المحرر موضوع: "لنا الصدر دون العالمين.."  (زيارة 587 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31585
    • مشاهدة الملف الشخصي
"لنا الصدر دون العالمين.."
« في: 13:12 11/10/2022 »
"لنا الصدر دون العالمين.."
سناء الجاك
لا يستطيع أن يتراجع من يصنف نفسه قائدا من الجبابرة يحكم دولة عظمى.

فالتراجع بالنسبة إليه يعني نزع التصنيف عنه. يعني كذلك أن الآخرين يتربصون به وينتظرون تراجعه لينقضوا عليه ويمحون كل أثر له من موازين القوى. يُخرجونه من التاريخ ويضيقون عليه في الجغرافيا. وهو لا يسعى إلا إلى البقاء في سجل التاريخ من خلال التوسع في الجغرافيا. ذلك أن الخلود عقدته.. وعبارة "إلى الأبد" حلمه الأوحد.

لعل كل مصائب البشرية تكمن في هذا الخوف من التراجع لدى قادة يريدون لدولهم أن تكون عظيمة بأي ثمن، ومهما تكون التضحيات التي على شعوبهم أن يدفعونها، والهدف المضمر من هذه الإرادة هي أن يُقرن اسمهم باسم دولهم، فتشملهم نشوة العظمة.. أو جنونها.. لا فرق..

لا شعور يضاهي هذه النشوة، لأجلها يدفع القائد المهووس بالانتصار تكاليف دموية ومادية.

ولأجلها يتوغل في مغامرات هدفها إثبات موقعه في نادي الكبار، وتحديدا عندما لا يصنفه الأقوياء الآخرون كذلك. عندما يرفضون ضمَّه إلى النادي.. أو يتعاملون معه بفوقية ما، ويشعرونه أنه أصغر الكبار.. أو هو دخيل على النادي في عالم لم يعد تتحكم به الأقطاب وفق المفهوم السابق للقطب ومقاييسه الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية.

وكأنه هو البريء المجني عليه، وهم يدفعونه دفعا الى توريط نفسه، فقط ليلقنهم درسا فيعرفون حجمه وقوته ليلفت انتباههم بحرب تربك التوازن العالمي وتهدده.

هذا ما يظنه من يصنف نفسه قائدا لدولة كبرى.. يظن أن أفعاله هي لحماية الأمة جمعاء من مؤامرات من لا يريدون له أن يكون عظيما مثلهم، أو أنه يصحح الأخطاء الكونية من خلال إرساء معادلات جديدة للنظام الدولي. وعندما يحاول الالتفاف على أفعاله التي تتحول لغما انفجر في وجهه، يلجأ إلى مزيد من القوة، يهدِّد ويلوِّح بأسلحة دمار شامل.. كأنه يقول لمن يزدري قوته وقدراته: عليّ وعلى أعدائي..

لا يمكن للقائد أن يتراجع حتى في طرح احتمالات الربح والخسارة بينه وبين نفسه. لا يملك هذا الترف. معادلته واضحة: إما انتصارات عظيمة أو خسائر مدوِّية. لا حلول أخرى بمعزل عن هذه المعادلة..

لذا لا يتحمل الضربات، وبالأخص عندما تصدر عن الطرف الذي لا يليق به مخاصمته، عن الطرف المفترض أنه تابعٌ، أو أنه الوسيلة وليس الغاية، أي أقل من خصم ويمكن الاعتداء عليه ليلقن الخصم الحقيقي من خلاله درسا. حينها يكون همه استعادة السيطرة والإعلان عن "فشل مؤامرة أعدائه"، وحينها يمكنه أن يفكر في التفاوض، وليس قبل ذلك.

حتى يفاوض يجب أن ينتصر. وحتى ينتصر يجب أن يمعن في استبداده واستهتاره. هو لا يريد الاعتراف ولا يرضى بالاعتراف أن أي هزيمة تصيبه في الميدان قد تكون نتيجة ضعف لدى جيشه وسوء إعداد للمعركة، سواء كانت في الداخل ضد المعترضين أو في الخارج ضد من يجب الاعتداء عليهم لاستكمال عناصر الجبروت والعظمة.

يرفض القائد الجبار الاعتراف أن الزمن لا يعمل لصالحه. ذلك أن الانتصارات الأولى تفقد وهجها ورونقها، فيخسر الشعور بالنشوة. والحروب تتحول إلى استنزاف وتكدس الخسائر، ما لم يتحدد أفق مخارجها بمفاوضات ترسي الحلول وتضع قواعد اتفاقيات لها صفة الديمومة والاستقرار.

ويرفض القائد الحكمة والعقلنة. يعتبر التفاوض صفقة، والصفقة لا تكون مربحة بالتنازلات والحد من الخسائر، وانما بالغطرسة والاستقواء والقمع.
لذا يجب أن يأتي إليه الطرف الآخر جاثيا على ركبتيه يتوسل إليه التفاوض ليفرض شروطه من موقع القوي.. وليس من موقع موازٍ لهذا الطرف الذي يجب أن يكون مهزوما، وإلا لا يستطيع هو أن يسجل انتصاره.

هذا القائد لا يسير إلا على منوال الشاعر أبو فراس الحمداني عندما يقول:

ونحن قوم لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر

أو لعله يلغي من بيت الشعر هذا خاتمة العجز، ليبقى الحلم بالصدر من دون أي احتمال أو توقع للقبر..