المحرر موضوع: ماجينا ..  (زيارة 608 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل رياض شابا

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 16
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ماجينا ..
« في: 13:41 03/04/2023 »
ماجينا ..
====

رياض شابا

الكثيرون منا، و لاجيال عدة ربما، يتذكر ال " ماجينا" ..       
  عندما كنا نسمعها صغارا، كانت الكلمات تثير الفضول فينا، اما اللحن فيجعلنا نصفق و نحلق طربا.                           
ننتظر الاغنية كل مساء مقرونة باطلاقة مدفع، من دون ان نفقه شيئا. بعد ايام او اسابيع او في العام التالي، نعرف ان الامر يتعلق بالعطاء في شهر كريم، حلوى و طعام لاطفال و بالغين جياع، متعففين، ينتظرون ان "يحل الكيس" و "ينطوهم" ما في داخله .
  تمضي الايام، نكبر، ونعرف ان ما يبثه الراديو كل مساء رمضاني، ليس وليد اليوم، بل قائم على تقليد عرفه سكان العراق و بلدان في المنطقة قبل عشرات السنين، وهناك من يقول أن منشأه أرض الرافدين تحديداً. إلا أنه و في بغداد و مدن أخرى، شهدت  أحياء و بيوت متداخلة سكنها يهود و مسيحيون و مسلمون، اشكالا من الممارسات المشتركة في الاعياد و المناسبات الدينية و بضمنها طقوس رمضان، حد الاسهام في اعداد الوجبات و الجلوس على مائدة الافطار.
  تمضي السنوات من عمر الوطن، نكبر، ننضج، فنستوعب ان ما يجري من شعائر في ال "ماجينا " و "الفطر" و "الميلاد" و "الفصح" و "الأضحى" و "الخليقة" و "الطواف" و ال " سري صال – رأس السنة " و "نوروز" ما هي إلا شكل من أشكال حب الوطن الذي وُلِدنا على ترابه الطيب و نشترك في الأنتماء اليه، في السراء و الضراء، بالحلوة و المرة، بالخبز و الملح . بل هناك من أصبحوا أخوة بالرضاعة و من أديان مختلفة.
كان هذا ، عندما كان كل شئ يقوم على النقاء والمحبة والايمان بالمصير الواحد ، في ظل الدستور و القوانين و دولة المؤسسات ..
..   اوليس " الدين لله و الوطن للجميع " ؟ الم نقم يدا بيد ، بتشييده و التضحية في سبيله والتفاني من اجل رقيه ؟ هكذا فهمنا معنى الوجود فيه، حياة تقوم على العدل و المساواة في الحقوق و الواجبات،ليس على التهميش و الالغاء، على تكافؤ الفرص، و ليس سرقتها، على احترام حقوق الانسان وحريته وليس بتقييده و اهانته، على اسس من الامان والاطمئنان وليس الخوف والحرمان ..

وفاء للذكريات

  هذا ما علمنا اياه الوطن، وللاسف الشديد لم يبق للكثيرين منا ومن طوائف و اعراق مختلفة ، الا الذكريات عن " ايام الخير" تلك و عن سنوات اعتدنا ان نطلق عليها " الزمن الجميل " ، تروي تفاصيله وقائع و احداث يزخر بها تاريخ العراق الحديث  و القديم حتى. اقراوا التاريخ قلبوا صفحاته .. شاهدوا الصور، تاملوها جيدا، لتجدوا ما تحدثكم به وزارات و برلمانات و شخصيات و شواخص و مؤسسات، عن ماض تليد، لو كتب له الاستمرار بذلك النهج، لكان العراق في مصافي الدول المتقدمة و الراقية، بين اقرانه في المنطقة، في الاقل.

