أخطاء شائعة في التاريخ الآشوري -1
-----------------------
الآشوريون لم يعبدوا عدة آله بل إله واحد
=======================
أبرم شبيرا
أولا: مقصد الموضوع:
------------ يسود في التاريخ الآشوري أخطاء شائعة كثيرة تجذرت في العقلية الآشورية لقرون طويلة وأصبحت من المسلمات الراسخة والمرتكزات الأساسية في إيمان البعض من العلمانيين والإكليريين، سواء أكان مثل هذا الإيمان بجهل أو بخطأ في قراءة التاريخ وذلك بفعل تأثيرات خارجية علمانية ودينية خاصة المذكور بعضها في التوراة ومن بعض الحاقدين على الحضارة الآشورية وعلى كنيستهم المشرقية. فإزاحة هذه الأخطاء أو تصحيحها ليس بالأمر السهل بل قد يكون مستحيلاً، ولكن مع هذا فأنه لا يضر أن نقوم بوضع هذه الأخطاء تحت المجهر لمقارنتها مع الحقائق التاريخية التي بدأ العلم يكشف أسرارها ومن ثم تبيان حقيقتها، خاصة ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين الذي يستوجب دراسة التاريخ بعلم ومنطق وبموضوعية بعيدا عن الخرافات والخزعبلات التي تغلغلت في أخاديد فكر بعض الآشوريين من علمانيين وأكليريين الذين يؤمنون بأن الآشوريين كان يعبدون عدة آله كتماثيل من الحجر متجاهلين بأنها هذه التماثيل، خاصة التي تخص الإله آشور هي عناصر أو إحيائات رمزية أو أيقونات لأسم الإله آشور وليس الإله آشور نفسه كحجر كما يعتقد البعض. فمثل هذه الرموز أو الإحياءات والأيقونات نجدها في عصرنا المسيحي الحالي حيث في كنائس كثيرة نجد تماثيل أو لوحات لربنا يسوع المسيح ولأمه العذارء أو لبعض القديسين يركع المسيحيون أمامها للصلاة والتذرع للغفران والخلاص كما كان يفعل الآشوريون أمام تمثال الإلة آشور. وهنا من الضروري جداً الإنتباه وبحذر بأن الإله آشور ليس نفس الله التي نعبده في هذا الزمان ولا الديانة الآشورية هي نفسها الديانة المسيحية، بل المهم جداً هو تشابه وتماثل منهجية العبادة التوحيدية بين الديانة الآشورية والديانة المسيحية من جهة وإقتباس الكتاب المقدس بعض الأحداث المهمة التي حدثت في بلاد ما بين النهرين من جهة أخرى، وهي الحالة التي جعلت الآشوريون أن يندفعوا وبحماس لقبول المسيح والتفاني من أجله، لأنه كما كان آشور الإله الأوحد لهم في الزمن الغابر كذلك وجدوا الله المتجسد في المسيح هو أيضا إلههم الأوحد. فمن الأخطاء الفضيعة والشائعة عند البعض هو أعتبار الآشوريين القدماء وثنيين وكانوا يعبدون عدة آله، وهذا ما سنتطرق إليه في أدناه:
ثانيا: الآشوريون لم يعبدوا عدة آله بل إله واحد:
============================================باتفاق جميع الكتاب والباحثين والاركيولوجيين يعتبر الإله آشـور المحور المركزي للحياة الدنيوية والدينية للآشوريين منذ ظهورهم على مسرح التاريخ وحتى قدوم المسيحية ولفترة تعد أطول فترة عبادة لإله ديني وقومي في آن واحد في التاريخ القديم الإنساني قاطبة. فالآشوريون لم يتوقفوا عن عبادة آشور، الإله المقدس الأول والأعظم الذي يحكم الأرض والسماء، سواء في عظمة وسعة إمبراطوريتهم أو في ضعفهم وتدهور أحوالهم السياسية. حيث ظل وعلى الدوام الإله الحارس للشعب الآشوري ولملوكهم وأُمرائهم حتى بعد سقوط إمبراطوريتهم السياسية وانحسار نفوذهم في دويلات أو إمارات صغيرة في