عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - عدنان أبوزيد

صفحات: [1]
1


  تشرين.. دولارات ومناصب

عدنان أبوزيد

أقدّم لكم سندويشات عسيرة الهضم، عن تشرين، سوف لن يقدر البعض على ابتلاعها.

 
تناهت مليونية تشرين2022  إلى (تقبيطة كوستر)، بدلا من انتفاضة مليونية، وحين تنّبأنا بذلك مسبقا، أٌتِّهمنا
بمولاة السلطة.

 
الذين يلقّبون أنفسهم قادة تشرين، أو مفكريها، يغردون وينظّرون في مقراتهم الآمنة والتريفة، ويمثّلون في الفضائيات طوال الوقت، دون النزول إلى ساحة الوطيس.
 
 

تهاطل المتظاهرون إلى الساحة، بلا منهج، وهم يعتقدون أن عبور حاجز جسر الجمهورية، واجتياح الخضراء
سوف يسقط النظام، وهذا قصر نظر، وانعدام وعي بآليات التغيير.
 
 
مضت ثلاث سنوات على تشرين الأولى، ولم يستطع منظمو التشارين الموعودة من تنظيم صفوفهم ولا آليات عملهم.
لقد تمخض الجبل، فولد فأرا.
 
 
القافزون على أكتاف تشرين الأولى، ممّن حصدوا المناصب، أو ربحتهم مشاريع أخرى، او استظلوا في الخارج باسم عذابات الشباب المحتج، نسوا مشروع التغيير.

 
تشرين الأولى، كانت شعبية، عفوية، على رغم التسييس والاستثمار الاقليمي فيها، وما بعدها، فهي دكاكين للإيجار.
 
 
الذين نصبّوا أنفسهم قادة ميدانيين، انسحبوا من الساحات، من دون سبب مقنع، وهو دليل فاضح على الارتجالية والمساومات.

 
العاطفة لا العمل الثوري، هي التي تقود المحتجين، والدليل إنهم يبكون وهم يستمعون إلى النشيد الوطني، وكأنه اغنية عاطفية.
 
 
فاشلون، وفاسدون، وفارون خارج البلاد، ومسؤولون سابقون يتمتعون بالرواتب الدسمة من الدولة العراقية نفسها ومن
جهات اجنبية، يتحدثون باسم (ثوار تشرين).

 
هناك من يؤلب على تشرين جديدة مقبلة، رغم الفشل المتراكم، وكأنها دوري كرة قدم، فالثورة ثورة في لحظتها، فإما نجاح أو فشل.
 

 
النواب الذين صعدوا إلى البرلمان، خونة، في نظر المحتجين، وما عادوا ينتمون إلى تشرين 2022 بل إلى نادي المنتفعين، وما طرْد علاء الركابي وتمزيق صورة باسم خشان ومحمد عنوز، إلا دليل على إن المتظاهرين ينظرون اليهم كوصوليين.
 
 
 تشرين بيعت، والثمن دولارات ومناصب وولاءات، وحين تصبح الثورة تجارة، يتحول المتظاهرون إلى سلع. 
 
 
لقد ماتت تشرين، واكرام الميت في دفنه على عجل، والتفرغ الى تظاهرات مطلبية تضغط على الحكومة لتوفير المشاريع و فرص العمل والعدالة في توزيع الثروة.
 



2
حصر همْسة المنفلتة بيد الدولة 

عدنان أبوزيد

تصادمت الآراء، بشأن فيديو مسرب للإعلامية والفاشنيستا همسة ماجد، تكشف فيه احتجازها فتيات، ومتقويّة بسلطات.
وهمسة لم تأت بمستحدث، لكنها كشفت الكامن عن انحلال مسؤولين ونافذين وأصحاب سلطة ومال، تتحكم فيهم الانفعالات الحميمية والصلات النسائية، والجهاز التناسلي لحسناوات الصالونات الزرقاء، والحمراء.
وفي مجتمع متحفظ مثل العراق، يبدو غريبا، استئجار الدعارة الإعلامية لمسؤولين ومتنفذين حكوميين مقابل خدمات جنسية، او منافع مالية.
وقبل همسة، كشفت جوجو دعارة، عن علاقة مع شخصيات نافذة تنسق معها.   
وظهرت شهد الشمري رفقة ضابط عراقي وهو يستثنيها من شروط الحصول على البطاقة الوطنية.
بدت همسة، ليس ذلك الجنس اللطيف، بل الوحش المتسلط، وصاحبة القرار، وقد دفع حديثها المنطلق مع دخان النرجيلة، احد المدونين إلى القول بإن نسخة همسة ستجدها على هواتف الكثير من المتنفذين وأصحاب ( العلاقات الغامضة) .
كنت أعذل فائق دعبول على الايغال في الصراحة السلبية، لكنه كان محقا حين قاتل إن (الدولة لازميها شلة برابيك)،   وهو مصطلح محلي عن القِحاب.
وقد تبين إن ذلك حقيقة، فأمثال همسة وغيرها، تتوفر لهن الحمايات، وتهابهن الوزارات، والضباط، ويستطعن حسم   ملفات خطيرة، بمكالمة تلفون، ويتدخلن وسيطات في عمولات وصفقات.
لقد أصبحت قضية حصر همسة ماجد ومثيلاتها المنفلتات بيد الدولة، ضرورة أمنية وأخلاقية، لكني اشك في امكانية ذلك.
 


 


3

الزعامات العراقية متوتّرة والشارع منفلت
عدنان أبوزيد
تخطّط الأحزاب والقوى المتنفذة لخطاب شعبوي، يلامس الشارع المتذمّر، وقد رصدتُ انها تسعى الى جذب الشباب، واستحضار التعبئة العمومية بالأنصار المؤدلجين.
وهذه العملية ليست من أجل الفوز بالساحات، حسب، بل هي تعويض لغياب الزعماء عن الشارع، شيعة وسنة وعربا وكردا، اذ أرصدُ اختفاءهم عن الجولات الميدانية.
ينطبق ذلك حتى على السيد مقتدى الصدر، الذي كان يحرص على الحضور الميداني الذي انكمش كثيرا.
بشكل عام، تتجه زعامات العراق المتعددة الى الابتعاد عن الأسلوب المترفع في الخطاب، والمعالجات التنظيرية، كالتي عُرف بها إبراهيم الجعفري، ساعية الى سلوك شعبوي يحقق من جديد سبل الرواج والمقبولية المتآكلة.
لنعترف أن النخبة "الحاكمة" أو "المتنفذة، باتكيتها السياسي، ومفردات قواميسها، لم تعد تبهر الناس، حتى وهي تتحدث عن إعادة انتاج ملفات مكافحة الفساد، والإصلاح، وحتى في الاستثمار في المشاعر القومية والطائفية.
أصبحت العلاقة بين الطبقات المسحوقة والغاضبة، والنخب، تقوم على الكراهية. وفي ظل ديمقراطية منفلتة، فان التعبير عن ذلك يتم بالسب والشتم والاشاعات في الشارع والاعلام والتواصل الاجتماعي.
يا للأسف، تكاد البلاد تخلو من الزعامات الكاريزمية التي تستطيع تحشيد الشارع المزدحم بالشعبوي والشعبي، وانتهى الأمر إلى فقدان الثقة بين الأطراف، بل أن السياسي العراقي أصبح منزوع الثقة في نفسه بسبب الإخفاقات، وشعوره بالانسلاخ عن الشارع.   
أقول: الزعامات العراقية متوترة، والشارع منفلت. 

4
عواصف رملية إرهابية
عدنان أبوزيد

اقترن التطرّف في العقدين الأخيرين بالاعتقاد، واعتُبر الفكريّ منه، المحرك الأول لتوجيه سلوك الفرد.
لكن التطرّف الفعال في الفرد ليس فكرياً، حسب، بل بيئةً وأداةً.
وإذا كان بعض العنف وليد تعصّب اعتقادي، فانّ الكثير من السلوك اليومي العنفي هو نتاج ظرف قاسٍ يؤثّر في المزاج ويدفع الى الغلواء.
البيئة الوسطية تحفّز على التوازن، فتجد سكانها على رغبة شديدة في التعايش والتمتّع بتفاصيل الحياة، وانتهاج الوسطية في العقائد.
الذي يعيش في الغابة الخضراء، ليس كمَن يعيش في الصحراء المجدبة، فتجد الأول سلِسا متجاوبا، فيما الثاني متعصّبا جلِفا..
كما انّ الذي يحرص على استنشاق الزهور من حوله كل يوم، وسقيها ورعايتها، لهْو أكثر استعدادا لاستيعاب جمال العيش وحسنه من الذي يلتفت فلا يجد حوله سوى الرمال والأحجار ومخلفات الصناعة والزراعة.
نحتاج الى لجم البيئة المتشدّدة والظروف القاسية، تماما مثلما نحاصر الفكر المتزمّت، فحيث انّ أيدولوجيا التعصب تستقطب الجماعات المتزمتة، فانّ البيئة الجافة تحفزّ الأشواك، وتحرّض القسوة.
وحيث انّ حاملي الغلوّ في الفكر يقتلون الناس كيفما يشاءون، فانّ العواصف الرملية في بلدان التطرف المناخي، لا ترحم.
 وليس مصادفة أنْ يقترن وجود داعش، وقطاع الطرق بالصحارى القاحلة وهوامش المدن المنسيّة، والجحور الرطبة.
نحتاج الى زراعة الأشجار والأزهار في المدن والضيعات والقرى، والبراري لأنها تلطّف ليس المناخ، فحسب، بل الروح، وتخفّض ليس حرارة الجو، فقط، بل تخفض مناسيب الملل الضجر، والكراهيات على أشكالها.


5

 
صلافة بعثية وشيوعية وقومية تجاه الرأسمالية و(الرجعية)!   

عدنان أبوزيد


وجد الكثير من (الاشتراكيين) العراقيين في دول الرأسمالية (المتوحشة) التي شنّعوا بها طويلا، وطنا سعيدا لهم.
ورأى شيوعيون وبعثيون و قوميون ويساريون أنّ دول الغرب، فضلا عن بلدان الخليج الغنية، التي اتهموها بالرجعية، والمؤامرة، هي المستقر الرغيد لهم.
وجلّ هؤلاء، لم يعودوا الى بلدانهم حتى بعد زوال الانظمة التي حاربوها، اذ طابت لهم الحرية والملذات، والخضراء والوجه الحسن، في هذه الدول التي حاربوها باسم الاشتراكية والثورية والمبدئية والحرية والطبقية.
   
وقد تشابه الشيوعيون والبعثيون والقوميون والمتعصبون فكريا في الديدن، والسلوك، في اختيار هذه الدول اوطانا بديلة وهم الذي حرّضوا الناس طويلا على كراهيتها.
ويتذكر العراقيون القصيدة التي رصّها البعثيون في الكتب المدرسية: "لندن مدينة اللصوص"، ولاحقا هرعوا الى مدينة الضباب وأصبحت غايتهم في اللجوء ورغيد العيش.
وكان لدول الغرب الرأسمالي، ثم الخليج لاحقا، النصيب الاكبر من مسبّات اليمين واليسار والمؤدلجين والثوريين من نزار قباني الى مظفر النواب الى الجواهري الى كوادر الاحزاب القومية والعلمانية وزعاماتها.

الكاتب الخليجي علي القحيص على صواب، حين يتحدث عن شعراء مثل مظفر النواب، شتموا دول الخليج طويلا لكنهم في خاتمة النضالات والخطابات التي ما قتلت ذبابة، لجئوا اليها.
وجلّ رجالات النظام البعثي السابق بالعراق، كرهوا الخليجيين كرها عظيما، واسموهم بالرجعيين، لكن أغلبهم اليوم يعيش بين ظهرانيهم.
العاطفيون الجياشون سوف يستعرضون عنتريات المشاعر المنفلتة ضد مقالي، والمؤدلجون العميان سوف يشتموني،  لكن سوف ألطمهم بقولي:
سأحترمكم، حين أجد – ولو- عصفورا، قرر اللجوء اليكم، كي ينعم بأوطانكم.
سأحترمكم حين تعالجون أنفسكم من الذهان الفكري، والثابت إن العلاج لا يتوفر في بلدانكم.


6
العقائد عابرة للحدود.. فلا تابع ولا متبوع

عدنان أبوزيد

العقائد الدينية والسياسية عابرة للحدود الجغرافية، والقومية، وربما فشلت في البلاد التي نبتت بذورها فيها، أو تنكّر الناس لها في موطنها الأصلي، فتلقّفتها أمم أخرى ورعتها، وارتفعت بها شأوا.

بل انّ شعوبا استخلصت عصارة تلك العقائد، وزاوجتها مع ظروفها، ولائمتها مع احوالها، فبرعت في التطبيق.

دعوة الإسلام ظهرت في مكة التي ضيّقت على حاملي لواءها الذين فرّوا الى المدينة، ونجحوا هناك في تحويلها الى دولة.

ماركس كان ألمانياً، ولم تثمر أفكاره في بلده الام، بل في روسيا، وتشكّلت على هديها الأحزاب الاشتراكية في بلدان مختلفة.

وتبنّت الحركة الاشتراكية في بريطانيا، أفكار ماركس، مع الاختلاف في انها ضد الثورات الانقلابية.

وفي مقاربة لأزمنة قريبة، فانّ حركة طالبان نشأت في المدارس الدينية الباكستانية، لكنها شيّدت قواعدها في أفغانستان.

والماوية مثال صارخ على تلاشي القومية والهياكل والهويات الاجتماعية والعرقية، أمام قوة الايمان بالنظريات.

وكانت الحركة الاشتراكية النمساوية المجرية بقوتها الجماهيرية الهائلة، مثار اعجاب الكثير من الشعوب، وأصبح الزعيم النازي أدولف هتلر، رمزا ينجذب الاشتراكيون الديمقراطيون، الى مفاهيمه عن السلطة الجماهيرية.

والأناركية زحفت من ألمانيا الى الولايات المتحدة الأميركية، وتصادم مناصروها في ميدان هايماركت بوسط مدينة شيكاغو .

وفي البلاد العربية، فانّ الأيديولوجيات الشيوعية، والقومية والإسلامية، تجتاز المناطقية والمذهبية. 

وآمن قوميون عراقيون، بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، واتخذوا منه زعيما، وانبهر يساريون عراقيون وعرب بلينين، و ماوتسي تونغ، وغيفارا، وهوشي منه. 

وعلى مدى عقود انتشر العقائد الإسلامية في الكثير من دول العالم، ونمت المسيحية من طائفة دينية صغيرة إلى أكبر عائلة ديانات في العالم.

ويتبع الكثير من المسلمين الشيعة في مختلف البلدان، منهج مؤسس الجمهورية الاسلامية في ايران، آية الله الخميني، فيما حركة الاخوان المسلمون السنية لها اعضاء في مختلف أنحاء العالم.

والدارسون للهياكل الاجتماعية وتاريخ تحول المجتمعات، يدركون آليات وظروف التغييرات الثقافية الكبرى.

وفي الكثير من الحالات، فانّ العقائد تنتشر من "القاعدة إلى القمة" من خلال تمكين الطبقات الدنيا، والوعد لها بتحسين الحياة.

يقول الدكتور جوزيف واتس في كلية علم النفس بجامعة أوكلاند، أنّ من المرجّح أن تنتقل المعتقدات بسرعة، إذا كان يقودها زعماء أقوياء.

7

السياسة وسيلة للثراء لا الخدمة

عدنان أبوزيد

تتأسّست الديمقراطيات على محور التنافس بين الأحزاب التي تحتاج إلى المال لتمويل نشاطاتها.

لكن لهذا المال، خطورة، اذا أصبح غاية، لا وسيلة، وقد يؤدي الى المحاباة للجهات المانحة التي يمكنها حتى شراء أصوات الناخبين.
ومن أكبر التهديدات للديمقراطية، هي تلك الأموال التي تتدفق على الأحزاب، بصورة منفلتة.
وفي تقرير فريدوم هاوس، يظهر جليا ان الموارد المالية أثناء العملية الانتخابية أحد أهم التحديات حتى في أوروبا.
وفي العالم الثالث تبرز خطورة المال السياسي على تشكيل الخرائط السياسية والحكومات، اذ يسود في الغالب الافتقار إلى المعلومات حول مقدار الأموال التي تمول اللاعبين، وهذا يقوض الثقة في الدولة، ويفسح المجال لانتهاك الموارد العامة، وقبول الاختراق الخارجي.

في بعض الدول، يهيمن الحزب الحاكم على موارد الدولة ويستغلها للترويج لبرامجه، وكان قرار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بعدم المشاركة في انتخابات 2021، خطوة إيجابية لإبعاد تأثير المال الحكومي.

في دول كثيرة، فانّ أحزابا، تقود الوزارات، تستخدم موارد هذه المؤسسات الحكومية لاجل تمويل نفسها واغراء أنصارها.
يمكن تصوّر امتيازات السياسيين في البلدان العريقة ديمقراطيا، اذ لم تسجّل عليهم فعاليات تمويل مشبوهة، ومن ذلك ان 44 رئيسًا أمريكيًا، لم يصبحوا اغنياء.
باراك أوباما ولد في عائلة من الطبقة الوسطى.
أفلست عائلة ريتشارد نيكسون وعاشت في شقة مستأجرة.
تشرشل، كانت لديه مهنة عسكرية، ولم يظهر عليه الثراء.
وفي ايران، فان الرئيس الأسبق احمدي نجاد، والرؤساء من بعده، من محدودي الدخل.
وفي العراق، تُرصد امتيازات هائلة، نقلت بعض السياسيين من دائرة الفقر الى الثراء الفاحش.

 

8

أزهار الديمقراطية لن تنمو في الصحراء البدوية والعشائرية

عدنان أبوزيد

أحصى مركز بيو للأبحاث في العام 2018، 27 دولة في العالم فشلت فيها الديمقراطية، وانّ فكرة سيئة ترسّخت عنها بين الأفراد في دول مثل تونس والأرجنتين ونيجيريا واليونان، وان الفساد السياسي مصدر قلق مشترك لدى الشعوب الأكثر استياءً، مثل لبنان.

وحتى في الدول العريقة الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة، فانّ الانفلات في التعبير، وصل الى أقصاه، ومن ذلك ان الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب، اشاع بأنّ باراك أوباما لم يولد في الولايات المتحدة.
 
لم تصبح الديمقراطية ضحية الإغراء المغري للاستبداد، فحسب، بل ضحية أنصارها أيضا من اليسار واليمين، وقد أدى ذلك الى صعود الشخصيات الشعبوية مثل فيكتور أوربان في المجر، ودونالد ترامب في الولايات المتحدة، و بوريس جونسون في المملكة المتحدة، بل ان الديمقراطية فسحت المجال لصعود اشخاص لا يحترمونها الى مركز القرار، وهي التي أخطأت من قبل، وارتقت بأدولف هتلر الى قيادة ألمانيا، العام 1933.
 
يصح القول المعروف (ايتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك)، على الديمقراطية أيضا.

وفي دول عربية، مثل العراق ولبنان، فان أحزابا تمارس الديمقراطية من اجل الوصول الى المناصب، لكنها في بنيتها الداخلية، استبدادية.

وإذا كانت الديمقراطية قد ازاحت الإيديولوجيات الشاملة مثل النازية أو الشيوعية، وفي العراق ازاحت نظام الزعيم الواحد، لكنها فشلت في تحديث الهياكل الداخلية للأحزاب والكيانات.

أحد أسباب اضمحلال الديمقراطيات، عدم تحولها الى ثقافة أمة، ما اتاح للفساد، من الاستفحال، وشجع الأحزاب على التحول الى اقطاعيات على حساب الدولة، كما في بولندا والمجر ورومانيا ولبنان وتونس والعراق.
لقد أفادت التجارب، أن ثوب الديمقراطيات الغريبة سيكون ضيقا على الشعوب العربية التي اعتادت ارتداء العباءة البدوية والعشائرية، وسيظل هذا ديدنها حتى تتغير ثقافتها وآليات التفكير لدى أفرادها. 

9


دعائيون لا تطبيقيون

عدنان أبوزيد

تكثر في مجتمعات ضائعة، الشعارات، والنصائح، والوعظيات، ولا تسفر عن منتج، أخلاقي، وماديّ.
 
وعلى جدران أماكن عامة وخاصة، تلصق مادة الغراء، منشورات "النظافة من الايمان"، لكن المواضع تمتلئ بأكوام القمامة.

وفي مؤسسة ومصنع وشارع، تثبّت المسامير على الحيطان، كليشات (الوقت من ذهب) فيما الموظفون يستغرقون في
الروتين، الذي يكدّس الواجبات على المناضد.

وفي بلدان معينة، تُؤسَّس مكاتب النزاهة ومؤسسات الرقابة، وتتشدق النخب والناس بالعفّة، وتنتصب في المكاتب، دروع الإخلاص وشهادات الأمانة، فيما البلاد تغرق في بحر الفساد.

وقد حدث لدى أمم، انّ المسؤولين يشيدون بالتواضع، ونسف الحواجز مع الناس، والتجول في الأسواق والميادين الشعبية، لكنهم يقضون جلّ وقتهم في الأبراج العاجية، والمكاتب الوثيرة، ويصلون الى الناس بقوافل السيارات الفخمة، ومن حولهم الحمايات والخدم.

وحدث في شعوب، ان المفاهيم تتكدّس، وتلال الكتب ترتفع، وتعج مرافق المجتمع بالناصحين والمثاليين، لكن
المسؤوليات لا تدار بكفاءة، والنزاهة تضيع بين صراخ المنظرّين، وسيطرة عقيمي الفكر، وسطحيّي الفهم.

ويُستدل على الفجوة الواسعة بين القول والفعل، حين تقرأ في واجهات المصالح، والمتاجر، عبارة من مثل "من راقب الناس مات همًّا"، فيما الواقع يحفل بمراقبة الآخرين، والتطفل على حياتهم.

وفي كل هذه الامثال، تُرصد المثاليات الإيجابية التي تحولت الى شعارات جوفاء لأنها لا تطبّق، تسوّقها أيضا نوافذ المئات من الفضائيات، ومواقع التواصل، ونغمات الهاتف الجوال، وواجهات المتاجر والمولات، والدعائيون الواتسابيون والفيسبوكيون في مختلف شؤون الأدب والأخلاق والعلم.
 
 المؤكد انّ ذلك يجد له مرتعا، في الدول التي تعاني من تخلف واضطراب العقائد الاجتماعية، اذ يتناسل المدائحيون والقصّاصون والشعاراتيون، ومشلولو العقل، بأعداد أكثر من أصحاب الإنتاج، والابداع والتفكير العلمي.
 
 

10
المثقف انتهازي لأنه يخاف ويتملّق

عدنان أبوزيد

يذهب المثقف العربي لا سيما العراقي مع الريح، فيميل حيث الاتجاه، مفضّلا حبّ السلامة على الخصومات الفكرية والاجتماعية والسياسية، بل ينزوي في اللحظة التي تتطلب منه موقفاً.

أحداث مفصلية كثيرة في الفضاء العراقي، لم تخضع لها معالجات وبحوث حبّذت التماهي مع النخب السياسية والصفوة الاجتماعية المتنفذة، على التعاضد مع الممانعة والاحتجاج، وكأنّ الأمر لا يقلقها.

في الكثير من السياقات، تتملص المعالجات الثقافية والفكرية، بصورة مقصودة، من الخوض في مشكلات المواطن اليومية، التي تمسّ صميم حياته، لتنشغل في فضائيات ترفيّة، واستعلائية، لا يفهمها المواطن، ولا ينشغل بها.

على سبيل المثال، لا الحصر، بدى الشعر الشعبيِ، وأقوال المهاويل، والطروحات الشعبوية، أكثر تعبيرا عن الشقاء الشعبي، ليطغى على إعلام التواصل الاجتماعي، ويتناقله عامة الناس، بشغف، وتشيع مقاطع الفيديو بغزارة، فيما تغيب بضاعة النخب الثقافية والأدبية، عن الميدان، عدا الحلقات الخاصة والمتخصّصة.

أكثر من ذلك، يتماهى الكثير من المثقفين وأصحاب القلم والنقدة الاجتماعيين، مع ظواهر غوغائية ويبرّرونها، لتتحول
الى أخلاقيات معترف بها، من قبل النخب وصنّاع الرأي.
 
وقد أدى ذلك الى تبرير الكثير من الفظائع، مثل المعارك الطائفية، والعنف العشائري، والأدبيات الاجتماعية السلبية.

يقول ألبير كامو، في نبوءة لما يحدث اليوم في الكثير من انحاء العالم، انه "عبر التاريخ فان الأفعال السيئة هي التي تتطلب تبريراً، أما اليوم فانّ الأعمال الجيدة هي التي تستوجب ذلك".

نحن نعيش في أوقات غريبة، فحين نحتاج الى المثقفين من اليسار أو اليمين، نجدهم يتراجعون في اللحظة المناسبة، عن قيادة المجتمع لخلق نماذج مثالية، وهو ما حدث في العراق بعد العام 2003، حين انحسر المثقف عن الحدث وترك الساحة لغيره، وهو الذي كان يصرخ بانه مهمّش، وانه يريد ان يستعيد دوره.

بل انّ المثقف العراقي بكل اشكاله، فشل حتى في ترسيخ المجتمع المدني، الذي كان ضحية العسكرة واضطهاد الدولة طيلة عقود، لتتكرر المعضلة والتحريفية الجديدة، اليوم، على صعيد الممارسات الاجتماعية، والمؤسسات، والعلاقات الثقافية والسياسية.

المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، والتكتلات العملاقة والشركات متعددة الجنسيات، على قوتها، تخشى الرأي العام الذي يصنعه المثقفون، الذين تحوّلوا الى قوة قسرية، قادرة على إخضاع الاتجاه العام الى قيم علاقات متوازنة وصحية، ولم يكن ذلك الا عبر تسخير القلم بجرأة وشجاعة في الخوض بأكثر الظواهر خطورة وحساسية.
 
نحن نعيش أزمة فكرية وإعلامية، ذلك ان الخشية من القوى السياسية والاجتماعية المهيمنة، يعني التنازل عن الدور في توجيه المجتمع، وجعله ضحية الخداع السياسي والرجعية الاجتماعية.

نحن نعيش حالة رأي عام تفرضه اجندة طوارئ فكرية فوضوية، لغاية نضوج ثورة فكرية يقودها أولئك الذين يتشبثون بالمبادئ، ويمتلئون باليقين الجذري، وحتى تلك اللحظة، سنبقى رهينة بأيدي أولئك الانتهازيين الذي يتقافزون بين الأيديولوجيات والسياسات.

   

11

الشهادات العليا في الغرب تنحسر.. وفي العراق تتضخّم

عدنان أبوزيد


معضلة التضخّم في أعداد خريجي المعاهد والجامعات، الناجم عن الانتفاخ الديموغرافي ليست عراقية فقط، بل عالمية، لكن الفرق، انّ دولا نجحت في معالجاتها وتحويلها الى فرصة للتطور والازدهار، بعدما كانت أزمة مستفحلة.

بحسب (بي بي سي بيزينس)، يتخرّج من الجامعات في الهند، أكثر من خمسة ملايين طالب سنويا.

وفي الصين يتخرّج سنويا نحو ثمانية مليون طالب من جامعات البلاد، بأكثر من سبعة أضعاف العدد قبل 15 عامًا، وقد أدى ذلك الى مصادمات دموية في العام 1989 في ساحة تيانانمين، اشعلها الشباب العاطل لاسيما الخريجون، وقد تكرّرت نسخ منها لاحقا في دول كثيرة ومنها العراق، حين أشعل الشباب العاطل فتيل تظاهراته التشرينية العام 2019 وقبلها انتفاضة شباب الربيع العربي.

تجربة الصين رائدة في امتصاص عاصفة تناسل الشهادات، بعد ان خفضّت نسب البطالة الى 4٪ باقتصاد متسارع النمو، وقطاع خاص يمد أذرعه الى كل انحاء العالم.

في أوربا، التي تمنح جامعاتها سنويا اعدادا هائلة من الشهادات، بمستويات علمية رصينة، لجأت الخطط الى ابتكار فرص عمل للكوادر الوسطية في مختلف القطاعات، الامر الذي قلّل من اعداد الطلاب الشهادات الجامعية العليا، وأصبحت الدورات الفنية المتعلقة بالتوظيف، الأكثر اقبالا من المواد الأكاديمية والنظرية في الجامعات التي تتطلب زمنا أطول، الى الحد الذي يؤكد فيه معهد تشارترد للأفراد والتنمية ان إشراك المزيد من الشباب في التعليم العالي لم يعد مبررًا، بسبب تضخم الاعداد، فضلا عن كلفه الهائلة.

بل ان نجاح تجربة أوربا في استيعاب الشباب المتعلم، رائدة وفريدة، فلم تشهد هذه القارة المبدعة هجرة لشبابها عبر الحدود، ولم يكن ذلك ليتم لولا الاقتصاد القوي والإدارة الناجحة للموارد البشرية.
 
الى وقت قريب، كان يُنظر الى شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، على انها النافذة الاوسع للحصول على وظيفة، لكن التخطيط الاقتصادي البعيد الأفق، وسّع من دائرة الفرص، وأصبح الطلب يتزايد على الحرف ومجالات الكادر الوسطي، والتلمذة الصناعية، حتى ان خريجين جامعيين، لجأوا اليها بعد عجزهم عن العثور على وظائف الشهادات العليا ونجحوا في اختراق القطاعات التي احتكرتها المجموعات الاجتماعية المتدنية التعليم، مثل الفلاحين والعمال المهاجرين والعاطلين.

وعلى عكس ما يحدث في العراق، فانّ الوظائف في قطاع الدولة في الدول الصناعية، لم تعد هدفا للخريج الجامعي الباحث عن العمل، لأنه يدرك ان هناك مئات الفرص التي يوفّرها القطاع الخاص، مع امتيازات أفضل.

المتعلمون العاطلون، في دول أوربا، لا يُتركون وشأنهم، فهم يُمنحون رواتب اعانة شهرية، ويدخلون دورات تحويلية
تأهلهم بشكل عملي الى سوق العمل، بغض النظر عن الشهادة التي يحملونها، الامر الذي يحول دون انفصالهم عن   الواقع، لاسيما حين يرون ان دولتهم عادلة، وصاحبة اقتصاد ابتكاري، وان التوظيف على وفق المهارة، وليس الشهادة فقط.


   

12
 
مأساة عجوز عراقية في هولندا

عدنان أبوزيد

وصلت أم حيدر (75 سنة) إلى هولندا قبل نحو عشرين سنة.
ومن دون الخوض في كيفية وصولها إلى الأراضي المنخفضة، ودوافع طلبها اللجوء، كون الشأن، موضوعا شخصيا، فان المهمّ الذي يتوجّب ذكره، إن هذه المرأة الطيبة، آلت حياتها إلى نعيم، وسكينة، واسترخاء.
تُودِع الحكومة راتبها الشهري في حسابها البنكي، من دون مراجعة دائرة، أو الجري وراء "معاملة" إدارية.
تعيش في شِقَّة مدعومة الإيجار، فيما التأمين الصحي يسخّر لها العلاج والأدوية بالمجان، وتتنقل في مناطق الحي بعجلة كهربائية حديثة الطراز، مخصّصة للعجزة والعاجزين، وتزورها الرعاية الاجتماعية بشكل دوري، كما خصّصت لها البلدية، عاملة، تدير شؤون بيتها، في زيارة أسبوعية.

لكن أم حيدر، وإنْ تشكر السلطات الهولندية، على الخدمة العظيمة التي لم تظفر بها في وطنها الأم، بل و حتى من أولادها، وأسرتها، غير انها وبعفوية مفرطة وغير مقصودة، تعتقد ان كل هذه التكاليف، مدفوعة الثمن من "نفط العراق"، في وهْم يقع فيه الكثير من البسطاء، ناجم عن معلومات مغلوطة.

أم حيدر، ومهما كان تفسيرها لمصدر "الترف" الذي هي فيه، فإنها تحمد هذه البلاد، وهي تجد نفسها في تساو تام مع أبناء البلد الأصليين، بل وتزيد عليهم، بحكم الاكتراث الخاص الذي تحظى به كونها لا تجيد لغة أهل البلد، فضلا عن إنها طاعنة في السن.

أم حيدر التي قضت جلّ عمرها، وهي تنوّر الأجيال، معلمة في بلدها العراق، لم تكن تتوقّع يوميا أن يكون إكرامها في بلد أجنبي، لم تخدمه يوما واحدا.

أم حيدر، مثال للآلاف من الحرفيين والكسبة والمهندسين والضباط والمعلمين والأطباء والرسامين الذين قضوا جلّ حياتهم في خدمة بلادهم، وفي الدفاع عنها، لكن مصيرهم في نهاية حيواتهم، آل إلى هوان وازدراء، ليجدوا التقاعد والرعاية الاجتماعية، والصحية في بلدان لم يخدمونها، ولا حتى يوما واحدا.

هذه اللقطات، تفسّر البواعث التي تدفع شباب العراق والعرب، ودول العالم الثالث إلى امتطاء البحار، واجتياز الغابات وتحمّل المخاطر من اجل الوصول إلى بلدان اللجوء.

العلاّت واضحة، لم تعد مخفية على أحد: إنها الكرامة، وتأمين مصادر الرزق، وفرص العمل، والتعليم، والأمن والعدالة الاجتماعية.
المواطن ثروة، وعملة صعبة، فما أن يصل النازح حتى تتلقّفه مؤسسات التعليم، والعمل، فيولِج الدورات الدراسية لإنماء النظريات والمهارات، ومعها تأمين دخل شهري كاف، حتى إذا ترشّح للعمل، انطلق إلى وظيفته بكل اقتدار.
وإما كبار السن، فحدّث ولا حرج، كأنهم الملوك، ولا تنقصهم سوى التيجان.

تعيش أم حيدر، ومعها المهاجرون، في دول، دستورها، الإنصاف الاجتماعي، ورأسمالها الإنسان، ما جعلها تتفوّق حتى على دول النفط، في تسخير الإنسان للحياة، حتى باتت الرحمة تتجسّد في سياساتها، وهو ما لم تجده في دول تغرق بالشعارات، والمثاليات النظرية.

13

المواطن فاسد وكسول واتّكالي
عدنان أبوزيد

تبدأ النهضات بالمواطن الإيجابي الذي يتمّ واجباته، وينفذ التزاماته تجاه الدولة، بنفس حرصه على نيل حقوقه.
وفي العراق، والكثير من دول الإخفاق الحضاري، يبرز (الانسان النصف) الذي وصفه الكاتب مالك بن نبي، بانه ذلك الفرد الشديد الإلحاح على طلب حقوقه، لكنه لا يقوم بالحد الأدنى من الواجبات.
المواطن النصف، لا يكتفي بالإسراف في طلب الحقوق دون الواجبات فحسب، بل ويجد التبريرات لذلك، ويعتبر نفسه على حق حين يقضي جلّ وقت الوظيفة الرسمية، دون انجاز، وحين يعتبر عمله، منّة واحسانا للآخرين، يتوجب عليهم شكره وتبجيله، وتكريمه، وحين لا يدفع الضرائب، ويتململ من استقطاع جزء يسير من الراتب لأجل الخدمة العامة، وحين يرفض الانصياع للقوانين في الشارع، وعذره في ذلك، أنَّ الأموال تذهب إلى جيوب الفاسدين، وان لا جدوى من العمل لأنها "خربانة"،
وما إلى ذلك من أعذار.
الدول التي غرقت في مستنقعات التخلف، وانطمست في رماد الحروب، لم تتعافَ من وباء الانسان النصف، الا بتغيير ثقافته وتحويله إلى مواطن كامل المسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه، واعتباره الواجب تجاه الدولة، مهمة إلزامية، يؤدي فشلها إلى إثارة غضب القانون، والمساءلة الأخلاقية.
أكثر من ذلك، يوصَف الانسان النصف، بانه ناقص الوجدان، فضلا عن كونه متمردا، ولنتصور شعبا جلّ سكانه من الاتكاليين، النفعيين، فاغري الأفواه، ومقيدي الأيدي التي لا تعمل، إلا بالعمولات، والاغراءات. نحتاج إلى طالب يذهب إلى المدرسة والجامعة ليتعلّم لا ليحصل على شهادة ديكورية..
نريد عاملا ينتهي وقته بتحقيق الإنجاز، لا نحْر الوقت بالكسل.  نعوز إلى موظف يقدّس عمله، ولا يترك المراجعين في الطوابير. نحتاج إلى مواطن ايجابي يحصل على معاشه بعرق جبينه.
نحتاج إلى الابتكار والابداع، لا المناصب التي تهدر الجهد بلا انجاز..   
 الجهد القليل والدخل الكثير، معادلة الشعوب الميّتة، والمتأخرة، التي نبذ مواطنها المهن والعلوم والحرف، فراح يلهث وراء الشهادات الصورية، والحفلات الطقوسية، والتنظيرية، والالقاب، والخواطر، فاهمل التطبيق المهني والتعليم المفيد، والبحث العلمي، وتطبيقات العلم، لينتهي الامر إلى جيل لا يعرف الابداع، ولا يحترم الإنتاج.
أحد امراض العصر العراقي، هو اللهاث وراء الوظائف الحكومية، بشهادات شكلية، ليتحول التعليم إلى وسيلة توفر الفرص للبطالة المقنعة، بتخريج آلاف المنظّرين سنويا، وتعجز عن رفد المجتمع بالمبدعين في الإدارة، والزراعة والصناعة، والاقتصاد والحرف.
 تخيل شعبا يغصّ بالموظفين الكسالى والخريجين النظريين، والذوات المبجّلين، وأرباب الكلام، والموظفين المنافقين على الناس والوقت، وأصحاب الشعارات، الذين تسللوا إلى أخطر المناصب والوظائف من دون انتاج.
لكن ذلك لن يحدث، الا حين تتوفر الدولة على احترام كرامة الإنسان وحريته والمساواة وسيادة القانون، حيث المواطنة هي معادلة متوازنة من الحقوق والواجبات، تختلف كليا عن الجنسية بمعناها الإداري والقانوني، كونها إحساسا بالانتماء والمصير المشترك.

14
الغرق في الماضي والانبهار بالآخر

عدنان أبوزيد

ينبهر المواطن العراقي، بإنجازات دول أخرى، بعد تعثّر تجربة التنمية والاعمار في بلاده، وكلما زار بلدا محدثا، مستقرا، ماثله ببلده في مستويات الخدمات، ومسارح التمدن.
ومهما اختُلِف على الأسباب التي أدت الى الإخفاق، لكن الأغلبية المطلقة، تتفّق على النتائج.

والانبهار خالِجة طبيعية، وتعبير عن السمو الى الأفضل، لكنه لدى الكثير من العراقيين، مقرون بالوجوم، لا الأمل،
نتيجة النكبات والصدمات المتتالية التي حلّت ببلادهم.

مظاهر المدنية، المادية، والسلوكية، هي التي تصنّف البلدان، وفيما إذا نجحت في استقلال قطار الحضارة، ام انها لازالت تنتظر في محطة، لا تصل العربات اليها ابدا.

مصطلح الحضارة هو الأهم اليوم، من بين جميع المصطلحات في العلوم الاجتماعية الحديثة، ويُقصد بها أولا إنجازات الحاضر، ثم التسلسل الهرمي التاريخي للأحداث، نزولا الى الماضي، لكنها لدى العراقي تؤشّر على الماضي فقط، بعد توقّف عقارب ساعته عند حضارات سادت ثم بادت من آلاف السنين، من بابل الى سومر وآشور، متغافلا عمدا أو جهلا، عن قياس مستويات التحضر لديه في الوقت الحاضر، وفيما اذا مجتمعه قد نجح في استعادة بريق تلك الحضارات.
 
يجب أنْ توفر مفردة حضارة، منظورًا جديدًا يعي الانسان فيها دوره الحاضر، لا الماضي، لكي يكون دافعا لتوليد جو من التفكير النقدي الذاتي.

التحضر مرتبط بالسلوك قبل الإنجاز، فثمة دول أرسلت اقمارا صناعية، وصنعت سيارات، وارتقت في البرمجيات مثل الهند، لكن الكثير من شعبها غير متحضر في جوانب العلاقات الإنسانية والطبقية، ونظام العمل والعادات والتقاليد الاجتماعية.
ينطبق الامر على دول مثل العراق، وحتى الصين، ففي هذه الدول، تجد على سبيل المثال لا الحصر، طريقة ذبح الحيوان، خالية من الرحمة، والفقراء يقبعون تحت ظلال البنايات الشاهقة، فيما لا تجد ذلك على الاطلاق في الدول المتحضرة حقا، مثل أوربا الغربية.

هذا لا يمنع القول، من انْ صنّاع الحضارة المعاصرة، ارتكبوا الأخطاء، التي سببتها الغطرسة الاستعمارية، لكنهم اعترفوا لاحقا بان ذلك لم يكن أخلاقيا.

الأمم المتحضرة التي قطعت شوطا رائعا في بناء مجتمعات عصرية متطورة، لا تعبد الماضي، ولا تحن اليه، فما حصل من أحداث، ونقاط قوة وضعف، كان له أسبابه، وظروفه، فلا تجد في الادبيات الغربية من يتأسف على مستعمرات تحررت، ودول كانت تحت قبضة اوربا، باتت اليوم مستقلة، على النقيض من المفاهيم التي تتحكم مجتمعاتنا العربية،
التي لازالت الى الان تحزن وتتألم لسقوط الاندلس.

الكثير من الخطابات المهيمنة اليوم تتحدث عن الماضي العظيم المثالي، على شاكلة "ملكنا هذه الدنيا قروناً، وأخضعها جدود خالدونا"، وهو في واقعه هروب من الحاضر البائس، نحو سراب لا يوصل الى طريق، ولا يبني مجتمعا.
 
بدلا من الاعتراف، بجدوى حضارة العصر، لما أنجزته من ماديات ومثاليات، نهاجمها، ونعتبر ماضينا أفضل منها، بتأثير الخطابات التي اوهمتنا، بان الماضي هو كل شيء.
 

15


  أساطير وأكاذيب عن خريجي الجامعات بالغرب

عدنان أبوزيد

هل يعمل جميع خريجي المعاهد والجامعات، في مجالات اختصاصهم، في الدول المتقدمة؟، وهل الحكومة هي التي تتكفّل بتعيينهم، ام انهم يكافحون، ويتنافسون بندّية من أجل الظفر بوظيفة؟.

سؤال سيكون مهما، لو رصدنا ان الخريجين في العراق يعتقدون ان خريجي دول أوربا المتقدمة والولايات المتحدة، واليابان، والصين وروسيا، يمارسون اختصاصاتهم التي درسوها ويتدفقون الى سوق العمل، لمجرد انهم حاملو شهادات.

دراسة للبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك حول سوق العمل لخريجي الجامعات، تفيد بأن 27 بالمائة فقط من حاملي درجة البكالوريوس يعملون في وظائف "مرتبطة بشكل مباشر" بتخصصهم فيما 62 بالمائة فقط منهم لديهم وظيفة تتطلب شهاداتهم، ما يعني أن عددًا كبيرًا جدًا من الأمريكيين من ذوي التعليم المتقدم، تضيع امتيازاتهم الدراسية ومواهبهم العلمية في سوق العمل.

لعل أكبر كذبة متداولة، ان الدول المتقدمة تقدّم الاغراءات والعروض المغرية لأصحاب الشهادات من الأجانب، لكي تسحبهم من بلدانهم، فيما الواقع ان هؤلاء الخريجين وأصحاب الخبرات والمواهب هم الذين يهاجرون الى تلك الدول بحثا عن فرص العمل.

الذي يعيش في تلك المجتمعات، يعرف جيدا، وبعيدا عن التنظير، والتلفيقات الزائفة، ان هناك أطباء يبحثون عن فرص عمل، وان خريجي اقتصاد يعملون في مجال الرياضة، وان طلاب جامعات يعملون في المطاعم.
 
يشير بحث أجرته جامعات المملكة المتحدة إلى أن واحدًا من كل ثلاثة خريجين ينتهي بهم الأمر إلى "عدم التطابق" مع الوظائف التي يجدونها بعد ترك الجامعة، لهذا السبب تكثر الاعمال والوظائف الطوعية، لاكتساب المهارات وتجارب العمل، والدورات التدريبية، لكن الفرق ان العاطلين في الدول المذكورة انفا، لهم رواتب مجزية من الضمان الاجتماعي، تنتهي حال الحصول على وظيفة.
 
والجامعات في الغرب، لا تخرّج فقط، بل هي مشارك فعال في إيجاد الوظائف، عبر الدورات التدريبة لسد "فجوة الخبرة"، بمساعدة التمويل الحكومي لدعم تطوير المهارات، حيث يفضّل العديد من أرباب العمل توظيف الشباب الذين أمضوا أعواما في العمل.
 
لا تبدو ثمة علاقة بين جامعات العراق وسوق العمل، فمهمتها هي تفريخ الآلاف من الخريجين سنويا، الذين لا فرصة لهم في التوظيف غير المسار الحكومي، وفي حين ان الجامعات في العالم المتقدم تقود الصناعة والبحوث والوظائف، فان جامعات العراق لا تتجاوز دور "التفقيس" لخريجين بمستويات علمية لا تبعث على الفخر في الكثير من الحالات.

لكي نستفاد من التجارب الناجحة، ينبغي دراستها وتطبيقها، ومن ذلك ان تصنيفات التوظيف في تايمز البريطانية للتعليم العالي، والتي تقيس آفاق الخريجين لكل جامعة رئيسية حول العالم، تفيد بهيمنة جامعات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وهولندا و فرنسا وألمانيا وأستراليا والصين وكندا على المراكز الأولى في قدرتها على إقامة علاقات موثوقة مع ارباع العمل، والشركات الكبرى، ما جعلها لا تمنح الشهادة فقط، بل والوظيفة ايضا.

16



أجيال عراقية غير مؤدلجة تجد ضالتها في النت لا العقائد

عدنان أبوزيد

الشباب يمثّل الجيل الأكبر والأكثر تنوعًا في العراق، بل هو السمة البارزة للمجتمع، في وقت تصِف فيه دول أوربية متطورة، أنفسها بـ (الشعوب الرمادية)، نتيجة ارتفاع معدلات الشيخوخة، لكن العراق مثل الكثير من البلدان، لا يستثمر في هذه الثروة الشبابية.

يزيد من أهمية ذلك، ان الشباب العراقي بدى مكترثا جدا بالأوضاع السياسية، اكثر من أي وقت مضى في تأريخ بلاده، ما يجعل ذلك محور انتقال انقلابي في الوضع الاجتماعي لهذه البلاد.

يشبّ في العراق جيل غير مؤدلج، لا يجد الأجوبة على اسئلته في التنظيرات التقليدية المؤدلجة في الكتب، بل في الانترنت والتواصل الاجتماعي والثقافات العالمية بحكم تقنيات الاتصالات الحديثة.

لا يحّبذ هذا الجيل، المعارك الأيديولوجية الأساسية، ويمتلك الجرأة على تجاوز الثوابت الفكرية وحتى الدينية، بحكم التحرر الثقافي، والاجتماعي، وهو أمر أصبح من الصعب ردعه حتى من قبل الأنظمة الشمولية والقمعية، وكانت ثورات الربيع العربي أنموذجا صارخا لهذا التحول الجيلي.

لا بد من الاعتراف بان النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في العراق، فشل في استيعاب الجيل الجديد، لاسيما
ما يتعلق بارساء سياسات اجتماعية تقضي على الحرمان، والبطالة، نتيجة الفساد، وسوء الإدارة، والحروب التي تسببّت في انهيار الاقتصاد، وما نتج عنه من نفور جيل الألفية من نظام (ديمقراطية النخبة).

يعبّر العراقيون الشباب عن رغبة واضحة في التغيير في طريقة إدارة الحكومة والمجتمع، وهم متناقضون مع الكثير من العناصر الأساسية في النظرة المحافظة للأوضاع، ما يتطلّب تجديدا يستوعب هذه التطلعات.

فضلا عن كل ذلك، فان هناك ما يدل على ديناميكية أكثر تعقيدًا، فالشباب العراقي لم يعد يبالي بالعقائديات السياسية، وهي التي حكمت العراق عقودا طويلة، ويفضّلون عوضا عن ذلك، تأمين مستقبل حرياتهم، غير عابئين بأسباب الصراع السياسي في بلادهم والمنطقة.

مقارنة بالأجيال الأكبر سنًا، يتبنى قطاع واسع من الشباب العراقي، وجهات نظر أكثر ليبرالية وميلا للديمقراطية، ويقترب بشكل واضح من شباب المجتمعات الصناعية المتطورة الذي يفضل الإنجازات المادية في الاتصالات والبنى التحتية، والترفيه، على الانشغال بالاشتباكات السياسية والإيديولوجية والعقائدية.
 
واضح جدا، ان النزعة المحافظة التي يتميز بها العراقيون الأكبر سنًا تتآكل بين جيل الألفية الذي تربي على الإنترنت، 
و ينحسر الخطاب الموجّه والمتحزّب، بين الكثير من الشباب، ومن المفترض ان يحل محله الخطاب العلمي، الابستمولوجي، بحكم التطور الاجتماعي، كما هو الحال في الكثير من البلدان التي مرت بتجربة مشابهة للعراق، لكن الكثير من الشباب بدا عاجزا عن ذلك، متبنيا طروحات مثقلة بالعاطفة الثورية، ومتأثرا بالخطاب التأليبي الموجّه، المولّد للوعي الزائف.

