المحرر موضوع: 6 – من ذكريات معهد مار يوحنا  (زيارة 687 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
6 – من ذكريات معهد مار يوحنا
شمعون كوسا

بعد ان ابتعد الراوي لردح من الزمن ، يعود اليوم لمواصلة  ذكرياته ، فيقول :
في سنواتي الاولى في المعهد كنت معتادا على كتابة الرسائل الى القس فرنسيس شير وأحيانا إلى ابي واخي يعقوب . اعرف بانهم كانوا يستمتعون بقراءتها   لأني كنت قد اقتنيت  بعض اسلوب القس فرنسيس الذي كان صاحب  قلم ساخر ،  خفيف الدم ، يهتم بأبسط الامور ليرويها  بوصف شيّق  وجذّاب ،وكان هذا شأنه  حتى في الكلام العادي ، بحيث يشدّ سامعه في كل موضوع يتطرق اليه . كانت رسائله عن شخصيات حارتنا في شقلاوا ، وعن بقرة فلان،  وتصرفات العجوز الفلانية .
يجب عليّ ان اوضح سبب ذكري المتكرر للقس فرنسيس . كان القس فرنسيس بمثابة  معلم لي في كل شيء  ، وكوني اكليريكيا ، كنت اعاشره وابقى ملازما اياه في عطلاتي الصيفية . القس فرنسيس كان شابا بهيّ الطلعة ، يطفح نشاطا وحيوية في اداء رسالته وفي الحياة اليومية  لا سيما مع الشباب . القس فرنسيس شير اعتبرُهُ أنا شخصيا من أثقف الكهنة ، لأنه شخص  واسع الاطلاع في كل المجالات ، إذ كان  يتابع كل كتاب تاريخي او ديني يصدر باية لغة يعرفها  وبالأخص  بالفرنسية لأنه ، لكثرة مطالعاته ، كان مُلمّاً  بشعيرات هذه اللغة. عندما كان يسرد ما قرأه ، كان دقيقا جدا في نقل الكلام وذكر التواريخ ، وباعتقادي بالرغم من تقدم سنّه ، لا زال محافظا على الكثير من هذه الصفات .
كان يتوجب علينا استحصال رخصة المدير في أية رسالة ننوي كتابتها لأهلنا أو أي شخص آخر ، وكان يتمّ هذا عبر طلب يُقدَّم للمدير ، فيأتي الضوء الاخضر عبر كلمة نعم يضعها على نفس الورقة .  وفي نفس السياق ، لم يَكنْ يَرِدنا أيّ بريد دون مرور الظرف على المدير . يهمّ الظرف بنقر باب المدير نقرة خفيفية،  وبعد القاء التحية  ، ينتظر عند الباب اشارة المدير،  واذا طال انتظاره ونفذ صبره ، تبدأ قدمه اليمنى بحركة سريعة ، عند ذلك يكتفي المدير بابتسامة.
  كان المدير يراسلنا في الصيف ، ويزوّدنا ايضا بنشرة فرنسية يحرّرها هو، لنقل  اخبار المعهد والاكليريكيين. كانت النشرة تحمل اسم (شى نوو) وترجمتها (عندنا او في بيتنا). كان المدير يطلب منا الكتابة له ، ويوصينا  بتجنب جمل غامضة او صيغ مبهمة ، او التطرق الى اخبارا تدعو للشك . كان يقول تجنبوا ترك فراغ او وضع علامات استفهام او تعجب في بعض الجمل ، كالقول مثلا : أما عن الوضع في شقلاوا والشمال .....  . هذا الحرص الزائد كانت تفرضه ظروف ذلك الزمان حيث كانت الرقابة، صارمة على المراسلات ، وكل رسالة كانت تحمل ملاحظة : فتحها الرقيب ، او اذا كان الغلاف يحوي حلويات تكون الملاحظة  : اكله الرقيب !!!!
كان صوتي جميلا ، وهذا كان سببا آخر يقرّب الناس إليّ من مختلف الشرائح ، لا سيما عند قيامي مع زملائي  بإحياء  قداديس او مراسيم دينية في الكنائس الكبيرة خارج المعهد . كنت في بداياتي مترددا في إطلاق صوتي ولكني قليلا فقليلا اكتسبت ثقة في نفسي ، وبدأت اطلق العنان لحنجرتي بصورة كاملة ، وعندما انطلق انا ، لا يمكنني الا ان أُطرب وانطرب. لستُ انا القائل ولكني كنت اسمع هذا من الاخرين . كانت تحضرني الالحان الشجية والمقامات التي كنت قد سمعتها وتعلمتها في صباي .
