المحرر موضوع: اغتيال الكلمة الحرة في العراق  (زيارة 448 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31668
    • مشاهدة الملف الشخصي
اغتيال الكلمة الحرة في العراق

بقلم:د. ماجد السامرائي
منذ السنة الأولى للاحتلال الأميركي 2003 انكشفت آخر خدعة لمجرم الحرب على العراق الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، خدعة الحرية، بعد الكذبة التاريخية بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ومطاردة “يأجوج ومأجوج” في بابل. لكنّ أعدادا غير قليلة من العراقيين انخدعت بالمظهرية التي سادت إطلاق العنان للمكبوتات الغريزية، وعكست للأسف أسوأ نزعات الشر والفوضى عند المهمّشين والرعاع المقادين من قبل أصحاب الشر. لم تكن غالبية المُقيّدات المفروضة في عهد ما قبل الاحتلال سيئة وتعبيرا عن نزعة فردية واستبداد ودكتاتورية، بل إن جزءا منها كان من منظومات الدولة التقليدية.
من بين الحقائق التاريخية التي لا بدّ للجيل العراقي الجديد الذي ولد قبيل وبعد احتلال البلد أن يدركها، هي أن الدكتاتورية وغياب الحرية والتعددية الديمقراطية تحت ظل أيديولوجية “الحزب الواحد” كانت من بين الأسباب الجوهرية للقبول المظهري الذي دفع العراقيون ثمنه في ما بعد، في قيادة التيار الإسلامي الشيعي الموالي لطهران ضمن جوقة المعارضة العميلة لأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية، وارتضاء خدمة مشروع بوش الابن الاحتلالي، وتعفف غالبية الوطنيين المعارضين لنظام صدام في الخارج عن مشاركة المرتزقة والعملاء وقبولهم العزلة الوطنية رغم الإغراءات الكثيرة، وفق قراءة ذكية لمستقبل العراق بعد الاحتلال.
مشروع تدمير العراق كان هائلا وكبيرا في تخطيطه وأطرافه وأدواته، وحين طُرحت أدبيات وحيثيات هذه الفكرة بُعَيدَ الاحتلال من قبل المخلصين العراقيين لوطنهم، وليس المنتفعين والمنافقين، ألصقت بهم شتى التهم، أعلاها قسوة المطاردة والتغييب والاعتقال، وأقلها رفقا اتهامهم بدعاة نظرية المؤامرة.
اليوم، بعد أن ساد التدمير المؤلم جميع مظاهر الحياة العراقية ببدائل الجهل والتخلف المُقرف تحت موجة الحرية الزائفة، أصبح توصيف التدمير والتصدي لأبطاله العملاء والفاسدين يتجاوز الشعارات، التي لا تقدم الدواء للجرح الكبير الذي اخترق الجسم العراقي، إلى برنامج سياسي واقعي جدّي للتغيير، بشّر به ثوار أكتوبر 2019، لهذا السبب كانت الضربة التي وجهت لهم قاسية.
هل قُتلت الكلمة الحرة في العراق؟ حتى لو تحقق ذلك، فهو مؤشر قوي على العزلة والهزيمة للقتلة والفاسدين بكل صنوفهم مهما تحصنوا بسواتر الصفيح الصدئة
كان شعار الحرّية برّاقا وجاذبا؛ في ميدان ممارسة التعبير والرأي الحر في الإعلام والصحافة حصلت مظاهر جديدة جاذبة لم يكن لها وجود، جميعها كان مدفوعا ومبرمجا من جهتين رئيستين، هما طهران وواشنطن، وبمرحلتين زمنيتين. المرحلة الأولى، سمحت فيها أساليب المخادعة الإيرانية للأميركان بالإنفاق الهائل على تأسيس مؤسسات الإعلام والصحافة ومنظمات المجتمع المدني الكثيرة في بغداد العاصمة ومدن العراق الرئيسية. حيث رصدت وأنفقت فيها الأموال الهائلة، والتي هي بالأساس من أموال العراق المجمدة، مُنحت للكثير من أنصاف المتعلمين الغرباء عن مهنة الإعلام والصحافة، وهم الأقرب إلى عالم المرتزقة، مُرّر دخولهم إلى هذا العالم لأنهم كانوا معارضين لنظام صدام.
البعض من الصحافيين والإعلاميين والكتاب العراقيين المُحترفين الليبراليين المعارضين لصدام، انتفعوا ماديا من مرحلة التأسيس الأميركي لمشروع الاحتلال، في جانبه الثقافي والإعلامي، كما غيرهم، فيما سمي المرحلة الانتقالية بعد إسقاط نظام صدام، حيث قُدمت لعدد منهم مبالغ كبيرة لقاء فعاليات وبرامج وعدوا المشرفين الأميركان على هذا القطاع القيام بها، لولا صدمة الهيمنة السريعة لقوى الإسلام الشيعي الموالي لطهران على هذا المرفق الحيوي.