لا يمكن استيعاب الجيل الجديد بتطبيقات تجميلية، ذلك ان احتجاجاته التي تضمحل، سرعان ما تعاود الاشتعال طالما
ان حجم البطالة لم ينخفض، ورقعة الفساد، تتّسع، والصحة ونوعية التعليم، والمشاركة السياسية، لا تحظى بمعالجات منهجية.

 
 
 

17
 

هل عقم العراق عن إنجاب زعيم عظيم؟

عدنان أبوزيد

هل نجحت صناديق الاقتراع بالعالم، في إنجاب قادة عظماء، سيّروا البلاد في الحرب والسلم، الى السمو والازدهار، بعيدا عن الاستبداد، والتوّرط في استغلال المنصب من أجل المال، والجدوى الشخصية.

مع دنوّ الانتخابات في العراق، فانّ الديمقراطية أمام امتحان صناعة زعماء يحترفون السياسة والإدارة، ويركّزون على الخدمة العامة، ويفضلّون مشاريع الأمة، على مآربهم الخاصة.

الانتخابات في الدول الناجحة، هي السبيل لاصطفاء الزعيم المثالي وفريق عمله، لاسيما في أوقات الشدائد، والأحوال المضطربة، حيث يمثّل الانتقاء، تدبيراَ حسّاسا وخطيرا، لان تداعياته ستكون وخيمة على مركز القرار، ومستقبل الامة.
 
نجح ونستون تشرشل في تخطي نوبات الالتهاب الرئوي، ليكون قادرا على العمل طوال الوقت، والتركيز في أكثر الأوقات صعوبة، وكان مستعدا لأنْ يعيد تدقيق خطبته لثلاثين مرة، كي تصبح عباراتها مثالية، حتى لا يقول المواطن بانه انتخب الزعيم الخطأ، في الزمن الخطأ.

يتصوّر البعض انّ الحظ يلعب دورا في ارتقاء زعيم ما، وانّ الديمقراطيات فقط هي الوحيدة القادرة على انجاب زعماء لا يتشبثون بالكرسي، لكن نابليون بونابرت يدحض ذلك، ويقدّم الدليل على انّ الأمم يمكنها صناعة الزعيم التاريخي، لكن ليس بالصدفة، بل عن حتمية، تفرزها الآلام، والنزوع الى الرفعة.
 
فرانكلين روزفلت، احترم وعده للآباء الأمريكيين، بعدم ارسال "أولادهم" إلى حروب خارجية، على الرغم من انّ هذا الوعد، يقلّل من فرصه احتفاظه بالبيت الأبيض، ومواجهة العاصفة السياسية من الخصوم.

أبراهام لنكولن، أقال الوزراء والجنرالات ذوي الأداء الضعيف، من دون خشية فقدان الحلفاء السياسيين.
 
عزل ستالين نفسه، أسابيعا، لكي يرد على هجوم بربروسا في 1941، ولم يستفزه اقتراب الألمان من بوابات موسكو، وحشّد المقاتلين بطريقة مثالية، موصلا رسالة عظيمة، بان الشعب هو من يقرر للمصير، حتى في النظام الشمولي.

شارل ديغول، آمن بأنّ الديمقراطية الحقيقية، لن تسمح بنفاذ زعماء منحرفين او عرضييّن، الى مركز القرار، واذا حصل ذلك فهذا يعني انّ هناك ثمة خطأ، وعلى الشعب ان يتعلّم الدرس ، لتقويم المسار، وعدم اجترار الإخفاق.

ولأنها اثبتت جدارة في الزعامة، فانّ الشعب الإنكليزي تضامن مع مارغريت تشرشل، بعد محاولة اغتيال الجيش الجمهوري الأيرلندي لها في 1984، واعتبر ذلك، ضربة لخيار الشعب.

ربما تتعثر الديمقراطية في انتقاء قادة وممثلي الشعب من أصحاب الكفاءة والخبرة والقيادة، لكنها في الخاتمة، لن تجعل الطارئين، يستمرون.

الديمقراطية العراقية في حاجة الى المزيد من التمرين، والوعي، من اجل النجاح في قيادة الناس عبر أولئك الذين يختارهم الشعب في الانتخابات لأجل تمثيله، وليس من أجل تكريس مصالح الحزب او الجماعة، والشعوب الحية لا تنتظر الصدفة، ولا تهاب الصعود على التضاريس السياسية والاقتصادية، بل تسارع في صناعة القائد، لا أنْ تنتظره، كيف يولد.



18

أين اختفى المخترعون والمكتشفون والزعماء (الكاريزميّون) ؟

عدنان أبوزيد

الى قبل مائة عام تقريبا، كانت المخترعات العلمية مثل اختراع المصباح، وسكة الحديد، والراديو، والعلاجات، تُنسب الى اشخاص، وتُسجّل براءات الاختراع بأسمائهم، حتى برزت أسماء مثل غاليلو، ماركوني، أديسون، فاننا اليوم يندر ان نجد سبْقا علميا يسجّل باسم شخص، بل باسم شركات عملاقة وخزانات تفكير عالمية، مثل التطور الهائل في الموبايل، والحاسوب، والأدوية.

على عكس العلم، تتحول السياسة الحديثة الى طابع خصوصي على نحو متزايد، وتنطبع الأنظمة السياسية، والأحزاب،
بخصلة الزعيم، لا سيما في دول العالم الثالث، فيما تتراجع الأيديولوجيات وتُهمّش المؤسساتية.

في العراق، يركّز الناس كثيرا على الصفات الذاتية للزعماء السياسيين، وما يساعد على ذلك، ان مناهج الأحزاب، تخلو من المؤتمرات الانتخابية المفتوحة التي تجدّد زعماءها واعضاؤها فيما هي تنطبع بمزايا القيادات.

السياسي العربي، بشكل عام، منغلق، ولا يجيد الانفتاح على الجمهور، وهو غامض ومتنافر في نظر المواطنين، على عكس السياسيين الغربيين الذي يمتازون بالبساطة في الحياة اليومية، ويجيدون العمل الجمعي، وقد لعبت الأوضاع الأمنية والسياسية المتوترة والارث الاجتماعي المتجذر، دورا في خلق سياسيين انفراديين، على هذا النمط من التعقيد.
في مثال واضح يعزّز القصد، فان زعماء مثل برلسكوني وجون كيري وجورج دبليو بوش واوباما، حصلوا على درجات تقييم عالية في مؤشرات الطاقة الإيجابية والعمل ضمن المنظومة، وفق استطلاعات غربية.

في كتابه "الديمقراطية في التراجع" يرسم الكاتب جوشوا كورلانتزيك، صورة متشائمة لآفاق الديمقراطية في العالم، اذا لم تكن اكثر تواضعًا، واكثر جَماعيّة، مرجعا أسباب فشل الربيع العربي الى القراءة السطحية للكيفية التي تتطور خلالها الديمقراطية، فضلا عن الغرور الذي لازم الحركات الاحتجاجية، والانفرادية، والانغماس كثيرا في الطابع الفرداني لتلك الثورات، في رجعية واضحة بأسلوب العمل.

يكتب صمويل هنتنغتون، عن انه وبعد كل موجة من الدمقرطة، تبرز موجة عكسية تعود ببعض البلدان إلى الحكم غير الديمقراطي.
وأحد أسباب ذلك هو شخصنة الصراع، فثمة استهداف واضح لأشخاص، اذا ما سقطوا توقفت آلية التغيير، والعكس صحيح أيضا، اذ تستهدف الأنظمة أيضا أشخاصا في التظاهرات، ظنا منها ان ذلك ينهي الاحتجاجات.
 
لم ينجح الربيع الأوروبي (1848)، في ارساء الديمقراطية، لانها استنفرت فعالياتها نحو اسقاط رموز، على ايدي
حركات انطبعت بأسماء افراد، حتى استغرق الأمر قرنًا آخر من إراقة الدماء للتخلص من هذه المعضلة.

وفي الاتحاد السوفيتي، احتكر الثورة البلشفية، قادة تحولوا الى رموز مقدسة، وقد أدى ذلك الى الكثير من أسباب الفشل، فيما نجحت الحركات الثورية في الولايات المتحدة بعد ستينيات القرن الماضي من الحصول على حقوق كاملة ومتساوية، عبر ثورات انتخابية تمنح حق التصويت، انجبت أحزابا تؤمن بالشمولية والمؤسساتية في العمل والإنتاج. وإذا كانت الحرية الشخصية، هي السلعة الأهم للفردانية، فانّ الأمر لا ينطبق على الانفرادية في السياسة.
 

 

19
 

ايديولوجيات كونيّة لا تعرف الحدود

عدنان أبوزيد

اخترقت الكثير من الأيديولوجيات، الحواجز الجغرافية والعقائدية، وتحرّكت من مواطنها الأصلية، الى شعوب أخرى تبنّتها، وساهمت في انتشارها، أكثر من مدائنها الأم، في دلالة على اقتدار الأفكار على السريان والتأثير، أكثر حتى من العادات والتقاليد والعقائد الراسخة في الأصل، في المجتمعات.

وانعتاق الأيديولوجيات الى مفاهيم كونية، يعني غياب التعصّب، والانفتاح الثقافي، وسعي الشعوب الى الحقيقة، مهما كان مصدرها، على الرغم من ان الكثير من الأيديولوجيات، مرقَت عبر نوافذ زجاج يشوّه الرؤية، الأمر الذي جعلها ضحية الغموض وسوء الفهم.
 
غرست الماركسية بذورها في المانيا على يد كارل ماركس وفريدريك أنغلز، وتفتّحت في دول كثيرة بعيدة عن الموطن الأم، في روسيا والصين، وكوبا وكوريا ودول أخرى حالمة بثورة عالمية يفجرها الكادحون، كما اجتاحت الشيوعية حتى بلاد المسلمين المعروفين بتشبثهم بعقائدهم الروحية.

وانتقل الإرث الكفاحي للشيوعيين من كومونة باريس وموسكو، العام 1917 الى الصين بقيادة ماو تسي تونغ ( 1893–1976 ) الذي طور الماركسية اللينينية، وأنتشت أشجار نظريته في النيبال والهند والفلبين والبيرو، والمغرب العربي، وتركيا التي اعدمت الرمز الماوي ابراهيم كايباكيا.

ولاحقا، اجتاح الفكر الماوي حتى معقل الرأسمالية في العقود القريبة الماضية، فتأسّس الفكر الماركسي الماوي العام 1983، في جامعة هارفرد، متبنّيا الحرب الشعبية كوسيلة لتحقيق الحلم الشيوعي.
 
وفي الدول العربية، ترعرعت أحزاب تتبنّى الأيديولوجية الرأسمالية، وحاولت تقليد تجربة الدول الغربية، ثم أدركت ضرورة ان يكون لها مناهج على هدي خصوصيات شعوبها. وفي العالم الثالث، أتاح إرث الاستعمار والنضال ضد الإمبريالية، المجال لاستيراد ايديولوجيات جديدة، بدت دخيلة على الناس.

ومع ظهور الحركة النازية في أوربا سنة (1919)، انقلبت المشاعر والأهواء القومية الى أيديولوجيات سياسية، هيمنت على التيارات السياسية في بلاد العرب، كما ألهمت العسكر، انقلابات وصناعة زعامات على شاكلة الزعيم الألماني أدولف هتلر، مثل ثورة العسكر في مصر العام 1952 ، وفي الجزائر وسوريا، وسعى السياسي العراقي رشيد علي الكيلاني مع عدد من الضباط الى الانقلاب على نظام بلاده في أبريل 1941، منفعلا مع المفاهيم القومية الألمانية.

وضرب الفكر الرأسمالي جذروه بعيدا عن مواطنه الأصلية في أوربا، فاجتاح بنظامه الاقتصادي اغلب دول العالم، وبسطت الرأسماليّة الماليّة هيمنتها، وصارت هي صاحبة القرار في الاقتصاد العالمي، فيما تكال لها الاتهامات بان أيديولوجيتها انتشرت عبر احتلال الشعوب، لكن يجب الاعتراف بانها نجحت في السطوة، أكثر من اية أيديولوجية أخرى.

وفي جانب انتشار العقائد الدينية، كانت المسيحية منذ ولادتها في فلسطين، الأكثر عبورا بين الشعوب في الألفية الماضية، فيما يشكّل الإسلام الذي خرج من عمق الصحراء العربية، واحدا من اكثر الأيديولوجيات الدينية التي تجذب اليها الشعوب الاخرى.

كل هذه الاختبارات الفكرية، أحدثت زعامات كونية، ومرجعيات، لها أتباع في كل الأمم، حيث تلائمها الشعوب على مزاجاتها وتأقلماتها الاجتماعية، وإرثها الثقافي، بعيدا عن العصبيّة. 

20

العرب تعيش بين أطلال التاريخ



عدنان أبوزيد

على الرغم من انحسار الاعتقاد بنظرية المؤامرة في كل ما يحصل من أحداث داخلية وخارجية، لكنّ الاعتقاد بها يطل علينا بين الحين والآخر، في بارانويا جماعيّة تبني الاستدلالات على أسس وهميّة، تستخلص منها حقائق مطلقة.

هذه البارانويا تتطور الى تجليّات وبائية بين أفراد الشعوب التي تشهد الحروب والنزاعات، وفي مجتمعات الفساد، وفي حقب الانكسارات الداخلية والخارجية، حين يفقد الفرد الثقة بأمته، ويتصرّف بسلوك، ناجم عن الاستلاب الحضاري والوجودي.
 
وأكبر ما أصاب العراقيين والعرب من هذا الداء الفكري، تلك الاحداث المرتبطة بالحرب العالمية الأولى والثانية، والتي
انتابت بنتائجها اغلب دول العالم، لاسيما أوربا والشرق الأوسط، لكن العرب يصرّون على انّ ما حدث كان مؤامرة مدبّرة ضدهم، وحدهم، محجمين عن إدراك عالم جديد يتشكّل.

قرعت تداعيات الحرب الأولى، أبواب أوربا، قبل العرب، حين سقطت إمبراطوريات النمسا والمجر وروسيا والدولة العثمانية، ورسمت خريطة جديدة للشرق الأوسط.
 
وأحدثت الحرب دولا، مثل تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، واتفق الأقوياء على توحيد بولندا التي كانت مقسمة بين النمسا وروسيا وبروسيا، فيما أوجد المنتصرون، دولة النمسا الحالية.

أصيب العرب بخيبة أمل كبيرة بعدما اتفق البريطانيون سرا مع الفرنسيين في 1916 على اقتسام الشرق الأوسط، لكن الحقيقة انهم لم يكونوا وحدهم الذين طالتهم التجزئة، لان الخارطة السياسية الجديدة شملت تركيا وأوربا.

لا أحد ينكر التداعيات السلبية التي حفرت المستنقعات الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية، للعرب ومنطقة الشرق الأوسط، لكن يجب ان لا نحكم على الاحداث التاريخية من منطلق المؤامرة فقط، لانّ الخارطة الجيوسياسية التي رسمتها القوى العظمي، شملت كافة أرجاء العالم، لكن التفاوت، ان البلدان الأخرى، لم تعد تتكأ على عقد تاريخية مثلما يتكئ عليها العرب، وتتضخّم لديهم حتى باتوا يعيشون على حطام أحداث أنتجت واقعا معترف به أمميا، شاءوا أم أبوا.

الشعوب ومنهم الاوربيون أسدلوا الستار على الماضي، وهم الذين ذاقوا مرارة خرائط جديدة جزّأت بلدانهم، بل ان روسيا اقتنعت والى الابد بدول جديدة تشكلت من أراضيها وهي كل من فنلندا واستونيا وليتوانيا ولاتفيا.

يعتقد كتاب مستقبل الشرق الأوسط وهو من تحرير هيو مايلز وألاستير نيوتن، ان التكدسات التاريخية والتفسيرات
لها من باب المؤامرة، ضعضعت ثقة الشعوب العربية بنفسها وبأنظمتها، التي تأسست برعاية الاوربيين، في اعتقاد بانها من صنيعة الغرب، الأمر الذي دفع أعدادا متزايدة من الناس إلى حركات التطرف، ومن ثم صعود الجماعات المسلحة في جميع أنحاء المنطقة.

ومن غير تبرئة القوى الغربية من الجروح الكبيرة التي ألحقتها بالشعوب العربية، لكن ذلك يجب ان لا يكون العلة الوحيدة التي أنجمت التخلف والفوضى وعدم القدرة على النهوض، ذلك ان أمما كثيرة تقطّعت أوصالها، وذاقت مرارة الانكسار، ودفعت التعويضات، لكنها نجحت في النهوض من جديد، بل وتفوقت على الدول التي احتلتها في يوم من الأيام.

 

 

21

التعليم يحصّن الأجيال من التطرّف
نور الخفاجي
لا يٌقاتل التطرّف الفكري في ساحات القتال فحسب، بل في المناهج التعليمية، طالما ظلت هناك ينابيع فكرية يستلهم منها الارهاب مبررات وجوده، ويشرعن عبرها القتل وسفك الدماء الذي يقترفه. 
وفي كل المجتمعات، فان المدرسة، هي صاحبة القول الفصل في تربية الاجيال، وهي المصدر الذي ينهل منه المجتمع اصول ثقافاته وأفكاره.
واذا كانت "حتى" الجماعات الارهابية تُولي اهتماماً كبيراً للنشأ الجديد، في المناطق التي تسيطر عليها،عبر تلقين مبادئ الكراهية، والسعي الى اعدام وجود الآخر المُختَلَف معه، فحريٌ بالمجتمعات والحكومات ان تضاعف جهودها في تنقية مناهجها الدراسية من الافكار التي يعتمد عليها الارهاب في ديمومة وجوده.
وتقع على السلطات في الدول، "تنظيف المناهج " من اثار "الدكتاتورية" و"عبادة الشخص"، فان تنامي التطرف الفكري في سنوات العقد الاخير، تتطلب برنامجاً شاملاً، يقضي على ينابيع الارهاب الفكرية التي تخرج اجيالا من المتطرفين هم نواة الجماعات المسلحة التكفيرية في المستقبل. 
وفي اغلب الدول التي يتنامى فيها دور الارهاب، تبرز مناهج "تعليمية" شاذة ، موازية للمدراس والمعاهد الحكومية، تبث افكارها في اوساط الجيل الجديد. 
 وفي العراق وسوريا ودول أخرى، لجأت الجماعات المتطرفة الى "تأويل" النصوص الدينية، لتعزيز ايديولوجيتها في عقول النشأ الجديد، عبر الاعلام المضاد المنطلق من الكهوف المظلمة والحواضن السرية.
وكان نتيجة ذلك، ان هذه التنظيمات قطفت ثمار تركيزها على العقول، وإيجاد حالة جيلية مستديمة.
 وأحد أسباب الخلل، ان المدرسة لم تعد النافذة الوحيدة لتلقين الافكار وايصال المعلومة، ذلك ان اغلب الطلاب والتلاميذ يتابعون مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الرقمية، عدة ساعات في اليوم، ما يجعل منها منهلاً فكريا آخر يمكن توظيفه في خدمة الافكار المتطرفة.
واحدى الخطوات لقهر التطرف، تعديل مناهج التربية، وخطاب الاعلام،  وجعله خاليا من الغلو والتفريط في اعمال القتل.
ويشوّه الخطاب التعليمي المتطرف قيم الدين، وصورته الناصعة، بعدما نجح في التغلغل في عقول الشباب والنشا الجديد وتخريج ارهابيين يفجرون انفسهم وسط الحشود.
ومن واجبات وزارة التربية والجهات المعنية، محاصرة المدارس والمعاهد الخارجة عن سيطرتها، ومعاقبة اي مؤسسة تعليمية لا تعتمد المناهج الرسمية المقررة.
 وهذا لا يعني تسويق وتبني ايديولوجية رسمية معينة، ذلك ان مكافحة التطرف، بالتطرف المضاد له، يحول المجتمع الى ساحة صراعات ايديولوجية، وان المفروض ان يكون البديل للفكر المتطرف، هو التسامح واحترام راي الاخر.
 
 
 

22


 

الكاظمي وتجربة سنغافورة مع الفساد

عدنان أبوزيد

تُشكّلُ الدولُ، اللجانَ الرقابية وتسخّر القضاء، وتنظّم المؤتمرات، وتشَغّلُ الإعلام، وتطلقُ الأبواق، لمكافحة الفساد، لكن دون جدوى، بل يزداد استفحالا، ويوغِل الفاسدون أكثر في النهب وابتكار الأساليب لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون.

من الدول التي نجحت في محاصرة وحوش الفساد، وقتْل مارده في القمقم، سنغافورة التي اصحبت مثالا يحتذى به في الشفافية والنزاهة.

دول أوربا الغربية معروفة بصرامتها في السؤال عن مصادر أموال الأفراد، ما يفسّر انعدام تدفق الأموال المشبوهة من الخارج، اليها، والتي تأخذ طريقها في بنوك دول تتيح للأموال المجهولة المصدر، الاستقرار فيها.

سنغافورة التي نجحت في التنمية والاعمار، لا تكتفي بإنشاء لجان مكافحة الفساد وتشريع القوانين القوية، بل قرنت ذلك بالتطبيق الصارم لقانون "من اين لك هذا"، وتوثيق مدونات سلوك الموظفين العموميين، ومحاسبتهم حثيثا، ولم تبدأ بصغار الموظفين وافراد الشعب، بل بالمسؤولين والأعيان، الأمر الذي عزز ثقة الشعب بالواجب والقيادة.

حدث ذلك في سنغافورة على الرغم من الفقر، وسوء الصحة، ونقص المساكن، والانفجار السكاني، لكن رئيس الوزراء لي كوان يو، الذي يلقبه الشعب بالمؤسس، أدرك ان التخلص من هذه الآفات سيكون مستحيلا ما لم يتم التخلص من الفساد في الخدمة العامة، اذ من غير الممكن لحكومة نخِرة وموظفي خدمة مرتشين، ان يساهموا في تطوير البلاد، ليقرر وفريقه الحكومي ارتداء القميص الأبيض، في دلالة على الحكومة النظيفة.
 
أضفى لي كوان يو والزعماء اللاحقون، الطابع المؤسسي في مكافحة الفساد وسنّ قانونا يُجبر المتهم إثبات شرعية أملاكه ومصدر أمواله، كما انّ اية ثروة غير مفسّرة وغير متناسبة مع مصادر الدخل المعروفة للفرد، عرضة للمصادرة الفورية، وقد زادت إجراءات الحكومة من ثقة المواطن الذي راح يُخبِر عن أي شخص أثرى بطريقة مشبوهة.

المهم في تجربة سنغافورة، انها لم تبدأ في برنامج مكافحة الفساد، من القاعدة بل من القمّة، حين وضعت كبار المسؤولين الفاسدين والنخب المشكوك في مصادر أموالها، في السجون، بعد ان تمتّعت مكاتب التحقيقات بصلاحيات واسعة، تتيح استدعاء أعلى سلطة في الدولة. 

تتعامل سنغافورة، بعد ان أصبحت قطبا عالميا لجذب أموال الاستثمار، بصرامة مع المؤسسات المالية التي تحاول غسل الأموال على أرضها، حماية لسمعتها العالمية.

استمعْتُ الى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وهو يبدي اعجابه بالتجربة السنغافورية، ويبدو أنه وضع الإصبع على الجرح العراقي، في اقتفاء إثر هذا البلد الآسيوي، الذي نجح في إرساء وعي جمعي يحرث على نظام نظيف، وبات الجميع يسارع في محاربة اية ممارسات فاسدة، كلّ من موقعه، بعدما صار يقينا، ان القانون ينطبق على الجميع.   

إنّ مثلا صينيا يقول: "إذا كانت العارضة العلوية منحرفة، فإن الحزم السفلية ستكون ملتوية"، لجدير بالاهتمام، لكي يبدأ
الحفاظ على المال العام، من الذروة الى الأساس، وليس العكس.

23
وعظيات بلا تطبيق.. والزعيم تاجرٌ في الأمل

عدنان أبوزيد

يُكتَبُ الكثيرُ عن الحاجة الى عدالة ومُثُل زعماء وقادة روحيين أجلاّء تاريخيين، لكن ذلك وحده لن يكفي، لأن استلهام سيرة وقِيم أولئك العظماء الخيّرين، يستوجب استيعاب أخلاقهم، والانقياد الى هديهم، والعمل على إنفاذ مبادئهم، لا الادّعاء، فاذا فعلنا ذلك، وجّهونا على رغم غيابهم، الى إحداث التغييرات التي نتوق الى التأسيس لها.

ألمحُ أعدادا هائلة من الحِكم والمقولات، والوعظيات، في التواصل الاجتماعي، والميدان العملي، وهي ملهمِة للبعض في حدود التنظير والبهرجة الكلامية، والافتراض بالسير على هديها، لكن ذلك لا يتّصل بالتطبيق.

تُصاغ العبارات البلاغية، ويُعتنى كثيرا بالاقتباسات وصياغات الخطب، ونصوص الوعظ، فيما تنحسر الإرادة الحقيقية و البراعة في تحويلها الى صناعة محسوسة.

يقول نابليون بونابرت انّ "الزعيم هو تاجر في الأمل"، في وصف صميمي، لأولئك الذين يغامرون في تحقيق الأحلام، ولا يتوقّف فعلهم عند الزعْم الذي هو سمة أصحاب الأصوات العالية، والطبول الصاخبة.

نهضت سنغافورة على مدار 50 عاما من الصفر تقريبا، بفضل الدولة التي وجّهت سلوكيات المواطنين، لتكون صدى للقيم والشعارات المرفوعة.
تقول الصحافية ساره كيتينغ، ان هواء السوق في سنغافورة كان ملوثا بروائح حساء النودلز، ولحم الخنزير المشوي وصلصة الساتاي، والقاذورات في المطاعم، رغم الشعارات الكثيرة على الحيطان عن النظافة، ولم يكن ذلك كافيا، حتى نجح المواطنون في تنفيذ الأخلاقيات والشعارات، كسلوكيات.

بيل جيتس الذي يحتل قائمة أفضل 10 قادة أعمال في الولايات المتحدة، هو الرئيس الاستبدادي الذي لا يجامل في تحويل تعليمات العمل النظرية الى واقع، وممارسة، معتبرا انّ المثاليات التنظيرية الفردية تعطّل الابداع.

مارتن لوثر كينج، كان قائدا خادِما، ومعلما ينظّر، ومدربا يطبّق، وقد أسّس لأسلوب قيادة فريد، حوّل شعارات السود الى أنشطة يومية، غيّرت أوضاعهم في الولايات المتحدة.

ونستون تشرشل، الأسد الذي يزأر من أجل الإمبراطورية، كان يشجّع الإنكليز على الإنتاج، لا الانشغال بالطوباويات النظرية، والكتب.

الأمم الحضارية عزّزت الفردانية القوية التي تنجذب الى الجماعية، وتحوّلت النموذجيات الأخلاقية، المتفرقة بحسب اختلاف الأشخاص الى قيم تشاركية تؤمن بها الأمة، ولم يتحقق ذلك الا بالسلطة القوية، التي تعالج المشاكل الوطنية بسرعة، منعا لليأس الذي إذا ما حلّ بأمة، دفنها في التأريخ.

في العصر الحديث، تنصهر الأخلاق الخاصة بالنسخة المثالية للأمة، التي ترسم قيم التعايش، وفي الكثير من الحالات فان المبادئ النظرية، الملتصقة بالشخص، هي ليست القيم ذاتها المتعلقة بالهوية الوطنية الواقعية، ما يشكّل معضلة اجتماعية لها نتائج كارثيًة على مستقبل الشعب، بسبب فقدان القدرة على تطويع الافراد في أفكارهم الفردانية مع المشروع التنفيذي الشمولي الذي تسعى اليه الشعوب.

الزعامات القوية التي قادت النجاحات في الأمم، هي تلك التي صنعت الأفراد الأقوياء القادرين على هضم الاعتبارات العقائدية الافتراضية، وتحويلها الى محصّلات واقعية، ومن دون ذلك تبقى العقائد والشعارات، مجرد تنظيرات، لا طائل من وراءها.

24
إشكالية الديمقراطية الغربية في المجتمعات المسلمة

عدنان ابوزيد

لا تزال هناك رغبة قوية في الديمقراطية بين العرب والدول ذات الغالبية المسلمة باعتبارها أفضل أشكال الحكم، على الرغم من إخفاق الكثير من التجارب، فضلا عن النتائج المتواضعة للربيع العربي.

غير ان المشكلة الكبرى في الدول العربية والإسلامية، ان الديمقراطية توقفت عن حدود كونها مفهوما نظريا، متداولا بشغف، على مستوى الشارع، والدراسات المتخصصة، بل انها حتى في الدول التي تدّعي ممارستها، تغيب عنها احدى اهم السمات، وهي الانتخابات التنافسية النزيهة، وحرية التعبير.

تحليلات غربية تشير الى ان بنية المجتمعات الإسلامية، حيث الدين والعشيرة والعلاقات الاجتماعية شديدة التعقيد، تحول دون توطيد قواعد راسخة للديمقراطية التي استنسخت نفسها على شكل ديمقراطية قبلية بمجلس عشائري ورؤساء منتخبين دكتاتوريين، الأمر الذي يُولّد الإحباط، ويوقِف الاندفاع الغربي للترويج للديمقراطيات في الشرق الأوسط.

لكن تخلي الغرب عن دعم الديمقراطيات، لا يعني انتهاء محاولات التأسيس لها، فلا يزال الحماس يتصاعد، لكنه
في الغالب على شكل نظريات ورغبات، وليس مشاريع عملية نافذة، على الرغم من ان جلّ الافراد في مجتمعات الشرق الأوسط معجب بالديمقراطية الغربية، التي انجبت مجتمعات مدنية، واقتصادات قوية اثمرت عن غطاء حماية اجتماعية متين، وارتفاع في مستويات الدخل للفرد الغربي.

وعلى الرغم من الاعجاب بالغرب، الا ان المواطن المسلم يرى ان من الأفضل المزاوجة بين الإسلام والديمقراطية، 
إذ تعتقد الأغلبية في باكستان والأردن ومصر، وفق المركز البحثي "بيون ريسيرج سنتر" أن القوانين يجب أن تتْبع بدقة تعاليم القرآن، في حين أن معظم التونسيين و 44٪ من الأتراك يريدون أن تتأثر القوانين بقيم الإسلام.
ويمتد النقاش حول صعوبة تطبيق الديمقراطية في الدول الإسلامية، الى المساواة بين الجنسين، ودور المرأة في المجتمع، والعشيرة، والطبقية الاقتصادية والاجتماعية.

لكن اليأس يجب ان لا يخيّم، ذلك انّ الديمقراطيات الغربية ليست حالة مثالية، وهناك نماذج جيدة من الديمقراطيات
في العالم الإسلامي نجحت في الانسجام مع الكثير من أسس التدين، كما في إندونيسيا إلى ماليزيا وباكستان ولبنان إلى تونس و تركيا، كما إن الهند التي تضم أكبر عدد من المسلمين في العالم، تصّنف على أنها أكبر ديمقراطية في العالم.
 
الزعيم الماليزي والسجين السياسي السابق أنور إبراهيم، يقول: "نحن نمثل الإسلام المتسامح الليبرالي الذي يستوعب الكثير من قيم الغرب الديمقراطي".
وحيث أنّ لا أحد يتغافل الحقيقة في ان الكثير من المسلمين يعيشون في بلدان غير ديمقراطية، وبعضها دول فاسدة، مستبدة، إلا انّ لا أحد ينكر أيضا ان الحكومات الغربية تدعم الديكتاتوريين في الشرق الأوسط والدول الإسلامية، على الرغم من ان جورج بوش، وتوني بلير والمحافظين الجدد، تحدثوا كثيرا بعد 11 سبتمبر عن ان المشكلة الحقيقية في العالم ذي الأغلبية المسلمة هي الافتقار إلى الديمقراطية والتعددية السياسية.


 

25


هل أنت رأسمالي أم اشتراكي؟

عدنان أبوزيد
 
لا يزال المتعصبّون الاشتراكيون والرأسماليون، يرفضون الحقيقة التي تفيد بانّ لا اشتراكية محضة، أو رأسمالية محضة بعد اليوم، وإنّ الدول المتقدمة وصلت الى ذروة الرفاه الاجتماعي، والخدمات، والصناعة والتقدم العلمي، بالتزاوج بين
الاشتراكية والرأسمالية.

يمكن رصد ذلك بوضوح في دول أوربا الغربية مثل هولندا والسويد والمملكة المتحدة وألمانيا، حيث عنوان "الرأسمالي الاشتراكي" لا يوجِب التناقض، وأصبحت نتائجه ناجزة، وثماره يانعة.

في العملاق الرأسمالي، أمريكا، هناك الديمقراطيون الاشتراكيون، وزعيمهم الرمزي أوباما، المعادون للرئيس الأميركي دونالد ترامب، صاحب النزعة الرأسمالية الخالصة.

المثير في أوربا وامريكا وحتى الصين، أولئك الرأسماليون الجدد، الذين أصبحوا من أصحاب المليارات ليس عبر التجارة أو الصناعة، بل بواسطة تقنيات السوشيال ميديا، وعلى الرغم من كونهم رأسماليين، لكنهم يؤمنون بالفكر الاشتراكي اليساري، ولا يجدون في ذلك تضاربا مع تعطّشهم لجمع عشرات المليارات من الدولارات، وتبريرهم لذلك، انهم يدفعون الضرائب العظيمة التي تُنفق على الخدمات الصحية والاجتماعية، واعالة الفقراء.

أكثر من ذلك يجدون أنفسهم اكثر اخلاصا للاشتراكية من الشيوعيين واليساريين المنظّمين والمتحزبين، فهم على الأقل
يبذلون الملايين على الناس ويساهمون في تنمية الاقتصاد، من دون شعارات دعائية، أو محاولات الوصول الى السلطة، كما تفعل الأحزاب المؤدلجة.
 
يفسّر ذلك كثيرا، أسباب خسارة ترامب الذي عوّل كثيرا على الرأسماليين الذين خذلوه لانهم لم يعودوا رأسماليين
خالصين، يجاهرون بان الثراء المادي هو السبيل للسيطرة والتسلط، وقد تجد لذلك أمثلة ضاربة في شخصيات مثل مؤسس فيسبوك، مارك زوكربيرغ، ومالك شركة مايكروسوفت، بيل غيتس، الذي ترك الشركة، وانصرف الى الأعمال الخيرية.
 
يتحدث ويليام ل. هولاهان، وتشارلز أو كرونكس، في صحيفة نيويورك تايمز الامريكية، عن ان الجيوش الغربية هي مشاريع اشتراكية، فيما إنتاج السلع وبيعها يكون عبر مؤسسات رأسمالية، تمتلك وسائل الإنتاج.
 
رويدا رويدا، تهيمن مفردات "الاشتراكية" على جدالات السياسة وفي الدعايات الانتخابية، في العالم الرأسمالي، ويتعاظم إضفاء الطابع الاجتماعي الاشتراكي على انتاج السلع والخدمات، واصبحت بعض مستويات الدولة أو الحكومات المحلية أو الفيدرالية تمتلك وسائل إنتاجها، فيما كانت في السابق حصرا على الرأسماليين والكيانات التجارية.

المجتمعات الحديثة، أسسّت لإنتاج وايصال السلع والخدمات بوسائل من الاشتراكية وبعض الرأسمالية. واذا كانت الرعاية الطبية، في الأصل، هي مشروع رأسمالي، فان التأمين الصحي يصبح على نحو متزايد، مؤسسة اشتراكية .
ومن الأمثلة الطريفة التي تقرّب الفكرة، ان السيارات، منتج رأسمالي، لكنها تسير على طرق اشتراكية، عبّدتها الضرائب التي ترعاها قوانين الدولة.
في أوروبا ما بعد الحرب، عوّلت بعض البلدان على القوانين الاشتراكية المحضة، التي نظّمت أسواق الغذاء والنفط والفحم والصلب والإسكان والأجهزة المنزلية، وكانت النتيجة جوعا و حرمانا، فيما الدول الرأسمالية مضت الى الرقي والتطور والرفاه، برأسمالية مدجنة بالاشتراكية.
التحدي الذي يواجه المجتمع هو في تحديد المهام، حيث الحكومة مسؤولة عن توفير الخدمات العامة والأمن، وحراسة النظام العام بصرامة مطلقة، بينما تتنافس الشركات الخاصة بدافع الربح لتوفير السلع.

 

26
 

عصر الزعماء الافتراضيين لا الميدانيين
عدنان أبوزيد

كان عالم النفس الاجتماعي الأمريكي ويليام ماكجواير، قد حذّر في مقال مؤثّر حَمَلَ عنوان "أسطورة التأثير الإعلامي الهائل" (McGuire 1986) من أنّ وسائل الإعلام سوف لا تقود المستقبل، لانحسار تأثيراتها على الطريقة التي نعيش ونفكّر بها، وتفوّق وسائل التواصل الاجتماعي عليها، لاسيما في الحملات الانتخابية، حيث وجد السياسيون فيها الطريقة المثلى لشنّ حروب الاقناع، وغسل الذاكرة، مما علق بها من صفحات سوداء، وتدشين ورقة بيضاء جديدة.

تحذيرات العالم الأمريكي تستند الى فرضية، انّ الاعلام المؤدلج لم يعد الوسيلة التي تقدّم لنا المعلومة الصحيحة، بعد أن أصبح ماكينة سياسية للتضليل، ونفخ الاكاذيب، من أجل صناعة وهم جديد لشخصية هذا السياسي، أو ذلك الحزب.
 
فضلا عن ذلك، فانّ الإعلان الانتخابي والاستشارات السياسية أصبحت صناعة، ولا يهمها ضخ الحقائق، قدر الحصول على الأرباح، واتّباع كل الطرق لإلحاق الانكسار بالخصوم الانتخابيين، وقد ظهر في الحملات الانتخابية الامريكية الأخيرة، حجم الأكاذيب والقصص الملفّقة، عبر الاستثمارات الاعلانية التي بلغت كلفتها مئات الملايين من الدولارات..

واذا كان علماء الاجتماع يعتمدون على فكرة ان هناك صراعا كلاسيكيا بين المعرفة النظرية والحقيقية، بمعنى انه ليس كل ما تعرفه نظريا عبر الاعلام والتواصل والمنشورات الدعائية، هو حقيقي، وان المعلومة المستقاة من التجربة العملية هي التي يُعوّل عليها، الا ان ذلك لم يعد ذا تأثير، لان اغلب سكان العالم ينساقون اليوم وراء الدعاية، بشكل مفرط، ولا يكلّفون انفسهم معرفة الحقائق حتى تلك التي يسهل الوصول اليها، ما يعني اننا نعيش عصر "العمى المعلوماتي" بما يعنيه ذلك من معنى.

على الرغم من كل ذلك، استنتج ماكجواير، في أواخر العام 1986، أن هناك القليل من الأدلة على قدرة وسائل الإعلام على الإقناع في الحملات الانتخابية السياسية وتغيير سلوك الناخبين، ومن ذلك انّ مايكل بلومبرج، رجل الأعمال وعمدة مدينة نيويورك السابق، أنفق على حملته للرئاسة، من أمواله الخاصة، أكثر من مليار دولار، 70٪ منها للإعلان.

وسائل التواصل الاجتماعي تغيّر اللعبة، بعد أن سمحت للزعماء الصاعدين بالتحدث مباشرة إلى الناخبين حول كل شيء، من السياسة إلى تفاصيل الحياة الصغيرة، وكان باراك أوباما أول مرشح رئاسي يستخدم التواصل الافتراضي للتعويض عن "الغياب الواقعي"، وينتقل دونالد ترامب إلى Twitter يوميًا تقريبًا للتعبير عن نفسه، مُهمِلا وسائل الإعلام التقليدية.

الطريقة التي يتواصل بها السياسيون اليوم، تختلف تمامًا عن الطريقة التي كانوا يتواصلون بها قبل خمس أو عشر سنوات، ولم تعد هناك حاجة الى مكبرات الصوت وتلفزيون، بل عبر نوافذ التواصل التي لا تكلّف أموالا كثيرة،
وتوفّر تكافؤ فرص انتخابية عادلة تقريبا، وقد استفادت من ذلك، الزعامات الجديدة التي لا تمتلك الأموال الطائلة للظهور في قنوات الاعلام التقليدية والرسمية.
 
على هذا النحو، نتوقع أجيال سياسية، في العراق، وأنحاء العالم، ستكون أقرب الى كونها شخصيات صنعها العالم الافتراضي، ليزرعها على ارض الواقع، الذي سوف يختبر مهاراتها وصدقها.

27

 
الديمقراطية في العراق تعاني من القبلية والدينية
عدنان أبوزيد
 
اشدّ ما تعانيه الأنظمة الديمقراطية في العالم، هي الانقسامات الداخلية، في المجتمعات التي لا تتقن اللعبة، فيما هي في الأنظمة العريقة، أضداد إيجابية تولد من رحم المنافسة.
يعاني العراق صاحب التجربة الديمقراطية اليافعة من انقسام حول السياسات الداخلية والخارجية، وحول القرار الرسمي، ولا يمكن تصنيفها في نطاق الخلافات المعهودة في الأنظمة الديمقراطية، لانها تسببت منذ العام 2003 بالكثير من اشكال النزاع المسلح، والارتباكات العميقة في الشارع، والانهيارات الواضحة في التنمية، وينسحب الانقسام الوطني، على العلاقات الخارجية مع الدول.

يبدو العراق الذي يعاني من هيمنة الهويات العرقية المشكّلة لهيكلة الشبكات السياسية، واحدا من الدول الديمقراطية الحديثة التي تحتاج الى إدامة الوحدة السياسية، وان لا يؤدي التنوع الى التصدع، وتشظّي المجتمع الى قبائل سياسية.

لكن ذلك يحتاج الى تنشيط الأسئلة الأساسية حول كيفية فهمنا للمؤسسات الديمقراطية، ودور الفاعلين فيها.
المقارنة مع النظام السياسي الأوروبي المتطور، يفيد كثيرا في استخلاص العِبر من هذه التجربة العريقة، ومعرفة العوامل التي أدت الى صعود نوعي للديمقراطيات الغربية.

في هذه الدول، ثمة مجهودات تعاضدية على الرغم من الخلافات الأيديولوجية العميقة بين الكيانات السياسية، التي لم تتوغل يوما على حساب الدولة، كما انها أوهن بكثير من انْ تقف حجر عثرة امام الدولة ومؤسساتها، الامر الذي جعل من ديناميات تغيير الحكومات، ممهدا.

على مدى نصف قرن، شاركت أوروبا في تجربة سياسية واسعة النطاق في التنظيم والحكم، وتمكّنت من رصّ القواعد الأساسية الصلبة للمشروع الديمقراطي، الأمر الذي مكّن دولها ذات السيادة من المشاركة الطوعية وبكل ثقة في وحدة سياسية أكبر في الاتحاد الأوروبي.
انّ أحد الأسباب العظيمة التي عزّزت تطور النظام السياسي الأوروبي هو اضفاء الطابع المؤسسي حتى في طريقة تعامل الكيانات السياسية مع بعضها، الامر الذي يقلل من فرص العنف المعهود في الديمقراطيات غير الراسخة.
 
يشترك العراق مع الكثير من بلدان الديمقراطيات الناشئة في ان الهيمنة الجهوية على القرار، تقوّض الممارسة الديمقراطية التقليدية وتحدّ من مشاركة المواطنين بالطرق التي تحددها التنظيرات التي وضعت القوانين، ومن أسباب ذلك، التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، والسلوك غير الحضاري مع الديمقراطية، والجهل، الامر الذي يوجب نهجا ينسل أجيالا تستطيع التعامل مع مخرجات الانتخابات.

انّ ضمان نجاح الديمقراطية في العراق، بعد الهزّات العنيفة التي تعرضت لها طيلة 17 عاما، وانحسار ثقة الناس بها، يتطلب من حرّاسها الحقيقيين، توسيع مشاركة المواطنين، لمنع صعود الأوليغارشية المدنية واستيلاء المجموعات ذات الامتيازات على المؤسسات الديمقراطية.

أستاذ الديمقراطية بجامعة برمنجهام نيك تشيزمان، يدعو الى عدم القنوط من ترسيخ الديمقراطية في المجتمعات الهشّة والمشتّتة، والتي تسيطر عليها المنظمات الدينية والقبلية، ضاربا المثل في دول مثل بنين وبوتسوانا وغانا وناميبيا وموريشيوس وجنوب إفريقيا، وهي بلدان لم تصبح منارات للحقوق السياسية والحريات المدنية فحسب، بل نجحت في استغلال الموارد لصالح تمكين المواطنين، بدلا من النخب المسيطرة.   



28

جيل شبابي جديد يتحدى النظام الأبوي السياسي والاجتماعي ولا يعترف به
عدنان أبوزيد

أصبح من الضروري، الاشتغال على البحث الأكاديمي المتعلّق بحركات الاحتجاج في العراق، وفهم بواعث اندلاعها، ونكوصها، واحتمالات اشتعال جذوتها من جديد، أو ربما تكتسب اشكالا أخرى جديدة في المستقبل او تؤول الى تظاهرات نمطية كتلك التي تحدث في دول العالم المختلفة، وفيما اذا هي ثورة اجتماعية أم حركة سياسية.
 
تخمّن تحليلات بان الانسجام الاحتجاجي الذي ظهر في ساحات التظاهر وانسحب على الشارع، سوف لن يتطور الى حراك قابل للحياة، لأسباب تتعلق بطبيعة النظام الاجتماعي والسياسي في العراق، وهو ما حدث في النهاية، اذ تلاشى الزخم مقارنة بالعام 2019، وربما يتبعثر بشكل نهائي.

لكن من نتائج الحراك الاحتجاجي، رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات العامة، انه رسم خارطة جديدة لديناميكيات العلاقات لنظام أقل سلطوية، منفتح على المعارضة، ويمكنه استيعاب الصوت الآخر، بعدما أدرك الجميع ان الصِدام لن يثمر عن مفاعيل، وان الجزافية والعفوية والعواطف الثورية الانقلابية التي تتبنى الأنماط الطوباوية للتغيير،
سوف تقود الى الهاوية، مثلما حصل في بعض دول الربيع العربي بسبب تعقيدات الصراع الداخلي والخارجي على ارض العراق.
ومثلما تعاني القوى السياسية التقليدية المؤسِّسة للنظام في العراق من الانقسام، فان الاحتجاجات العراقية منشطرة على نفسها، وتتحكّم فيها تيارات واتجاهات متضادة، وقد أدى ذلك الى عدم الاستطاعة على توضيح مراماتها.

لكن الذي يُحسب لها انها اجتازت الكثير من ثوابت المجتمع التقليدي، وأثمرت عن رسم شخصية شبابية تسعى الى إدارة الصراع مع النظام السياسي، مستندة الى قيم انفتاح سياسي وثقافي لا يعترف بالنظام الأبوي السياسي والاجتماعي.

جرّت بعض جيوب الاحتجاج العراقي نفسها الى فخ العنف السياسي، بقوالبه النمطية الدموية، فيما رُصِدت مبررات لذلك تحت ذريعة معاقبة النظام السياسي على الفشل في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، او تحت ذريعة انّ لا حلّ سوى البطش المسلح، لكن ذلك لم يتجاوز حدود حرق وتخريب ممتلكات عامة ومقرات حزبية وحكومية، لكن وبعد اشهر من مخاض التجربة، يلمس المراقب ان الاختيار العقلاني هو الذي فرض نفسه في النهاية.
 
وفي حين لا يمكن فصل ما حدث في العراق عمّا حدث من انتفاضات مماثلة بدأت في تونس في ديسمبر 2010
والتظاهرات في مصر التي تناهت الى نظام عسكري، والحراك الاحتجاجي في اليمن وليبيا الذي حوّل البلدان الى دول فاشلة وساحة حروب إقليمية، والمعارضات في سوريا التي أقحمت البلاد في حرب مروعة، فان الحالة العراقية تبدو أقل ضررا على النظام السياسي والدولة بشكل عام، وهو امر يدفع الى التأسيس لحوار ايجابي.
 
يبقى تحدي اشتعال فتيل الاحتجاجات مستمرا، مهما كان الحكم على الحركات الشعبية بانها ناجحة او فاشلة، لان هذه الآلية لا تفيد في فهم جدليات الصراع المستمرة، وليكن المطلوب اليوم هو التركيز على الحوار، و "الانفتاح"، ودمقرطة الحياة السياسية، واستيعاب الجميع تحت مظلة نظام ديمقراطي حقيقي، يستطيع كبح جماح الفساد، ولا يتكأ على حالات الإخفاق في الحقب السابقة، لان هناك نجاحات، يمكن البناء عليها وتطويرها.
 


29

 

الغرب لن يدعم بعد الآن التأسيس لديمقراطيات عربية: عبث وهدر للمال

عدنان أبوزيد

امتعض الكثير من العرب، من انحسار بارقة الامل في انتهاء حقب الأنظمة الاستبدادية التي تواترت لعقود طويلة، حتى إذا تلاشت، أخفقت الديمقراطيات المستحدثة في التأسيس لكينونات ناجحة، ما دفع صنّاع السياسة الغربيين الى إعادة تقييم استيعابهم لجدلية الصراع بين السلطة والدولة في منطقة الشرق الأوسط، ولماذا فشلت محاولات إرساء أنظمة ديمقراطية حقيقية، بل الأتعس من ذلك، ان الدول التي شهدت انتهاء عصر الدكتاتورية، آلت الى بلدان فاشلة.   