شمال بلاد ما بين النهرين. فعلى الرغم من أن هؤلاء الكتاب يذكرون بأن الآشوريين كانوا يعبدون عدة آله إلا أن إشارتهم هذه تضعف، لا بل وتتلاشى وتضمحل، أمام تأكيدهم المشدد على عظمة الإله آشور ورفعة مقامه المقدس. تقول الباحثة ( أم. ئي. هاركنز ) بهذا الخصوص "كانت الديانة الآشورية متعددة الإلهة يحكم آشور كإله أسمى منهم جميعاً فكان يطلق عليه الإله الذي خلق نفسه بنفسه في حين كانت بقية الآلهة معبودة باعتبارها قوى علوية مخلوقة أو أرواح محلية أو جنيات. لذلك كان لآشور ألقاب عديدة بهذا الشأن فهو عند الآشوريين ملك جميع الآلهة أو أب الآلهة الذي يحكم بسموه على جميع الآلهة، أو المولى العظيم وكان أثناء الدعاء والصلاة والتضرع يتم مخاطبته بـ "آشور مولاي العظيم … وكان آشور الإله الحارس لملوك الآشوريين فهو الذي يسنم الملوك على عروشهم ويمجد حكمهم ويطول من سنين سلطانهم ويحفظ قوتهم ويعظم من أسمائهم ويمنحهم النصر المبين على أعدائهم ويمنحهم نعمة خلافة حكمهم من قبل أبنائهم وأحفادهم ويضمن ذريتهم... فمنذ بداية الأمبراطورية الآشورية كان أسم آشور مماثل لإسم البلد وكانت الديانة تسمى بـــ (عبادة آشور)، أو الديانة الآشورية وحتى في نهاية الإمبراطورية بقى آشور الإله القومي والديني الأسمى لدى الآشوريين".(1)
وعلى نفس المنحى يذهب البروفيسوران ماتفييف و سازانوف في تأكيدهم على مركزية الإله آشور وعظمته في الحياة الدينية والدنيوية للشعب الآشوري. فيقولان "كان الرب آشور في الدولة الآشورية يحظى باحترام فهو الحق والإله الذي يجلب الشفاء وخالق الأرض فكان يشغل المرتبة الأولى في وحدة الوجود الآشوري … ونال لقب ملك جميع الآلهة كما هو رب المواجهة ضد هجمات أعداء الدولة الآشورية وعن يديه كان الملك يتقبل العرش والتاج والصولجان والإكليل وكانت أولى الكؤوس والهدايا في الانتصارات توضع على تماثيله وكان على الشعب الآشوري أن يبجلوه ويتذكروه وبصورة دائمة وعلى الملوك أن يمثلوه على ملابسهم وأختامهم وكان أسمه يرتل ثلاث مرات في بداية ونهاية النشيد القومي وأعتبر أباً للبلاد وأباً للشعب وبأسمه لقب الشعب الآشوري"(2). وهنا نقول مجازاً بأن ترتيل أسم الإله آشور ثلاثة مرات يمكن مقارنة ذلك بأسم ربنا المتجسد في يسوع المسيح بثلاثة أقانيم (الأب والأبن وروح القدس).
ويقول البروفيسور ساغس في كتابه المتميز ( جبروت آشور الذي كان ) بأن "الملك الحقيقي للبلاد كان الإله آشور بينما الإنسان الحاكم، من الناحية اللاهوتية، هو مجرد وكيل للملك السماوي. لهذا السبب كانت سلطته أكثر من مجرد سلطة إنسان قياساً على ما كان يفعله لخدمة الإله. هذا الإدراك للذات بوصفها تمثل الإله، نجده واضحاً لدى الملك الآشوري شلمناصر فقد قاده التوسع في الجبال الشمالية والشمالية – الشرقية إلى اعتبار نفسه الراعي المحدد من قبل السماء، والذي رفعته الآلهة فوق الجنس البشري المتمدن. أنه من سمى نفسه "راعي معشر الحواضر البشرية" و "الراعي الصالح… (من الجدير بالذكر بأن هذا المصطلح – الراعي الصالح – مستخدم من قبل المسيحيين في وصف يسوع المسيح). وفي إحدى حملاته العسكرية يذكر الملك الآشوري سنحاريب "بأنه بأمر الإله آشور، الرب العظيم، قضيت على الأعداء مثل اقتراب الإعصار"(3).