 
 هكذا علمنا الوطن الوفاء،

  الوفاء للذكريات نفسها، ذكريات تفرض الاحترام المتبادل من خلال الاحتفاظ بها، و تقدير معانيها. هكذا كان يقول لي المرحوم ابي، و هو يحفظ في ضميره الكثير منها، فيسال عن الكل ويبحث عن الجميع. فتراه مثلا يقود سيارته من الغدير الى حيٍّ قَصيٍّ في الكرخ كي يلبي دعوة صديقه "أبو سليمان" للأفطار و الحديث عن أيام تجمعهما منذ أربعينيات القرن المنصرم، و من الغدير أيضاً، تهِمُّ زوجتي بالمغادرة فجأة وسط استغرابنا، .. "ها .. الى أين؟" .. ستزعل صديقتي سعاد إذا عرفت بوجودي هنا و لم أذهب لمشاركتها الأفطار". "
   و تتكرر الحكاية مع الاشقاء و الاولاد، و في مخيلة كل واحد منا عشرات الصور و الوقائع عن سلوك كهذا، يؤكد على ضرورة حب الاخر وتقديره، و من خلاله، يمتد ليصبح ترجمة لحب اكبر، هو حب الوطن.
و مازلت اتذكر كيف كنت احمل اوراقي الى الشيخ جلال الحنفي لاعيدها ملاى بقصص و حكايات عن رمضان زمان ، اودعها في واحدة من صفحات الجريدة التي ما ان يحل المساء حتى تعيش هي الاخرى، شيئا من روح رمضان .. فيفرش الزملاء مجموعة جرائد على مائدة او اثنتين متلاصقتين، و اذهب انا لاجلب عشائي و اضعه بين اطباقهم، ليصبح فطورا يتقاسمه الجميع . ويتكرر الامر في اكثر من امسية .
    و في اواخر الثمانينيات أُلَبي دعوة من فيصل جاسم الى مادبة افطار يقيمها احتفاء بعيد "وعي العمال" التي كان هو على راس تحريرها، فالتقي هناك بالمرحوم ناصيف عواد بعد فراق طويل، منذ مغادرة ايام جريدة الثورة، و ليغمرنا "أبو ٍسالي" بكرم ضيافته، مثلما عودنا على كرم أخلاقه من خلال علاقات العمل و المهنة.
  و في العام 1990 اعتزل الصحافة بعد رحلة امتدت لاكثر من ربع قرن، فامضي اربعة عشر عاما من " الضياع" النفسي بعيدا عن اضواء "صاحبة الجلالة "، قبل ان ياتي عام " التغيير الكبير" في العراق 2003، لِأعود بكل عنفواني واشتياقي الى عالمي الحبيب، مدشنا مرحلة جديدة من العمل، لاكون من مؤسسي " الصباح" ثم "الصباح الجديد" و مديرا لتحريرالجريدتين،  سبقتهما بضعة شهور من العمل في جريدة " الاتحاد " البغدادية اليومية بصحبة الصديق القديم الراحل عباس البدري رحمه الله و الذي كان على راس تحريرها .
    تمضي الايام، و تحلق الصحيفتان واحدة تلو الاخرى في عالم الديموقراطية الجديد، رغم ان اكثر الانباء و التطورات التي يعيشها الوطن لا تُسِر، لكننا نعمل و نعمل و نبث الامل و نتمسك بكل فرصة. 
  و هنا ايضا، ياتي رمضان و يعقد المرحوم اسماعيل زاير رئيس التحرير اجتماعا لمناقشة بعض مواد الشهر الكريم، ثم يلتفت الي فجاة بروحه المرحة و يقول: " هسه انت رجال مسيحي شتناقش ويانا عن رمضان؟". و يضج المكان بالضحك و ينظر الي الجميع بابتسامات لا تخفت. 

اغصان الزيتون تعبر"التيغة" !.
 