لم يكن العرب وحدهم منشغلين في الآليات والكيفيات التي تتحوّل فيها بلدانهم الى ديمقراطيات ناجحة، بل الغرب نفسه، وعلى الأخص، المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الذين تعلقّوا بشكل خاص في مشروع الانقلاب السياسي، بواسطة التأجيج الجماهيري، والفوضى الخلاقة، لكنهم انتهوا الى ما يشبه الخيبة، مستسلمين لفكرة ان التأسيس يجب ان يكون تدريجيا، وان التغيير الشعبوي بتأجيج الشارع، وتحول المجتمعات الى مجموعات مسلحة، كما في سوريا وليبيا، لن يحقق المفاعيل.
ويًستثنى من كل ذلك الحالة العراقية، التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا، في التغيير السياسي بواسطة الاجتياح العسكري.

تقتنع النخب المفكّرة والمخطِّطة الغربية، التي تستمد اشتقاقاتها من مراكز التفكير العملاقة، والرصد الميداني، أكثر من أي وقت مضى، بان الإخفاق كان مصير ثورات الربيع العربي، وان الديمقراطية المستوردة التي تتلقى الدعمين المعنوي والمادي من المؤسسات الغربية، لن تنجح، ما لم يتم اختراق ذاتي للطبقية الاقتصادية والاجتماعية، والتأسيس للمجتمع المنتج، ونشر الرشد السياسي والاجتماعي، وتهميش التكتلات البنيوية المعقّدة، والقضاء على الأمية.
 
يتحدث الباحث في مركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز، شادي حميد، عن ان الولايات المتحدة ركّزت في أوائل التسعينيات، على تنمية المجتمع المدني في الشرق الأوسط. وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، زادت إدارة جورج دبليو بوش بشكل كبير من المساعدة للمنطقة. وبحلول 2009، كان مستوى المساعدات الأمريكية السنوية للديمقراطية في الشرق الأوسط أكثر من إجمالي المبلغ الذي تم إنفاقه من 1991 إلى 2001، حيث كان الانفاق على تعزيز الديمقراطيات، يفوق اية مجالات أخرى. 
 
إنّ إنفاق مئات الملايين من الدولارات من أجل التأسيس لديمقراطيات، يوصف بأنه عبث، مالم يكن الوصول اليها تدريجيا، عبر آليات محلية ومخاضات طبيعية، فلا تلبث الديمقراطيات المستوردة، أن تموت اذا لم تكن تلقائية ثورية، ناجمة عن معاناة وتجربة انفتاح طويلة ومتأنية للتجارب التأريخية، وفي مجتمعات ينعدم فيها الناخب الواعي المستقل، وتزدحم فيها التكتلات العشائرية والفئوية، والمناطقية، والطبقية، يصعب على الديمقراطيات المعلّبة انْ تصمد.

تُرصَد نزعات صريحة في السياسات الغربية، للإقلاع عن الدعوات التأليبية باتجاه إقامة الديمقراطيات على النمط السائد، بعد التراجعات الواضحة في ثورات الربيع العربي، بل ان الدول الكبرى تتجه الى دعم النظام السياسي التقليدي العربي، بأشكاله في الخليج، والدول الأخرى، يدفعها الاعتقاد بان ذلك يستطيع التأسيس لبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية، قادرة في المدى الطويل على النهوض بمشروع ديمقراطي حقيقي، ويتلخص ذلك جليّا في سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي استهجن في اكثر من مرة، التغييرات السياسية في ليبيا والعراق، وحتى سوريا، وبرهن على ذلك بدعم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي انقلب على رئيس انتُخِب ديمقراطيا..

 

 

30



الغرب الحضاري المتسامح يدحض خرافات الأيديولوجيات المتزمّتة عنه

عدنان أبوزيد   

لازالت الصورة بين العرب والغرب، تخضع الى التشويه المتعمّد، أو غير المقصود الناجم عن سوء الفهم، على الرغم من الانفتاح الثقافي والإعلامي في عصر التواصل، الذي يفتح نوافذ حوار مباشر، وينقل المشاهد الآنية اليومية على حقيقتها.
وفي حين انّ طائفة من العرب لاتزال تنظر الى الغرب الأوربي على انه صانع المؤامرات، والمتقدم علميا وصناعيا، وتتوهم بان مجتمعاته منحلّة اجتماعيا ودينيا، فان الكثير من الاوربيين لايزالون ينظرون باستعلائية الى العرب، وانهم ليسوا سوى فولكلور يزيّن صفحات التاريخ، بعد فشلهم الذريع في اللحاق بموكب العصر.

ارتبط قيام الدول العربية الحالية بخرائطها المعروفة، بالغرب، ولم يكن العرب وقتها يعرفون عن الأوربي، سوى انه مستعمر لبلادهم، فيما كانت اعداد يسيرة من الجاليات العربية قد هاجرت الى البلاد الاوربية.

لكن، وعلى الرغم من الكراهية المنتشرة للغرب، اضطر ملايين العرب الى الهجرة اليه لتتفاجأ بمجتمعاته المتسامحة والإنسانية، وحكوماته التي توفر الحياة الكريمة حتى للغرباء واللاجئين، وقد أدى ذلك الى انقلاب في المشهد، وانسحب البساط من الأفكار المتطرفة تجاه الغرب، وزاد انبهار العرب به، وهم يتحسرون ويتألمون على الفارق بينهم وبين هؤلاء الذي استعمروا بلادهم يوما، الى الحد الذي طالب فيه المئات من اللبنانيين، بعودة الانتداب الفرنسي الى بلدهم حين زارهم الرئيس الفرنسي، هذا العام.

يجب ان نعترف بان "البغضاء" للغرب تنحسر، ويسود محلّها الانبهار، وهو أمر تدلّل عليه الاحداث، والكتابات. والسبب يعود الى إخفاق العرب في بناء الدولة، التي لم تنجح في الوصول الى مستويات جيدة من العيش والتعليم، والاستقلال، والثقافة، بل حتى الدول التي يُشار لها بالتطور، لاسيما دول الخليج، ما هي الا حضارات خدمية، أسّستها وحرّكت أدواتها، العقول والشركات الغربية.

لنقرّ أيضا، بان التنظير المخادع للحداثويين العلمانيين، والإصلاحيين الاسلامويين، وجلّهم يمقتون الرأسمالية الغربية، لم يؤسسوا لديمقراطية عادلة، وتسببوا في انهيار الهوية، بعد انحسار الفكر القومي، الذي قاد حركات التحرر، فيما السيناريوات عادت الى الارتباط بالقوى الغربية العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة، لأنها لازالت هي المتفوقة، ولو تفوّق العرب على شاكلتها، لكانوا اليوم مصدر قوة متكافئة.

لقد مضى زمن طويل على انجلاء الاستعمار من البلدان العربية، لكنه يعود الآن على شكل قوة ناعمة مهيمنة تستثمر في
الثقافات، وأنماط العيش، والطاقة والموارد، التي لم يستثمرها العرب سوى في الحروب واستيراد الأسلحة، وفساد المشاريع، والارصدة في البنوك الغربية.

إنّ شعوبا عظيمة مثل اليابان والصين، وكوريا الجنوبية، لم تكن أقل شأنا في صراعها مع الغرب عليها، لكنها لم تُرجِع أسباب تخلّفها اليه، بل الى علةّ فيها، وعجز يعتري بنيتها، فنهضت بعد انْ تخلّت عن أفكار المؤامرة التي تدفع الشعوب الى القصور والخوف، ونبذت الشعارات العريضة في الوطنية الزائفة والعواطف الجياشة، التي تتبنى الكراهية التاريخية، لتتجه الى البناء، والعمل، معتبرة ان الاستقلال الحقيقي، يكمن في التطور والمنافسة الحضارية.

نشر كلير هولينجورث، العام 1952 كتابه "العرب والغرب" وتوقّع فيه ان المنطقة العربية سوف تلتهب بالحروب، التي تستهلك الشعوب ذاتيا بسبب البنية القبلية والدينية، والتاريخية، وسوف يعجّل النفط من اشعال الفتيل، وهو ما حدث بالضبط.
 
 
 

31
 
"دمقرطة" العراق تتحدّى نظرية فوكوياما

عدنان أبوزيد

كتب فرانسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ؟" العام 1992، مبشّرا بانتصار الديمقراطية الليبرالية، ونهاية عصر الأيديولوجيا، وبزوغ عصر ما بعد العقائد السياسية والدينية، مثّبتا شكوكه في نهاية فكرة اليوتوبيا والمجتمعات المثالية كما رسمتها العقائد، ومتيقنّا من انتصار الحضارة الغربية.

يتحدث الكاتب إليان جلاسر عن أنّ مجلة National Interest الأمريكية كانت قد نشرت في العام 1989 اعلانا للعالم السياسي فرانسيس فوكوياما، عن نهاية المعارك الأيديولوجية الكبرى بين الشرق والغرب، وأن الديمقراطية الليبرالية الغربية تعزز انتصاراتها كل يوم، وما زاد من مصداقية الاستنتاج، الاحتجاجات المناهضة للشيوعية التي اجتاحت الاتحاد السوفيتي السابق، ليصبح فوكوياما بسبب ذلك قطبا مفكرا مهما في العلوم السياسية، وأطلقت عليه الأدبيات لقب "فيلسوف البلاط في الرأسمالية العالمية".

لكن ذلك، لم يصمد طويلا أمام ظهور دول دينية، وعقائد متطرفة مثل داعش، ودعوات الى استنهاض المشروع الشيوعي هنا، وهناك، لكن ظهور هذه الفقاعات، لم ينسف توقعات فوكوياما بشكل جذري، لكنه يضع علامات الاستفهام عليها والتي تزاحمت كثيرا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر العام 2000 كمثال مضاد رئيسي، فضلا عن صعود الأصولية الإسلامية وثورات الربيع العربي، في دليل يدمغ نبوءات فوكوياما في ضمور الأيديولوجيات القومية والدينية، وتطور الخلافات بينها الى حروب.

بيْد أنّ هناك من ينصِف فوكوياما الذي حرص على القول بان توقعاته الاستراتيجية لم تتضمن الجزم بنهاية جذرية للأيديولوجيات، كما لم يتحدث عن شمولية مطلقة للنموذج الديمقراطي الليبرالي لكل الشعوب، كما لم يقل شيئا عن حتمية تحول كل المجتمعات الى الليبرالية، لكنه رأى ان الادعاءات الأيديولوجية سوف تتهافت إذا استمر مسار التاريخ والتطور، على هذا النحو.
 
يركّز فوكوياما على الأفكار وليس الأحداث، التي هي نتاج الاعتقادات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، ولأن
الديمقراطية الليبرالية الغربية، تتميّز بتوازنها الاعتقادي الأنيق بين الحرية والمساواة، فإنها سوف تكسب الصراع، وان ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وتعزيز كونية الديمقراطية الليبرالية الغربية، باعتبارها الشكل النهائي للحكومات البشرية.

وفي هذا يتبنى فوكوياما فلسفة هيجل، الذي عرّف التاريخ على أنه موكب خطّي من حقب العصور، الذي انفتح على التقدم التكنولوجي، والحلول التراكمية للنزاعات الناجمة عن التطور من المجتمع القبلي إلى الإقطاعي ثم إلى المجتمع الصناعي، فيما يعتبر ان الماركسية ختمت تجربتها بفشل المشروع الشيوعي.

لكن هناك ما يصدع نظرية فوكوياما، التي بدت كما لو انها متضعضعة أمام بعض إخفاقات الرأسمالية، ومحدودية قدراتها في المواجهة مع تحديات اليسار.

يقول إليان جلاسر: لقد كانت النيوليبرالية مهيمنة إلى حد كبير، لكن على مدى السنوات القريبة الماضية، بدأت الشقوق في الظهور على شكل احتجاجات ضد الازمات الاقتصادية والهجرة، وبرز ذلك بشكل واضح في الاحتجاجات الفرنسية، وفشل الولايات المتحدة في "دمقرطة" العراق وأفغانستان، والانهيار المالي وازدهار الاشتراكية في أمريكا اللاتينية، ما يدعو إلى التساؤل، فيما إذا كان التاريخ يسير على عكس توقعات فوكوياما.

يبقى السؤال المفتوح فيما إذا اليسار المتنامي سيشكّل تحديًا أيديولوجيًا متماسكًا لليمين، أم أن انه مجرد مناوشات محدودة؟ وهل سينتهي الصراع عند هذا ؟.
 

32
 
لماذا هيْمنَ الغرب على الكرة الأرضية؟

عدنان أبوزيد

أوروبا التي لا تمثل سوى 8 بالمائة من مساحة كوكب الأرض، تمكّنت بين الأعوام 1492 و 1914 من استعمار أكثر من 80 بالمائة من العالم، ونجحت في نقل مجتمعاتها من حالات الفقر الشديد، الى الغنى الواسع، وأرست بين شعوبها
الرفاه، والعدل الاجتماعي، كتحصيل حاصل للتطور العلمي والاقتصادي، الذي اتاح حقبة الهيمنة على الشعوب الأخرى.

لقد سار التاريخ بطريقة مكّنت الغرب الى الآن من تحقيق التفوق على بقية شعوب العالم. في مقابل ذلك، تراجعت أمم لطالما تبجّحت بتأريخها الطويل وحضارتها الموغلة في القدم.
 
يقدّم فيليب هوفمان من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، الذي يطبّق النظريات الاقتصادية على السياقات التاريخية، قصة تكنولوجيا البارود، كمثال نوعي لطرائق التفكير الأوربي، باعتبار ان هذا الاختراع المفيد والضار في ذات الوقت، من مخترعات الصينيين، لكن الأوربيين تفوقوا عليهم في صناعته، وتوظيفه بوسائلهم المبتكرة، الأمر الذي سمح لهم بالاستيلاء وبسرعة على أجزاء كبيرة من العالم، متفوّقين على الشعب الأصفر الذي يفوقهم عددا، اضعافا مضاعفة.

وبالنسبة لهوفمان، لم يكن البارود سوى رمز يرتبط بالتكنولوجيا والسياسة والإدارة الناجحة، والأنظمة المالية والضرائب، والثقافة، والتنمية الاجتماعية.
 
لا اختلاف على حقيقة ان الفتوحات العالمية التي أنجزتها أوروبا الغربية، هي من ثمار الثورة العلمية والاقتصادية، والاجتماعية التي تفوقت فيها شعوب القارة الشقراء على غيرها، ومثلما انجبت العلماء وجهابذة الثقافة والاقتصاد، فقد ولّدت الزعماء التاريخيين، الذين نجحوا في إدارة البلدان بطريقة سمحت للعقل التجريبي والعلم، والفلسفة، في تطوير المجتمع والإنتاج.

يكمن السرّ لهذا التفوق، في الاستقرار، وحرية الرأي، والعدالة، التي توفّرها الديمقراطيات الحقيقية العتيدة، فمهما توفّرت للبلدان، الاعداد الهائلة من المهندسين والأطباء والعلماء، ورجال الاعمال، فان هؤلاء لن يتمكنوا من تحقيق انجاز، من دون نظام سياسي كَفء.

يقول هوفمان: في العام 1914، نجت الصين واليابان والإمبراطورية العثمانية فقط من التحول الى مستعمرات أوروبية. وقبل ألف عام، لم يكن أحد يتوقع التفوق الأوربي، على الإطلاق، لأن أوروبا الغربية في تلك المرحلة كانت متخلفة بشكل ميؤوس منه، وضعيفة من الناحية السياسية، وفقيرة، وكانت تجارتها الرئيسية الشاقة، ولمسافات طويلة هي الرقيق.

كانت الهيمنة السياسية لأوروبا الغربية نتيجة غير متوقعة، قبل ان تصبح ماكينة صناعية، وما ان حلّ العام 1800، حتى استولت على 35٪ من العالم على الرغم من كونها أقل ثراءً من الصين أو الشرق الأوسط.

ثمن تفاصيل أخرى تتعلق بالتفوق الأوربي، وهي ان العلوم، والوعي الاجتماعي والصحي، جعل الأوربيين في مناعة من الأمراض، مثل وباء الجدري الذي عصف بالمكسيك، والأدواء التي قتل الملايين في الهند، وجنوب شرق آسيا.

المنظور التاريخي يفسّر أيضا، كيف انتقلت الهيمنة من أوروبا الغربية الى أمريكا منذ أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ومن المحتمل انتقالها الى شعوب أخرى، في عالم ما بعد أمريكا المتوقّع الحدوث في منتصف وأواخر القرن الحادي والعشرين.
 وليس السبب في هذا التحول، الضعف الأوربي أو الأمريكي، بل لأن الشعوب الأخرى عرفت سرّ التفوق، وأخذت به، لكي تنافس أصحاب السرّ أنفسهم، الذين أفلتوا من مورفين التاريخ، وسجلاته الكئيبة، وقصدوا المستقبل.
 

33
العراقيون في التنظير والتطبيق

عدنان أبوزيد

لا يزال تحويل التنظير الى تطبيق، إشكالية بنيوية لدى الكثير من الشعوب. وفي العراق يكتسب اعتبارية استثنائية بسبب الإخفاق الواضح في التنمية وإرساء التأسيسيات للتطور، واستفحال الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية.

الوصف للمجتمع العراقي بانه تنظيري، تأمّلي، صحيح، نتيجة الفشل في تجربة البناء المادي والمعنوي، ولو عاينت الفعاليات التنظيرية théorie ، فانك تجدها في كل القطاعات، ولها من المنابر ما لا يُعدّ، فيما التطبيق خاو، وأجوف.

تكثر الاطاريح الجامعية الهائلة العدد في العراق، وأغلبها المطلق إِنْشاءات أَدَبيّة وخواطر، وهي لا تعدو كونها حبرا على ورق، وهو امر لم يحدث في أي بلد في العالم، حيث الافراد يتسابقون على ألقاب اكاديمية، لا تأثير لها على الإنتاج وتغيير الواقع.

تتضخّم أعداد الكتب المطبوعة في العراق، في مجالات الأدب والثقافة والعقائد، من دون ان تجد ما يدل على انها تحفر في الواقع، او حتى وجود قرّاء حقيقيين لها، فيما يقرض الكثير من افراد المجتمع، الشعر، لاسيما الشعبيّ منه، حتى يخال لك ان كل العراقيين، شعراء، وينطبق الامر على التحليل السياسي والاقتصادي، فيما تزداد اعداد الناشطين المدنيين، والسياسيين، وكل ذلك فضاء تنظيري، لا يُرصد له فعل مادي انتاجي على الأرض.

مقابل كل ذلك، تُهمّش الكوادر الإنتاجية، والمشاريع العملية، واذا وُجدت لا يُحتفى بها، وتغيب الآليات التنفيذية، التي تنقل النظرية الى التطبيق الحركي، وتنحسر الإنتاجية المادية التي تحوّل الأفكار الى صروح مادية.

يعاني الشباب بشكل خاص في العراق، وعلى مختلف توجّهاتهم اليسارية أو اليمينية او الليبرالية والاسلامية من
المثالية السلوكية والفكرية، التي تواجه صعوبة التطبيق، ويعود سبب ذلك الى التطرف الطوباوي، وعدم امتلاك المنهج الإجرائي، الذي يحول الكتب الى انجاز شاخص، فضلا عن تهافت فرضيات البحث بسبب استسهال الكلام، وتأليف المفاهيم.
يتجاوز الأمر، الشباب الى النخب، حيث الأفكار تحتاج الى قادة تنفيذيين لها، لإقناع الجمهور بان العقائد والأفكار،
خُلقت من اجل التطبيق والتنفيذ وليس من اجل المباهلة، او التفاخر الفكري، أو الترف الأيديولوجي أو الصورة الملائكية
المرسومة في الخيال فقط.

انّ الشعارات التي لا تطبّق على أرض الواقع، تتحول الى سفسطة ترفيّة، فيما الواقع يئن من نخب تقول ولا تفعل.

يقول ألبرت أينشتاين ان "محك النظريات في التطبيقيات"، ولابد لها ان تتحول الى مزاولة اختبارية أولا لحين حسم صحتها، وينطبق ذلك على كل المجالات، حتى المعتقدات، بل ان الممارسة هي التي تقود في النهاية الى تعديل النظرية وملائمتها لتصبح إيجابية التنفيذ.
 
على سبيل المثال، فانك مهما وصفت نفسك بانك جوعان او عطشان، فانك لن تجد ابلغ واعظم من تجربة ذلك بنفسك، عندها تدرك الفرق بين الوصف النظري، والاستنتاج العملي.

من الناحية التأملية، يتم وضع العديد من الافتراضات لشرح ظاهرة ما، بينما في الحياة الواقعية، لا توجد افتراضات وشروط فريدة دائمًا.
وفي العراق، بشكل خاص يبقى الانقسام عميقا بين النظرية والتطبيق، لان اغلب افراد مجتمعنا أصبحوا افرادا نظريين، اما خطباء او منظّرين أو تلقينيين، أو محللين، أو أكاديميين شفاهيين، فيما يندر الناس الإجرائيّين بسبب غياب المشاريع، والمختبرات التي تفحص النظريات والمثاليات.

يتحدث فيليب هوفمان من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، كيف ان الصينيين وصفوا صناعة البارود، في كتبهم، لكن الأوروبيين الذين طوّروا تكنولوجيا انتاجه بشكل عملي، نجحوا في الاستيلاء على جزء كبير من العالم، بسبب مهاراتهم العملية قبل أي شيء تنظيري، ولازالوا يتفوقون على العالم لهذا السبب.
 

34
تهميش الأخلاق في التواصل الاجتماعي والتراسل الفوري

عدنان أبوزيد

تتجاوز المنصات الاجتماعية، لاسيما فيسبوك وتويتر، كونها نطاق تواصل، على غرار النوادي والمقاهي والمنتديات، الى اعتبارها كنزا معلوماتيا هائلا لمؤسسات المخابرات وخزانات التفكير التي تبحث عن المعلومات، فضلا عن تحولها الى سوق كبير للإعلان، وتبادل رؤوس الأموال المليارية.

فضلا عن كل ذلك فهي منبر سياسي واجتماعي وديني، ولها الدور الكبير في توجيه نتائج الانتخابات في الدول الكبرى مثل أمريكا ودول أوربا والصين.

لكن المشكلة الكبرى التي تواجه نوافذ التواصل، انها منتديات مستوعبة، لكل من هبّ ودبّ، ولمختلف مستويات التعليم
والتفكير، الأمر الذي جعلها حافلة بالآراء المختلفة، والسلوكيات المتنوعة، والاخلاقيات المتصارعة، على قواعد الأضداد الدينية والسياسية والاجتماعية.

في جانب البروفيل الشخصي، فان الكثير من مستخدمي فيسبوك لاسيما في البلدان العربية، لا يدركون ان الحساب او الصفحة لشخص ما، هي مملكته الخاصة، يعرض فيها آراءه ومفاهيمه، وانه مهما كان الاختصام معه، فان ليس من حق أحد، منعه عن ذلك، او تحقيره او التهجم عليه.
ويلعب التخفي دورا كبيرا في النفاق في الخطاب، اذ ثمة من يمتلك أكثر من حساب وهمي، يسعى من خلاله امّا الى فرض الرأي، أو الابتزاز، أو التعدي على الاخرين.
 
هذا على مستوى السلوك الافتراضي اليومي للأفراد، وفي مستوى آخر، فنحن في الواقع نتصارع مع عدد من المعضلات القيمية التي تعتبر جزءًا من الأخلاق الرقمية.

وفي تطبيقات مثل Facebook، Inc - Facebook و Messenger و Instagram و WhatsApp و Facebook Audience Network  يمكن رصد ازدراء واضح للأخلاق الصارمة، التي نمارسها في الواقع، وسبب ذلك يعود الى ان البعض يستسهل السلوكيات الضارة في العالم الافتراضي باعتباره منفصلا عن الحياة الحقيقية ، وهو تصور مغلوط ، لان مسار التطور يشير الى ان الانسان سوف يقضي جل وقته في الحياة الافتراضية، فيما الواقع اليومي سوف يكون على الهامش تماما.   

ينطبق ذلك على المؤسسات والشركات الكبرى، التي بدأت تدرك أهمية الاخلاق في التواصل لجذب الزبائن وعدم التفريط بثقتهم، فتراها جادة أكثر من الافراد، في جدية التعامل ومصداقيته، وقد فتح لها ذلك ابوابا كبير في تحقيق الأرباح وجذب ثقة المستهلكين وتحقيق النمو.
 
في ديسمبر 2018 استخدم حوالي 2.7 مليار من البشر تطبيقًا واحدًا على الأقل من تطبيقات Facebook  ، ولك ان تتصور ماذا سيحدث لو ان الناس تعاملوا مع بعضهم بطريقة غير أخلاقية؟.

إدارة Facebook نفسها متّهمة بتهميش اخلاقيات العمل والاستثمار، بسبب الطريقة الاحتكارية التي تتعامل بها مع الشركات المنافسة التي تشعر انها مضطرة في الاستمرار في تحويل أموال الإعلانات إلى مجموعة تطبيقات، الامر الذي تسبب في نمو عائدات هذه المنصة التواصلية العملاقة، إلى ما يقرب الـ 17 مليار دولار في الربع الرابع من 2018.
 
شيّدت شركات التواصل، مشروعها العملاق، على قاعدة أخلاقية وهي حرية الرأي، لكن الأمر لا يبدو كذلك، بعدما تبين انها تستخدم خوارزميات تتحيّز لمطوريها، وتراقب عن كثب العملاء والمشتركين، الامر الذي أتاح توجيه الاتهام الى فيسبوك لعدم مراعاتها لحرية النشر والتعبير، ودفع ذلك مالك الشركة زوكربيرج الى تأسيس "المحكمة العليا" لحل مشكلات الرقابة على المحتوى.

كان هدف Facebook كشركة تواصل اجتماعي، هو جمع الناس معا من خلال منح كل شخص صوتًا داخل مساحته الرقمية الخاصة، لكنها مع توسّع نموها الهائل، تحوّلت من منظمة اجتماعية، الى مؤسسة مالية عملاقة، ولك أن تتصوّر كيف تستبدل الاخلاقيات، نتيجة ذلك. 

35


صحافة الفيديو تقلب قواعد اللعبة 
عدنان أبوزيد

مقاطع الفيديو القصيرة في الحاسوب والهاتف، التي تسحب اهتمام الجمهور، عبر تطبيقات سهلة التنزيل، تصبح مرجعا للمعلومة، مستغنية عن النص الخبري المكتوب، الذي مهما كسب المصداقية، لن يكون أكثر اقناعا وبرهانا، من الحدث الملتقط، صوتا وصورة.

أذلك نهاية عصر الصحافة التقليدية؟، بعد أن شهدت السنوات القليلة الماضية انفجارًا في تداول فيديو الحدث عبر الإنترنت، مدفوعًا بالتحسينات التقنية على منصات مثل فيسبوك، تويتر، انستغرام، والاستثمار من قبل الشركات الإعلامية في تنسيقات جديدة لنشر الاحداث بطريقة مرئية.

سرعة تطور تقنيات اقتناص اللقطة وسرعة النشر المباشر، تنبأ بالانقلاب العظيم في أساليب سيناريو المعلومة، يقلب بشكل تام، قواعد اللعب في ساحة الصحافة.
 
المواطن في كل مكان في انحاء العالم، يصبح صحافيا، طالما بحوزته موبايل وانترنت، ولا تحتاج منه تقنيات نقل البيانات من خلال تطبيقات الهواتف الذكية سوى ضغطة زر، موثّقا أعظم الاحداث واكثرها حساسية، بطريقة عفوية، بل وخالية من مقاصد التسييس، أو الإعلان، والتضخيم او التهميش، لتتحول تقنيات نشر مثل غوغل بلاي، تطبيق تيك توك الاجتماعي، الى منصات اعلامية تفاعلية، يرسل لها المليارات من الناس، الأحداث الملتقطة، في تواصل اجتماعي لم تشهده الكرة الأرضية من قبل.

الصحافة الفيديوية الجديدة، لم تعد تمتلك نقل المعلومة فقط، بل المال أيضا، محققة رأسمالا ضخما لم تسبقه اليها اية مؤسسة صحافة تقليدية طوال التاريخ، ومن ذلك ان قيمة شركة Bytedance بلغت نحو الـ 75 مليار دولار، فيما يبلغ رأسمال شركة TikTok نحو المائة مليار دولار، وحقّق تطبيقها نسبة تنزيل بأكثر من 660 مليون مرة في العام 2019 ، ويستخدمه أكثر من 500 مليون شخص على مستوى العالم شهريًا.
كما يتابع تطبيق الفيس آب FaceApp أكثر من 80 مليون مستخدم.

الأمر يتعدى المال الى النفوذ السياسي، وبحسب "وول ستريت جورنال" فإن صفقة بين مايكروسوفت الامريكية، وتك توك الصينية، سوف تعيد تشكيل المشهد التكنولوجي العالمي وتؤثر على العلاقات الأميركية الصينية.

يلجأ بشكل متزايد، الكتاب والاعلاميون والسياسيون، والاكاديميون والمهتمون، في الوقت الحاضر، الى انشاء القنوات على الفيديو، لإيصال أفكارهم ونظرياتهم، ورسائلهم الثقافية والسياسية والعلمية، عوضا عن كتابة المقالات وتأليف الكتب والنصوص.
ومنذ ظهور صحافة الفيديو في الستينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح واضحا جدا انها ستكون البديل المهم لصحافة الصورة والنص.

في العام 2001، انتقلت بي بي سي البريطانية، إلى صحافة الفيديو، ثم لحقت بها اذاعة صوت أمريكا، وفيديو نيوز إنترناشونال، ووظّفت نيويورك تايمز وحدها 12 تقنيا في صناعة الفيديو، في ذلك الوقت.
 
تطغى في أوربا الغربية وأستراليا وكندا، صحافة الفيديو بشكل ملموس جدا، ولم يحسّن ذلك من سرعة نقل الخبر
صوتا وصورة فقط، بل وفّر في النفقات أيضا.
لكن التحول الأهم في كل ذلك، ان صحافيي الفيديو لم يعودوا، أبطال اللعبة، لان كل من يمتلك هاتفا ذكيا اليوم، يستطيع ان يوثّق الحدث ويرسله في ثوان معدودة الى انحاء العالم.
 
تارا ساتون، مثال صارخ على صانع الفيديو الخبري الميداني، وقد عملت في العراق، ووثّقت الكثير من مشاهد الحرب، متخفية، لتجنب المخاطر الشديدة -كما تقول-، وفازت بالعديد من الجوائز الدولية.


 
 
 

تفوقت مقاطع الفيديو عبر الإنترنت التي يتم إعادة توجيهها من منصات البث، على الأخبار التلفزيونية التقليدية في نسب المشاهدة.
في تقرير لمعهد رويترز، فان مستخدمي مواقع الويب في 26 دولة يتابعون الاحداث عبر الفيديوهات على منصات التواصل لا عبر الفضائيات، كما تميل الإعلانات العالمية الى التحول الى مسار صحافة الفيديو، الامر الذي يجعل من الصحافة التقليدية، الخاسر الأكبر في سوق الإعلانات.
 

36
 
اليمين واليسار في العراق.. خنادق متداخلة   

عدنان أبوزيد


خاض مقال سابق في تصنيفات اليسار واليمين في العراق، بين تيارات محافِظة، أغلبها يمتلك النفوذ، واتجاهات مدنية وجماعات شعبية، شعبوية، تعتقد بالتغيير، في أسلوب إدارة الدولة، وممارسة السلطة.

اللافِت في المسألة العراقية، اختفاء الأيديولوجيا، والنظريات العقائدية الملهمِة للأطراف الفاعلة، ولم يعد يسيرا تبويب محاور الصراع في خانة اليسار أو اليمين، على الرغم من حدّة الاشتباك والتضاد النوعي بين "سلطة" و"معارضة".

يبدو جليّا، أنّ العراك السياسي والفكري توجبه العوامل المادية المرتبطة بمستويات المعيشة، والخدمات والبنية التحتية، والتي تحل محل المعجّلات العقائدية التي تدفع الأفراد الى الانتفاضة.
 
لنعود الى تصنيفات انحسرت الان وكانت قد سادت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فنضع الكتل السياسية
والأحزاب الفاعلة، واغلبها محافِظة، أو تقودها نخبويات عشائرية أو رأسمالية، في خانة اليمين، ونجعل من الحركات الميدانية في الشارع التي تقود التظاهرات في اليسار، كما يمكن تسمية الحركات والافراد الداعمين الى نظام ليبرالي ديمقراطي حقيقي منفتح على العالم لاسيما الغربي منه، باليساريين، فيما خصومهم هم أولئك اليمينيون.

اللافت أيضا ان الحالة العراقية بعد 2003، تنحسر عنها، الأحزاب المنظّمة، التي يتنادى افرادها بصورة دورية، ويتلقون الأوامر المركزية، ويُحاسَب افرادها على سلوكياتهم، ويعدّون التقارير عن انجازاتهم، وهو أمر عملت به الأحزاب التقليدية العراقية بطريقة التنظيم الحزبي منذ عقود طويلة، فيما التكتلات السياسية الجديدة، هي تكدّسات بشرية مؤقتة تحرّكها المناصب والانتخابات.
واحدة من التفسيرات لهذه الظاهرة، هو التأثر بالعولمة التي انجبت جيلا جديدا يؤمن بالمتبدلات المتسارعة في الأفكار والماديات، وأصبح تدجينه في عقيدة معينة، وتعطيل العقل عنده، امرا صعب المنال، وقد جعله الانفتاح على تواصل شديد واختلاط عظيم مع ثقافات وحضارات العالم المختلفة، الامر الذي يفسّر هذا التبدل الشديد في الشارع لصالح الشباب المتحرر الليبرالي، المتجاوز للسلوكيات المؤدلجة.
 
الأحزاب التاريخية، والأيديولوجيات النمطية حتى اليسارية منها، لم تعد تشكّل حتى قيمة رمزية أمام الجيل الجديد، وتكاد تتبعثر المنظومات الفكرية التي تستطيع جذب الشباب الى حقولها المغناطيسية، واذا كان هذا الامر حدث في أوربا من قبل، حيث الأحزاب، زمر انتخابية على درجة عالية من الوعي بالمشاريع والأهداف، لفرض منهج معين على إدارة البلاد عبر الفوز بالانتخابات، فان ذلك حريّ ان يُلتفت اليه في العراق، وان تدرك القوى النافذة ان التغيير يجب ان يستمد الدراية من تجارب الدول الناجحة ديمقراطيا، والتي انقلبت فيها رموز السلطة والجاه، الى متغيرات وليست ثوابتا مقدّسة.
 
على اليمين واليسار في العراق إذا صح هذا الوصف، تجاوز العصبية الفكرية واستيعاب عصر العولمة ونهاية عصر الأيديولوجيات، وأن يسارع الى اللحاق بجيل التطور السريع في التكنولوجيا ووسائل التواصل، وتقنيات الاقناع الجديدة، ولن يحدث ذلك الا باستبدال الذهنية السياسية التقليدية التي تدير برامجها بأسلوب الدكتاتوريات الراسخة وأفكار القرن التاسع وحتى القرن العشرين.

قد يبدو مُستغربا في نظام ديمقراطي، حدوث القطيعة بين ساحات التظاهر والقوى السياسية، ففي الديمقراطيات المعروفة لا يحدث ذلك، وسبب ذلك هو الاستقطاب الحاد، الذي يؤشّر على ولادة جمهور متطرف، متزمت، من معارضين وموالين، بينما راحت الصرامة الاعتقادية والسلوكية التي يمثلها أولئك الذين يصفون أنفسهم بـ"الثوريين المخلّصين"، يتبنى رؤية أحادية في وضْع سبل النجاة، تقوم على قاعدة فشل الطبقة السياسية برمّتها في الحكم، من دون الخوض في أسباب الإخفاق.

رغم ذلك، فان قواعد اللعبة الديمقراطية، يجب أن تتوالى، على رغم الاستعلاء والتشامخ في الاستقطاب الفكري والسياسي بين الطرفين.
 

37
الرأسمالية تعانق الاشتراكية في دول الرفاه

 

عدنان أبوزيد

 

أصبح ملفِتا في عصر تلاشي الأيديولوجيات السياسية، انتعاش النقاش مجددّا بين النخب السياسية والاقتصادية الغربية 

حول اليسار واليمين، واشباح الاشتراكية التي تنسلّ الى الرأسماليات الغربية، ووفقًا لمجلة غالوب، يبصر الرأسماليون الديمقراطيون في الغرب الآن إلى الاشتراكية بمنظور أكثر إيجابية، ونجم عن ذلك ارتقاء سياسيين يؤمنون حتى بإبدال الرأسمالية بالاشتراكية، فيما المحافظون يدركون الخطر ويتداركونه برفع شعار "الموت أفضل من الأحمر" وهم في حالة من انفعال فكري، معتبرين انّ من غير الممكن، على سبيل المثال لا الحصر، التعامي عن رؤية نجاحات الرأسمالية، العظيمة، والسير على هدي تجارب مثل فنزويلا الاشتراكية، حيث "يموت الناس جوعًا".

 

لا يخلو النقاش حول رواج "الاشتراكية" في المجتمع الرأسمالي من استقطاب لمشاعر الناس على حساب الحقائق الاقتصادية والاجتماعية، ومخرجات التطبيقات الفعلية، طالما ان السياسة تلوي اعناق الحقائق، فالقول ان الرأسمالية قد خذلت الناس وأن الاشتراكية هي الحل، ما هو في الحقيقة الا تبسيط كاريكاتوري للواقع، لا يخلو من ارهاصات سياسية انتهازية، فيما الواقع ان الاقتصادي الغربي واقتصاديات روسيا والصين واليابان، بإنجازاتها العظيمة، ماهي الا مزيج ناجح بين مؤسسات السوق الرأسمالية، والحكومية المركزية، والتجزئة الاشتراكية.

 

لعقود عديدة، تساجلت القيم الرأسمالية والاشتراكية على نيل الاعتراف بشهادة "الاصلح" لبناء اقتصاديات الدول، وخلّف

اليسار واليمين، الكثير من المعارك الأيديولوجية، لكن الحقيقة انّ كل ذلك لم يُبرِز منتصرا، لان الخاتمة كانت للنظام الهجين الذي يزاوج بين الاشتراكية والرأسمالية.

 

يحتاج اليسار ووراءه الاشتراكيون، إلى تقدير دور الرأسمالية في تعزيز انتاج الوفرة، وما صاحبه من ترف، فيما يحتاج اليمين إلى الإقرار بالدور الذي لا غنى عنه لشبكات الأمان الاشتراكية والضمان الصحي، في تهدئة مشاعر عدم اليقين بالرأسمالية.

الاشتراكيون الديمقراطيون الجدد في الولايات المتحدة، مثلا، الذين يترشحون للمناصب لا يطالبون بتأميم الصناعة أو إلغاء الملكية الخاصة، بل يدعون إلى دولة رفاهية معزّزة بشكل كبير بضمانات الضبط الحكومي لمختلف الصناعات. 

 

فرق كبير بين الديمقراطية الاجتماعية كما في هولندا و الدنمارك أو السويد وبين مثيلاتها في الاقتصاديات الرأسمالية لانها تمارس منهج الحرية الاقتصادية، اذ تتفوق الدنمارك والسويد، -حيث الضرائب مرتفعة والإنفاق الواسع على الرفاهية-، على الولايات المتحدة في أمن حقوق الملكية، وسهولة التأسيس للأعمال، والانفتاح على التجارة، و الحرية النقدية. 

 

وفي التطبيق الفعلي، فان الضمانات الاشتراكية الناعمة المصحوبة بالابتكار الرأسمالي والمنافسة والكفاءة والتجارة والنمو، تعطي درسا مفيدا عن جدوى الديمقراطيات الاجتماعية في بلدان الشمال الأوروبي.

 

إنّ أشدّ أنصار الرأسمالية مثل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ومذهبه التجاري البحت، الذي يؤمّن تدفقًا ثابتًا من الفرص، يدعو أيضا الى الأسواق العادلة ذات القواعد التي لا تجعل الأغنياء يأخذون كل شيء، ويتعلق الأمر بالأقوياء أيضا، ومثلما نجحت تجربة الاقتصاد الهجين بين الاشتراكية والرأسمالية في خلق أسواق أكثر ثراءً، فإنها أيضا جعلت جميع المواطنين، أكثر غنى. 

 

 

 

38


السياسة هي فن السفالة الأنيقة

عدنان أبوزيد 

الأخلاقيات السياسية هي الممارسات التي ترتبط بالعمل السياسي، وتوابعه، وتفترضها الدراسات والقواميس والادبيات منعزلة عن السجايا التي يتّسم بها الفرد، وسلوكياته في المجتمع.

بتعبير أدق، فإنها سلوكيات متحزّبة، لأيديولوجية او مجموعة عمل، ولا تعكس الأخلاق الشخصية المستنبطة من دين او مذهب، أو تربية مجتمعية.
ميكيافيللي، الأب المؤسّس للاعتباريات السياسية، يجزم انّ متحزباً، او عضواً في حزب يرتكب أفعالا تتناقض مع اخلاقه الشخصية، ويعمل على إنجازها بحسب أوامر، والا يعتبر غير ملتزم بأخلاقيات العمل السياسي.
 
الديمقراطيات المعاصرة تأبى ذلك نظريا، لكنها في الواقع تمارس هذه السلوكيات، تحت شعار "الغاية تبرّر الوسيلة"، وهو الشعار التاريخي الذي يضرب الاخلاقيات الدينية والاجتماعية، عرْض الحائط، ويراعي السلوكيات السياسية التي تختلف من مجموعة مؤدلجة الى أخرى، ويقلل من وطأة تنازلها عن المبادئ والشعارات، فيُطلق عليها وصف "الدبلوماسية" أو "المناورة".

الأخلاق في السياسة هي اللا اخلاقيات، لهذا أصبح فن إدارة السلطة، خلال السنوات العشر الماضية أقل تحضرا ودماثةً، كاشفا عن نفاق ومرائية كل من يصل الى سدة الحكم، حتى في البلدان الديمقراطية العريقة مثل الولايات المتحدة، الى الحد الذي يستخدم فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مفردات سوقية تجاه الخصوم مثل "نصّاب" و"مجنون" و"مريض نفسياً" و"محتال"، لمهاجمة معارضيه، وبشكل منتظم.
كما استخدم ترامب الإهانات الشخصية ضد الأنداد، حين وصف المستشارة السابقة للبيت الأبيض ميكا بريجينسكي بأنها "كلبة" و"تنزف بشدة من كثرة عمليات شدّ الوجه".

أضاعت السياسة، التي كانت على الدوام مرتبطة بسلوك حضاري للنخب، الكياسة، والصبر، والسكوت على الانتهاكات الشخصية، والتوجس من انهيار الصورة الإعلامية، لكن الزعماء الحاليين في مختلف البلدان، بدأوا يتصرفون على نحوٍ فظٍ وغير لائق، ولم تعد تهمّهم الاتهامات التي توجّه اليهم بالفساد، والتورط في الفضائح.

في الكثير من النقاشات السياسية المفتوحة، والتي تُنقل حيّة الى الجمهور، تجد زعماء وسياسيين، وخبراء في التحليل ومعالجة الاحداث، لا يزدانون بالأخلاق الحميدة، وتنقصهم الدماثة والالتزام باللطف واللياقة في النقاشات، ويمكن للمتابع للفضائيات الامريكية والعربية، أن يرصد بيسر، كيف تدور الاشتباكات بالأيدي، وكيف تتحول الندوات الى حلبات مصارعة، وحفلات كلام فَضَّة.
 
أحد أسباب الفساد الأخلاقي في السياسة، هو الرياء الذي ينكشف حين تحصل لحظة تقاسم الغنائم، عندها يتحول أصحاب
المبادئ في الكلام، الى طلاّب مصالح في الواقع، كما يتحوّل التنظير الأخلاقي المثالي الى سلوك منحرف، وتتحول الأيديولوجيا المثالية في بطون الكتب الى اختبارات ميدانية فاشلة، ولعل ذلك، احد أسباب انحسار الثقة بالسياسيين في الكثير من دول العالم.

يقول انيس منصور انّ "السياسة هي فن السفالة الأنيقة"، فيما أصبح واضحا ان الممارسة السياسية أصبحت غير مقيّدة بمبادئ اعتبارية، وان اقطابها ينقصهم الصدق الشخصي، والمهني على حد سواء.

كل ذلك لا يبدو غريبا لميكيافيلي الذي يعترف بان العمل السياسي يجب ان يكون بعيدا عن تطفل الأخلاق والدين، وان السلوك في السلطة ومجتمعات الأحزاب، لا صلة له بالأخلاق، بل يجب أن نحكم على الفعل السياسي من خلال النتائج، وفيما اذا هي مفيدة او لا.




فات على ميكيافيلي بان هناك اشخاصا طارئين على فن السياسة العظيم، لا يمكن شمولهم بتعريفه، وهم أولئك الذين يتعمّدون الفساد، لأجل كسب المغانم الشخصية، فيما الذين يتحدّث عنهم من محترفي السياسة الذين يهمّشون المبادئ الأخلاقية، غرضهم تجاوز بعض الموانع السلوكية، لبناء مشروع بنتائج.
 
 
 

 


39
معضلة الأخلاق في التواصل الاجتماعي 

 

عدنان أبوزيد

 

التواصل بنوافذه المختلفة يصبح بيئة اجتماعية مستحكِمة، و"تجمّعا افتراضيا" عملاقا، يتجاوز حدود إمكانيات التعبئة

الجماهيرية في الواقع. 

 

ومثل أية بيئة مخالطة، فانه ثريّ بالتنوع في الأمزجة، والتوجّهات السياسية والثقافية، والفكرية، والأخلاقيات، بما تحفل به من فضائل ورذائل، وشكاوى وتجاوزات وانتقادات، وانتهاك للخصوصية، وانقلاب في أنماط المشاعر والعلاقات، بل انه نجح في التأثير على ثقافة المجتمع، وأصبحت الرغبة في الحديث مع أشخاص في Facebook و LinkedIn و Twitter، تتفوق على الميل الى التفاعل معهم في الواقع، ولم يعد السلوك "تصرّفا" خاصا، بل "عاما" يراقبه ويتفاعل معه عشرات الآلاف من الأشخاص في العالم. 

 

بل وتفرض عليك قوانين وانساق الحوار في التواصل، أنك تتلقى ما لا يسرك من وجهات النظر، ويتحاور معك الذي لا تتفق معه في الأفكار، ويقتحم صفحتك الذي لا تطيق الحديث معه في الشارع.

 

هذه البيئة الغنية بالبشر والسرائر، والثقافات تحتاج الى أدوات كافية للتنظيم الذاتي، وهو ما تشتغل عليه إدارات التواصل الاجتماعي، ومن ذلك، - على سبيل المثال لا الحصر-، وضْع علامة على المحتوى المسيء ثم إزالته، والحيلولة دون تحوّل النوافذ الى إعلانات سياسية وتجارية. وفي اجراء ملفت، نصحت لجنة تحقيق برلمانية بريطانية بضرورة حرمان مستخدمي الإنترنت البريطانيين الذين ينشرون أفكارًا عنصرية، من وسائل التواصل. 

 

لكن الأصعب من كل ذلك، هو تحديد هويات الأشخاص الحقيقية، وفيما إذا هي "منتحلة" أم لا، بعد ان تعرّضت هذه النوافذ التفاعلية الى نوع من الاهتزاز السلبي بسبب الانغماس المفرط في صناعة الشخصية الوهمية التي تتيح للأشخاص، ضخّ سلبياتهم بأسماء مزيفة.

 

أصبح إخفاء الهوية الحقيقية على منصّات الإنترنت مدعاة الى عدم شعور الفرد بالأمان الكافي، الامر الذي دفع الخبراء الى تعزيز آليات التحقق من صحة ملفات تعريف المستخدمين، فيما المرجح ان تبتكر المنصّات، هويات مدنية الكترونية كتلك المعمول بها في العالم المتقدم، حيث لكل مواطن رقمه الالكتروني الذي يعد المفتاح لكل معلوماته الشخصية المسجلة لدى السلطات الرسمية. 

 

انطلقت مواقع التواصل منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، على أيدي الجيل الذي يسميه الاوربيون، بـ الجيل Z ، Y، كما يطلق عليه اسم "جيل لوحة المفاتيح" .

 

كانت أول وسيلة تواصل بشكلها الحالي على الإنترنت هي شبكة Six Degrees المشتق اسمها من عنوان نظرية "ست درجات من الفصل" واستمرت من العام 1997 إلى العام 2001، لتتوالى بعدها إصدارات مثل Myspace في العام 2003، وأصبح Facebook متاحًا للجميع في العام 2005. ثم انطلق Twitter في العام 2005، وتبعه Instagram في العام 2010 . وفي العام 2011 دّشن Snapchat انطلاقته.

 

يجب انْ لا نشعر بالإحباط في العراق، من سوء الأخلاق الرقمية والغش السيبراني، ذلك ان دولة مثل المملكة المتحدة يعتقد غالبية الآباء فيها أن التواصل الاجتماعي يضر بالتطور الأخلاقي لأطفالهم، لاسيما بعد انتشار الهواتف الذكية.

كما يتوجّب التفكير في الجانب الإيجابي لنوافذ التواصل، إذا ما نجحنا في توظيفها في تعزيز الشخصية الإيجابية والفضائل الأخلاقية مثل الحب، واللطف، والحوار، والسلام بين الأديان والشعوب.

