المحرر موضوع: زمن الميلاد، من وحي المحبة والرحمة والسلام  (زيارة 338 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 428
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
زمن الميلاد، من وحي المحبة والرحمة والسلام
لويس إقليمس
بغداد، في 12 كانون أول 2022
في صلاته التقليدية في التبشير الملائكي أمام آلاف المحتشدين في ساحة القديس بطرس ظهيرة يوم الأحد 11 كانون أول 2022، قال بابا الفاتيكان: "إن زمن المجيء هو الزمن الذي نسمح فيه لعظمة رحمة الله أن تدهشنا". وهذا جزءٌ من عظمة سرّ الله الخالق في مخلوقاته الضعيفة أمام المحن والصعاب والمشاكل والأزمات التي يتعرض لها الجنس البشري في حياته القصيرة على الأرض. وهي في ذات الوقت مناسبة للتذكير بكبير محبة الخالق للبشرية في طريقها الوعرة المملوءة أشواكًا مادية وعوائق روحية وأخرى بيئية طبيعية ليس للبشر فيها ذنبٌ ولا سببٌ ولا مسؤولية. لذا تؤمن المسيحية بأنّ في ولادة السيد المسيح قبل أكثر من ألفي عام فقيرًا في مذودٍ في واحدة من مغاير بيت لحم الفلسطينية المتروكة للرعاة آنذاك، دليلاً على عظمة هذا المولود بهذه الطريقة الضعيفة عندما صعبُ على والديه (يوسف ومريم) أن يجدا موضعًا لولادته وهو مالك الكون وسيّدُه ورجاؤُه، بحسب الإيمان المسيحي التقليدي. إنها عناصر إيجابية من زمن المجيء الذي يتهيّأُ له العالم المسيحي خاصة والعالم أجمع للاحتفال به بعد ايامٍ قلائل في 25 من كانون أول الجاري 2022، وكلَّ عامٍ بذات التاريخ وذات التقليد.
زمن الميلاد يذكّر العالم بقيم رفيعة شبّت عليها المسيحية بكلّ جدارة وإيمان ونشأ عليها المسيحيون من اقاصي الأرض إلى أقاصيها ونقلوا بشراها في السلام المسالم والمحبة الخالصة للبشرية إلى العالم كما نقلها الملائكة يوم ولادة المسيح بتهليلهم "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة الصالحة لبني البشر" (لوقا 2:14). وما تزال هذه التسبحة الملائكية يردّدها العالم اجمع، وليس المسيحيون حصرًا في ذكرى هذه المناسبة السنوية العظيمة. إنها بشرى للعالم كي تسود فيه أركانُ السلام والطمأنينة والعيش المشترك وينتشر الوئام والفرح بدل الضغينة والحقد والتكفير وأشكال الكراهية التي تغزو العالم المادّي المجنون ب"الأنا" والمصالح الخاصة والفئوية والطائفة والدينية والمذهبية، تلك التي تشتدّ وطأتُها مع مرور كلّ سنة جديدة. ففي كلّ حقبة ومناسبة ترتفع فيها الأكفُّ متضرعة إلى الباري تعالى بإحلال السلام والمحبة وسط البشر جميعًا، كما تشتدّ الدعوات بالكفّ عن الحروب وأشكال الدمار والتخريب التي يفتعلُها البشر من أرباب النوايا السيئة بزيادة مهووسة بالغلّ والحقد والكراهية والخراب والدمار والقتل والأذى. والأنكى في هذا وذاك، أنّ أشكال الأذى لا تلحق إلاّ الطبقات الفقيرة وأصحاب القوامات الضعيفة المتهالكة، فتزيدها سوءً على سوءٍ وتكسر من خواطر باريها الذي يرى في صورها وأشكالها ضحايا للعنف غير المبرّر. ولنا في رؤية جزءٍ من مآسيها في حرب الإخوة الأعداء بين روسيا وأوكرانيا، أو بالأحرى بين عمودي الإدّعاء العالمي الماكر، الغرب الديمقراطي والاشتراكي المتغطرس.
