المحرر موضوع: ظل صديق  (زيارة 473 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كريم إينا

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1311
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ظل صديق
« في: 21:47 22/05/2021 »
ظلّ صديق



                                            كريم إينا 




وحدهُ كانَ يتجوّلُ في أزقّة حيّ المربّعة في بغداد، خرج نحو شارع الجمهورية وبيده عجلة باسكليتة وهو يركضُ وراءها بواسطة قضيب ملتوي من النحاس، كانَ يراقبهُ زميلهُ الخائف القلق عليه. أمضى وقتهُ يلهثُ وراءَ حدث كبير كان يتوقّعهُ بأصدق تأمّل، وبأعظم إبتهال ويتمنّى لهُ أن تكلّل حياتهُ بالنجاح والموفقية دوماً، وحينَ حانَ موعد الحدث، نسي كل تداعيات الذاكرة ليتجهّد بها في ذلك الفجر اللعين، تحدّث بلسان خاشع كي يبعدهُ عن ملابسات الحادث ولكن دونَ جدوى، حانت الساعة منذُ سنين طويلة وهو ينتظرها بدقّة حينَ تشاجر مع أحدهم. ومنذُ ذلك الوقت بدأ يتعرّض لنوبات محمومة على ذاته، فجأة سقط بعجلته أمام سيّارة الإطفاء فضربتهُ عنها بضع خطوات فقد الوعي ركضَ صديقهُ إليه والدموع تذرفُ من محيّاهُ صعد معهُ في سيارة الإسعاف التي نقلتهُ إلى المشفى وهو في تلك الصورة المأساوية حتى يصبحُ الوجع والأنين ظلّ وجدانه المتفرّد، في تلك اللحظة حضرت إمرأة جميلة يُقال: أنّها والدتهُ،أقسم لها بأنّه نصح إبنها بعدم النزول إلى جادة الشارع، وحتماً قد بالغ في نظرها فنون اللياقة والمنطق، بهذا المنطق لم تكتمل أصوات أحلامه وهي تعزفُ أنينَ زميله، رغم تفاؤله بكلّ ما كانَ يعكّرُ صفوهُ، فسادت أمامهُ رؤىً مشرقة بنجاة صديقهُ ربّما قد يهدي لهُ عربون المحبّة. لم يكن صعباً الحديث مع والدته، بل جعلها تؤمنُ بالمرآة التي تعكسُ أفعال إبنها المحزنة. وبدأت الحياة تأخذُ هويتها من الفشل إلى عالم الأحلام المغلوط، من يُعمّقُ مفاهيم الصداقة. ويتسرّبُ في حنايا الليل المرتحل إلى دروب الفجر، وحدهُ وقع على سكّة الموت فخلطت دماؤهُ بنفحة مترجرجة، صارت فجيعة أخرى موجعة شهدت جلباب الهيبة، والدموع تتسرّب بقسوة لحجم أنانية الإنسان. ومنذُ ذلك الصباح وأنا أشعرُ لذنبي اليتيم الذي لا يعرفهُ أحد إلاّ هو،صارَ الغيظُ يُعشّشُ فيّ إلى حدّ الإنهيار. كيفَ سمحتُ لنفسي بأن يحدث ذلك؟. هذا العالم الوقح الغريب الذي ركلني بقدمي إلى موقف يعلو حدود طاقتي. وحتّى إن حاولت...فلن أسمح لنفسي يوماً ما بأن أقتصّ منها ووجداني، فقد أغلقت كلّ الأبواب بوجهي ولا زالَ صديقي في غرفة الإنعاش. بدأتُ أراجعُ صور الماضي الجميل وكيفَ كنّا وإلى أينَ أصبحنا؟. وا..عجبي هل هذا زمنُ الخسارة؟. بعد الإتّزان والإطمئنان على صحّة صديقي بدأت نظرتي عنهُ تخفّ مع بعض الشرود الآني. ربّما هذا عقابُ الله لي عندما أدركتُ أنّ مغالاتي هذه قد تجلبُ لي إضحوكة للآخرين، وبحزن حارق لم أتمكّن يوماً ما من شراء حمقي المتلاشي، وفي كلّ مرة أرى حلمي رافعاً إيّاهُ في أفئدة السخرية. عاش صديقي في دوّامة الحلم، ما بين الحياة أو الموت، وأنا لم أستطع أن أحقّق لهُ أيّ رغبة للنجاة، كنتُ أستبسلُ دفاعاً عنهُ، رغم قناعات الأصدقاء الآخرين بفلسفتي العجيبة، أعتقدُ أنّي تعثّرتُ في الدروب التي ليس فيها من مجيب ليهدي لي الطريق، وما زالَ غدر الزمان بي، بعد إصابتي بخيبة أمل والثقة العمياء على تحقيق المستحيل، لم أتنازل أبداً لصفعة القدر، بعثرتُ أحلامي المنبوذة وصغتُ لي قلائداً مزخرفة. أمضيتُ سنوات من عمري وأنا أبحثُ عن ظلّ صديق، كانَ إكتشافي لتلكَ الظلال النائية بأنّها تهربُ من أصحابها أيضاً. وحلمي الوحيد كانَ إسترداد صديقي من قبضة الموت، حتى ولو كانَ ذلك آخر ما أفعلهُ في حياتي، بدأتُ أتلوّى في نفسي ودمائي تغلي في عروقي. قلتُ كلماتي الأخيرة وعيوني محدّقةً نحو السماء الصافية بإستغراب، ربّما جرحتُ كبرياء أمّ صديقي عندما سألتني عن إبنها وشعورها كانَ بعدم الرضا لما يمتدّ في نفسي من أحاديث مستترة، حينها سرتُ ورأسي مرفوع، لم أستطع تصديق ما أرى والد صديقي المصدوم واقفاً أمام الباب ينظرُ إليّ بعين جاحظة. لم أتمكّن من ترجمة نظراته الصامته. خجلتُ منهُ وقلبي يدقُ كجرس الكنيسة في صباح الآحاد والأعياد، لا بل رقصت روحي وعيناي تلمعان بوميض منارة يبزغُ شررها بهيئة إنسان. إقتربَ إليّ بحنان وقال: لي هل أنتَ صديق إبني الحميم؟ قلتُ بهمس مطبق نعم حينها زالَ إرتباكي وشعرتُ بدفء كلماتي التي كانت حينها لا تنسجم قبلَ لحظات إبتسم فتلألأت أسنانهُ، وقال: لي بنبرة فاخرة أنتَ إبني الثاني قل: لي كيفَ أجعلكَ إبناً سعيداً وأخاً لإبني؟،حقّاً هذه المرة صدّقت وزلزلت جدران ذاكرتي فتسمّرت حيادية مشاعري. لو يدري صديقي كم أنا فخورٌ بأبيه، صارَ أطلالاً وكبرياءاً يمنعهُ من التأنّي، قلتُ نحنُ البشر مجرّد ضحية لمجتمع مكتوف اليدين والشيء الأهم تأكّدتُ من إستعادة صديقي إلى أبيه والإفتخار بالإبوّة بقلب نابض وملامح حنونة وظلّ دافىء، تعافى صديقي الودود وعادت الضحكة ترتسمُ في وجهه وقال: لي هيا نلعبُ يا صديقي سويةً رُغم غدر الزمان بنا.