 

مهندس و باحث وكاتب 


40
ماذا لو اختفت أمة الكلام والوعظ.. هل يتأثّر العالم؟


عدنان أبوزيد

 

يعالج مسؤولون عرب أنفسهم في مستشفيات ألمانيا وهولندا. ويقصد زعيم عربي الولايات المتحدة للعلاج، وهو أمر

مألوف للمواطن العربي، لكن ممرضة هولندية، سألتني: ألا توجد مستشفيات في الدول العربية؟، وهو سؤال تحتاج الإجابة اليه الى الكثير من الوجع والصراخ، سيما اذا ادركنا حقيقة ان الأموال العربية اتخمت بنوك الغرب، ولم تستطع النخب الحاكمة طيلة عقود من سيطرتها على الحكم من بناء مستشفى وطني واحد تثق فيه، لتعالج نفسها.

 

مقابل هذا الانهيار في الإنجاز، ثمة إطراء كبير، وثناء عظيم، واحتفاء منقطع النظير، بحكمة أولئك الزعماء، وقياداتهم الرشيدة والتاريخية، وبناءهم البلاد، بل وهناك من الكلام الكثير حول القدرات والمهارات العربية، وكله لغو وسفسطة

وتزويقات كلام، تضع العرب في مقدمة قائمة افتراضية لأمم الكلام. 

 

يسأل الكاتب اللبناني سمير عطا الله: ماذا لو اختفى العرب جميعاً؟ ماذا لو أفاق العالم فجأة واكتشف أننا لم نعد موجودين؟ بالتأكيد لن يخشى من خسارة أي شيء، فلن ينقطع الإنترنت ولن تتوقف الأقمار الصناعية ولا مصانع السيارات وقطع غيارها، ولن تتوقف أسواق البورصة، ولن يفتقد أي مواطن في العالم أي نوع من الدواء ولا المعدات. 

 

يفتح هذا المضض، السؤال المرّ الى أبعد مداه، حول قضية أكثر تعقيدا من مسألة غياب العرب عن الإنجاز الحضاري، الى استقرارهم في هوة كهف سحيق من تضليل الخطاب المزخرف بالغبطة اللغوية، وقد أدى ذلك الى ظهور الافراد الشفويين امام الثقافات الأخرى وهم متسلحون بقشرة لغة بلاغية سلحفاتية سميكة تجاه الثقافات الغالبة والمتفوقة التي تكمن بلاغتها في فعلها، لا لسانها.

وعلى الرغم من هذا الخلل، والتخلف الحضاري، فان الكثير من العرب يستطيعون اقناع بعض الغربيين بالتفوّه، لانهم تدربوا على الوعظية، والخداع الشفاهي فيما الغربي منهمك بعدّته وادواته المختبرية، فلا يجيد صناعة المنطق الانشائي، وربما ينخدع به لبرهة، لكنه سرعان ما ينكشف السراب.

تجربتي في الغرب لأكثر من عقدين، تستخلص ان المرأة "الشرقية" لا تتأثر بالمرأة الغربية الناجحة، على رغم نجاحاتها العظيمة، وعلى رغم من انتاجها الأفضل، والسبب ان المرأة العاملة والعالمة لا وقت لديها للدعاية والخطابة وتوجيه النصائح، والحذلقات الكلامية..

وينطبق الامر على أولئك المتزمتين الذين يعيشون في اوربا، تجدهم يخلصون ويتحمسون الى التنظيرات غير المنتجة، التي ينادي بها الخطاب المبهرج.

 

القول بان العرب، أمة تبيع الكلام، صحيح الى حد كبير، لكنه تبيعه الى افرادها، لان خطابها لم يعد يلقى أذنا في الغرب، الذي ادرك بشكل واضح، ان العرب في كافة بلدانهم، فشلوا في الإنتاج الحضاري، لكنهم تفوقوا في الحديث وتأويل الكلام، بل وسرقة الاكتشافات والاختراعات ونسْبتها الى أدبياتهم العقائدية، والتاريخية المستندة الى الشفهية لا مناهج البحث العلمي، الأمر الذي يفسّر اجترارنا لغو الكلام حتى في البحوث والجامعات، وعدم القدرة على تحويل التنظير الى تطبيق. 

لقد وصل الامر الى ان الشاعر الراحل محمود درويش يؤكد ويكرّر: انا عربي، لكنه لم يجد من مجد يفتخر به سوى التشرد والخيام وتضاعف النسل من دون تخطيط، فيقول: سجل انا عربي سجِّل! ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ

وأطفالي ثمانيةٌ، وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!، فهلْ تغضبْ؟.

وبالتأكيد فان الآخر، لن يغضب امام التناسل الانشطاري لأمة كثر أفرادها وانعدم إنجازها.

العرب في نظر الغرب اليوم، ديكور تاريخي، وفولولكور قديم، يمتّع العين بالنظر اليه، في ظل غياب قوة المعرفة، وذراعها الضارب في الاختراعات والمصانع الذكية، ومن جراء ذلك تحوّلت حتى الدول العربية الغنية، الى سوق مستهلك للاختراعات والتقنيات ومثال صارخ للحضارة الاتكالية. 


41
العقل العربي يتورّم بالغبطة الماضوية

 

عدنان أبوزيد

 

تتضخم في العقل العربي حصى فكرية غير قابلة للتفتت حتى تحت اشعة التحديث الليزرية، وهي من صناعة ثوابت معظّمة لا تؤمن بالمتحوّل، جاعلة من التاريخ متحجرا تغطيه الطلاسم والاوهام، لا يكترث لمتغيرات العلاقات والمفاهيم، فلا يحاور واقعا مغايرا، ولا يتكامل مع واقع مطابق، بل ان الوعي العربي يذعن لسلفيته التي يعتبرها مثالية، ويتباهى

بالخضوع الى مرجعياته النقلية التراثية المقدّسة في دفتر الماضي.

 

ولا تشذ الحالة العراقية، عن الثقافة الاجتماعية وطرائق التفكير العربية الديماغوجية المبجِّلة للموروث التقليدي

لتصبح في العقود الأخيرة، من أعجز الثقافات في المزاوجة بين اشكاليات التحديث، والجذور الراسخة، وبدأت تقف على الأخيرة، غير منجذبة الى العصر والعولمة.

 

المنهجية المسيطرة اليوم تنحصر في البحث الانتقائي في الماضي، وسرديات التاريخ والاستنساخ المعرفي المقلّد

بما يتوافق والاهداف السياسية للقوى المسيطرة، وهي في اغلبها توظيف لأحداث الماضي المتّسقة مع أيديولوجيتها واعتبارها مثالية. اما المتناقضة مع هواها الفكري، فان المجال مفتوح لتقبيحها، واعتبارها هزائم، وقد أدى ذلك الى معارك عصرية وحروب على الصنميات والقبور.

 

تشعر السلوكية الانبهارية بالماضي، بالنقص والاختلال امام انجازات العصر، ما يدفعها الى تأويلات فكرية، وتزويقات بلاغية، وهو أمر اشتهر به العرب كأمة كلام، وبلاغة خطابية زعمية، لتنسب التقدم والتطور والاختراعات الى نفسها، وتراثها، بواسطة أدوات الخطاب الادعائي الذي يستند بكل وعيه الى التاريخ، ولا يستطيع العيش في الحاضر.

 

أي فكر اختلاقي، يستند الى نرجسية ماضوية، ولا يمتلك من أدوات القوة سوى المنابر الخطابية، وتغليف الماضي، 

بطلاءات عصرية غير راسخة، ينهار عاجلا او آجلا وإن طال به الوقت، لأنه يفتقد الى ابسط مقومات البقاء، في البعد التحليلي، والقدرة على تحقيق انجاز مادي والتأسيس لأدوات ملموسة في البناء. 

 

أحد أسباب سيادة الثقافة الغربية، وتمكّنها من عقول البشر، قدرتها على الأثر، لا بالخطاب البلاغي، والمنابر الوعظية، 

وإعادة اجترار الماضي، وإنتاج نسخ جديدة له، بل في امتلاكها أدوات مادية في البحث والابتكار والإنتاج، الامر الذي 

جعلها ضليعة في الغزو الثقافي. 

 

ولانّ الفكر الغربي، متطور في تقنياته، فقد انتج الميديا عوضا عن المنبر، مكتسحا العالم في القدرة على التأثير، فيما 

رسخت الثقافة العربية على الابواق المنبرية التقليدية المعبئة بالماضي، من خلال نرجسية محاطة بتفريط معرفي واضح.

 

مثالان صارخا على سذاجة الفكر الماضوي، وغلبة المفاهيم الميتافيزيقية، الأول:" الحرب على العراق العام ٢٠٠٣، وكيف واجه العرب آلة الغرب المتطورة الضخمة، باستدعاء أدوات تاريخ مضى عليه أكثر من ستة الاف سنة ليس لها من الإنجاز، شيء يذكر في دفتر العصر.

 

الفكر المتأزم والموتور، يواجه التحديات على انها مؤامرة مدروسة، وتبدو أنساقه على طلاء واحد من تجارب سلفية وتاريخية يعتقد انها نموذجية، فيما شخوص الحاضر هي ذاتها تكرارا مقيتا للسلف، لهذا يتقهقر الى الماضي الذي يجد فيه ملاذا آمنا من الفشل متذرعا بالمحافظة على اخلاق الامة وتاريخها، وقيمها ورموزها.

 

يحتاج الوعي العربي الى تجاوز اذعانيته وسلفيته المثالية والخروج من كهف التقليدية والوعظية الفكرية، وهذا يتطلب تفعيلا جديا للوعي النقضي الذي يقوم على تبني انساق البحث العلمي ووضع الافكار الموروثة موضع المسائلة، وتطوير ادوات معرفة جديدة بالانفتاح على العالم المتقدم، ووضع الشك والمسائلة الدائمة ضمن آليات التفكير.

 

وبواقعية أكثر، علينا الاستجابة لعقلانية الحاضر، وتجاوز مكر التاريخ بوصف الفيلسوف هيجل، والانكباب على

البحث العلمي البيكوني، للانعتاق من سيطرة الماضي على أفكارنا، ومنطلقاتنا، لتجاوز الميتافيزيقيات، والجدليات 

المعبئة في أجواف الكتب من دون ان تحقق إنجازا حضاريا. 

 

42

التعريف الجديد للقوّة.. لم نكن أقوياء يوماً

 

عدنان أبوزيد


 

الصين بلد جبّار، يباري القوة الأعظم في العالم، ويستطيع التهام تايوان التي تعتبرها الادبيات السياسية الصينية، وأخلاقيات الشعب الأصفر، جزءاً لا يتجزأ من البلد الأم، وإنها يجب ان تعود يوما.

لكن الصين، لم تجازف باجتياح عسكري لهذا البلد الصغير، الذي يرفض سيادة بكين عليه، وقد فارق ماو تسي تونغ، الحياة العام 1976، دون غزو الجزيرة على رغم خطابه الضاغط الذي يوحي باقتراب ابتلاعها.

 

انتهت الاستراتيجية الصينية الى اعتماد سياسة أكثر لينا ومالت الى السلم مع تايوان، وفضّلت الاعمار على الحرب، متيقنة ان التفوق التكنولوجي، والرفاه الاقتصادي، وبناء القوة العظيمة، يخلق تجربة تمتثّل بها الأمم، وكفيل بدفع تايوان الى الركوع لها يوما.

 

يأفل الاخضاع القسري للشعوب بالقوة، ويحل محلّه ما هو أكثر نجاعة في استرجاع الحقوق، وفرض المشيئة، في انجاح التجارب الخلاقة التي تجذب الأمم الأخرى، الى التحالف والتعاون وحتى الانضمام الى الدولة المتفوقة.

 

في مقاربة لهذا التطور في مفهوم السيطرة العالمية بالمعرفة والقدرات، لا بالحرب والدماء، فان الاستراليين يرفضون الخروج على التاج البريطاني، ولم ينجح دعاة الاستقلال عن بريطانيا في تطبيق النظام الجمهوري.

لا يشك أحدا في ان سبب رفض المواطن الأسترالي، الانفصال، هو الديمقراطية البريطانية التي ارست أنموذجا ناجحا،  وقادت البلاد الى التفوق.

ويتجلى الانضمام المتكافئ غير القسري، ولا التابعي، في كندا التي لازالت الملكة إليزابيث، رئيسا رسميا لها.

 

يتوقّع الخبراء ان يلغي التطور الاقتصادي والتكنولوجي، ووسائل النقل والاتصالات حتى الحدود السياسية بين الدول،

متحولة الى خطوط وهمية على الخرائط بعدما تندمج النظم واللغة والأفكار، والميول والاتجاهات والعملة، وقد يظهر ذلك منذ الان في العلامات الحدودية البسيطة بين سويسرا وإيطاليا، فيما تبدو الحدود بين هولندا وألمانيا كشريط معدني.

 

الدول المتقدمة، تجهز على الدول الضعيفة بعلومها المتفوقة، وتستولي على العقول والأفكار، بعتادها في تقنيات التواصل والإعلام، والأسواق الذكية، والبضائع الجيدة، فيما تتنقل شركاتها عبر الدول الواهنة للاستثمار في النفط ومناجم الذهب، وحقول الغاز، ورمال الصحراء، محققة ارباحا بمليارات الدولارات، وموفرة فرص العمل حتى للدول التي تستثمر فيها، وكلها إنجازات تفوق ما يمكن ان تحصل عليه دولة ما بغزو عسكري.

 

تتخاذل نزاعات الحدود، وتتناهى أمام حركة التاريخ، التي ارست آليات حرية اليد العاملة والبضائع الى الحد الذي يعتقد فيه البعض ان العالم يتوجه الى حكومة عالمية مشتركة على الرغم من وجود نحو 6500 لغة، ومجموعة متنوعة من الأنظمة السياسية، والعديد من العملات المختلفة. 

 

ولا حرج في وجود كيانات سياسية من خلال الحدود الجغرافية أو الخطوط الخيالية، لكنها لن تُصبح في المستقبل، عنوانا لنزاع عسكري أو حرب، لأنّ الاحداث تجاوزت بواعث آليات المخاصمة على الجغرافيا الى أضداد في حقوق الاختراع، والملكية الفكرية، وميزان التجارة، والهيمنة الثقافية، وسطوة الشركات الكبرى، ما يجعل من الحرب لو افترضنا

احتمالها، لن تكون سوى منافسات اقتصادية او تكنولوجية او تجارية. 

 

انّ التفكير في التركيز على تشييد المجتمعات، والنهوض بالاقتصاد والتعليم، وتحقيق ناتج قومي إجمالي للموارد الطبيعية والنفطية، وخلق طاقات سكانية متعلمة ومنضبطة، سوف يجعل من اية دولة، قوية، محصّنة، مهابة، ولن تستطيع اية قوة في العالم، منعها من ذلك، ومن ذلك ان اليابان وألمانيا، الخاسرتين في حرب عالمية، نهضتا بعدما ابتعدا عن أسباب التسليح والنزاعات.

 

السؤال: ما معنى ان تمتلك صاروخا وشعبك جائع، ما يوجب الحاجة الى الإنماء صعودا الى المستويات القوية اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، بدلا من مشاريع التسليح والحروب، عندها سوف تتلاشى أمام عظمة بلادك، الجبروتية المضادة. 

43
أفول عصر الزعامات لصالح مراكز التفكير

 

عدنان أبوزيد

 

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تعرّضت الباحثة في جامعة هارفارد، نانسي كوهن، لأزمات حياتية قاتلة، ما حفزّها -كونها مؤرخة-، الى الخوض في قيادة الأزمات، معتبرة الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن في صدارة القيادات العظيمة، في كفاحه ضد العبودية، والحرب الأهلية، على الرغم من مشاكله الشخصية، وكان أعظمها وفاة أبنه، وسخرية النخب من شخصيته.

 

كوهن تريد القول ان الأمة تنهض على أيدي زعماء لا يلتفتون الى آلامهم، بل الى معاناة الأمة، فيما تكبو الأمم حين تواجه الشعوب، الازمات، بفوضى الإدارة وانتعاش تعددية القرار.

 

في الفترات التي يتهدّد الأمم، عدم اليقين، والتوجس الجماعي، تنجب الأمم، الزعامات التي توصل الشعوب الى مستقر الأمان، واسترجاع الثقة بالنفس، بعد هزائم مادية ونفسية.

 

اقتنصت كوهن لقطة أخرى من قدرة شعبها على النهوض من اليأس، تجسّدها في فرانكلين روزفلت، الذي حشّد الشعب خلال الكساد العظيم. 

 

أنقذ القادة الأقوياء، الذين ولّدتهم الأزمات، الأمم، وتمكنوا من التكّيف الاضطراري معها ثم إعادة توجيهها والاستفادة من التجارب، عبر وسائل متّسقة من التواصل المنتظم.

 

القادة الاستراتيجيون يؤطرون رهانات الأزمة، ويركزون على النتائج المحتملة، ويقضون الكثير من الوقت في التفكير أو التحدث عن أفضل أو أسوأ الاحتمالات، ويرسمون سيناريوهات ذات احتمالية أقل في الخسارة والضرر.

وبمعرفتهم لتجارب التاريخ والاستعانة بخبراء ومستشارين مهنيين، يدركون الى حد مقبول، النتائج المتوقعة الأكثر ترجيحًا، مجنّبين بلادهم، المغامرات الطائشة كتلك التي شهدها العراق في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، او تلك التي شهدتها ألمانيا، في اربعينياته.

 

أحد أساليب القيادة في الازمات، استعانة مركز القرار بمراكز البحوث والتفكير Think tanks، التي اصبحت

القوة الناعمة المؤثرة في دول أوربا والولايات المتحدة، والمؤسّسة للمجتمع الأكاديمي، والمهني، والقاعدة المعلوماتية

التي تبني آراء الزعماء، وخططهم وبرامجهم، الى الحد الذي استغنت فيه عن المستشارين، لانهم مهما كانت تجربتهم 

ومهنيتهم، فانهم لن يكونوا بمستوى ما تقدمه هذه المراكز العملاقة من معلومات عميقة وأطروحات.

 

هذه الآلية في صناعة القرار، تبعد الزعماء عن الاستبداد، وتقطع الطريق على القرار الأحادي، وتبعد المزاجية في السياسات، وتجعل القادة الحقيقيين متوفرين، على الدوام سواء في خلال الازمات او في الظروف العادية.

 

لا يوجد انسان كُتب على شفرته الجينية انه سيكون قائدا، او زعيما عظيما، وربما سينتهي هذا المفهوم الى الابد، لان من يقود البلاد في هذا العصر، هي المعلوماتية العميقة والسريعة التي توفرها مراكز التفكير، التي تتعاقد معها الحكومات، وهي التي سوف تجعل من كل فرد زعيما او قائدا، طالما انه جلس على مقعد الرئاسة، وما عليه الا اثبات الجرأة في اتخاذ القرار. 

 

في الواقع، ان جلّ رؤساء أمريكا على سبيل المثال لا الحصر، كانوا سبّاقين، في عدم الشعور بالثقة الزائدة في النفس، 

والغرور السياسي والخيلاء التي تبعدهم عن الاستعانة بنصائح المستشارين التقليديين الذي ينتهي دورهم لصالح مراكز التفكير، اذ كان جورج واشنطن صاحب مشروع الحكومة الفدرالية، لصيق المفكرين السياسيين، ومستمع مذهل الى نصائحهم.

 

الكسندر هاميلتون، الذي تلقى تعليما متواضعا كونه يتيما فقيرا، وغير شرعي، استمد مشروعه الحاسم نحو وحدة أمريكا  من استشارات أصحاب التجارب السياسية والفكرية.

 

 

بنجامين فرانكلين، الرجل الأول في عصر النهضة في أمريكا، كان مؤلفًا ماهرًا، وعالمًا، ومخترعًا ودبلوماسيًا، كان يحيط نفسه بنخب الفكر والسياسة والهندسة.

 

على عكس هؤلاء، كان الزعيم الألماني ادولف هتلر، على غرار الأنظمة الشمولية، قد حوّل مراكز رسم الاستراتيجيات، الى بؤر عقائدية تتحيز للنازية وتلبي طموحات الزعيم العظيم، فكانت نتائج المغامرات العسكرية، هزيمة مرّة لألمانيا. 

 

ما يحتاجه القادة خلال الأزمات، ليس خطة استجابة آنية، بل سلوكيات وعقليات تمنعهم من المبالغة في رد الفعل تجاه التطورات.   

 


44
الدونيّة والاستعلائِية

 

عدنان أبوزيد

 

يعتقد البعض انّ محاربة العادات والأعراف الاجتماعية النقلية، والإرث القيمي، هو تحرّر ثقافي واجتماعي، فيهاجم 

الأفراد الفطريين في معتقداتهم، وإيمانهم.

 

النقيض من ذلك، انّ الأصوليين الاجتماعيين والعقائديين، يسفّهون اية محاولة للانفتاح الثقافي، ويقفون ضد تجريب معرفات جديدة، ويعتبرون التلاقح معها، تحلّلا.

 

وفي حين لا يعني الانعتاق، تسفيه الواقع، واتّهام المحافظين الاجتماعيين والعقائديين بالرجعية، فان الاصرار على الثقافات الداخلية، لا يعني اعتبار كل استيراد ثقافي او اجتماعي، مؤامرة.

 

ولانّ نشر الرأي، أصبح من دون رقابة صارمة عبر الاعلام والتواصل الاجتماعي، ومجموعات التراسل الفوري، فقد أصبح تسفيه عقائد الناس، وأيديولوجياتهم، شائعا، واستفحلت التهجمية والسلوكيات الاستعلائية الموجّهة من قبل الثقافة القوية الى الواهنة.

 

الأكثر اثارة، انّ مبادئ احترام معتقد وثقافة الآخر، كنظريات ومفاهيم، تعج بها كل أنواع العقائد الدينية والسياسية، 

لكنها من دون تطبيق، حيث الكراهية هي المسيطرة، واحتقار ثقافة الآخر، هي الحافلة، بل أصبح احترام معتقدات الآخرين ودعوات التعايش، يصنّف على انه قصور، وتراجع. 

 

أكثر من ذلك، فان المنفتحين الذين يسفّهون العادات والتقاليد الفطرية، التي يمارسها أبناء المجتمع، يتهمونها بانها هي السبب في التخلف، وعدم اللحاق بموكب الحضارة، فيما المحافظون المتزمتون يتهمون التفاعليين مع الثقافات الأخرى، لاسيما الغربية منها، بانهم اصل البلاء، وذهاب النعمة، وافساد الناس، وفقدان الهوية.

 

دول متقدمة غزت الفضاء، وبنت المصانع، ووظّفت تطبيقات العلم في بناء المجتمعات، ومنها الهند، لا زال الجزء الأكبر من شعبها يقدّس البقرة، وهي التي نجحت في خلال عقود قليلة، من التحول من مستعمرة فقيرة الى دولة متقدمة.

 

روسيا تعتبر التراث التاريخي بعاداته وتقاليده الاجتماعية ومهرجاناته الدينية، وتنوعه العقائدي بحسب القانون الصادر العام 1997، كنزا معرفيا وتاريخيا يجب عدم التفريط او الاستهانة به. في الوقت ذاته، فان التيارات الداعية الى الاندماج في العولمة والحضارة الغربية، لا تُتّهم بانها تسعى الى مسخ الهوية الثقافية الروسية.

 

في أمريكا لم يسفّه احد رالف درولينجر وهو وزير متدين أمريكي، اعتبر أزمة فيروس كورونا غضبا الهيا وهو عقاب الى الأمريكيين الشاذين أخلاقيا، فيما قسّ فلوريدا المحافظ ريك وايلز اعتبره عقابا من الله لمعارضي المسيح. 

 

شعب يوهنانين في جزيرة تانا في المحيط الهادئ يعبد دوق أدنبرة، الأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث الثانية، ونال هذا الاعتقاد، احترام الحكومة البريطانية، لانه يعبّر عن ثقافة القبائل في هذه المستعمرة البريطانية.

 

لازالت استراليا، متفتحة على العبادة الوثنية لسكان البلاد الأصليين، الذين يظنون أنهم ينحدرون من مخلوقات أتت من عوالم أخرى.

 

وعلى الرغم من اعتقاد الفيلسوف الهولندي بول كليتور ان "الثقافة الغربية" هي الأفضل في العالم بدليل قوتها على 

جذب الثقافات الأخرى للعيش تحت ضلالها، فضلا عن إنجازاتها في العلم والمجتمع، فان التسامح يبقى مصدر قوتها.

   

ولا يهم فيما إذا جميع "الثقافات" متساوية النفوذ ام لا، لكن المهم انها تتحاور فيما بينها في البيئة الصحية التي تضمن الفوز والبقاء للأقوى، وهذا يفسر عدم خوف الكثير من المفكرين الغربيين، من اضمحلال الثقافة الغربية.

 

رئيس الوزراء اليميني الإيطالي سيلفيو برلسكوني، الذي قال: "يجب أن نكون على دراية بتفوق حضارتنا، نظام قائم على الرفاه، واحترام حقوق، وهو أمر ليس لديك في الدول الإسلامية"، الا ان ذلك لم ينعكس على سياسة الدولة الإيطالية تجاه المهاجرين والغرباء الذين ينالون، من الحقوق والامتيازات، أكثر مما كانوا يحفلون به، في البلدان الأم. 

 

إحلال الثقافة المتعددة، بدلا من الأحادية يؤدي بالضرورة الى خطاب عقلاني يتعامل بإنصاف مع الحقوق الاجتماعية الأساسية لكل فرد مهما كان معتقده غريبا.


45

 
العراقيّ بلا عقل ثقافي ويعيش ماضوية نرجسية وفاقد للتوازن مع العصر

عدنان أبوزيد

يكشف التحرّر الثقافي في العراق عن تيارين متصارعين، الأول محافظ يرفض مغادرة إرث عميق من النمطيات الاجتماعية، والتقاليد، التي يستند اليها في إرساء احتكاره للحقيقة المطلقة، والثاني تيار رافض يسعى الى إبدال انقلابي وسريع، ويستعجل الوقت لعصيان الرموز الثقافية والعرفية والاجتماعية، فضلا عن السياسية.

الغلواء الذي يمارسه التياران، ينطلق من مجسّات مفترضة بالتهديد الوجودي، بدلا من التعايش ما يؤدي الى انكماش في السلوكية الثقافية، تجاه ثوابت ورثها كلاهما من الإباء، لكنهما يمارسان إسقاطا متنافرا عليها.
 
أحد أسباب المخاوف التبادلية، هي التربية الجمعية التي تستند الى الأحادية، الواقفة على قاعدة متينة من الإقصائية
للآخر، وركنه وتهميشه، والعمل على جعله لاقطا ماصا لثقافة المكون العضلي، ثم تفتيته تدريجيا، لكن ذلك اثبت بالتجربة عدم جدواه، لان الثقافات المستضعفة في صراعات الوجود، تصمد بقوة للحفاظ على الوجود، وفي حالات عدم أرجحيتها على ذلك، تضطر الى الهجرة.

المحيط العراقي الذي احتضن تنوع الثقافات، أصيب أيضا بداء التطرف والنرجسية الذي ضرب مجتمعات كثيرة في العالم، فثمة تيارات محافظة تخشى الثقافة الغربية، بشكل مطلق، معتبرة ان كل المشاكل المتولدة ناجمة من التغيير والتحرر، فتعمل بلا هوادة على تعطيله، دون إدراك ان الثقافات المستوردة لها محاسنها الكثيرة.
والعكس صحيح أيضا، اذ تتربّص قوى الانفتاح بالقوى المتجذرة، الاجتماعية والدينية، وتعتبرها عدوا لها، ويعتقد أولئك الذين يُصنّفون بانهم تقدميون، أن المشاكل حتمية لا يحلّها سوى التغيير الثوري، متجاهلة حقيقة ان الكثير من الثوابت الأخلاقية والسلوكية، هي مصنع جيّد لعادات وتقاليد إيجابية.
 
هذا الافراط في الموقف، جعل من المنكمش على ثقافته، متحفزا ضد المتمدّد عليه، خوفا على هويته.

في جانب متصل بهذا الصراع، ظهرت العولمة، التي تعتبرها القوى المحلية المحافظة لدى الكثير من الشعوب، مؤامرة،
تستهدف العقل الثقافي النوعي لكل شعب، وتحويله الى اسفنجة تمتص مبادئ الثقافة الغربية المسيطرة، وقد أدى تصنيف العولمة كمؤامرة لدى الكثير من العقليات المحافظة، الى التقوقع أكثر على النفس، وتكوين صدفة متمرسة تصدّ الهجمات الثقافية، الأمر الذي خلّف فجوة واسعة في التفاهم والحوار بين الحضارات.

الشكّ الحضاري والثقافي والعقائدي بالآخر، اثّر على الوعاء الفكري للمواطن، الذي شهد انكماشاً في الأعوام القريبة الماضية، وبدأ لا يخوض في الملتقيات والجسور الثقافية الموصِلة بل في العٌقد والمفترقات الثقافية مع الطرف النقيض، وصولا الى قطيعة مطلقة.

أحد الأمثلة على ذلك، يتجلى في الكتب المعروضة الجاذبة للعقلية الجمعية، فهي اما متطرفة عقائديا، او منفتحة بطريقة تصل الى مستوى الانشقاق والتبرأة من الثوابت المحلية في السلوك والتفكير، فيما الكتب التي تحمل في بطونها الأفكار المعتدلة، والتي تعالج الموضوعات الفكرية بمهنية، متداولة بين النخب القليلة فقط.

في مدونة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، وصف روبرت رايش، أستاذ السياسة العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، معاناة الاختلافات الثقافية بين المحافظين والمجددين حتى في الولايات المتحدة، مركزا على حماس البعض في جعل المعتقدات حقائق مسلم بها، وان على الجميع قبولها، معتبرا ان البعض نسي الحوارات الطويلة حول نظرية التطور، ونظرية علم المناخ، والتي انتهت الى خلاصة مفادها ان علينا الاستماع الى بعضنا.

وإذ ينتقد رايش دعاة إخراج العلم من التعليم واستبداله بالدين، او دحر الحريات الدينية واستبدالها بثيوقراطية مسيحية أحادية، او الخلاف على تصويت النساء، فانه يعتبر ان كل معضلة فكرية او اجتماعية قابلة بالحل، اذا قبل المتصارعون، التراجع عن المواقف في لحظات انكشاف الحقائق، والتخلّص من الأفكار المهملة.

في العراق، يجب عدم السماح لتيارات الاعتدال بالانقراض، وان يتطبّع الانسان على كيفية تعزيز الثقة بنفسه وفكره في أوقات الشكوك الكبيرة.

46
تأريخ الكمامة الصحية والتكميم السياسي

عدنان أبوزيد

صورة الكمامة أصبحت من مبدئيات المشهد اليومي في أغلب دول العالم، يتخذ منها الناس، حائط صدّ أمام فايروس كورونا، ومن المرجّح انها ستبقى لفترة طويلة تغطي الأنوف والافواه، متناغمة مع موجة تظاهرات عالمية تنتقد "تكميم" الأصوات المعارضة حتى في أكثر الدول عراقة في الديمقراطية، ولعلها مصادفة، لا ميعاد، حيث كوفيد 19 يتزامن مع احتجاجات عالمية، ليختلط مفهوم "التكميم" بين الصحة والسياسة، وحيث مفردة الكمامة، مقتبسة في الأصل من الفعل كَمَّمَ، الذي يعني في العربية، الستر، والسد، والمنع.

وقبْل الكمامة، التي يُؤرًّخ لظهورها في العام 1897 على يد الجراح الفرنسي بول بيرغر، كان هناك "تكميم" الافواه، لتحصين الأنظمة من عدوى تفشي الرأي المعارض الذي يفضح الملفات ويكشف الأسرار.
ومن دون مزاوجة قسرية، في المفهوم، فان من الواضح ان اللغة المشتركة بين الصحة والسياسة، هي الفايروسات
التي تصيب الجسم، والخطاب الذي يستهدف العقول، وفي كلا الحالين، فانّ الفم هو المطلوب تحت شفرة المقصلة.

الذي اكتشف الكمامة الطبية، لم يكن يجهل تلك القطع القماشية التي يضعها المتظاهرون في انحاء العالم على أفواههم،
احتجاجا على سياسات خنق الأصوات وحرية الرأي، وربما لاحت في مخيّلته مشاهد الأفارقة الذي يرتدون الكمامات وهم يجتاحون الغابات للصيد، وثورات العبيد في القارة السمراء، الذين خيّطوا أفواههم احتجاجا على القمع والعبودية.
 
حصد وباء الإنفلونزا الإسبانية نحو 50 مليون شخص بعموم العالم قبل نحو قرن من الزمن، عاش فيه العالم رعبا حقيقيا، أدى الى فرض حرض التجول، وأغلِقت الأماكن العامة والأسواق، والطرقات، وانتشرت شرطة خاصة تفرض العزل القسري، وألزمت حكومة سان فرانسيسكو، السكان ارتداء الكمامة في أكتوبر 1918، وحين انتهت الأزمة، لم تنحسر هذه القطعة التي تغطي نصف الوجه، اذ ارتداها الآلاف من المتظاهرين من جديد في احتجاجات على السياسة المحلية، في قمع حرية الرأي، وتكميم الأفواه.

في ذلك الوقت، اعتبرها الناس انتهاكا للحريات العامة، وتأُسّست رابطة تحت اسم "ضد الكمامة" رافقتها احتجاجات وعصيان، وعدوها أداة فاعلة ضد الحرية، وكان ذلك نتاج عدم الثقة بين الشعب والسلطات، وما ينجم عنه من شك وريبة من أي اجراء حكومي، حتى لو كان غرضه، صحّيا بحتا.

بسبب الحساسية السياسية للكمامة، أمر مجلس الصحة في ولاية أيوا الأمريكية، بتصنيع أقنعة قياسية، تتيح الكلام الواضح، وتم رسم الهامش العلوي بإحكام فوق جسر الأنف، مباشرة تحت العينين، فيما اكد التعليمات على ان هذه الكمامات غرضها صحيّ بحت، في إشارة الى ضرورة تجنب اللغط والشك، وفيما اذا هناك دوافع سياسية للانتفاع من أزمات الوباء.
 
في 17 سبتمبر 2019 وصف الصحافيان برنارد كين، وجنين خليك، الحكومية الكندية الفيدرالية، بانها "نظام كمامات"، ولم يكن القصد من ذلك، سوى التبرم من قيود الحريات.
 
ينتهي المطاف بالكمامة الى تحوّلها الى شاكلة اجتماعية ترفية، اذ ظهر الكثير من المترفين والاثرياء والمطربين في
أقنعة باهظة الثمن، وتحولت لدى بعض الساسة الى رسائل عبر رسوم وتصاميم في رموز من الألوان والاعلام.
 
ظهر يساريون في فنزيلا بكمامات حمراء، وارتدى مناصرو حزب الخضر، كمامات خضراء، وارتدت ماكرينا أولونا نائبة رئيس حزب فوكس الاسباني اليميني المتطرف، الكمامة الخضراء العسكرية.

الرئيس إيمانويل ماكرون، صبغ كمامته باللون الازرق، مفتخرا بانها فرنسية الصنع في حديثه لتلاميذ المدارس، وفعل وزير الخارجية الإيطالى لويجى دى مايو، الأمر ذاته، لكنه تعرّض للانتقاد للريبة في الأغراض السياسية لسلوكه.

في العراق، سبقت الكمامة، كورونا، وُتظهر الصور، متظاهرين، ارتدوها قبل هلع الفايروس العظيم، وحين استفحلت العدوى، تحدى المتظاهرون، السلطات بنزعها والتوجه من جديد الى معاقل الاحتجاج، بل ان البعض شكّك في أغراض سياسية وراء الإعلان عن توسع انتشار المرض.

47
الشعوب الحيّة لا تستسلم

عدنان أبوزيد
لا يأس مع الازمة الاقتصادية، إذا ما استيقن العراقيون انّ شعوبا خرجت من أقسى الشدائد الطاحنة الى إنجازات جديدة عّززت فيها حضورها وقوّتها، بعدما كانت على شفير خطر وجودي، فيما الأزمة المالية، سوف تضطر النخب الاقتصادية الى ابتكار الحلول، وتعزيز جدية المؤسسات الحكومية والوزارات في ترشيد الانفاق، وتزيد من بصيرة المواطن في استيعاب المشكلة باعتبارها وطنية، تحتاج الى تكافل الجميع.

النظرة الى تاريخ الازمات، يُفصح عن قدرة الشعوب على تكييف نفسها مع ظروف الضائقة، واختراع الحلول اللازمة، بدلا من الرضوخ للخيبة، وإتاحة فرص الانهيار.

هناك أزمة تتضخم في الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، تضطر أصحاب الحلول الى ابتكار المفتاح لمعالجة الشدائد التي يجب تُدار بشكل جيد، وهو ما يطلق عليه فن إدارة الازمات الذي يتصدى للتهديدات المحتملة وإيجاد أفضل الطرق لتجنبها.
 
غالبًا ما تكون الأزمة حدثا مفاجئا، أو نتيجة غير مرتقبة لأحداث نمطية، وفي كلتا الحالتين، تستلزم قرارات سريعة وحازمة، تستند الى أنظمة رصد معززة بإشارات الإنذار المبكر، يُعتمد عليها في تعزيز الحقائق، لا الشائعات التي تزيد من فتيل الهيجان الإعلامي الناجم عن تقارير غير دقيقة.
 
أمريكا في العام 1871، مرّت بأزمة اقتصادية خانقة، تشرّد خلالها الملايين من سكانها بسبب البطالة والجوع، واضطر الآلاف إلى الهجرة للخارج.

سنوات الكساد العظيم العام 1929، وهو إحدى أكبر وأخطر الأزمات الاقتصادية التي شهدها العالم في العصر الحديث، واستمر لأكثر من 10 سنوات، تسبّب في آثار مدمرة على الدول الغنية والفقيرة على السواء، وأصبحت مرجعاً بالغ الأهمية لخبراء الاقتصاد.

هولندا وبلجيكا والنرويج العام 1973، اضطرتا إلى استخدام "الدواب" كوسيلة للتنقل بعد الحظر النفطي العربي لها، لمساندتها إسرائيل.

أزمة الكساد الكبير على ألمانيا العام 1933 تسبّبت في صعود النازيين الى سدة الحكم.

في 1997، اندلعت أزمة الأسواق المالية الآسيوية وامتدت الى كوريا الجنوبية واليابان إندونيسيا وتايلندو وماليزيا والفلبين ولاوس وهونغ كونغ، والصين وتايوان وسنغافورة وبروناي وفيتنام.

ووقفت روسيا على حافة هاوية اقتصادية عميقة العام 1998، عجزت فيها الحكومة عن سداد الديون الخارجية المتراكمة واتخمت الديون الخارجية وانهارت أسعار النفط والخامات، فيما بلغت الديون المستحقة للعمال الروس ما يقرب من 12.5 مليار دولار.

وأدى ظهور فايروس كورونا الى أزمة اقتصادية خطيرة بلغت مدياتها القصوى في "الإثنين الأسود" إثر انهيار بورصات العالم إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية 2008.
 
وقبل ذلك، مبكرا في التاريخ، عصفت أزمة الائتمان، العام 1772 ببريطانيا، وانتشرت في عموم أوروبا، على الرغم من انّ لندن تمكنت من خلق ثروة هائلة من خلال ممتلكاتها الاستعمارية وتجارتها.

الانهيارات المالية المتلاحقة عبر التاريخ، ولّدت تفكيرا وإصلاحا جديدين، وبدا واضحا ان التقوّض المصرفي العام 2008 في الولايات المتحدة، كان له علاقة وطيدة بالصراعات السياسية، وتدخّل واشنطن في الكثير من النزاعات في العالم، بحسب الانتقادات التي وُجّهت الى السياسة الامريكية.
 
 
 

العراق، الذي لم يدخل مرحلة أزمة اقتصادية خانقة، أمامه الفرصة السانحة للاستفادة من تجارب الازمات العالمية السابقة، عبر تدخل الدولة في نشاط السوق، وإيجاد توازن بين العرض والطلب في السوق، وتحقيق العدالة الاجتماعية في سلم رواتب جديد، يضمن الأمن الاقتصادي لكل فرد في المجتمع، وترشيد الانفاق الحكومي، وتنوير الفرد في الاستهلاك المفيد، وإنماء الصناعة المحلية، وتقليل الاستيراد.

أحد ممرات عبور الازمات الاقتصادية، هو الاقتداء بالتجربة الاوربية والأمريكية في تخفيف وطأة الازمة على الطبقات الفقيرة، في رعاية العاطلين، والشروع في الإصلاح الصناعي والزراعي، واخضاع القطاعات الإنتاجية المهمة الى تخطيط استراتيجي للتوسيع والتطوير، والتحول من دولة ريعية الى إنتاجية، يكون فيها الفرد المنتج، هو الرأسمال لا برميل النفط.
 
 

48
لماذا يتحمّس المغتربون العراقيون للعودة الى بلدهم؟
عدنان ابو زيد
جاليات عراقية تتشبّث بهويتها في المهجر، لكنها ترفض العودة الى البلد الأم.  يبدو في الموضوع مفارقة، لأنّ الذي يغادر بلده الأصلي، يفكّر على الدوام في العودة اليه، لكن تعاقب الأجيال، والعيش في ظروف حياتية إيجابية، يجعل مشروع الرجوع، فكرة مؤجّلة على الدوام، إن لم تكن ملغيّة، تماما.
نحن لا نتحدث عن عقول عراقية مهاجرة شهيرة، فذلك أصبح حديثا عتيقا، لكن المستجدّ يدور حول جيل عراقي ترعرع في المهجر، وأصبح في طليعة النخب.
يستطيع هذا الجيل، الذي في أغلبه لم يواكب أحوال الحياة في العراق، لكنه يدركها، انْ ينقل تجارب ناجحة، في الهندسة والطب والخدمات، والعلوم المختلفة، وأنْ يوظّف المعارف في الجامعات الأوروبية والأمريكية، ومراكز الأبحاث.
لا يحدث ذلك الا بتعزيز عوامل الجذب الى الداخل، والاستفادة من مشاريع الدول المتقدمة التي وظّفت الإمكانيات الهائلة والظروف الملائمة، لإغراء الكوادر "الجاهزة" بالهجرة اليها، وسرقة العقول التي أنفق عليها البلد الأصلي، الأموال الطائلة، والزمن.
تعالوا نحصي الآلاف من الأطباء العراقيين والمهندسين، ورجال الأعمال والرسامين، والتجار، الذين تفخر بهم دول أوربا والولايات المتحدة.
التقيت مهندسا عراقيا، من الجيل الثاني في هولندا، حائز على الدكتوراه في الهندسة المدنية، وهو على وشك السفر الى العراق، للمرة الثانية، مع الشركة الهولندية المتعاقدة في العراق.
مهندس آخر، دكتوراه في الهندسة الكيماوية، سوف يقصد العراق، بعد سفرة مسبقة له الى هناك، للعمل ضمن مشروع نفطي في الجنوب مع شركة إنكليزية.
لكن كلاهما، لا يود البقاء الدائم في الوطن الأم، بسبب الصورة السلبية المتخيّلة في الذهن.
وفي حين ان الدول التي انفقت على تعليم وتأهيل هؤلاء، ضمنت ان هؤلاء لن يعودوا الى بلدانهم، فإنها في ذات الوقت، كسبت العقول المهاجرة، من دون ان تنفق على تنشئتها، فِلسا واحدا.
شاب عراقي آخر يعمل في أكبر شركة مالية تبحث عن مصادر الأموال المستثمرة والعابرة للحدود، يتحدث عن ان العراق في جوهر ملف البحث عن أصول الأموال، والمتابعة، مرجحا صعوبة الاستقرار المالي والاقتصادي بسبب تجاذبات السياسة والصراع الإقليمي الذي يؤثر على تدفق الأموال بحسب خلاصة الأوليات التي استنبطها خلال عمله. 
وإذا كان الرسام يفشل في بلده، وينزوي تارة الى مهن أخرى فان رسامين عراقيين، تحتفي بهم مؤسسات الفن العالمية، وتمكنوا من تحويل الفن الى جهد ربحي، يدرّ عليهم بالأموال الوفيرة.
نزولا الى الجيل الأول، فانّ رجل مال عراقي مثل نعيم دنكور في لندن، منحته الملكة إليزابيث لقب السير، إكراماً لانجازاته، فيما ثالث المليارديرات العرب في بريطانيا، رجل الأعمال العراقي المعروف نظمي أوجي الذي يمتلك ويدير(GMH) القابضة، وتبلغ ثروته 2.2 مليار دولار، فانّ هؤلاء لن يقرروا العودة الى العراق، بكل تأكيد.
الأمر يتعدى خسارة العقول الى الأموال، اذ لا تتوفر إحصائية عن حجم الأموال التي بحوزة النخب العراقية المقيمة في الغرب، لكنها تتجاوز ومن دون شك مئات الملايين من الدولارات في البنوك الأجنبية، والتي يصعب جذبها للاستثمار في الداخل، فيما الأفظع من ذلك، انه حتى رأس المال في الداخل يستقر في خارج البلاد، ويُستثمر في مشاريع هناك.
من أمثلة الدوافع لهذه المعادلة غير المتوازنة، بين وطن طارد، ومهْجر جاذب، انّ المهاجر لم يعد ذلك الأمّي والفقير، والعامل في الاشغال الشاقة في المصانع والمزارع، بل أتاح له التسامح والاقتصاد القوي، والوعي بأهمية التنوع، فرص هائلة للتأهيل والتدريب، فيما رسمت النجاحات صورة إيجابية للمهاجر المتفوِّق علميا، والمبدع حياتيا، والمخلص عمليا، والمؤهَّـل للإدارة والقيادة.
فضلا عن كل ذلك، فان المهاجرين يقعون ضمن متوسط سن صغير، اذ تزداد نسبة الشباب بينهم وتصل إلى أكثر من 70% في بعض البلدان، فضلا عن ان اغلبية المهاجرين من الشباب، ما يجدّد الحياة في بلد الهجرة، ويترك الوطن الأم، طاعنا في السن.

49

الشباب يقود العالم

عدنان أبوزيد

نحن نعيش بين "أكبر" جيل من الشباب في التاريخ. فبحسب دراسة عالمية، فان الشباب الذين هم أفضل تعليما وأكثر اطلاعا ونشاطا، تزداد أعدادهم على نطاق أوسع من أي وقت مضى.
يشكّل الشباب دون سن الـ 25 سنة حوالي 42٪ من سكان العالم، فيما 25٪ هم تحت سن الـ 15، و يبلغ متوسط العمر،
19 عامًا فقط في جنوب شرق آسيا وأفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، وبلدان الشرق الأوسط مقارنة بـ 38 عامًا في أمريكا، فيما الشيخوخة وبمتوسط 45 عامًا، تسيطر على ألمانيا وإيطاليا وأجزاء أخرى من أوروبا.

لا يُستثنى العراق من التفاؤل الساحق في هذا الجيش العملاق من الشباب الذين يبرهنون على انهم الأكثر انغماسا سياسياً واجتماعياً، وبيئيًا من الأجيال السابقة، وأقل تكييفًا مع الأيديولوجيات، وعلى الرغم من الفكرة الشائعة بأن أي شخص تحت سن 35 هو مهووس او مراهق او غير مكترث، فان العكس هو المتحقق على ارض الواقع، حيث المسؤولية العالمية يقودها الشباب، الذين يسعون الى استلام الراية من الزعماء السياسيين التقليديين.

في العراق والكثير من دول العالم، ومنها دول الربيع العربي، وجدت الشعوب أنفسها منساقة إلى حركات احتجاج واسعة يقودها شباب يشعر بالإحباط من الأوضاع العالمية، وغاضب من السياسيين غير الأكفاء، ومن المؤسسات المحلية والدولية غير الخاضعة للمساءلة، وناقم على التخريب البيئي.

المتوقع، تصاعد حركة الاحتجاج العالمية ضد تغيّر المناخ، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحرية، وسباق التسلح، وإنهاء الفقر والظلم الاقتصادي، على أيدي شباب يمتلك القوة الدافعة وراء أهم حركتين اجتماعيتين سياسيتين في السنوات الأخيرة هما الربيع العربي ودعوات التغيير والإصلاح في أوربا .
وفي حين كانت صناديق الاقتراع في أوربا تعوّل على الأجيال الأكبر سنا في التصويت، والنشاطات الحزبية، والسياسية،
فان الشباب بدأوا يمسكون بزمام الموقف، ومن ذلك ان ما يزيد على نصف مليون شاب، انضم الى حزب العمل في بريطانيا، بينهم اكثر من مائة الف تحت سن الـ 25.
 
تقنيات التواصل غير التقليدية تتيح التفاعل، لجيل الألفية، مع سياسات الأحزاب والقرارات الحكومية، فيما نجح هذا الجيل بسرعة قصوى من تشكيل موقف منها عبر لوبي ضغط سواء بالرفض او الايجاب.
 
صعود أجيال شبابية الى قيادة أوربا، والعالم، ظاهرة تفخر بها الشعوب، ففي العام ٢٠١٧ برز النمساوي سيباستيان كورز، 31 عامًا، سياسيا لامعا، قاد برامج التغيير. وتصدّرت النيوزيلندية جاسيندا أرديرن 37 سنة، الانتخابات الوطنية في بلادها .

ووُلد من رحم الرغبة في التغيير والتجديد، قادة في الثلاثينيات من العمر، صنعوا الأحداث السياسية في فرنسا وإيرلندا.

وأدت الظاهرة الشبابية في القيادة الى انحسار شعبية تيريزا ماي (59 عامًا) رئيسة وزراء المملكة المتحدة البالغة من العمر 59 عامًا، ومن المتوقع للشعب الأمريكي ان يختار رئيسا شابا بعد الرئيس الأمريكي باراك أوباما البالغ من العمر 55 عامًا، وقت كان رئيسا، و دونالد ترامب، 72 عامًا.

