتحسس، وهي على حق! من أي شعار، حتى ولو كان شعارا قوميا عاما مثل: " وحدة وحدة عربية" أو" يعيش جمال عبد الناصر" لأنهما ينطويان على عداء لحلف بغداد وحكومة نوري السعيد. وقد لعب الشيوعيون دورا فعالا، إن لم نقل طليعيا، في المظاهرات وكان أول شهداء الإنتفاضة الكادر الشيوعي الباسل عواد الصفار الذي إستشهد في بغداد،  وآخرهم الشيوعيين البطلين عطا الدباس وعلي الشيخ حمود اللذين أعدما،  في ساحة الصفا التي تقع وسط مدينة الحي وتنطلق منها المظاهرات ؟! وكان الشهيد عطا قد قتل تحت التعذيب ورغم ذلك وضعوا حبل المشنقة في عنقه للتمويه، وكأنه حي . أما الشهيد علي الشيخ حمود فقد هتف بحياة الشعب والوطن قبل إعدامه.
تأخرت مدينة كربلاء نسبياً عن التظاهر في إنتفاضة تشرين الثاني 1956. وأخيرا إتفقنا مع حزب البعث العربي الإشتراكي، لإخراج مظاهرة، على أن نسعى الى عدم إصطدامها بالبوليس، وذلك لرفع معنويات الناس وعلى أن تنطلق من مدرسة الثانوية، وهي الثانوية الوحيدة في المدينة. وفعلا خرجت المظاهرة وفقاً لما هو مخطط لها. لقد كنت مطارداً آنذاك، ولم يحبذ مرجعي الحزبي مساهمتي المباشرة في المظاهرات. ولكن ما أن سمعت صوت المظاهرة وأنا على سطح الدار أنتظر، بتوتر، إنطلاقها، حتى أسرعت للإلتحاق بها!، كانت  المظاهرة تتكون من حوالي 500 شخص، جميعهم شباب وغالبيتهم طلبة. كانت الشرطة تسير وراء المظاهرة بهدف ارهابها، وللإنقضاض عليها وتفريقها بالقوة في الوقت المناسب. تحايلنا على الشرطة، وأدخلنا المظاهرة في سوق وكأنما نريد الخروج من الجهة الثانية للسوق، فلم تتبعنا الشرطة وإنما أسرعت لتتهيأ في الجهة الاخرى من السوق لإستقبالنا! عند وصول المظاهرة مكاناً ملائماً في السوق فرقنا المظاهرة فضاع المتظاهرون على الشرطة. كنت أنسق مع ممثل حزب البعث عبد الرزاق أبو الحب في المظاهرة. كانت المظاهرة تهتف بالشعارات الوطنية وكذلك الشعارات القومية بما في ذلك شعار "وحدة وحدة عربية".
وعلى أثر تلك المظاهرة عطلت الدراسة في المدرسة الثانوية، وجرت حملة إعتقالات في صفوف الطلبة وإنقطعت علاقتنا بحزب البعث مؤقتا. وحرصا على مواصلة المظاهرات خرجنا، بعد بضعة أيام من المظاهرة الأولى، متظاهرين من مركز المدينة (الميدان)، في منتصف النهار وفي ساعة ألإزدحام الشديد. وقد بادر بالهتاف ،حسب الخطة المقررة، أخي قاسم. لقد شقت المظاهرة، ولم يتجاوز عددها الخمسون في ذروة نموها، طريقها الى سوق العلاوي ومن ثم الى شارع العباس. وكان هناك جمهور واسع يقدر بالمئات يتفرج على المظاهرة ويسير متعاطفاً معها، ولكن يخشى المساهمة ، مما حدا  بأحد المتظاهرين بأن يهتف يسقط المتفرجون! وكانت مجموعة من الجنود شاهرة سلاحها تسير خلف المظاهرة. عندما وصلت المظاهرة شارع علي الأكبر لم يعد يتجاوز عددها الثلاثين، أربعة منهم أخوتي! تفرقنا في مكان ملائم من الشارع المذكور. القي القبض على أخي قاسم وتمكن من الأفلات من الشرطي الذي كان يحرسه في عربة الخيل (رَبل).  قبل توجههم الى مركز الشرطة (السراي) وساعده الناس على الفرار والإختفاء.
في المساء جاء من يخبرنا  بان الشرطة تستفسرعن بيتنا فتحولت أنا وأحد اخوتي   الى البيت المقابل لنا (بيت صكب) في نفس الزقاق؛ فكنا نراقب دخول الشرطة الى البيت من شباك الغرفة المظلمة التي كنا مختفين فيها. وعند خروج الشرطة عدنا الى البيت نتقافز فرحين لأننا ضحكنا على ذقون الشرطة. وبالمناسبة، كان في (بيت صكب) شاب يصغرني بعدة سنوات إسمه ايضا جاسم، وكان أميّاً ولديه رغبة شديدة في تعلم القراءة. وقد ساعدته وتعلم بسرعة، فبعد أشهر معدودة أخذ يقرا الصحف اليومية! في اليوم التالي لتحري بيتنا جاءت احدى جاراتنا والتى يقع بيتها خلف بيتننا لتخبرجدتي بإستعدادهم لإستقبالنا في بيتهم في حالة مداهمة الشرطة لبيتنا عبرحائط السطح الذي يفصلنا. كانت الجماهيرتتعاطف معنا، ولكن إستعدادها للعمل الثوري كان ضعيفاً ً.
بعد بضعة أيام كنا، لجنة المدينة من ثلاثة رفاق، مجتمعين في بيت أحد أعضائها وإسمه جاسم الطويل. وقد كنا على وشك الإنتهاء من كتابة تقريرعن المظاهرات والأوضاع السياسية والتنظيمية في المدينة، عندما جاءنا رسول من المختار ليخبرنا بان تحريا سيجري على البيت بعد قليل. أسرعنا بإخراج الرفيق الثالث من البيت، أما أنا وجاسم الطويل فقد قررنا ان نعبر على الجيران. وقد حرقنا ما لدينا من أوراق ما عدا التقرير فقد أحتفظت به. عند عبورنا على سطح الجيران وجدت تنوراً أخفيت فيه التقرير، وإختفينا في زاوية ملائمة من السطح. كان علينا ان لا نثير أي صوت لعدم تنبيه أهل البيت؛ فلم يكونوا ممن يتعاطفون معنا. كنت مزكوماً ومضطراً لأن أكتم رغبتي الشديدة بالسعال. بعد فترة وجيزة شاهدنا ضياء مصباح يدوي يتنقل على سطح بيت جاسم الطويل، في تلك اللحظة أشرت لجاسم، مازحا، بأني أريد أن أسعل! فما كان منه ألا وأن وضع يده على فمي. ثم إنتشر ضياء المصباح اليدوي على جهة من السطح الذي كنا نختفي فيه، ولكن الضوء لم يصل، ولحسن الحظ، الى الزاوية التي كنا فيها. بعد فترة حصلنا إشارة من أحد أفراد عائلة جاسم بأن الشرطة غادرت البيت. عبرنا الى بيت جاسم دون أن ننسى أخذ التقرير معنا. طلبت من جاسم أن يختفي وأخبرته بأني سأقيم في الريف لبعض الوقت.

