رياض شابا
_______ جذع النخلة "يمسح احزان النخيل..؟"
=====================
في العام 2009، مطلعه ، او ربيعه ، لا اتذكر تحديدا ، استرجعت في خاطرة كتبتها لجريدة "الصباح الجديد" البغدادية ذكريات وصورا شتى عشتها في سنوات مختلفة من القرن المنصرم عن"حبوبتنا" البصرة وما تتميز به واهلها ،من صفات عظيمة معروفة للقاصي والداني، مستعرضا اشكالا من بوادر نهضة كان بامكانها ان تصبح ملموسة وشاملة ومؤثرة،تنقلهالى واقع جديدشانها في ذلك شان باقي مدن العراق و اريافه، لولا الحروب والحصار والدمار ،و الفقر والجوع والفساد وكل ما اسهم في اعادتنا عقودا الى الوراء .. الى ما الت اليه الامور في زمننا هذا.
ويومها ختمت خاطرتي التي كانت بعنوان : "من يمسح احزان النخيل؟ "باسئلة اخرى تتعلق بقلق مشروع على هذه المدينة و مستقبلها و معها العراق كله ، ولم اكن اتوقع ان الاجابة ستاتي اليوم ، او بالاحرى ، تبدا اليوم ومن اين؟ من"الثغر الباسم" نفسه، من" جذع النخلة"من"ارض السندباد "والسطور التالية تنقل ما جاء في تلك الخاطرة بتعديلات بسيطة.
من يمسح احزان النخيل..؟
تتعطل كل اللغات عند الكلام عن مكان يبلغ عمر حبك له ، العمر كله ، منذ ان بدات تحلم صغيرا بمراى اشرعة السفن و الاصغاء الى اغنيات السفانة و الصيادين و امواج البحر ، واستنشاق هوائه.
فمنذ الطفولة وانا اتوق الى رؤية ذلك الثغر الباسم المزروع في اقصى الجنوب، حيث الطيب و الكرم اسلوب حياة، و الثقافة والعلم والاصالة زادها.
و في اول مرة حللت بها في البصرة مطلع السبعينيات، اخترت النزول في فندق يتيح لي حرية التحرك خدمة لمهمتي الصحفية، فيما اختار والدي الذي كان بصحبتي الذهاب وفق تخطيط مسبق عند ابن عمة له هو " انيس" يسكن هناك منذ عقود. لكن، و ما هي إلاّ ساعة حتى جاء ولده "مالك" لينتزعني من الفندق إنتزاعاً و يأخذني بسيارة أجرة الى بيتهم في "الجمهورية" الى "حيث يجب أن أكون.. في المكان الصحيح".
و الشئ ذاته حصل مع اقارب يعملون في طاقم استقبال احد الفنادق و هم من عائلة غزالة، ومع زميل لي ايام الجامعة هو " يوسف شعبان" يحرص على مصاحبتي مساء ، مع اصرار مسبق على غداء في بيته بابي الخصيب ، كي اتذوق ولاول مرة في حياتي طعم الروبيان متوسطا اطباق الرز والروبة ، وقبطان السفينة العراقية الذي اخجل ان اقول اني نسيت اسمه ، والذي ابى الا ان اكون ومن بمعيتي ضيوفا في بيته لتناول الزبيدي مع الرز العنبر والذ مرقة كاري، بينما تعاتبني زوجة انيس ام مالك وابنتها : متى" تخصصون " لنا بعض الوقت كي نعد "لكم" وجبة الصبور الشهية؟.
وهنا قد تفاجا او لن تفاجا عندما ترى بَصريّا يخاطبك بلغة الجماعة دلالة على الاحترام الكبير :انتو شلونكم؟ وين تروحون ؟ شتريدون؟، ويبقى الامر كذلك حتى تزول الكلفة و تدخل "الميانة" علاقة الطرفين.
في شوارعها وحاراتها و اسواقها ، ترى وجوها باسمة كانك تعرفها منذ زمن، من شارع الوطن الى سوق الكويت الى سوق حنا الشيخ ، من العشار و المعقل الى التنومة الى ابي الخصيب والزبير و الفاو وام قصر، ترى الطيبة ذاتها و الكرم عينه امتدادا لخصال عراقية متوارثة ومعروفة.
و المعارف و الاصدقاء هنا كثيرون ، والمنهاج مازال مزدحما ، كي تُكَوِّن او بالاحرى تعمق صورة في ذهنك عن واحة نشات على حب الموسيقى و الفنون و التراث و الثقافة والعلم والمعرفة و دخلتها روح معاصرة اسهم في ترسيخها النفط والموانئ و السكك والنخيل والصناعات المتطورة.
