المحرر موضوع: بولص آدم في مجموعته القصصية "باصات أبو غريب":الزمن السردي وتعالقاته بين الواقع والمتخيّل  (زيارة 1283 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل مروان ياسين

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 189
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
بولص آدم في مجموعته القصصية "باصات أبو غريب":الزمن السردي وتعالقاته بين الواقع والمتخيّل

                                               
مروان ياسين الدليمي

في مجموعته القصصية الجديدة "باصات أبو غريب"الصادرة في مطلع شهر ايلول(سبتمبر) 2020 عن دار نينوى في دمشق، يضعنا القاص بولص آدم امام شخصيات تبدو كما لو ان رساما تعبيريا قد خطط ملامحها،بمعنى ان القارىء لن يكون بحاجة الى ان يبحث في هذه الملاح عن البعد الاخلاقي او الفكري،بقدر ما سيكون موزعا في قراءته مابين الاحساس بجمالية الاسلوب الرشيق في بنية السرد القصصي وبين حماقة العالم الخارجي الذي يحيط به كانسان وليس كمتلقي للعمل الفني،لانه قد تواطىء بصمته على استمرار هذه القسوة التي مورست ازاء الشخصيات في الواقع .
يندرج هذا الاصدار ضمن مشروعه الأدبي الذي اطلق عليه مفهوم"الواقعية الوحشية"،إذ سبق ان اصدر كتابين في سياق هذا المشروع الذي يحاول فيه ان يلملم شظايا العالم الواقعي الذي عاشه المؤلف لفترة تجاوزت العامين ونصف اثناء فترة اعتقاله داخل سجن ابي غريب في منتصف ثمانينات القرن الماضي .والكتاب عبارة عن 86 صفحة من القطع المتوسط،وقد ازدان غلافه بواحدة من لوحات الفنان العراقي الراحل لوثر إيشو.
جدير بالاشارة ان هذا الاصدار يأتي بعد ثلاثين عاما من أطلاق سراحه بعفو عام  شمل جميع السجناء الذي تم الحكم عليهم بسبب رفضهم المشاركة في الحرب..
عالم موحش
ما يُحسب لبولص،ان مخيلته الفنية قد استحضرت تفاصيل صغيرة وهامشية في حياة السجناء،واعاد خلقها من جديد دون رتوش تقليدية مبتذلةٍ عادةً ما ينساق اليها من يتصدى لمثل هذه الشخصيات،ولهذا نجدها قد تركت لدينا انطباعا اختلطت فيه خفة الكوميديا مع قسوة التراجيديا سواء على المستوى النفسي او التقني .وهذا الاستدعاء السردي الجميل،لعالم انساني موحش يقبع منزويا في المعتقلات،نادرا ما كُنَّا على تواصل معه عبر نصوص سردية تتفاعل مع واقعيته الحافلة بحيوات لم نصادفها في حياتنا اليومية،ربما لانها تنتمي الى قاع المجتمع،وحتى في ما لو صادفناها لن نلتفت اليها،لان بصيرتنا اصابها العمى،فنحن في هذه القصص امام شخصيات ليست سيئة،ولكنها كائنات افتقدت الى من يلمس امنياتها البسيطة ويصغي الى انينها.
من الصعب على اي واحد منَّا ان يلتقط الجوهر الانساني لهذه المخلوقات المنفية خارج الحياة،فقط من يملك في داخله فيضا من المحبة لاحدود لها، وبولص آدم لو لم يكن يحمل مثل هذا الحب لما حافظ على توازنه طيلة الفترة التي عاش فيها هذه التجربة القاسية،وهو بهذا الرصد السردي، لكائنات لم نكلِّف انفسنا عناء الاصغاء اليها او الاقتراب من حافات عوالمها الحاشدة بكل مايجمعنا معها كبشر،من امنيات واحزان ومشاعر،يعيدنا الى انفسنا لنتصالح معها.
لاشك في ان هناك الكثير ممن يمارسون الكتابة القصصية،إلاَّ ان قلِّة منهم يمتلكون مخيلة نظيفة عندما يعيدون بناء شظايا هذا العالم المتناثر،بكل قساوته ووحشته والامه المدفونة في صدور الرجال.
زمن اقصاه السرد