صحيح هو القول بأن كل شعوب الشرق الأدنى القديم كانت تؤمن بتعدد الآلهة مع افتراض بأن إلهاً واحداً ( أو مجموعة آلهة ) كانت تحتل ضمن منطقة معينة، أو سياق اجتماعي معين، مكانة خاصة ، وهكذا يدعي البعض بأنه كان شأن الإله آشور أيضا. غير أن الأمر باعتقادنا، وبالاستناد على هذه الأهمية العظيمة التي كان يحتلها الإله آشور في حياة الآشوريين، يختلف من جوانب كثيرة فيما يخص بقية الشعوب والآلهة التي عبدوها، ويمكن إجمال هذا الاختلاف بجملة ظواهر فريدة تميز به الإله آشور عن غيره وهي:
1 ) – لم يكن آشور إلهاً يحتل مكانة خاصة في منطقة معينة فحسب، بل أن اسمه كان يتطابق مع مدينة آشور والذي كان من المحتمل منذ البدء إلهاً محلياً لهذه المدينة، إلا أنه مع هذا يؤكد علماء الآثار بأن ظاهرة تسمية المدن باسم إله معين، أي ظاهرة شخصنة أو تألية المدن، هي نادرة جداً في بلاد ما بين النهرين(5). فمدينة آشور كانت لها قدسية خاصة وهيبة روحية، بل كانت العاصمة الدينية للآشوريين يحلفون باسمها وكأنها هي الإله نفسها، لا بل وأكثر من هذا، فقد كان آشور يتطابق مع أسم البلاد نفسها ومن ثم مع أسم الإمبراطورية بحيث كان آشور الملك الحقيقي لها وأب البلاد وحاميها. وهي ظاهرة، أي تسمية إمبراطورية عظيمة باسم إله، غير موجودة على الإطلاق في التاريخ المدون ودام حكمها قرون طويلة، يعد أطول حكم متواصل في التاريخ وشمل مساحات شاسعة من الأرض.
2 ) – والظاهرة الأكثر تمييزا للإله آشور والذي لا يجاريه فيها أي إله أخر في التاريخ، هي تسمية الشعب الذي عبده باسمه. فقد كان الآشوريون يطلقون على نفسهم باسم شعب آشور أو خدم آشور وكانوا يطلقون على أعدائهم باسم أعداء آشور. فلا يوجد في التاريخ، لا في بلاد ما بين النهرين ولا في بلدان أخرى، شعب تسمى اسمه الديني والقومي، أي الديانة والقومية، باسم الإله الذي عبده أي الديانة والقومية، عدا الآشوريون الذين عبدوا الإله آشور. ولا نستغرب أن يكون مثل هذا الترابط بين تسمية الشعب بأسم ديانته قد أنتقل مع الآشوريين إلى الفترة المسيحية وأصبحوا في فترات معينة يعرفون أنفسهم بالمسيحيين (مشيخايه) نسبة إلى المسيح فتداخلت هذه التسمية الجديدة (مشيخايه) مع تسميتهم القومية (سورايه – سريان أو أسريان(Assyrian . وقد يقول البعض بأن تسمية الآشوري متأتية من مدينة آشور المقدسة التي كانت مركز عبادة الإله آشور أو من بلاد آشور نفسه، كما هو الحال بالنسبة لبعض المدن والمناطق التي كانت تتطابق أسماؤهم مع أسماء الشعوب التي سكنتها، ولكن مع هذا فإن منطق الواقع والتاريخ يؤكد بأن وجود الآلهة يسبق وجود المعابد والمدن والمناطق التي سميت بأسمائهم والتي أقيمت أصلاً من أجل عبادتهم، خاصة بالنسبة لآشور الذي هو إله له وجود شمولي وأزلي غير مخلوق كبقية الآلهة وإنما كان، كما يسمونه، الإله الذي خلق نفسه بنفسه (6). وهذا هو الذي سبب حيرة بعض العلماء والآثاريين في القول بأن أصول هذا الإله وكيفية تطوره غير معروفة ويبقى غامضاً في مقارنته مع بقية الآلهة(7)، وهي بحد ذاتها صفة فريدة من صفات الإله آشور التي تجعله مختلفاً كلياً عن بقية الآلهة المعروفة في بلاد ما بين النهرين.