يتبع


86
حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الثالث
نشأتي...طفولتي...وصباي
( 3 ــ 3 )

جاسم الحلوائي                                                                     
jasem8@maktoob.com
كان عندي عم واحد، وإسمه حسن الحلوائي، يحسب على أغنياء المدينة. يمتهن نفس مهنة والدي ولكن بشكل أوسع، كماً ونوعاً، حيث إنه يستخدم المكائن في العمل وينتج، فضلا عما ينتجه محلنا، الدبس والحلوى. وجلّ إنتاجه للبيع بالجملة والتصدير. وكان عمي يهوى تربية الخيول، ويتاجر بها أيضا ويصدرمنها الى لبنان. وكانت الصحف اللبنانية المعنية بشؤون الخيل، تعلن عن وصوله عندما يحل في بيروت، واصفة إياه بتاجر وخبير الخيول العراقي. وبالرغم من الفارق الطبقي بين عائلة عمي وعائلتنا، فقد كانت هناك منافسة بين العائلتين. ولم تكن عائلتي تعترف بوجود أي فرق بين العائلتين!!. فعندما ولدت أختي رحمة، التي تكبرني بأكثر من سنتين، جرى الحديث داخل العائلتين ومحيطها بأن رحمة ستكون لمهدي إبن عمي الذي يكبرها بسنة واحدة. وعندما ولدت شكرية أخت مهدي أصبحت لي وكان عمري عند ولادتها سنة واحدة! عندما كبرت رحمة تزوجت مهدي زواجا فاشلا، فبعد أقل من سنة عادت الى بيتنا، بسبب إنغمار زوجها بمعاشرة المومسات، لتقضي في بيتنا سنتين، لتعود ثانية مستسلمة لفدرها ككثير من الزوجات العراقيات ومنهن زوجة عمي وأمي أيضا.

كنت في السابعة عشر من عمري، وبالتأكيد قبل التحاقي بالخدمة العسكرية، عندما نادتني أمي في أحد الايام لتقول لي" إنت هم رجال...موعيب عليك، ماعندك شوية غيرة " أوقفتها عن الأسترسال طالبا منها أن تخبرني فوراً ما الذي حصل. أخبرتني بأن قريبا لزوجة عمي الثانية سيتقدم لخطبة شكرية إبنة عمي، ويجب عليّ أن أذهب وأنهيه عن ذلك، وقد عرفتني بعنوانه. إمتثلت للأمر. عندي خنجر صغير وضعته في حزامي تحت الجاكيت وتوجهت الى العنوان. وأنا في طريقي الى العنوان شاهدني والدي الذي كان جالسا في المقهى. إستوقفني مستغرباً همّتي في السير، مستفسراًعن مقصدي. لم يقتنع والدي بإدعاءاتي غيرالصحيحة، فإضطررت لأخباره بالأمر.فهدأني واعدا إياي، أن يجلب شكرية لي حتى لو كان ذلك في ليلة زفافها. فرفضت وقلت له :" الماي يسدونه من الصدر" وعندما وجدني مصمما، رافقني. وعندما وصلنا بالقرب من المحل المطلوب جلس والدي في ممقهى قريبة وطلب مني أن احضر له الرجل.