في خدمة القداس كنت انزلق بسهولة الى لون ناظم الغزالي وصوته الصادح، وحضيري ابو عزيز وعتاباته  ، وداخل حس ولونه الريقي الحزين ، وزهور حسين ومواويلها الفارسية ، ونهاوند  واغانيها الجميلة ، وكلها هي من الحان الزمن الجميل ، وفي ذلك الزمان  لم اكن بعدُ مطلعا  على اللون الراقي الاخر ، في اصوات عبد الوهاب وفيروز واسمهان وفريد الاطرش وغيرهم.
على ذكر المقام  وأنواعه ، لأننا  كنا نختار مقاما معينا  في خدمة القداس للايام العادية،  في هذا الصدد يجب ان اذكر بان اول من علمنا هذا المقامات  في المعهد كان جاك اسحق . وكان جاك اسحق من الوجبة التي ضمّت يعقوب دنحا وجرجيس القس موسى وحنا زورا واربعة زملاء آخرين. جاك اسحق خَلَفَ اسطيفان ربان في تعليم الطقس الكلداني .  في بداياتي  كان هو المسؤول عن تعليم الطقس الكلداني ، أطلعَنا على المقام وكيفية الدخول اليه . والدخول الى المقام هو القيام ببعض الدندنة ، ومن ثم الانطلاق في موال أوغناء  فردي حرّ . مثلا (مقام السيكا) ، ندخل اليه من مقطوعة للقدود الحلبية وهي : والعين اذا رأتك صاحت طربا . اغنية  الاطلال هي أيضا من السيكا .  (مقام الرست)  ندخل اليه مباشرة من ترتيلة السعانين  : أزعق عيتا باوشعنى ، وايضا  اغنية : يا دارة دوري دوري لفيروز ، او اروح لمين لام كلثوم . (مقام الصبا) يمكن الانزلاق اليه من ترتيلة  لو كان للأفلاك نطق او فم ، والان اضيف اليه : سمراء من قوم عيسى . (مقام الحجازي) يؤخذ من احدى قراءات الباعوثا  وهي : صاءَر  تيويل  ، وأيضا من اغنية فوق النخل . (مقام النوى او النهاوند) ، يأتينا  من ترتيلة القيامة : في هذا اليوم السعيد او يا مريم البكر . (ومقام البيات)  يؤخذ من يا جارة الوادي  والحياة حلوة لفريد الاطرش . (العريبوني) من مدراش الباعوثا:  إين مار نشوى.  وهناك مقامات مشتقة اخرى يطول ذكرها .
بالاضافة الى القداديس الكبيرة للاعياد الرسمية والاحاد ، كنّا مُكلّفين باحياء الفروض والصلوات لصوم الباعوثا لمدة ثلاثة ايام  . إنها  ايام حافلة بالقراءات الجميلة  والمداريش  والحان اخرى وكلها  تريح الانفس وترفعها. كانت تُختَم الباعوثة  بقداس يقيمه المطران عمانوئيل  ددّي ، الرجل الطيب الحنون ، الرجل المهيب وصاحب الصوت المخملي المتميز بهدوئه. كنت احبه كثيرا وهو يبادلني نفس الشعور ، والحديث هنا في سنواتي الاخيرة ، لان السنوات الاولى ، كانت الباعوثا تُقام من قْبل  المعهدين البطريركي ومعهد مار يوحنا جنبا الى جنب ، في تناوب صلوات الباعوثا ، وكان الطالب يوحنا جولاغ ضمن الاصوات الجميلة التي تؤدي الكثير من هذه الالحان الشجية .
في سنتيّ الاخيريتين ، توليتُ مسؤولية الطقس الكلداني حيث كنت مكلفا بتعليم   صلوات الطقس الكلداني والحوذرا لقسم الصغار كما كان تنظيم القداديس الكبيرة من ضمن اختصاصي .  كنت قد استلمتُ المهمّة من بول ربان الذي كان يتقدمني بسنتين ، ومن بعدي تولى الامر يوحنا عبد الاحد شير الذي كان يتمتع ايضا بصوت رخيم .
من الذكريات التي لا انساها ايضا هي  يوم تعرفي على الخوري افرام بدى . امضى افرام بدى بعض ايام في المعهد  قادما من مصر . صوته الشجي بدرجة لا تُصوّر ،  هزّ أعماقي لأني لم اسمع ما يضاهيه  ولحدّ اليوم. حال سماعي لصوته ، بكيت  وكانت ظروف شقلاوا وظروف العائلة أيضا تساعد على ذلك .
اذكر هنا في نفس السياق موقفا يكتنفه الكثير من الغموض، ولعلي قد ذكرته في مناسبة سابقة . انتهزنا فرصة تواجد الخوري افرام بدى في المعهد ، فقررنا تسجيل قداس احتفالي نحتفظ  به كذكرى عزيزة ونموذج ثمين لصوت جميل . قام بخدمة القداس آنذاك جاك اسحق ، والذي قرأ الرسالة كان داود بفرو ، اما ان فقرأت القريانة .