3 ) – الصفة الأخرى للإله آشور التي تميزه عن غيره من الإلهة وتجعله في مقام سام وفريد هي الديانة التي سميت بأسمه والتي عرفت بـ "الديانة الآشورية" والتي كان لها طقوس وممارسات ومعتقدات ظل الشعب الآشوري يمارسها لفترات تاريخية طويلة. بعكس الآلهة الأخرى، وحتى المعروف والبارزة منها فأنها لم يترتب على عبادتها أو تقديسها ديانة خاصة بها أو انتشرت على نطاق واسع وعبر مرحلة زمنية طويلة. وهي السمة التي تفسح لنا المجال كثيراً لمقارنة "الآشورية" كديانة نسبة إلى الإله آشور، ببقية الديانات القديمة والمعاصرة كالبوذية نسبة إلى بوذا والزارادوشتية نسبة إلى زارادوشت، والمسيحية نسبة إلى المسيح. في حين على العكس من هذا تماماً، إذ يصعب أن نقارن أو نوازن الإله آشور، مرجع الديانة الآشورية، مع بقية الآله كمردوخ وأنليل وعشتار وغيرهم من المعاصرين لتلك الفترة ونعتبرهم مراجع لديانات مفترضة مثل المردوخية والأنليلية والعشتارية … وهكذا. أي بعبارة أخرى، كان آشور إلهاً خالقاً لديانة معينة، في حين لم تكن لبقية الآلهة قدرة على تأسيس ديانة مستقلة بذاتها حتى وأن عبدت في فترات معينة.
4) - لم يكن سمو الإله آشور ورفعته على بقية الآلهة يعني إلغاء وجودها والتوقف عن عبادتها عند الآشوريين، وإنما كان سموه يأتي من خلال تناسقه وترابطه مع بقية الآلهة أو إحلاله محلهم واقتباس أيقونتهم ورموزهم باعتباره هو ملكهم جميعاً أو الأب الأكبر لهم. يقول البروفيسور ساغس بخصوص تعدد الآلهة عند الآشوريين "كانت مخطوطات الملوك الآشوريين تعدد قوائم طويلة بأسماء الآلهة، مثلاً آشور، السيد العظيم ووالد الآلهة: آنو وإنليل وسين وشمش وأداد ومردوخ ونابو ونرغال وعشتار … ولكن قوائم من هذا النوع كانت تشكل فقط جزءاً من مجمع الآلهة الكامل الذي كان معروفاً لدى اللاهوتيين القدماء. فلم تكن كل مدينة هناك تملك أساساً إلهها الخاص وحسب، بل علاوة على ذلك، كانت توجد رعاية إلهية للعديد من جوانب الحياة المادية والمجتمع البشري، حيث كانت توجد، على سبيل المثال، آلهة للخمر وآلهة للبناء، وهلم دواليك، فحين يتناول الباحثون المعاصرون النصوص الرافدية القديمة فيجدون أنهم يصادفون حقيقة آلاف الآلهة في المجمع الإلهي الرافدي. لكن هذه القائمة الضخمة لم تكن انعكاساً للمعتقدات الدينية العامة ولا حتى لمعتقدات أي فرد، بل كانت – على الأرجح – نتاجاً اصطناعياً لنشاط الباحثين القدامى الذين كانوا يجمعون سوية أسماء الآلهة من كافة المجامع المختلفة للآلهة المحلية ويحاولون تصنيفها على نحو ما. فلا أحد خارج أوساط هؤلاء الباحثين، لا في بابل ولا في آشور، كان يعتقد أن إدارة الكون تجري على يد هذا المجمع الآلهي الهائل والمنظم ذي الصفة الرسمية". وحتى بالنسبة للآشوري العادي الذي كان يرى نفسه محاطاً بتنوع هائل من قوى ما وراء الطبيعة فأنه، رغم إدراكه لوجود مجمع إلهي، كان مطلعاً على الأمر ليس بأفضل من اطلاع المسيحي العادي في يومنا هذا على تفاصيل مجمع القديسين، لذلك كان عدد الآلهة التي يعني الآشوري العادي بأمرها، بوصفها شيئاً مميزاً عن القوى السحرية، عددا قليل جداً، حيث يأتي في المقدمة الإله القومي آشور فكان من المستحيل نسيان الإله آشور، بحكم كونه على علاقة بكل ما يفعله الملك وحيث يتوجب تبجيله في كل المناسبات الرسمية (
.