عندما وصلت محل الرجل الخاطب، لم أجده، إنما وجدت والده. فسألني عن حاجتي، فقلت له: "لدي كلمة أريد أن أقولها له". وعندما أستفسر هل من الممكن أن يسمعها، طلبت منه أن يرافقني الى المقهى المقابل للمحل حيث يجلس والدي. بعد السلام والتحيات قال والدي له: " سمعنا بأنكم تريدون أن تخطبوا إبنة أخي حسن. ألا تعرفون بأن لديها ستة أولاد عم أكبرهم جاسم ؟ "، مؤشرا عليّ . كنا جالسين أمام مرقد العباس؛ فأقسم الرجل بالعباس، ماداً يده بإتجاه قبة الضريح، بأن ماأخبروهم به هو إن البنت لديها أولاد عم صغار، وإلا لما عزموا على هذه الخطبة، وأعلن إنسحابهم فورا. علمت لاحقا بأن زوجة عمي هي التي حرضت أمي لدفعي الى هذا العمل المتخلف، لكي تمنع زواج إبنتها بأقرباء ضرّتها. لقد كنت أنظر دائما الى شكرية كأختي ولم يكن لديّ أي ميل تجاهها. وبسبب هذا الحادث، لم يقدم على خطبتها أحد. ولم يوصل أهلى  رسالتي الشفهية من السجن عام 1957 الى بيت عمي أعلن فيها إنسحابي. وبعد ثورة تموز1958، طلب إبن عمتي موافقتي على تزويج شكرية بإبنه رضا، عارضا عليّ  إختيار اي واحدة من بناته الأربعة. وافقت فوراًعلى إقتران شكرية برضا، وشكرته على عرضه رافضاً إياه بنفس الوقت. ولم يكن رفضي لقناعتي بأن الزواج يجب أن يتم بناء على تفاهم الخطيبين فحسب، بل ولأني كنت أميل الى فتاة معينة.

في الاول من كانون الثاني من عام 1950 التحقت بالجيش لاداء الخدمة الالزامية  لمدة ثلاثة أشهر، بعد أن دفعت البدل النقدي والذي كان 50 دينارا عراقيا. وقد قضيت المدة في بابل (الحله سابقا ) والقادسية (الديوانية سابقا  ). في الديوانية كان ينام بالقرب منّي شاب يهودي اسمه صبحى ، ينتظر تسريحه من الجيش ليسافرالى إسرئيل. كنت الوحيد الذي يتحدث ويتمشى معه؟! في السينما الوحيدة في الديوانية شاهدت فلم (غزل البنات) ، من تمثيل وغناء ليلى مراد وأنور وجدي ونجيب الريحاني ، مرات عديدة. و منذ ذلك الوقت وأنا أحب كل أغاني  هذه الفنانة ، العظيمة ، و يدون إستثناء.
 
عندما كنت في الديوانية شاهدت في أحدى المرات مشهدا لم أنساه ، و لا أشك بأنه كان من التراكمات التي شكلت وعيي لاحقا . كان في الديوانية مبغى ( منزول ) عام و رسمي ، كما هو الحال في عدد من المدن العراقية الكبيرة كالبصرة وبغداد ... وكان أرتيادها ممنوعا على العسكريين. وقد تعرفت على جندي يساعد معارفه بأصطحابهم الي بيوت سرية، وقد ذهبت معه. قادني الجندي في أزقة ضيقة  وبيوت صغيرة وقديمة، وادخلني بيتا و من ثم، بسرعة، أدخلني في غرفة صغيرة، وجلسنا على كنبة قديمة، وكان في الغرفة رجل ضعيف غير حليق الذقن لا يتجاوز عمره الاربعين جالساً على الكنبة، أستقبلنا واقفا وجلس عند جلوسنا. وكانت هناك امرأة جالسة على الارض عمرها حوالي الثلاثون عاما لا أثر للوسامة في وجهها ، يشوب نظراتها الانكسار والاعتذار، ترضع طفلا قطعت رضاعته وتركته على الارض، عندما شاهدتنا، بجانب اخيه الذي كان يزحف بالقرب منها. وكان بجانبها بطانية قديمة، معلّقة، تفصل جزءا من الغرفة يتسع لسرير. لم أكن أصدّق ما أشاهده . نظرت الى صاحبي الجندي متسائلا... فأشر لي برأسه بأتجاه المرأة والبطانية؛ فأخبرته بعزمي على العودة الى المعسكر, وقد غادرنا الغرفة فوراً. و في طريق عودتنا، سألت الجندي بعض الاسئلة عن العائلة، فلم يجبني ، فخمّنت إن ذلك جزء من واجبات المهنة.

 وأنا أفكر ببؤس هذه العائلة,  قادني تفكيري ، مرة أخرى، الى البحث عن أسباب هذا البؤس، و عن المسؤول عن ذلك و كيف يرضى الله به ؟ ولماذا لايزيل هذا البؤس عن وجه الارض ؟ و ...الخ. مجرد أسئلة، لم أجد لها أجوبة ، ولاأعرف لمن أوجه أسئلتي، أو هل يجوز للمرء أن يطرح مثل هذه الاسئلة أصلاً ؟! .

