أخطاء شائعة في التاريخ الآشوري – 2
---------------------------------هل تكلم الآشوريون لغة الآراميين أم لغتهم القومية ؟
===================================
أبرم شبيرا
أولا: من يكتب التاريخ؟:
---------------
عندما تسقط الأمة سياسياً ويضعف تأثيرها على مجريات الأمور يسقط قلمها أو يضعف تأثيره. لذلك قيل أن التاريخ لا يكتبه إلا القوي والمسيطر، وبالتالي ما هو في مجمله إلا تاريخ الملوك والأمراء والجيوش والطبقات والشعوب المسيطرة وكل ما يتعلق بهم من معتقدات وأفكار وتصورات وممارسات ونشاطات وثقافات وإنجازات وحروب وأنتصارات. أما الشعوب الخاضعة فتصبح بلا تاريخ، وفي أحسن الأحوال يكون تاريخها مشوهاً وذلك بسبب، إما قد كتب من قبل الشعوب المسيطرة خدمة لمصالحها الخاصة وعن طريق تنسيب المحاسن والمآثر إليها ولصق المثالب والعيوب بالآخرين، أو كُتب من قبل الشعوب الخاضعة وبنوع من الخنوع والتوافق مع رغبات الشعوب المسيطرة. لهذا السبب يسود تاريخ الشعوب الخاضعة حالة من الضبابية والخرافة والشعوذة والسحر والخيال لأنه نتيجة منطقية لسقوط القلم وضعف تأثير الفكر والمنطق في فهم التاريخ. وهنا من الضروري أن نفرق بين (التأريخ) بوضع الهمزة على الألف والذي يقابله بالإنكليزية (Chronicle) ويعني عرض للأحداث حسب تسلسلها، و(التاريخ) بدون وضع الهمزة على الألف ويقابله بالإنكليزية (History) والذي يعني علم التاريخ الذي يدرس الأحداث التاريخية ويحللها ويبين العوامل المؤثرة فيها والنتائج الحاصلة.
هكذا كان الحال بالنسبة للآشوريين في أوج إمبراطوريتهم حيث كتبوا التاريخ بأزاميل فولاذية وعلى صخور صلدة وملئوا الدنيا بأخبارهم وإنجازاتهم العظيمة التي وصلت إلى يومنا هذا. وعلى العكس من هذا عندما سقط كيانهم السياسي وأصبحوا شعباً خاضعاً سياسياً لإرادة الشعوب الأخرى، فبالتالي باتوا شعباً بدون تاريخ، وفي أحسن الأحوال تاريخ هامشي يعكس هامشية واقعهم وضعف كيانهم السياسي. فبسبب هذه العلة يسود التاريخ الآشوري بعد سقوط كيانهم السياسي الكثير من الغموض والخرافة والشعوذة والأخطاء بحيث سُلبوا من كل المحاسن والمآثر والإنجازات العظيمة وسرقت منهم أونسبت إلى الشعوب المسيطرة كالفرس والإغريق والرومان والفرس واليهود بما فيهم العرب والأكراد. لا بل فقد تطاولت عملية سرقة التاريخ الآشوري وبلغت إلى درجة قطعهم عن تاريخهم الغابر وسلبه منهم فأصبحوا في نظر هذه الشعوب المسيطرة إما بدون تاريخ أو بتاريخ يبدأ مع بداية المسيحية أو في بعض الأحيان مع بداية فكرة أو ظهور طائفة دينية أو معتقد معين، وما النعوت كالنصرانية والنسطورية واليعقوبية وغيرها من التسميات إلا نماذج في هذا السياق ألصقت بالآشوريين لتشويه أو إخفاء أو محو تاريخهم الغابر. واليوم يأتي مفهوم "المكون المسيحي" في العراق الحالي ضمن هذا السياق، كنتيجة منطقية لضعفهم السياسي وتشتتهم القومي. فالقوة أو السيطرة السياسية لاتعني إلا سيطرة إقتصادية وإجتماعية وثقافية ودينية وحتى لغوية لأن السياسة أو الحكم أو الحكام هم الذين يشرعنون المجالات الثقافية والسياسية والإجتماعية وتهيمن أفكارهم وثقافتهم ودينهم ولغتهم على المجتمع، سواء بالقانون أو بحكم الهيمنة والسيطرة أو بالقوة وتحديداً في بلدان الشرق الأوسط، ومنها العراق.
