المحرر موضوع: قراءة في كتاب الحب السائل عن هشاشة الروابط الأنسانية  (زيارة 518 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عمانويل ريكاني

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 147
    • مشاهدة الملف الشخصي
                               قراءة في كتاب
      الحب السائل عن هشاشة الروابط الإنسانية
                      عمانوئيل يونان الريكاني / سدني / العراق
ولد زيجمونت باومان يوم 19 نوفمبر 1925 - 9 يناير 2017  وهو عالم اجتماع بولندي ومؤلف كتاب الحب السائل ضمن سلسلة كتبه ( سلسلة السيولة ، إذا جاز التعبير ) : الحداثة السائلة ، الحب السائل ، الأزمنة السائلة ، الخوف السائل ، الثقافة السائلة ، المراقبة السائلة …  .
يرصد زيجمونت باومان في كتاب الحب السائل مدى هشاشة العلاقات الإنسانية وكيف دمرت ما تتسم به العلاقات الوجدانية من ديمومة وعفوية - تلقائية - عاطفية كما يرصد صيغ البحث عن الفائدة والخيارات الرشيدة حيث يرى أن التأقيت والمدى القصير اللذين تقوم عليهما حسابات المجتمع الإستهلاكي الحديث يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر ، وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات ، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات . يأخذنا في رحلة تبدأ من الفلسفة لندخل في صلب الأجتماع ثم ننتهي بالسياسة .
يعتبر باومان الحداثة والتقنيات الحديثة بالرغم من ميزاتها نعمة ونقمة في آن واحد بركة ولعنة في نفس الوقت ، أتتنا بالأنجازات والأخفاقات أيضاً. كانت السبب في تغذية النزعة الفردانية وتأليه الذات وبتر البعد الجماعي للأنا مما جعل الفرد فريسة سهلة لوحش الأنانية الفتاك. لا يمكن تجاهل ما ساهمت به العولمة والثورة التكنولوجية من تسهيل أمور الحياة لكن من الناحية الأخرى سلب منا العالم الأفتراضي الذي أفرزته المعنى الحقيقي للحب .وتم إستعباد الناس للآلة وتحويلهم إلى مدمنين لا يقل ادمانهم عن مدمني الخمر والجنس والمخدرات .
ان رياح احد أوجه الحداثة العاتية هي السبب في الأزمة التي يعاني منها الأنسان المعاصر تاركة له غارقاً في مستنقع الفراغ والخواء والوحدة .وذلك من خلال تدمير الروابط الأنسانية والعلاقات الاجتماعية واواصر القربى والصداقة وتغيير بوصلة العلاقة من الصلابة الى السيولة ومن المتانة الى الهشاشة ومن القوة الى الميوعة .
تشير " شيري توركل Sherry Turkle ولدت في 18 يونيو 1948 ) عالمة الاجتماع الامريكية في كتابها " معاً بمفردنا " Alone together إن التكنولوجيا أصبحت تقوم بهندسة علاقاتنا الأجتماعية ، فالإنسان على صفحته على مواقع التواصل الإجتماعي له مئات بل آلاف الأصدقاء ، لكنه ربما يفشل إدارة علاقة داخل أسرته ، وهو ما يقود الى عزلة كبيرة ، فالتكنولوجيا تملأ فراغ الإنسان ، لكن البشر غير قادرين على البقاء بمفردهم ، وكذلك لا يستطيعون البقاء معاً ، وأمام هذا التناقض ، جاء الموبايل ليقدم حلاً ، ولكن تدميرياً للعلاقات الإنسانية .
وتضيف شيري توركل في كتابها : " ينبغي أن تكون هناك أماكن مقدسة لا يجوز فيها التواصل عبر الإنترنيت ، مثل مائدة العشاء التي تضم الأسرة " غير أنها تشير الى مسألة خطيرة ستعمق الفردانية ، وهي تدخل " الربوتات " في حياة الإنسان بدرجة مقلقة ، خاصة مع مساعي العلماء لمنح الربوتات قدرة على التبادل العاطفي مع الإنسان ، ومن ثم قد يستغني الإنسان عن نظيره البشري متجهاً الى
الآلة والربوت .