ولعلَّ من جميل ما قاله الشاعر أحمد شوقي وهو يصف مولود المغارة بأبيات رائعة تستحق التأمّل:
وُلـد الرفْـقُ يــوم َ مـولدِ عيســى     والمروءاتُ والهــدى والحـــياءُ
وازدهى الكونُ بالوليد وضـاءَت     بسـناهُ مــنَ الثــرى الأرجـــــاءُ
وسَـرتْ آيـةُ المسيحِ كما يســري    من الفجـرِ في الوجودِ الضِـياءُ
لا وعـيدٌ، لا صولةٌ، لا انتـقـــامٌ      لا حسـامٌ، لا غـزوةٌ، لا دمـاءُ
وأطاعـتْهُ فـي الإلـــه شُـــيوخٌ       خُـشـَـعٌ خُضَّــعُ لــهُ، ضـُـعَـفاءُ
أذعـَـنَ النـاسُ والـمـلوكُ إلــى       ما رسَموا، والعقولُ والعُقـــلاءُ
 والمسيح الذي ولد متواضعًا "جاء إلى خاصته، وخاصتُه لم تقبله" (يوحنا11:1) بالرغم من رسالة المحبة والسلام التي أتى بها لبني البشر جميعًا، وليس لليهود وحدهم الذين رفضوا بشارتَه مكذّبين ما جاء على لسان الأنبياء بحسب الموعود في توراتهم. ومنه أنّ مَن وقف إلى جانبه، كان الحمار والثور اللذان توليا أمرَ تدفئته بأنفاسهما البهيمية وهو في المذود الحقير في المغارة يصارع البرد الشتائي القارس مع والديه، وليس جهاتٌ من اقاربه وعشيرته وجيرانه من اليهود. وهذه دلالة لاهوتية في التقليد الكنسي، مِن أنّ هذين الحيوانين قد "عرفا ربّهما، وأمّا إسرائيل فلم تعرفه". وهذا أمرٌ مفرغٌ منه حيث يستدلُّ هذان الحيوانان فطريًا على قانيهما وصاحبهما لكون الأخير يهتمُّ بإطعامهما في بيته ويستفيد من خدماتهما. وهذا بحدّ ذاته، توبيخٌ لليهود المتعجرفين الذين أنكروا ولادة ربهم، كما وُعدوا، وحين ولادته أنكروه ولم يعرفوه. بل بالأحرى، تجاهلوا ولادته لكونهم أرادوه ملكًا ببهرجة وزينة وفخامة الملوك الأرضيين والماديين والمتاجرين بشعوبهم.

التهيئة لزمن الميلاد
كالعادة في زمن الاستعداد للمجيء، أو ما يُسمّى بزمن الميلاد، تتهيّأ كنائس ومنظمات وجمعيات وعائلات لاستقبال ميلاد المسيح ليلة 24/25 من كانون أول من كلّ عام بشيءٍ كثير من التحضيرات، الدينية والروحية والمادية والمعنوية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عقد لقاءات واجتماعات لإظهار هذه المناسبة بما يليق بها من حلّة روحية ويكسبها رونقًا دينيًا ورمزيًا. فالزائر الكبير المولود في مذود بسيط له من الرفعة والتقدير والقدرة، ما يجعلُه ملكًا عظيمًا خاف من ذكره هيرودس، ملكُ اليهودية، الذي اعتبر ولادته تهديدًا لعرشه، ما جعله يأمرُ بقتل جميع أطفال بيت لحم آنذاك، بحسب الإنجيل المقدس، خوفًا من نشأة الطفل المبكرة واعتزامه تولّي العرش مكانه. لكنّ هيرودس، الملك القاسي، كان مخطئًا. فملكوت المسيح لم يكن يومًا ماديًا ولا من فضة ولا ذهبٍ، ولا جاء بفعل استخدام السيف والسلاح لكسب المؤيدين لدعوته الإلهية. بل وُلدت مع المسيح كلّ أشكال الرفق والخدمة والرحمة والمحبة والسلام لجميع البشر. 
