عنكاوا كوم تزور دير مار كوركيس في الموصل
دير رابض على تلة يزخر بذكريات جميلة لمسيحيي الموصل 
الموصل –عنكاوا كوم –سامر الياس سعيد مهما توالت الأعوام، فإن لدير مار كوركيس حضور واسع في مخيلة مسيحيي الموصل خصوصاً وأن موقعه قريب من الأحياء السكنية ما يدفع العشرات من المسيحيين لأن يزوروه في أوقات متفرقة خاصة ما ليوم الجمعة من وقع خاص حيث تجتمع العوائل المسيحية لتلتقي في فنائه الواسع وتنعم بأجواء الخشوع والسكينة التي يتمتع بها الدير.
وكان دير مار كوركيس في السنوات السابقة، يربض على تلة تحيطها تلول واسعة كان أغلبها يعد من أملاكه، إلا أن السنوات المتتالية أفقدت للدير هذه الخصوصية بزحف الدور إليه، فأحيط بالكثير منها حتى اختفت معالم التلول الخضراء التي كانت تزخر بمئات الأشخاص الذين كانوا يقصدونه ويخرجون لافتراش تلك الربوع التي ترتدي اللون الأخضر خاصة في نيسان حيث يحتفل الدير بتذكار شفيعه القديس مار كوركيس وتكون تلك المناسبة لتوافد المئات من أبناء شعبنا للاحتفال بهذه المناسبة التي بقيت تحمل ذكريات خاصة لدى مسيحيي الموصل رغم تناقص أعدادهم بسبب الظروف التي عصفت بالمدينة خلال الأعوام السابقة.
ورغم قدمية الدير وموقعه الذي ميز به المنطقة السكنية، إلا أنها حملت عنواناً آخر عكس ما كان متوقع حيث حملت اسم حي جابر بن حيان كون هذا الاسم كان لمنشاة تابعة لهيئة التصنيع العسكري كان موقعها بين إحدى التلال المحيطة بالدير.
ماذا يقول التاريخ عن الدير؟ربما لا أجد أوسع مما سطره العلامة الدكتور يوسف حبي حول الدير، فقد وضع بمثابة دليل تعريفي حول الدير حمل عنوان (دير مار كوركيس) ابتغى من خلاله الأب حبي أن يكون هذا الكتيب دليلاً تعريفياً يضيء لقاصدي الدير من الزائرين والسياح أن يحصدوا اضمامات تاريخية حول بروز هذا الدير والتواريخ التي حملت أحداثاً مهمة بالنسبة إليه.
ففي بند التأسيس نقرأ ما سطره الأب يوسف حبي حول الدير الذي كان في الأصل كنيسة خاصة لقرية تدعى "بعويرة" أي المعبر وبانتقال القرية من موضعها القديم حيث يقوم الدير حالياً إلى ضفة نهر دجلة الذي غير مجراه جهة الغرب، انعزلت الكنيسة عن السكن، فأهملت رويداً رويداً وقد كان لقرية بعويرة وكنيستها في الماضي السحيق عهداً زاهراً ويجهل تاريخ تأسيس هذه الكنيسة إلا أن الموثوق بأخبار وجودها تعود إلى أواسط القرن العاشر ولعل تأسيسها يرجع إلى فترة تسبق هذا التاريخ بكثير.
بينما يكون الأب الدومنيكي برنار ماري كورماشتيك قد توصل إلى تحديد شكل الموقع في مطلع القرن السابع عشر من خلال ما استنتجه من تقارير الآباء الذين سبقوه حيث يشير إلى أن الموقع كان محاطاً بحائط مرتفع كأنه سور تتوسطه كنيسة ويقوم على حراسته شماس نسطوري يسكن فيه مع عائلته ويعتاش من العطايا التي كان المؤمنون يجودون بها عليه عندما يقومون بزيارة الموضع أما الدير الحالي فإن أول ذكر له يأتي في مخطوطة مؤرخة في العام 1691 كانت محفوظة في دير السيدة لرهبان الكلدان.
كما يشير الأب يوسف حبي إلى أن عنوان المخطوطة كان يحمل اسم (أصول المعارف المدرسية لمحبي العلم) بالسريانية وقد ألفها ورتبها الناسك إيليا شماس كنيسة فيروز شابور (الأنبار) التي هي برتبة أسقفية وقد تمت في 26 تشرين الأول سنة 1691 بيد كوركيس ولدير مار كوركيس بالقرب من الموصل كما يتجدد ذكر الدير في مخطوطة أخرى تعود لسنة 1710 من خلال مخطوطة محفوظة في مكتبة دير السيدة كما يشير الأب حبي قائلاً إن عنوانها هو (كتاب أسباب تقسيم المزامير لداود) وقد كتبت على طلب خاتون وأمها سيتي ابنة القس إيليا لدير مار كوركيس في بعويرة كما أن هنالك مخطوطة أخرى كتبت في العام 1744 يرد فيها ذكر الدير وهي محفوظة حالياً في المكتبة الوطنية بباريس ويتابع الأب حبي إلى أواسط القرن السادس عشر أو ما بعده غدت كنيسة مار كوركيس القديمة ملكاً للرهبان وأضحى الموضع مزاراً يقصده الناس ويقوم بحراسته شخص مع عائلته وقد كان الرهبان يترددون عليه وفيما بعد استقروا فيه أي في أواسط القرن التاسع عشر كما أن هنالك عدد من الآباء الدومنيكان كانوا قد قصدوه ومنهم الأب دومنيكو كوديليونجيني الايطالي الذي أوفده البابا بندكتس الرابع عشر إلى العراق للرسالة وعمل فيها منذ العام 1750 وتوفي بالحمى عن عمر 38 عاماً فدفن في كنيسة الدير وذلك في العام 1753 بإزاء الباب الكبير للكنيسة وكان الضريح قائماً حتى أزاله تجديد للدير حدث في العام 1843.