وصعد الى الرئاسة في فرنسا، إيمانويل ماكرون، 39 سنة بعد  فوزه على مارين لوبان.
وفي سان مارينو، فاجأ ماتيو فيوريني، 39 عامًا، السياسيين الكهلة، بشعبيته الساحقة.
وأصبح راتاس 39 سنة، زعيما لإستونيا، متفوّقا على شيوخ السياسة المخضرمين.
وتولى فارادكار، 38 سنة، الزعامة في إيرلندا، العام 2017 عندما استقال سلفه.
وخيسار، 37 سنة، هو رابع "ملوك التنين" والحاكم المطلق لبوتان، وهي دولة في جبال الهيمالايا المحاذية للهند والصين. 
وأصبح أرديرن 37 سنة، زعيم حزب العمال النيوزيلندي، رئيسًا للوزراء بعد انتخابات هزم فيها الكهول ثم ارتقى بسرعة استثنائية الى أعلى منصب في البلاد، بعد أقل من عام من دخول البرلمان.
على هذا النحو، تتجدّد القيادة والسياسة في العالم.

50

عدنان أبوزيد

الدعاية تاريخيا، ذراع للشركات الرأسمالية، قبل أن تستثمر السياسة فيها، لتصبح آلتها الضاربة، الأمر الذي ربطها بالخداع والتسويق النفعي، وتحوّلت مهمتها التوعوية والارشادية الحقيقية الى الإشهارية أولا قبل المصداقية.

ومهما كان التقييم لها، فإنها انقلبت الى سلعة اقتصادية وسياسية، لا غنى للحياة عنها.
في عراق قبل 2003، خفتت الدعاية الحرة، وانحسرت الى تفخيم النظام السياسي، ونشْر أيديولوجياته وشعاراته، 

وتجبّرت المنشورات الاعلانية والحزبية على سواها، وهو شأن بديهي في أزمان الحروب، مثلما هو نمط دأبت عليه جميع الأنظمة الشمولية.

في عراق ما بعد 2003، استفاضت الدعاية وشملت كل النشاطات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأسهم في رخاؤها، تطوّر تكنيكيات النشر والاعلان.

لكن الظاهرة المميزة، في العراق، هو تحوّل منصات التواصل الاجتماعي، والكثير من وسائل الاعلام والفضائيات، الى 

واجهات دعائية سياسية، فيما غزت الإعلانات التجارية، بغداد بطريقة فوضوية، وضاقت النوافذ الاعلانية المتخصصة، التي تمنع استغلال المحيط العام والخطاب الاعلامي الحكومي، في الدعاية.

لا يُعرف بالضبط حجم وارادات الإعلانات الى ميزانية الدولة، فيما المؤكد ان البلديات في مدن أوربا تجني ملايين الدولارات منها، موفرةً المال وفرص العمل للعاطلين، ولتطوير مشاريع البنى التحتية. ولا يقل ثمن الإعلان في شارع في مدينة هولندية او ألمانية، في مراكز المدن، عن الثلاثين ألف دولار في السنة، على أقل تقدير. 

الدعاية السياسية، البيضاء، والرمادية، وفّرت عبر التاريخ، وجبة معلوماتية دسمة مخلوطة بالأكاذيب والحقائق، اقتادت الشعوب، وحسمت محصلات الحروب الاقتصادية والعسكرية، بعد ان نجحت في تطويع آراء الناس وسلوكهم نحو الاتجاه المطلوب، على رغم من انها استُثمرت حتى في التزييف والاكاذيب ولوي أعناق الحقائق، للوصول الى الهدف. 

في العراق، تحرّكت الدعاية السياسية الداخلية والخارجية بعد 2003 وما قبله، على وتر الانفعالات والعواطف، وكان لها دور كبير في الأزمات السيكولوجية والعاطفية، التي أثّرت على مدارات الأحداث.

لا يبدو العراق قصيّا عن شعوب العالم في مفعول الدعاية على مستقبل البلاد، ففي العام 1792 أنشأت الحكومة الفرنسية وزارة متخصصة بالدعاية، فيما الثورة الفرنسية لم تبتعد عن توظيف الدعاية للترويج لشعاراتها. 

لكن الدعاية السياسية في أوربا اليوم، ناسبت نفسها مع رخاء الديمقراطية الحقيقية، بعد ان كانت ومنذ الحرب العالمية الأولى تركّز على تفخيم الملوك والزعامات والشخصيات المهمة، وهو الامر الذي لا يزال يطبع البلدان العربية وشعوب العالم الثالث.

الإمبراطورية الألمانية بقيادة بسمارك و فيلهلم الثاني، اعتبرت الإعلان جزءاً جوهريا من البروباغندا السياسية، 

وعوّلت إنجلترا وألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، على الحرب الدعائية بقدر التركيز على الحروب العسكرية.

وألهمت الفاشية والشيوعية والاشتراكية الوطنية، الأنظمة الشمولية في العالم، طرائق تمجيد الحزب والقائد، وانفقت أموالا طائلة لغسل أدمغة الأفراد. 

ومع تطور وسائل التواصل، استثمر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما العام 2012، في الدعاية في حملات مركّزة، لغايات سياسية عبر التواصل الاجتماعي، ما دفع إدارة فيسبوك، الى وضع قوانين صارمة تهمّش الاستهداف السياسي. 

وفي هولندا، اثار توجيه رسائل دعاية سياسية عبر فيسبوك الى الأعضاء المشتركين، خلال الانتخابات، ضجة واسعة لتأثيره الواسع على نتائج صناديق الاقتراع.

آنفا، حظَر قانون البث البريطاني العام 1990، أي شكل من أشكال الدعاية السياسية على الراديو، وانطبق ذلك حتى على منظمة "محترمة"، مثل العفو الدولية التي مُنعت من إطلاق حملة إعلانية حول الانتهاكات في رواندا. 

القوانين الصارمة الخاصة بالإعلان، تجاوزت الأحزاب والنوافذ السياسية، الى الشركات المصنّعة للمنظفات، والسكائر، والمشروبات الروحية، حفاظا على البيئة والصحة العامة.

الديمقراطية العراقية الناشئة تحتاج الى ضبْط الدعاية على اختلاف شواكلها، منعا للفوضى السمعية والبصرية، قبل السياسية، وللحيلولة دون توجيه الرأي العام لجهة على حساب أخرى، وتحويلها الى مشروع ربحي يدر بالأموال الطائلة على الميزانية.


51
المنبر الحر / تاريخ الكراهية
« في: 09:32 07/08/2020  »
تاريخ الكراهية
عدنان أبوزيد

العلاقة بين الغرب والعرب، بشكل خاص، كانت على الدوام، قائمة على الإرادات، لصالح الغرب لا سيما في مجال النفط، الذي دفع الى حقبة استعمارية كرّست علاقة الحساسية المفرطة بين الطرفين، لكن أزمة كورنا مدعاة الى علاقات أكثر عدالة بين الشعوب بعيدا عن تعبئة الماضي وعقده المستحكمة بين الشعوب بشكل عام، لكن هيهات في خضم الكراهية التاريخية التي تقود العالم.

التأزّم في التطبيق يكمن في إرث وازن من ماضي الأواصر بين الشعوب، ومن ذلك ما يذكره الفيلسوف الهولندي هان فان دير هورست، بانّ من المنطقي أنْ تحتقر الشعوب الغرب، فلولا أسباب الصراع التي ولّدتها الدول الاستعمارية في المنطقة، لكان العرب، على سبيل المثال، على سعة في البناء باستخدام مليارات ومليارات الدولارات المهدورة في حروب ورثوا أسبابها، لكنهم لن يفعلوا، ليس لأنهم لا يؤمنون بذلك، بل لان الخرائط المرسومة، وبواعث الصراع تحوُل دون التنفيذ.

وكل أمة في العالم، لها أسبابها في التناحر والبغضاء.

لايزال الاتراك ينظرون الى العرب على انهم خونة، لأنهم وقفوا بجانب الحلفاء الذين وعدوهم بالاستقلال، خلال الحرب العالمية الأولى، ليتمردوا على حكامهم العثمانيين (الأتراك) الذين انحازوا إلى ألمانيا. ولاحقا أدرك العرب ان الدول الغربية خانتهم أيضا.
يروي هورست أيضا عن ان الغرب الذي يثلب الدكتاتوريات العربية لنهجها الصارم ضد المعارضين العزل، فانه نفسه لاسيما الحكام البريطانيون استخدموا في عشرينيات القرن الماضي، غاز الخردل القذر للغاية ضد الثوار العراقيين بموافقة صريحة من ونستون تشرشل.
وفي جانب أسباب التباغض، فان الحكومات الغربية والشركات المتعددة الجنسيات آزرت الأنظمة العربية من اجل النفط، لا من اجل حقوق الانسان. وفي السبعينيات من القرن الماضي، دفع الغرب أسعارًا منخفضة للغاية للذهب الأسود محذرا قادة الشرق الأوسط من الاحتجاج.

وفي أوائل الخمسينيات، أندمج البريطانيون والأمريكيون في مشروع إِقْصاء رئيس الوزراء الإيراني الراحل، مصدق لأنه أراد تأميم المصالح النفطية، ويسّروا للشاه، تأسيس ديكتاتورية وحشية.
ازدادت علاقات الفتن بين الشعوب، بالتدخل العسكري لأمريكا وحلفاءها في أفغانستان.

وإذا كانت العرب تمتهن الغرب ولا تثق به، لأسباب تاريخية تبرّر ذلك، فان بواعث الكراهية تسوّغ الصراعات بين الكثير من الشعوب.
لايزال الصينيون، يضعون صورة الياباني كرمز للعداء والكراهية، في شعور انتقامي تَولّد جراء غزو القوات العسكرية اليابانية، شرق آسيا، واصبحت فوبيا اليابان، ثقافة اجتماعية في الصين والكوريتين. ولا يزال اليابانيون يلقبون الصين بـ رجل آسيا المريض، على الرغم من انها لم تعد كذلك.
 
وشنّ الجيش الأمريكي، العام 1942 الحرب على اليابانيين الذين قتلوا بصورة وحشية، وصوّرتهم الأفلام الامريكية الكلاسيكية، بأسنان كبيرة وعيون مشدودة، في قصد التحقير.

الانكليز ينافرون الفرنسيين، ويصف شكسبير في مسرحيته الملك الفرنسي هنري الخامس بـ "الفاسق".
الفرنسيون يصفون الانكليز بالغطرسة والسُكْر، فيما يصف الانكليز الفرنسيين بالمهذارين والغريرين وتفوح منهم رائحة الثوم.
وبواعث الكراهية بينهما تاريخية، تعود الى حروب المائة عام، والثلاثين سنة بين كرّ وفرّ، فاز فيها الانكليز في 23 حربا وخسروا في 11 منها.
 
وعقب خسارتها للحرب العالمية الأولى، خضعت ألمانيا لشروط الحلفاء المنتصرين، وانتهت الى كراهة مبطّنة، تظهر عبر الدعابات الساخرة التي يتبادلها الشعبان.
على ذات المنوال، لازال الروس يتطارحون الحكايات التي تحقّر اليابانيين، إثر الحرب ما بين عامي 1904و 1905.
 
يزيد من هذا السجال العنيف، في الاعلام وفي ساحات الحروب، أولئك الخطباء المفوهون، الذين يتحصنون على الدوام خلف الأيديولوجيات، لتعليل أسباب الكراهية بين الشعوب، استجابة للسياسات الرسمية، وهو أمر فَتَح السبل لغزو الأوطان، والحروب المحلية والعالمية.
في حقبة كورونا، لم يصرف هؤلاء من الكلام، ولم تنفق الدول من المال، لمكافحة الوباء، قدر بذلها على التسليح والحروب والكراهية.


 

52
 
تكيّف مع الحياة على مسافات متباعدة

عدنان أبوزيد

الحياة قبل كورونا ليست كالتي بعدها، هذا ما تجتمع عليه النخب السياسية والأكاديمية والفكرية الغربية، وقالها بجلاء السياسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر، بان كورونا يقلب النظام العالمي.
 
المشترك بين الشعوب، انها لم تمتثل لفايروس الاكليل، لكنها عكست صورة تشاؤمية عن الحاضر، وحتى المستقبل،
بعدما تيقّن للجميع، ان المباغتة يمكن ان تحدث في اية لحظة، ليس من شبّاك السياسة والحروب، بل من الطبيعة والخلقة.

انحسر دور الاحداث السياسية، الى حد كبير، وانسحب أصحاب القرار الى الغرف، وأصبحت الريادة بيد أصحاب الاختصاص من الأطباء والممرضات والمعلمين وسائقي الشاحنات وجامعي القمامة والعاملين في المتاجر وعمال الأرصفة.

في العراق، بشكل خاص، بدت المفارقة واضحة، فعلى الرغم من الظروف الاجتماعية والسياسية الخاصة التي تتحكم في البلاد، اظهر الناس، الإيجابية، وجنوح الى التعاضد، في وقت كان الناس يموتون في مدريد كل 15 دقيقة.
 
يعيش العالم، فيلم ارتياع حقيقي، لكنه يتعلمّ من المحنة الكونية الشاملة، الكثير. وفي مجال البيئة كانت هناك إيجابيات،
إذ انحدر التلوث الى أدنى مستوياته، بسبب خمود حركة السيارات والقطارات، وصارت السماء أنقى من دون طائرات.

أكثر من ذلك، فان الحياة لن تعود الى انسيابيّتها كما في السابق، من دون التركيز على الصحة والرعاية، وهو أمر
بدأت الدول تفكّر فيه، أكثر من أي وقت آخر.
 
التصورات تفيد ان المستقبل على رغم التطيّر، سيكون أكثر إيجابية، بمدارس أفضل، وبعدد أقل من التلاميذ، وهو أمر يجب ان يُأخذ في الافتراض في العراق تحديدا، الذي يجب عليه تدعيم نظام تعليمي عبر الإنترنت.

الغبار الناعم سيكون أقل، والأنهار أكثر نقاءً، وهو ما أدركته الصين التي يموت فيها نحو المائة ألف انسان سنويا بسبب تلوث الهواء، فيما العلاقات الجنسية ستكون أكثر محافظة وتنظيما.

الدول تشيّد المستشفيات في مدد زمنية قصيرة لا تتجاوز الشهر او الشهرين، وكل مدينة ضاعفت من اعدادها المشافي ومراكز العلاج.

شركات الطيران تلقي نظرة فاحصة على سياسات النظافة، وتحرص على فلترة الهواء وتعقيم المقاعد، بل ان ستيفن فان دير هيجدن، الرئيس التنفيذي لشركة Corendon يقول أن النظافة ستصبح الاستراتيجية التنافسية الجديدة لشركات الطيران، بل سيكون مهما جدا تصميم المقصورات بمقاعد أكثر تباعدًا حتى يمكن الطيران، بأمان.

المتاجر، والجامعات والمدارس شرعت في إجراءات التعقيم اثناء الدخول والخروج، والتواصل عن مسافات امينة.

قطاع النظافة والصحة، هو الذي يوجّه العالم ويقوده، محقّقا أرباحا هائلة لمنتجات التعقيم وملحقاتها.

في أوربا، حيث دور السينما مغلقة، أصبحت المشاهدة افتراضية، وانحسرت الحفلات الغنائية الضخمة، وأصبح بإمكانك المشاركة فيها عبر شراء بطاقة افتراضية على النت. وفي 19 مارس الماضي، أعلِن عن الحفل الفني الرقمي الأول في بث مباشر من العاصمة الهولندية، أمستردام. على هذا النحو أصبح من المتعذّر، الذهاب الى الحفلات والمباريات والمنتديات الحية.

تزداد أهمية الحاسوب والتلفون، وبطاقة الدفع الالكتروني، وكل وسيلة تجعلك في اتصال مع الآخرين، لكن بعيدا عنهم.

تتقصى الأبحاث، دور الوباء في كشف الحقائق الكامنة للمجتمعات، منها ان الانسان يقسو على الطبيعة كثيرا، ويعامل الحيوانات بطريقة بشعة، ولم يكترث لتغيّر المناخ والعولمة الاحتباس الحراري، وأبخس كثيرا فوائد نظام الفردية، فيما صار واضحا ان النظام الذي يسيّر العالم اقتصاديا وسياسيا لم يكن مفيدا بالشكل المتخيّل، وفي حقيقته فانه نظام مجرد من الرعاية لاسيما في بلدان العالم الثالث، حيث المصالح الحزبية والخاصة تتفوق على المصلحة المشتركة، في ظل حياة تسودها عدم المساواة والاستقطاب وتقويض المؤسسات.

لن تنتهي الشدائد التي تصطدم العالم، من الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر، العام 2001، والأزمة المالية العام 2007، والكارثة النووية في فوكوشيما، العام 2011، وأزمة الطاقة والمناخ، الأمر الذي يفرض على العالم، نظاما جديدا، يتيح فرص التعاون ونشر السلام وتطوير المجتمعات، بدلا من إنفاق الأموال الطائلة على الأسلحة والحروب.

53
دبلوماسية الفايروسات ترتّب العالم من جديد

عدنان أبوزيد

ليس وباء كورونا، السباّق الى إعادة صياغة العالم، والعلاقات بين الدول، وفتْح منافذ دبلوماسية بين الشعوب، فقبْله الكثير من الأزمات والمصائب، والظروف الخاصة التي اتاحت فرص فتْح ملفات سياسية واقتصادية حساسة، حتى باتت الفرصة للدبلوماسية في أوقات الشدائد يُعوّل عليها لفكّ عقد مستحكمة، ومعضلات تاريخية.
 
سخّن تسونامي، العلاقات الباردة بين الدول في منطقة المحيط الهادئ، وأبرقت موسكو الى طوكيو، بإصدار الأوامر
لفرق متخصصة في البحث والإنقاذ، حتى في جزر الكوريل المتنازع عليها بين البلدين.
 
ضَرَب الزلزال تركيا، في تسعينيات القرن الماضي، فانبرت اليونان، تسابق الزمن لمساعدتها على رغم الخصومة التاريخية، وقد فَتَح ذلك باب الحوار المغلق لسنوات طوال.

ودفعت الازمة الاقتصادية التي ضربت الصين ابان حكم ماوتسي تونغ، الولايات المتحدة الى عرض المساعدات، الأمر الذي فتح نافذة استشراف مستقبل العلاقة بين البلدين في خضم حرب باردة، جعلت من بكين، ثاني أخطر عدو لواشنطن بعد موسكو، كما استثمرت الدبلوماسية الامريكية في مشروع تقويم الاقتصاد الصيني، لتعزيز التعاون، الذي أثمر في النهاية عن اتفاقية لخفض الأسلحة النووية.

واستدرجت "دبلوماسية التعازي" بموت زعماء، الحميمية بين الدول، حيث الزعماء يتحدّثون تحت سقف واحد يخيّم عليه الحزن، ويذكّرهم بالفناء، ما يخفّف كثيرا من جدل الخلافات.

أزمات الفقر في كشمير، اتاحت تخفيف الشدّ المتصاعد بين الهند وباكستان، بعد حملات مشتركة بين البلدين لمساعدة الناس.
 
كورونا، يفعل اليوم ما عجزت عنه المفاوضات الماراثونية، في ابتكار نوافذ جديدة في التجارة العالمية لم تكن معهودة من قبل، سيما بين الدول التي تتصدى للحصار مثل كوريا الشمالية وإيران.
 
صحيفة "نيويورك تايمز" تعتبر في معالجة تحليلية، ان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فشل في استغلال ازمة كورونا، لإذابة جليد العلاقة مع ايران، وكان يمكن له استثمارها بطريقة افضل ممّا فعل، عبر الاستعداد الجدي لفك الحصار عنها.

أزمات النفط، لها دورها في ترتيب العلاقات بين الدول، فما انْ تتصاعد، حتى تسارع الدول الى الحوار والتفاهمات، من اجل دراسة أسواق النفط، وقد أثّر ذلك كثيرا، على سبيل المثال، في تحسين العلاقات الباردة بين موسكو والرياض.

وتسبّبت أزمة الفقر في افريقيا، في أزمة دبلوماسية بين ايطاليا وفرنسا، بعد انْ اتّهمت روما، باريس، بتعمّد إشاعة الفقر في افريقيا، الأمر الذي تسبّب في الآلاف من المهاجرين بأعداد كبيرة إلى أوروبا.

عودة الى الفيروسات التاجية الصينية، بحسب وصف الرئيس الأمريكي ترامب، وهو وصْف اثار غضب بكين، واعتُبر إهانة أمريكية لها، فانّ لا مفرّ أمام حقيقة، ان الوباء يعزّز تبادل الخبرات والمعدات مع الدول حتى المتصارعة على النفوذ الاقتصادي والسياسي.
 
تدرك الصين كيف أثّر الوباء على صِيتها كدولة واقتصاد، ويقول الفريد وو، الأستاذ المساعد في مدرسة Lee Kuan Yew ان الصين تعيد صياغة نسختها التي تضرّرت من تفشي المرض بعناية، وكان الأمر على وشك انْ يتحول الى أزمة دولية بسبب الدعاية الإعلامية التي اتّهمتها بعدم التعامل المبكر مع الفيروس، وهو اتهام لا يخلو من الغرض السياسي.
تميّز الصين ذلك، لتردّ على الولايات المتحدة بانها تتقصّد نشر الفزع بشأن الفيروس، لتحريف صورة الصين، التي سارعت الى معالجات حاسمة لانتشار الوباء، وانتقلت الى خارج البلاد لمساعدة الدول الأخرى، الأمر الذي أعاد الثقة بالقيادات الصينية.

 
وفي خطوة لا تخلو من الغمز من قناة أمريكا، أرسلت الصين فريقا طبيا إلى إيران مع مئات الالاف من الأقنعة وأجهزة الوقاية، كُتب عليها بيت شعر للشاعر الفارسي سعدي شيرازي: "أطفال آدم هم أطراف جسد واحد، يشتركون في أصل واحد في الخلق".
بل وتحولت الصين من الدفاع الى الهجوم باستثمار الازمة في إبراز الحاجة الى "طريق حرير للرعاية الصحية" الذي يُنظر إليه بعين الشك في واشنطن.

 
 
 


54

القراءة الحديثة  والمعرفة العميقة

عدنان أبوزيد

يبدو أمرا لافتا انحسار قراءة الكتب التقليدية في الدول العربية، بسبب تقنيات النشر الرقمية، ونوافذ التواصل الافتراضي، فيما المجتمعات المحدِثة، تحرز أعلى المبيعات في المنشورات الورقية، على رغم سطوتها على وسائل النشر الالكترونية وانتشارها بين مواطنيها، بشكل واسع.
تجربتي في الإقامة في أوربا لنحو العقدين، لا تؤشّر على همود المكتبات الشخصية للأفراد، فيما البيوت العراقية
تقفر منها في الغالب، عدا الضآلة القليلة، وما يزيد من استفحال ذلك، ان الفرد العراقي يتّخذ من مواقع التواصل الاجتماعي ومجاميع التراسل الفوري، المعروفة بمحتواها الخبري الأفقي والفوقي، مصادرا لمعلوماته، من دون الاستطاعة في تنمية مستويات ثقافته وأنماط معرفياته وتحسين لغته، بصورة عمودية، كما يفعل الكتاب الورقي.

أكثر من ذلك، فان الانترنت لم يعد المصدر لاقتناص المعلومة والمعرفة، فحسب، بل لاستنساخ أطاريح الماجستير والدكتوراه، حتى في المجالات العلمية، في ظل تغييب مؤسف للاستطلاعات الميدانية، والاختبارات الفعلية.

سرّ التعادل بين الكتاب التقليدي والمضمون المعرفي الرقمي، والقراءة الافتراضية، يكمن في البصيرة بأهمية المعرفة العميقة، وتوفير الدعم للمكتبات التقليدية، لكي تبقى المعادلة متوازنة، بين المعلومة المرئية السريعة، والأخرى الراسِخة.
 
تشير تقديرات سنوات مضت، الى ان معدل انتشار الكتاب في العراق والدول العربية ينخفض باستمرار، ذلك ان نصيب كل مليون فرد من الكتب المنشورة في العالم، لا يتجاوز الثلاثين كتابا، مقابل 584 كتابا لكل مليون أوروبي و212 لكل مليون أميركي، حسب تقرير منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة والتربية (اليونسكو).
 
لابد من الإقرار بان التدوينات الرقمية جعلت من الفرد، كاتبا وناشرا وقارئا في نفس الوقت، ومع هذا التعدّد في المهارات، اتّسعت المعرفة المدرِكة بشكل سطحي، لا نحو المسلك السحيق.

لم يعد تسطير الكلمات، يحتاج الى الشجاعة، كما في السابق، ذلك ان دوافع بسيطة للتعبير، مع امتلاك نوافذ نشر في التواصل الاجتماعي والتراسل الفوري، يجعل منك كاتبا مشهورا، وهو ما يحصل الآن، اذ ينال مدونون وناشرون على قدر متواضع من الثقافة، من الشهرة والمال، ما لا يناله كتّاب مشهورون، ما يكشف عن انقلاب جذري في المفاهيم المتعلقة بمصادر الثقافة ومراجعها، وتصويباتها.
 
القراءة الرقمية، وفّرت جانبا أكبرا من الترفيه، بلو واللهو، على حساب المعرفة الجدية، وأصبح خيار اقتناء كتاب رقمي، او معرفيات عبر نوافذ الترابط الرقمية، لا يمثّل بشكل دقيق مفهوم الملكية الكاملة للمعرفة والدراية، والتي ارتبطت في الأسلوب الكلاسيكي المعروف، بالذات، قبل أي شيء آخر.

لازال الكثير من المثقفين العراقيين على الرغم من محاولاتهم تجربة الأساليب الرقمية في المطالعة والنشر، يتشبّثون بالكتاب التقليدي، والجريدة الورقية، التي توفّر الأناة، والعزلة، والتأمل، بل ان البعض منهم يصرّ على النشر فيها على رغم ان ما يقطفه من قرّاء ومتابعين، أقل بكثير من غنائم المتابعات والإعجابات، في المواقع والصحف الرقمية وصفحات التواصل الاجتماعي.

في كتاب "فن القراءة"، يكشف الفيلسوف الاسترالي دامون يونغ، الحائز على جائزة أوسكار، عن علاقة المطالعة بكيفيات التفكير، ويسوغ لماذا تبقي الروايات والأدبيات الورقية الكلاسيكية مصدرا أساسيا للدراية والخلق والمتعة واللذة المتفردة،
التي لا يمكن الاستغناء عنها مطلقا، حتى في حالة تحوّل كل النصوص الى أرقام في المكتبات الافتراضية.

في دول أوربا الغربية، مثالا، لا حصرا، يُلاحظ بشكل بارز، أولئك الشغوفون بالقراءة وهم يحملون أجهزة "الايباد مِنِي"، ولوحيات الكتب الرقمية، في القطارات ومحطات المترو، والباصات، مبحلقين بتركيز على النصوص، ومدونين الملاحظات، في مخطوطات بألوان زاهية، لكن ذلك لم يمنع من وجود المكتبات الكلاسيكية في الأسواق، وإيثار الكثير من الناس لها. 

55
المنبر الحر / شعوب هزمت اليأس
« في: 10:01 05/06/2020  »
 
شعوب هزمت اليأس
عدنان أبوزيد

العراقيون يتداولون الأنباء عن بناء مستشفى عظيم في الصين لمعالجة مصابي كورونا، باستعجاب، واستغراب.

قبل ذلك، هزّت أزمات ومصائب، شعوباُ، فانبرت الحكومات تحسم المحن، بأسرع من البرق.

الكارثة المالية اجتاحت أمريكا قبل سنوات، وحلّ الكساد، والبوار، وفَلِسَت البنوك، وعجز المواطنون عن دفع أثمان البيوت التي اشتروها، وخسرت الشركات مليارات الدولارات، لكن تكافل الجميع، وضخ أصحاب رؤوس الأموال، الآلاف من المليارات من الدولارات الى السوق، واستنفار حتى مطابع العملة، حسم الضائقة، باتجاه التعافي.

اليونان تخطّت كبوتها الاقتصادية وحققّت المعجزة، بعد الانهيار العظيم، واليأس العارم، والافلاس والجوع، محققة منذ العام 2014، فائض ميزانية، أتاح الإنفاق الاجتماعي على الفقراء.
لم يحدث ذلك بتخطيط الحكومة فحسب، بل بمساهمة المواطن الواعي الذي تجشّم أعباء التقشّف من أجل عبور الأزمة.

اليابانيون بعد نحو 15 عاما من الانكماش، اكتشفوا انّ الانغماس في كثرة المطالب ليس حلا، وأدى بهم الرشد الاجتماعي، الى تفضيل الأمن الوظيفي على الأجور، كي لا تهرب الشركات الى الخارج بحثا عن عمالة رخيصة، او تتبنى تقنيات وآلات تحلّ محلهم، الأمر الذي منح البلاد، استقرارا اقتصاديا باهرا.
 
ولم تكن المعجزة الاقتصادية الألمانية، في إعادة الإعمار، الفائق السرعة، أمرا سهلا بعد حرب دامية أزالت المدن عن بكرة ابيها، لكن اقتصاد السوق النيوليبرالي الذي أدغم بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، أتاح الحرية المطلقة لرأس المال والعمل، وهمّش الفساد، ما يسّر اندلاع ثورة تنمية كبرى، عمادها الشباب الواعي بمسؤوليته التاريخية في إعادة أمجاد بلاده.

ولم يكن الكثير من الصينيين يتوقعون بلادهم التي شهدت أكبر مجاعة تسبّبت في موت نحو 40 مليون إنسان، في نهاية خمسينيات القرن الماضي، سوف تطبّب الجراح، وتقبر اليأس، لكن العزيمة، وبعد أقل من سبعين عاما، قلبت الصين من أمة مغلوبة على أمرها، جائعة، إلى واحدة من أعظم القوى في العالم.

حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المتبادل بين قبيلتي الهوتو والتوتسي في رواندا، خلّف نحو المليون ضحية، العام 1984، حتى تكهّن البعض بانقراض شعبها. ولم يمض وقت طويل حتى انتقلت البلاد بعد أقل من عقدين من الفشل، الى النجاح في منافسة اقتصاديات الدول المختلفة، ونالت عاصمتها كيجالي التي كانت يوما ما، مدينة صفيح، لقب أجمل عاصمة افريقية.
 
تشيلي التي عانت من هيمنة سلطة مركزية، ومجلس عسكري، بمقدراتها، أصرّ شعبها على التغيير الديمقراطي، وأثمر الجهد عن استفتاء العام 1990 أنهى حكم العسكر، بصناديق الاقتراع، لتقفز في زمن قياسي قصير، من بلاد يعاني النصف من سكانها، الفقر والمجاعة، الى أعجوبة اقتصادية واجتماعية عظيمة.
 
الى وقت قريب، كان شعب سنغافورة لا يعرف النظافة، ولا يتقن صناعة الحياة، وكان السواح يشتكون من قذارة المدن، وروائح المطاعم العشوائية في الشارع، ومضايقة المتسولين، والجرائم التي يقترفها العاطلون، ولم يمض سوى اقل من 50 عاما حتى نجحت الدولة في إرشاد سلوكيات المواطنين نحو طرق عملية، متحضرة.

ماليزيا التي عانت من الانقلابات والثورات والأنظمة الفاسدة، وطّدت مفهوم الوعي الحضاري والانفتاح على العالم، والاستثمار في الفرد الذي أصبح المحور الذي تدور حوله محركات البناء والاعمار.

إنّ الشعوب التي تثق في نفسها، لقادرة على إحالة الانكسارات والهزائم، الى فتوحات حضارية واقتصادية واجتماعية،
بعد ان يصبح الفرد فيها، أكثر من كونه رقماً، أو شخصاً، الى آلة فاعلة في دولة يتجشم الجميع فيها، مسؤولية رعاية الفرد حتى في حالة العجز أو المرض. من هنا تكون البداية، في التأسيس للثقة المتبادلة بين الدولة والمواطن.


56
تجديد الخطاب الاجتماعي

عدنان أبوزيد
 
تجديد الخطاب الاجتماعي وترميمه، يُصبح واجبا مع انتقال الخطاب الإعلامي من التركيز على السياسة الى أدبيات ونظريات الحركات الاجتماعية وأبرزها التظاهرات، وما تفرزه من مفاهيم وسلوكيات جديدة في المجتمع العراقي تتجسد بشكل واضح في ساحات الاحتجاج التي تحمل الى جانب مقاصدها السياسية، الرغبة في التغيير الاجتماعي.
 
المثقف العضوي، سيكون عاملا حاسما في توجيه النقلات الاجتماعية، بما يمتلكه من أدوات اختبار وتشريح في تفكيك العقد الاجتماعية، الناجمة عن الجهل، والانغلاق على العالم طيلة عقود، فضلا عن الاشتباكات السياسية التي رسمت اتجاهات متخبطة في التطور الاجتماعي.
واذا كان دور المثقف يتلخص في توجيه بوصلة التغيير، وتنظيك السطوح الاجتماعية الجديدة، فانه وبحكم وعيه سيكون حريصا على الموروث الثقافي والعُرفي، وان لا يجعل من الإبدال فرصة للانفصال عن التاريخ، وحتى الجغرافيا، فيما يتوجب عليه تأطير النشاطات الثقافية للحركات الاجتماعية والبحث في الدوافع الاحتجاجية وتفسيرها لأصحاب السلطة والقرار السياسي.
 
المٌتوقّع، هو تقدّم الأنتليجنسيا والأيديولوجيات، الصفوف في التظاهرات التي تجاوزت كونها فعالية سياسية الى اجتماعية تفصح عن ارهاصات الجيل الجديد، ورنينه المتميز في أسلوب الحياة، وتطلعه الى أعراف مجتمعية جديدة، بحكم الانفتاح الذي تفرضه محرّكات التواصل العالمي.
 
من مخرجات التظاهرات، انحسار النظرة الدونية المُتبناة من قبل النخب الاجتماعية والسياسية تجاه أفراد المجتمع البسطاء والفقراء، الذين يتمكنون اليوم من امتلاك ناصية الخطاب، وقيادة الشارع، وفرض المطالب، والتحكم في الازمة وهو متغير اجتماعي يحتّم على المثقف العضوي تشريحه على منضدة التنظير والتطبيق.
 
أكثر من ذلك، فانّ على الأنتليجنسيا العراقية، الانتساب الى الدور التوجيهي القيادي الميداني، في المجتمع لاسيما الاحتجاجات، بدلا من الانكباب فقط على الأعمال الذهنية المعقدة، ذلك ان دورها يتجاوز التنظير الى ترسيخ
الفعل الاجتماعي الجديد، الذي يجب ان لا ينصرف من دون رياسة توجّهه نحو الأهداف المقصودة بعيدا عن الوجهات العرضية التي يمكن لها ان تحل محل الهدف النهائي.
 
تعوق التظاهرات الشعبوية في العراق والدول الأخرى، المفهوم الذي يرَكَن المثقف في أبراج من الترف الفكري المحض، المتعالي على التفاصيل اليومية في مجتمعه، وما يجب ان يحدث اليوم هو العكس تماما، ذلك ان الكثير من الثوريين الاجتماعيين في العالم استلهموا التحليلات والاستراتيجيات من التفاصيل الصغيرة، التي رصدوها من تفاعلهم الميداني مع الناس وحثهم الى عدم الارتهان الى الخيالات والأوهام، التي تعشعش في برامج تنميط الجهل.
 
يتحدث كتاب "صعود الأنتليجنسيا" بالإنكليزية عن النخبويين الثقافيين الذين يرون أنفسهم موظفين مفكرين تابعين للدولة الحديثة، ولم يتفاعلوا مع التظاهرات الشعبية التي اسقطت النظام الشيوعي في بولندا، مثالا، لا حصرا.
 
و يعرّف الفيلسوف كارول ليبيلت نخب الأنتليجنسيا في كتابه "عن حب الوطن" الذي صدر العام 1844، بانهم الأشخاص المتعلمون الذين يتعهدون بتعميق الأخلاق في ثورات التغيير.
وكان للأنتليجنسيا الدور في مشاريع التأميم في أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة التي أسست لها الجماعات اليسارية، و كان لها الريادة في ترصين الحركات الاجتماعية الحديثة في فرنسا، وجّسدت الطليعة في التظاهرات التي قادها الشيوعيون في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في أوربا وحتى الولايات المتحدة.
 
في العراق، فانّ لا مناص من نزول الطليعة المثقفة الى الشارع، لاستيعاب تجربة شباب محتج خرج من بقايا اتون
أجيال الحروب، وان تكون حركة المثقف، جدية وعملية، لا حالمة فقط، على طريقة هنري ديفيد ثورو، الذي قال "عندما أسمع الموسيقى، لا أخشى أي خطر، أنا محصن"، ذلك ان استيعاب المتغير الاجتماعي العاصف الذي تجسده احتجاجات العراقيين يحتاج الى ما هو اكثر من رنين الآلات.
 


57
الصحف تتفوق على مواقع التواصل اجتماعي

عدنان أبوزيد

حسمت وسائل النشر الجديدة والتواصل الفوري، الكثير من إشكالات تبادل المعلومة، بما فيها الأسرار، ومصادر الأخبار، والتشاركية مع المتابع، ليبدأ عصر جديد في الاعلام، يخلو من عبارات من مثل "غير صالح للنشر" أو "سر ينبغي عدم التفريط به"، أو "التحقّق من المصدر".

وحتى على مستوى الاجتماعات الخاصة، والسرية، فان تمرير الاخبار إنْ لم يكن تسريبها، في ذات اللحظة، ما عاد
أمرا عسيرا، ذلك ان تصريحا في حلقة مغلقة ينقلب في خلال لحظة، الى خبر عظيم يجتاح المواقع الرقمية،
ومنتديات الحوار، ومنابر التواصل، فضلا عن مجموعات التراسل الفوري.
ويتجاوز نقل الخبر، النصيّة، الى الصورية، والفيديوية، مع تطور الهاتف الذكي، وآلات التسجيل الحساسة، مُنهيا، والى الابد، حقبة الخصوصية والكتمان.
 
أكثر من ذلك، لم يعد هنالك، جدوى لمصطلح مثل "تسريب خبر" أو "سرقة محتوى" لان الجميع مفضوح أمام مرآة الترابط المباشر والنشر السريع، كما تنتهي بشكل واضح عبارة "سري للغاية" حتى في المخاطبات البينية بين مؤسسات دولة ما، لان التواصل الاجتماعي لم يعد يعترف بهذه القاعدة، وينشر كل ما يصل اليه من دون الحاجة الى التيقّن من صواب الخبر، او اسم المصدر، لان الحقيقة ستفرض نفسها، وفيما اذا كان الخبر كاذبا والحدث ملفقا، بعد ثوان من الوقت.

يتعدى الانقلاب المعلوماتي، الجانب التقني الى الاجتماعي، ذلك ان المصداقية ستكون ديدن الناشر والمتلقي، لان الطرفين يدركان ان الحقيقة ستكون هي الراسخة في النهاية، ليقوّض ذلك، التصيد في المواقف والاخبار، ويحسر النفاق الاجتماعي والإعلامي، الى حد كبير.
 
فضلا عن كل ذلك، فنحن أمام صحافة الفرد، الذي لم يعد متلقيا، فحسب بل ناشرا أيضا، ومصدرا للأخبار، وقد دفع ذلك الأمم المتقدمة الى سن قوانين المعلوماتية، التي تتضمنها الأنظمة المحلية والاتفاقيات الدولية على حد سواء.
في جانب آخر تصبح الشفافية، غاية المسؤولين والحكومات، والمؤسسات، والشركات، لان عملها لم يعد بين الجدران المغلقة، بل في مساحات تفصلها ألواح شفافة، نافذة، صوتا وصورة.

وفق ذلك، تصبح الحقيقة ناصعة فيما يخص الأوضاع في البلدان، ولم يعد صعبا، تقصي المعلومات والاسرار عن الدول، وإدراك الحقيقة بعيدا عن الاشاعات والتشوهات، بل وحتى اطر التجميل والطلاء لهذه الجهة او تلك الشخصية او ذلك الزعيم، او تلكم الدولة، فإنها تتداعى في وقت قياسي اذا لم تمت الى الحقيقة بصلة.

وفي دليل واقعي، فان مشاهداتي للمواطنين في بلدان مثل المملكة المتحدة وهولندا، تشير الى انها باتت تمتلك صورة
اشد وضوحا وأكثر نقاءا للمشهد في العراق والشرق الأوسط، وان تشويه صورة العرب، لم يعد ممكنا، الا على نطاق ضيق، وان الحقائق باتت على الطاولة الجمعية، بشكل عام وليس النخب وحدها، وقد أتاح ذلك إزالة اللبس المعلوماتي
المتشكّل تاريخيا بحكم صراع الحضارات، وتضارب المصالح، أو تفاعلها.

تتفاعل الصحافة الجديدة مع القارئ، أيضا بمستويات لم تصل اليها صحافتنا، ذلك ان صحيفة الجارديان تتيح للمتابعين،
الحصول على المال، او الاشتراك المجاني في منتجاتها على مستوى الخبر، او التحليل، مقابل رفدها بالمعلومة، وإتاحة الوصول الى المصدر، في مشروع استثماري، يؤسس لعلاقة مادية أيضا مع المتابعين تتجاوز حقبة الإعلان التجاري الصرف، الأحادي الجانب، من ناحية كون المتلقي، مستهلكا فقط.
ويبدو ذلك مستغربا بعض الشي، فبينما تضع مواقع التواصل الاجتماعي، المحدّدات والشروط على المحتوى، فان صحفا رقمية تفسح المجال للنشر في معادلة تنقلب لصالحها، لذا فان المتوقع ان الصحف الورقية التي تحولت الى رقمية، والتي هي رقمية أصلا، سوف تتطور الى نماذج لمواقع تواصل اجتماعي، تتحاور مع القارئ آنيا، وتنشر له، وتؤسس لشبكيات تواصلية دائمة على غرار فيسبوك و تويتر.
بل ان الصحف، على ما يبدو، وهو ما يحدث اليوم في أوربا والولايات المتحدة، تتغلب على مواقع التواصل الاجتماعي بالدفع مقابل المادة الصحفية، متجاوزة أنماط التمويل الإعلاني، فضلا عن انها تتفوق، في جودة المحتوى.

58
العراق يخسر الاستثمار في منصّات التواصل   

عدنان أبوزيد

السوشيال ميديا يستبطن المجتمع العراقي، ويهيمن على فضاء كبير من حياة الناس، وأصبح الترابط معه، شعبيا لا يقتصر على شريحة معينة، وذلك نقطة إيجابية، تعزّز التعامل "الداخلي" بين الأفراد، وتوطّد التواصل مع العالم.

مضاد لذلك، لا يتوافر العراق على دراسة علمية -على حد علمي- عن اعداد رواد المنابر، والنتائج الاجتماعية والمعرفية المتحصّلة من ذلك، على رغم انتشار الجامعات، والمعاهد، ومراكز التحليل وهو أمر لا تعدمه الدول المتقدمة، التي أرست له حيّزا مهما في مناهج الدراسات الاجتماعية.
 
تتجاوز أهمية السوشيال ميديا كونه قناة تواصل، الى اعتباره آلية متطورة لجمع المعلومات، وقياس اتجاهات الرأي، التي تساهم في وضع الخطط التنموية، وفي إحصائية، فان نحو 5 مليار من السكان في العالم يستخدمون الإنترنت والسوشيال ميديا.
 
السؤال: كيف يمكن الاستثمار في تهافت العراقيين - وجلّهم من الشباب- على السوشيال ميديا، وكيف يمكن توظيف
الشغف في يوتيوب، مثالا، لا حصرا، لغايات التنمية، وأنّى يمكن توجيه توفر المعلومات بكميات ثرية وهائلة، الى خدمة أغراض التخطيط وخلق الوظائف، وتعزيز الاقتصاد.

لقد انتشل الاستثمار في قطاع الميديا التواصلية، اقتصاديات الكثير من الدول من الشلل، وأتاح ملايين الوظائف للشباب، واسّس لشركات كبرى، فيما الانشغال الواسع بالتواصل الاجتماعي، والتغريد والتدوين، في العراق، لا يتعدى كونه هواية، وقضاء وقت، وسجالات سياسية واجتماعية تعمّق الانقسام والفضائحية والتسقيط المتبادل، بدلا من تحويله الى تجارة رابحة، ومؤسسة معلوماتية.

في بلد مثل هولندا، تلج منصةُ الواتساب، الصيدليةَ وعيادة الطبيب والباص، والسوبر ماركت، والبلدية، لإنجاز المعاملات، وضبط المواعيد، ونشر الاستطلاعات، فيما أدخلت شركات ودوائر ومؤسسات، تطبيقات التراسل الفوري للوصول الى الزبائن، والتعجيل في خدمتهم وايصال الرسائل، وتبادل الرأي.

كانت المنصات، الفتيل الذي أشعل ميدان الاحتجاج بأوكرانيا حول اتفاقية التجارة الحرة. ووظّف الحزبان الرئيسيان، العمال والمحافظين، في بريطانيا، استثمارات ضخمة في التواصل الاجتماعي، خلال انتخابات العام 2015. وفي العام 2008، استخدم أوباما Facebook للوصول إلى جميع الأشخاص الذين يحتاجهم لتشجيعهم على التصويت.

هذا في السياسة، اما في نطاق الإعلان التجاري، وتسويق المنتجات والماركات، فان الأمثلة مليارية، لا يتسع المجال لذكرها في هذا النطاق.
العراق يتأخر بشكل مريع عن الاستفادة من هذا التطور المهم على رغم انتشار فيسبوك وتويتر وإنستغرام بسرعة مذهلة في أوساط الشباب، ويدل على ذلك التظاهرات التي وثّقت الكثير من احداثها عبر هذه القنوات وتمكنت من إيصال رسائلها الى العالم. وقياسا الى انجاز الشباب المتظاهر، فان المؤسسات الحكومية، تثبت العجز في الاستثمار في هذه الأدوات المهمة.

يلمس المراقب، للمنصات العراقية، غيابا واضحا للمعالجات الاجتماعية، والاقتصادية، والقطاعات التخصصية، الا فيما يتعلق بالسياسة، فيما راح النواب والسياسيون، يمطرون المنصة بأفكار مجترّة، ونصوص دعائية من باب اثبات الوجود. 

وفي مجتمعات الأنظمة الدكتاتورية، والأخرى المحافظة، كان هناك تخوّف واضح من اختراق التواصل الاجتماعي
للخصوصيات، ولان إدارات المنصات أدركت ان ذلك يمثل عقبة امام انتشارها، لم تنتظر، وتصرفت بذكاء لتجاوز ذلك، وأنشأ Facebook ثقافة مشاركة خاصة وأمينة وموثوقة، لكي لا يقلق الناس بشأن مشاركة معلوماتهم الشخصية وغيرها من المعلومات المهنية. كما ان العلامات التجارية التي لم تعد تقلق من المنافسين لها في المنصات ما ساعدها على خلق الملايين من الوظائف، وتمكنت من إنشاء خطوط تسويق كاملة عبر الإنترنت.

يتوجب إدراك انّ المنصات الاجتماعية، لم تعد نوافذ للدعاية الانتخابية والترويجية، بل باتت قطاعا مهما في عالم المال والبزنس، واداة مهمة في تغيير المجتمعات، عبر توظيف المعلومات والتواصل في خطط المشاريع، وبرامج المستقبل، وقد تجسّد ذلك بشكل واضح في تأسيس الدول المتقدمة بصورة مبكرة، لمشاريع الحكومات الإلكترونية، التي لم تحقق تسهيل الخدمات للمواطنين فحسب، بل زادت من أرباح الميزانيات الحكومية والشركات الخاصة على حد سواء.

 
 





59
المنبر الحر / ديمقراطيات فاشلة
« في: 21:20 29/04/2020  »
ديمقراطيات فاشلة

عدنان ابو زيد

تَبَنّي الديمقراطية، رمزا ونظاما، لم يعد كافيا، ذلك انّ التطبيق هو الذي يحسم النتائج، اذ طالما اسرفت أحزاب وأبحاث في النظريات، التي ما انْ توضع على المحك، حتى تُدرَك انعدامية آلياتها، وعد قدرتها على تلبية التطلعات.
نظم ديمقراطية كثيرة حول العالم، يتقوّض الكثير منها عند مفترق التنظير والتطبيق، وفي بعض الدول فان ارتباك المواقف بسبب سوء تنفيذ النظرية الديمقراطية، جعل الشعوب تندم على خيارها السياسي هذا، لتعود تواقة الى نظام شمولي، بل وحتى إلى حكم العسكر.

الاختلال الأكبر يُرصد في ديمقراطيات العالم الثالث، في الميلان عن أخلاقيات الديمقراطية، وتأزيم ولادة نظام سياسي قادر على تحقيق الاستقرار، لتتحول منتجات الديمقراطية، على شاكلة شركة تعترف بوجود خلل فني في سياراتها وهي مضطرة اليوم لسحبها من الأسواق العالمية، بسبب تزعزع ثقة المستهلك بمنتجاتها.

في أدبيات السياسة، فان الديمقراطية أضحت تفاحة مُتخيّلة لكنها غير قابلة للقطف، ليعيش الشعب في حالة من الأخيلة الافتراضية، حيث الجميع يتغنى بالديمقراطية، لكنه لا يتذوق ثمارها، معتقدا انها سوق تنضج، يوما ما.

في غينيا الاستوائية، قال المراقبون الدوليون، ان الديمقراطية خائبة تماما، ولم يعبد يعبأ لها الشعب ما يدفعه ضد نظام سياسي هتف له وحلم به من قبل.

