ليست الغربة مغادرة الوطن فحسب، بل مغادرة عزيز كان يستوطن في داخلك..
تمر اليوم الذكرى السنوية الأولى لرحيل المرحوم والدي.. ففي مثل هذا اليوم ( الثامن عشر من حزيران ) قبل عام، رحل عن هذه الفانية إلى دار الآخرة..
مرت سنة كاملة على فاجعة فراقك يا أبي .. عام مضى، ولم تفارق صورتك مخيلتي ولو للحظات..
ساعة فراقك، هي الساعة التي لا تُنسى، واللوعة التي لا تُمحى، فهي النار التي تشتعل في الأحشاء، ودموعٌ تُحرقُ الوجنات..
في هذه الذكرى القاسية، أبى قلمي، إلّا أن يسطّرَ شوقي لك، فبدأ ينثر حروفي باكياً فقدانك.. كيف لا، وقد مر العام وكأنّه الدهرُ كلُّه..
رحلتَ يا والدي، فتركتني وحيداً في صحراء الهجران بين جبال من الأحزان..
رحلتَ، وثارت براكين الحزن بداخلي، واهتزت أركان فؤادي..
رحلتَ، فأمطرت سحابة دمعتي.. بكيت كطفلٍ صغير، وبكت السماء معي..
رحلتَ، وما زال طيفك يزورني، فيُلهب مشاعري، ويؤجج نيران اشتياقي لك..
رحلتَ، وانطفأت أنوار آمالي في ظلام اليأس الذي أخذ مني، وغرقت أنفاسي في دموع الآهات، فنمَتْ جذور الألم ونبتت، حتى صارت تملأ طرقاتي..
مرت سنة، ولكن لم تكن سنة اعتيادية كسابقاتها، كنت فيها أفتقد نفسي، أبحث عنها فلا أجدها، أنادي عليها فلا تسمعني..
مرت سنة، وعبق طيفك كان، وما زال يلوح بتواجده في أركان خيالي..
كم كان البيت جميلاً بوجودك يا أبي، فكيف لي أن أخفي لهفة ملامحي عند ذكر اسمك..
ما كنت يوماً حسوداً، ولم أسمح للحسد، ولو مرة واحدة، أن يطرقَ بابي فيتسلل إلى نفسي، ولكن قبل يومين أصابني الوهن، فأخذ طريقه إليَّ، لأول مرة، أخذني أسيراً إلى عالمه المجنون، كان ذلك في السادس عشر من حزيران الجاري، عندما احتفل العالم بـ ( عيد الأب )، فاشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بتقديم التهاني للآباء، كلٌّ بطريقته الخاصة، أما أنا فلم أجد من أقدم له التهنئة بهذه المناسبة المحبّبة المعبّرة، لأنني افتقدت أبي منذ حين، فأصبحت بلا أب..
لم تعد حياتي كسابقها بعد رحيلك يا أبي.. لقد فقدت الكثير في غيابك .. باتت أيامي باهتةً، خاليةً من كل شيء، إلّا من ذكراك، فقد كنت لي النعيم الذي سأظل أبكي على فقدانه عمراً.. فمن يخفف ألم رحيلك عني؟..
بعد رحيلك يا أبي، أيقنتُ أن لا حزنَ يؤلم أكثر من فراق الأب، فالشوق لك قد بلغ مداه، وفاق سعة الكون..
يقولون إنَّ البكاءَ يُتعب الميت، لكنني بكيتك كثيراً يا أبي، بكيتك في سري وفي علني، بكاءَ شوقٍ، لا بكاءَ اعتراضٍ على حكم القدر..
ليتك تفوق يا أبي ولو للحظة، لترى بأي حالٍ أمسيتُ، وكيف الصدمات تتوالى على قلبي..
لا يُفجع الروحَ، ولا يُفطّر الفؤادَ كما الفراق.. إنّ الفراق والفقدان من أكثر مسببات الآلام والأحزان..
غاب والدي، فغابت شمس زماني إلى الأبد، وبدأت أشعر أنّ الحياة بدأت بالتوقف، لأنّ عزيزاً كان يملأ البيت، لم يعد حاضراً بيننا، فقد غادرنا إلى الأبد..
غيابه غير أشياء كثيرة في حياتي، فلم يعد لدي القدرة على الاستمتاع بأي شيء.. أصبحت كذاك المبعثر في الأحاسيس، فأنا لم أستوعب حتى اللحظة إنّه قد رحل، فما زلت أفتش بين بقاياه عن أشياءَ منه، وما زال الحنين عالقاً بيني وبين النسيان..
في غيابه لفّ دنياي السكون، وبعد رحيله لم أعد أشعر بما حولي، فقد زرع الزمن وجع فراق أبي في قلبي، حتى نهاية عمري، فرحيله غصّةٌ في القلب، لا تموت مدى الحياة..
لقد رحلت يا أبي، ولكن صاحب الفضل لا يرحل، لأنّ ذكراه تظل حيةً في قلوب من يدينون له بالمحبة والاحترام..
في ذكراك الأولى، ليرحمْكَ الله يا أبي، يا من كنت فخراً نفتخر به طول العمر و أبد الدهر.