ويتكرر ذكر الدير في مخطوطة أخرى كتبت في القوش العام 1778، واحتوت على ميامر اسحق النينوي وقد قدمتها إحدى التلكفيات (نسبة إلى تلكيف) التقيات إلى كنيسة دير مار كوركيس كما يشير الأب العلامة الراحل يوسف حبي.
وبالنسبة لكونه كان مشروعاً لدير كهنوتي، فإن الدير دخل مرحلة هامة من مراحله في أواسط القرن التاسع عشر حينما قرر البطريرك نيقولاس زيا أو أشعيادي جاكوبي (آل يعقوب) باستخدام الدير مقراً لمعهد كهنوتي، فسعى من أجل تجسيد هذا الأمر إلى تعمير الكنيسة وإضافة سبع غرف وكان هذا العمل قد تم في العام 1843 وقد تباينت الآراء فيما بعد حول تثبيت موقع الدير الكهنوتي كما أشار الأب الدكتور يوسف حبي من خلال طلب القاصد الرسولي لورنس تريوش أن يكون مقر المعهد في بغداد فيما فضل آباء آخرون أن يكون موقع الدير الكهنوتي في خوسراوا في إيران.
ومضت الأعوام دون وجود قرار يرسخ تثبيت الدير الكهنوتي حتى عادت الفكرة مجدداً مع نهاية العام 1851 حينما تسلم القصادة الرسولية الأب اليسوعي بندكتس بلانشيه فكتب إلى المجمع بأنه وجد في دير مار كوركيس موضعاً بوسعه أن يكون صالحاً جداً لجعل منه كلية للطائفة الكلدانية وأنه دير صغير على اسم مار كوركيس لا يسكنه سوى أشخاص قلائل بقصد الحفاظ عليه بينما واجه هذا المشروع فصولاً من التعقيد حينما تم تأجيل تنفيذ مشروع الدير الكهنوتي بناءً على طلب البطريرك يوسف أودو (1847-1878) حتى تحول المشروع لأن يحل في كنيسة مار أشعيا.
وفي شهر أيلول من العام 1863، طلب البطريرك يوسف أودو إرسال كاهن وبعض الأخوة الرهبان إلى الدير للسكن فيه وحتى يصبح الدير من الأديرة القانونية التي يسكنها الرهبان، وقع الاختيار على الأب قرياقوس كوكا وثمانية رهبان لهذا الغرض وكان ذلك كما سجلت الأخبار اليومية التي سجلها رؤساء الرهبنة الهرمزدية الكلدانية في 17 تشرين الأول من العام المذكور ومن هذا التاريخ توالى تعاقب الرؤساء والرهبان كما سنذكر تباعاً حيث تولى رئاسة الدير الأب قرياقوس كوكا والرهبان الثمانية وهم كلاً من يونان، وطوبيا، وإيليا، وبطرس، وإسطيفان من تلكيف وجرجس زعورا من بابل، وياقو من بيوس، وموشي من أذخ.
ويعد الأب كوكا الرئيس الأول للدير، وحملت سيرته الكثير من الأعمال الجليلة ومن بينها أنه اشترى عقارات واسعة لتأمين معيشة الرهبان وذلك بمساعدة أهالي تلكيف بينما تولى رئاسة الدير من بعده الأب أندراوس من كويسنجق وقد ورد أمر رئاسته للدير في 19 آذار 1903 رغم أنه كان قد استلم الرئاسة قبل هذا التاريخ بكثير، وتسلم رئاسة الدير في أواخر سنة 1903 الأب أسطيفان أوجين، واستمر بهذه المهمة حتى العام 1906 حيث استلم تلك المهمة الأب إيليا من شرانش.