قوائم  الدعم المادي الأميركي لتلك المجموعة الإعلامية صحيحة، وحملت أرقاما كبيرة نشرت في حينها. بعضهم استثمر بذكاء جزءا من تلك المردودات المالية في بناء مشاريع إعلامية مستقلة، والبعض الآخر لم تستهوه اللعبة فآثر الاحتفاظ بالمال لأيام سوداء، كما يقولون. أما غيرهم، رغم معارضتهم الحقيقية للنظام السابق من بين الدبلوماسيين والمثقفين والإعلاميين الذين وصفوا بعدم الذكاء في استغلال الفرص، فقد ظلوا صامدين نزيهين منحازين إلى أهلهم متحصنين بمبدئيتهم. وقد جاء وقتهم الوطني المهم الآن.
المرحلة الثانية، هي توظيف تلك المؤسسات الإعلامية والصحافية الممولة أميركيا لصالح المشروع الإيراني في العراق. حيث وَقَعَ المسؤولون الأميركان عن إدارة العراق في تداعيات غبائهم، أو ضمن ترتيبات مقصودة، في عملية تسليم العراق لطهران. كانت اللعبة الإيرانية بسيطة؛ استثمار الخلفيات الطائفية “الشيعية” للكوادر العراقية ذات الإمكانات المهنية المتواضعة وتوظيفهم محررين في منشورات ورقية بائسة، لدى الكتل الشيعية في المنفى، وتحويل أصحابها إلى قادة في الإعلام، بينما هم في الحقيقة أدوات لإغراق سوق الرأي العام الشعبي العراقي بتضخيم حقائق الاستبداد والدكتاتورية السابقة. والأهم، تمجيد مشروع ولاية الفقيه في العراق، باعتباره المشروع الشيعي الوحيد بعد استبعاد مشروع “التشيّع العربي” وأصحابه.
لهذا لم يعد شعار الحرية في ميادين التعبير مطلقا ومشاعا للجميع، أصبح مؤدلجا وموجها من قادة النظام السياسي القائم، لا يختلف نظريا عن مشروع “الحزب الواحد” قبل 2003 إلا بالتفصيلات والمسمّيات الصغيرة. تم تأطيره في دستور 2005 الملغم، نتاج التحالف الشيعي الكردي الذي انتهى عام 2020.
لا مكان للمنادين الداعين لحرية وبناء الدولة ذات الهوية الوطنية العراقية بتفصيلاتها الكثيرة، ومن بينها تأكيد سيادة واستقلال العراق وأمنه الوطني من الطامعين التاريخيين. حورب أصحابها، وتم توريطهم بشتى الاتهامات، بعد أن ارتكب بول بريمر الكثير من آثامه وخباثته، كاستمرار فعالية ونفاذ قانون العقوبات رقم 111 لعام 1969 المُجرّم والرادع لمعارضة النظام السياسي القائم.
خلال فترة ولاية نوري المالكي الثانية (2010 – 2014)، إثر قيادته حملة “حرب جيش الحسين ضد جيش يزيد”، اُستحضرت واُشيعت في الأوساط الإعلامية الكثير من التقاليد والمعايير الإعلامية والسياسية الطائفية الغريبة عن العراق وباقي بلدان العالم المتحضّر. أصبحت لها قوة القانون؛ المخالف لها يودع السجن بتهم شتى، بينها “سنّي إرهابي” أو “بعثي”.
فكرة “التقديس”، رغم خلفياتها المذهبية والطائفية الخاصة في التداول المحدود داخل معتنقي المذهب، تحوّلت إلى وسيلة سياسية عامة لابتزاز بعض الوطنيين السياسيين والكتاب والإعلاميين الذين أتاحت لهم الفرص المحدودة التعبير الناقد للممارسات التنفيذية الحكومية الخاطئة في مختلف الميادين، أو كشفهم جماعات مافيا الفساد الخطيرة في البلد المتورطة بنهب المال العام، وفق الوثائق والأدلة، ومحاولات تأشير خيوط حماية هذه الجماعات من قبل الأحزاب النافذة.
رغم الغموض الدستوري المتعمد في طبيعة نظام الحكم؛ هل هو ديني مذهبي أم مدني، إلا أن اعتبار الإسلام، وليس مذهبا منه، مصدرا من مصادر الحكم جعل من الضروري احترام المقدسات والتقاليد الإسلامية العامة، لا تحويل مؤسسات حكومية مدنية أو عسكرية إلى هالة مقدّسة، نقدها في وسائل الإعلام يعرّض صاحبه لأقسى العقوبات أو لمصير مجهول أو للقتل. جميع السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية يمكن، ولا بدّ، أن تتعرض وفق النظام الديمقراطي للنقد والمساءلة من قبل السلطة الرابعة، الصحافة ووسائل الإعلام، وتتم حماية أصحابها من الصحافيين والإعلاميين والكتاب.