كما تتضمن بعض هذه التحضيرات، عقد لقاءات لجوقات ترنّم لهذه المناسبة بأصوات طقوسية شجية بلغة المسيح الأصلية، "السريانية-الآرامية" في مشرقنا العربي والعراقي، بشقيها الغربي والشرقي وغيرها من اللغات في عواصم العالم الأخرى. وتتردّد دعوات من مسؤولين كنسيين لرعاياهم بإقامة الصلوات والصيام وصولاً ليوم المناسبة الكبير وتهيئة القلوب والنفوس بشيءٍ من الطمأنينة والانشراح وراحة البال والتوبة عن فعل المعاصي. هذا ناهيك، عن انشغال ربات البيوت بالاستعداد لتهيئة ما لذّ وطاب من مأكولات موسمية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تهيئة "الباسطرمة" و"الكليجة" التي تجيدها ربات البيوت الراقيات بجدارة، وأدوات "الباجة" و"الكبة" الموصلية وما سواها من ملذات الطعام التي تنشر الفرحة والبهجة في نفوس الصغار قبل الكبار، ولاسيّما في القرى والقصبات المسيحية التي اعتادت تقديم أفضل أنواع الأطعمة والمأكولات في صباحية العيد مثل أكلة الشوباتي (العدس الصحيح) والهريسة و البورمة (باجة مع الحمص) التي توضع في "بستوكة" (آنية من الفخار) في تنّور ترابي تُهيّأ له نار قوية منذ مساء العيد. كما اعتادت الكثير من العائلات الريفية والقروية سابقًا ذبحَ عجل قبل العيد بالتشارك مع الجيران احتفاءً بهذه المناسبة وشوي اللحم والكبد والطحال على التنور تعاقبًا مع خَبز الكليجة بأنواعها. ولا ننسى تهيئة شجرة الميلاد وزينتها التي أصبحت من التقاليد الوطنية للكثير من شعوب المنطقة، ومنها العراق، ليس مسيحيًا فقط، بل أصبحت زائرًا مفضلاً في منازل إخوتنا في العراق من جميع طوائفه وأديانه، احتفاءً بالمناسبة أو تعبيرًا عن تضامن وطني ومجتمعي للتذكير بروح العيش المشترك والتعايش السلمي وحسن الجيرة، والأكثر تعزيزًا لروح المشاركة الوجدانية من خلال أشكال الزينة والملابس الفاخرة الجديدة في كلّ موسم. فهذا دليلٌ على التجدّد في الروح والفكر والإيمان قبل أن تكون في الشكل والصورة والمظهر. وممّا زاد من مفهوم التضامن الوطني، استجابة الدولة العراقية لطلبات رأس كنيسة العراق المتكررة غبطة بطريرك الكلدان لويس ساكو وإخوته رؤساء الطوائف الأخرى لجعل هذه المناسبة عطلة رسمية أي عيدًا رسميًا لكل العراقيين وإضافة ثاني أيام العيد عطلة إضافية للمسيحيين في هذه السنة.
بهذه المناسبة، لا أرغب بالتذكير بسوء النوايا من جهاتٍ أو جماعات تسعى لتحريم إخوتنا في الوطن، محليًا وإقليميًا ودوليًا، بالاحتفاء بهذه المناسبة وفق تأويلات وتفسيرات ضيقة الأفق، متشدّدة الفكر، قاصرة الرؤية، ضعيفة الحجّة لأفرادٍ ينتهجون منهجًا أقلَّ ما يمكن وصفُه بتخريب قيم المواطنة والمحبة والتسامح التي تقتضي تعزيز وسائل العدالة والتضامن والتآزر بين أبناء الوطن الواحد. فهذه الأفكار والمفاهيم المنغلقة تفرّق ولا تجمع بشرًا، تدمّر ولا تبني بلدًا، تؤخر ولا تقدّم واقعًا.
