فَـــرَاغْ ...
( أنا و الليل و الذاكرة)
حَل الغسق و بدأت الذاكرة تَرَنُّحِهِا
كأمواج نهر تعرَّى من الصفصاف..
كَمصيري الشاحب المُرتجفْ...!؟
يأخذني الليل لينثر بأضواء الذاكرة على لوح مدرستي كان فيها مَـقْعَـدي ، و يرش الليل عِطرهُ الداكن على أُرجوحة في ساحة المدرسة و قد تآكل حديدها بعد غياب الجميع ، لأول مرة الكُل يُسجَل غياب..! غابت صديقاتي و لا زلت هناك أنتظر...! غاب المعلمون و أنا أُحضر وظائفي..!
تمَلصُت بنفسي قليلاً متوارياً عن الأنظار لأسرق من الوقت بعض الوقت كَي أرتشف خِلْسَةً جُعب سيجارة التقطته من أمام دكان العجوز ، حيث كان مُلتقى الجميع كل مساء ، و بعد كل رشفة سَريعة كنت اختلس النظر من خلف الحائط عَلَّ أحدهم يأتي...!؟ لكن لا أظهُر تستند على الأسوار لـتُخفي كِتابات الحيطان__ كذكرى سركون أو ذكرى حَمد وشعارت أُخرى... رشفت جُعبَ السيجارة بسرعة البرق خوفاً من عيون مارقة ، قَضَمَت كَمشة زبيب لقتل روح الرائحة الممنوعة و كالجبان اخبط صفعات فوضوية عشوائية على سحابة الدخان تلك لأظهر من وراء دورة المياه تمويهاً بأني كنت في قضاء حاجة ما .! نعم هكذا لكل شيء سرَه وطيّاته.
انتظرت طويلاً و لم يأتِ أحد ...! النوافذ عالية و مُغلقة ، و في الخارج الطريق خالٍ لم المح سوى شيخ عجوز يَجُر خَلفهُ بحبل مصنوع من ثياب قديمة ماعزة مُصابة بالوهن ، أو ربما سَئمت
عِشرة العجوز الطويلة أو لربما هي مثلي تَشعر بِوحشة الوحدة لغياب الأصدقاء .
لم أرى تحت سهام الشمس المُضيئة سوى نحيب أمل كل شيء كان قد استبيح ، ولم أرى سوى أثر المَنَاسِر المارقة و آثار فَرار الأهل.! هذا الفرار الذي يتلو تَرنيمتُه كل فترة من الزمن.
مَللت الإنتظار و لم يأتِ أحد و لكن خَشيتُ الرجوع الى البيت من توبيخ أبي....! لكن مهلاً..! أبي قد مات ، و إخوتي و الخِلان لا أثر لهم ....! مشردون كالطيور في السماء ، و الشوارع مُقْفِرة خالية من النقاشات ، و حواف الأرصفةِ مُشمئزة من ظِلال أشواك الجمل المُتطفلة ... سَرقت من الأرض كمشة رماد من شُجيرات الكُروم المُحترقة كي يكون دليلي و زاد ذاكرتي في تشردي فأنا لم يعد ليَّ ثقةٌ بالتاريخ.. لأن التاريخ لا يُحب التأمل و قَلمُ التاريخ هو السلاح و أنا سلاحي هو القلم . فكلما توغلنا في عمق التاريخ لن نصادف الفرح ...! كله مَليء بالويلات... فَقُلت للتاريخ تافه أنت و مُكرر أما أنا
لا شيء يُشبهني لأنني أنا .
أشعلت سيجارتي العشرون هُنا ، و لكن....! لَكِنِّي هناك لا زلت أنتظر رفقتي وحيداً هناك .
فـشَرنقة الذاكرة تحتجزُ روحي خلف أسوار مدرستي... و خارج الأسوار لا شيء يبشر بطمأنينة الحياة سوى ذلك العجوز الذي لم يرغب ترك الديار.... وحيداً مع مِعزته العقيمة .
(المَنَاسِر= جماعة اللصوص)
جان يزدي