 ومن الأسئلة المشابهة التي  كانت تحضرني، وذلك عندما كنت أتمدد على الفراش على سطح الدار في الصيف وأنظر الى السماء، فأتعجب لسعتها و للنجوم وكثرتها وكنت أعرف عند ذاك بأن الله خالقها ولكن كنت أتساءل عن الذي خلق خالقها ؟!. وبالرغم من إن أمي، وهي أيضا أمية كأبي، ردتني، عندما سألتها مرّة ، فزعة،  (أستغفر الله )، طالبة منّي أن أستغفره أيضا، وأن لا أعود لمثل هذه الأسئلة المحرّمة. ففد كان هذا السؤال يفرض نفسه عليّ، منذ أن كان عمري حوالي أثنى عشر عاما. وبعد سنين طويلة، وبعد أن توفرت لي فرصة لدراسة الفلسفة وتاريخها منهجياً في معهد العلوم الإجتماعية في موسكو ، عرفت بأن هذا السؤال يتعلق بمسألة أصل الوجود، التي حيّرت الفلاسفة منذ قديم الزمان، ولا تزال الاجابة عنها مختلفة؛ وأن المعرفة البشرية هي ثمرة هذا الاختلاف و صراعه.   

تحررت من رقابة والدي بعد أن تسرحت من الجيش. وفي الواقع، كانت تلك الرقابة قد خفًت قبل ذلك بسنتين تقريباًً. وتبعا لذلك أخذت تنشأ لديّ علاقات مع الشباب جلاّس مقهى الطرف، أسافر معهم الى بغداد والى الهندية (طوريج) ــ تبعد 30 كيلو متر عن كربلاء ــ حيث توجد سينما صيفية ومحل لبيع المشروبات الكحولية (وهذه كانت ممنوعة  في كربلاء وفي المدن المقدسة الاخرى في العراق مثل النجف والكاظمية... ). يعد ذلك نشأت لي علاقات مع بعضٍ من زملاء الدراسة الأبتدائية واصدقائهم. مجموعة الشباب الأولى لم تكن متعلمة، ولكن المجموعة الثانية كانت متعلمة. كنا نتناقش في جميع الامور ما عدا الأمور السياسية فكان التطرق اليها نادراً، وكانت وجهتنا العامة تقدمية، تميل الى الواقعية وتبتعد عن الغيبيات.  ومن أوساط هؤلاء تكوّنت لديّ صداقات وعلاقات بعضها مستمرة الى يومنا هذا.

في تلك الفترة وبسبب العطالة، أخذت أجلس في المقاهي التي يلعبو ن فيها الدومينو. وتطوراللعب على الشاي الى اللعب على النقود، ومن الجلوس في المقهى الى الجلوس في غرف سرية خلف المقهى، بل وحتى في بيوت خاصة للعب القمار.لم تدم هذه الفترة أكثر من ثلاثة أشهر، وقد تركت هذه العادة السيئة بشكل حاسم، ولم أعد اليها مطلقاً. لقد شهدت كيف يرهن أحدهم عباءته والآخر ساعته وثالث أسطة بناء يخسر المقدمة التى قبضها لكي يباشر العمل، فيتحايل على الزبون ليأخذ المزيد، ويلعب لأسترجاع ما خسره وإذا به يخسر مرة أخرى؛ فيلجأ للتخفي والتهرب من الزبون. وفي إحدى المرات كان لديّ مبلغ، هو كل ما تبقى كرصيد للعائلة في نهاية موسم العمل، فخسرته بالغش؛ فإكتشفت الأمر. وقد كان معي في مجموعة اللعب أحد أقربائي؛ فتشاجرنا وأسترددنا المبلغ الذي خسرته. على أثر ذلك تركت القمار الى الأبد، كما أسلفت. فقد كانت فكرة خسارة المبلغ المذكور، والذي ذقت طعمها فعلا لدقائق قبل أكتشافي الغش، ترعبني. الأنطباع الراسخ الذي خرجت به من التجربة، هو إن المدمن على لعب القمار(القمرجي) عديم الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه وعائلته والمجتمع.

مدينة كربلاء إحدى المدن المقدسة، لاسيما لدى المذهب الشيعي في الدين الأسلامي. يؤمها الكثيرمن الزوّار من مختلف محافظات العراق، وكذلك من بلدان شتى بينها بلدان كبيرة، كإيران والهند وباكستان وتركيا وافغانستان و...الخ. كانت المدينة قبل نصف قرن متوسطة الحجم يقطنها حوالي 80 ألف نسمة.  يحيط بالمدينة بساتين عامرة بالنخيل والأشجار المثمرة التي تنتج مختلف أنواع الفواكه والتمور والخضرالتي تسدالحاجة المحلية ويزيد منها للتصدير, المدينة قديمة و كئيبة. لا يوجد في المدينة سينما، الموسيقى والغناء ممنوعان في محيط صحني الحسين والعباس. وممنوعان في كل المدينة شهري محرم وصفر، وكان ذلك مصدر إستياء بعض الشباب، خاصة أولئك الذين لايملكون راديو. وكانت كثرة الطقوس الدينية ولا معقولية بعضها كالتطبير والزنجيل و...الخ تستفزعقول بعض الشباب وتدفعهم للتفكير حتى بالمسلمات، وكنت واحدا منهم.