في انتظاري شوكت الربيعي و حديث عن التشكيل، احسان السامرائي وحوار عن هموم التلفزيون ، قصي البصري و فولكلور مدينته الجميل ، اسعد العاقولي وكلام عن الصحافة والناس ، كامل العبايجي واخر محطات الحرف والطباعة في حديث يتخلل امسية جميلة يتمنى ان تتكرر عنده، الدكتور نافع جَنّو و تخصصات الطب الحديث في مدينته.. و القائمة تطول.
حياة تستحق التامل ، و تجدد جدير بالاعجاب ، اسواق عبقة بالمحبة ، عامرة بالاطايب ، مساجد و كنائس تحكي الفة حميمة يقوم عليها الوطن كله، معارض و دور سينما ومسارح ومنتديات ، جامعة ناهضة يتنافس فيها العلم والادب ، ومركزها الثقافي يشع بنشاطه على العراق والمنطقة، مراكز لابحاث البحار والاحياء المائية والتصحر والذهب الاسود و التمور و النخيل و غيرها.
على ايقاعات "الهيوة" يوثق المصورون الاحداث ، ابراج يتصاعد منها الدخان، ناقلات عملاقة في انتظار النفط و سفن راسية تُحَمّل بالاسمدة و التمور ، يوم عرف العراق بانه اكثر بلدان العالم في عدد اشجار هذه الثمرة المقدسة السخية.
و في منتصف السبعينيات كانت ثمة التفاتة لتكريم النخلة ، فاقيم مهرجان ضخم احتفاء بها حضرته شخصيات من الخليج العربي ، انضمت الى القيمين والمعنيين في المحافظة و وفد كبير من بغداد ، نقلته طائرتا بوينغ وصلتا في يومين متتالين الى مطار البصرة و حيث فندق شط العرب العريق.
وخلال ايام المهرجان تجولنا بين المزارع والمصانع والمكابس ، تعرفنا على هموم المزارعين و المنتجين و المصنعين و المصدرين ، شاهدنا منتجات ميكانيكية و يدوية كاملة، غذاءا و اثاثا، تقوم صناعتها على التمور وسعف النخيل و جذوعه ، التقينا برجال ولدوا في ظل النخيل، وتم اختيار حسناء للتمور للمرة الاولى في العراق ، غنّى الهام المدفعي و قدمت لوحات من الفولكلور ، و ابكى مطرب لبناني الكثيرين و هو يردد رائعة وديع الصافي "..لبنان يا قطعة سما".. يوم كان لبنان يغلي على فوهة بركان.
مواويل تمتد حتى الفجر، ومع الفجر كان وجه كوكب حمزة اخر من اُودّع بعد وجه السياب ، والذي كان قد حل كبيرا عزيزا على الضفة والقلوب:
." كفانا تاكسيات ياكوكب، دعنا نمشي على الشط و الكورنيش"
ويلبي كوكب رغبتي معظم الاحيان ، كنا نتحدث ونحلم ، نذهب الى بغداد ثم الى القاسم ، قبل ان نعود الى البصرة ثانية.. نتلقى رذاذا منعشا من " انشودة المطر" نقترب من " الكنطرة" قليلا ، لكننا مانزال نراها بعيدة .. نتحدث و نحلم و نحن نرى هذا الاهتمام بالنخيل .فنتوقع كل شئ عدا ان يوما سياتي ، يتم فيه اعدام النخيل، حرقا .. وغذاءا لالة الحرب..!.
و في الحرب تغير ايقاع المدينة ، تحول كل ذلك الامل الى حزن عميق بعد ان صارت البصرة ممراً الى اتون المعارك ، و بلداتها جزءا من الميدان، يعتصرك الالم و انت ترى الانهار و الجسور الخشبية و الشناشيل تبكي" حبوبتنا " التي بات يؤرقها دوي المدافع و مشاهد الدم والدمار.
تغير ايقاع المدينة لكن اهلها لم يتغيروا في الظاهر ، فالبسمات تابى مفارقة السحنات السمر ، رغم الوجوم الذي يخيم على الجميع..كل شئ اصطبغ بالكاكي الذي غمر البلاد ، و في العيون تقرا خوفا مؤكدا من ان اياما سود تنتظرنا ، و ليالي اشد عتمة اتية بلا ريب ، غابت شمس السبعينيات و بدا الظلام زحفه على عراق الثمانينيات و العقود التالية.
و في مطلع الثمانينيات كانت اخر زياراتي الى البصرة ، و ربما لن احظى بهذه السعادة ماحييت.
و السؤال كان : ماذا ينتظر البصرة؟ و معها العراق طبعا ؟ والسؤال الاخر: من يقدر على الاجابة ؟ و كيف سيكون الجواب ؟.
الارجح هو انتصار النقاء ..انتصار كل ما هو اصيل و جميل.
========================================