مايلفت الانتباه في هذه المجموعة ان شخوصها وزمكانية احداثها،مستوحات من بيئةٍ مازالت خام، إذ لم يقترب منها السرد العراقي بما يكفي او بما تستحقه من اهتمام، فبقيت مجهولة بقدر كبير لايتناسب مع تركيبتها المعقدة بمستويات اشكالها الانسانية وامتداداتها مع البيئة الاجتماعية في الخارج،اي مع الحياة الطبيعة بعيدا عن السجن،رغم ان المعتقلات كانت ومازالت تمثل زمنا موازيا للزمن الذي يعيشه العراقيون خارج اقبيتها واسوارها،وغالبا مايتداخل هذا الزمن بشكليه وصورتيه ليؤلف لنا تفاصيل مختلفة داخل اطار لوحة واحدة،كما في هذه القصص التي تحرَّكَ فيها الزمن السردي مابين الداخل والخارج،وبات من الصعب فك الاشتباك بينهما،فكان الجميع سجناء خطوط رسمت لهم حدود حياتهم وعدد نبضات قلوبهم،وماهو مسموح لهم به من احلام او من شهيق وزفير،ومع ذلك بقي هذا الزمن بكل كثافته محبوسا في عتمة السجن وفي زوايا ذاكرة من ذاق قسوة هذه التجربة،ولم يلامسه ضياء السرد وينفض عنه الغبار،رغم ما تخبئه هذه المادة الخام ،العراقية بامتياز ،من قصص تزخر بمحتواها الانساني،وما تكشف عنه من تنوع باشكال الصراعات القائمة التي يواجهها الانسان،والتي غالبا ما تتداخل فيها سرديات نسجتها عقائد وايدلوجيات وتصورات وخيالات وخرافات،الى الحد الذي سيكون متاحا امام  القاص اذا ما اقترب من هذا العالم فرصة ان يكتشف ممكنات فنية جديدة،قد تدفعه الى ان يتجاوز بمخياله ماهو مرئي ومحدود،ليدخل في رحلة تتيح له ان يقدم لنا شخصيات واقعية بغاية الغرابة ربما لن نعثرعلى ما يشبهها في الواقع وهنا تكمن المفارقة،وهذا ما اتاحته لنا هذه القصص.   
أُتيحت لي في اوقات سابقة أن أقرأ كل مانشره بولص من نصوص قصصية وكتابات سردية عن تجربته في سجن ابي غريب،سواء في كتابه المذهل" ضراوة الحياة اللامتوقعة" او " اللون يؤدي اليه " او قصص هذه المجموعة،واستطيع ان اسجل دهشتي واعجابي بما يمتلكه من مخيلة جامحة،وادوات تقنية يتفرد بها في سرد حكاياته،وقدرة لغوية مشبعة بالايحاء،تمنح بنيته القصصية متعة وسلاسة وتشويقا وحبكة تدفع البناء الى ان يكون متماسكاً ومشدوداً،بالشكل الذي لاينفرط اهتمام القارىء ويضعف في متابعة السّرد .
مشهد عام داخل مشهد خاص
مجمل ماكَتَبه القاص بولص آدم عن تجربة السجن،يُعد من وجهة نظري، من انضج ما انتَجه السرد العراقي بهذا الموضوع من الناحية الفنية،حيث توفرت فيه أهم ما ينبغي ان تكون عليه بنية السرد،ومايتوجب ان يتوفر فيها من عناصر مثل الايجاز والابتعاد عن الثرثرة،والاهتمام بالمحتوى الانساني،واقصاء تام لاي تخريجات ايدلوجية مسبّقة في الحكم على الشخصيات والاحداث والفترة التاريخية،هذا اضافة الى ارتقاء المعالجة الفنية من حيث اللغة وزاويا الرؤية للمبنى الحكائي، وانصهار جميع العناصر في هيكل تخييلي واحد،اضافة الى وضوح مايودُّ ايصاله في خطابه الفني الى القارىء من افكار،والأهم في هذا انه يرصد من خلال شخصيات هامشية وعادية مشهداً عاما كانت البلاد تختنق بين تفاصيله، وتكتسب عناوينها من دلالات الخنادق والملاجىء وقوافل القتلى الذين كانوا يَصِلون عتباتها يوميا من ساحة الحرب  العراقية الايرانية،في مقابل ذلك  كان السجناء يختنقون بامنياتهم واوجاعهم في زنزاناتهم،من غير ان يسمع او ينتبه اليهم العالم باسره خارج اسوار السجن .
اثر الخطاب السردي
من خلال قصص هذه المجموعة يشعر القارىء بالمرارة التي كان عليها بولص وهو يقبعُ سجينا لايام وليالي في دائرة ضيقة،محيطها تفاصيل موحشة،وشخصيات اقصي عنها النور والشمس والهواء،ولابد ان يطرح على نفسه هذه التساؤلات:
كيف تمكَّن من الصمود ! ؟
كيف حافظ على هذه الذاكرة من الخراب !؟
كم تحمَّل من الأسى ازاء هذه الكائنات وهو يعيد احيائها بقالب فني،ليرصد من خلاله ضعفها وقسوتها وانهيارها وسذاجتها ؟
كتب الناقد د. حسين سرمك مقدمة لهذا الاصدار جاء فيها"بالرغم من أن كثيراً من المبدعين العراقيين قد تعرّضوا لتجارب مريرة من السجن والتعذيب،إلا أن ما كُتب عن أدب السجون العراقي كان قليلاً جداً بصورة تثير الكثير من الغرابة والتساؤلات.التفاتة بولص آدم في هذه السلسلة من القصص القصيرة من أدب السجون العراقي المطبوعة بحرارة التجربة الذاتية،تسدّ نقصاً كبيراً في المكتبة السرديّة العراقية في هذا المجال."