الحب … الموت
يتكون الكتاب من أربعة فصول تبدأ من الخاص الى العام ؛ يستهل باومان " شذراته الفكرية المتفرقة" بالوقوع في الحب والخروج منه : ويطرح لنا الحب والموت بوصفهما الشخصيتان الرئيستان في القصة. فلا يمكن دخول الحب ولا الموت مرتين ، او كما قال هرقليطس : "إنك لا تستطيع أن تنزل في النهر نفسه مرتين " . واقع الأمر أن كلاً منهما يمثل البداية والنهاية ، ومن ثم يرفضان البدايات والنهايات الأخرى كافة ويتجاهلانها. فالحب والموت لهما أوان ، ولا يدري المرء متى يأتيان . وأيضاً لا يمكن للمرء أن يتعلم الحب ولا أن يتعلم الموت . ويقول أيفا كليما : " ما من شيء أقرب الى الموت مثل الحب المتحقق ، فظهور أحدهما إنما هو ظهور واحد منفصل ، لكنه أيضاً ظهور وحيد وللأبد ، فلا يحتمل أي تكرار ، ولا يسمح بأي أستئناف ، ولا يعد بأي إرجاء … .
الحب الأستهلاكي والحب الرومانتيكي
قال المتصوف الشهير جلال الدين الرومي ( 1207-1273) . " لا تكن بلا حب ؛ كي لا تشعر بأنك ميت ، مت في الحب وأبقى حياً للأبد " .
يقول باومان " فلقد أنقضى عهد الحب الرومانتيكي القائم على مقولة " تعاهدنا على ألا يفرقنا إلا الموت " لقد أنتهى تاريخ صلاحية هذا التعريف الرومانتيكي بسبب التفكك الجذري لأبنية القرابة التي كانت تدعمه ، وكان يستمد منها قوته وحيويته وأهميته الخاصة .
حتى الحب هذه العاطفة الأنسانية النبيلة جرفته أمواج الحداثة وكسرت عوده وشوهت صورته، وأصبح عند الكثيرين كأي علبة في " السوپر ماركت " مكتوب عليها تاريخ الأبتداء وتاريخ الأنتهاء . هذا حال أقدس ما في الأنسان من مشاعر وأحاسيس وعواطف في ظل المجتمع الأستهلاكي وأقتصاد السوق كل شيء يخضع لمنطق وتقلبات السوق. لنا في السيارات الأنيقة الجيدة والحواسيب الآلية والهواتف النقالة الجيدة خير مثال ، إذ يلقى بها في أكوام القمامة من دون أسف ما أن تظهر نسخ جديدة معدلة في المحال التجارية ويصبح حديث المدينة ، فهل من سبب يستثنى علاقات الحب من هذه القاعدة ؟ .
ويقول عالم نفس وفيلسوف إنساني الماني امريكي ( 1900-1980) إريك فروم بهذا الصدد " في ثقافة إستهلاكية مثل ثقافتنا ، فهي ثقافة تفضل المنتجات الجاهزة للأستخدام الفوري ، والإستعمال السريع ، والأشباع اللحظي ، والنتائج التي لا تحتاج الى جهد طويل ، والوصفات السهلة المضمونة ، والتأمين ضد المخاطر كافة ، وضمانات أسترداد النقود المدفوعة .فالوعد في تعلم فن الحب إنما هو وعد بتحويل " تجربة الحب " الى ما يشبه السلع الأخرى التي لها مفعول السحر والإغواء بالتلويح بكل تلك المميزات والوعد بالأشباع الفوري للحاجات من دون إنتظار ولا جهد ولا تعب ( فالوعد بتعلم فن الحب وعد زائف يتمنى الناس كل المنى أن يكون وعداً حقيقياً ) .
الرغبة والحب
كثير من الناس يخلطون تعسفياً بينهما أما نتيجة جهل أو غاية في نفس يعقوب ، لكن بارمان يضع النقط على الحروف من خلال دقة تعريفهما وتحديد معانيهما.