على العموم، إن استمرار عجز الآشوريين في بناء كيان سياسي خاص بهم أو فقدانهم للمبادرات السياسية الفاعلة والمثمرة يعني من جهة أخرى استمرار عجزهم عن كتابة تاريخهم بفاعلية مؤثرة قادرة على إزالة الخرافة والشعوذة منه وتحريره من الأوهام والخرافات التي سيطرت على أفكارهم ومناهجهم في فهم تاريخهم. ومن المؤسف أن تستمر بعض من هذه الخرافات قائمة حتى إلى زمن قريب، ليس بين بسطاء الآشوريين فحسب، وإنما بين بعض من الكتاب وأنصاف المثقفين من علمانيين وأكليركيين. فالبعض من هؤلاء لا يزال يؤمن ويروج بأن ملك "أتور" غضب الله عليه وحوله إلى ثور لأنه حاول بناء برج يصل سقف السماء، ثم نزلت لعنته على أهل بابل فبلبل لسانهم إلى عدة ألسنة !! (التكوين: 9:11)، في الوقت الذي هو معلوم بأن أصل كلمة بابل متأتي من اللغة الأكدية وتعني بوابة الألة.. وهناك العشرات من المعتقدات والمفاهيم التي تكتنفها الخرافات والتخريفات التي ألصقت ظلماً بالآشوريين وبمعتقداتهم وممارساتهم والبعض منها أدرجها اليهود في توراتهم والتي ظهرت بعد التطور العلمي والإكتشافات الآثارية بأنها في خلاف وتعارض مع الوقائع التاريخية وفي تناقض عميق مع أبسط مقومات الفكر والمنطق والبحث العلمي النزيه. فالبرغم من مرور ألاف السنيين عليها والتطور العلمي الهائل فلا يزال البعض يؤمن بها. وما يهمنا هنا هو موضوع اللغة العظيمة التي تكلم بها الآشوريون القدماء وحتى اليوم والتي من المحتمل، إن لم يكن من المؤكد، قد خضعت لهذه الخرافات والتحريفات.
ثانيا: ما هي اللغة التي تكلم بها الآشوريون؟:--------------------------
إستنادا إلى ما تقدم في فهم التاريخ يفرض علينا وبقوة سؤال عن اللغة التي تكلم بها أجدادنا الآشوريون. ومثل هذا التساؤل يأتي رغم وجود عشرات لا بل المئات من المراجع التي تقول بأن الآشوريين تركوا لغتهم القومية الأكدية بلهجتها الآشورية، وهي اللغة التي تكلموا وكتبوا وقرأوا بها لقرون طويلة ودونوا بها أعظم روائع الأدب الإنساني والملاحم والمعتقدات ومنجزات الحضارات التي سبقتهم وأسسوا أعظم مكتبة مفهرسة في التاريخ القديم، تركوا هذه اللغة العظيمة، وهم في قمة القوة والعظمة والتوسع الإمبراطوري، وتبنوا اللغة الآرامية التي تنسب إلى الآراميين وهم قبائل تغلب عليهم صفة البداوة والترحال وعدم الاستقرار والخضوع السياسي المستمر سواء للآشوريين أو لغيرهم بحيث طيلة تاريخهم المعروف لم يتمكنوا من تأسيس دولة موحدة لقبائلهم ولم يظهر فيهم ملك أو ملوك مشهورة أشاد بهم التاريخ البشري فأقتصر كيانهم السياسي على تأسيس بعض الإمارات أو دويلات مبعثرة هنا وهناك في الصحراء لم يطيل بهم الزمن إلا لفترة قصيرة. في حين على العكس منهم، فالوقائع التاريخية تؤكد حقيقة قوة وعظمة الآشوريين وملوكهم في مقارنتهم مع ضعف الأراميين وهزالة وجودهم السياسي وهشاشة كيانهم القومي. وأبسط دليل على ذلك هو الإكتفاء بزيارة واحدة للمتاحف العالمية مثل المتحف البريطاني في لندن ومتحف اللوفر في باريس ومتحف برلين في ألمانيا التي تزخر بنماذج في عظمة الآشوريين، في حين هي خالية من أي آثر للأراميين. ومن لا يستطيع زيارة هذه المتاحف عليه زيارة بلاد آشور القديمة ومعاينة عظمة الآشوريين في آثار نينوى ونمرود وخرسباد وآشور ومنطقة خازر وخنز. والمدفون من شواهد لعظمة الآشوريين تحت الأرض وغير المكتشف هو أكثر بكثير مما هو على سطحها.