"باصات ابو غريب " : المؤلف بولص آدم
اصدار دارنينوى للنشر والتوزيع في دمشق
الطبعة الاولى 2020
عدد الصفحات 86


غير متصل بولص آدم

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1185
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
اخي الأديب والناقد القدير مروان ياسين الدليمي
 تحية واحترام
اشكرك جزيل الشكر على هذه القراءة النقدية، انت أكثر اطلاعاَ على تجربتي ونصوصي من أي شخص آخر، الستَ أول من قرأ نصي القصصي (جنود في العُتمة) وأبدى الرأي السديد حينها؟ يفصلنا عن ذلك اليوم في بغداد، أربعون عاماً. أرفع القبعة لك! حرصك على هذه المجموعة القصصية وسبر النصوص بإحاطة إنسانية كان مؤثراً جدا، أنت الذي رافق نبضها وظروف كتابتها وبعد كل نص كان لك رأي كان سندا وترك أثره الطيب. ثم أن التشخيص النقدي لديك، له ميزة احترمها جداً وهي التي تقرر بشكل إحترافي قيمة النص النقدي بالتوازي عموديا وافقياَ مع السرد القصصي وزمنه النفسي، الا وهي أنك لاتختلق اشكالية وتسهب عنها اصطلاحياً على حساب رؤية المؤلف وحالة النص عند قراءتك وتذوقك للعملية الفنية، والأهم، فالمرء يُدرك حين يقرا لك ويميز وجهة نظرك كقارئ وأديب وفنان، بأنك لا تبخل في توظيف معارفك وخبراتك بصدق واخلاص.. تقبل فائق التقدير.

غير متصل كريم إينا

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1311
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مبارك لك أستاذ مروان على هذا التحليل في مجال السرد القصصي وأعتقد وفقت به في كلّ المجالات والأصعدة دمت بود