87
حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الثالث
نشأتي...طفولتي...وصباي
( 1 ــ 3 )


جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

في القسم الثاني من هذه السلسلة أشرت الى إنني سأكتب حول نشأتي والعوامل الأخرى التي لعبت دورها في تكوين إتجاهي السياسي والأيديولوجي، إن سمح الوقت. ولأن الوقت قد سمح، فلابد أن أفي بوعدي، يحفزني على تحقيق ذلك أيضا تشجيع الأصدفاء على مواصلة كتابة هذه الذكريات بإعتبارها شهادة إضافية، تضاف الى الشهادات الأخرى، على بعض أحداث وظروف مرحلة تاريخية هامة من تاريخ العراق المعاصر. ولكن هل ترقى الذكريات الخاصة الى مصاف الذكريات العامة ؟ هناك أكثر من إجابة على هذاالسؤال. وفي رأيي، بأن الذكريات الخاصة تكمل صورة الذكريات العامة وتجملها وبالتالي يمكن أن تكون مفيدة وممتعة .

ولدت في الأول من تموزعام 1932   في مدينة كربلاء. و نشأت في عائلة كادحة، فقيرة تقريبا، كان والدي حرفياً، لديه محل صغير يصنع فيه الراشي (طحينية) وزيت السمسم في الشتاء ودبس الرمان في الصيف؛ ويبقى عاطلا عن العمل اشهراً عديدة من السنة. ولأنه يقامر في سباق الخيل (الريسس) ويبذر المال في الملاهي والمقاصف، فقد كان مفلساً في أحيان كثيرة. وكان ذلك مصدر فقر العائلة وعوزها؛ فكنا لا نجد الخبزالكافي في البيت أحيانا، في فترات التعطيل عن العمل. وعن هذه الفترة، هناك حادث "بسيط" ظلّ عالقا ًفي ذاكرتي، وهو أننا كنا نتعشى على السطح في إحدى الليالي, وكان الظلام شديدا، مددت يدي في الصينية فإرتطمت بأيدي اخوتي الفارغة والتي هي الأخرى كانت تفتش عن الخبز؛ فسحبت يدي بسرعة لكي لا أنافسهم يوما على آخر لقمة خبز وأنا أكبرهم سنا. ولولا والدتي، وإسمها زكية، والتي كانت خياطة ماهرة،  تخيط حتى ملابس العرائس، لكان وضع العائلة بائساً جداً.

كان والدي، وإسمه محمد، يشّغل معه عاملا أو عاملين، وعادة ما كان يلبس ملابس العمل في بداية الموسم، ليكسب ثقة هذا التاجر أوذاك ، ليبيع بالجملة ويحصل على مبلغ محترم من المال، كمقدمة، لتمشية العمل. ولان الشروع بالعمل ، بعد إنقطاع طويل نسبيا، يتطلب مساهمة ولمسات من رب العمل. ومن ثم كان والدي يترك العمل ليبقى مشرفاً فقط.

تعلمت الكتابة والقراءة في الملاّ ( الشيخ)، وقد ختمت القرآن أكثر من مرة، وكنت أصلي بزملائي صلاة الظهر والعصر؛ ويبدو بأن صوتي القوي وإدائي الحسن كانا السبب في إختياري لهذه المهمة. في عام 1939 منعت الحكومة التعليم في المشايخ، وشجعت أولياء أمور الطلبة على إدخال أبنائهم في المدارس. ووفرت أعمالا شريفة للشيوخ ، فالشيخ محمد مثلا ، وهو نفس الشيخ الذي كان يعلمنا، أصبح فراشا في مدرستنا ، مدرسة (العباسية)، التي تأسس الصف الاول فيها من عندنا، نحن الوافدون من المشايخ. ولما كانت المدرسة جديدة وصغيرة ، فأن تلاميذ المدارس الابتدائية الاخرى كانوا يستهزؤن بنا ويسمون مدرستنا ﺒ"مدرسة الدجاج!!" مستوحين التسمية من سوق لبيع الدجاج يقع بالقرب من مدرستنا.

 بعد الصف الرابع توقفت مدرسة (العباسية) عن فتح صفوف جديدة، فتوزع تلاميذها الناجحون من الصف الرابع على المدارس الابتدائية الاربع في المدينة . والناجحون الثلاثة الأوائل توزعوا على ثلاث مدارس حسب أماكن سكناهم ؛ و كان من نصيبي مدرسة ( الفيصلية )، وكنا قد أنتقلنا تواً من محلة ( باب الخان) الى محلة  (العباسية الشرقية )، حيث تقع المدرسة المذكورة ــ فقد جمعت أمي ما لديها وباعت كل ماتملك من هدايا عرسها لتشتري قطعة أرض في المنطقة الفقيرة من هذه المحلة والتي تقع في ضواحي كربلاء وتسمى(ﺍﻠﻤﮕﺎﻊ) لتبني عليها بيتا متواضعا أستغرق بناؤه حوالي السنتين بسبب فقر الحال ــ وأصبح هؤلاء الوافدون " من مدرسة الدجاج" الأوائل فى مدارسهم في الصفين الخامس والسادس ، وتحققت بذلك سمعة جيدة لمدرسة (العباسية)، وأزيلت عنها الى الابد تلك التسمية الساخرة. وكان هؤلاء الثلاثة كل من سعيد غدير, والذي التحق بكلية فيصل في بغداد ــ وكانت خاصة يالخريجين المتفوقين من الأبتدائية ــ وطاهر نسيم الذي واصل دراسنه في كربلاء ،أما أنا فقد أجبرت على ترك مقاعد الدراسة.