وتؤكد العالمة الآثارية هاركنس المختصة في الدراسة المقارنة بين الأثار الآشورية المكتشفة وبما ورد من قصص وأحداث في التوراة بقولها بأن عبادة الألهة التي تأتي بعد الإله آشور شكلت ما تسمية بـ "الهيكل الآشوري المقدس" والذي تعتبره أكثر وضوحاً وعقلانية في فهم الديانة الآشورية. وترسم هذا الهيكل المقدس على شكل مجلس يسمو عليه الإله آشور ثم يليه بقية الآلة الأقل شأناً والمعروفة والتي عبدت من قبل البابليين والآشوريين(9). وهذا المجلس المقدس يتيح لنا فرصة لمقارنة علاقة الإله آشور ببقية الآلة الأقل شئناً مع ربنا يسوع المسيح وعلاقته ببقية تلاميذه والقديسين الذين يتذرع المسيحيون لهم أيضا، وهذه الميزة موجودة بشكل واضح حتي في يومنا هذا. فبإلاضافة إلى كون يسوع المسيح هو المخلص والفادي الذي يعبده الآشوريون في عصرنا الحالي فإن هذا لا يمنعهم من التضرع والصلوات للكثير من القديسين المعروفين عندهم كمار كوركيس ومار عوديشو وربان هرمز ومار زيا ومار بختشوع ومار قرداغ وغيرهم كثر طلباً للشفاء والخلاص. ومنهجية هذا المجلس المقدس عند الآشوريين القدماء يمكن مقارنته مع التحفظ، من حيث المنهج والأسلوب، مع المجمع السنهادوسي المقدس لكنيسة المشرق الآشورية الذي يرأسه البطريرك.
هذه الصفات والميزات الفريدة التي كان يتمتع بها الإله آشور عند الآشوريين جعلت منه أن يكون فعلاً مركزاً للتوحيد الديني والقومي عندهم والمصدر المركزي للذات الآشورية سواء أكان دينياً أم قومياً بحيث شكل آشور الحلقة العضوية للربط بين الجانب القومي والديني للآشوريين، ربطاً لا يمكن التصور بأي إمكانية للفصل بينهما في تلك المرحلة من تاريخ الآشوريين. ومما يعزز هذا الربط هو أسم الآشوريين نفسه الذي تتعدد مصادره الدينية والقومية بحيث يصعب الفصل بينهما والإقرار بأفضلية أو عمومية مصدر على أخر. فالآشوريون من جهة هم نسل آشور الأبن الثاني لسام أبن النبي نوح (الخروج 10:22)، من الكتاب المقدس، أعظم وأقوى مصدر تاريخي واسع الإنتشار. كما وأن هذا الاسم من جهة ثانية هو لمدينة آشور عاصمتهم المقدسة وأيضاً أسم بلادهم وأسم إلههم القومي وأسم إمبراطوريتهم .. وهكذا تتعدد وتتنوع المصادر الدينية والقومية لوجودهم ولكن أسمهم بقى نفسه متوحداً ثابتاً دون تغيير مما يؤكد، إلى جانب الصفات السابقة للإله آشور المار ذكرها، بأن الآشوريين كانوا قد عرفوا التوحيد في ديانتهم ومارسوها بشكل أكثر وضوحاً في أوج تطور إمبراطوريتهم من النواحي الحضارية والعسكرية والفكرية. يقول البروفيسوران ماتفييف و سازانوف بهذا الشأن "أن الآشوريين والبابليين القدماء عبدوا العديد من الآلهة غير انه من الفترة 2500 قبل الميلاد كانت تتواجد ظاهرة عبادة الإله الواحد(10). وكان عالم الآشوريات فريد تميمـي قد كرس معظم بحوثه في إثبات كون للآشوريين القدماء ديانة توحيدية معتمداً بالأساس على نصوص آشورية تؤكد هذه الحقيقة. فيقول بهذا الشأن "أن اكتشاف الحجر الأساس في القصر الملكي في نمرود، إضافة إلى المئات من اللوحات التي تحوي آلاف النصوص الكتابية هو بمثابة دليل لا يقبل الشك في أن المذهب الآشوري، وهو دين الآشوريين القدماء، هو في الواقع سبق كل الديانات السماوية في التوحيد التي ظهرت فيما بعد مثل اليهودية والمسيحية والزرادشتية والهندوسية والبوذية وأن جنة عدن الأرض الواقعة في قلب آشور لهي المصدر الذي انتشر منه نور الإيمان بالله الواحد الى أركان الأرض"(11).
