المحرر موضوع: شهادة بلاسخارت.. الكلمات التي عرّت الطبقة السياسية العراقية  (زيارة 545 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31677
    • مشاهدة الملف الشخصي
شهادة بلاسخارت.. الكلمات التي عرّت الطبقة السياسية العراقية
عقيل عباس
كانت الإحاطة التي قدمتها المبعوثة الأممية إلى العراق، السيدة جينين بلاسخارت، أمام مجلس الأمن الدولي مؤخرا، لافتة لجهة صراحتها ودقة التشخيص الذي انطوت عليه، والتحذير من مستقبل قاتم قريب.

استهلت بلاسخارت إحاطتها بتأطير أخلاقي وسياسي صحيح ودقيق للمشكلة العراقية الحالية، المتواصلة تصاعديا منذ 2005: انشغال الطبقة السياسية العراقية الحاكمة بصراعات المصالح بينها وتحقيق المكاسب الأكبر وإهمالها مصالح المجتمع على نحو دائم.

وقالت: "كثرت الدعوات الموجهة إلى زعماء العراق للتغلب على خلافاتهم وتشكيل حكومة منذ إجراء الانتخابات قبل عام من الآن. وخلال الأشهر الاثني عشر الماضية أكّدنا أهمية الحفاظ على الهدوء والحوار والامتثال للدستور واحترام مبادئ الديمقراطية وسير عمل مؤسسات الدولة دون عوائق وحكومة فاعلة تؤدي وظائفها بفعالية للتصدي للمطالب المشروعة، لتحسين الخدمات العامة وتوفير فرص العمل وحفظ الأمن والقضاء على الفساد وتحقيق العدالة وضمان المساءلة على سبيل المثال لا الحصر. لكن للأسف، كان للشقاق ولعبة النفوذ الأولوية على حساب الشعور بالواجب المشترك. وكنتيجة مباشرة للتقاعس السياسي الذي طال أمده، شهد العراق أوقاتا حرجة وخطيرة للغاية".

منذ عام 2005، لم تستطع هذه الطبقة السياسية أن تنتج حكومة فاعلة واحدة تلبي مطالب الشعب المشروعة بالحصول على الخدمات وخلق الفرص الاقتصادية ومكافحة الفساد واحتكار الدولة للسلاح، بل بالعكس، يتدهور الأداء الحكومي المتواضع أصلا في هذه المجالات وسواها.

صنع كل هذا الفشل المتراكم الذي يقر به على استحياء وعلى نحو مخفف ومُجَزَّء كثيرٌ من ساسة هذه الطبقة، لكنهم في الوقت نفسه يرفضون اتخاذ الخطوات الجادة التي تتعاطى مع هذا الفشل.

ولذلك لم يكن صعبا إزاء هذا الفشل الطويل والمتراكم، والتجاهل المتواصل له، الوصول إلى الخلاصة الواضحة التي تتجاهلها الطبقة السياسية الحاكمة "لا يكن لديكم أدنى شك بأن خيبة أمل الشعب قد وصلت إلى عنان السماء. لقد فقد العديد من العراقيين الثقة في قدرة الطبقة السياسية على العمل لصالح البلد وشعبه. ولن يؤدي استمرار الإخفاق في معالجة فقدان الثقة هذا سوى إلى تفاقم مشاكل العراق".

في الحقيقة، لم تحظَ طبقة سياسية حاكمة في العالم بالفرص والدعم الدوليين الذي حصلت عليه الطبقة الحاكمة في العراق، لكنها جميعا ضُيِّعت بسبب الحمق والأنانية والتغول الذي طَبَع سلوك هذه الطبقة.

أطاحت الولايات المتحدة الأميركية نظاما حكم شمولي لم تكن معظم هذه الطبقة السياسية في سنوات معارضتها الطويلة له قادرة على زحزحته من مواقع السلطة التي تَمَترس فيها بقوة.

وتولت القوات الأميركية حماية النظام السياسي الناشئ على مدى ثماني سنوات لحين تدريب قوات الأمن العراقية كي تستطيع تولي هذه المهمة.

على الجانب الدولي، تولت الأمم المتحدة، بضغط أميركي-بريطاني، مساعدة العراق في جوانب كثيرة تعلقت برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه منذ غزو الكويت في 1990وتشكيل المؤسسات الجديدة وتيسير الانتقال إلى نظام ديمقراطي رصين، وكان تشكيل "بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق" المعروفة اختصارا باسم "يونامي"، أحد الجهود الدولية بهذا الصدد.

بعكس الكثير من الآراء المغلوطة، والمتجنية غالبا، التي يتداولها عراقيون بينهم ساسة ومحللون، "يونامي" ليست مؤسسة متطفلة على العراق أو مفروضة عليه ولا تتدخل بالشأن العراقي وليست مهمتها حل المشاكل العراقية الكثيرة ويستطيع العراق في أي وقت إنهاء عملها.

تشكلت "يونامي"، كمهمة وليس كمؤسسة، على أساس القرار الدولي المهم 1483 الصادر في شهر مايو بعام 2003 الذي أكد الالتزام الدولي بمساعدة العراق على الانتقال من نظام شمولي إلى آخر ديمقراطي ورفع حزمة من العقوبات الدولية المفروضة عليه.

نَصَّت الفقرة الثامنة في ذلك القرار على قيام الأمين العام للمنظمة الدولية بتعيين ممثل خاص للعـراق "تشمل مسؤولياته المستقلة تقديم تقارير منتظمة إلى المجلس عن أنشطته بموجب هذا القرار وتنسـيق أنشطـة الأمـم المتحـدة في عمليـات مـا بعـد انتهـاء الصـراع في العـراق، والتنسيق فيمـا بـين وكــالات الأمــم المتحــدة والوكالات الدوليـة المشـاركة في أنشطـة المساعدة الإنسـانية وأنشطة إعـادة البنــاء في العــراق وتقديم المساعدة لشعب العراق" وذلك بالتنسيق مع الدولة العراقية.