غينيا بيساو تتبجّح بديمقراطية شكلية سمحت بتداول منصب الرئاسة فيها منذ العام 1979، لكن الشعب يمضي الى الانتخابات مًكرها لأنه يدرك النتيجة من قبل.
وانتقل الزعيم موغابي في زيمبابوي عبر آليات ديمقراطية هزيلة من جبهات التحرير إلى سدّة الرئاسة، ليحكم الى الأبد.
ويحدث في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفي جيبوتي، وفي تشاد وفيتنام أوغندا، ان الأحزاب تتقاسم الأصوات، بعد التلاعب بصناديق الاقتراع.
وبلغ الفشل ذروته، بعزوف وسائل الاعلام الحر، والمنظمات المراقِبة العالمية عن الحضور الى دول الديمقراطيات الصورية، لأنها تجد في ذلك، مضيعة للجهد والوقت، ومساهمة في تسويق استبداديات حقيقية، ففي فنزويلا، فان مقاييس فريدوم هاوس لا تمنح ديمقراطيتها، درجات النجاح الكافية.

بولندا ما بعد الشيوعية، لم تنجح في ديمقراطيتها، بعد تناسل احزاب سياسية تبحث عن مصالحها، وتمخض عن ذلك
اقتصاد منهك، ما دفع الشعب في استطلاع، الى الإعراب عن ندمه على النظام الديمقراطي، وفي العام ٢٠١٢ بلغت نسبة الذين يؤيدون الحكم العسكري، 22%.

لبنان، مثال لديمقراطيات عربية، تتبنى التقسيمات المذهبية والقومية في تقاسم السلطة، تحوّل فيه النظام السياسي، الى تعبير عن الكانتونات، التي تقسّم الشعب، وليس عن الوطن الموحد، فضلا عن ان ديمقراطيته طوال عقود لم تحقق استقرار سياسيا واقتصاديا.
وفي العام ٢٠١٨، غابت كل الدول العربية عن قائمة التقرير السنوي لمجلة الايكونومست عن الديمقراطيات الحقيقية في العالم.
وفي الديمقراطيات العريقة، اطل الوجوم بين ثنايا الأزمات أيضا، وعلى رغم انه لم يتهدد الأنظمة كما في فرنسا حيث
الاضطرابات العمالية والوظيفية، وفي خروج بريطانيا الذي أدى التصويت الديمقراطي على خروجها من الاتحاد الأوروبي، الى انقسام مجتمعي.
وعلى رغم من رواج الديمقراطية بين البلدان، من 11 ديمقراطية فقط في العام 1900، إلى 86 دولة في العام 2006، فان الباحث الأمريكي ياشا مونك في جامعة هارفارد، يذهب الى القول بان ثقة الشعوب بالديمقراطيات، في أدنى مستوياتها حتى في معاقلها التاريخية، مثل الولايات المتحدة الامريكية، حيث بات انتخاب دونالد ترامب، نوعا من القصص الخيالية في تاريخ الديمقراطيات، والدليل على تراجع الليبرالية الغربية.
وبجواب بسيط، يرى مونك ان الكراهية للديمقراطية تدب في نفوس الناس لان النظام لم يعد يفي بوعوده الأساسية، في ترجمة الإرادة الشعبية إلى سياسات عامة.
والسؤال، ما إذا كانت الفرصة سانحة الى الان، في اقناع الناس بأن الديمقراطية الليبرالية، رغم كل عيوبها، لا تزال هي النظام الأفضل لتنظيم المجتمع.

60
 

تثوير الشعوب بـ "الواتساب"

عدنان أبو زيد
 
لا يبدو النجاح حليفا للديمقراطيات في الشرق الأوسط، لاسيما البلاد العربية، بعدما آلت نظريات التغيير السياسي، في دول مثل العراق ولبنان، الى عدم استتباب واضح، فيما لم تقدمّ الدول التي هبّت عليها رياح الانتفاضات، في ليبيا وتونس والجزائر، والسودان ومصر، تجاربا يُبنى عليها، ويُقتدى بها.

بل انّ الذي حدث هو تفاقم تيار معاكس يمضي الى غير الطريق المُراد منه، في الوصول الى ديمقراطية حقيقية.

في مقال كتبه الكاتب الاميركي، والصحافي السابق بجريدة "وال ستريت جورنال" روبرت مري، فانّ الولايات المتحدة تعقّبت في بلد مثل العراق، مشاريع دعم الديمقراطية، لكن واقع الحال، يكشف عن انّ بنية المجتمع والبيئة السياسية والقوانين، والتأثيرات الإقليمية، جعل من تدوير الحياة السياسية بمحرّك الديمقراطية المستوردة، غير ذي فائدة.

الولايات المتحدة تبنّت عبر عقود، برنامج نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وكان أبرز محاولاتها، في اجتياح العراق، العام 2003، متأملة في انّ الدروس المستقاة من التجربة العراقية، سوف تكون مثالا ورمزا لدول المنطقة.

العراق ليس استثناءً، ذلك ان الكثير من الدول تشعر بالإحباط والتثبيط، من انهيار المسار الديمقراطي، بعدما نجحت القوى المهيمنة، النقلية والعرفية و"التراثية" في تعويق التغييرات.

في الكثير من الدول التي تقف وراء واجهة الديمقراطية، يمكن للمحاكم الدستورية – مثلا – ان تفرض رأيها على الشعب، كما يمكنها الغاء نتائج الانتخابات البرلمانية، فضلا عن ان المُستحكم على الحياة السياسية هي الدكتاتوريات الحزبية، والعائلية والعشائرية، في الكثير من البلدان.
تهتاب دول في الشرق الأوسط من المشاعر والخوالج الديمقراطية الفياضة، وتسعى الى الحؤول دون شموليتها وتحولها الى فعل دائمي في الحياة، اذ يُراد لها ان تكون موسمية، في وقت الانتخابات ثم يعود كل حال، الى ما كان عليه.

مري في كتابه "رمال الإمبراطورية" يذهب الى ان انتصار أميركا في الحرب الباردة أسدى القوميين، الإيمان في أنفسهم، وباشر رؤساء أميركا مثل جورج بوش الأب، في الحديث عن النظام العالمي الجديد، وبلغت موجة الدعوات (المثالية) لنشر الديمقراطية في الشرق الاوسط ولو بالقوة على أشدها حين خطب الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن خلال فترة رئاسته الثانية في العام 2005، مهيبا بالأميركيين، الوقوف معه للقضاء على "الاستبداد في العالم".
وعزّزت حرب تحرير الكويت ثم الاجتياح الأمريكي للعراق، هذه الثقة، التي بدأت تترنح اليوم بسبب نتائج ثورات الربيع العربي السلبية، ومن ذلك اسقاط نظام الزعيم الليبي معمر القذافي، الذي آل الى فوضى عارمة.

يُرجع المؤرخ والكاتب الألماني، أوسفالد شبينغلر، فشل محاولات ارساء الديمقراطية في العالم العربي والاسلامي الى جبروت القوى الاجتماعية والدينية التي تؤمن بالفعل الجمعي وليس الفعالية الفردية، معتبرا انّ من اسرار نجاح الغرب في هذا، هو تضخّم الانا على حساب فكرة التسليم التي كانت تسود ايضا الفكر المسيحي، وقدرة الفرد على الفعل خارج الجماعة الدينية والاجتماعية، ونجاحه في الفصل بين الدولة والدين.
الذي يتحكّم في مسارات ديمقراطيات عربية، غير ذلك تماما، حيث الحكم والدين متشابكان، وحيث الثقافة الاجتماعية التي تفضّل الانطواء على الانفتاح، وتقرّ بالمعتِق الفرد، والقائد التراكمي، الاستبدادي.

في عهد دونالد ترامب، يعود الأمل مجددا بيْن ساسة الغرب والولايات المتحدة، في تغيير الشعوب الأخرى وإعادة صناعتها عبر دعم التثوير بالريموت كونترول والفيسبوك وتويتر والتراسل الفوري، تمهيداً لجني ثمار الديمقراطية في المنطقة. والجديد في أدوات التغيير ان الغرب بات يمتلك أدوات التواصل الاجتماعي، التي تمكنّه من التواصل المباشر مع الشعوب عبر ترابط مباشر، لا بواسطة أنظمة وحكومات.

61
التعدّدية الثقافية لا تعني العولمة
عدنان أبوزيد

يقول العلماء انّ اتقان أكثر من لغة، والتعرّف على الثقافات المتعدّدة، حتى في حالة أنك لا تندمج معها، يساهم بشكل جذري في صقل الاعتبارات الأخلاقية، ويسمو بأنماط السلوك الإنساني.
وأكثر من ذلك، فان مهارات اللغات لدى الانسان، الى جانب اللغة الام، تمكنّه من التلائم مع بيئة ترابط إيجابية، وقدرة على حل المعضلات الاجتماعية والتواصلية والثقافية، أكثر من أولئك الذين يجيدون اللغة الأم، فقط.
وسائل التواصل الاجتماعي، والترجمات الرقمية الفورية، تؤسس لبيئة عالمية متعددة الثقافات، توفّر الزمن والمسافات نحو مجتمع عالمي، يختلف تماما عن أنماط التجمعات الإنسانية التقليدية عبر العصور، فلأول مرة يتحقق مشروع الانسان الكوني، الذي يجد نفسه قادرا على التفاهم والتواصل، واستيعاب ثقافة أي مجتمع، بسبب تكنيكيات العلاقات المستحدثة، وأساليب استعراض سيل غزير من ثقافات الأمم، عبر الميديا.
يعتقد باحثون، ان مفهوم "المجتمع الوطني"، سوف يتلاشى في المستقبل، وسوف يضمحل تأثير أية مجموعة قومية او اثنية او دينية معينة، وسوف تنقرض النظرة العنصرية، لصالح الإنسانية المصقولة بالتربية "العالمية" التي توفرها وسائل "التواصل العالمي"، التي تفرض الانفتاح بين الشعوب، حتى على حساب الميزات التي يتم عرضها من خلال التاريخ واللغة والغذاء والفنون والجغرافيا والقيم الأسرية والمعتقدات، الامر الذي يهمّش الانقسامات العرقية والدينية، ويحد من سوء الفهم، وقد ثَبتَ ذلك بشكل واضح في مجتمعات اوربا الغربية الحديثة، التي تبنّت مفهوم التعددية الثقافية والدينية، واسّست لتربية اجتماعية تبدأ من نشأة الفرد المبكرة، في انّ الانسان مواطن عالمي، وانّ وطنه، الكرة الأرضية.
من المهم جدا، التمييز بين التعددية الثقافية والعولمة، لاسيما وان الكثير من الناس لا يدرك التمايز، في ان المقصد من تعدد الثقافات هو التناسق والتفاهم الكوني، بالدرجة الأساس، فيما العولمة، تحمل بين أجندتها، أهدافا سياسية، في سيطرة الثقافة العضلية على الواهنة، وتسييرها وفق اشتراطاتها وقواعدها، مع عدم نكران او اختصار، الفوائد الإيجابية للثقافة الغالبة.
تناهت المجتمعات "المتطورة" الى حقيقة ان تلاحم الثقافة المحلية مع المعرِفات الوافدة، يحقق المثل الإنسانية العليا، ويصفّي المجتمع من رواسب العنصرية والاستعلائية، وقد نجحت تلك الشعوب عبر التربية القومية المتسامحة في المدرسة، والمنابر، من بناء مجتمعات متعددة الهويات الفرعية، اكثر تجانسا وانتاجا من المجتمعات التاريخية التقليدية، الأحادية القومية او الاثنية او المذهبية.
وفي بلد مثل هولندا، تحقق سياسة الإدغام الاجتماعي الهولندية، الكثير من الإيجابيات، حتى باتت المدارس الإسلامية تقوم بمهامها الى جانب مدارس الديانات الأخرى، في تسامح ديني مثالي، بل تعدى ذلك الى تفاعل الأديان فيما بينها.
وتكاد السويد تتغير ديموغرافيا في العقود الأخيرة بسبب "التساهل الثقافي" الذي أدى الى موجات كبيرة ومستمرة من المهاجرين، وكلما زاد التنوع، انحسرت التوترات، والسلوكيات العنصرية.
تعتمد الفلسفة الاجتماعية الاوربية على حقيقة ان البشر متساوون، في الحقوق والواجبات، فيما هم على غير ذلك في الثقافات، سوى في مستوى الوعي، وقد بلورت "الفلسفة الانتشارية"، حقيقة النظرة العادلة الى البشر، لكنها تعترف بان هناك بؤرا ثقافية متخلفة وأخرى متطورة، مثلما هناك أخرى متعصبة، أو متفتحة، وهو ما يؤدي الى الصراعات السلبية.
وفي كندا، يسير المجتمع منذ إرساء الحكومة، على سكة سياسات تعددية الثقافات وتبنيها كأيديولوجية، بشكل رسمي، منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، موليةً أهمية اجتماعية للهجرة الوافدة لتدعيم المجتمع بالأيدي العاملة، والطاقة البشرية.
الدول الغربية، عملت بهذه القاعدة ونجحت في استقطاب العبقريات من كل ينابيعها الثقافية، وتمكنّت من استثمارها، جاعلة من البيئة بؤرة ثقافية متقدمة، تقيس قيمة الانسان من انسانيته أولا، ثم مهاراته وقدراته على الابتكار والإنتاج، من دون النظر الى الهوية الخاصة.

62

تهميش المبدع والمبتكر وتعظيم الدجّال السياسي والمشعوذ العقائدي

عدنان ابوزيد

 الفضائيات ووسائل الاعلام، لا تدّخر وسعا في اجترار المعالجات السياسية و"العقائدية"، عبر "نجومها" و"دجاليها" المعروفين، فيما يركن الفاعلون الثقافيون والكتاّب وأصحاب الفكر والمبدعون والمهندسون والصناعيون والأطباء، على الهامش، وبات الاهتمام بهم معدوما تماما، في ظاهرة لم يألفها الاعلام العالمي، الذي وإنْ اهتم بالسياسة وادواتها في نشرات الاخبار، لكنه يعوّض عنها بتناول الجوانب الأخرى في المجتمع لاسيما الثقافية والفكرية منها، في الحوارات، والبرامج، والأبحاث المتنوعة.

يرتبط هذا التهميش، بخلل آخر تمارسه الوزارات والمنظمات والجمعيات، حين تعجز عن مبادرات الحفاوة والتكريم بأدباء وفنانين وشخصيات ثقافية أو فكرية أو إعلامية، وفي الحالة التي تحصل فيها، فإنها لا تتجاوز الاعتراف الشكلي، بدور المثقف او الفنان او العالم او الأكاديمي في احتفاليات طارئة ارتجالية وصدفية، تُمنح فيها الاوسمة والقلائد، ونياشين التكريم، فيما الحاجة تتطلب غير ذلك تماما، في التثمين الحقيقي الذي يسعف المبدع في حياته، ويسدّ حاجته، ويجعله منصرفا لإبداعه، وتشجيعه على استمرارية العطاء والإنتاج.
ولن يكون ذلك الا بالتأسيس الى قوانين، تجعله في أمن معيشي، معزّز الكرامة، وتتيح له المدخول المادي المناسب الذي يمول مصاريف الأبحاث والكتابة والاستقصاء، ويجعله عاكفا على المزيد من الإنتاج، كما ونوعا، فضلا عن ادخار الوقت في الاكتشاف.

لا يتوافر العراق على خطة محسوسة واستراتيجية في تكريم الفاعلين في الثقافة والفنون والعلوم والإعلام والفكر، وإذا مثلت فلن تتجاوز كونها، مهرجانات مدح وثناء، ومنطق مجتر، وشهادات افتخار اعتبارية.

مقارنة بتجارب دول اوربا الغربية، فانه وإنْ كان حتى المواطن العادي يحوز على الراتب والسكن، فان المبدع والمبتكر، ينال من الاهتمام، الكثير والاستثنائي، من دون ان يشعر بالعيش على هامش المجتمع حتى في تقدمه في السن وتوقفه عن الإنتاج، فيما الوقائع تشير الى ان مآلات أحوال المبدعين في شتى المجالات، حين يكبرون في السن، مأساوية، في العراق، تكشف عن شعب عقوق لمبدعيه ومثقفيه وعلماءه.
 
ونذهب في تفسير ذلك الى ابعد من التكريم، وهو التقييم لهؤلاء في المجتمع الذي ينكب على "تقديس" أسماء معينة، شكليا فحسب، ويسعى الى مدحهم في المنابر، ويتداول أفكارهم، من دون التأسيس لمبادرات مجتمعية، تساهم في ديمومة ابداعهم.

وعودة الى الاعلام الذي جعل من الساسة والأحزاب و"الدجالين" في الحياة والدين والشعوذة، نجوم تلفزيون، وجعل من الشخصية العراقية، تركز عليهم في الاكتراث والمتابعة، فان واقع الحال يشير الى ان ذلك اسهم في تسقيطهم بسبب الظهور المجتر، لينقلب السحر على الساحر، ما يستدعي الموازنة في الاهتمام، والعمل على استدراج الرأي العام للترويج للإبداع الإيجابي وتكسير التماثيل السياسية التي ابتلى بها الإعلام والعقل الجمعي لعقود طويلة، على حساب بناة المجتمع الحقيقيون وهم المبدعون وأصحاب الخبرة والاختصاص.
وقد كان من نتائج التفريط، ان المبتكر وجد نفسه في منصات ساحات التظاهر، لا منابر الأحزاب والمؤسسات الحكومية التي كان يتوجب عليها إغواؤه اليها والاستفادة من مهاراته وابداعه.

الأمور تتوجّه الى خلاف مقاصد ترويج الفضائيات والصحف ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي، فما عاد المواطن يعبأ للبهرجة السياسية والإعلامية والثقافية و"الدجّالية"، والدليل ان اغلب الذين يبرزون في شاشات التلفاز من النخب السياسية، و"الاجتماعية" و"العقائدية"، لا يحظى بالتأييد بين التظاهرات التي أصبحت مكيالا واضحا للرأي الشعبي.

على الدولة بكل مؤسساتها، فسح المجال لدور أكبر للنخب الإبداعية، في تقديم حلول للمعضلات، واستقطاب العينات الثقافية والعلمية والادبية والاجتماعية والبحثية الى مشاريع استراتيجية، تخلق فرص العمل، وتضع الحلول للمشاكل، وتبحث في الظواهر، والتأسيس للمعالجات، في عملية انبعاث واسعة للاقتصاد والاجتماع، والصناعة والزراعة والخدمات، فضلا عن ان واجب الأحزاب والتحالفات السياسية يجب ان يركّز على "تطعيم" صفوفها بهم، وتحديث ادواتها بمهاراتهم وخبراتهم.

63
اليمين واليسار في العراق
عدنان أبوزيد
توغِل الحالة السياسية في العراق منذ 2003، في حالة الخصام بين تيار الإسلام السياسي ( المحافظ) والجماعات المدنية التي لا يمكن اطلاق اسم "التيار" عليها الى الان لعدم اطّرادها في جبهة واضحة الأهداف والأدوات والزعامات، فلا زالت محض تشكيلات من متظاهرين نشطاء وكتّاب وفاعلين سياسيين، على عكس جماعات الإسلام السياسي النسقية في أحزاب، وليّة الأدوات المادية في السلطان، والمنابر الخطابية، من مساجد سنية وحسينيات شيعية وتجمعات دينية يصلها المئات إنْ لم يكن الالاف، فيما لم تستطع الجماعات المدنية او اليسارية سوى التحشيد للعصيان المضاد لفترات قليلة في ساحة التحرير، وهو أوج انجاز جماهيري وصلت اليه.
...
لا شك في ان هناك قطيعة تاريخية بين الطرفين. وفي حقبة البعث، تهافت حضور كليهما وتهاوى تحت الضربات، وتمكّن "الحزب الواحد" في ذلك الوقت من استيعاب جماهير كليهما، ففي وجهه اليساري هضم البعث اشتراكيين ويساريين وحتى شيوعيين، وفي
حملته الايمانية، التي أطلقها، أوحى للإسلاميين بانه يستطيع ان يقودهم، وقد كان من نتائج ذلك انه تحوّل الى حزب "ايماني" في سنواته الأخيرة.
...
الاضطهاد الذي لاقاه اليساريون والإسلاميون مقرونا بالقمع العنيف، ترك بصمة قوية على نشاطهم المتخفّي تحت الأرض، بيْد انّ ذلك، لم يشكل تجربة يستفيد منها الطرفان في حقبة 2003، فقد تناسى كلاهما، الاحداث التاريخية، وطفقا في منافسة حادة، إعلامية وتواصلية افتراضية على الأقل، ويمكن انْ تتحول الى حالة من صراع مسلح، اذا ما ادرك الإسلاميون، ان الشيوعيين واليساريين باتوا على نفس القدرة من الحضور والاستقطاب، وأدوات القوة.
...
الأيديولوجية والغلواء في التعبير عنها، تبعد الجانبين عن العمل ضمن السجال المشروع، وضمن النظام الذي يتوجب حمايته، والخشية ان يتحول سباق النفوذ الى الاستنجاد بأدوات التنكيل والقمع المادي والمعنوي، فما انفك الناشطون اليساريون عبر وسائل الاعلام لاسيما منتديات التواصل، يجاهرون بالعداء للجماعات الإسلامية، ويشهّرون بهم، ويعيبون عليهم أفكارهم، "اكثر" ربما مما يفعله الإسلاميون في العراق، الامر الذي ينذر بمستقبل مرير من الصراع.
..
الاستقطاب الحاد يشير الى ولادة جمهور من المتدينين ينبذ المدنيين، ويعدّد مخاطرهم، هذا اذا لم يكفّرهم لاحقا، فيما راحت الصرامة اليسارية التي يمثلها أولئك الذين يوصفون أنفسهم بـ"الثوريين المخلّصين"، يتبنى رؤية أحادية في تفسير الاحداث منذ 2003، تقوم على قاعدة فشل الإسلاميين في الحكم. لكن ذلك لن يستمر الى الابد، فحتى لو ارتفع اليساريون الى السلطة فان أسباب الفشل، ستبقى قائمة، كونها موجودة في اصل النظام والمجتمع، وبنية القوى الاجتماعية المؤثرة.
...
الحالة الإيجابية في العراق هو في استمرار قواعد اللعبة الديمقراطية، على رغم الغطرسة والعجرفة في الاستقطاب الفكري والسياسي بين الطرفين، وقد نتج عن ذلك صراع واضح بين الأسلمة وبين تدجين المجتمع على العلمانية، وقد أدى ذلك الى إعادة انتاج الكثير من الأفكار اليسارية والإسلامية، بطريقة هجينة تكشف تحولات مهمة في المجتمع العراقي لخلق وسطية سياسية وفكرية تنفذ الى التشدد والغلو اليساري واليميني على حد سواء باتجاه الأفكار البراغماتية ووسائلها من دون أدلجة مسبقة.
...
جيلان في العراق:
 نموذج الشباب اليساري الراديكالي، صاحب المزاج الثوروي في نشوة الطفولة اليسارية، والمفتون بأساطير الصراع الطبقي.
اليميني العُصبوي، المتطرف، دينيا،، المنتعش من المراهقة العقائدية .
 


64
سرّ التفوق في الحرفانية
عدنان أبوزيد

تفوّقت أوربا، لاسيما الغربية منها، على غيرها منه الشعوب، في التصنيع الرصين، والابتكار المبهر، واستثمار الأفكار.
وأسست اليابان لحرفانية عالية المستوى عبر تنشئة الفرد منذ الدرس الأول حتى تخرجه من الجامعة، على الاختراع والخلْق، وإتقان الصنعة بطريقة غريزية، في استثمار مثالي للموارد البشرية.

والشخص المحترف، هو ذلك الذي يجيد الصناعة، ويحيق بأسرارها، عبر المعرفة التي يمتلكها، والمؤهلات العملياتية الرفيعة التي يحوز عليها من المران، والتجاريب، والأخلاقيات في ادق تفاصيلها حتى تلك المتعلقة بطريقة التعامل مع الزبون، والالتزام بقواعد ملابس معينة.

يشكل المهنيون في الدول التي ارتقت سلم التطور، النسبة العالية من افراد الطبقة العاملة والمتعلّمة، وفي العادة لا تبرز
عندهم الألقاب، وإنْ حملوا شهادات عالية، لانهم يدركون جيدا، ان العبرة في النتائج، والا فما معنى ان تحمل مسمىً
براقا، وانت لا تتقن ممارسة الوظيفة، ولا تحسن أداء الواجب، وهو امر تكابد منه الكثير من الدول ومنها العراق، حيث
اللهاث وراء المسميات الاكاديمية الشكلية واتخاذها سلما للمنصب والراتب الأعلى، فيما الواقع لا يُفصح عن مهنية لدى البعض من حامليها، ولا إنجازا ماديا، أو مهارة يُعوّل عليها.

قواميس العمل الغربية، لا تصنّف حاملي الشهادات العالية، ضمن الفئة المهنية الا إذا رافق ألقابهم، البرهان العملي لا التنظيري، ذلك ان كتابة الأفكار على الورق لن يكون المقياس، وتأليف النظريات، لن يجدي نفعا ما لم يؤتي ثمارا،
ولهذا السبب يقود المهنيون، المجتمع، حتى في مجالات السياسة والاقتصاد، ويصعد الى مركز القرار، ذوو القدرات
على التنظير والتطبيق.

وفي الجامعات العريقة، فان دور الأستاذ لا ينحصر في إعطاء الدروس للطلبة، بل ربما قضى جلّ وقته في مختبرات التجارب، وفي المصانع لتقديم الاستشارات، وفي مراكز البحوث للوصول الى نتائج عملية مبرهنة للافتراضات.

لا تأتي المهنية عبر التدارس النظري فحسب، بل يُشاء لها ان تستمد روحها من الحنكة العملية، حتى في مرحلة الدراسة للأفراد، الذين لا يتخرجون من الجامعات والمعاهد، أشخاصا نظريين بمسميات، فحسب، بل افرادا عمليين مارسوا العمل والابتكار والانجاز في المختبرات ومراكز التطبيق، وبين المجتمع.

تنتشر في العراق، المئات من الجامعات، التي تٌلقّن فيها الدروس بطريقة بصرية بحتة، وازدحمت الساحة بالألقاب
"العلمية"، ويألّف الطلاب في كل عام، مئات الآلاف من الاطروحات التنظيرية، التي لا تتعدى كونها تلفيقا لمقالات ومعلومات، ونظريات، وكل ذلك من اجل الحصول على اللقب، وليس من اجل وضع النظرية على سكة التطبيق، بل
ان رسالة الدكتوراه او الماجستير، سرعان ما تُركن على الرف حتى من قبل حاملها.

العكس يحدث تماما في الدول المتقدمة، ذلك ان المدارس المهنية تخرّج مئات الآلاف من الطلاب سنويا، من مبرمجين
وصناعيين، وحرفيين، يبنون البلاد، ويوفرون الخدمات، ويبتكرون المشاريع، ومن دون القاب، ورسال شكلية، فيما يضيع الإنجاز المهني في المدارس والمعامل والمتاجر، والدوائر الحكومية والمؤسسات الاهلية في الدول المتخلفة. وانسحب ذلك على استئمان الفرد بالموظف الحكومي واستاذ الجامعة والمدرس والمنتوج الوطني، بسبب تغييب معايير الجودة في الخدمة.

يتجاوز معنى الحرفانية الى ابعد من توظيف الفكر في الواقع، الى القدرة على ابتكار أساليب الإدارة، و تسهيل أمور المراجعين والارتقاء بآداب الوظيفة والالتزام بها، وهو امر لازالت بيئة العمل العراقية، تعاني منه.

يقول مدير الموارد البشرية في شركة مابل هوليستيكس: "الحرفانية علامة على الموثوقية والمسؤولية".

الأمة صاحبة الإنجازات العلمية والاقتصادية والرقي الاجتماعي، لا تركن الى التنظير، وتفريخ الشهادات، والتسميات الاكاديمية الشكلية، ولا تعتمد في مصيرها على المدّعين المعرفييّن، او الذين اوصلتهم الى مراكز القرار، المحسوبية والمنسوبية والعلاقات، بل على الاحترافيين العمليين، القادرين بشكل عملي ومبرهن على الابتكار والانجاز، حينها تدور
عجلة التطور، الجامدة بسبب مقودها المُدار من قبل طارئين على القيادة، الذين يتقمصون شخصيات "مهنية" و"اكاديمية" لا تمت لهم بصلة.

65
المنبر الحر / الثقة السياسية
« في: 20:10 28/02/2020  »
الثقة السياسية
عدنان أبوزيد 

ديمومة الأزمة في العراق، تستدعي استعراض أسباب فقدان "الثقة السياسية" بين النخبة والمحتجين، حيث التصعيد الإعلامي لاسيما الموجّه من الخارج، يوسّع الهوّة، ويعقّد حتى "الثقة السيكولوجية" بين المتظاهرين انفسهم ومع دولتهم، بسبب تراكمات المحنة التي بدت مفتوحة على كافة الاحتمالات.

"الثقة السياسية"، مفردة ليست جديدة، في ادبيات علوم السياسة، وقد اشارت لها الأمم المتحدة في مؤتمرها حول "بناء الثقة في الحكومة" في فيينا العام 2006، معتبرة انها نتاج "التوافق في الآراء بين أفراد المجتمع والنخب السياسية حول الأولويات في البرامج، ونمط الإدارة الحكومية، والتفاعل الإيجابي بين المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية".

فيما يتعلّق بالعراق، فان المتصوّر ان بنية المجتمع العراقي، الدينية والاجتماعية، تتيح الوشائج المنسجمة بين النخب والمجتمع، ما يجعل من عملية بناء "الثقة السياسية" ممهّدة، لكن الذي يحدث هو النقيض، اليوم، لأسباب شتى، بينها،
أسلوب توزيع الثروة، ورأس المال الاجتماعي، وأسلوب مشاركة الموطن في السلطة، التي ترسخت منذ ٢٠٠٣ عبر
ديباجات المحاصصة السياسية والطائفية، فضلا عن الفساد، واضمحلال الدور المؤسسي للدولة، واستشعار الفرد بانها غير قادرة على استيعاب طموحاته.

لا يمكن تجاوز الازمة، الا من خلال استرداد "الثقة السياسية" أولا، بين جوانب العلاقة، كمدخل لاسترجاع "الثقة النفسية" و"الاجتماعية"، عبر إرساء منظومة جديدة من التجاوب الخلاق، بين الافراد ومؤسسات الدولة والأحزاب، وتدعيم ثقافة الثقة Trusting Culture.

يستطيع المواطن "الواثق" بالدولة، ان يتعامل حضاريا مع أي اختلاف، وحتى في الحالات التي يتظاهر، او يحتج فيها،
فان اعتراضه سيكون إيجابيا، نحو البناء لا الانتقام من الدولة والواجهات السياسية بالتخريب والحرق، لان مثل هذا الفرد
المتيقّن، يدرك جيدا ان دولته بنظامها الديمقراطي، يمكن ان توصله الى مركز القرار والسلطة، يوما ما، وان عليه- وفق ذلك-، ان يديم المؤسسات، ويجاري آليات المعارضة السلمية.

المواطن اليقيني، يتحمّس للتظاهر، قدْر اندفاعه الى التشارك في الجمعيات الخيرية، ونبذه الافرازات الطائفية والقومية، واحترامه الأقليات الاجتماعية والسياسية، وتفاعله بإيجابية مع كافة أنماط الفعاليات المجتمعية وتسامحه معها، حتى وان تباين معها في الأساليب والاهداف.

لكن كيف يمكن ذلك؟ المسالة ببساطة تعود الى "الثقة السياسية" حين يدرك الفرد، ان برامج الحكومة تلمس الحاجات المجتمعية، وتستجيب لها، وحين يؤمن الفرد بذلك، يتسامح معها حتى في حالة عدم قدرتها على تلبية بعض تلك الضرورات، لأنه يدرك جيدا انها تسعى الى ذلك، وانّ ظروفا مركّبة، حالت دون التنفيذ.

على العكس من ذلك، فحين ينتبه الفرد الى ان الحكومة منفصمة عن الواقع ولا تدرك التطلعات، فانه يعرض عن
التأييد، بل ويحاول عدم الامتثال للقوانين والبرامج الحكومية، بعدما يصل الى حالة من التقييم السلبي للسياسات العامة، معتبرا ان الطبقة السياسية التي تمسك بالقرار، غير قادرة على توجيه المسارات الى الأهداف المرغوب فيها.

لا يتأتّى السخط الشعبي من انعدام الخدمات وتردي الواقع الصحي والاجتماعي، والبطالة، فحسب، فثمة ظروف قاهرة
تتسبّب في ذلك مثل الحروب، ونقص الموارد، لكنه يولد أولا من ذلك الشعور الجماعي من ان الأحزاب والطبقة السياسية
والاقتصادية غير قادرة على الإدارة او انها مشغولة في تعزيز مصالحها، وتتجاوز مشاعر البغضاء الى ابعد من ذلك فتصوّب أهدافها الى مؤسسات الحكم والنظام، ما يجعل من الشرعية السياسية، في حالة من الارتياب، تقطع الجسور بين
النخبة الحاكمة والشعب، ويترنح الاصطفاء السياسي.
 
لا مفر من الحقيقة، في ان "الثقة السياسية" هي المبدأ في الاستقرار، والتي تؤسَّس على لبنات العلاقة بين الوعود والتنفيذ، باستجابة صاحب القرار لحاجات المواطنين قبل اصحاب الوظائف السياسية والحزبية الرفيعة.
 

 


66
فلسفة المتظاهر العراقي


عدنان أبوزيد

تبصم تظاهرات الاحتجاج، على كتاب العصر العراقي الجديد، الذي بدأ العام 2003، كفعالية مجتمعية عدمها المواطن طيلة عقود قبل ذلك التأريخ، لتكشف عن حرية في الرأي، وحراك معارض، يغيب عن الكثير من الدول الإقليمية المجاورة.

وليست مسيرات تشرين أول/أكتوبر، الاحتجاجية بمستحدثة، اذ انطلقت قبلها المئات من التظاهرات في جنوب البلاد وشمالها، وغربها وشرقها، حتى قيل ان العراقيين أدمنوا الاحتجاج الذي يعرّفه قاموس أوكسفورد الإنجليزي، بانه فِعل أو إعلان عن اعتراض على سياسة، أو مسار عمل، أو إدارة سلطة.

المعارضات العصرية التي تستعرض في الشارع، تطورت في دول العالم الى مفاهيم ونظريات، وهيئات جديدة خلال العقدين أو الثلاثة عقود الماضية، ذلك ان الاحتجاج من قلب لندن الى باريس، الى واشنطن ونيويورك، و شوارع البرازيل التي احتضنت الشعب ضد الحكومة، بات يعتمد على الكتل البشرية الهائلة، لا الطلائع والقيادات التي توجّه الدلالات والشعارات، وقد تجلّى ذلك بنسخة واضحة في ثورات ما يسمى "الربيع العربي" حيث المعارضون يعوّلون على الهيجان والثوران العفوي، وعلى استمرارية وثبات زخم الاحتجاج، كما لم يعد التظاهر مؤدلجا، يحتكره حزب أو رهط معين في المسمى والتصنيف والتبويب، وصار البعض يلمح في الحشود الهائلة، تعبيرا بالضرورة عن الرأي الجمعي، حتى وإنْ لم يشارك جميع الشعب فيها.

فضلا عن كل ذلك، فانّ اغلب التظاهرات تبدأ ارتجالية، تلقائية، لدوافع مختلفة، فيما مأزقها في النهاية، وفي اغلب الاحتمالات، يكمن في محاولة جهات توظيفها نحو غايات ومصالح، وتحويلها الى وسيلة للانتصار على الخصم، بل واستقطابها إعلاميا من دول، ومن ذلك ان جريدة الغارديان البريطانية، اختارت المتظاهر العربي، شخصية العام 2011.

تظاهر العراقيون في العهد الملكي، سياسيا، بشعارات انقلابية، وفي حقبة النظام السابق، كان الحزب الحاكم هو الذي يسدي مشروعية التظاهرات، التي ما كانت لتخرج لولا الشعارات المؤيدة له، اما المعارضون فيعبّرون عن آرائهم بالصمت والخوف، فيما الحاضر يشهد مسيرات، اغلبها مطلبية في تحسين الخدمات وتوفير فرص العمل، حتى كشفت تظاهرات أكتوبر، عن محيا سياسي، يسعى الى التغيير الجذري في طريقة إدارة البلاد.

يسود الرأي القائل، بان على التظاهرات العراقية، ان تبتعد عن التخريب، والتعطيل للحياة، وان تعزل نفسها عن دعوات العصيان المدني، ذلك ان سَحَرة الفرص يسعون الى منفذ لتحقيق شروط فوضى لا خلاّقة، تتقصّد الدولة بالكامل، وذلك بتوظيف الشكاوى التراكمية، وتحويلها الى إشكالية مركبة، بين المتظاهرين والحكومة، يصعب فك عُقدها، وهو ما حصل في فنزويلا وكرواتيا، حين تلاشت إرادة التظاهر في صراع الدول.

لكي تتجاوز الحالة الاحتجاجية، التوظيف المقصود لأهداف وغايات دول ومشاريع ومراكز قوى، فان الحاجة ماسة الى التنظيم الذاتي للاحتجاجات، وان تستتب على حالة من الثقة، وان تتصرّف في سن الرشد، وليس المراهقة السياسية، والحماسة الثورية، الطارئة.

يتّفق الكثير، على ان العراق يشهد تحولا تاريخيا في نوعية التظاهر واشكاله، وقد نجح في تسويق شخصية احتجاجية الى دول العالم، متصدرا قائمة تاريخ الاحتجاجات العظيمة، وزعماؤها من إميلين بانكهورست في الذود عن حقوق المرأة في التصويت مع حق الاقتراع، الى غاندي زعيم حركة الاستقلال في الهند، الى مارتن لوثر كينغ، وهو يقود مسيرة واشنطن في العام 1963، الى نيلسون مانديلا في الانتصار على الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وبعيدا عن رموز الاحتجاج الفردية، المشكوك في شرعيتها  مثل حالة إدوارد سنودن، الذي احتج على سياسات بلاده بتسريب تفاصيل برنامج التجسس إلى الصحافة، في فعل يضرّ بالدولة.

 
 

 

67

أفول المثقف في الأزمة

عدنان أبوزيد

تُوجّه الانتقادات مرة أخرى الى المثقف العراقي، لغياب دوره في أزمة التظاهرات، والملزِم الوطني الذي يحتّم عليه، في التبصير والإرشاد، وحساب أرقام الحل، سواء للمواطن أو لأصحاب القرار.
ليست هذه هي المرة الأولى التي ينسحب فيها دور المثقف الى الخلف، في الأحداث التاريخية الكبرى، والذي لم يقْنص في المناخ الديمقراطي في العراق، - لا يتوفر في البلدان المجاورة- ، فرصة لتوثيق دوره وفرض رؤيته على الاحداث، عدا التدوينات التنظيرية، والإسقاطات التسطيحية في التحليل.
الراصد للفعاليات الكتابية والمعالجات من قبل الكتّاب والمثقفين العراقيين، يرى ذلك الأفول، جليّا سواء في آصراتهم
مع النخب، من أجل تداول الحلول، او مع المتظاهر في ساحات التحرير، للنزول الى طرائق التفكير وتوجيهها، واستيعاب سلوكيات الاحتجاج وإنماؤها الى الأسلوب المتمدّن والمتجدّد.

وعدا الفضائيات التي عاقرت التحليل السياسي الخاطف من قبل محللّين يخلعون مفاهيمهم وطروحاتهم على الحدث في عجالة، انحسرت بصمة المثقف العراقي على الاحداث، وكان يمكن ان يكون له دور بين المتظاهرين في فرض قيادته لها، بدلاً من تسليمها بيد الارتجالية، والفوضوية التي سعت اليها اطراف طارئة، على ساحات التظاهر، وتروم توجيهها الى غير مقاصد المتظاهرين الحقّة في الإصلاح، وتحسين الأوضاع.

يقود هذا القصور الى السؤال عن دور أولئك المثقفين والكتاب الذين يضعون أنفسهم في خانة "الكبار"، فيما الواقع
يشير الى انهم أصبحوا "صغارا" أمام جدّية الحدث، وتعلّق مصير الامة العراقية بنتائجه.

ما يزيد التعييب لأولئك، انّ الكاتب العراقي حرّ، ولديه من النوافذ أضعاف مضاعفة، عما تتوفّر عليه الدول الأخرى، لكنه يافع التأثير على الحدث بشكل واضح.
لا شكّ في ان الكاتب الكبير هو الذي يتماهى مع الواقع، ويرتقي اليه، ويفصح عنه، وصاحب مجسّات تعتمد عليها
النخب في القرار، والمواطن في السلوك.

الذي يحدث هو النقيض تماما، ذلك ان النوافذ الإعلامية والثقافية، والفضائيات، التي تضم طواقم إعلامية وثقافية،
وتحليلية، فشلت في هديّ المواطن، وهو يتظاهر، وقبل ذلك اثبتت إخفاقها في قطف ثمار أطروحاتها السياسية والثقافية
التي وجّهتها الى الشعب لسنين طوال.

كشفت الازمة عن ان الشعارات التي يرفعها المواطن هي على العكس تماما من التحليلات، والاستشرافات في المقالات
والخطاب الإعلامي والتحليلات، كما أفشت عن ان الكتاب والإعلاميين الذي يعهدون أنفسهم أسماءً لامعة، يحرصون على البقاء في المنطقة الرمادية في اتخاذ الموقف من الأزمات الكبرى، منتظرين تداني النتائج لكي يوجهوا بوصلتهم نحو الجهة المنتصرة، في سلوك وصولي ومُتاجِر يكشف عن إجادتهم لعبة الهروب من الموقف الصادق، وتوفّرهم على مهارات المناورة في اللحظة المناسبة.
 
الإعلام الكبير، والقلم الجبّار، هو الذي يستجيب مع الواقع، ويستشعر الناس نبضهم فيه، فيتفاعلون معه، ويستجيبون لطروحاته، ويصدّقون منشوره، وهو أمر في غاية الاعتبار، لأنه يقصي المجتمع عن الانفعال في الاعلام الخارجي المسيّس الذي يسعى الى تحقيق الاجندة الممولة له.
للأسف، فانّ ما يحدث اليوم هو الضد، اذ بات للكتابات والطروحات والرسائل الموجّهة عبر الحدود، التي تمارس النقد المسيّس، زخم أكبر من مثيلاتها في الداخل.

انّ تحريف الأوضاع في العراق، ونشر التدليس سواء حول التظاهرات، أو الجهات الحكومية والأمنية، ينتشر بشكل واسع، عبر أقلام مسيّسة، تُظهر أقساط الحقائق، وترّوج لتمويه الواقع، في رسائل، الغرض الأول منها زعزعة الوضع، وايصاله الى درجة اللا عودة، للإجهاز على الدولة بالكامل.

يبقى الخطاب العظيم، والكاتب الحر، هو في النزول الى الميدان، بأدوات مختبرية تهندس الرأي العام، لا العيش في بوهيمية التحليق في الخيالات والتنظيرات.

68
العراقي يتهافت على السياسة ويترك مهنته "الحقيقية"!

عدنان أبوزيد

واحدة من مظاهر التحول السلوكي، الذي تسْتَشرِفه المعالجات، هو الاهتمام الجمعي بالمنصب السياسي، وتزايد الظفر
به في الديمقراطيات الموتورة، وهو ما يؤشر عليه كتاب "لقد تغير العالم (ص 322)"، الذي يتحدث عن قواعد بيانات متشاكلة تفيد بانه حتى في الديمقراطيات الصناعية المتقدمة، فان ثمة رصد لحالة الاهتمام بالسياسة وصراعاتها للوصول الى وضع مثالي في إدارة الحكم، فيما الانتقال الديمقراطي في بلدان العالم النامي، يؤدي إلى الولع بالمنصب السياسي، بدوافع الجاه، والنجومية، كما في ديمقراطيات العراق وبعض الدولة العربية، وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية.
 
تُوجّه الانتقادات الى السياسيين وممثلي الشعب في العالم الثالث، بأنهم في الغالب، منتوج عملية انتخابية "غير راشدة" تروّعت بها شعوب لا تمتلك القدر الكافي من التربية والتعليم، وتؤثر عليها العوامل الاجتماعية مثل العشائرية، والطائفية، في كيفية تجعل من المنصب، وسيلة للتسلط والإثراء.
 
من الظواهر الجديرة بالملاحظة، ان العموم يحصر السياسة بأداء الحكومة والأحزاب، وهذا صائب، لكنه ليس الحقيقة كلها، ذلك ان الصوت الذي منحه المواطن للحكومة، هو سياسة أيضا، وهو الذي يتجشم مسؤولية أي قانون يُسنّ .

السبب الآخر الذي يجعل الفرد يلتفت للسياسة، هو ضرورة ان يكون له رأي فيما سيحدث، ولن يكون من العدل التخلي
عن رأي شخص ما، في الديمقراطيات العادلة، لان كل صوت يُحدث فرقا في مستويات النفوذ، ويحول دون نفاذ
الشخص غير المناسب الى المكان غير المناسب، لكن هذا ما يحدث في الديمقراطيات ذات العود الليّن، اذ ان المواطن نفسه لا يجعل لصوته قيمة، ويفترض الانتخاب، عملية روتينية، وعبثا.

الرصد في الحالة العراقية، يشير الى ان المنصب السياسي، يصبح الوسيلة الأنجع إلى الطموح والغاية، ما يدفع الى مغادرة الوظائف والمهن، جريا إليه، عبر الانتخابات، أو بواسطة الفرص والعلاقات، في حركية لا تبدو تلقائية.
الطبيب يهجر عيادته، ممارسا السياسة، والمهندس يجهد ويجاهد لأجل منصب سياسي، ورئيس العشيرة، يعزز إمكانياته لاستكمال نفوذه العشائري بمنصب حزبي، أو نيابي.
الإعلامي، الذي يمتلك الوسيلة، لإيصال الصوت، والتعبير عن إرادة الناس، ينصرف عن إبداعه، الى المنصب النيابي او الحكومي.
الفنان يترك اشتغالاته، في الابداع، ويتصارع على منصب في النقابة، والبرلمان.
الملاكم العراقي، ربما يلاكم داخل الحلبة على أمل الفوز، بكرسي الاتحاد..
 
على هذا النحو، تجري الأمور ليتحول الأفراد الطامحون لو اتيحت لهم الفرصة، إلى مسؤولين إداريين وسياسيين، ضاربين هواياتهم وانشغالاتهم وإبداعاتهم، عرْض الكرسي المأمول.
 
 الشعوب، تحتاج الى الإداريين المهنيين، كل من موقعه، قبل السياسيين والنواب، ولعل هذا أحد أسرار نجاح الغرب، اذ لا وجود للمكتب الفاخر الذي يجلس في وسطه مدير متجبّر، ولا تأثير للمنصب على قيمة صاحبه بين الناس.

في الديمقراطيات الصورية، يحدث العكس، اذ المفترض أن يتحول السياسي الى مستخدم للنخب العلمية والثقافية، مشرّعا القوانين والأنظمة التي تسهّل الأعمال، لكنه بدلا من ذلك، يتحول الى رمز للاستغلال والمقام والامتياز.

متى يصبح السياسي مثل حال المعلم والمدرس والطبيب والمهندس، عندها تنحسر الرغبة الى المنصب، وسوف يقود ذلك، أصحاب الاختصاص الى المشاركة العضوية، في الوزارات والمؤسسات، فيما يعبّد السياسي الطريق لهم بالقوانين والتشريعات.

سرّ الاهتمام الزائد لدى المواطن بالسياسة، ناجم عن اعتقاد سائد بان الإنجاز والمجد لن يتم الا حين يصبح المرء سياسيا، بل وانتهازيا، وحين يُعتقد أن المنصب امتياز لا مسؤولية، وحين يشعر صاحب الاختصاص انه مُهان، ليلجأ الى السياسة التي أصبحت مهنة من لا مهنة حقيقية له.
 

69


عدنان أبوزيد

اندلعت التظاهرات المطلبية في العراق، كحالها في البلدان الأخرى، حيث يسعى المحتجّون الى إيصال صوتهم الى السلطات، لكن الاستثناء الذي يميّز حالة الاحتجاج العراقية، هو الخطاب التحريضي، المتلاعب بأفكار الناس لغايات سياسية و"التطلع الخارجي"، الساعي الى انزلاقها نحو العنف المتبادل، كما دلّت على ذلك، الأرصاد الإعلامية.

 

كان المواطنون على حق، وهم يطالبون بالحد من الفساد وتوفير فرص العمل، وتعزيز الخدمات، وهي مطالب تتميّز بها

كل الفعاليات والحركات الشعبوية في العالم، والتي في الغالب ترفع الشعارات من قبل الناس العاديين ضد النخب،

كما حدث في فرنسا وهونغ كونغ، على الرغم من ان هذه الدول تتمتع بمستويات اقتصادية واجتماعية تفوق العراق.

 

أستطيع القول، ان حركة الاحتجاج العراقية، هي جزء من ظاهرة شعبوية عالمية، معروفة الأهداف في العمل على

توليد تغيير في البرامج الحكومية، السياسية والاقتصادية، كل حسب بلده ومجتمعه، حيث يصنف الشعبويون في الغالب، النخب النافذة بأنها منفصلة عن معاناة الناس، وانّ لا مفرّ من الإصلاح.