" إن الرغبة والحب شقيقان ، وأحياناً يولدان توأماً ، لكن لا يمكن أن يكونا توأماً متماثلاً ( ناتجاً من بويضة واحدة ) .
إن الحب يعني التوق الى توفير الحماية والإطعام والإيواء ، وكذلك المداعبة والملاطفة والتدليل ، أو الحراسة اليقظة أو التسبيح أو الحبس . إن الحب يعني أن يكون المرء في خدمة الآخر ، وتحت طلبه ، ورهن إشارته ، لكنه يعني أيضاً نزعة الملكية والأستحواذ على المسئولية ، إنه السيادة عبر الأستسلام ، وترتد التضحية في صورة تعظيم للسلطة ، فالحب توأم ملتصق للتسلط ، ولا حياة لأحدهما إذا إنفصلا .
أجمل ما قيل بهذا الشأن ما جاء في سفر نشيد الأنشاد في إصحاح 6:8-8 " أجعلني كخاتم على قلبك ، كخاتم على ساعدك . لأن المحبة قوية كالموت . الغيرة قاسية كالهاوية. لهيبها لهيب نار لظى الرب . مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفأ المحبة ، والسيول لا تغمرها . إن أعطى الأنسان كل ثروة بيته بدل المحبة ، تحتقر احتقاراً .
وعلى نفس الإيقاع كتب الشاعر والكاتب والفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران ( 1883-1931) ، سمفونيته الرائعة في الحب في واحد من أرقى كتبه " النبي " ص17 “ المحبة لا تعطي إلا نفسها ، ولا تأخذ إلا من نفسها . المحبة لا تملك شيئاً ، ولا تريد أن يملكها أحد ؛ لأن المحبة مكتفية بالمحبة . أما أنت إذا أحببت فلا تقل إن الله في قلبي ، بل قل بالأحرى : " أنا في قلب الله " .
أما الرغبة إشتهاء للإستهلاك ، أشتهاء للإشباع والألتهام والأبتلاع والهضم ، إنها اشتهاء للتدمير ، فلا تحتاج الرغبة الى أي حافز أخر سوى حضور ذات أخرى . ويضيف باومان " إذا كانت الرغبة تبتغي الاستهلاك ، فإن الحب يبتغي التملك ، وإذا كان تحقق الرغبة يعني تدمير موضوعها ، فأن الحب ينمو ببقاء موضوعه ودوامه . إذا كانت الرغبة تدمر نفسها بنفسها ، فإن الحب يديم نفسه بنفسه .
  رجل بلا صفات
رواية من تأليف روبرت موزيل حيث يعتبر " اولريش " بطل روايته إنسان بلا روابط كما يصف زيجمونت باومان بطل كتابه . هذا البطل صورة طبق الأصل للواقع المؤلم الذي يعيشه أنساننا المعاصر  والمأساة التي نحياها جميعنا .
فالتفكك الأسري وزيادة نسب الطلاق والتحرر الجنسي أوجد ناس أنانيين . تلك المأساة تتلخص في الأنتقال من الصلابة الى السيولة من الجنس المرتبط بالتكاثر لأنتاج الأفراد وتكوين العائلة وبناء المجتمع الى الجنس المنفصل عن التكاثر الهادف لأشباع الرغبة فقط .
كما يقول باومان " إن تحرير الجنس أمر جيد ، وربما جذاب ورائع تماماً ، ولكن المشكلة تكمن في كيفية تثبيته في مكانه حين تحريره من القوة التي تحافظ على أستقراره ، وفي كيفية الأحتفاظ بشكله حين تختفي الأطر ، فما أجمل السفر في خفة ؛ ولكن ما أشق السفر من دون بوصلة ! وما أجمل التغيير ! ولكن ما أزعج التقلب السريع ! فهل هذه هي خفة الجنس التي لا طاقة للناس بأحتمالها ؟.

عزيزي القارئ لست مضطر أن تتبنى رأي الكاتب مئة في المئة لكنه كتاب رائع جداً وجدير بالقراءة هذه دعوتي لكم .