  اعود الى البيت بعد نهار صحفي طويل، أَطّرته اخبار الانفجارات و الاغتيالات و صور العنف الامني و الازدحامات و السيطرات والقلق بصدد الوصول او اللا وصول، و هناك اجد جاري الطيب " ابو سالم " قد " امن" لي صحن الشوربة الساخن مع الخبز الحار الذي خبزته ام سالم "رحمهما الله "، يعبره احدهم من فوق "التيغة" _السياج بينما يكون باقي افراد الاسرة، نصري و رؤى و امهما قد سبقوني احيانا لمشاركتهم الافطار او في اعداده مع سالم واحمد والشقيقات ..
  و هكذا و رغم التوتر و الاضطرابات، تمضي الايام حلوة دافئة مع باقي الجيران القريبين بيت ابو عباس و ابو عمر و ابو سجا و غيرهم، متجاوزين الخوف اليومي و خشية المجهول . 
 وعبر "التيغة" نفسها تمد شجرة الزيتون التي تحتل ركنا منزويا من حديقتي اغصانها قريبا من السياج و فوقه، و قد ابلغوني بعد ان "هاجرنا" أنها و بعد انتظار عشرين عاما "عمر الشجرة"، بدأت تحمل و بكثافة ثماراً "حبات" سود كبيرة طازجة من الزيتون الخشن، و صارت تتبارى في ريعانها و غزارتها مع ما تحمله داليتا العنب ألأخضر الريان، و الذي كنت أوزعه على الأهل و الجيران بالتساوي.
  جيران و معارف يبثوننا بين الحين والاخر اشواقهم، اشواق حقيقية عبر كلمات تخنقها العبرات من طرفينا، فيما ارى اخرين عبر شاشات الفضائيات يقفون امام شجرات الميلاد في "المولات" و المتنزهات ليقدموا التهاني بالعيد لاخوتهم الذين هاجروا و صاروا بعيدين عنهم.
  و هنا، في "المهجر" او "الشتات" او "الاغتراب"، نحاول في كل بقعة نتواجد فيها، ان نصنع عراقا "مصغرا"، و هذا اضعف الايمان، يجعل الاواصر مشدودة الى العراق الكبير قدر المستطاع ، ..هي نفس فكرة الجسور التي حدثت بها اصدقائي قبل ايام .. هنا نبحث عن كل ما يوحد و يقرب من دون الغاء او تجاوز او"محاصصة".

نوروز يعانق ام الربيعين.

  و غدا يطل "نوروز" .. و بحلوله لا انسى ابدا ان ابعث بباقة محبة تشبه زهور كردستان العراق الى صديقي الشاعر والموسيقي سيروان ياملكي ابن السليمانية الذي هو الان ابن مدينتي الكندية .. كما قلت لكم.   
و من خلال الهاتف ، "اذا لم يكتب لنا اللقاء" ساهنئه بكلمات كردية حفظتها منذ سنوات طويلة .. عندما كنت في الخامسة من عمري لا اتكلم غير هذه اللغة. اما هو، فغالبا ما ينساب صوته في عيد الميلاد بعربية بغدادية اصيلة ممزوجة بانجليزية محببة: ميري كريسمس اخويا .. الك و للعائلة ابويا انت"!..  شكرا كاك سيروان سباس .. سر جاو!. انسان يملا قلبه حب الدنيا كلها.
     اما صديقي وزميلي القديم ليث الحمداني الذي يسكن قريبا من قلبي رغم ان المسافة بين مدينتينا الكنديتين لا تقل عن سبع ساعات طيران، فان اتصالاتنا لاتنقطع رغم هموم الحياة و وطئة الغربة، نتكلم و كاننا في بغداد .. و لا ننسى أن نتناول الموصل بشكل أو باخر، كلانا ينتمي الى ذلك الربيع الازلي باذن الله .. اهنئه بالاعياد ، واذا ما تأخّر ابو ميلاد في الاتصال بالميلاد او الفصح، اقول لزوجتي ان لم يحك اليوم، ساخابره أنا .. ساساله عن ميلاد و مضرو حبيبته الجميلة " البلاد " الصحيفة التي يرأس تحريرها في "لندن أونتاريو" و التي تزداد تألقاً مع الزمن.
 
اما بعد ،
 
  فان الاصدقاء والاحبة، يفوق عددهم ما تتحمله ذاكرتي المتعبة، لكنهم يعيشون في ضميري كل الوقت، و هم موزعون هنا، في الأمريكتين، في باقي القارات، لهم جميعاً أقول: إن وطناً يسكنه الكثير من الحب لن نيأس من استرداده حتى لئن تأخرنا بعض الوقت..

و كل رمضان و أنتم بخير.. و لتحيا الماجينا ..