-----------------------------
نموذج بسيط في المقارنة بين عظمة الآشوريين وضعف الأراميين، لا بل أنظر إلى روعة الفن الآشوري والحركة المفعمة بالحيوية في مقارنة مع فقر الفن الأرامي ونحول وجه الفارس الأرامي.(النماذج منقولة من موقع كوكيل). --------------------------------------------------------
من كل ما تقدم، ووفق تأثير الحكم والقوة والسياسة والهيمنة على مجمل مناحي الحياة، لا يمكن للعقل والمنطق أن يقبل هذه الخرافة في ترك الآشوريين، وهم أسياد المنطقة، لغتهم القومية العتيدة وتبنى لغة قوم رحل تغلب عليهم حياة البداوة والترحال وعدم الإستقرار. فالتاريخ يؤكد حقيقة غلبة لغة أصحاب القوة والنفوذ على لغة الضعفاء والغاضعين. فالاغريق عندما زحفت جيوشهم على المنطقة هيمنت لغتهم على لغة شعوب هذه المنطقة. والحال نفسه مع توسع الإمبراطورية الرومانية وهيمنة اللاتينية على الشعوب التي خضعت لها. واليوم اللغة الإنكليزية هي بمثابة لغة عالمية ولغة شعوب أخرى غير الأنكليز، ليس ذلك إلا بسبب قوة وتوسع الإمبراطورية البريطانية التي لم يكن يغيب الشمس عنها في السابق وكذلك قوة الولايات المتحدة الأمريكية في الحاضر. وهناك العشرات من البلدان في القارة الأفريقية وأميركا الجنوبية تتكلم شعوبها لغة مستعمريهم لأن القوة الإستعمارية فرضت عليهم التكلم بلغة المستعمر فلم تستطيع اللغة المحلية التي كانوا يتكلمون بها أن تقاوم قوة لغة الإستعمار الفرنسي والبريطاني والإسباني، واليوم يطلق عليهم الشعوب الناطقة بالفرنسية أو الإنكليزية أو الإسبانية.
والأنكى من هذا، وبعيداً عن السياسة والقوة والهيمنة، يتجاوز ما يناقض المنطق والعقل هو القول بأن الآراميين أخترعوا الأبجدية وأن الآشوريين تركوا الخط المسماري وتبنوا أبجدية الآراميين!! عجبي كبيرا جداً بأن أمة عظيمة، كالأمة الآشورية التي سجل تاريخها إختراعات مهمة لحياة البشر وإكتشافات كثيرة نورت حياة الأجيال القادمة لا تستطيع إختراع أبجدية للغتهم وتلجأ إلى شعب آخر أضعف منها بكثير وتقتبس أبجديته. فكثير من المراجع العلمية تذكر بأنه كانت آشور على أعلى مستوى من الإنجازات التكنولوجية والعلمية والثقافية. فقد طور الآشوريون نظام عدٍ قائم على مضاعفة الرقم 60، وقسموا الساعة إلى 60 دقيقة والدقيقة إلى 60 ثانية، والدائرة إلى 360 درجة، وكانت العمليات الحسابية مهمة في مشاريع البناء الخاصة بهم، لذلك كان لديهم معرفة واسعة في عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة والمعادلات التربيعية والتكعيبية والكسور. كما تتبع علمائهم حركة القمر والنجوم والكواكب، واعتمدوا في ذلك على المبادئ المتقدمة للرياضيات، وكانوا أيضًا يتنبؤون بحركة العديد من الكواكب الأخرى. وأهتم الآشوريون بالطب لأهميتهِ في خوض الحروب والمعارك، وطوروا أدوية للإصابات الخطيرة، وعالجوا الأمراض بالحبوب والمراهم والأعشاب وحتى بالثوم وكانوا يعتمدون في تشخيص الأمراض على المنطق والتاريخ الطبي المسجل. وعُرف الآشوريون بمهاراتهم العسكرية، وكانوا أول من أستخدموا الأسلحة الحديدية في حروبهم كما تميز الآشوريون باستراتيجيتهم العسكرية، خاصةً في الحروب وعن طريق الحصار ودك الحصون حيث كانوا مهرة في اختراق تحصينات الأعداء وأستخدام الضفادع البشرية في التسلسل لمواقع الأعداء، كما كان الآشوريون أول من أخترعوا العجلة، أساس تطور التكنولوجيا الصناعية واستخدموها في مركباته. (المعلومات منقولة من مواقع ألكترونية). هذا غيض من فيض من ابداعات وإختراعات الآشوريين التي هي أكثر بكثير من إختراع أبجدية للكتابة. أفهل يعقل العقل ويقبل المنطق كل هذا في القول بأن الآشوريين تبنوا أبجدية الأراميين؟
