الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان
مُسَلسَلٌ بحلقاتٍ مُستلة مِن كتابي ( الكلدان والآشوريون عِبرَ القرون ) المُرتقب صدورُه في مطلع العام القادم بعمن الله
الحلقة السابعة
سُلالة كلخو الثانية
العصر الإمبراطوري الأول ( 911 - 745 ق . م )
.
إستَهَلَّ الملكُ ( آشور ناصر بال الثاني 882 - 860 ق . م ) حُكمَهُ من نينوى ومنها قاد غزواتِهِ ، وفي سنة مُلكِهِ الرابعة نقل عرشَهُ الى مدينة كالح ( نمرود ) التي شيَّدَها الملك شلمَنَصَّر الاول في الجهة اليُسرى من نهر دجلة قُربَ مَصَبِّ الزاب الأكبر ، وبالرغم من اهتمام آشور ناصر بال ببناء القصور و معابد الآلهة الحديثة في كالح على أنقاض القديمة منها التي أمر باقتلاعِها من الأساس ، كان شغوفاً بخوض غمار الحروب لم تمنَعْهُ الحواجز الطبيعية كالأدغال الشائكة الكثيفة والممرات الجبلية الضيقة ومضايق الانهار ومعابرها ، ففي خلال الأعوام الثمانية الاولى من حُكمِهِ استطاعَ اكتساحَ مُجمَلَ البلاد الواقعة شرقيَّ مملَكَةِ آشور وغَربيَّها وشماليَّها ، كان شديدَ القسوة على المغلوبين فظيعَ الانتقام من المقاومين ، يهونُ عليه التدميرُ والحرقُ والذبح ُ ولا يُشبِعُهُ السلبُ والنهبُ رغم هَول حَجمِِ السلائبِ كُمّاً ونوعاً ، وفي سنة حُكمِهِ التاسعة عَزَمَ على اقتحام بلاد الآراميين ، فخرجَ من كالح مُتوجِّهاً نحو الجزيرة ، وعَبَرَ نهرَي الخابور وباليخ ودَخَلَ كَركَميش ، فاستقبَلَهُ ملكُ الحثيين سِنكَار وقدَّمَ له هدايا نفيسة ومتنوعة ، ثمَّ نَزَلَ الى ناحيةِ البحر المتوسط ، فاستسلَمَت له مُدُنُ صور و صيدا و جُبيل وانتهى به المُطافُ الى جبل لبنان ، فقام الآشوريون بِقَطع أشجار الأرز والصَنَوبَر والسرو وإرسالِها الى نينوى . صرف آشور ناصر بال سِني حُكمِهِ الأخيرة في تجميل عاصمته كالح وزَخرَفَتِها ، حيث فتح قناةً من الزاب لِجَلب المياه الى المدينة وأنشأ على ضَفَّتيها بساتين كبيرة غرز فيها أشجاراً متنوعة وبنى فيها قصوراً ومصايفَ جميلة .
تولّى الحُكمَ بعد وفاة آشور ناصر بال الثاني إبنُهُ ( شلمنَصَّر الثالث 860 - 825 ق . م ) فاقَ والِدَهُ شُهرةً و شجاعةً وغزواً ، وكانت سنواتُ حُكمِهِ الطويلة مَدارَ حروبٍ متواصلة ، إقتضَتها ضرورة المحافظة على حدود وسلامة المملكة الغنية والواسعة التي وَرِثَها ، وكانت تُحيطُ بها ثلاثُ ممالك قوية احترزَ والدُهُ بدهائه أن لا يتعرَّضَ لها هي مملكة الكلدان ومملكة د ِمَشق ومملكة أراراط ، ولكنَّ تَوقَ شلمنَصَّر المُلِح للحصول على مجدٍ أكبر وشُهرَةٍ أوسع ورغبةً منه في ضَمِّ ممالك أخري الى سُلطتِهِ ، عَزَمَ على مُهاجَمَة هذه الممالك الثلاث وإلحاقِها بمملكتِهِ ،فبدأ ومنذ العام الأول لِحُكمِهِ بسلسلةٍ من الحملات العسكرية ، فأغار على مملكة أراراط في الشمال التي برزت في منتصف القرن التاسع ق . م ، وكانت في ا لقرن الثالث عشر إحدى الامارات الحورية التي تصدّت لشلمنصر الاول وأداد نيراري الثاني أيضاً ، ضَمَّت قبائل جبلية وشكَّلت قوة عسكرية مضاهية للقوة الآشورية ، إلا أنها لم تستطع الصمودَ أمام الآشوريين رغم مقاومتهم الكبيرة .