ويؤكد البروفيسور ساغس أيضاً هذه الحقيقة عندما يشير بأنه كان في المجتمع الآشوري القديم نوع من النزوع نحو المزيد من اختزال مجمع الآلهة. فكان المواطن يرى نفسه في مجتمع حيث كل المراجع التي يخضع لها الإنسان كانت في نهاية المآل تتجسد في ممثلين للملك الذي هو مصدر السلطة الوحيد، فأنه لمقارنة معقولة أن يكون جميع الآلهة في العالم السماوي يشكلون، في آخر المطاف، تجليات للإله الوحيد الذي يمسك بكل القوى الإلهية. ثم يتساءل: هل نعتبر النظر إلى الآلهة الأخرى على أنها أوجه لآله واحد بمثابة تجل لمبدأ التوحيد؟ إن الإجابة تتوقف إلى حد كبير على كيفية فهمنا للتوحيد. فالمسيحيون، مثلاً، يعتبرون أنفسهم موحدين، بينما هناك المسلمون الذين ينكرون على المسيحية صفة التوحيد انطلاقاً من أساس اعتراف الدين المسيحي بالأقانيم الثلاثة: الأب والابن والروح القدس، كما ينفون تمثيل هذه الأقانيم لثلاثة آلهة. فإذا كان المرء يعني بالتوحيد وجود اعتقاد بأن كل الكيانات الإلهية هي في آخر المطاف واحد، فإن الآشوريين كانوا موحدين بكل تأكيد. فعلى الرغم من أن مخطوطات الملوك الآشوريين تعدد قوائم طويلة بأسماء الألهة إلا أن أشارتها إلى "آشور، السيد العظيم، ووالد الألهة، لهو دليل على سموه ورفعته على بقية الآلهة مثل آنو وإنليل سين وشمس وأداد وغيرهم.(12).
أن مبدأ التوحيد عند الآشوريين يمكن اشتقاقه من الميزات والخصائص الإلهية التي كان يتمتع بها آشور ومن طبيعة علاقته بالمجموعة الأخرى من الآلهة. فمن جهة كان اعتقاد الآشوريين بأن جميع الآلهة المتمثلة في المجمع الخاص بهم هي في نهاية المطاف خاضعة أو متمثلة بدرجات أقل في إله آشور، وبهذا فأن الآشوريين كانوا قد عرفوا التوحيد. ومن جهة أخرى فأن هذا العدد الكبير من الآلهة التي عرفها الآشوريون كانت في حقيقة الأمر، كما سبق وأن بينا، هي تجليات لجوهر واحد يتمثل في آشور ولم يكن مثل هذا التجلي مناف لمبدأ التوحيد المتمثل في سمو ورفعة آشور إله خالق السموات والأرض وغير مخلوق من قبل أحد، وهو التجلي الذي لم يكن يتفق مع اليهودية وحتى مع المسيحية بشكلها الرسمي المعروف، خاصة في حقبة نشوء اللاهوت وتطوره على يد الإغريق والرومان البعيدين عن تراث وروحية حضارة بلاد ما بين النهرين، فبالتالي ساد الاعتقاد بأن الديانة الآشورية كانت منافية لمبدأ التوحيد. أن مبدأ نشوء التوحيد في الديانة الآشورية يمكن تفسيره وفق النطرية الفلسفية المعروفة بـ "الشرك والتوحيد" أي تعدد الآلهةPolytheism) ) و عبادة إله واحد (Monotheism )، والتي تقول بأن التطور الاجتماعي للشعوب، خاصة كالشعب الآشوري الذي عاش فترات طويلة وتفاعل مع حضارات عديدة، يؤدي في نهاية المطاف الى تطور ديانتها ومعتقداتها بحيث تتخذ مظهراً تعوض عن عبادة آلهة متعددة بآله واحد يكون منشأ لظهور الديانة التوحيدية، والتي شكلت بالنسبة للآشوريين الخلفية الفكرية والروحية لاستقبال المرحلة الدينية المتطورة اللاحقة والتي تمثلت في المسيحية.
إلى اللقاء مع الخطأ الشائع في التاريخ الآشوري - 2
ملاحظة:
=====
هذا الموضوع مستل من الفصل الأول لمسودات كتابي المعنون (الفصل بين الكنيسة والسياسة القومية في المجتمع الآشوري).