لم أترك الدراسة برغبتي وإنما برغبة عائلتي وبشكل خاص والدي، الذي كان يحتاجني لمساعدته في العمل. لقد سبق وان أجبرت على ترك الدراسة بعدما نجحت من الصف الخامس، ولكن ضغوطا قوية مورست على العائلة، من قبل هيئة التدريس في مدرسة (الفيصلية)، والتي كان يهمها تخريج بعض المتفوقين الآهلين للقبول في كلية فيصل، جعلت العائلة تتراجع، ولو الى حين، مشترطة بأن يكون الصف السادس هو الصف الاخير. و قد قبلت الشرط لكي أنهي المرحلة الابتدائية على الاقل. وهكذا كان؛ فما أن أنهيت إمتحان البكلوريا للصف السادس حتى التحقت بالعمل مع والدي في المحل أساعده في كل شيئ . وسرعان ما بلغت سن الرشد، فأخذت أعمل بديلا عن عامل ، اسّهي السمسم ،  ولكن ليس بأجر كامل. وبعد بضعة سنوات ترك والدي مسؤولية المحل على عاتقي؛ وكان المحل مديوناً بمبلغ طال تسديده اقساطا لأكثر من سنتين!
كنت أحب الغناء والموسيقى، وكنت  أحب سماع عبد الوهاب وراوية وكارم محمود وليلى مراد ومحمد الكبنجي وأم كلثوم. عندما كنت أسهي السمسم كنت أغني لهؤلاء. وكان صوتي يرتفع ويتحسن عندما تكون فخرية بالخان، الذي يقع محلنا فيه. وفخرية هذه فتاة حلوة لم يتجاوزعمرها السادسة عشر. كانت تأتي الى الخان لتساعد أبيها في بيع الحصران، أو لتلّعب إخوتها. وعندما تكون الأجواء ملائمة تقترب لتقف في باب محلنا، فنتجاذب أطراف الحديث. لقد كنت أهواها وتهواني.  ولأني لم أكن جاهزا للزواج، أسرع أهلها بتزويجها لوضع حد للهمس الذي أخذ يسمع في الخان. مرة قال لي أحد العمال الذين يعملون في الخان " إشلونك وياها ها... إيدك بالدهن؟ " علما بأني لم ألمس يدها!!

عندما كنا ننتج دبس الرمان ، كنا نستخدم حوالي 12 إمرأة لتفريط الرمان. وفي أحد الايام شاهدت، وانا عائد من البيت الى المحل حاملا معي وجبة غذاء الظهيرة،  في الشارع رجلا، يبدو من ملابسه إنه فلاح معدم، حاملا بيده، المرفوعة الى  أعلى، كف إنسان يقطر منه دماً.  وقف على المنصة الخاصة بشرطي المرور، والذي لم يكن واقفا في مكانه آنذاك بسبب حرارة الشمس، وهزج (هوّس)، بسرعة، إهزوجة تعبر عن " غسل العار"  وركض مسرعا باتجاه مركز الشرطة. عندما وصلت الى المحل، وجدت جثة امراة على حصيرة من القصب (بارية) ويسيل الدم منها، وعرفت بإنها إحدى العاملات عندنا، وقد قتلها الرجل المذكور طعناً بخنجره  "غسلا للعار! " وقد تذكرتها، كيف كانت تنظر الى الارض خجلا عندما تستلم أجورها، وجهها بائس وحزين وليس فيه مسحة من جمال. وقد فسّرلنا الحادث ، لماذا كانت  تأتي للعمل باكرا قبل بزوغ الفجر، و لماذا كانت تحاول أخفاء وجهها عندما تخرج من المحل. لم تمر الحادثة دون أن تثيرالكثير من الأسئلة لديّ، وخاصة عن السبب الأساسي لمثل هذه الحوادث .

صمت في شهر رمضان سنتين في صباي وصلّيت مدة أطول وقرأت عددا من الكتب الدينية بما في ذلك نهج البلاغة؛ وساهمت مرة واحدة في التطبير (ضرب القامة على الرأس) في اليوم العاشر من شهر محرم بمناسبة إستشهاد السيد الحسين... والغريب في الأمر هو إنني  كنت بعيدا عن التدّين وطقوسه عند قيامي بذلك ! كانت مجرد نزوة ينطبق عليها المثل العراقي القائل: (على حس الطبل خّفن يارجليّة) .