وأخيرًا، فعيد الميلاد، ليس ذكرى نعيدها في كلّ سنة وفي هذا الزمن، بل هو خير مناسبة لنشر الفرح والسعادة وأشكال المحبة والرحمة في العائلة والمجتمع والوطن، والتذكير بأنّ أية مناسبة لأي مجتمع أم دينٍ أو طائفة، إنّما هي تذكير للمشاركة الوجدانية والوطنية لكلّ أبناء الوطن الواحد. فالفرحة التي تدخل بيت جاري، هي فرحتي أيضًا. بل عندما أجد البسمة وأشكال السعادة في وجه واحدٍ من جيراني أو على وجوه أبناء بلدي، فهذا مبعث السعادة لي أيضًأ من حيث استبعاد كلّ مسبّبات التوتر والضغينة والحقد والاستعاضة بها بكل أشكال التفاعل بسِماتٍ إيجابية مجتمعية تُظهر عظمة الخالق في خليقته ومحبته لجميع البشر بلا تمييز عندما تجد ما يوحدها ويجعلها سعيدة وراضية وإيجابية ومنتجة في حياتها. وهذه هي بشرى الميلاد الحقيقية في ولادة الطفل يسوع في مغارة بيت لحم. وكما قال البابا فرنسيس، نشدو مع مريم العذراء كي "تساعدنا لنرى في صغر الطفل عظمةَ الله الآتي لزيارتنا في هذه الأيام". وسنكون حقًا في زمن الميلاد الصحيح عندما نسقي عطشانًا كأس ماء، ونكسو عريانًا ثوب حب، ونجفّف الدموع من عيون الحزانى، ونملأ القلوب بالرجاء والأمل، ونقلع عن الخطيئة والزلل، ونبتعد عن النميمة والرياء والحقد، ونرمّم المكسور بين العائلات والأصدقاء والأفراد، وتتصافى القلوب، وتعود الألفة والسلام والمحبة، وتسكت أصوات المدافع وتُستبعدُ أسنّة الحراب. فالطفل المولود، هو المسيح رب السلام وصانع المحبة ورائد التسامح!
وهذه دعوة وطنية صادقة لأصحاب القرار في العراق والوطن العربي لإنصاف هذا المكوّن الأصيل الطافح بالمحبة لجميع الناس، والحامل مشعل الوطن والوطنية في مواطنته التي لا غبارَ عليها وفي نزاهته وحرصه وجدّيته كي تُزال عن أتباعه جميعُ أشكال التجاوزات والتعديات والانتهاكات، ليس بالكلام وأمام الإعلام فحسب، بل بالفعل والعمل الجادّ والإرادة الصالحة. فقد طفح الكيل بعد أن غاب الخير العام وتراجعت الأخلاق عن البلد وباتت مبادئُ العيش المشترك تهددها مصالح الساسة وأحزاب السلطة ولصوص الليل والنهار والمافيات والجماعات المسلحة بغطاء ديني ومذهبي وطائفي بلا حسيب ولا رقيب. في حين أضحت المكوّنات قليلة العدد بلا غطاء ولا حماية حقيقية في الدستور والقانون الذي ضربه حُكّام وأحزاب السلطة بسطوتهم وتجاهلهم وتغافلهم نكايةً بأبناء هذه الأقليات وبتاريخهم وثقافتهم التي ينتقصها ساسة الصدفة وناهبو ثروات البلاد وسارقو الشعب في سيرتهم اليومية الخائبة. فأبناءُ هذا المكوّن الطيّب المسالم النزيه ومثلُهم نظراؤُهم من المكوّنات التي أحالها الزمن إلى جماعات هشّة قليلة الأعداد بسبب ظلم الزمن وجور الظالمين، يستحقون كل الحقوق المواطنية التي تنصفها العدالة المجتمعية وتقتضيها المساواة الوطنية وتنادي بها اللوائح الإنسانية. فالعراق يسَعُ الجميع والدولة كفلية شرعًا ووطنيًا ودستوريًا بحماية جميع مواطنيها تعزيزًا للعيش المجتمعي من دون تمييز.
وكل عيد ميلاد، والعراق وأهله بألف خير!