ثالثا: الآشوريون بين الأرامية والسريانية------------------------
من الأخطاء الشائعة في التاريخ الآشوري هو أن الآشوريين الذين كانوا يتكلمون اللغة الآرامية قد أصبحت تدعى باللغة السريانية بعد إعتناق الآشوريون المسيحية، لماذا؟، لأن التسمية الآرامية كانت مرتبطة بمرحلة وثنية والثانية مرتبطة بالمرحلة المسيحية!! ولو حاولنا التدقيق ومعرفة هذا التحول في تسمية لغة الآشوريين سنرى أنها مرتبطة، ليست بشكل مباشر ببداية المسيحية وأعتناق الآشوريون لهذه الديانة، بل بمرحلة قدوم الإغريق وسيطرتهم على المنطقة من جميع المناحي وفرض أفكارهم وثقافتهم ومعتقداتهم ولغتهم على شعوبها. وكان من المنطق أن ينطقوا أو يسموا أسماء المناطق والشعوب بلغتهم التي سادت المنطقة قبل المسيحية. يقول المؤرج الإغريقي الكبير هيرودوتس أو هيرودوت (حوالي 484 ق.م - 425 ق.م) الملقب بـ "أبي التاريخ"، الذي زار المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد وتحديدا بلاد آشور المحتل من قبل الفرس الميديين، فبعد أن وصف الآشوريين المجندين في جيش الفرس الميديين في كتابه المشهور "تاريخ هيرودوت" يقول "أن هذا الشعب الذي يطلق الاغريق عليه أسم "سريانس – Syrians – يطلق عليه البرابرة أسم أسريان – Assyrians-" )للعلم كان الأغريق يطلقون على غيرهم من الشعوب تسمية البرابرة(. ص 144.
The History of HERODOTUS, translated by George Rawlinson, Vol Two, First Edition 1010, Reprinted 1912, 1916, 1920, 1924. P.146
This People, the Greeks call Syrian, are called Assyrians by the Barbarians. P. 144.
البروفسور جورج رولينسون مترجم ومحقق الكتاب، هو الشقيق الأصغر لعالم الآشوريات المشهور هنري رولينسون الذي فك وحلل وترجم الكتابة الآشورية المسمارية وبذلك أعتبر مؤسس وأب علم الآشوريات والذي من خلال هذا العلم تم دراسة حضارات شعوب المنطقة.
------------------------------------------------------
من هنا يمكن القول جازماً بأن الأغريق وضعوا الأمور منذ البداية في نصابها الصحيح، فعندما أكدوا بأن تسمية السريان ( ( Syriansتعني عند شعوب المنطقة أسريان - ِ Assyrians، فأنه بالنتيجة المنطقية اللغة التي تكلم الآشوريون بها أطلقوا الأغريق عليها بـ "Syriac" والمنحولة إلى العربية بـ "السريانية"، نسبة إلى السريان، التسمية الإغريقية أو الآشوريين (Assyrians)، بتسمية شعوب المنطقة (البرابرة حسب مفهوم الإغريق)، والتي منها أتت كلمة "سورث" العامية عند الآشوريين بشكل خاص وعند المسيحيين المشرقيين بشكل عام، و"ليشانا أتورايا أو آشورايا" بالفصحى الآشورية. من هنا نقول بأنه ليس خطأ القول بأن الآشوريين يتكلمون اللغة السريانية (Syriac) بمنطوقها الإغريقي ولكن من الأفضل وضع أسم اللغة في نصابها الصحيح ونقول بأن الآشوريين يتكلمون اللغة الآشورية (Assyrian) بمنطوق شعوب المنطقة ومنهم الآشوريين. وهنا من الضروري الإشارة، رغم عدم إختصاصنا في اللغة، بأن البعض يذكر اللغة الآشورية الحديثة أو في أحيان أخرى اللغة الآشورية القديمة (ليشانا عتيقا) فهذا أمر يخالف ويناقض قانون تطور اللغة التي تمر بمراحل كثير تتأثر وتؤثر بغيرها من اللغات وبالتحولات السياسية والإجتماعية والفكرية، خاصة عندما يكون عمر مثل هذه اللغة ألاف السنين كاللغة البابلية – الآشورية التي تكلم بها الآشوريون.