كان قداسا ملائكيا بكل معنى الكلمة. وكان المدير الاب جوزيف اومى هو الذي تولّى التسجيل . كنا فرحين لتخليد هذا الصوت الجميل عبر قداس ناجح ، غير اننا  فوجئنا بعد القداس بقرار المدير محو التسجيل ، زاعما اننا بالغنا في الاهتمام والاعجاب. لم نقوَ على فتح فمنا ، بالرغم من حزننا وامتعاضنا .
كان للاب المدير مثل هذه العوائد . ففي احدى السنوات حصل المعهد على اسطوانة لتراتيل فيروز الدينية وهذا كان شيئا جديدا في الساحة ، لأننا لم نكن نعرف فيروز بهذه التراتيل الدينية  الراقية . جَمَعَنا المدير في غرفة خاصة لنسمع فيروز بصوتها المخملي. اقولها تماما ، انخطفتُ لسماع هذا الصوت وهذه التراتيل . فعندما عرف المدير بإعجابي الشديد بصوت فيروز ، مَنَعَني من سماع تراتيلها . 
اتوقف هنا لانه لا زال هناك الكثير في الجعبة .

غير متصل شوكت توســـا

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 2251
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: 6 – من ذكريات معهد مار يوحنا
« رد #1 في: 13:28 30/03/2023 »
أخي وصديقي الاستاذ شمعون كوسا المحترم
تحيه طيبه
قد تكون فاتتني قراءة حلقه أو حلقتين من مذكراتك ولم استطع مشاركتكم فيها, لاسباب وما اكثرها في هذا الزمن , لكني عدت وقرأتها فيما بعد.
في تفاصيل هذه الحلقه , اعطيتم لسردكم طعماً متميزاً , لا اقول ذلك تقليلا من جمالية سابقاتها, إنما اضفتم فيها حزمه قوس قزحيه مشوّقه جمعت بين شخوص روحيه اجادت في طرح فكرها الايماني وبين رموز مدنيه طربيه أبدعت في رفد مسامعنا بالطرب الغنائي الاصيل .
شخصيا عرفت الخوري فرنسيس شير عن بعد  وانا صبي في بدايات واواسط الستينات  من القرن الماضي  اثناء قضائي عطلاتي الصيفيه في بيت عمي في شقلاوه, ثم عرفته عن كثب عندما عينت مدرسا في شقلاوه في بدايات السبعينات , فوجدت فيه علاوة على حسن أدائه لمهامه الروحيه , الدرايه في ادارة شؤون رعيته و ترتيب علاقاتها مع المحيطين بهم. ومن ثم تم نقله الى عنكاوه على ما اظن ليحل محله الشاب  الشهيد القس يوحنا عبد الاحد شير . 
اما المرحومين المطران افرام بدي , والقس يوحنا جولاغ ,فكلاهما كانا يمتلكان صوتا وحساً فنيا قل مثيلهما,بحيث كنا في شبابنا نتمنى ان نسمع منهما اغاني  .
تمنياتي لكم بدوام الصحه والعطاء

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 220
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: 6 – من ذكريات معهد مار يوحنا
« رد #2 في: 11:14 03/04/2023 »
اخي العزيز شوكت
اشكر حضورك الذي يلقى مكانته وقيمته الخاصتين عندي .
اخي شوكت ، فيما يخص القس فرنسيس ، لقد عايشته فترة طويلة وما رأيت فيه ، بغضّ النظر عن كونه رجل دين ، رأيت فيه شخصا يحب الثقافة والاطلاع ويلتهم الكتب بنهم بخلاف الكثيرين من زملائه القدامي والحاليين . بالاضافة الى ذلك فانه يتمتع بشخصية قوية وقد حبته الطبيعة بقابلية لمجابهة الصعوبات والمثول امام اصحاب ذوي القرار . ايقنت من ذلك في ظروف شقلاوا الشائكة عندما ادار شؤون البلدة بهدوء ونجاج وهو محاط باحزاب وحركات معادية بينها ، كان يسايس الجميع وبذكاء وبجدارة وحضي باحترام كافة الاطراف . الحديث هنا عن ظروف سادت في بداية الستينات وانت ملم بصعوبتها .
اما عن المطران بدى والقس يوحنا جولاغ ، بالنسبة لي سوف يبقيان في قمة من تطربني اصواتهما بشكل خاص  ، وهذا فخر بان كليهما ابناء قلعة القوش الحصينة التي حوت دوما شخصيات رفعوا من شأنها وتركوا اثرا لتاريخ المنطقة .