شملت أنشطة مساعدة العراق في انتقاله من الشمولية إلى الديمقراطية مجالات كثيرة، الأهم بينها تشجيع عودة اللاجئين والمهجرين، وتنسيق تقديم المساعدات الإنسانية، والإصلاح القضائي والقانوني ودعم حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني وتشكيل وتقوية المؤسسات الرسمية.

لم يمنح القرار لهذا المبعوث الدولي سلطة مباشرة على العراق، بل حددها بجوانب تنسيقية واستشارية فحسب.

بعد ذلك ببضعة أشهر، طلب العراق من الأمم المتحدة إصدار قرار دولي لتأطير هذه الأنشطة في سياق رسمي دولي، فكان القرار الأممي 1500 في منتصف أغسطس 2003 الذي نص على تشكيل "يونامي" وحدد فترة عملها بعام واحد.

يقوم العراق سنويا بتجديد طلب بقاء البعثة الدولية في البلد، وفي عام 2007 صدر القرار الدولي 1770 بطلب من العراق ليضيف لبعثة "يونامي" مهمات جديدة بينها مساعدة الحكومة العراقية في تنظيم حوار وطني وتحقيق المصالحة السياسية وإجراء الانتخابات وحل قضايا ترسيم الحدود بخصوص المناطق المتنازع عليها والتواصل مع الدول المجاورة للعراق دعما لاستقرار البلد وسيادته.

في الحقيقة، صلاحيات البعثة الأممية في العراق واسعة وتكاد تكون شاملة، لكنها ليست صلاحيات تنفيذية، بل تدور كلها حول تقديم الاستشارة والدعم للدولة العراقية عبر التنسيق معها وبموافقتها.

ثمة حقيقة مريرة بهذا الصدد وتتعلق بطول حياة بعثة "يونامي"، فالتصور الأساسي في 2003 وقت إنشاء هذه البعثة رسميا هو أن عمرها لن يتجاوز عامين أو ثلاثة لأن العراق بعد هذه الفترة سيكون قد استكمل بناء مؤسساته ولن يحتاج بعدها لبعثة دولية تنفق عليها الأمم المتحدة مبالغ كثيرة.

لكن واقع الحال في البلد كان يذهب باتجاه اخر مختلف تماما: المؤسسات التي بُنيت وأعيد تأهيلها واستثمر فيها المجتمع الدولي أصبحت عاجزة عن تأدية مهماتها بسبب الهيمنة الإقطاعية للأحزاب عليها، فيما ازدادت المشاكل وتعمقت للأسباب ذاتها التي ترفض هذه الطبقة السياسية معالجتها.

من هنا أيضا تكمن أهمية إحاطة بلاسخارت الأخيرة، إذ اعتادت الطبقة السياسية العراقية، على شيطنة الذين يوجهون النقد الصارم والجدي لها من العراقيين، وربطهم بدوافع تخريبية ومؤامراتية، وبالتالي نزع الشرعية الأخلاقية والسياسية، وأحيانا القانونية، عنهم.

ليس هذا ممكنا أو مجديا بخصوص بلاسخارت برغم بعض المحاولات من جانب ساسة وأجهزة دعائية، حزبية ميليشياوية، وضع هذه الدبلوماسية الهولندية في صناديق المؤامرة والتخريب والحقد المعتادة!

أن يُعرى النظام السياسي العراقي على هذا النحو الدقيق والصريح والرفيع المستوى وتأتي هذه التعرية من رئيسة منظمة أممية طالب العراق بإنشائها ويُصر على التجديد لها سنويا على مدى18 عاما شيء آخر مختلف وجديد لم يعتده ساسة هذا النظام السياسي وأحزابه المهيمنة، المهتمون بإيجاد الأعذار والأسباب المخففة لفشلهم الفظيع التي تعفيهم من مسؤولياتهم الشخصية عن الخراب الحالي.

وضعت بعض أفضل عبارات بلاسخارت هؤلاء الساسة بإزاء هذه المسؤوليات والأسباب المؤدية إليها الناشئة من رفضهم القيام بالأشياء الصحيحة وإصرارهم على الدروب المفضية نحو الكارثة: "ما أقوله هو: إن النظام السياسي ومنظومة الحكم في العراق يتجاهلان احتياجات الشعب العراقي، أو حتى أسوأ من ذلك، يعمل بنشاط ضدها. ويمثل الفساد المستشري سببا جذريا رئيسا للاختلال الوظيفي في العراق. وبصراحة، لا يمكن لأي زعيم أن يدّعي أنه محمي منه. إن إبقاء المنظومة "كما هي" سوف يرتد بنتائج سلبية عاجلا وليس آجلا، لذا من المهم صياغة ما أقول بدقة وعلى النحو التالي: المنظومة، وليست مجموعة من الأفراد أو سلسلة من الأحداث".

يشي فحوى هذه العبارات التي قالتها بلاسخارت على نحو مخفف لأسباب دبلوماسية معروفة، بالمصير الذي سيؤول إليه هذا النظام السياسي.

ذكر عراقيون وغيرهم فحوى شبيهة على نحو أشد صراحة وصرامة وتفصيلا لكن ساسة النظام السياسي العراقي بارعون في الاستماع للأشياء التي يرغبون.

إذا واصلوا هذا الانتقاء في الاستماع والفهم، لن يستغرق الأمر طويلاً قبل أن يقرع الخطر أبوابهم، وحينها لن يكون الندم مجديا أو مفيدا.