من هذا المنطلق فأنه من الطبيعي جداً أن لا تكون لغة الآشوريين في هذه الأيام نفس لغة أجدادهم قبل أكثر من سبعة ألاف سنة، وبالتالي فأن المفاهيم مثل اللغة القديمة أو الحديثة لا تتسق مع هذا المفهوم في التطور. فلو حاولنا إجراء مقارنة مع اللغة العربية نرى بأن لغة العرب اليوم هي ليس نفسها بالتمام والكمال اللغة التي تكلم بها أهالي قريش قبل أكثر ألفي سنة ولكن لا زالت تعرف بـ "اللغة العربية" التي يتكلم بها عرب اليوم. ومقارنة أخرى نراها في اللغة الإنكليزية التي يتكلم بها الإنكليز وغيرهم من الشعوب، فهي غير لغة وليم شكسبير الإنكليزية التي كتب بها روائع الأدب الإنكليزي قبل ستة قرون تقريباً حيث تختلف كثيرا أو قليلا عن الإنكليزية الحالية لدرجة يصعب أو يستحيل على الإنكليزي العادي أن يفهمها. وهنا أسترجع بعض الذكريات بهذا الخصوص حيث في منتصف التسعينيات من القرن الماضي كنتُ مع قداسة مار كوركيس الثالث صليوا، البطريرك السابق لكنيسة المشرق الآشورية (حينذاك مطربوليت الكنيسة في العراق) في زيارة للمتحف البريطاني في لندن وأطلع قداسته على بعض أعمال وليم شكسبير المعروضة فبالكاد أستطاع قراءتها وفهمها رغم كون قداسته مختصاً في اللغة الإنكليزية وكان أستاذا لهذه اللغة في العراق قبل توشحه برداء الكهنوتية وفي حينها أستنتج قداسته، بعد أن أطلع في نفس الوقت على بعض مخطوطات كنيسة المشرق القديمة المعروفة في المتحف والتي كان تاريخ بعضها يقارب 700 سنة وبعضها الآخر بحدود 300 سنة والتي سرقت من العراق أثناء حوادث حرب الخليج الأولى وبيعت للمتحف البريطاني، أستنتج بأن الإختلاف الموجود بين لغة شكسبير الإنكليزية مع اللغة الحالية قد يكون أكثر بكثير من أختلاف لغة الآشوريين القديمة عن اللغة الحالية لهم.
إذا الآشوريون في هذه الأيام يفتخرون بأجدادهم القدماء وإن هذا الإفتخار ليس قائم على الشعور والعاطفة والوعي الإنتمائي فحسب وإنما بجملة مقومات تاريخية وممارسات تراثية توارثوها من جيل إلى آخر لتشكل ركائز أساسية لوجودهم القومي ويمارسونها حتى اليوم، مع التأكيد بأنها مرت بمراحل تاريخية طويلة وبتطورات التأثير والتأثر بحيث لم تعد كما كانت تمارس في السابق وذلك بحكم الزمان والمكان. واللغة كما نعرف هي من أهم مقومات وجود الأمة وهي أيضا تتأثر بهذه التطورات التاريخية والتي يجب أن نفهما وفقاً لظروف الزمان والمكان. فأشوريو اليوم ينسبون قوميتهم إلى الآشوريين القدماء وفقاً لهذه المقومات المفعمة بالتطور. أفهل هناك شعب أخر يدعي بهذا الإنتساب؟؟؟ كلا و أيضا كلا، إذن الآشوريون يستحقوق شرعاً هذا الإنتساب فعلاً وقولا ومن دون منازع وكأنهم قد فازوا به شرعاً بـ "التزكية" طالما لا يوجد من ينافسهم في هذا الإنتساب ومنها اللغة التي تكلموا بها.
هنا ننهي موضوعنا بالتساؤل... لماذا حلال على البعض وحرام على الآشوريين؟... قد يكون الجواب كامن في السطور المذكورة أعلاه، لأنه ليس هناك دولة خاصة بهم أو كيان سياسي للآشوريين ولا لهم قوة مؤثرة تستطيع أن تفرض الحقائق على أرض الواقع وتزيل الأخطاء التاريخية التي أرتكبت بحقهم. من هنا نقول، فبسبب الضعف السياسي الذي يكتنف الآشوريين في هذه الأيام فأنه قد يستحيل أزالة هذه الأخطاء التاريخية من العقول، ولكن مع هذا، فالتسلح بالعلم وبمنطق الوقائع التاريخية يتيح لنا مجال لمناقشتها والوصول إلى كشف حقيقة هذه الأخطاء وإزالتها أو التخفيف من شيوعيتها بين غالبية الناس، وما هذه السطور إلا محاولة في هذا السياق.