بعد أن انتهى من أمر مملكة أراراط ، توجَّهَ شلمنصر نحو مملكتَي دمشق والكلدان ، ولما عَلِمَ ملكُ دمشق أداديري أو ( بنهداد ) بحسب التوراة بقدوم الآشوريين حشد جيشَهُ واستعدَّ لمُلاقلتهم ووقف الى جانبِهِ عشرةُ ملوك من الديار السورية بجيوشهم ، وتجمَّعوا في منطقة قرقر القريبة من حماة ، حيث دارت بينهم وبين الجيش الآشوري معركة ضارية كان النصرُ فيها للآشوريين .
في عام 852 ق . م تنازعَ على الحُكم في بابل ( مردوخ شمي دان ) و ( مردوخ بلاد سكبا ) ، فاستنجَدَ مردوخ شمي دان بملك آشور شلمنصر الثالث الذي كان يرتبطُ بصَداقةٍ معه ، إستجاب الملكُ الآشوري لنداء صديقه ، وزحفَ بجيشه عام 851 ق . م على بلاد الكلدان وألحق الهزيمة بقوات مردوخ بلاد سكبا ، وثبَّتَ صديقه مردوخ شمي دان على عرش بابل .
في عام828 ق . م تَزَعَّمَ واحدٌ من وَلَدَي شلمنصر الثالث إسمُهُ ( آشور دانن ابلي ) ثورةً ضدَّ والده تؤازرُهُ ( 27 ) مدينة منها آشور ، نينوى ، أربيل ، سيانيبا ، أرابخا (كركوك) وزابان ، وساندَتهُ الكثيرُ من المستَعمرات الآشورية ، بحيث لم تبق الى جانب الملك إلا كالح وضواحيها ، نصيبين ، حرّان والبلدان المُستولى عليها حديثاً ، سُمّيت بثورة الفلاحين ، فطَلَبَ شلمنصر من إبنِهِ الثاني ( شمشي أدد ) قَمْعَ تلك الثورة ، وطال الصراع بين الأخوَين أكثر من ثلاثِ سنوات ثمَّ انتهى بانتصار شمشي أدد على أخيه وقتَلَهُ .
تسنَّمَ عرشَ آشور خَلَفاً لوالدِهِ شلمنصر ( شمشي أدد الخامس 825 - 811 ق . م ) بعد قضائه على ثورة أخيه آشور دانن ابلي ، التي طالت على ما يزيد عن ثلاث سنوات تَزَعزَعَ الاستقرار في بلاد آشور خلالَها ، فاستَغَلَّت ذلك بعضُ الممالك المُخضعة لدولة آشور وامتنعت عن دفع الأتاوات المفروضة عليها ، لذلك قرَّرَ الاغارة عليها وتأديبها ، و ابتدأ بدولة أراراط في الاناضول قُربَ بحيرة وانْ فأخضعها ، ثمَّ أوكلَ إخضاعَ الممالك المتمرِّدة الاخرى الى قائد جيشه فأنجزَ المهمة باقتدار ، وحدث بعد وفاة مردوخ شمي دان ملك بابل صديق شلمنصر والد شمشي أدد الخامس ، اعتلى عرشَ بابل غريمَهُ السابق ( مردوخ بلاد سكبا ) ولم يقبل بهيمنة الآشوريين وأعلن الاستقلال ، فأغضب ذلك ملك آشور شمشي أدد الخامس ، فقرَّر الزحف على بابل واحتلالها ، ومن جانبِهِ استعدَّ مردوخ بلاد سكبا للدفاع عن بلاده ، ولكن الملك الآشوري انتصر عليه وأجبرهُ على الاستسلام والخضوع للسيطرة الآشورية ، لم يستمر هذا الاجراء إلا سِت سنوات ، إذ إن خليفة مردوخ بلاد سكبا ( باوخ دان) رفض الخضوعَ لسُلطة شمشي أدد الخامس ، فدارت رَحى الحرب مُجَدّّداً بين بابل وآشور وقبل حَسمِها وافت المنيةُ شمشي أدد وتسنَّمَ عرشَ آشور إبنُهُ ( أدَد نيراري الثالث 810 - 783 ق . م ) الذي واصلَ الحربَ ضدَّ ملك بابل ( باوخ دان ) فانتصرَ عليه وأسِرَهُ واقتادهُ الى بلاد آشور وأقام على حُكم بابل رَجُلاً من الموالين له .