ويليه الأب بينامين إوزا الذي اختير على اثر إجراء انتخابات جرت في شباط العام 1917 وبقي حتى آذار من العام 1924 وقد قام هذا الأب بعملية تجديد للدير شملت توسيع بعض مرافقه وفي تلك الفترة التي سبقت تاريخ توليه مهمة رئاسة الدير وحل برئاسة الدير بعده الأب موشي أرميا وهو من أهالي أورمية واختير في آذار من العام 1924 لرئاسة الدير وفي العام 1936 حل الأب يوسف داد يشوع نجار (نكارا) ليكونا رئيساً للدير وقد اشترى الأب نكارا عقارات واسعة للدير وسجلها في دائرة الطابو وكانت مدة رئاسته (18) عاماً بعده حل الأب انطونيوس كوركيس الذي دبر الدير لمدة 3 سنوات ابتدأت العام 1939 حيث حل الأب ميخائيل إيشوع رئيساً للدير وبقي في هذه المهمة مدة 8 سنوات ومن العام 1962 حل الأب بولس انويا لإدارة الدير وقد عين لإدارة المدرسة الرسولية في الدير أما الأب فيليبس اسحق فقد حل بعده ودبر الدير لمدة عامين تلاه بعدها الأب عبد الأحد ربان حيث دبر الدير رئيساً عاماً منذ العام 1963 وتولى رئاسة الدير بعدها الأب هرمز شلال الذي استلم رئاسة الدير العام 1966 وقد تجدد الدير في عهده أعقبه بعدها الأب شربيل جبرائيل الذي تولى رئاسة الدير حتى العام 2000 حيث حل الأب فادي ايشو حنا برئاسة الدير ليستمر خمسة أعوام في هذه المهمة الروحية حتى حل الأب أوراها قرجو قرداغ في العام 2006 وليستمر عاماً كاملاً أعقبه الأب روني اسحق واستمر في رئاسة الدير عامين حتى حل الأب دنخا حنا توما في العام 2009 ولا يزال.
الدير في حاضره الراهنويقول الأب دنخا في حديثه لـ "عنكاوا كوم" إن العديد من الترميمات أجريت على الدير لعل أهمها كان في العام 1968 حيث تم صب سطوح الدير بالكونكريت المسلح وتم تجديد الجناح الغربي من بيت الرهبان بعدذلك العام، إلا أن العام 1998 شهد تجديد الكنيسة الخاصة بالدير والتي تسمى كنيسة المعبد الصغيرة التي تقع في الطابق الأرضي وكتب في رخامة صغيرة بالحرف الأسطرنجيلي وضعت فوق باب الكنيسة أن تجديد الكنيسة كان لمرة ثانية في عهد البابا يوحنا بولس الثاني والبطريرك مار روفائيل بيداويد بطريرك بابل على الكلدان والأنبا قرياقوس ميخو الرئيس العام للرهبنة الأنطونية الهرمزدية وباهتمام الأب شربيل جبرائيل رئيس هذا الدير كما تم تجديد الدير بالاهتمام بالغرف الخاصة بالدير فضلاً عن غرف جناح بيت الرهبان وذلك في العام 2005 وفي عهدي رئيسي الدير الأب شربيل والأب فادي.
ويتابع الأب دنخا قائلاً إن الدير في أيامنا الحاضرة يحتضن الكثير من الأنشطة الروحية كونه يفتح أبوابه لاستقبال المؤمنين في الصباح والمساء وفي كل الفصول حيث يقصده الكثير من المؤمنين للتبرك والصلاة، كما تقام القداديس والصلوات فيه أيام الآحاد كما يقيم قداديس بالمناسبات الروحية كالأعياد والتذكارات، ولكنه يحظى بخصوصية من قبل مؤمني الموصل في يوم الجمعة حيث يستثمرون يوم العطلة للتوافد على الدير من خلال الصلاة كما يضيف الدير في الوقت الحالي وبصورة مؤقتة روضة كنيسة مار بولس الكلدانية بسبب خضوع مقر الروضة الأصلية لأعمال تأهيل وترميم كما يستقبل تجمعات المؤمنين من خلال إقامة رياضات روحية بالإضافة إلى أن الدير يستقبل أسبوعياً "أخوية جماعة المحبة والفرح لذوي الاحتياجات الخاصة" كما تقام في جرن المعمودية الخاصة بكنيسة الدير العمادت للمواليد الجدد.
ويتحدث الأب دنخا عن ازدهار أحوال الدير في الوقت الحاضر إذ يشير إلى أن عيد شفيع الدير يشهد حضوراً غفيراً من قبل المؤمنين حيث يحتفلون بالعيد في 24 نيسان من كل عام، ويشتمل منهاج العيد على إقامة الذبيحة الإلهية بحضور مطران الأبرشية والرئيس العام للرهبنة الأنطونية الهرمزدية ولفيف من الآباء والرهبان الأفاضل.
انتهى الأب دنخا رئيس الدير، وواصلت زيارتي لأتابع أروقته التي ازدانت بالمغارة التي عدت رمزاً للميلاد وقد احتلت مؤقتاً نصب الأنبا انطونيوس رئيس الرهبان في العالم.
وفي الفناء الخارجي انتصب تمثال أخر لشفيع الدير مار كوركيس وهو يحمل رمحه ليقضي به على التنين، وقد أحيطت بالنصب حدائق جميلة هيئت فيها مقاعد تم تخصيصها للمؤمنين ليقضوا في حواضر الدير يوماً روحياً يحفل بالكثير من الذكريات الجميلة التي ترسخت في ذاكرة مسيحيي المدينة عن الدير.