ولأني كبير أخوتي، الذي أصبح مجموعهم ستة، فأن والدي إهتم بتربيتي لكي أتولى أنا تربيتهم .  وكان إهتمامه منصبا على جانب واحد تقريبا، وهو أن لا ننخدع من الاولاد الاكبر سناّ منّا و ننحرف جنسيا .  وكانت إجراءاته قاسية جداً، على سبيل المثال لا الحصر، لم يسمح لي بالاشتراك في السفرات المدرسية . وفي إحدى المرات، وسط دهشة وذهول زملائي  في الصف السادس لرفض والدي مشاركتي في سفرة مدرسية، شاهدنا والدي ماراّ ــ وكنا واقفين امام باب المدرسة ــ فتطوع بعضهم للتحدث معه حول الموضوع، فذهب إثنان منهم، يعرف والدي آباءهم، فتحدثوا معه وأستّلوا منه الموافقة على مساهمتي بالسفرة بعد أن أفحموه، ومما قالوه له : " لماذا تخاف على جاسم وحده ؟ ولا تخاف علينا ؟ "  طبعاً لم يكن زملائي يعرفون ممّ كان يخاف والدي، فهو لم يبح لهم بالسبب الحقيقي .


يتبع


88
حدث هذا قبل نصف قرن - القسم الثاني
منظمة راية الشغيلة وتجربتي معها

( 5 ــ 5 )
   
جاسم الحلوائي                                                                       
              jasem8@maktoob.com                                                                                                                                                               
أعتقد إن قيادتي الطرفين كانت ترى بأن في  الإدانة الصارمة للإنشقاق ضمانة لعدم تكراره في المستقبل، وإن إلقاء قسط وافر من مسؤولية الإنشقاق على عاتق قيادة(باسم) البيروقراطية و..الخ في الإنشقاق سيخفف من الصرامة المطلوبة ونتائجها المرجوة. ولم تزك الحياة هذا المنطق. فبعد أحد عشرة عاما حصل إنقسام خطير في الحزب وكان للبيروقراطية والنزعة اليسارية المغامرة دورهما في ذلك؛ ولست بصدد التوقف عند هذا الإنقسام فهو خارج موضوعنا.

نجح سلام عادل في توحيد الشيوعيين في حزب واحد؛ وكان ما يؤخذ عليه هوإعتبار إن ما تم صفقة، وليس حلا مبدأياًً، بين سلام عادل وجمال الحيدري وعامر عبد الله (أو بدون الأخير)، وإلا فكيف أصبحا جمال الحيدري وعامرعبد الله أعضاء في  المكتب السياسي بتلك السرعة ؟ لألقاء الضوء على هذه النقطة، يمكن الرجوع الى ماكتبه سلام عادل في 26 كانون الثاني 1960 في جريدة "إتحاد الشعب" العلنية، في معرض توضيحه الظروف التي أدت الى تغيير إسم الجريدة المركزية للحزب من "القاعدة" الى "إتحاد الشعب"، حيث يذكرمايلي : "... فكان أن دخل ممثلو الحزب الشيوعي العراقي وممثلو منظمتي "راية الشغيلة" و"وحدة الشيوعيين" مفاوضات سادها جو مبدأي عملي تكللت..." [خط التشديد مني. ج]

هناك إذاً جانبان للمسالة أحدهما مبدأي والآخر عملي. المبدأي معروف، هو إدانة الإنشقاق وتحميل المنشقين كامل المسؤولية عن ذلك، بلا لبس وغموض، وحل المنظمة. واللقاءات المطولة التي جرت بين سلام عادل وكوادر من منظمة "راية الشغيلة"،  ولم تقتصر على مَن وردت أسمائهم في أعلاه، كانت لإقناعهم بذلك، وليس لإطلاعهم على "صفقة". والعملي ليس لغزًا، فهو المرونة في الشؤون التنظيمية بما في ذلك الإتفاق على وضع المكتب السياسي واللجنة المركزبة، وربما تغيير إسم الجريدة، بعد وحدة الحزب. ويذكر المؤرخ حنا بطاطو في هذا الصدد مايلي: " ولم يعد جمال الحيدري وجناحه الى الحظيرة حتى 17 حزيران (يونيو) 1956، يوم تم التوصل الى إتفاق ينص على تمثيل "وحدة الشيوعيين" و "راية الشغيلة" والحزب الشيوعي في اللجنة المركزية الموحدة الأولى بنسبة 1: 2: 8: على التوالي، وعلى أن تتم الإختيارات في المستقبل، على أعلى المستويات وعلى مستوى كل الأجهزة الحزبية، "فقط" على أساس الكفاءة والصلابة..."   

وهكذا، فإذا كان الجانب المبدأي ستالينيا، بتقديس وحدة الحزب،  بإعتبارها "أسمى مبادئه"، على حساب إدانة النهج اليساري المغامر والسلوك البيوقراطي الفردي الذي كان لهما دورا كبيرا في الإنشقاق، فقد كان الجانب العملي إختراقا للستالينية، وتقاليدها في حزبنا، في أسلوب "تصفية" المنظمات والكتل الأنشقاقية. وبالتالي يمكن إعتبار ذلك مأثرة من مآثر سلام عادل وكذلك الرفاق الذين ساهموا معه في تحقيق وحدة الحزب؛ آخذين بنظر الإعتبار في هذا التقييم،  بأن ذلك حصل قبل نشر التقريرالسري للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي الذي يدين فيه عبادة الفرد ــ عبادة ستالين.
 