بعيداً عن الأساطير اليونانية الخيالية التي إبتدَعَها الكاتبان الاغريقيان الخَصِبا الخيال هيرودوت و ديودورس المشهور باسم ( ديودورس الصقِلِّي) حول نشأة ( شميرام ملكة آشور) وزواجها من الملك الآشوري الخُرافي ( نينوس) حيث نَسَجَ الاول أي هيرودوت حولَ (شمور آمات / شميرام) بحَسَبِ (جورج روه) خيوطاً اسطورية مُبالَغاً فيها ، وعن قولِهِ عنها عند حديثِهِ عن بابل بأنها كانت إحدى بنات الجنائن المُعَلَّقة ، هو قولٌ خاطيءٌ تاريخياً ، أما إدِّعاء ديودوروس بِكَونِها إبنة الإلهة العسقلانية ( ديرسيت ) بهيئةٍ تناصُفية حَمامِية وسَمَكِية فإنه خيال خرافي صِرف ، ولذلك نودُّ ايضاح حقيقة هذه الملكة الشهيرة . كانت ( شمور آمات/ شميرام) فتاةً كلدانية بارعة الجَمال من مدينة ( بورسيبا ) البابلية ، هام بها الملكُ الآشوري شمشي أدد الخامس وتزوَّجَها ثمَّ شاركَها معه في المُلك ، وبعد وفاتِهِ أصبحت وَصِيةً على إبنِها وريث العرش الآشوري ( أدد نيراري الثالث ) فحَكَمَت مملكةَ آشور بكل اقتدار وإخلاص وكأوفى زوجةٍ حافظَت بأمانةٍ على إرثِ زوجِها ، أدَّت دورَها ( كملِكة أُم) وطنياً وبِمُنتهى الاخلاص لآشور بالرغمِ من عِرقِها الكلداني ومولِدِها البابلي . لقد تأكَّدَ من المدوَّنات الآثارية بأن ( شمور آمات) كانت أميرة كلدانية إبنةَ بورسيبا البابلية مدينة الاله ( نابو) بن إله الكلدان البابليين ( مردوخ ) ولذلك اهتمَّت كثيراً بتكريم الاله نابو . يقول الباحث غسان زكريا ، بأن شميرام كانت إبنة الامة الكلدانية أميرة بابلية وليست كما وصفتها الروايات الخُرافية ، ويضيف في موضع آخر من دراسته( سميراميس ) بأن مُشاركتها الحُكم الى جانب زوجها الملك( شمشي أدَد الخامس ) كان لها الأثَر الكبير في نقل الحضارة البابلية ومُنجزاتها الى دولة آشور نتيجةً لحُبِّها وإخلاصِها للدولة التي رحَّبَت بها ونادت بها ملكةً عليها ، وما ساعدَها على ذلك كان شعورُ الشعب الاشوري بمختلف أعراقه وانتمآته واعترافُهُ بعراقة بابل وتفوّقِها الفكري والحضاري . بعد كل هذه الدلائل لا زال مُنتحلو التسمية الآشورية المعاصرون يُصرون وبمنتهى الجهل المُتعَمَّد بأن شميرام كانت آشورية مُنكرين أصلَها البابلي ! ! ! .
في سنة 783 ق . م وبعد وفاة أدد نيراري الثالث الملكِ الآشوري العظيم ومُوسِّع الدولةِ الكبير ، تسلَّمَ المُلكَ إبنُهُ ( شلمنَصَّر الرابع 783 - 772 ق . م ) الذي على عهده بَدَت ملامحُ الانحلال تظهر في أوصال الدولة الآشورية ، وبدأت بالانسلاخ عنها الممالك الخاضعة لها ، وأول تلك الممالك مملكة أراراط ، وتفاقَمَ الانحطاطُ على عهد خلفِهِ ( آشور دان الثالث 772 - 755 ق . م ) الذي على عهده انتشر وباءُ الطاعون في اقليم آشور وكان شديدَ الفتك . خَلِفَهُ ( آشور نيراري الخامس 754 - 745 ق . م ) كان متقاعساً ميّالاً الى اللهو والملذات فتقلّصَت رُقعة الدولة كثيراً جداً ، ممّا حدا بالشعب أن يثورَ عليه ويُنزِلَهُ عن العرش ويوَلِّيَ على العرش ( تكلَت بيلاسر الثالث 744 - 727 ق . م ) شقيق آشور نيراري الخامس .