رغم وجود مادة في الدستور العراقي خاصة بحرية التعبير برقم 38، لكنها لا تضمن في الواقع مصير أصحاب الرأي الأحرار، بل العكس، لأنها حرية مشروطة بما يسمى احترام النظام العام والآداب وغيرها من التعبيرات الواردة في القوانين السارية، التي يفهم منها تقييد تلك الحرية وفق هوى الحكومات وتفسيرات المتضررين من النقد النزيه الصادق.
جانب آخر في مسلسل تداعيات نهاية حرية الكلمة في العراق هو قتل الصحافيين من ثوار أكتوبر الميامين، الذين عبروا عن شجاعة فردية في مواجهة فوهات بنادق الميليشيات، فتم قتل العشرات منهم بدم بارد، دون حساب للمجرمين المتورطين بينهم، رغم حصول الصحافي الاستخباري مصطفى الكاظمي على منصبه برئاسة الوزارة بعد إزاحة سلفه عادل عبدالمهدي على وقع هذه الانتفاضة والثورة الشعبية.
لم يتمكن البرلمان العراقي في دوراته الأربع السابقة من استصدار قانون صارم وجريء لحماية أصحاب الرأي والتعبير الحر والصحافيين، الذين وصلت أعداد قتلاهم الخمسمئة صحافي، منذ عام 2003 إلى حد الآن. بعد أن حلّ العراق ثالثا بين أسوأ الدول وفق نتائج المؤشر العالمي للإفلات من العقاب، إلى جانب تصنيفه من قبل منظمة الشفافية العالمية في المرتبة 160 بين دول العالم الـ180 الأكثر فسادا في عام 2020.
ظلت عبارات الدستور والقوانين الرديفة مبهمة تغطيها الأحكام الصارمة في العقوبات، التي تصل حد الإعدام ضد من ينتقدون السلطات، أقلّها تهم التشكيك بالانتماء للوطن والتجاوز على مقدسات رموزه، التي أصبحت قوائمها طويلة لا يعرف أولها من آخرها، لدرجة أن مؤسسة عسكرية صدر لها قانون رسمي حولها إلى مرتبة “التقديس” التي يُحرّم الاقتراب من حدودها، مع أن جرائم نهب وفساد كثيرة ترتبط بعدد غير قليل من منتسبيها، وفق تصريحات أحد رؤساء وزراء العراق الشيعة.
كان انطلاق ثورة شباب أكتوبر 2019 مناسبة جديّة لاختبار القوة ما بين أصحاب مبادئ الحرية والوطنية العراقية، على يد شباب ساندتهم نخب المثقفين والصحافيين والإعلاميين الأحرار، بينهم منتسبون لجهات إعلامية خاصة ورسمية محلية، وبين تحالف الفساد وغالبية قوى الإسلام السياسي الشيعي الموالين للخارج، التي أصبحت لها أجنحة عسكرية ميليشياوية مخيفة، وقع الناطقون بكلمة الحق والعدالة ضحية سهلة للقتل المبرمج دون معرفة القاتل، وإذا ما تم تحديده، بنسبة واحد في المئة، يصبح فردا لا أمّ ولا أب سياسيا يقف خلف جريمته.
أخطر تطور سياسي، خنق الكلمة الحرة وأصابها بمقتل خلال الشهور الأخيرة، هو انتقال وظيفة “مجلس  القضاء الأعلى” من مرتبة مرجعية تفسير مواد الدستور، إلى نزولها إلى ساحة الصراعات والاختلافات السياسية وتفصيلاتها اليومية، وملاحقة الإعلاميين الناقدين وسهولة استصدار أوامر القبض على بعضهم ومحاكمتهم لكلمة هنا أو هناك، تحت مبررات سهلة كالتجاوز على “قدسية” بعض المؤسسات والرموز، واستحضار لسلوك النظام السابق الذي برر للمحتل الأميركي فعلته للخلاص. دخول مؤسسة القضاء كطرف مساند للأحزاب ضد الشعب الثائر ضدّها تطور مُقلق ينبغي عدم استمراره بعد مراهنة العراقيين ونخبهم على مؤسسة القضاء ورجالها ببقائها في ملاذ للمظلومين في العراق.
هل قُتلت الكلمة الحرة في العراق؟ حتى لو تحقق ذلك، فهو مؤشر قوي على العزلة والهزيمة للقتلة والفاسدين بكل صنوفهم مهما تحصنوا بسواتر الصفيح الصدئة، الكلمة النهائية ستكون لشعب العراق العظيم وثواره الشباب.