في آذار 1956 ،وانا واضعا إذني لصق الراديو لسماع إذاعة موسكو (كان سماع إذاعة  موسكو ممنوعاً) وإذا بها تذيع تقريراللجنة المركزية ،الذي تحدثت وسائل الأعلام عن وجوده قبل نشره. ومما سمعته، وما معناه، هو: " لقد أصبح نقد ستالين وكأنه نقداً للإشتراكية، وبالتالي خيانة للوطن الأشتراكي. ولذلك كان هناك الكثير من الرفاق المخلصين الذين يتحسسون الأخطاء ولم ينتقدوها ...الخ، وبذلك وجدت حلا للأزمة التي كنت أعاني منها. لقد فهمت بأن ممارسة النقدغير مجدية في ظروف معينة، وبالتالي لم يكن صحيحاً ممارسة النقد الأصولي تجاه قيادة (باسم) الفتية ولو لم يحصل ذلك لما حصل الإنشقاق!
 
بعد أيام قليلة وصلنا باقر إبراهيم للمرة الثانية، فأخبرته بما توصلت اليه؛ فطلب مني أن أكتب ذلك في رسالة للحزب. وقد فعلت ذالك. لم نناقش يوما، أنا وباقر، تحفظاتي التي أشرت اليها حول طريقة حل منظمة "راية الشغيلة". في هذه السفرة سلمني باقر خلية فلاحية تتكون من خمسة أو ستة رفاق في ريف (بساتين) كربلاء. في الإجتماع معهم تطرقوا الى "راية الشغيلة" وتهجم بعضهم على المنظمة مستخدمين كل الألفاظ القبيحة الوارد ة في بيان الراية وأدبيات الحزب، متظاهرين بعدم معرفتهم بيّ. نظرت الى باقر مستاءً فتحدث باقر مخففا من غلوائهم. ولم يكرروا ذلك لاحقاً، فقد أصبحت مسؤولهم الحزبي .

بعد فترة وجيزة إنضممت الى لجنة محلية الحلة وكان معي في اللجنة حمد الله مرتضى وعنصر آخر، رحل من عندنا بعد أول إجتماع، وكان باقر سكرتير اللجنة. أما لماذا ربطت منظمة كربلاء بالحلة  وليس بالنجف، خاصة وإن النجف وكربلاء كانتا محافظة واحدة آنذاك؟ أعتقد كان ذلك لإدماج تنظيمات "راية الشغيلة" بالحزب. ومن الضروري الإشارة الى إن الحزب إحتضن رفاق المنظمة،إنطلاقاً من نهج تعزيز وحدة الحزب .

وإذا تكلمنا بعقلية اليوم نجد إن الحياة تشير الى إن الأحزاب الشيوعية كانت تفتقر للديمقراطية، وبالرغم من إن أنظمتها الداخلية تنص على إن بناء الحزب يقوم على أساس المركزية الديمقراطية، فالمركزية كانت طاغية والديمقراطية ضئيلة. وكانت الستالينية ملزمة لها نهجا وفكرا، وذلك أحد الأسباب الهامة  للإنقسامات في تلك الأحزاب،  وفي نفس الوقت سبب المعالجات الخاطئة لها. بل وأكثر من ذلك؛ إن هذه الأحزاب لم تتحول الى أحزاب ديمقراطية، حتى بعد إدانة الستالينية، لأنها حرصت أن تبقى أمينة لنظرية وطبيعة وأهداف "حزب من طراز جديد" فإنهارت الأنظمة الشمولية التي بنتها في الإتحاد السوفيتي واوربا الشرقية. لقد أجرت الكثيرمن تلك الأحزاب تغييرات جذرية في بنيتها وطبيعتها وأهدافها لتتحول الي أحزاب ديمقراطية تؤمن بالتعددية وبتداول السلطة السلمي وتنتخب هيئاتها القيادية بحرية تامة .

أما الأحزاب غير الحاكمة فدخلت في أزمة وجود(تبقى أم لاتبقى). صحيح أن االمثل والقيم والأهداف النبيلة للإشتراكية (حرية، رفاهية،عدالة إجتماعية، مساواة) تعبر عن الحاجات و الطموحات العميقة لشغيلة اليد والفكر، ألا إن تحقيق تلك الأهداف لايقع في الأفق المنظور، وبالتالي فإن دَمقرطة هذه الأحزاب لنفسها  ولبرامجها ولأساليب عملها وخطابها السياسي، بما ينسجم ومتطلبات التطور التاريخي لبلدانها، كفيل بديمومتها وعدم تهميشها، بل ويمكن أن يكون لها شأن كبير في الحياة السياسية والإجتماعية في بلدانها، كما هو الحال بالنسبة للكثير من الأحزاب الشيوعية السابقة في اوربا الشرقية.  وهذا ما سعى ويسعى اليه الحزب الشيوعي العراقي ايضا .   

صفحات: [1]