العصر الإمبراطوري الثاني ( 745 - 612 ق . م )
تكلَت بيلاسَّر الثالث ( 744 - 727 ق . م )
تميَّز الملكُ ( تَكلَبيلاسَّر الثالث ) بالشجاعة والمهارة وبنشاط لا يهدأ ، جَدَّدَ الأملَ في قلوب مواطنيه وأثار فيهم النخوة ، وبعد أن إستتبَّ له الامر واستكملَ الاصلاح والتحديثات المبتكرة التي باشر بتطبيقها في الجيش والنظام الاداري ، إستعدَّ لفتحِ آفاق التوسُّع الآشوري مُجدَّداً حيث كان قد تقلَّصَ كثيراً ، فباشرَ أولاً بغزو الممالك الصغيرة التي كانت مُخضعةً للدولة الاشورية قبلاً ، ورأى في ذلك السبيلَ الأسهل والأضمن ، وبعد انتهائه من إخضاعها ، حوَّلَ نظرَهُ نحو الغرب وهاجمَ دولةَ أراراط المُزاحِمة الكبرى لدولة آشور فأخضعَها ، ثمَّ انتقَلَ الى شرقي سوريا واحتلَّ مناطقَ واسعة امتدَّت الى البحر المتوسط فاستولى على مملكة حماة ، وجابَهَتهُ مقاومة عنيفة في زحفِهِ على دمشق لكنَّهُ استطاع احتلالَها وضمَّها الى الدولة الآشورية ، وكان وبحسَبِ ما جاءَ بكتاباتهِ يُعَيِّنُ حُكاماً آشوريين على الممالك التي يفتَتِحُها مُلغِياً اسلوبَ أسلافِهِ القديم بتَركِ الحكّام المحليين كتابعين يؤدُّون الجزية والعَضْدَ العسكري كدليل على خضوعِهِم ، وقد اعتُبِرَ هذا الاجراءُ تطبيقاً لإدارة الاقاليم التي ابتكرَها وهي سياسة الحُكم المُباشر .
أما عن موقف تكلت بيلاسر الثالث من بابل ، يقول الآثاري نيكولاس بوستكَيت ، بأن الاوضاعَ في بلاد بابل كانت سائرةً نحو التدهور حيث تقاسمَت القبائلُ الكلدانية مناطق انتشارِها في حوض النهر الجنوبي مُهمِلةً التقاليد القديمة التي كانت مدنُ بابل وكيش محافظةً عليها ، فهاجَمَها تكلت بيلاسر واحتلَّ دور كوريكَلزو وبورسيبا وكوتا وكيش واوروك ، فارتاح سكّانُ المدن من مُشاكساتِ تلك القبائل وأعربوا عن امتنانِهم للملك الآشوري ، ورحَّبَ به نبونصَّر ملكُ بابل ( مؤسِّس سُلالة بابل التاسعة ) مُعلِناً خضوعَه ، فنال حُظوةً لديه وأبقاه على عرش بابل ، بيدَ أن الكلدان لم يرضوا عن تصرُّف ملكِهم نبونصَّر بقبولِه للهيمنة الآشورية ، ولذلكَ ثاروا بعد وفاته على إبنِهِ وقتلوه ، وأقاموا ملكاً عليهم ( نابو موكن زيري ) وفي أعقاب ذلك قاد تكلت بيلاسر الثالث حملةً كبيرة على بابل واستطاعَ طردَ الملك الجديد ، وظلَّت بابل بدون ملكٍ إلا أن تكلت بيلاسر الثالث قام في عام 729 ق . م بمصافحة إلَهِ بابل ( بيل مردوخ ) مؤدِّياً الطقسَ التقليدي المُتّبع في تسنُّم عرش بابل وأصبحَ اولَ ملكٍ آشوري ملكاً على بابل لمدة سنتين ، وقد وردَ في < الاطلس الثقافي لبلاد ما بين النهرين / اوكسفورد 1990 م صفحة 179 Cultural Atlas of Mesopotamia / by Michael Roaf , Oxford 1990 P. 179 > للمؤرخ مايكل روف بأن تكلَت بيلاسر الثالث ، شَنَّ هجوماً على ثلاث ممالك كلدانية هي ( بيث ياقين وبيث شيلاني وبيث شعالي ) وبعد التدمير والسلب أسِرَ من سكّانها الكلدان ما يربو على (155 ألفاً ) ورحَّلَهم الى المناطق الآشورية .
تسنَّمَ عرشَ آشور بعد وفاة تكلت بيلاسر الثالث إبنُهُ ( شلمنصَّر الخامس 727 - 721 ق . م ) وكانت امورُ المملكة هادئةً في كافة المناطق الخاضعة لها ، ولكن الأجلَ وافاهُ سريعاً وبصورةٍ غامضة ، ولم يحكم سوى خمس سنوات ، ويُقال أن قائد جيوش الدولة أطاح به في انقلابٍ عسكري وتولّى زِمام السُلطة ، وانتهز هذه الفرصة ملكُ بيث ياقين الكلداني فزحفَ على بابل واعتلى العرشَ البابلي عام 721 ق . م .
الشماس كوركيس مردو
في 11 / 4 / 2007