 

وفي العراق، يزداد الأمر تأزيما، ذلك انّ المسيرات المشروعة المطالبة بالحقوق والخدمات، يتخللها خطاب من جهات متعددة، تسعى الى بلوغ حالة من هستيريا احتجاج غير منتجة، وصولا الى الثقة الصفرية بين الشعب والسلطة. 

 

وساعدت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام الخارجي، على اتاحة المجال الى خطاب تأليبي، يزيد من المهواة بين الطرفين، ويجعل منهما عدوين متقابلين، لابدّ لأحدهما ان يصرع الآخر.

وانتبه الكثير من الشباب العراقي الى ذلك، حيث الخطاب الشعبوي يتحول الى نبرة عنفية، محذرين من الانزلاق الى فوضى التظاهر المسلح.

 

التجارب تفيد، ان التحركات الشعبوية، التي تفضي الى تجمعات واسعة، يجب ان تكون محترزة من استدراجها الى مستنقع الاقتتال البيني، ومن ذلك ان خطاب دونالد ترامب في حملته الرئاسية والذي فاجأ فوزه فيها الجميع، وحمل بشائر الشعبوية اليمينية، صاحبه التحذيرات من حرب أهلية أمريكية. وفي روسيا لاحت ملامح العنف في مطالبات تحرير الفلاحين الروس 1870. والتزم الشعبويون احتجاجات الريف الأمريكي ضد البنوك والشركات الرأسمالية. وقبل كل ذلك، كانت اثينا منبرا اعتلاه الشعبويون من أمثال "كليون"، ضد ديموقراطية اليونان النخبوية، وما خَلّفَتْهُ من فوضى.


 

 أوليفييه ايهل، خبير الأفكار السياسية في معهد العلوم السياسية في غرونوبل، لا يستغرب من كون العنف، او التطرف والحدّية، صفة من صفات الشعبوية، بعد ان وضع لها التعريف بانها "الوسيلة الجمعية للتنديد".

كما يندرج تحتها مفردات مثل "الحمائية" و"كراهية الأجانب" و"الفضائحية"، و"الشعور بالإحباط والدونية"، وكل هذه الوصفات والشعارات، تبنّتها حالة الهيجان العراقي في تشرين أول /أكتوبر 2019.

 

يبدو الخطاب الشعبوي في التظاهرات العراقية، معبرا عن مطالب الطبقات الفقيرة، ويركز -  كحال الخطابات الشعبوية في العالم - على انتقاد الخطط الحكومية، والقوى السياسية، وداعيا الى تحسين الأوضاع. ومقارنة بحركة السُتر الصفراء الفرنسية التي شارك فيها افراد كثر من الطبقات الوسطى، فان كلا الحالين، انزلقا الى بطش غير مسبوق، بل ان الحالة الفرنسية شهدت الاعتداء على المتاجر، والمرافق العامة، والمعالم الباريسية.

في النمسا، فان الشعبوية التي قادها حزب الحرية، كانت اكثر وطأة في العنف لكنها، لم تكن أقل مستوى من حدية الشعارات.

أيضا، فان الحالة العراقية، والفرنسية، فرغت من النخب الشعبوية الكاريزمية التي يمكن تصنيفها كزعامات، يمكن للسلطات التحاور معها، لوضع حد للازمة، وبسبب هذا الغياب، تتحدد خواتيم غير معروفة وغير محسوبة لكل من المتظاهرين والسلطات.

 

لا يغامر المعنيون، الشك، في ان الشعبوية العراقية سوف تكون صاحبة الدور في صياغة المرحلة القادمة، كاستحقاق طبيعي لصعودها العالمي، ولأن دولا سبقتنا الى ذلك، يتوجب الاستفادة من تجاربها في تعزيز المسار الديمقراطي، والتأسيس لنظام وظيفي واجتماعي واقتصادي، يستعيد الثقة بين الجماهير والسلطة، بعيدا عن ديماغوجيا التشويه لكل من التظاهرات والنظام السياسي على حد سواء.

70

أوربا لا تنام حتى تطمأن على مجسّات الفقر.. لماذا؟ 
عدنان أبوزيد
 
اندلعت الاحتجاجات في العراق، وكان أحد أسبابها البطالة، والفقر. في مقالي السابق استعرضت وسائل الدول المتقدمة في الحد من البطالة، وكيف تتزاحم الحكومة ومؤسسات الدولة على خفض معدلاتها، لما لها من خطورة شديدة على الاستقرار.
 
في الدول ذات التجارب الناجحة، لا تقل جهود محاربة الفقر، عن مثيلتها في توفير فرص العمل، كما انّ الاحصائيات الدقيقة عن معدلات الفقر، والمراصد الحية التي تقيسها، والمجسات التي تستقرئ خطورتها، على درجة من الاعتبار، لتأمين قواعد بيانات لبرامج التصدي لهذه المشكلة الاجتماعية.
 
يحدث كل ذلك، على الرغم من ان أطوار الفقر في دول أوربا الغربية – مثالا لا حصرا- ليست في حالاتها الدنيا، والفقير فيها "متمكّن" من الحصول على لوازم الحياة الأساسية، فيما ينحصر الاكتراث بتوفير متطلباته التي تعزز العيش الكريم الموجود أصلا، وتساعد المعوز على ابتكار الوسائل وتمكينه من انتهاز فرص العمل، لكي يتخلص نهائيا من اعتماده على رواتب الضمان الاجتماعي التي توفرها الدولة له، فضلا عن ان المحتاج في الدول الغربية، يمتلك السكن والضمان الصحي، والراتب، ومع كل ذلك ينال من الاهتمام والرعاية، الشيء الكثير، فيما "فقير" الدول النامية ومنها العراق، يجسّد الحرمان بمعناه الحقيقي، ويعني الانسان المعدم الذي تجسّده صور في الشحاذة والسؤال في الطرقات، والنوم على الأرصفة بلا سكن، فيما في الدول الغربية المتقدمة، يدخل في قواميس الفقر حتى أولئك الذين لديهم رواتب شهرية، ولا يعانون من الإملاق، ولديهم السكن اللائق، لكنهم يشتكون من ديون لا يقدرون على سدادها، وقس على ذلك.
 
أحد أسباب الفقر في العالم هو تمركّز الثروات بين فئة قليلة من الأشخاص، ووفق تقرير لمنظمة أوكسفام الدولية فإن نحو ثماني دولارات من كل عشرة دولارات جنيت العام 2017 ذهبت إلى 1 في المائة من البشر، وهم الأغنى في العالم.
هذه الأمر يجب ان تنتبه له الحالة العراقية، وان تعمل الجهات المختصة على التقليل من الفروقات في الدخل، طالما
ان العراق يمتلك اقتصادا ناميا ويسعى الى تجربة تنتفع من أخطاء التجارب التي سبقته لاسيما تلك التي شيدت دول الرفاه في العالم لاسيما دول أوربا الغربية ذات الاقتصاد الرأسمالي الناجح الذي وظّف اقتصاد السوق بطريقة اشتراكية، وناجز الفقر الفاحش، والثراء الفاحش على حد سواء بواسطة تشريعات تضمن توزيع الثروات بصورة عادلة، وهو قاعدة غابت عن التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في العراق، منذ عقود طويلة، حيث التفاوت الكبير في معدلات الدخل، بين من يتقاضى دخلا يصل الى نحو الأربعة الاف دولار شهريا، على أقل التقديرات، ولا يدفع ضريبة عليها، ومواطن لا يزيد دخله على المائتي دولار.
 
أرقام مكتب التخطيط الاجتماعي والثقافي (SCP) في هولندا، تفيد بان الفقير في البلاد، هو الفرد بمعدل دخل بنحو 1135 يورو، و للزوجين دون أطفال هو 1555 يورو وللأزواج الذين لديهم طفل واحد 1850 يورو، ولك ان تتأمل معنى "الفقر" الذي يبدو "رمزيا"، في هذه البلدان.
 
كتاب "السياسيون والصراع ضد الفقر"، لمؤلفيه "جيمس مانور" و"نجوجونا نجيتي" و"ماكوس أندري ميلو"، يفصح عن حقائق مرعبة عن أرقام عن الفقر في العالم، اذ لم يزل 783 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر الدولي المحدد بـ1.9 دولارا يوميا، فيما عُشر سكان العالم وأسرهم كانوا يعتاشون على أقل من 1.9 دولار يوميا في العام 2016.
 
العراق الذي يواجه احتجاجات الفئة المعدمة، والشباب العاطل، يجب ان يحزم أمره في منهج الشفافية، وتحسين إدارة الموارد وتنويعها، والابتعاد عن البيروقراطية في التعامل مع الفقراء وتعقب مصادر الفساد، الذي يعد الآفة الكبرى المضيعة للأموال في الدول التي تفتقر الى نظام محكم. 
 


71
العاطلون في دول الرفاه

عدنان أبوزيد

لا تقلق دول أوربية على شيء، مثل قلقها على ارتفاع معدلات البطالة، حتى إذا تفاقمت أُعلِنت حالة من طوارئ، تُستنفَر فيها المؤسسات وخبراء التخطيط ومكاتب العمل والحكومة، من اجل خفض المعدل، وبأسرع ما يمكن، لإدراكها انّ لا أمر أخطر من ذلك، فهو حين يستفحل بين الافراد، يهدد استقرار المُجتمع، على الرغم من انّ العاطل عن العمل في دول الرفاه مثل السويد وألمانيا وهولندا والدانمارك، يحصل على معدل دخل كاف، فضلا عن دعم السكن، والتكاليف شبه المجانية للضمان الصحي والاجتماعي.
 
لا يقتصر عمل الحكومة وأذرعها، ومنظمات العمل المستقلة على إيجاد فرصة عمل جديدة للعاطل، بل تسعى الى إعادة تأهيله من جديد، عبر الدورات الفنية والدراسية من جديد، واكمال تحصيله الدراسي، إذا كان معوزا الى ذلك.

ومنذ اليوم الأول لانفصال الفرد عن العمل، تتدفّق عليه الرسائل من البلدية، لبحث فرصة إعادة تأهيله للشغل، إذا كان وضعه الصحي، يؤهله الى ذلك.

تُنفق الحكومة أموالا ضخمة من أجل ذلك، فيخضع العاطل الى منهج تدريب واختبار مهارات، وفحوصات نفسية، ويُبحث في أسباب طرده من العمل، أو تركه له، من أجل إعادة زرعه في بيئة توظيف تلائم وضعه النفسي والصحي، وحتى ثقافته الاجتماعية، وفي بعض الأحيان حتى معتقداته الدينية.

لا ينحصر هذا "الدلال" للعاطل عن العمل، على ذلك، فهو طوال فترة مكوثه في البيت يحصل على الراتب الجيد، فضلا عن كل المميزات الأخرى التي يحصل عليها المستمرون في وظائفهم.

وقد وصل الحد في هذا الترف، انّ مجلة ألمانية كشفت في آذار 2018 عن أن العاطلين عن العمل في ألمانيا يحصلون على دخل أكبر من العاملين أنفسهم!. ووفق المجلة فقد تبين، انّ عائلة العاطل عن العمل تدّخر، في بعض الأحيان، فائضا من المال في آخر الشهر، يفوق ما يحصل عليه العامل المسؤول عن نفس عدد أفراد الأسرة، وبمعدل دخل شهري لا يقل عن 2540 يورو، قبل اقتطاع الضرائب، لتغطية احتياجات عائلة بهذا العدد.

لا غلواء في ذلك، فهذا الامر يحدث في هولندا وفنلندا والسويد، وبقية دول الرفاه، مع عدم نسيان، ان النساء في هذه المجتمعات يقفن على رأس قوة العمالة، حيث يمثلن قوة اقتصادية هائلة الى جانب الرجال.

فضلا عن كل ذلك، فانّ الأطفال يحصلون على رواتب منذ ولادتهم، تصل الى نحو الـ300  يورو للطفل كل شهر،
ولك ان تتأمل عائلة عراقية وفدت الى هذه الدول ولديها خمسة أطفال، فكم يكون معدل دخلها؟.
 
دعونا من الامتيازات، فالحديث يدور عن البطالة، ذلك انّ الشاب الذي يكمل دراسته ولا يجد عملا - وهو أمر نادر الحدوث-، يحصل على مدخول بمقدار المخصّص للعاطلين عن العمل أيضا، فلا يعاني من مشاكل حياتية على الإطلاق.
 
في النتيجة، فانّ القول بانّ هذه الدول توفّر لكل فرد في المجتمع، العيش الكريم، ليس بجديد، ليطلّ السؤال الذي لابد منه: لماذا لا نجد هذا النظام الناجح، على أرض الواقع في بلد يقول عن نفسه، انه غني، مثل العراق؟.

وعلى رغم الوصف الواقعي، بان العاطلين عن العمل في دول الرفاه، "مدللون"، فإنك تجد تظاهرات لهم بين الحين والآخر، ليس لأجل أمر مُلح، بل لزيادة الدخل، او المطالبة بخدمات جديدة.

لا تكفي العواطف والنعوت، والخوالج الفياضة لمعالجة المشكلة، قدر الحاجة الى التخطيط والإدارة الناجحة التي
تبني المشاريع الصناعية والتجارية والزراعية، وتوسّع القطاع الخاص، وتضع القوانين الكفيلة بتعزيز الضمان الاجتماعي وجلب الاستثمار وكل ذلك لن يحدث من دون نمو اقتصادي.

 
 

72
ديمقراطيات متعثّرة

عدنان ابو زيد

لا يكفي تبني المشروع الديمقراطي في طروحاته النظرية، إذا لم يجد مسلكا له على أرض الواقع، فتكون نتيجة الفشل
اما فوضى سياسية واجتماعية، وانقسام مجتمعي خطير يصل الى تقسيم البلدان، أو انقلابات عسكرية، تعيد ترتيب
خرائط النفوذ، وتتحكم بطريقة استبدادية في مستقبل البلدان.
حين تجنح الديمقراطية عن مسارها، أو يُساء استخدام أدواتها، فانّ الفرصة مواتية لوصوليين وأفراد غير مناسبين، او متزمتين، يستغلون الميكانيكيات الديمقراطية لتنفيذ مشروع القبض على مقاليد السلطة.

اختبارات كثيرة تبرهن على انّ الديمقراطية تصبح أداةَ خطرة بيد من يسيء استخدامها كما في ألمانيا في الاربعينيات من القرن الماضي، بتسلق هتلر السلطة، على سلّم ديمقراطية قائمة على دستور ليبرالي، واستغلاله الحريات المتاحة وانهيار الاقتصاد واتساع هوة الفقر والفساد، والشعور الشعبي بالخذلان من التعددية السياسية، لتدمير النظام السياسي، وقد سهّل ذلك على الحزب النازي اقناع الناس بان الديمقراطية داء، لينفرد في مقاليد الحكم.

أوصلت الديمقراطية الصربية الرئيس سلوبودان ميلوسيفتش الى الحكم، بعد تأجيج المشاعر القومية، مطلقا حربا من أجل التطهير العرقي، مكرّسا هيمنة الحزب الواحد.

في فنزويلا، كرّس الرئيس هوجو شافيز، سلطة فردية، وسعى الى تعديل الدستور لتأمين رئاسة مدى الحياة.
 
في زيمبابوي، سار الرئيس موجابي على سكة الديمقراطية للوصول الى الكرسي، حتى اذا بلغه صار صاحب الصوت الأوحد في بلاده، مهمّشا دور الاحزاب، ومعطلا آليات الديمقراطية.

الديمقراطية الفاشلة فرصة سانحة للعسكر في الوثوب الى السلطة، كما في تجربة تشيلي. ففي العام 1970 وصل الزعيم الاشتراكي سلفادور الليندي إلى رئاسة تشيلي في انتخابات حرة، لكن الطامحين الى الحكم من سياسيين وعسكر استولوا على السلطة في 1973، وحاصرت دبابات أوغستو بينوشيه القصر الرئاسي بالدبابات، مطالباً الليندي بالاستسلام.

في العراق، لم يكن بناء نظام ديمقراطي بعد الاجتياح الامريكي في 2003 سلسا، إذ كادت الحرب الاهلية الطائفية ثم الإرهاب، أن تفتك بالوليد الديمقراطي. وإذا كانت البلاد نجحت في وأد الخطر، فان الفساد وسوء الإدارة لا يزالان يهددان التجربة العراقية بالفشل، أو في عدم صعودها الى أمام، على أقل تقدير.
 
في لبنان، لم تنجح الديمقراطية اللبنانية في تقديم نموذج ناجح ومستقر، فانزلقت البلاد الى حرب أهلية، وانفتحت الأبواب أمام التدخلات الخارجية، وراهنت الاحزاب على الولاءات الاقليمية، ما جعلها بعيدة الى الان عن مربع الاستقرار السياسي.
 
الديمقراطية التركية، هي أقدم ديمقراطية في الشرق الأوسط، الا انها كانت حذرة من العسكر، ومن القوى الدينية المتشددة، على الدوام. وقد أدى ذلك الى انقلاب مفاجئ على رجب طيب إردوغان العام 2016، وقبل ذلك كان انقلاب 1980 الذي برّر تحركه في فوضى الاقتتال بين الجماعات القومية واليسارية.
وتبدو ديمقراطية تركيا، أكثر نضوجا من غيرها على رغم العثرات، ومن ملامح نجاحها ان إردوغان الذي مُنِع من مزاولة السياسة مدى الحياة بسبب إلقائه قصيدة يقول فيها بأن الإسلام هو مرجعيته، يشغل حاليًا منصب الرئاسة، بعد 11 سنة قضاها في منصب رئيس الوزراء.
 
الديمقراطية الباكستانية، متّهمة بتوفير ساحة لصراع مرير دائم بين الحكم المدني والعسكري، وبين القوى الليبرالية والدينية، لذلك ظلت الدولة على الدوام امام تهديد تحوّلها الى دولة دينية أو دكتاتورية عسكرية.
 
الدول الديمقراطية "الحقيقية" هي أقلية اليوم بين دول العالم، إذ أن نسبتها لا تتعدى ثلث دول العالم، لاسيما وان التجارب تفيد بان الديمقراطية ليست الخيار الأفضل دائما للشعوب التي تمزقها الحروب، وتوجهّها حساسيات مذهبية وقومية مفرطة، ويغيب الوعي عن أفرادها، ويتدنى مستوى التعليم بينهم، فضلا عن ارتفاع نسب الفقر، والمنظومة الاجتماعية القائمة على الاقطاعيات، والفوارق الطبقية، والقوى العشائرية، وغياب ثقافة التعددية وانحسار دور الطبقة الوسطى.

73
المنبر الحر / الحيرة الحضارية
« في: 19:12 25/09/2019  »
الحيرة الحضارية
عدنان ابوزيد

يُرصد خللٌ بين التصورات المثالية، وتطبيقاتها على أرض الواقع، ذلك انّ المقاييس التي بوجبها تُسن القوانين، وتُنظّم الحياة، التي تضع حدا للصراعات الايديولوجية والفكرية، باتت تنظيرية أكثر منها تطبيقية، وهو أمر انتبهت له أمم نجحت في تخطي اخطار الحروب الطائفية والقومية، والكراهيات المجتمعية.

المثال في هذا الصدد، أوربا. ففي المشاهد اليومية التي يعيشها العربي والمسلم، يرصد حقيقة انّ التباين الشاسع بين الثقافات وتعدد الانتماءات، لم يعد مقياسا يقف حجرة عثرة، في طريق ترسيخ آلية مشتركة للتفاهم، ومن ذلك ان الفرد الذي صقلته حضارة العصر، يشعر بالقوة في سلوك التسامح والصفح ومحاولة فهم الاخر، على الرغم من انه غير مؤدلج عقائديا، فيما أفراد شعوب أخرى، حضّها من التعليم أقل، وتتحمس لتعصبها العقائدي والفكري، تجدها تعيش في أوربا بنفس روح التشدد والغلو والانتقام والثأر، بل وفي فرض القيم والأخلاق الخاصة بفئة معينة حتى على المجتمعات الاوربية التي يعيشها فيها ضمن اقلية.

ثمة حاجة الى صياغة النظريات الجديدة في بلادنا، لصقل السلوك الجمعي، باتجاه ثقافة التساهل والمحبة، والتفاعل مع المختلف، حيث التجربة الناجحة في أوربا، تجعلنا ننسخ أمثلة، تساهم في بث الحماس بين أفراد مجتمعاتنا، ففي القارة البيضاء ومنذ القرن التاسع عشر، انحسرت بشكل واضح المفاهيم التي كانت تسيطر على الذهنية الغربية، في تحديد العلاقة بالآخر على أساس القومية والدين، وأصبح البديل هو الأداء، والانجاز.

انحسرت عن هذه الدول، على رغم شعورها، بتفوقها في مجالات العلم والثقافة والأدب على الدول الأخرى، العنصرية الأوروبية التي تعكس تفوق ثقافة ودين الرجل الأبيض، وانّ الذي يجب ان يقود العالم، الثقافة الاوروبية البيضاء المستمدة جذورها من حضارة الاغريق، وانّ الثقافة المسيحية يجب انْ تسود بحكم أجندتها الحياتية والفكرية وقدرتها على الاقناع.

عكس التسامح الأوربي، فانّ هناك حتى في داخل أوربا نفسها، من يصر على التمايز السلبي، متوهّما بانّ ذلك يمكنّه من التأثير والشعور بالبقاء، على الرغم من كونه أقلية مهاجرة، وهو سلوك ناجم عن التربية المغذية للتحجر والحذر من الآخر، والشعور بالنقص، او بالتفوق أمامه، ففي كلا الحالين، فان ذلك مدعاة الى عدم الاندماج، في المجتمعات الجديدة والعيش على الهامش فيها.

انّ أحد أسباب النجاح الأوربي، هو تجاوز الغلواء والذاتية، في التعامل بين افراد المجتمع، من مواطنين اصليين ومهاجرين، وهو عامل أهّل هذه الشعوب على الابتكار والخلق، وتحولها الى المعلم الأول للعالم، على رغم ندرة خطابها المؤدلج لكسب الاتباع، وانحسار أسلوب الوصاية على الدول الأقل شأنا، وكان ذلك سببا في تحولها الى بلدان تلونها الهجرات المتعددة والعادات والتقاليد المختلفة، القادمة من الشرق والغرب ومن الشمال والجنوب.

مع مرور الأيام، فان لا مفرّ من توقع اندماج واسع وجذري لثقافة أوربا التي كانت في يوم من أيام، تجد نفسها متميزة وهي الابنة المدللة للملك الفينيقي التي أغدق عليها الاله الاولومبي سيوس قوته وجماله وذكاءه، مع ثقافات المسلمين والهندوس والبوذيين والأديان الأخرى، في تجانس تاريخي بين تراث الشرق ودياناته وثقافاته ومنتجات الحضارات الهيلينية والمسيحية والعلمانية والإسلامية.

تأريخيا، فانّ ذلك حدث يوما على أيدي العرب المسلمين، في الاندلس، حين ذاب  العرب في الارض التي وفدوا اليها، وتعلموا ثقافتها، واكتسبوا رقة اهل الاندلس الأصليين، وتبادلوا معهم الثقافات، واصبحوا اكثر انفتاحا حتى من الأندلسيين أنفسهم، وتجاوزا في علومهم الميثولوجيا الدينية، الى العلم والفن والادب، واختلطت أفكار ابن رشد، فيلسوف قرطبة مع اطروحات توماس الاكويني، المعلم الأول للأوربيين.

يقود التسامح أوربا، الى إزالة السدود أمام الهجرات من الخارج، وبات توطين الاسلام في اوروبا الغربية، امرا واقعا يتجانس مع دين اوروبا التاريخي، المسيحية، ما يملي عليك التمعن كثيرا في قدرة الانفتاح لا الانغلاق، في بناء الحياة والكف عن الشعور بالنقص أمام الاخر، والتشكيك الدائم في أهدافه، واعتباره، عبر أفكار مسبقة متآمرا، يسعى الى تدمير ثقافتنا ومعتقداتنا.

74
شعوب وثِقت من نفسها بعد اليأس   

عدنان أبوزيد


تعصف الاحداث السياسية والأمنية، بالثقة التي يسعى العراقيون الى تعزيزها، سواء بأنفسهم، او بالقرار السياسي الذي يوجّه مقادير البلاد، بسبب خطاب اعلامي خارجي ومحلي، ورسائل نفسية، تتعمّد تعظيم الهواجس في الذات العراقية، لجعلها تنسحب على نفسها، وتنزوي عن الدور الوطني، وحتى الحياتي، ترقبا لإعلان مؤسف عن الاستسلام، بسبب الخيبة.

دروس التاريخ، تكشف عن انّ اغلب الشعوب صاحبة الإنجازات العظيمة، مرّت بمرحلة من انكماش الثقة في الذات والوطن، بسبب الحروب والاخطاء، والفساد، لكنها في النهاية، ظفرت، وتطوّرت، وباتت على مستوى واحد من القوة والتطور، مع الدول التي كانت في يوم ما، متفوقة عليها، بل ومستعمِرة لها.

استفاد العقل الأميركي من أزماته في الحروب الاهلية والاحتلال الأجنبي، وأعتق نفسه من الأفكار الملغومة في العنصرية والمناطقية، والانجرار الى العقد التاريخية باتجاه صناعة الديمقراطية بهياكل فولاذية، قادت الى استقرار كبير، أدى الى تطور في التربية والتعليم، باتجاه الانتاج والابداع والابتكار، وقادت الارادة القومية في التفوق، الى نقلة نوعية في الحياة، ولم يكن هذه التفوق، وليد قرار قسري، بل تدرج طبيعي بسبب صواب السياسات والخطط.

في روسيا، أدرك بوتين، انهيار الدولة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فكانت المهمة الأولى له رئيسا لروسيا العام ٢٠٠٠، هي توحيد الشعب الروسي، قائلا ان "العمل الإبداعي لن يتم في ظل انقسامات داخلية وتشتت المجتمع"، ومعتبرا ان "مفتاح روسيا في الانتعاش والنمو يكمن في دولة قوية وذات سلطة".

اليابان، بعد الهزيمة النكراء خلال الحرب العالمية الثانية وتحولها الى أمة منكسرة وفقيرة، بتوقيع إمبراطورها لوثيقة الاستسلام وتعيين جنرال امريكي، حاكمًا فعليًا، أبرأت جروحها، لتصبح اليوم، الاقتصاد الثالث عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين، بدخل قومي يبلغ نحو الخمسة تريليون دولار، والثالثة في تصنيع السيارات والأولى في صناعة الإلكترونيات، والدولة الأكثر إقراضًا للدول الأخرى.

ألمانيا بعد حرب الثلاثين عاماً الطائفية، بين البروتستانت والكاثوليك، والحرب العالمية الثانية منتصف القرن الفائت،
نهضت باقتدار بسرعة قياسية رغم عدم امتلاكها نفطا أو غازا أو أية موارد طبيعية أخرى، لكن استثمارها في التربية والتعليم، لخلق جيل يؤمن بالعمل والعلم، حسم الموقف لصالح إعادة الإعمار فائق السرعة، وتمكين الشعب من امتلاك أدوات النيوليبرالية القائم على اقتصاد السوق الاجتماعي لإعادة تشكيل الأموال والسير وراء سلطة مركزية، وحّدت الشعب الألماني.

الصين التي توجد اليوم، في كل مكان، وتصنع قطع غيار طائرات بوينغ 757 ، وتكتشف الفضاء بالصواريخ، وتجذب رؤوس الأموال، كانت الى وقت قريب، دولة زراعية متخلفة، تعاني من الكثافة السكانية الهائلة، بأكثر من مليار نسمة، معظمهم من الفلاحين، يسود بينهم الجهل والتخلف، ارتقت الى مصاف الدول المتطورة، بواسطة تحريض الفرد على النشاط والابتكار، بعد تأهيله بالتعليمٌ المجاني، ليصاحب ذلك السيادة الوطنية على الموارد، وتبني سياسة السلام، لطمأنة الدول المجاورة من النهضة العملاقة، فضلا عن إصلاح متدرج للاقتصاد و تطوير البنية التحتية والتصدي الحاسمٌ للفساد.

قائمة طويلة للشعوب التي بعثت تطورها وتقدمها من رماد الحروب والتخلف وروح الانهزامية، تسامت فيها الطاقة السلبية الى إيجابية، واضمحل انكماش الثقة، وسخّرت الحمولة المعرفية والارث التاريخي، الى دروس في التربية والتعليم عن كيفية إدارة الازمات، ليس على مستوى النخب بل على مستوى الفرد، الذي هو الأساس في تجاوز حقبة من الشعور بالخذلان والانهزامية، يُراد لها ان تطول.


75
المنبر الحر / مفخّخة في أمستردام
« في: 19:09 22/08/2019  »

مفخّخة في أمستردام

عدنان أبوزيد
 
لا يزال النصْب "العراقي" في العاصمة الهولندية، أمستردام، ويجسّد "أشلاء" سيارتين مفخختين جلبتهما منظمة ( أي كي في ) الهولندية للسلام، من بغداد، يجذب الزوار، مذكّرا بإرهاب عمّ أنحاء العالم، واستقرّ في العراق، بشكل خاص.

وإذا كان مستوعَبا، أنّ هذه النصب المتفرّد، المثير للمتابع الغربي، هو ادانة لعمليات القتل بواسطة تفخيخ الاشخاص والسيارات في الساحات العامة، لقتل أكبر عدد ممكن من الناس، الا انه يكشف عن غياب "الاستثمار" في العراق لمرحلة العنف التي مرّ بها، وانحسار كتابة التاريخ بالنصب والتماثيل، وصناعة الرموز، التي تساهم في وحدة الصف ونبذ العنف والفتن القومية والطائفية، عن طريق استذكار مآسيها وضحاياها.

وإذا كانت مفردة "المفخّخة" مخيفة بعض الشيء، للجمهور الغربي، غير إنّ عرْض هذه الهيكل الحديدي المتهالك، في ساحة (لايدسه بلاين) في قلب امستردام اضفى على المكان "روعة" خاصة، لأنه أصاب الغاية، عبر التقاط صورة "دخيلة" على البيئة الهولندية، "تذكّر الجميع بانّ السلام واجب عالمي، وانّ على الشعوب التعاون من اجل ذلك"، وفق مستطرق هولندي وصلت كلماته الى مسامعي، حيث أقف الى جواره.

استنهاض ذكرى الويلات، بالأشكال الجمالية والنصب الفنية، بات ضرورة تحتاجها مدن العراق، كي لا تنسى الأجيال، معاناة الآباء والاجداد، ولعل البلدان الاوربية سبّاقة في هذه المجال، فلم تترك موقفا تاريخيا، سواء في السلام او الحرب، إلاّ، وجسّدته بأمانة، اعترافا منها بأهمية تحويل التاريخ الى إشارات مادية حاضرة.
 
لم يعد التاريخ سجلا ورقيا في رفوف المكتبات، أو مخزونا رقميا في أجهزة الحواسيب، بل حالة يومية يعيشها الانسان
وهو يتجول في ميادين المدن الكبرى التي تضم صروحا ونصبا وحدائقا، تؤرّخ لحدث أو تذكّر بشخصية، فيما لم ينسحب
التاريخ العراقي الى الآن على الحالة اليومية، وساحات المدن، ليستقر الى حدود كونه كتابا مدرسيا، او بحثا في الجامعات، لا يتعدى في أهميته، حدود الدرس والبحث.

أنشأت اليابان متحفا للسلام في هيروشيما في حديقة قرب مكان سقوط القنبلة الذرية، يعرض تفاصيل الضربة التاريخية، ودمار المدينة، بأحدث الاجهزة السمعية والبصرية، وفق بناء معماري، مهيب.

وحوّلت حكومة المانيا الغربية ملجئا للحماية من الصواريخ النووية، الى متحف يصوّر فترة الحرب الباردة.
 
واقيم نصب تذكاري في واشنطن لضحايا الحقبة الشيوعية، لاستيعاب دروس الحرب الباردة، حيث "الشر والكراهية أديا إلى مقتل ملايين الأشخاص في القرن العشرين"، وفق تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، الابن.

بل إنّ الولايات المتحدة خلدّت ذكرى 4 آلاف كلب نفقوا في الحروب التي خاضتها خارج حدودها.

وفي لندن، يرتفع في الفضاء، نصب تذكاري لتكريم الحيوانات والحشرات التي تحمّلت المصاعب مع القوات المسلحة البريطانية.
 
لم تعد مسؤولية تسجيل الاحداث تقتصر على المؤرخ التقليدي، وحده، بل واجبا على الفنانين والمهندسين والمثقفين،
وحكومات المدن، والجامعات، من أجل كتابة التاريخ، لاسيما القريب منه، حيث الاضطراب الأمني والسياسي، يحول دون أرشفة الكثير من الاحداث المهمة، التي تشكّل حلقة مهمة في التاريخ العراقي.
 
لا تزال الفرصة سانحة، أمام روح الإبداع، فنيا، وادبيا، وهندسيا، في استحضار المنهج العلمي في تخطيط المدن والساحات، واغناءها برموز الاحداث القريبة، لاسيما تلك التي سببّت الآلام والاوجاع، للعراقيين، لكي لا يقتصر استذكارهم لمآسيهم وحروبهم، بزيارة قبور الضحايا والشهداء فقط، بل في رموز فنية وهندسية دقيقة الصناعة، تعيش معهم في كل الأماكن واللحظات.


76
الإعلام الجديد.. اجتماعي لا سياسي

عدنان ابوزيد

وضع الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان إذاعة "صوت أميركا" في منزلة برامج غزو الفضاء من ناحية الأهمية لمصالح البلاد، وايصال الخطاب الرسمي، منتقدا الإهمال لهذه المؤسسة الإعلامية، وهو ما دفعه الى التعويض عن ذلك بتأسيس محطة "تقوية" لبثّها، العام 1984.
وفي العام 2018، يتكرّر المشهد، لكن في روسيا، حيث رئيسها بوتين، بات يهتم شخصيا بالإعلام وخطابه، مؤكدا على أهميته للأمن والصحة، فيما منافسوه يتهمونه بالسيطرة على شبكة "إن تي في" والقنوات الروسية الرئيسية.

ووجد ممثلو "الأوليجارشية" او "الروس الجدد" فرصتهم في الاعلام للسيطرة على السياسة والاقتصاد، ونجحوا عبره من
الحصول على الجاه السياسي، والاجتماعي، وجني الثروات الطائلة.

وفي روسيا الحقبة السوفيتية، كان الإعلام كحاله في كل الأنظمة الشمولية، تابعا الى الحزب الواحد، الذي سعى عبر خطاب مؤدلج الى نشره مبادئه في العالم، ونجح بشكل منقطع النظير في بسط نفوذ الأيديولوجية الشيوعية.

وانبرت الصين، بعد "حقبة إعلامية" مظلمة، الى تطوير التقنيات التي تجعل منها رائدة في الحضور الإعلامي العالمي، ونجحت بشكل واضح في تحدي وسائل الاعلام الغربية، بل والتفوق عليها في الكثير من الحالات.

وفي تركيا، أصبحت تهمة استخدام التمويل العام في قطاع الإعلام تتقاذفها قوى الحكومة والمعارضة، بعد ان صار معروفا بان من يمتلك ناصيته، يفوز.
 
ولكي لا نسهب كثيرا في الوقائع، نشيرا أخيرا، الى فضيحة "ووترغيت" التي كشفها الاعلام، وأدت إلى استقالة رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ريتشارد نيكسون، في أغسطس/ آب 1974.

لقد كانت الصحافة على الدوام، المرصد الذي يحسم مستقبل السياسيين والمشاهير، ما يجعلها المحور المحرّك للأحداث، والضامن لنتائجها، في اتجاه معين، حتى في الأحداث الصغيرة ما يفسّر جرأة مديرة أمن رئاسة الوزراء في العاصمة الفرنسية على الاستقالة، بعد فضيحة فساد كشفتها، احدى المقالات.
 
وفي عصر التواصل، أدرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خطورة وسائل الاعلام على مستقبله السياسي ليصفها
بانها "عدو الشعب" وهو تعبير كان الزعيم السوفيتي الراحل، جوزيف ستالين، قد استعمله، ونهى عنه نيكيتا خروتشوف.

و من الخطاب الشمولي الى ديمقراطية إعلامية، فان مواقف وحوادث كثيرة ترسم العلاقة المضطربة بين السياسي والإعلامي. وثمة امثلة كثيرة لا يسعف المجال لذكرها.

كل الأمثلة الواردة، تكشف عن ارتباط الاعلام التقليدي بالسياسة أولا، وفي بعض الأحيان بالسياسيين حصرا،
لكن الإعلام الجديد اليوم، حيث تتدفق المعلومات عبر وسائل اتصال حديثة، متاح، لأي فرد في المجتمع، وبات للإعلام وظيفة اجتماعية اكثر منها سياسية، كما تحول الفرد الى صحافي واعلامي، بسبب امتلاكه تقنيات النشر المباشر، نصا وصوتا وصورة.

لم يعد الاعلام يختص بطبقة السلطة وتوابعها، لأنه صار نافذة لكل الناس، ومن الصعب اليوم، حصره في رؤية واضحة ونسق واحد، وهدف مشترك، لعدم قدرة أية جهة على احتكاره، والسيطرة عليه، حتى لو ارادت ذلك.

لكن وهج الإعلام "الاجتماعي" الجديد، سوف يتألق، اذا ما ضمنت الشعوب، وعي الفرد في استخدامه، لتجاوز نقاط الضعف في موضوعية الطرح، وإيجابية الهدف، والخبرة المهنية، لكي يكسب الخطاب قناعة المتلقي، أولا قبل التأثير عليه وتوجيهه.
انّ الديناميكية المحركة الواجب توفرها في الإعلام العراقي، والعربي، هي في نقل المعلومة بأمانة ودقة، وعدم التفريط في التسييس، وتعزيز الخبرة والمهنية والالتزام الاخلاقي في مداولة المعلومة وتحليلها.
في المشهد، تزدحم اعداد الذين يعملون في قطاع الاعلام، وتتناسل الفضائيات بشكل خاص، لكنها لم تحقّق من النجاح المهني، القدر الذي يُعوّل عليه، بعد انْ اجترّت الكثير من المواضيع وحتى التقنيات، ولابد لهذا القطاع، ان يستفيد من تجارب الدول المتقدمة للخروج من حلقة الإعلام النمطي.
 


77
جيش الخدمات المهزوم في العراق

عدنان أبوزيد 

يفتقر العراق الى صناعة الخدمات التي باتت ركنا أساسيا في اقتصاديات الدول الناجحة لتشغيل الملايين من الأفراد، وتحويل مناصب الخدمات الى مصدر مهم للمال.

لايزال الكثير، مخطئا، في الاعتقاد بان التقدم الاقتصادي هو فقط في المنتج الملموس الذي تضخه المعامل والورش الى الأسواق، فيما دولة مثل هولندا، تشغّل الآلاف من العمال في مزارع الورود، وتضخ الى العالم ما مقداره 8 مليار دولار، سنويا.

وفي غابات ألمانيا الشاسعة، يعمل الملايين من "الحطاّبين"، إذا صحّ استخدام هذه المفردة المنتمية الى عصر ما قبل الصناعة، يقطعون الاخشاب التي توفّر المادة الأولية لمصانع الأثاث وشركات البناء، فيما يزرعون الأشجار، أيضا، لديمومة الغابات، وعدم التفريط بالغطاء النباتي.

الذي زار أوربا أو عاش فيها، يرى جيوشا من العاملين في الحدائق العامة، والساحات الخضراء، يعملون طوال النهار في الزراعة والتنظيم، وادامة المحيط العام.
وفي حديقة مجاورة للحي الذي اسكنه في هولندا، ثمة حديقة بمساحة 2 كيلومترا مربعا، يعمل فيها يوميا نحو السبعة اشخاص يوميا، طوال العام، ومعهم معدّاتهم وأدواتهم الحديثة.

وحدثّني مدير شركة توظيف في الحدائق، ان شركته تحقق أرباحا جيدة في العام، عدا تأمينها رواتب العاملين، وتسديد الضراب للحكومة، مشيرا الى ان تشذيب الأشجار، وبيع المواد الأولية لصناعة الأسمدة وجذوع الاشجار، وتجارة الورود، وتوفير الخبرة لأصحاب الحدائق في البيوت والشركات، وساحات المدن، يدرّ على الشركة تلك الأموال الهائلة.

وفي بيت للعجزة، يتألف من خمسة طوابق ويسكنه المئات من كبار السن، يعمل نحو الثلاثمائة شخص، في ايندهوفن الهولندية، وهي مدينة بحجم مدينة صغيرة في العراق، ولك ان تحسب عدد الدور الموجودة في دول مثل المانيا فرنسا و بلجيكا والولايات المتحدة واليابان.

يعمل في هذه الدور، وفي مراكز اللجوء، والحماية من العنف، والرعاية الصحية، ورعاية الاسرة، الآلاف من الباحثين الاجتماعيين، الذين لا عمل لأقرانهم في العراق بعد ان أصبحت التشريعات الاجتماعية واحدة من الأنظمة الراسخة في أوربا.
 
ولا أحدثك عن المَزارع التي تجذب فرص العمل للمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين الذين يعانون من البطالة في العراق.

وينجذب الجلّ الأكبر من شباب المدارس الثانوية الى التلمذة الصناعية، حيث لا عيب في الانضمام للمدارس المهنية والفنية، فيما يتسابق عراقيون على الشهادات العليا فقط من دون مهارات، ويسقطون في اول امتحان لهم في فرصة طلب العمل لاسيما اذا ما سافر خارج البلاد ووجد نفسه في مستوى علمي ومهني لا يتناسب وحجم اللقب الذي تحمله أوراقه.

وإذا تحدثنا عن القطاع المصرفي المتهالك في العراق، سوف نرى كيف ان المال القومي يتسرب الى خارج البلاد، بسبب تخلف المعاملات البنكية التي توفر ملايين فرص العمل لخريجي الاقتصاد، والمبرمجين، والصيارفة.

كل تلك الوظائف تغيب في العراق، حيث الاقتصاد لا يمتد بصورة افقية، ويفشل في ابتكار الفرص ليظل المجال محصورا في التوظيف الحكومي بدل الخدمات التي هي الأساس في تطور البلدان.

وفي ابتكار للوظائف، أسس رسامون هولنديون ورشة عمل تنظّم المعارض في مدن متعددة، يعمل فيها العشرات من الفنانين الذي ينتجون اللوحات، والنصب، وتلجأ اليهم البلديات في الاستشارات الجمالية والتصميم، لتحقق هذه الورشة أرباحا عظيمة في كل عام.

لم تعد الوظيفة في الدول المتقدمة محصورة بالحكومة، ومكاتب الوزارات والدوائر الرسمية، بل ان هذا النوع من الوظائف ينحسر تدريجا بسبب التقنيات الحديثة في الإنجاز ومعالجة المعاملات، الامر الذي يدفع الى ابتكار طرق مبتكرة في خلق فرص العمل  في مجالات الخدمات المدنية.
ومنذ تطورت صناعة الخدمات في أوروبا منذ القرن العشرين الميلادي، فان العراق والدول العربية، بعيدة عن التحولات الاقتصادية الكبرى التي ضمنت مصادر العيش الكريم للمواطن، ورسّخت الاستقرار وعزّزت ثقة الفرد بدولته ومجتمعه.

78
بغداد والمدن.. الانحدار بعيدا عن الحواضر العصرية

عدنان أبوزيد


تغيب عن مدن العراق بشكل مفرط، الميادين الواسعة التي أضحت معلما ثقافيا وسياحيا، وحضاريا، لا غنى للحواضر العصرية عنه.

مدن يقترن اسمها بالباحات المترامية الأطراف، يلتقي فيها أبناء البلد والسواح، في ملتقى للتراث الشفوي والتبادل الثقافي، والتعارف وتلاقح الأفكار، والاستماع الى الخطب، وأنواع الفنون، في فناء منفرج يستقطب القاصي والداني.
انها متاحف مفتوحة، بالمجان، تعج بأنواع البشر، واختلاف الأذواق، يتدفق اليها الناس، في موجات داخلة وخارجة، تضفي على المدينة رونقا أخّاذا، فضلا عن كونها مشروعا اقتصاديا، تدر الأرباح الطائلة، حيث المحلات التجارية والمطاعم والنصب، والنافورات، وأصحاب الهوايات، والمواهب.

وإذا قصدت اسبانيا ولم تزر ساحة "بلازا مايور"، فكأنك لم تر هذه الدولة المترامية الأطراف. وعلى رغم انها تقع في قلب مدريد، الا انها تستضيف مصارعة الثيران، ومباريات كرة القدم، فيما تمثال فيليب الثالث يحدّق في الزائرين.

وينتصب أقدم نصب تذكاري وطني في بوينس آيرس في ساحة "بلازا دي مايو" التي لا يحدها بصر، لوسعها، فيما تغيب عن مدن العراق، ساحة مثل "الطرف الأغر" في لندن التي تخلد المعركة الشهيرة التي انتصر فيها اللورد نيلسون على نابليون العام 1805، فيما تمثالها الطويل القامة للغاية، يحضر بقوة بين الزائرين.
 
ويقف الزائر منذهلا امام سعة "ساحة تيانانمن" في بكين عاصمة الصين، التي تعد أكبر ساحة مدينة في العالم، وتدر على المدينة أرباحا طائلة، فضلا عن كونها جسرا ثقافيا يربط بين أبناء الصين والسواح من الدول، وقد تحولت مع مرور الزمن الى رمز وطني.

وفي حين تندثر في بغداد، أحياءها التاريخية، ورموزها التراثية، والتي تحوّلت اما الى حواضن مهمّشة، مهملة، او في طريقها للاندثار، فان المدينة البولندية كراكوف، تتوفّر على أكبر ساحة بلدة في القرون الوسطى في أوروبا والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث، ولازالت تتجدد وتتطور مع الزمن، من دون الحاق ضرر، أو تغيير في المنازل التاريخية، والقصور والكنائس المحيطة بالساحة.

تغيب الساحات المفتوحة في العراقِ، حتى عن الاماكن الدينية المعروفة التي تجذب آلاف الزائرين سنويا، كما تحاصر البنايات والمشاريع التجارية والمساكن، المراقد المقدسة والمساجد التاريخية، في انسداد للأفق، يشوّه المشهد العام. وعلى هذا النحو لا يمكن مقارنتها عمرانيا، بساحة القديس بطرس أمام كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، والتي تتسع لنحو 200.000 شخص، فيما الزائرون للمراقد المقدسة في العراق، يبلغون اضعافا مضاعفة مقارنة بهذا الرقم.

كان يمكن لساحة التحرير في بغداد، أنْ تتحول الى "ساحة حمراء" عراقية، كالتي في العاصمة الروسية، موسكو، تتعدّد فيها ألوان الفرجة التي يقوم بها فنانون شعبيون وموهوبون، وباعة متجولون، لكنها ومنذ تأسيسها تنتقل في مراحلها التاريخية من الفناء الواسع الى الفضاء الضيق، لينتهي بها الامر الى رقعة صغيرة الحجم، لم تعد تشكل أهمية حضارية او فنية، او سياحية على الرغم من كونها، أقدم الساحات في الشرق الأوسط.
 
والميدان الكبير أو "غراند بلاس" وسط مدينة بروكسل في بلجيكا، لا يختلف في المساحة والارث التاريخي عن ساحة الميدان في بغداد، لكن الفرق ان بلدية بروكسل جعلت منه ساحة كبرى بالابتكار المعماري، والتطوير العمراني،
والمحافظة على الأصالة، وإبقاء رموزه مثل كنيسة القديس ميخائيل، والكثير من المباني الحكومية، فيما ساحة الميدان في بغداد، تراجعت كثيرا وفقدتها أهميتها التاريخية بل وحتى حاضرها القريب.

ولكي لا تتحول المعالجة الى مقاصد سياحية واعلانا مجانيا لمدن العالم، فان المقال تناسى عمدا، الكثير من ساحات المدن الكبرى في العالم، فيما الحرص على أشدّه في الإشارة الى ان العراق، في امس الحاجة الى استراتيجية تتبنى رسم فضاء جديد للمدن المغلقة، على نفسها، فلم تعد نظريات العمران في العالم تعبأ للأبنية العالية، وناطحات السحاب، ومراكز التسوّق والمولات، قدر تشييد الساحات المفتوحة على شكل متاحف وملتقيات ثقافية وتعليمية. 
 
 


79
هل الجامعات للشهادات فقط؟
عدنان أبوزيد 

نبّهني طالب عراقي في جامعة آيندهوفن الهندسية في هولندا، الى أنّ الدروس التي يلقيها أستاذه في مادة الديناميكا، على الطلاب، تشغل نحو العشرين بالمائة من وقته، فيما الجزء الأكبر منه، يقضيه في البحوث والاستشارات العلمية التي يقدّمها للمعامل والمصانع، والورش، فضلاً عن إيجاد الحلول للمشاكل، وتطوير طرق الأداء، والتصنيع.

مثل هذا الأستاذ، حيث أغلب زملاءه على نفس النمط، لم يعد يجشّم الجامعة كلفةً، بل على العكس من ذلك، إذ انّ ثمار جهود هؤلاء الأساتذة الجامعيين، ينتج عنها أموالا طائلة ترفد ميزانية الجامعة، ما يفسّر كيف انّ صروحا علمية، باتت مصدرا للمال والاستثمار والمشاركة في تنمية المدن، والاقتصاد، على عكس ما يحدث في جامعات العالم الثالث، ومنها العراق، حيث يستنزف تفريخ الجامعات، كماً، لا نوعاً، الكثير من ميزانية أحادية تعتمد على النفط، فقط.