الهوامش:
=====
1- H.E. Harkness, Assyrian Life and History, The Religious Tract Society, London, P.67-86.
كتبت هذه الباحثة الأركيولوجية هذا الكتاب عام 1883 وطبع عدة مرات ويأتي هذا الكتاب بعد الإكتشافات التاريخية في المدة الآشورية كنينوى وآشور ونمرود ومن ثم قيام بعض العلماء بدراسة مقارنة بين الحوادث والقصص المذكورة في هذه الإكتشافات وما ورد في التوراة والذي تبين بأن بعض من هذه الحوادث والقصص التوراتية تتاطابق مع الإكتشافات الأثرية وبعضها الآخر مختلف عنها تماماً... وهنا من الأهمية أن نذكر بما ورد في مقدمة هذا الكتاب من قبل العالم الآثاري ريجنالد ستيورت بول بالقول "وبينما الأمم الأخرى والمدن من أيام التوراة قد بقت، ولكن أسريا (آشور) ونينوى قد أختفت وتلاشت ولكن أبناء سادة الشرق القدماء (يقصد الآشوريين) بقوا صامدين وبحالة من الفقر المدقع والظلم في شمال بلاد ما بين لنهرين – ص 10.
(2) – ك. ب. ماتفييف و أ. أ. سازانوف ، الألواح تتكلم، ترجمه من الروسية الى العربية بنيامين بنيامين، إستراليا (بدون تاريخ ومحل الطبع).
(3) – هنري ساغس، جبروت آشور الذي كان، ترجمة الدكتور آحو يوسف، دار الينابيع، دمشق ، 1995، ص 81 و ص 357.
(5) - Jeremy Black and Anthony Green, Gods, Demons and Symbols of Ancient Mesopotamia, British Museum Publications, London, 1992, P.37.
6 – H. E. Harkness, Op. Cit., P.67.
7 – Black and Green, Op. Cit., P.38.
(
– ساغس، نفس المرجع، ص286-287
- Harkness, Op. Cit., P. 72(9)
(10) - البروفسوران ك.ب. ماتفييف و أ.أ. سازانوف، نفس المرجع، ص 104.
(11) - فريد تميمي، صلاة الملك آتور ناطر أبري الثاني، ترجمة من الإنكليزية إلى العربية المهندس روبرت يوخنا، مجلة المثقف الآشوري، عدد 13 – 14، السنة الرابعة، تشرين الثاني، 1977. وهذه الصلاة الربانية للإله آشور منذكورة في صحفة 22 من المجلة.
ومن لا يعرف عن فريد تميمي، نقول بأنه آشوري من أصل عراقي فهو لغوي ومؤرخ ومؤلف ومحاضر عالم آشوريات كبير أختص بالكتابات التصويرية والهيروغليفية والبكتروغريفية والمسمارية وبالكتابات الآشورية القديمة حيث أستطاع أن يحل الكثير من الرموز الآشورية ومنها قراءة أسماء الملوك. فمثلاً يرى البروفسور فريد بأن أسم الملك آشور ناصر بال لا معنى له إطلاقاً فأسمه الحقيقي هو آشور ناطر أبري، أي آشور حارس وطني أو أرضي. ومن الجدير بالذكر بأن البروفسور فريد زار العراق في السبعينيات من القرن الماضي بدعوة من نظام حزب البعث في العراق وأثناء فترة فرض النظام البعثي سياسته في "إعادة كتابة التاريخ" والساعية إلى سرقة تاريخ الشعوب القدماء لبلاد ما بين النهرين كالآشوريين وتنسيبه إلى العرب، فأنتقد البروفسور فريد هذه السياسة وأستهزأ بها. غير أنه بعد أن غادر العراق توفي بعد بضعة أشهر بسبب عجز في الكليتين مما أثيرت الشكوك حول نظام البعث العراقي لقيامه بتسميمه بمركبات الزئبق البطيئة التسمم والتي كان يستخدمها النظام في القضاء على معارضيه في الخارج ومن دون إثارة الشكوك، مثلما حدث مع المناضل ماليك ياقو ماليك إسماعيل. وهو نفس الأسلوب التأمري الذي كان يحاول إستخدامه مع مثلث الرحمات البطريك مار شمعون إيشاي عندما رفض توريط الآشوريين في خطة لمحاربة الأكراد. فألف رحمة على هؤلاء الأبطال الثلاثة.