لا يقتصر الأمر على الجامعات الهندسية، ذلك أنّ الاستشارات التي تقدّمها كليات ومعاهد الفن، الى مشاريع تجميل المدن، وبيع النصب واللوحات الفنية، وإقامة الفعاليات الفنية، والمهرجانات، تدرّ على هذه الجامعات، رؤوس أموال طائلة، أيضا، محوّلة هذه المراكز المعرفية الى مصادر تمويل تسهم في إنعاش الاقتصاد، وتؤسّس لنمط إنتاج اقتصاد المعرفة الذي طغى في البلدان المتقدمة، على نمط الإنتاج التقليدي.

في العراق، يحدث العكس تماما، فلا زالت الجامعات التي فاقت في أعدادها، مثيلاتها في الدول المقارِبة للعراق في الظروف الاجتماعية، وتعداد النفوس، تشكّل عبئاً ثقيلاً على الميزانية، فضلاً عن تخريجها الآلاف من الشباب سنويا، والذين يتراكمون على مصطبات العاطلين، بغض النظر عن احتياجات السوق.

تبرز الحاجة، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الى دعم الجودة، لا الكمّ، في الجامعات، وتحويلها الى مراكز معرفة حقيقية، وصاحبة أدوار في تغيير المجتمع، لا مصادر لشهادات أكاديمية لا فرصة لها في سوق العمل العراقي والمحلي لاسيما حين يكون الخريج، في مستوى متواضع من القدرات المعرفية، والمهارات، وقدرات الابتكار.
 
لا يقلّ طلاب العراق، قدرة على التفكير، والإبداع عن شباب العالم المتقدم، لكن غياب تقنيات التعليم المتطورة، وتخلّف المناهج، وعدم مواكبة تقنيات التواصل المعرفي مع العالم، يضعهم في مستوى أداء ادنى، ومن ذلك انّ اغلب خريجي البلاد، لا يجيدون اللغات الأجنبية المهمة في التواصل المعرفي، مثل الإنكليزية، فضلا عن ضعفهم حتى في اللغة الام، العربية.

لا يلمس المراقب، دورا حيويا للجامعات والمعاهد العلمية في العراق، في توظيف المعرفة في التطوير والتنمية، وقد روى لي أستاذ جامعي عراقي انّ كل البحوث التي يقوم بها الطلبة الخريجون، فضلا عن رسائل الماجستير، والدكتوراه
والدراسات العليا، لا تتعدى كونها نصوصا إنشائية، ليس لها أي دور في النهوض بالبلاد، وهي تركن على الرفوف، ومصيرها النهائي، النفايات، والأدراج.
بسبب ذلك كله، فانه ومنذ العام 1492، حيث طلبت ملكة قشتالة من كريستوف كولومبس، الخروج في رحلة استكشافية من أجل الذهب، احتكر العالم المتقدم، العلوم والمعارف، ونجح بشكل مذهل في تحويل النظريات والعلوم الى تطبيقات، وأصبحت الدول الخمس التي لا تشكّل سوى 12 في المائة من العالم، هي مصدر المعرفة المهيمن بكل مجالاتها، الهندسية والطبية، والعلوم الإنسانية، والادب، والثقافات المختلفة، بعد أنْ ساد نمط ديكارت في البحث والتقصي، منذ أواسط القرن السابع عشر، بعباراته المشهورة "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وعزّز ذلك الفيلسوف ديكارت في ترسيخ آلية التفكير.

ما يزيد من فداحة الخلل، استثمار القطاع الخاص في التعليم، الذي يحوّل الجامعات الأهلية، الى مشروع تجاري، حتى بات الكثير منها، غريبا حتى في "الشكل"، عن الجامعة بملامحها المعرفية المرموقة، لتتحوّل الى مصنع لا يتوقف من تفريخ الشهادات، بدلا من انتاج المعرفة، واستثمارها في الإنماء.
 



80
المنبر الحر / عنف خلف الستار
« في: 18:33 28/06/2019  »
عنف خلف الستار
عدنان أبوزيد.. هناك عنف لا نتحدث عنه، نمرّ عليه في مرافعاتنا، مرور الكرام، وهو العنف السلوكي في البيت والمعمل والمؤسسة والشارع، لا يقل خطورةً عن بطش الإرهاب، الذي ينتهي بمجرد القضاء على أدواته، لكن العنف الاجتماعي متأصّل في الثقافات والعادات والتقاليد، ويوغِل في الانتشار، في بيئة تنتعش فيها الأسباب.

يصفع المعلم، التلميذ في المدرسة، وتسهم فيديوهات الميديا في نشرها على نطاق واسع، فيما تطورت طرائق التربية، في دول، وانتعش فيها الوعي الحضاري، فيلجأ التلميذ الى المعلم، قبل الوالدين، في أسراره ومشاكله.

في مشاهد يومية، يُعنَّفُ الطبيب في المستشفيات، ويتعرض الى الانتقامات العشائرية، لأسباب شتى. ولا يسلم المحامون من أعمال الثأر التي يقوم بها أشخاص وعصابات.

الاحتجاجات تنقلب الى بيئة زاخرة بالعنف، حتى بين المتظاهرين أنفسهم، وتنتهي الخلافات الى مناوشات، واشتباكات، ويزداد العنيف وحشية، بعد نجاحه في الذوبان في الجماعة المتظاهرة، محتمياً بها.

وروى لي صديق أنّ متظاهرا في ساحة التحرير، لم يسلم من التهديد من محتجين شاركهم التظاهرة، فأما ان يرفع ذات الشعارات، أو يُطرد.

وتحت وطأة من الشعور بالقهر والاستلاب، يتنقّل المواطن تحت تـأثير الانعكاسات اللاواعية للعنف ضده، حاملا أوراقه بين طوابير الموظفين، الذين ينظرون إليه بازدراء، فيما هو يحاول أنْ "يتمسكن" أمام جبروت الكراسي، عسى ان يرحمه صاحب القرار ويحسم طلبه، و تحت وطأة سيكولوجية الإنسان المقهور، فان هذا المواطن لا مانع لديه من منح "الرشاوى" تحت عباءة  "الهدية"، كي تُنجز أوراقه.

يقع تحت هذه التأثير حتى الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم "واعين" اجتماعيا، و"متنوّرين"، ويرفضون الاسهام في مكافحة الفساد، إذ حدثني صديق مقيم في ألمانيا، انه دفع نحو مائتي دولار في العراق، كي تُنجز "أوراقه".

وحتى نقاط التفتيش الأمنية، آلت الى شكل من العنف المتبادل بين المواطن ورجل الأمن، في علاقة ناجمة عن الإحساس بالعجز وقلة الحيلة وانعدام الوسيلة أمام وسائل السلطة، وهو سلوك لا يرقى الى مستوى السلوك المتحضر الذي رسّخته الشعوب في حياتها اليومية.

مقابل ذلك، يحاول المواطن الانتقام من رموز السلطات، عبر التشنيع والاشاعات، والنكات، ضدها، في الشارع والتواصل الاجتماعي، في شكل من أشكال العنف "اللفظي" وإرهاب "المعلومة"، ناجم عن الاحاسيس الاضطهادية للمواطن، بسبب نقص الخدمات، وتعقيد المعيشة.

لا تبتعد ظاهرة تخريب الممتلكات العامة، أيضا عن كونها عملية ثأرية من النخبة، من قبل أفراد الفئة الاجتماعية الهشة الشاعرة بالإقصاء والتهميش.

وفي حين يجتاح عنف الملاعب الرياضية، الدول، فانه يتنامى في العراق أيضا، بمستوى أكثر خطرا بسبب انعكاسات الطائفية والقومية والمناطقية عليه، فيما يمكن وصف ما يحدث في دول أوربا -على سبيل المثال لا الحصر - بانه عنف "رياضي" خالص لا تنحسب عليه، المشاكل السياسية والاقتصادية.

وعلى رغم انحسار العنف الطائفي بشكل واضح في العراق، لكن الخشية من عودته تبقى ماثلة، بسبب شعور فئات بالقهر السياسي والاقتصادي، فضلا عن تنامي الشعور بالهويات الفرعية، بدلا من الوطنية.

حوادث انتحار على جسور نهر دجلة في بغداد بين الحين والآخر، تمثل حالة عنفية، يقترفها انسان اضطربت عنده منهجية التفكير، مبرزةً ذهنية انفعالية في وجدانه، تشعره بعدم وجود قيمة له في الحياة.

العراق من بين دول قلائل في العالم، يتناسل فيه قهر المرأة واستلاب حريتها، فيما الثأر العشائري، يتفاقم حيث قانون القبيلة فوق السلطة الرسمية، وانتزاع الحق من خلال الحوار بات وسيلة غير مجدية.. في شرعنة عرفية للعنف.

غير ذلك الكثير.. لكن المهم، في إعادة الاعتبار للمشاعر الراقية، والسلوك المتحضّر، ونبذ التضخم النرجسي، الفردي والمؤسساتي، والعمل على التأسيس لآليات مستدامة تعزّز ثقافة السلوك السلمي، بين الأجيال الجديدة، وترتيب أنماط السلوك، في مجتمع متحوّل يرفض الجمود على الحالة التي هو فيها.

 

81
المنبر الحر / الحرب والحوار
« في: 09:11 15/06/2019  »
الحرب والحوار
عدنان ابوزيد

الحرب شجاعة بجبروتها في القتل والتقويض وإلحاق أفدح الأضرار بالشعوب، فيما الحوار أكثر شجاعة منها، بإرساء السلام والبناء والحفاظ على البشرية من الهلاك.

وبين الحرب والحوار، خصلة، إذا لم تكن شعْرة، لا يقطعها الزعيم الذكي، وإنْ امتلك أسباب البأس، فيما الزعيم الطائش يقطفها ولو بأسنانه، إشباعا لرغباته في سفك الدماء، وتعبيرا عن الاختلال في بنيته الفكرية وأدواته السياسية.

وعبر التاريخ، حين تحلّ الحرب محل التشاور، تنتهي المعادلة الى نتائج سلبية، أبرزها الندم وعدم الاحتكام الى العقل، لكن
حين يكون السيف قد سبق العذل، ولات حين مناص.
يقول انيس منصور وهو على حق: "كما أن الحرب لا تبدأ عند بدايتها إنما قبل ذلك بكثير، فإن الحرب لا تنتهي عند نهايتها إنما بعد ذلّ بكثير أيضا".
وحتى الظافر في الحرب، خاسر، يشعر بالخزي، حين ينظر الى أفق بلاد مهدمة، وبنية تحتية منهارة، وآلاف الايتام والمشردين، والمهجرين.

والمشكلة في خيار الحرب، انه مفتوح وسالك، وحين يصبح عقيدة، فهذا يعني تحول كل أزمة او خلاف سياسي الى اشتباك.
النزاع على الحدود، هو مشروع حرب.
والصراع حول آبار البترول في الشرق الأوسط، مشروع حرب.
والخلاف على مصادر المياه بين وفلسطين ولبنان وسوريا وتركيا والأردن، مشروع حرب.
العلاقات التجارية بين أمريكا والصين، مشروع قتال..
النزاع على الأرض بين العرب وإسرائيل، مشروع حرب..
الخلافات العقائدية والدينية، مشروع سفك دماء..
تقاسم مياه النيل مع دول الحوض وأثيويبا، مشروع يمكن ان يقتل الآلاف..
الخلافات حول الصواريخ والترسانة الذرية بين روسيا وامريكا، مشروع إبادة شاملة.
الاتفاق النووي وتداعياته بين أمريكا وإيران، مشروع انهيار أمم.

لكن كل هذه الاحتمالات تسقط، اذا ما حرصت الشعوب وزعاماتها على الانسان والحياة.
وكلها تتداعى حين يحرص الزعيم على أنْ لا يصغر حجم رغيف الخبر، وأنْ تكون مقاعد المدارس كافية للطلاب،
والمستشفيات توفر الخدمة الصحية للمواطن، والفرد في المجتمع يجد العمل المناسب، وينام هانئا مطمئنا.
 
الاغرب من ذلك انّ الذين يختارون الحرب، نسوا او تناسوا إنّ نهايتها حوار، لكن بعد خراب وخسائر باهظة في البشر والحجر، فلماذا لم يكن هو الخيار الأول الذي يسبق الرصاص.

سنوات من الحرب، دمّرت سوريا، وفي النهاية لابد من الحوار.
 
الحرب الأهلية اللبنانية حصدت الآلاف من البشر، وفي النهاية كان الحسم على طاولة المحادثات..

الحرب العالمية الأولى، ( 1914- 1918 ) قتلت أكثر من 70 مليون انسان، وفي النهاية، كان لابد من
الحوار عبر معاهدة فرساي.
الحرب العالمية الثانية ( 1939 - 1945) الحرب الأوسع في التاريخ، شارك فيها أكثر من 100 مليون شخص، وأودت بحياة نحو مليون شخص، وشهدت القاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، في اليابان، وفي النهاية، كان الحوار بين منتصر خاسر، وخاسر منهار.

الحرب العراقية الإيرانية ( 1980 1988-)، كلّفت العراق وايران ملايين الضحايا، ومئات المليارات من الدولارات، حتى اضطر الجانبان الى الحوار، الذي وجد طاولة له بعد فوات الأوان.
ولا أحدثك عن الحروب الاهلية بين أبناء البلد الواحد، مثل الحرب الأهلية الأمريكية، وسنوات الحرب الطائفية في العراق.
ولن أحدثكم عن حروب الوكالة في فيتنام والكوريتين، حين تتحول الشعوب المسالمة الى حطب نار الصراع بين القوى الكبرى.
العراقيون الذين كانوا ضحايا حروب متعددة، بأسبابها المختلفة، يدركون جيدا، اكثر من غيرهم، جدوى الحوار، الذي
وإنْ طال، وتشعّب، واستنزف الجهد والوقت، فانه أفضل مليون مرة من لحظة يتغلّب فيها الطيش على الحكمة، لتنطلق رصاصات حرب، يتحكم المتصارعون في بداياتها، لكنهم يعجزون عن وضع نهاية لها، وهي نهاية تفضي مهما كانت
نتيجتها الى حوار، لكن بعد دمار وموت.



82
المنبر الحر / العقوبات والقوة
« في: 19:13 31/05/2019  »
العقوبات والقوة
عدنان أبوزيد

تقف قوة جبارة وراء العقوبات، تحميها وترسخّها، وهي قبل كل شيء دلالة رمزية ومادية على العظمة، والجبروت.
ليس من السهل على دولة ما ان تشن حرب العقوبات على دولة أخرى، فتؤيّدها دول العالم، وتخشى سطوتها وتسارع الى تلبية نداءها.
والعقوبات مظهر من مظاهر البأس، تفتل به دولة ما، عضلاتها، بسبب قدراتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتنظيمية، ولأنّ الولايات المتحدة هي القوة العالمية الأولى، فأنها تستخدمها كسلاح تهدّد به الخصوم، في إبراز لإمكانياتها الساحقة. اما الدول الواهنة، حتى التي بلغت شأوا من الازدهار في الاقتصاد والسلاح، فانها الى الان عاجزة عن استخدام هذه السلاح المؤثر.

غرّد الرئيس ترامب الدولار، رئيس الدولة المهيمنة على النظام العالمي، في التمويل والتجارة الدولية، والمفرِطة في استخدام العقوبات الأحادية الجانب، عبر التاريخ، بـ(سحب) حزمة عقوبات على كوريا الشمالية، وهي الدولة ذات التاريخ الطويل من فرض العقوبات الدولية عليها، بسبب تجاربها النووية الخمس منذ 2006، حتى سبتمبر 2016، لتعاني من حظر الصادرات العسكرية والكثير من السلع و التكنولوجيا، وفرض حظر السفر على المسؤولين والنخب، وتجميد اصولهم المالية.

وحصد العراق من الحصار الدولي، الذي استمر قرابة 13 عاما، والذي نتج عن قرار الأمم المتحدة رقم 661 الذي صدر في العام 1990، عقوبات اقتصادية خانقة، حرمت المواطنين من الغذاء والدواء ووسائل التكنولوجيا، ما أدى إلى وفاة نحو مليون ونصف مليون طفل، نتيجة الجوع ونقص الدواء.
 
الحصار الأطول في التاريخ كان على كوبا، والذي استمر نحو 55 عاما منذ نجاح ثورتها العام 1959 بقيادة فيديل كاسترو، بعد قيام النظام الاشتراكي الجديد بتأميم الشركات الأمريكية.

ومنذ الإعلان عن اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية، شنّت السعودية والإمارات والبحرين ومصر مجتمعةً، مقاطعة اقتصادية وسياسية على دولة قطر منذ العام 2017. 
 
وفٌرضت عقوبات مشددة على روديسيا الجنوبية (زيمبابوي)، العام 1966 بعد إعلان الأقلية البيضاء، الاستقلال من جانب واحد، لتستمر حتى العام 1969 بعد تحقيق الهدف السياسي منها، في وصول حكومة أغلبية سوداء الى السلطة.

وشنّت الأمم المتحدة حصارا اقتصاديا على جنوب أفريقيا للضغط على نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، لتنجح الضغوط الاقتصادية في النهاية في تنصيب حكومة غير عنصرية في مايو/أيار 1994.

ولطالما حصد العرب، حصة الأسد، من العقوبات الدولية، اذ فرضت واشنطن سلسلة عقوبات اقتصادية على السودان بسبب اتهامات لحكومته في رعاية الإرهاب.

وشهد العام 1996 تشريع الكونغرس الأمريكي، عقوبات اقتصادية على الشركات التي تتعامل مع إيران وليبيا. وفي 2013، صوت النواب الأمريكي، لصالح فرض عقوبات مشددة، على ايران. وبعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في العام 2018 عادت العقوبات تدريجيا ضد إيران بعد ما رُفعت وفقاً للاتفاق النووي العام 2015، لينتهي الأمر اليوم، بعقوبات هي "الأشد على الإطلاق" تشمل صادرات النفط، والشحن، والمصارف، والقطاعات الأساسية في الاقتصاد.

وإذا كانت كل دولة، تستطيع ان تستخدم الأسلحة الفتاكة في حروبها، فان استخدام سلاح العقوبات، ليس كذلك، ولن يتسنى إلاّ الى الدول التي تمتلك القوة العارمة، التي تجعل الاقتصاد العالمي، طوع قرارها.

ما أحوج الدولة التي رفستها أقدام العقوبات أجيالا وأجيالا، لأنْ تطور مجتمعها واقتصادها، وتنظّم شعبها، لتصبح قوة كبرى، مهابة الجناب، لا تُفرض عليها القرارات والأوامر، بل هي سيدة نفسها، لا تقبل العقوبات الدولية على الأمم الأخرى، الا بما يناسب مصالحها وأهدافها، ولن يتأتى ذلك الا بالتأسيس للدولة المتينة في الاقتصاد والمجتمع والعلم، والإدارة.

83
هل نحن مستعدون لجيل النت الخامس "5G"؟

عدنان أبوزيد

نحن على أعتاب انترنت الجيل الخامس "5G"، الأسرع مائة مرة من الجيل الرابع، واستجابة لحظية لا تتعدى الملي ثانية، ما يفرض على الشعوب واقعا افتراضيا جديدا، ينعكس على حياة البشر، في السياسة والاقتصاد وتداول المعلومة.

وفي حين لا تبدو دول العالم الثالث، مستعدة بالشكل الكافي، لاستقبال هذه الثور التقنية، والمعلوماتية العظيمة، فانّ الدول المتقدمة، وفرّت فرص النجاح، لإدراكها بأنها ثورة اجتماعية أيضا، بمعنى الكلمة، تمهد لبناء مجتمعات ذكية، بشكل تام،
قادرة على التواصل مع بعضها بنفس الكفاءة، وللفرد فيها المهارة والمعرفة، والادراك على استيعاب التطور الجديد سواء بـ "المشاهدة والنقر" و "العرض والشراء"، فضلا عن القدرة على اجادة التقنيات، وتحليل المعلومة، واستيعاب إنترنت الأشياء (IoT) بشكل كامل والقدرة على الانسجام معه.

الجيل الخامس، سوف يُحدث تغييرا كبيرا في ميزان القوى لصالح الصين التي تحتكر تقريبا هذه التقنية وتتفوق على أوربا والولايات المتحدة، الى ان درجة ان مؤسسة الدفاع الأمريكية باتت تخشى من أن بكين قد تتمكن من تعطيل الاتصالات العسكرية الأمريكية أو شن حرب غير متكافئة.
مرجع هذا القلق يعود الى ان أجهزة شبكات الجيل الخامس تنتجها خمس شركات فقط في العالم، في المقدمة منها "هواوي"، و"زد تي إيه"، الصينيتان، وشركتان أوربيتان هما نوكيا وإريكسون، وشركة من كوريا الجنوبية، وفق خبراء أمن وتكنولوجيا المعلومات.

وإذا كان العراقيون قد عاشوا تفاصيل الجيل الثاني (2G) الذي شهد البث الصوتي، والجيل الثالث (3G) الذي فتح الباب أمام البيانات المتنقلة والمحتوى الغني، فيما الرابع أحدث (4G) زيادة في السرعة أطلقته ثورة بث الهاتف المحمول، فان الجيل الخامس سيكون أساس الاتصالات وحوسبة الغد، ما يفرض تحديات حاسمة أمام المعنيين بشؤون الاتصالات، والحكومة تحديدا.

وإذا كان الاهتمام في العراق بهذا الحدث العظيم، لا يتعدى استخدامات الانترنت التقليدية، من تصفح المواقع،
ومشاريع غير متطورة في مجال الحكومة الالكترونية، حيث الوزارات والمؤسسات في العراق، لازالت بعيدة عن
توظيف الذكاء الصناعي بشكل كامل في مفاصلها، وأساليب اداؤها، فان الدول المتقدمة تهيأت لهذا الحدث العظيم، في تطوير صناعاتها، وتأسيس المجتمعات الذكية، وإنتاج السلع المتطورة، وتحديث المصانع بالروبوتات الذاتية القيادة، فضلا عن القطارات والسيارات ومركبات الفضاء التي تقود نفسها بنفسها، وكل ذلك يتيح للدول مجالا حيويا أكبر في السياسة والاقتصاد وحتى الجغرافيا.

انه العصر الذي ينتهي فيه الصراع بالأسلحة التقليدية، الى الحروب الذكية بالتقنيات، التي تجعل من العالم كله عبارة عن لعب إلكترونية تدار بالريموت كونترول، فيما الهاتف المحمول عالي السرعة يوسّع نطاق سيطرته الى الروبوتات وأجهزة الاستشعار والتحكم عن بعد.

الجيل الخامس، يتدخّل حتى في الخصوصيات، حيث بيانات الأشخاص تتحول الى رقائق رقمية، تجعل السلطات لو شاءت ان تعرف اين يقف هذه الشخص، وماذا يفعل في تعقب الكتروني، خاطف.
شوارع المدن، سوف يُسيطر عليها رقميا، فيما السيارات والقطارات تتحكم في مسارها الأقمار الصناعية، وسوف تكون الاتصالات عبر ارجاء المعمورة، بالمجان بشكل كامل، وبسرع تفوق عشرات المرات عن الجيل الرابع، فيما يُرجّح ان تتحول وسائل الاعلام الى رقمية بالكامل، والسيارات بدون سائق ستكون قادرة على "التحدث" مع بعضها البعض عبر أنظمة تحكم، عالية في الدقة.
تخيّل أسراب من طائرات بدون طيار تتعاون لتنفيذ مهام البحث والإنقاذ وتقييم الحرائق ومراقبة حركة المرور، وكلها تتواصل لاسلكيًا مع بعضها البعض.
العراق الذي كان سباقا في استعمال السيارة، والتلفزيون والراديو بين دول الإقليم، قبل ان تحطم الحروب، اقتصاده وبنيته التحتية، جدير اليوم بان يستعد لنيل القصب السبق في خدمات الجيل الخامس، لان ذلك سيكسبه نفوذا اقتصاديا وتقنيا واسعا في الشرق الأوسط.

 

84

الخوارزميات تنهزم أمام الأخبار الكاذبة

عدنان أبوزيد

ما يُحسب لصالح الصحافة التقليدية، ندرة الأخبار الملفّقة، وجودة المحتوى، فيما الصحافة الرقمية، وأخبار الموبايل والتواصل الاجتماعي، تعجّ بالزيف والتدليس، الذي يتكاثر بشكل أميبي، لا اتّجاه له، تعجز عن لجمه، التقنيات والتطبيقات الخوارزمية، ومهارات الذكاء الاصطناعي.

نعم، انها نعمة، في تعزيز العلاقات والتفاعل الاجتماعي، والحصول على المعلومة اللحظية المتدفقة من دون بوابات سيطرة، ولا حسيب أو رقيب، لكن آثارها السلبية، باتت فادحة، وتنذر بالخطر على المجتمعات، لاسيما حين تتناول الحساسيات الطائفية والدينية والقومية، وخصوصيات الأفراد، لاسيما النساء، عبر سلاسل من الإشاعات الممنهجة، ومن ذلك ان منظمة العفو الدولية رصدت 800 رسالة مسيئة موجهة الى نساء معروفات، في العالم، بما في ذلك عضوة في الكونجرس الأمريكي، ونائبة في المملكة المتحدة. وأظهرت بيانات الاتحاد الأوروبي العام 2017، أن 70 في المائة من تعليقات الكراهية غير القانونية، تم الإبلاغ عنها.
لكن ما يحدث في العالم الثالث، لاسيما العراق والدول العربية، أفظع من ذلك بكثير، فيما وسائل الردع أقل، مقارنة
بوسائل الغرب في الدفاع الرقمي.

وكلما انحدر الوعي، لم ترتفع معدلات الاخبار الكاذبة، فحسب، بل يزداد المصدّقون بها، فتنسحب على ردود افعالهم ومواقفهم، ويبدو ذلك جليا في التواصل العراقي والعربي، اذ غالبا ما ينسجم المئات مع خبر، ويتفاعلون معه، افتراضيا وواقعيا، فيما هو في الواقع، كاذب، ليس له أدنى نصيب من الصحة.
 
إنّ أيّ تحليل للبيانات المتعلقة بفعاليات العراقيين في اعلام التوصل الاجتماعي، من ناحية دقة المعلومات والصدق في مواقع التواصل الاجتماعي، سيدرك جيدا ان هذه النافذة العظيمة، يُساء استخدامها في العراق، والبلاد العربية اكثر من اية دولة أوربية، على سبيل المثال لا الحصر.

تجارب العراقيين في خارج البلاد، تفيد بان الشاب الهولندي، مثلا، يستثمر وقته على الفيسبوك، لأغراض ضرورية مثل التواصل مع العمل او مع صديق دراسة، او لأجل الأسئلة المتعلقة بالمهنة والهواية. وفي ألمانيا، فان التواصل الاجتماعي، باعتباره متعة وقضاء الوقت بلا طائل، يكاد لا تجد له اكتراثا، على رغم الانترنت السريع.

في الدول العربية يُوَظّف التواصل الاجتماعي، في أغراض سلبية، عديدة، ومتنوعة، أبرزها التهييج الطائفي والديني، والانتقاص من الشعوب والعقائد، والترويج الحزبي، والتحرش الجنسي، والتمييز بين النوعيات البشرية فيما يندر ذلك بشكل واضح في الشعوب ذات المستويات الجيدة في التربية والتعليم.

لا أحد ينكر، إنّ شركات الخوارزميات، ليست بعيدة عن الاتهامات بغضّها النظر عن الاخبار الزائفة التي يتابعها الملايين من المتابعين، فهي تفضل ارصدتها المالية، على المكاسب الأخلاقية والإنسانية.

سيكون أمراً عظيماً، لو اخذ الفرد في نظر الاعتبار، السلوكيات الأخلاقية والإنسانية في التعامل مع آلات التواصل الجديدة.
وسيكون مجدِيا جداً، إذا ما وُظّفت تقنيات التواصل الحديثة في انجاز معاملات المواطنين، من قبل المؤسسات الحكومية، كما يحدث في هولندا مثلا، حيث تخبرك البلدية والمؤسسة والصيدلية، بموعدك، ووقت استلام دوائك، ولحظة تلبية طلبك من متجر، واكتمال اصدار هويتك من قبل الجهة المعنية، عبر التراسل الفوري في الموبايل.

كما سيكون الأمر ذا نفع عظيم، حين نجد أنفسنا وقد تحولنا الى "كائنات اجتماعية" تديم الثقة وتعزز الصدق عبر
التراسل الافتراضي، وان نقدّم أنفسنا الى الاخرين، كما نحن، قلبا وقالبا، من دون الاختباء خلف شخصية افتراضية غامضة، أو وهمية.

ثمة حاجة الى تعزيز محتوى تواصلي عراقي، يرفد المتابع بالمعلومة الصحيحة، فيما على الجهات المعنية، ايجاد آلية مراقبة حديثة كما في أوربا، تغلق الثقوب السوداء التي يتسلل منها الكذب والتزييف، لكنها لا تتجاوز على حرية الرأي.

85
المنبر الحر / صحافة الموبايل
« في: 10:06 05/05/2019  »
صحافة الموبايل
عدنان أبوزيد

تُبدِّل الصحافة التقليدية رويداً، رويداً، شكلها، ومحتواها، بأساليب جديدة في النشر والتحرير، وفّرتها تقنيات الرصد   والتغطية اللحظية المتطورة.
انه التغيير الكبير، الذي يرسي دعائم إعلام جديد، يختلف جذريا عن الوسائل التقليدية، ولنركّز في هذا المقال على صحافة الموبايل، الذي أصبح مؤسسة كاملة لصناعة الأخبار.

الدراسات تفيد بان الكثير من صحافيي العالم، بدأوا يفضّلون صحافة الموبايل، يشجّعهم على ذلك الهواتف الذكية التي تسخّر لهم تقنيات تحرير المحتوى، بأسرع وقت، وبأدوات محدثة، وعلى أوسع نطاق.
في دول مثل اليابان، بات الهاتف، المصدر الأول لتلقي الخبر، ونشره، والرد عليه.
في أوربا، لا يجادل أحد في انّ الهاتف الذكي سوف يسيطر على الاعلام.
وفي دولة مجاورة مثل السعودية، أفادت دراسة بانّ نحو 82 بالمائة من الصحافيين يمارسون صحافة الموبايل.
وفي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، يصل الثلث من المستهلكين الى غاياتهم عبر الأخبار التي يوفّرها الهاتف الذكي. وسجّل موقع الجوال في نيويورك تايمز، 19 مليون حالة عرض في مايو 2008.

تنمو هذه الصناعة الجديدة بشكل واضح في العراق. وباتت النخب على مشاربها، والمواطنون يتابعون الاخبار ويصنعونها ويبثونها عبر مواقع التواصل، ومجاميع التراسل الفوري، و الرسائل القصيرة أو التطبيقات بواسطة الموبايل.

لقد سهّل التطور المذهل في صناعة الخبر ثم نشره بسرعة هائلة، توسيع مشاركة الناس في توجيه الحدث، والمشاركة
حتى في صناعة القرار، لتتشكّل بشكل نهائي، صحافة المواطن، البعيدة عن سيطرة الحكومات، والمتحررة من توجيه النخب والسلطات.

تفيد التوقعات، بانّ عصر الصحافة التقليدية على وشك أنْ يُدفن، وانّ أجهزة الاعلام الرسمية والنخبوية الى انحسار كبير إنْ لم يكن الى زوال، بل أنّ من المتوقع انه حتى دوائر القرار والزعماء والمسؤولين، سوف يلجؤون الى صحافة الموبايل لبث الاخبار والنشاطات، لاسيما وانّ التطلعات ستجعل كل شخص في العالم يمتلك الموبايل، فيما لا تحتاج دول أوربا الاّ الى جهد هيّن لجعل الموبايل بمثابة الهوية الشخصية والمنبر المتحدّث باسم الشخص، حتى في الدوائر الرسمية. 

أدركت الوكالات الخبرية العالمية، مثل رويترز، و ياهو، وفرانس بريس، وسي ان ان، وبي بي سي، أنّ لا مفرّ من حقيقة هذا التطور، لمقاومة الانقراض، فبدأت تعزّز المحتوى التفاعلي، لصالح حضور اكبر لصحافة الموبايل والمواطن الصحافي الذي يبلغ عن الاحداث عبر حساباته في التواصل الاجتماعي، فيدركها الصحافي المحترف ويحوّلها الى مادة أكثر عمقا، اذا تطلب الامر.

انتشرت أخبار وفاة مايكل جاكسون في العام 2009 على وسائل التواصل قبل أية شبكات أخبار كبرى، قبل نحو الساعتين من تأكيده من قبل لوس أنجلوس تايمز، وأسوشيتد برس. وفي العراق، ينقل ناشطون أحداثا لاتصل اليها الصحافة التقليدية، في القرى، والمناطق النائية، كما التقط مواطنون صورا ومقاطع فيديو، لحادثة "العبّارة" في الموصل وهي تغرق، ونقلتها عنهم وسائل الاعلام المحلية والعالمية.
 
ينتظم عراقيون في مجموعات تراسل فوري، حيث يتراوح أعضاء كل مجموعة بين 100 الى 1500 من المشاركين.
وفي لحظات، يمكنك ارسال الخبر الى المجموعة، وفي لحظات أيضا يمكن صناعة الخبر، نصا وصورة، ليتداوله خلال دقائق، المئات، بل الالاف من المتابعين.
تتطلب هذه الصناعة في العراق، وعيا أكثر بتأثير الخبر على الناس، مثلما تقتضي مستويات جيدة من التعليم والثقافة،
لكي لا ينساق المواطنون وراء الاخبار الكاذبة، التي تؤثّر في المجتمعات الجاهلة، فيما تأثيرها محدود، في نظائرها الواعية والمتعلمة، حيث الأفراد يميّزون قيمة الخبر، ومصداقيته، بسهولة.

adnanabuzeed@hotnmail.com


 
 
 

86

التسامح.. سرّ التفوق والإبداع

عدنان أبوزيد

تعددّت الأسباب، لكن الهجرة واحدة، بين من ينصرف عن بلاده، هربا من الحرب والاقتتال، وبين الذي يقرّر مغادرة وطنه بحثاً عن لقمة العيش، وتحسينا لوضع عائلته الاقتصادي التي ترك أفرادها، مرغماً.
في اغلب الأحوال، إنْ لم يكن كلها، فانّ الهجرة تقصد البلدان المتسامحة، التي لا تقيّم الفرد على أصوله، ودينه وطائفته، وقد نجحت هذه الدول، بسبب هذه النزعة الإنسانية - مهما شكّك البعض في مقاصدها-، ايّما نجاح، في استقطاب الكفاءات والعقول، والأيدي العاملة الذكية.

أميركا وأستراليا وكندا وهولندا والسويد، وغيرها من "الدول المضيّفة"، تستقبل كل عام، الآلاف من المهاجرين الباحثين عن الحرية والفرص والمساواة. وفي حين نجحت الاغلبية من المهاجرين، في ضمان مصدر العيش الكريم والمستقبل الخالي من القلق، بسبب النظام الاجتماعي العادل، الذي يوفّر السكن والراتب الشهري حتى للعاطل عن العمل، فان هناك من المغتربين من نجح مهنيا، في الطب والهندسة، والأعمال الحرة، وارتقى المراتب العالية، اما في السياسة فحدّث عن النجاح، ولا حرج.

من ذلك، انّ عائلة بوش ذات أصول إنجليزية وألمانية، أصبحت السلالة السياسيّة الأكثر نجاحًا في التاريخ الأميركي، بعد هجرتها.
الرئيس الأمريكي بيل كلنتون، ابن بائع جوال من أب مهاجر، هو ويليام جيفرسون بلايث الأول (1918-1946)، وقد توفي والده بحادث سيارة بعد ولادة بيل، بثلاثة شهور.
زوجته هيلاري، التي ولدت العام 1947، من عائلة بريطانية في الأصل، يعمل أفرادها في المناجم.

ولأنّ التسامح يضمن اعتراف المجتمع بحق العيش في نظام قيمي يحترم الانسان، من دون شعارات وتنظيرات بلا تطبيق، افرزت الحالة الاجتماعية، والإدارات المؤسساتية الحقة، الابداع والخلق، مهما كان مصدره، سواء من ابن البلد الأصلي، أو من المهاجر.
ألبرت أينشتاين من عائلة يهودية، ولد العام 1879، وكان والده هيرمان يمتهن بيع الرّيش المستخدم في صناعة الوسائد، وعملت أمّه بولين كوخ في ورشةٍ لتصنيع الأدوات الكهربائية، لكن التسامح، أتاح لعقله الابداع والابتكار، قبل ولادة البعبع النازي المتشدد.
 
وزير خارجية أمريكا الأسبق هنري كسينجر، مهاجر من المانيا، والوزيرة السابقة، أولبرايت، مهاجرة من تشيكوسلوفاكيا‏، فيما‏ كولن باول مهاجر من جامايكا، وكان والده محاسبا، وأمه خيّاطة‏.
 
الرئيس الكولومبي السابق خوليو طربيه، ابن مهاجر لبناني، وكارلوس منعم الذي حكم الأرجنتين، سوري الأصل، وغيرهم الكثير من النخب المهاجرة في أمريكا اللاتينية.

وكلما اتّسعت مساحة التسامح، زخر التنوع الذي يغني المجتمع بالأفكار والمشاريع، والابتكارات، وحيثما حلّ التعصب،
انحدرت الشعوب الى التخلف والحروب الاهلية، ومعارك الكراهية التي تقتل زهور الابداع، وتمنع الشمس عنها.

وهناك الكثير من المهاجرين الذي لا يبحثون عن المال، ومنهم من بلدان عربية ونفطية غنية، وعلى رغم انهم يتمتعون بمعدلات دخل عالية، في أوطانهم، فانهم يهجرونها، ويهرعون الى دول ديمقراطية متسامحة.
بل انّ رجال اعمال ومليارديرات، يؤاثرون بلدان الغرب بسبب الحرية والاعتدال، والأمن، فيحرصون على نقل أرصدتهم من بلدانهم اليها، ويفضّلون الاستثمار فيها.

فواز حجار، مهاجر سوري، بدأ عمله بمشروع "بيتزا" صغير، وحين دخل الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الأب، وزوجته باربرا بوش، مطعمه، صدفةً ، لشراء قطعة بيتزا، سمحا له بإطلاق اسميهما على المأكولات التي يحضّرها، لتطبق شهرته، الآفاق. 
 
ووصلت ثقافة تقبّل الآخر، واحترامه، الى اقصى انفتاحها، حين تجد مهاجرا نجح في دولة مثل الولايات المتحدة او ألمانيا، لكنه يجاهر بحبّه لبلده الأصلي، ويرفع علمه حتى في المحافل الرسمية، من دون ان يثير ذلك، الحفيظة.

كان الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية نيكسون، يتحدث دائما على القيم الإنسانية والرحمة، التي طُبّقت بشكل عملي لا تنظيري، كما هو الحال في البلدان العربية والإسلامية، حيث يكثر الكلام وينقص الفعل، وانتقد ذات يوم افراد شعبه بالقول ان "بعض الأمريكيين يميل إلى تصوير المسلمين على أنهم نمط واحد من الناس غير المتمدنين، غير النظيفين، المتوحشين وغير العقلانيين"، محذرا من نزعة العنصرية والكراهية، التي إذا ما تمكّنت من الشعوب، نخرتها، وحالت دون وقوفها، قوية، ماجِدة، تحت الشمس.
adnanabuzeed@hotmail.com


87
السؤال الخالد.. لماذا تخلّفنا؟

عدنان أبوزيد

لا يزال السؤال التقليدي الذي تنشغل به مختلف المنابر الفكرية والإعلامية، منذ عقود، يضغط بشكل غير مسبوق: لماذا تأخر العرب عن حضارة العصر؟.

تصفّح غوغل، يتيح رصد أعداد لا حصر لها من البحوث والدراسات، من مختلف الاتجاهات الفكرية، يتقاذف فيها أسباب الانكفاء الحضاري، علمانيون واسلاميون، من سياسيين واقتصاديين ورجال دين، وباحثين، فيما لم يسفر هذا الجهد عن نتائج محسوسة تساهم في تقليل الفوارق بين الأمم المتحضرة والمتأخرة، بعد ان تحوّل الى نقاش عبثي للدفاع عن المصالح والعقائد، لا الحقائق.

الجديد في الإشكالية الحضارية هذه، انّ الكثير من أبناء الشعوب العربية والإسلامية، باتوا يٌخدعون بوهم تقلّص التفاوتات، لاعتقادهم ان حيازة الأدوات المادية من سيارة وتلفون ووسائل اتصال، وتقنيات، يجعلهم في مصاف الدول المتطورة، فيما الحقيقة ان التباينات تتّسع بشكل غير مسبوق، لا سيما في مجالات الاستقرار المجتمعي، والسلم الأهلي، والصناعات والابتكارات المحلية، والهوية الثقافية، والسلوك الحضاري.
وفي الدول النفطية الغنية، بشكل خاص، يكاد ينعدم تمييز الاختلافات الحضارية، بسبب الغشاوة على العيون والعقول التي تتسبّب بها الحضارة الخدمية الجاهزة، التي لا يبدع فيها المواطن، ولا يشارك فيها الا بقدر بسيط، حيث كل شيء مستورد وجاهز، وهو ما يحصل في العراق، على سبيل المثال، لا الحصر.

لقد نجحت الدول "النامية" انْ لم تكن "المتخلّفة" في جعل مجتمعاتها سوقا مفتوحة ليس للبضاعة المادية فحسب، بل
للسلعة الثقافية والفكرية، وهو انفتاح محمود، لكنها فشلت في التأسيس لسلعة وطنية على ذات المستوى من التأثير والأداء، وفيما اتخُمت الشوارع بالإعلانات الضوئية عن الأحزاب، والمشاريع الثقافية والمعرفية، والاقتصادية، فان هذه الكيانات تحوّلت الى نجوم ناجحة إعلاميا، لكنها فاشلة في التغيير والبناء وانتشال الناس من التخلف والضياع.

واستعارت الدول، تجارب منظمات المجتمع المدني، ومنتديات الحوار، والمؤسسات الاجتماعية، والبحثية، لكنها أصبحت في النتيجة أذرعا سياسية للقوى المتنفذة، وغرقت في الفساد.

وحتى في وسائل الإنتاج المادي، فانّ الذي استورد المكائن الانتاجية، أنتج سلعا فاسدة لا تضاهي المنتوج الأجنبي.

كل ذلك، يعود الى اعتماد الانقلاب الشكلي، والديكورات السياسية والاجتماعية والعلمية، فيما بقيت الأمراض والمشاكل، على حالها، بعد ان تحولت القيميّة الى ادّعاء.

أحد الأمثلة الشاخصة في عراق اليوم، العدد "المرعب" من الجامعات في مختلف المدن التي تخرّج مستويات متدنية
في العلم وتطبيقاته، وفي دولة مثل هولندا فانّ مهارات خريج مدرسة صناعة تتفوق على تلك التي يمتلكها خريج جامعة في العراق في ذات الاختصاص.

كما ان الفلاح الألماني يتفوق كثيرا في مهنيته، وابداعه وقدره على الابتكار، من الكثير خريجي كليات الزراعة ومعاهدها، في بلدان "العالم الثالث".
 
أحد أسباب الترهّل في الانطلاق الى المستقبل الذي يمسح الفوارق الحضارية، هو بنية الانسان الفكرية، المدمنة على الأنماط الفكرية النقلية، التي تلتفت كثيرا الى الماضي، وتنظر من خلال ثقبه الى المستقبل، الامر الذي يجعلها تسير بأثقال من العقد التاريخية والدينية ومظاهر النفاق الاجتماعي.
وكان نتيجة ذلك، تحوّل الفرد الى شخص تنظيري عاطفي، ومجادل بارع في النصوص الدينية والسياسية والتاريخية، فيما الابداع والابتكار، ينحسر.
 
التكدسات الماضوية، وهي تتفاجأ بتطورات العصر السريع المستوردة وليست المستنبطة من قبل الفرد، ولّدت غالبية مشوّهة فكرياً وسلوكياً، قادت الى انفصام واضح في ذات الفرد، بين مثاليات تحفل بها النصوص المحفوظة عن ظهر قلب، وبين الواقع المرير الذي يعاني من نقص الخدمات في مختلف القطاعات.
انّ الارتهان إلى الخطاب الاجتماعي والسياسي، والإعلامي، الحالي سوف يعوق وظيفة العقل الجمعي الابتكاري،

لان التلقين والتربية في المدرسة والمجتمع القائم على النرجسية الماضوية، والافتخار بأمجاد غابرة، واليقين بانّ ما لدينا من معتقدات هي أفضل من مثيلاتها لدى الاخرين، تضغط على العقل، وتجعله أسير الحدود التي رسمها لنفسه، وتقذف به خارج معادلة التطور والانفتاح.

adnanabuzeed@hotmail.com


88
هل يحترم العراقيّ الوقت؟

عدنان أبوزيد

مع انّ الوقت الذي يفرّ من أيدينا كل يوم، هو رحلة الى المستقبل، الا اننا نشعر بخسارته، ويتعاظم الإحساس بفقدانه أكثر، كلما تقدّم بنا العمر، وزاد الالتفات الى الماضي.

الفرق بين الشعوب المتقدّمة والمتأخّرة، انّ الأولى لا تستدير الى الوراء، بل تجري الى الأمام، فيما الشعوب التي تعطّلَ الزمن عندها، تعيش في الماضي، وتنهل منه حاضرها، بأدق التفاصيل، ما جعل منها في حالة من ازدواجية التفكير، ماضوية الأدوات، لا تهتم للمستقبل الا كونه نسْخاً مطابقا للماضي.

لا ابالغ في القول، حسب تجربتي في العيش مع شعوب مختلفة، لاسيما الأوربية الغربية منها، انّ الزمن لدى الانسان العراقي يمر في حالة "تراخ شديد"، وانّ عقارب الساعة تتحرك بسرعة أقل، إذا ما عبّرنا عن ذلك مجازيا، واستسلمنا لنسبية الزمن.

والشعوب مثل الأفراد، فالفرد الذي تجاوز سن الأربعين، يشعر بمرور الوقت بدرجة أسرع، من الشخص الثلاثيني،

فيما الوقت كان بطيئا جدا في طفولة كليهما، ليتسارع رويدا، مع السنين.

الوقت الذي تقيسه المشاعر، يتباين كثيرا عن الذي يؤشره بندول الساعات الجامد الإحساس، وقد قرر العلماء في جامعة "هارفارد" الامريكية انشاء شبكة من الساعات الدقيقة، تحدّد الوقت بدقة متناهية لم يعرفها العالم من قبل تعتمد على سيل من معلومات توفرها ساعات تنشر في جميع أنحاء العالم بحسب تقرير نشرته مجلة "الفيزياء والعلوم الطبيعية" الامريكية.

الساعات تعتمد في الوقت الحاضر، على شبكات افتراضية وليست حقيقية ترتبط مع بعضها البعض في انحاء الكرة الارضية. ويعتقد العلماء ان هذه الطريقة الجديدة في حساب الوقت ستوفر دقة تعادل مائة مرة، أدق ساعة ذرية عرفها العالم الى الان، لا يتم تعديل انحرافها إلا بأقل من ثانية في كل 14 مليار سنة. وترتبط شبكة الساعات هذه بعشرة من الأقمار الصناعية، وتتواصل مع بعضها البعض ومع ساعة ذرية في المدار حول الأرض، حيث يرسل القمر الصناعي المعلومات الى الساعات على الأرض، لتصحيح أي انحراف في الوقت.

هذه الاكتراث للوقت هو سر تقدّم الأمم التي تسعى الى ساعات أكثر دقة، لكي يكون تعاملها مع المستقبل، أكثر حيوية، وأجزل عطاء، فلم يعد الوقوف طويلا عند الماضي، يشغل الشعوب طويلا، طالما انّ لا وقت يتوفر للانتظار على اطلاله بعد ان تعددّت أدوات اختزال الدقائق والساعات في العمل والدراسة، للوصول الى نتائج أفضل بأقل جهد، وأقصر وقت.

العراقيون الذين سُرق زمنهم لنحو عقود، تبدّد خلالها الوقت، والثروة، والبشر، مطلوب منهم تعويض ذلك اضعافا مضاعفة اذا ما ارادوا اللحاق بالمستقبل والخروج من نادي الدول التي لا تحترم الوقت ولا تدور في عجلة الزمن.

بل انهم يحتاجون الى تقويم زمني يختلف في تفاصيله توقيتاته عن الشعوب التي لم يفتها قطار التعليم والسلام والأمان،

وان لا تدع عقرب الساعة يقف عند محطة بابل واشور وأور، لأنها في مفردات العصر، ليست سوى أطلال زمنية، نعتز بها، ولا نقف عندها.

انّ الرؤية المكانية للوقت، تحتم ديناميكية التفكير، والتخلي عن التعصب الزمني، الذي يقود الى "التخشّب" الذي يخدع سهم الحاضر ويجعله يتّجه الى السالف، الآنف، لا الآتي، المُقْبِل.

وفي الواقع، فإننا لا زلنا نتعامل مع الوقت بمفردة عنفية، تقول: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، وهو مفهوم، لم يقدّم لنا مفهوما عمليا، او يحقّق لنا إنجازا، لأنه يصوّر الزمن غريما، يجب الانتصار عليه، من دون امتلاك أدوات مناسبة للحرب معه.
الكفاءة في "ترشيد" الوقت، يقرّب من الشعوب المتقدمة التي وضعت "العقرب" الصاعد للمستقبل، لا النازل الى الماضي، رمزا مقدسا.

بعد كل ذلك، انطلق في أفكار المقال، من التسليم بان المتابع يدرك الفرق بين الزمن والوقت.

صفحات: [1]